En la Filosofía de la Crítica
في فلسفة النقد
Géneros
ومن هذا التحليل السريع، نخلص إلى نتيجتين خاصتين بحاسة الذوق؛ الأولى: هي أن هذه الحاسة أقرب إلى الفطرة الأولية من غيرها؛ لأنها متصلة بمادة الغذاء الذي هو مادة الحياة، ولأنها تمتزج بالشيء المحسوس امتزاجا لا يدع لها فرصة تتروى فيها أو أن تتدبر الأمر قبل حدوثه؛ فالشيء المحسوس باللسان إما مقبول فورا أو مرفوض فورا، وليس الأمر كذلك بالنسبة لحاسة البصر - مثلا - فلأننا نرى الشيء وهو على مبعدة منا، يتاح لنا أن «نفكر» في نتيجة الصدام بيننا وبينه قبل وقوعه، فإما أن نقرر العمل على التقرب إذا كان معينا لنا، أو أن نقرر الفرار إذا كان مناهضا لمصالحنا؛ ومن أجل ضرورة البت السريع بالنسبة لحاسة الذوق، كان لا بد لها من قابلية شديدة للتهذيب لكي ترهف الإرهاف الذي يساعدها على هذا البت السريع في القبول والرفض، أفيكون غريبا بعد هذا أن تتخذ مقياسا للتهذيب الحضاري كله؟
الثانية: هي أن حاسة الذوق لكونها مباشرة على النحو الذي وصفناه، فإنها لا تستغني بالرمز عن الموقف نفسه. وأشرح ذلك قليلا فأقول إن الكائن الحي وهو على فطرته يستجيب لمواقف متعينة مشخصة، حتى إذا ما نما في طريق الإدراكات المجردة (وهو نمو خاص بالإنسان وحده دون سائر الحيوان) أخذ ينيب شيئا عن شيء، فجزء واحد من أجزاء الموقف يكفيه ليستجيب الاستجابة التي لم يكن ليستجيبها إلا للموقف كله، ثم يمضي الإنسان في عملية الإنابة التجريدية هذه حتى يصل إلى مرحلة استخدام اللغة، وهنا تغنيه اللفظة عن الشيء نفسه، فيستجيب لها الاستجابة نفسها التي يستجيب بها للشيء ذاته لو كان قائما أمامه مشهودا له.
والذي نقوله الآن هو أن حاسة الذوق لا تستغني بالرمز - لغويا أو غير لغوي - عن الشيء نفسه أو عن الموقف نفسه؛ لضرورة أن يكون الشيء المذاق واقعا وقوعا مباشرا على اللسان. نعم إن عملية الإنابة بالرموز - الرموز اللغوية أو غيرها - هي من أقوى علامات الرقي الإنساني، حتى لقد قيل إن استخدام «الكلمة» - أي الرمز - هو المرحلة التي حددت خروج الإنسان في مدارج التطور البيولوجي من عالم الحيوان الأعجم، ومن هنا قيل عنه إنه الحيوان الناطق، كما قيل في الكتب المقدسة على اختلافها إن في البدء كانت الكلمة. أقول إنه على الرغم من عملية الإنابة بالرموز عن الأشياء والمواقف، وإن تكن أقوى علامة على الرقي الإنساني، إلا أنها في الوقت نفسه تتضمن البعد بين الإنسان المدرك والشيء المدرك؛ ولذلك خلت منها حاسة الذوق، وهذا هو السر في أننا نشير ب «الذوق» إلى أية عملية إدراكية يكون فيها الإنسان على صلة مباشرة بالشيء المدرك، سواء أكان ذلك الشيء مرئيا - كما هي الحال عند رؤية لوحة فنية - أم كان مسموعا كما هي الحال عند الاستماع إلى قطعة موسيقية أو إلى قصيدة من الشعر.
2
على ضوء هذا الذي أسلفناه، نستطيع أن نفرق بين شيئين كثيرا ما يحدث الخلط بينهما، وهما: (1) التذوق الفني. (2) النقد الفني.
فالتذوق الفني هو أن تجابه عملا فنيا مجابهة مباشرة، «فتذوقه» بالحاسة الملائمة له (بالعين إذا كان صورة ، وبالأذن إذا كان نغمة ) تماما كما تضع لقمة الطعام على لسانك وضعا مباشرا لتذوقها بلسانك؛ فها هنا لا نطق ولا كلام ولا تجريد ولا رمز؛ إنك تتذوق ما تتذوقه وأنت صامت، تنظر إلى اللوحة في صمت، أو تنصت إلى القطعة الموسيقية في صمت، وإلى هنا فلا نقد؛ لأن النقد يقتضي أن تعلق على ما قد تذوقته تعليقا تبين به - بعد تحليل - لماذا جاء تذوقك له على النحو الفلاني من إعجاب أو من نفور.
وإذن فمرحلة النقد الفني هي مرحلة ثانية تأتي بعد مرحلة الذوق أو التذوق، وهي مرحلة - كما قلت لتوي - يقوم فيها الناقد بعملية تحليلية؛ أي بعملية فكرية لا ذوقية؛ إذ يحاول أن يلتمس المواضع والعناصر التي تدخل في تركيب الشيء المنقود، والتي كان من شأنها أن تحدث ما قد أحدثته من أثر إبان عملية التذوق. ولا أريد أن أترك هذه النقطة قبل أن أبدي عجبي من أولئك الذين يصرون على أن النقد الفني عملية ذوقية لا مجال فيها للفكر العقلي، ولست أدري كيف يفرق هؤلاء - بناء على وجهة نظرهم هذه - بين التذوق الذي يتبعه نقد، وبين التذوق فقط! أم أنهم يحسبون أن كل متذوق ناقد؟ كلا، فبينما لا يكون نقد فني إلا إذا سبقه تذوق، يجوز أن يكون هنالك تذوق بغير أن يلحقه نقد فني. إن الناقد الفني يسأل نفسه - بعد أن تذوق ما تذوقه - لماذا كان ذلك كذلك؟ وما دام هو يسأل عن «أسباب» فهو يؤدي عملية فكرية عقلية يعلل بها الحالة الذوقية التي مر بها ممارسا ومكايدا ومعانيا ومخالطا ومعايشا، وما شئت من هذه المترادفات.
لكن الناقد إبان عملية التحليل للقطعة الفنية، كثيرا ما يتأثر في تحليله بفكرة سابقة تجعله يبحث عن شيء معين، هذا أمر لا بد منه؛ لأن القطعة الفنية مكونة من آلاف العناصر، فماذا يجديه تحليل تلك العناصر الكثيرة ما لم يكن مهتديا بشيء يبحث عنه؟ وباختلاف هذا الشيء المبحوث عنه تختلف مذاهب النقد الفني؛ فهنالك الناقد الذي يعتقد أن القطعة الفنية إنما جسدت مشاعر كانت - قبل تجسيدها - كائنات نفسية باطنية يشعر بها صاحبها شعورا داخليا، وبتجسيدها أصبحت كائنات مرئية - في حالة التصوير مثلا - أو كائنات مسموعة في حالة الموسيقى، وما دامت هذه هي عقيدة الناقد في القطعة الفنية التي يريد تحليلها، فتراه يبحث فيها عن الدلالات التي تشير إلى الحالات الشعورية النفسية التي دفعت الفنان إلى خلق فنه هذا؛ أفيها - مثلا - ما يدل على النشوة أم فيها ما يدل على الحزن؟ أفيها ما يدل على الانطلاق الحر أم فيها ما يدل على التقيد؟ أفيها ما يدل على تلقائية الطفل وهو على فطرته، أم فيها ما يدل على تدبير العقل الرشيد وهو مكبل بأغلال القواعد؟ وهكذا وهكذا.
وليس في هذا الاتجاه النقدي - أعني الاتجاه الذي ينتقل من العناصر المحسوسة التي أمامه إلى العناصر النفسية الخافية في بطن الفنان - أقول ليس في هذا الاتجاه النقدي ما يدعو إلى الغرابة؛ لأنه مستند إلى أساس طبيعي؛ فالإنسان بطبيعته الجسدية نفسها تراه يخرج الباطن في علامات ظاهرة، فيخرج الخجل - وهو حالة نفسية - في حمرة الوجه، ويخرج الخوف - وهو حالة نفسية أيضا - في اصفرار الوجه ورعشة الأطراف، ويخرج الغضب - وهو حالة نفسية كذلك - في تقطيبة الجبين، وهكذا. أفلا يجوز للفنان - على هذا الأساس - أن يخرج حالاته على اللوحة ألوانا أو خطوطا دالة عليها؟
وها هنا نلاحظ أن الناس قد تواضعوا - لأسباب بيولوجية في معظم الأحيان، ولأسباب اجتماعية ثقافية في بقية الأحيان - تواضعوا على أن تكون الألوان والخطوط دالة على حالات نفسية معينة؛ فاللون الأحمر - الذي هو في الطبيعة لون النار ولون الدم - صالح لأن يرمز إلى اضطراب العاطفة وهيجانها، وإلى العنف؛ واللون الأبيض - الذي هو في الطبيعة كثيرا ما يكون ناشئا عن الخلو من القذر - صالح لأن يرمز إلى الحالات النفسية التي تكون خالية من الشوائب، كالطهر والصفاء ونقاء الضمير؛ والضوء - الذي هو في الطبيعة آت من مصادر في السماء كالشمس مثلا - صالح لأن يرمز إلى الشعور بالقداسة، وكذلك الارتفاع المكاني نرمز به إلى الارتفاع المعنوي، وإن شئت فانظر إلى الألفاظ اللغوية الدالة على «الرفعة» الروحية، تجدها جميعا - في أصلها - كلمات استخدمت أساسا للدلالة على ارتفاع مادي في المكان، مثل: «شرف»، و«سمو»، و«شمم»، و«أنفة»، و«علو» ... إلخ. والعكس صحيح أيضا؛ أي إن الكلمات الدالة في أصلها على انخفاض مادي في المكان، تستخدم بالطريقة الرمزية لتدل على انخفاض روحي، مثل: «منحط»، و«سافل»، و«دنيء»، و«واطي» ... إلخ.
Página desconocida