133

وكل مكلف من موحد أو ملحد يستحسن فعل الحسن ويحب أن يذكر به، ويستقبح القبيح ويكره أن يذكر به. ألا ترى أن الملحد لو رأى صبيا يريد أن يتردى في بئر أو في نار، أو يمد يده ليلزم حية، أنه يمنعه من ذلك، ويستحسن منعه، ويستقبح تركه وإن لم يكن برحم؟ فإذا كان فعل القبيح يقبح بالعبد الجاهل المحتاج الضعيف، فكيف لا يقبح من العالم الحكيم القادر؟ فوجب أن يكون القديم تعالى منزها متعاليا عن فعل القبيح. لأنه تعالى عالم بقبح القبيح، ولأنه غير محتاج إليه، لا لجر نفع إليه، ولا لدفع ضرر عنه، ولا لسخف رأي، ولا لطمع فيما ليس له، ولا لمشورة مضل أو جاهل. فلما كان منزها عن فعل القبيح، وكان الظلم والجور والكذب وخلف الوعد والوعيد، وفعل الفواحش وجميع المنكرات قبيحا، والرضى بذلك والأمر به، صح أن الله تعالى لا يفعل شيئا من ذلك ولا يرضى به ولا يأمر به، ولو فعل ذلك لدخل عليه من النقص والذم أكثر مما يدخل على العبد؛ لأنه عالم لذاته، قادر لذاته، والعبد جاهل محتاج، فكان ذم العبد أقل لجهله وحاجته. ألا ترى أن العالم الغني من الناس إذا فعل قبيحا؛ كان ذمه عند الناس ولومه أكثر من ذم الجاهل الفقير إذا فعل مثل فعل العالم؟ فصح أن الله تعالى لا يفعل ظلما ولا جورا، ولا يجبر الخلق على فعل، ولا يكلف أحدا فوق طاقته، ولا يفعل قبيحا، ولا يريده، ولا يحبه، ولا يرضاه، ولا يأمر به، ولا يكذب، ولا يخلف وعدا ولا وعيدا؛ قال عز من قائل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}[النحل:90]، فصح أن الله عادل، وأنه منزه عن القبائح.

فإن اعترض علينا معترض في هذه الجملة فقال: إنه قد يوجد في خلق الله القبيح والناقص، كالسباع والهوام والقمل والدود والذباب والبق، وما لا صلاح ظاهرا في خلقه، وكالصورة القبيحة من الناس، وكمن يولد أعمى، أو أصم، أو مقعدا، أو ناقصا في جوارحه، كأن يولد بغير يدين أو شبه ذلك.

قلنا: لا يلزمنا هذا الاعتراض؛ لأن فعل جميع هذه الأشياء حسن وليس بقبيح -وإن قبح عند الجهال. فأما من أنصف عقله، وفكر في حكمة الله، ونظر في دقائق التدبير فإن عقله يحكم بأن فعل هذه الأشياء التي يستقبح فعلها الجهال حسن وصواب في الحكمة والتدبير، إما في الحال أو في المآل، وإما لها وإما لغيرها. فإنك إذا نظرت وفكرت في خلق السباع والحيات والعقارب؛ وجدت في خلقها وكونها مصالح للعبد؛ منها أنها تذكر بمصائب الآخرة وهوامها، ولعل عبدا موقنا إذا رآها ذكرته العقاب ويوم الحساب فازدجر واتعظ.

ومنها أن من نظرها وفكر في حالها علم أنها بلية ابتلى الله بها العباد ليصغر الدنيا في أعينهم ويزهدهم في نعمها، إذ لو كان فيها نعيم دائم لم يكن فيها هذه الأشياء.

Página 191