[[مقدمة المؤلف]]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الأول بلا غاية، الآخر بلا نهاية، الذي لا تحتويه الأمكنة، ولا تضمنه الأزمنة، الذي دل على نفسه بما أظهر من عجيب صنعه، المتنزه عن مشابهة خليقته، الذي ابتدأنا بالكرم والجود، وأخرجنا من العدم إلى الوجود، وتفضل علينا بالعقول، وأكد حجته علينا بالكتاب والرسول، {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما}[النساء:165].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما، وأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أخو رسول الله ووصيه، وخليفته في أمته ووليه، وأن الحسن والحسين إمامان عادلان مفترضة طاعتهما، وواجبة على الأمة نصرتهما، وأن الإمامة في ذريتهما محصورة، وعلى غيرهم محظورة، من سار منهم بسيرتهما واحتذا بحذوهما.
أما بعد ..
فإنه لما درس الإسلام، وعطلت الأحكام، وغاض العلم لعدم أهله، وادعاه من لا يعرفه بجهله، رأيت أن أنشر هذا الكتاب، وأبين فيه الحق والصواب، وأذكر طرفا من علم الكلام في الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، لينتفع به من يقف عليه، ويرجع من شذ من الحق إليه؛ طالبا بذلك الثواب من الله، ومتعرضا لرضاء الله. وقد اعتمدت في هذا الكتاب على الاختصار وعدلت عن الإطالة والإكثار، وأنا أسأل الله العصمة من الزلل، والإصابة للحق في القول والعمل.
Página 48
(ذكر تفاصيل المعارف وتسميتها)
المعارف ثلاثة عشر معرفة:
طريق النظر ووجوبه.
ومعرفة الصنع.
ومعرفة الصانع.
ومعرفة التوحيد.
ومعرفة العدل.
ومعرفة النعمة.
ومعرفة شكر المنعم.
ومعرفة البلاء.
ومعرفة الجزاء.
ومعرفة الكتاب.
ومعرفة الرسول.
ومعرفة الإمام.
ومعرفة الاختلاف.
Página 49
باب معرفة النظر
اعلم أيها السامع أن المكلف قد أعطي آلة يبلغ بها -إذا استعملها- ما يصلح دينه ودنياه. أولها وهو أشرفها وأكملها العقل الذكي، ومنها: الحواس الخمس، ومنها: اللسان المترجم لما يفهمه المستمع، ومنها: اعتدال الخلقة في بنية مخصوصة، ومنها: الحياة والروح، وغير ذلك من الآلة المركبة في المكلف لصلاح دينه ودنياه.
Página 50
فصل في الكلام في العقل
وإنما بدأنا بذكر العقل؛ لأنه أكبر الآلات وبه تعرف المعارف كلها، وجميع المعلومات. وإنما سمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه عن المنكرات، وأصل العقل: العلم، وهو عرض ومحله القلب. أجمع الموحد والملحد على أن العقل هو العلم، وأنه عرض؛ إلا فرقة من الزيدية من أهل زماننا وهم أصحاب مطرف بن شهاب، فإنهم قالوا: (العقل) هو القلب، واستدلوا بقول الله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}[ق:37]، ونسوا قول الله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}[الحج:46]، وقد فسر الهادي إلى الحق عليه السلام قول الله تعالى: {لمن كان له قلب}، قال: لمن كان له قلب يعقل به، ولو كان العقل هو القلب، لما حسد العاقل عليه، ولا ذم بنقصانه، ولا كان يزول عند النوم وشبهه، إذ ليس كل من له قلب بعاقل؛ كالطفل والمجنون والبهيمة؛ وكل من له عقل فله قلب.
Página 51
وقالت الفلاسفة: محل العقل الدماغ، ودليلهم أنه عند فساد الدماغ يزول العقل ولا حجة لهم في هذا؛ لأن المجبوب لا تنبت لحيته، والفساد واقع بالجب، وموضع نبات الشعر سالم، لكن هنالك مواد من ناحية الموضع جب، فلما انقطعت تلك المواد لم تنبت الشعر، فكذلك لا يمتنع أن يكون هنالك مواد من ناحية الدماغ إلى القلب، وأيضا فالله جعل اللحية دليلا على الذكر، فإذا جب الذكر لم يكن الله ليجعل دليلا على غير مدلول عليه، فمن هنالك لم تنبت له اللحية، إلا النادر من الناس الذي يسمى (الكوسج) الذي ذمه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: ((لا يوجد في أربعين كوسجا رجل خير )).
والعقل على وجهين: ضروري واختياري؛ فالضروري من فطرة الله تعالى، والاختياري فعل العبد.
فالضروري مثل: معرفة استحسان الحسن، واستقباح القبيح؛ وهذه فطرة من الله فطر المكلفين عليها خاصة.
فأما استجلاب المنافع، والنفار عن المضار فذلك عام في جميع الحيوان، وذلك مشاهد، ولا يسمى عقلا لغير المكلفين، بل هو إلهام من الله تعالى (لهم)، وهو سبب حياتهم؛ وإبلاغ من الله في النعمة على المكلفين مثل ما ألهم الله تعالى النحل من فعل ما لا يتأتى لصاحب عقل.
وأما العقل الاختياري فهو نظر المكلف وتمييزه واستدلاله واستنباطه.
قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في جواب مسائل سأل عنها ابنه محمد بن القاسم" فقال: سألت عن العقل في الإنسان أطبع هو، أم مستفاد؟
قال عليه السلام: (هو) الحفظ والذكر، وأصل العقل: فطرة وخلقة.
Página 52
وقال عليه السلام في جوابه للملحد: وما يعرف بالعقل شيئآن:
أحدهما: يعرف ويدرك ببديهته مثل: تحسين الحسن، وتقبيح القبيح، ومثل: شكر المنعم وحسن التفضل، وتقبيح كفر المنعم، والجور، وما جانسه.
والوجه الثاني: وهو الاستدلال والاستنباط الذي ينتجه العقل؛ كمعرفة الصانع، وعلم التعديل، والتجوير، والعلم بحقائق الأشياء.
وقال محمد بن القاسم عليهما السلام في شروط الإيمان المنجي: لأن العقل مسكنه القلب، فيصبح أنه غير القلب، وأنه حال فيه.
وقال المؤيد بالله عليه السلام: فصارت الآثار أصلا في أن كل عضو في الإنسان واحد نحو الأنف والذكر ففيه الدية، وما كان فيه اثنان كاليدين والعينين والرجلين ففيه الدية؛ وفي كل واحد منها نصف الدية؛ وهكذا المعاني وإن لم تكن أعضاء، كالصوت والعقل والسمع والبصر، وهذا مما لا خلاف فيه؛ ذكره في شرح التجريد.
وقال الهادي للحق عليه السلام في جواب مسائل الرازي، وقد سأله عن عقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن عقل أبي جهل؟
فقال عليه السلام: قد أعطى الله أبا جهل (من العقل) فوق ما يحتاج إليه، فأما أن يعطى مثل عقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا، ولا كرامة لأبي جهل. ومثل بمن أعطي شمعة، ومن أعطي شمعتين، وهو ما سأله عن الفؤاد، وإلا كانت الزيادة في اللحمة.
Página 53
وقال أيضا عليه السلام في المسترشد في صفة الإنسان: ثم علق في صدره قلبا، ثم ركب فيه لبا، ثم جعله وعاء للعقل الكامل، وحصنا للروح الجائل. وعلى هذا أجمعت العلماء: أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة ولم نعلم مخالفا لما قلنا من (العلماء) المتقدمين.
قال عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب المعاد والمعاش: وقد أجمعت الحكماء أن العقل المطبوع والكرم الغريزي لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدهن، وذلك أن العقل الغريزي آلة، والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك.
Página 54
فصل في الكلام في الحواس
اعلم: أن الحواس جعلها الله خمسا؛ لأن المحسوسات خمس، فالحواس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس. والحواس أجسام، وفعلها أعراض، وهو الحس.
والمحسوسات خمس وهي: مسموع ومبصر ومشموم ومطعوم وملموس، وهي أجسام وأعراض. فالأعراض: الأصوات والألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والآلام. والأجسام (هي) محال هذه الأعراض، وهي: المصوت والمبصر والمطعوم والمشموم والملموس؛ وعلى هذا أجمع أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة، إلا المطرفية فإنهم قالوا: الحواس لا تدرك إلا الأجسام، والأعراض عندهم لا تدرك إلا بالعلم، وقالوا: هي لا توهم ولا تحل ولا تحل، فنقضوا كلامهم وأثبتوها ثم نفوها.
والعقل الضروري يحكم أن كل معلوم غير الله فهو حال أو محلول، وعليه أجمعت الأمة، إلا ما قالت المعتزلة في الإرادة، وسنذكر إن شاء الله تعالى القول والاحتجاج عند ذكر الأجسام والأعراض في باب معرفة الصنع. وكانت هذه الحواس الخمس تؤدي إلى القلب، وكان اللسان ترجمانا له مع سلامة البنية، وحصول الروح والحياة، فأمكن النظر والتمييز، وبلغ بالعقل صاحبه ما يريد من علم الحقائق وسائر المعلومات.
Página 55
فصل في الكلام في وجوب النظر والاستدلال
اعلم أن العقل يحكم بأن العلم حسن وأن الجهل قبيح، ويحكم أنه يجب على العاقل أن ينظر ويميز إذ قد أعطي آلة النظر والتمييز، ويحكم أنه إن لم ينظر ويميز لم يبلغ إلى استجلاب منفعة، ولا دفع مضرة، ولا يبلغ إلى إصلاح دين ولا دنيا.
واعلم أن العقل هو أصلح الحجج؛ والكتاب والسنة تأكيد له، والدليل على ذلك، أن الكتاب والسنة ما عرفا إلا بالعقل.
ومما يدل على وجوب النظر أن العلم بحقائق الأشياء لا يتأتى إلا من وجهين: وهما: التقليد والنظر. والتقليد لا يعمل به في الأصول؛ لأن المحق ليس بأولى من المبطل في أن يقلد.
ويؤيد ذلك ما روي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساءوا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤا فلا تظلموا)) فبان فساد التقليد، ولم يبق إلا النظر المؤدي إلى الصواب.
Página 56
ويدل أيضا على وجوب النظر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)). وما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا قول إلا بعمل ، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة))، فوجب على كل عاقل أن ينظر ويختار (لنفسه) مذهبا يشهد له به العقل والكتاب والرسل والإجماع، وأن يجتهد في إصابة السنة، بالنظر والاستدلال والبينات.
Página 57
وقد ندب الله تعالى إلى قبول الحق بالبراهين والحجج، وذم المعرضين والغافلين عن معرفة الآيات والبينات؛ فقال عز من قائل: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}[البقرة:111]، وقال تعالى في ذم من اتبع الظن والهوى، ومال إلى الغفلة وترك النظر: {ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون ، حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون}[النمل:83-84]، وقال عز من قائل: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون}[الجاثية:24]، وقال عز من قائل: {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}[النجم:28]، وقال تعالى وعز من قائل: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار...}الآية[يونس :7،8]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تعلموا القرآن وعلموه الناس ، وتعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض من بعدي، ويختلف الرجلان فلا يجدان من يفصل بينهما))، وروي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قوام المرء عقله ، ولا دين لمن لا عقل له))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إنما يدرك الخير كله بالعقل ، ولا دين لمن لا عقل له))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما تم دين إنسان قط حتى يتم عقله ))، وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله على قدر عقولهم، فأعملهم بطاعة الله أوفرهم عقلا))، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما اكتسب أحد مكتسبا مثل فضل العقل يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله))، وروي عن الزهري عن سالم عن أبيه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لكل شيء معدن ومعدن التقوى قلوب العارفين))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الناس يعملون الخير ويعطون أجورهم على قدر عقولهم ))، وروي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الرجل يكون من أهل الصلاة ومن أهل الصوم والزكاة والحج وما يجازى يوم القيامة إلا بقدر عقله))، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((في جسد ابن آدم نطفة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))، فصح ما قلنا.
Página 59
ولا يبلغ العاقل درجة العقل إلا بنظر واستدلال. وهذا لا خلاف فيه. إلا ما روي عن داود الأصبهاني من قوله: بأن العقل ليس بدليل ومن طابقه من الحشوية أهل الظاهر بعدم دلالة العقول. فأنكر ذلك عليهم جميع العلماء. وقال في ذلك ابن دريد يهجوهم:
قال داود ذو الرقاعة والجهل
بأن العقول ليست بحجة
ولعمري لعقله ذلك العقل
فما أن به يصاب محجة
ثم أصحابه يعومون عوما
من ضلالات جهلهم وسط لجة
وقد تقدم الاحتجاج عليهم من العقل والكتاب والرسول والإجماع.
واعلم أن في الكتاب محكما ومتشابها، وناسخا ومنسوخا. ولا يعلم المحكم من المتشابه ولا الناسخ من المنسوخ إلا بنظر واستدلال عقلي؛ وكذلك السنة وأخذها من الرواة.
واعلم أن الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاثة وجوه:
فمنها: الخبر المشهور المستفيض الذي أجمعت عليه الأمة، وهو مثل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى الله، وأن القرآن أنزل عليه، وأنه جاهد الكفار ومن عند عن الحق. ومثل ما فعله وأمر به من الطهارة، والصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج، وأشباه ذلك؛ وهذا يعلم ضرورة؛ لأن الأمة على كثرتها واتساع مساكنها، واختلاف ألسنتها وأحوالها لا تتفق على كذب، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة )).
Página 60
ومنها: الخبر المتواتر كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيء بعدي))، وهذا يعلم ضرورة، وليس كالأول، فلأن أكثر الفرق -فرق الإسلام- يروونه، ويعرفونه، ومنهم من رواه وتأوله، وهذا لا يتأتى فيه الكذب، ولا التواطؤ بين الرواة؛ لاختلاف أديانهم، وأحوالهم، وألسنتهم، وبعد أوطانهم.
ومنها: خبر الآحاد وهو الذي يرويه الواحد، وهو يقبل بحسن الاجتهاد، وتغليب الظن في صدق راويه في الفروع والشرع. فأما في الأصول فلا يقبل خبر الآحاد لكثرة الرواة، وأهل التدليس في الإسلام من المنافقين والباطنية، وغيرهم من أعداء الرحمن، ولتحرصهم على إفساد أصول الدين على المسلمين كما قد رووا: ((سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)).
والدليل على أن خبر الآحاد يقبل في الفروع إجماع الأمة على ذلك، وهو أنهم أجمعوا على أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث العمال في البلاد فيقبل خبر العامل، مثل معاذ بن جبل حيث بعثه النبيء صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن. وأنه كان يكتب إلى من هو منتزح عنه فيقبل كتابه، مثل ما روي عن عبد الله بن حكيم قال: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته بشهر: ((لا تنتفعوا من الميتة بلحم ولا عصب )). وأجمعت الصحابة على قبول خبر الواحد، كقبولهم خبر عبد الرحمن بن عوف في جزية المجوس، وكقبول خبر أبي بكر في إعطاء الجد السدس.
Página 61
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا نفعني الله به بما شاء، فإذا سمعته من غيره حلفته، فإذا حلف صدقته. وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر.
وكقبول خبر حمل بن مالك في جنين المرأة. فصح أن خبر الآحادي يقبل في الفروع دون الأصول لما قدمنا. وصح أن النظر أصل من أكبر أصول الدين، لأنه به عرفت الأصول.
فأما القياس فإنه لا يصح في الأصول، وقد يصح أن يقاس الشيء من الفروع بمثله، كما يقاس ما لم يسم، مما يكال مما أخرجت الأرض في وجوب الزكاة على مثله المسمى، مثال ذلك: أن السمسم والدخن وأشباههما لم تسم في الخبر عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فوجب أن يقاس على ما سمي من التمر والزبيب والحنطة؛ لأنه روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا تجري الصدقة في تمر ، ولا زبيب، ولا حنطة، ولا ذرة، حتى يبلغ الشيء منها خمسة أوسق))، والوسق: ستون صاعا، وإنما قلنا إنه مثله؛ لأنه وافقه في أكثر أوصافه، وذلك أنه مما أخرجت الأرض، ومما يطعم ويقتات، وأنه مكيل، وليس كذلك قياس أبي حنيفة (في) الخل والنبيذ وسائر المائعات على الماء؛ لأنه مخالف (له) في كل أوصافه، إلا في الرقة والصفاء؛ وهو مخالف له في لونه وطعمه وريحه واسمه وحكمه، فهذا مما لا يجوز من القياس. وقد أنكر عليه القياس العلماء في وقته وبعد وقته.
Página 62
وقد روي أنه دخل هو ومحمد بن أبي ليلى على جعفر بن محمد عليهما السلام وهو في المدينة، فقال لأبي حنيفة في كلام طويل، وقد ذم قياسه الذي كان يقيسه، فقال له جعفر: يا نعمان؛ (إن) أول من قاس إبليس أمره الله أن يسجد لآدم فقال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين }[الأعراف:12]، ثم قال له: أيهما آكد عند الله الصلاة أم الصيام؟ قال: الصلاة، قال: فلم أمر الله الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؛ وهذا آكد من هذا؟ قال: لا علم لي، قال: أيهما أعظم عند الله القتل أم الزنا؟ قال: القتل، قال: فلم أمر الله في القتل بشاهدين وفي الزنا بأربعة؟ قال: لا علم لي. قال: يا نعمان، أيهما أنجس البول أم الجنابة؟ قال: البول. قال: فلم أمر الله بالغسل من الجنابة وأمر بالاستنجاء من البول فقط؟ قال: لا علم لي. قال: يا نعمان، لم جعل الله المرارة في الأذنين، والملوحة في العينين، والرطوبة في المنخرين، والحلاوة في اللسان والشفتين؟ ولم جعل بطن الراحة لا شعر فيه؟ قال: لا أدري.
Página 63
فسأله ابن أبي ليلى عن تفسير ذلك؛ فقال: أما قضاء الصيام؛ فلأنه شهر في سنتها، فأمرها الله أن تقضيه لذلك. وأما الصلاة فإنها تصلي في كل يوم وليلة سبع عشرة ركعة الفريضة، والنوافل تسع ركعات، لم يجب (عليها) القضاء لأجل ذلك، يريد من قبل كثرة الصلاة. قال: وأما القتل فإنه فعل واحد بمفعول به، فحكم فيه بشاهدين، والزنا فعل فاعلين فحكم لكل واحد بشاهدين،والبول يخرج من المثانة لا غيرها، فأمر فيه بالاستنجاء، والمني يخرج من بين الصلب والترائب، فأمر فيه بالغسل ليطهر به بدنه كله.
قال أبو حنيفة: أوليس هذا قياس؟ قال: لا، بل أخبرني أبي عن أبيه عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: وأما مرارة الأذنين فلئلا تدخل الهوام في خروق الأذنين إلى الدماغ، وأما ملوحة العينين فلأنهما شحمتان، فأمسكهما بالملوحة لئلا يذوبا، وأما الحلاوة في الفم فلأن يجد به طعم الأشياء .
وأما الرطوبة في المنخرين فلأن يجد بهما ريح الأشياء، ولولا ذلك كانتا كسائر جسده، وجعل بطن الراحة لا شعر فيه ليحس اللمس، فاعلم.
فصح أن القياس لا يجوز إلا فيما ذكرنا وأمثاله.
Página 64
واعلم أنه لا يقيس ولا يجتهد إلا من عرف الأصول، والفروع، والمعقول، والمسموع؛ لأنه إذا أفتى بغير علم زل، وضل بغير شك وأضل، وبسبب ذلك هلك أكثر الناس، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (خمس خذوهن عني فلو رحلتم المطي لانظبتموهن قبل أن تجدوا مثلهن: لا يخشى العبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي العالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، ومنزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له.
واعلم أن ما ورد عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا فإنه يقتضي الوجوب في الأمر، والتحريم في النهي، إلا ما خصه الدليل، مثال ذلك في الأمر: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مسح سالفتيه أمن من الغل يوم القيامة))، فلما قاله على وجه الترغيب في الزيادة، ولم يأمر به مطلقا، علم أن مسح الرقبة مع الرأس سنة.
ومثله: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك)) فصح أنه سنة.
وفي النهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تستقبلوا القبلة لغائط ولا لبول )). وروي عن ابن عمر قال: اطلعت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وهو) يقضي حاجته محجورا عليه بلبن، فرأيته مستقبل القبلة، فصح أنه مكروه غير محرم.
Página 65
والدليل على صحة ما ذكرناه قول الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[الحشر:7]، وقوله عز من قائل: {من يطع الرسول فقد أطاع الله }[النساء:80]، والأمة مجمعة على هذا.
والدليل على أن إجماع الأمة حجة قول الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}[النساء:115]، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة ))، فصح ما ذكرنا ووضح جميع ما قلنا؛ من وجوب النظر، وطريق الاستدلال.
Página 66
باب حقيقة معرفة الصنع
اعلم أن الصنع إسم للفعل، وهو مصدر من صنع يصنع صنعا؛ وأصله فعل يفعل فعلا، فصح أن اسمه يدل على أنه فعل، ولا يكون الفعل إلا من فاعل، ولا يكون إلا محدثا لتقدم فاعله عليه.
ولا خلاف في أن العالم يسمى صنعا. والعالم اسم للهواء، وما حوى من الأرض والسماء وما بينهما من جميع خلق الله العلي الأعلى. والعالم اسمه موحد، فإذا جمعت قلت: العالمين؛ قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين }[الفاتحة:2]، وهذا الفرق في الجمع والموحد في اللفظ، وأما في المعنى فلا فرق بين العالم والعالمين؛ لأن الاسمين ينبيان عن معنى واحد، وسمي العالم؛ لأنه علم ودليل على صانعه.
Página 67
فصل في الكلام في الهواء
من ذلك أنا نظرنا إلى الهواء وما فيه من السعة والرقة والصفاء، وكونه مكانا للكثيف واللطيف من الأشياء؛ فإذا هو قد قدر أحسن تقدير، وجعل حياة للكبير من الحيوان والصغير، وجعل صافيا نقيا من الآفات والأكدار، وجعل لونه أخضر يميل إلى السواد لموافقة الأبصار. وقد قالت الأطباء: من ضعف بصره فليدمن النظر إلى زجاجة خضراء مملوءة ماء، فكان كما وصفت الأطباء، وجعله يحمل الأصوات والروائح (والغبار) ثم يمحى ويزول فيعود نقيا، فتجري فيه الرياح بالسحاب والدخان والغبار ثم يزول منه فيعود نقيا، ولو كان يبقى كل ما يحمله من الدخان والغبار والروائح والأصوات؛ لكان ذلك مؤديا إلى الضرر وإباحة الأسرار، والتأذي بكثرة الأصوات والدخان والغبار. وما جعل في سعته ورقته من الصلاح لصنوف المنافع وجولان الأنفاس فيه والأرواح.
فلما وجدنا فيه أثر التدبير وجدناه قد وضع موضعه في صلاح الحيوان بأحسن تقدير؛ علمنا أنه محدث مبدوع، ومخترع مصنوع، علما ضروريا بالمشاهدة؛ إذ لا بد لكل مدبر من مدبر، وكل مقدر لا بد له من مقدر، وإذا ثبت أنه مصنوع ثبت أنه محدث .
وقد قال أهل الدهر -وهم عباد الأهوية: الهواء هو ربهم لأنه بزعمهم محيط بالأشياء، فيه كل شيء، وهو مع كل شيء.
قالوا: وجدنا فيه الحياة، وعند انقطاعه الموت، فصح قدمه قبل كل شيء بزعمهم.
Página 68