إذا أردنا أن نتحدث عن الشخصيات والعناصر الأدبية التي أثرت على هلدرلين في هذه الفترة، كان أولها هو تأثير ذلك الشاعر العبقري المتهور الذي قضى معظم حياته بين المنفى والزنزانة، وأطلقت الأغلال لسانه بشعر وطني مفعم بالعاطفة المتأججة والأنغام الشعبية الصادقة؛ هذا الشاعر هو كرستيان شوبارت (1739-1791م) الذي عرفه هلدرلين سنة 1789م، وقال إنه لقي منه الحنان الأبوي .. ولا شك أنه تأثر بحبه الفياض للوطن «القريب والبعيد»، ونزعته الدينية المؤمنة، ولكنه لم يسترح لنبرته العالية وصوته الجهير وعاطفته الصاخبة.
ولا بد أيضا أن يكون شاعرنا قد تأثر بأشعار «يونج»
10
الحزينة وأفكاره الليلية التي كانت شائعة في ذلك الحين، وبقراءته للأغنيات الحالمة الباكية المنسوبة إلى أوسيان
11 «الطيب الأعمى الذي تضج مغامراته في رأسي على الدوام». غير أن تأثره بالشاعر الألماني كلوبشتوك (1724-1803م) صاحب الملحمة الشعرية الكبرى «المسيح»، وبعاطفته الغنائية والدينية الصادقة، ولغته الغنية بالصور العميقة، ورؤاه المحلقة المعبرة عن تجربة دينية وشخصية خصبة، كان تأثرا حاسما على شعره وتفكيره، وإن اختلف الشكل بينهما اختلافا كبيرا. وظل كلوبشتوك المثل الأعلى الذي راح هلدرلين يتطلع إليه بإعجاب وإجلال حتى وهو في مرحلة نضجه المتأخرة. وانطبع بحسه الموسيقي الدقيق وعنايته بالصنعة الفنية المحكمة واهتمامه بالأوزان القديمة الفخمة، وتمسكه بالقواعد والقوانين الشعرية الصارمة في أغانيه الدينية والوطنية التي كان هلدرلين يفضلها على إنتاج المحدثين وأغانيهم العاطفية «المتعبة التحليق».
بيد أن تجربته العميقة بالطبيعة ربما كانت أبقى أثرا من كل الشعراء والأدباء الذين قرأ لهم في هذه الفترة من حياته. وقد أشرت من قبل إلى صلاته الخاشعة مع صديقه على ضفة نهر النيكار (كان النهر يجري في بريق المساء ...) ويمكن أن أشير أيضا إلى تجربته الروحية على شاطئ نهر الراين في منطقة «شباير»، وقد كانت تجربة لا تنسى. ولعل كلمات قليلة من مذكرات رحلاته التي كتبها لأمه وهو في الثامنة عشرة من عمره أن تكون كافية للتعبير عن إحساسه عند مشاهدة نهر الراين لأول مرة، وهو الإحساس الذي سيعبر عنه بعد ذلك في قصائده الكبرى عند منبع الدانوب، والراين والأستر: «نهر يزيد في اتساعه ثلاث مرات على نهر النيكار، وتظلل الغابات ضفتيه وهو ينحدر من مجراه الأعلى، ويمتد على مدى البصر امتدادا يوشك أن يصيب المرء بالإغماء والدوار، كان منظرا لن أنساه أبدا، أثر على نفسي أبلغ تأثير. وأخيرا أقبل الملاحون على الشاطئ، كانت المراكب التي يعبر بها الناس إلى الضفة الأخرى بحيث تتسع لعربتين بخيولهما كما تتسع لعدد كبير من العابرين ... ومرت نصف ساعة ووجدت نفسي على شاطئ الشباير ...»
كان أعز أصدقائه وأصفاهم وأقربهم إلى قلبه هو «إمانويل جوتلوب ناست» الذي يكبره بسنة واحدة. وكان هذا الصديق أشبه بالوعاء الذي يصب فيه همومه وعذابه وأسراره واعترافات روحه البريئة الساذجة. فهو يسر له ذات مرة أنه رأى قدره فجأة أمام عينيه، ووجد أنه يريد بعد إتمام دراسته في الجامعة أن يصبح ناسكا. وقد أعجبته الفكرة، ولكنه أخذ يناشد الصديق أن يخفي رسالته عن أعين الغرباء حتى لا يضحكوا عليه ويصفوه بالحمق والجنون .. بل إنه ليشك في قدرة الصديق على مشاركته هذا الإحساس فيقول: «يا عزيزي، إنك لا تكاد تعرفني ...»
هلدرلين في العشرين من عمره.
والواقع أن هذه الصداقة لم تكن من القوة بحيث يكتب لها الدوام. فقد بقيت على هامش قصة الحب الأولى في حياة شاعرنا، وتصادف أن كانت هذه الحبيبة من أقارب «ناست» من جهة أبيه، كان اسمها «لويزة ناست»؛ مخلوقة رقيقة، صافية، تقية القلب نقية الوجدان. أحبها هلدرلين - والحب الأول ناري عذب، حلو مر كما تقول «سافو»! - وكتب إليها رسائل قليلة وبادلته رسائله، وحملت كلتاهما أشواق القلوب التي يلمسها الحب لأول مرة، وأحزان العشاق ودموعهم التي يريقونها من أجل الحب نفسه لا من أجل الحبيب.
ولم تلبث الأيام أن كشفت عن بعد الشقة بين المحبين، بل عن غربة روحيهما وتنافر طبعهما .. كانت لويزة تحب بفطرة الأنثى الخالدة التي تبحث عن «الرجل» و«البيت» .. ولم يكن هلدرلين، الذي بدأت عبقريته تتفتح وتتدفق بالقلق والحيرة والعذاب، يدري ماذا يبحث عنه .. ولعله كان يتصور مثالا آخر للمرأة يتخيله الشعراء ويحوطونه بالغموض والأسرار، ولكنه يبعدهم دائما عن المرأة كما يبعد عنهم المرأة الواقعية بفطرتها .. وهكذا لم يكن بد من التحلل من هذا الرباط. وكتب إليها (في مارس سنة 1790م) بالقرار الذي صمم عليه .. فقد اختار أن يتحرر من هذا الحب، وإن اقترن هذا الاختيار بما يخجل الرجولة أو يعيبها. ولكنه لم ينس أن يقدم لها صداقته ووده، ويعدها على الرغم من كل شيء بإخلاصه ووفائه الأبدي!
Página desconocida