En la Filosofía de la Crítica
في فلسفة النقد
Géneros
الصورة في الفلسفة والفن
تحليل الذوق الفني
رسالة الفنان
الإنسان المعاصر في الأدب الحديث
الأدب في عصر العلم والصناعة
أسلوب الكاتب
ريادة الأدب
أبعاد القصة
الناقد قارئ لقارئ
مراجعة الموازين
Página desconocida
الكاتب المصباح والكاتب الصدى
قضاة الحكم الأدبي
شاعر ينقد نفسه
النقد الأدبي بين عهدين
دور الكتاب في حضارة الإنسان
محاكمة الأدباء
بين الخاص والعام
بغير وجهة للنظر
التوتر الدولي ومهمة الأديب1
أخوان
Página desconocida
قرصنة في بحر الثقافة
الصيت والغنى في حياتنا الثقافية
شمشون العصر ودليلته
دمنة وكليلة
من هو الناقد؟
الأديب ثم الناقد
أدب الناشئين
ثقافة الجماهير
أهي نكسة ثقافية؟
ماذا صنعت خمسون عاما؟
Página desconocida
كان عصر طه حسين
الصورة في الفلسفة والفن
تحليل الذوق الفني
رسالة الفنان
الإنسان المعاصر في الأدب الحديث
الأدب في عصر العلم والصناعة
أسلوب الكاتب
ريادة الأدب
أبعاد القصة
الناقد قارئ لقارئ
Página desconocida
مراجعة الموازين
الكاتب المصباح والكاتب الصدى
قضاة الحكم الأدبي
شاعر ينقد نفسه
النقد الأدبي بين عهدين
دور الكتاب في حضارة الإنسان
محاكمة الأدباء
بين الخاص والعام
بغير وجهة للنظر
التوتر الدولي ومهمة الأديب1
Página desconocida
أخوان
قرصنة في بحر الثقافة
الصيت والغنى في حياتنا الثقافية
شمشون العصر ودليلته
دمنة وكليلة
من هو الناقد؟
الأديب ثم الناقد
أدب الناشئين
ثقافة الجماهير
أهي نكسة ثقافية؟
Página desconocida
ماذا صنعت خمسون عاما؟
كان عصر طه حسين
في فلسفة النقد
في فلسفة النقد
تأليف
زكي نجيب محمود
الصورة في الفلسفة والفن
إننا إذ نقف إزاء عمل فني كائنا ما كان - وسأجعل حديثي في هذه الكلمة منصبا على التصوير دون سائر الفنون - فإنما نقف إزاء واحد من احتمالات رئيسية ثلاثة؛ فإما أن تكون الصورة:
أولا:
مشيرة إلى شيء في الطبيعة الخارجية، كأن ترسم منظرا طبيعيا، أو فردا من الناس، أو جماعة منهم، وما إلى ذلك من كائنات.
Página desconocida
ثانيا:
أو تكون الصورة مشيرة إلى شيء في طبيعة الفنان الداخلية، من حيث ارتباط الخواطر في مجرى الشعور أو صلتها باللاشعور.
ثالثا:
أو تكون الصورة كيانا مستقلا بنفسه مكتفيا بذاته، فلا هو يشير إلى شيء بعينه في الطبيعة الخارجية أو في الطبيعة الداخلية، وها هنا يكون ارتكاز العمل الفني على تكوينه البحت.
في الحالة الأولى والحالة الثانية يكون عمل الفنان محاكاة لمصدر خارج عن طبيعة الأثر الفني نفسه؛ فهو في الحالة الأولى يحاكي جزءا من العالم الخارجي، وفي الحالة الثانية يحاكي جزءا من العالم الداخلي، وقد تسمى هذه الحالة الثانية «تعبيرا» على اعتبار أن الفنان فيها «يعبر» عن نفسه أساسا؛ أي «يخرج» شيئا مما بنفسه على أي نحو يراه ملائما لإحداث أثر نفسي في الرائي يشبه حالته.
وأما في الحالة الثالثة فالأمر جد مختلف؛ لأن الفنان هنا لا يحاكي شيئا على الإطلاق، بل هو يخلق تكوينه الفني خلقا عديم الأشباه في كائنات العالم بأسرها.
فلئن صح أن يقال في حالتي المحاكاة إن الجمال هو نفسه الحق؛ إذ الصورة عندئذ تزداد قيمتها بمقدار قدرتها على محاكاة ما أراد الفنان أن يحاكيه - في خارج أو في داخل - ففي الحالة الثالثة وحدها، حالة استقلال الأثر الفني بذاته واعتماده على نفسه، يكون الجمال قيمة وحدها لا شأن لها بقيمة الحق.
ونعود إلى هذه الحالات فنتناولها واحدة بعد أخرى لندرك العلاقة - في كل حالة منها - بين ما يحاوله الفنان وبين ما نلتمسه لها من أصل في دنيا الفلسفة:
1
إذا وقف الفنان حيال الطبيعة يريد نقلها على أي وجه من الوجوه، فهو - بصفة عامة - إنما يكون في إحدى حالتين: (أ)
Página desconocida
فإما أنه يريد نقلا حرفيا أو كالحرفي، حيث تأتي الصورة انعكاسا تاما للأصل المصور؛ وعندئذ تنحصر البراعة الفنية في صناعة الرسم نفسها، ولا يكون له من فضل في هذه الصناعة سوى حسن اختياره لموضوعه والحواشي التي يحيطه بها على لوحته؛ ولا يطلب منه عندئذ أكثر من عملية الإدراك الحسي التي يدرك بها دقائق موضوعه تكوينا وتلوينا؛ أعني أنه عندئذ لا يكون بحاجة إلى فلسفة تهديه في عمله سواء السبيل. (ب)
وإما أنه لا يريد هذا النقل الحرفي لما هو ظاهر على سطح الطبيعة، بل يريد أن يلتمس لها حقيقة قد تكون خافية على العين العابرة ؛ وعندئذ ينشأ هذا السؤال: إذا كانت حقيقة الطبيعة أمرا غير ظاهرها، فماذا عسى أن تكون لكي أستطيع إبرازها في صورة فنية؟
وهنا تدخل الفلسفة إلى المسرح بجعبة مليئة بمحصول غني خصب غزير؛ فقد كان أول سؤال ألقاه الفلاسفة على أنفسهم وحاولوا الإجابة عنه منذ القرن الخامس قبل الميلاد هو هذا السؤال بعينه: ماذا تكون الطبيعة في حقيقتها؛ لأن الظاهر وحده لا يكفي لتفسيرها؟ وسأكتفي هنا بعرض إجابة واحدة من إجابات كثيرة، وأعني بها إجابة فيثاغورس الذي قد تعرفونه رياضيا صاحب نظرية في المثلث القائم الزاوية، لكنكم ربما لا تعرفونه فيلسوفا جابه المشكلة الرئيسية التي كانت تشغل فلاسفة عصره جميعا، وهي هذه التي ذكرتها: ماذا عسى أن تكون الطبيعة على حقيقتها؟ وهاكم خلاصة لرأيه:
لئن كانت الطبيعة كما نتلقاها بحواسنا، أي كما نتلقاها بالبصر والسمع واللمس وغير ذلك من حواس، قد تبدو كيفيات مختلفة؛ فألوان مختلفة، وأصوات مختلفة، ولمسات مختلفات، وطعوم مختلفة الوقع على اللسان وهكذا، إلا أن هذا الاختلاف الكيفي كله يرتد إلى اختلاف في الكم؛ فليس الفرق بين شيء وشيء فرقا في العنصر أو العناصر التي يتكون منها كل منهما، ليس الفرق بين قطعة الخشب وقطعة الحديد وقطرة الماء وهبة الهواء فرقا في المادة التي يتألف كل منها من حيث كيفها، بل هو اختلاف في «العدد» أو في «الكمية» هنا وهناك، واختلاف الكمية وحده كفيل أن يحدث على حواسنا اختلافا كيفيا كالذي نراه ونلمسه.
ذلك أننا إذا جعلنا النقطة تمثل عدد 1، فإن الفرق بين النقطة والخط ليس اختلافا في طبيعتهما الداخلية، بل هو مجرد تكرار للنقطة في امتداد معين، فيتكون بذلك خط، ثم إذا حركنا الخط في اتجاه أفقي فإنه يتكون بذلك سطح، وإذا حركنا السطح في اتجاه عمودي تكون بذلك جسم؛ وليس في كائنات الدنيا بأسرها ما يخرج عن هذه الحالات الأربع؛ فإما هو نقطة أو خط أو سطح أو كتلة. ولما كان الاختلاف بين هذه الحالات ليس إلا اختلافا في عدد النقط المطلوبة لبناء كل منها، كان الاختلاف بين طبائعها اختلافا عدديا صرفا: الحد الأدنى في تكوين الخط نقطتان، والحد الأدنى في تكوين السطح المثلث ثلاث نقط، وفي تكوين السطح المربع أربع نقط، وفي تكوين المستطيل ست نقط، وهكذا نستطيع أن نمضي في تصور الأشكال الهندسية - مهما اختلفت - على نحو يجعل طبائع تكوينها متوقفة على اختلاف عددي أصيل في طريقة التكوين.
وقد تقول: افرض أن هنالك مربعا من خشب ومربعا من نحاس، أفلا يكون بينهما اختلاف كيفي بالرغم من اتفاقهما في الشكل الهندسي؟ هنا يجيبك فيثاغورس، ويجيبك معه علم الطبيعة الذرية الحديث، أن لا؛ فخصائص الشيء كائنة في صورته، أي في طريقة تركيبه، لا في نوع مادته كما يبدو ظاهره للحواس؛ فيكفي أن تدرك من الشيء بناءه الهندسي، أو نسبه العددية لتعرف طبيعته على حقيقتها، لبث هذا الكلام من فيثاغورس أمرا غريبا حتى جاءنا علم الطبيعة الذرية اليوم يقول شيئا كهذا؛ فليس الفرق عند هذا العلم بين خشب ونحاس إلا فرقا في التكوين الذري الداخل في كل منهما، وقوام هذا التكوين الذري عدد من الإلكترونات والبروتونات يزيد هنا وينقص هناك؛ فخذ ما شئت من هذه الذرات التي لا تختلف إلا في عدد كهاربها، ثم رتبها على هذا النحو يكن لك قطرة ماء، أو على ذلك النحو يكن لك إنسان من البشر.
هذا التفسير الكمي للكائنات يهيئ لنا فرصة لا يهيئها سواه، في تفسير التباين بين ملايين الملايين من كائنات العالم؛ لأن الأشكال الهندسية والنسب الرياضية لا نهائية الصور، فيستحيل - إذن - ألا نجد بينها صورة تقابل كل كائن من كائنات العالم إن كانت هذه بدورها لا نهائية كذلك؛ وليس الأمر كذلك لو حاولنا أن نفسر العالم الطبيعي بعنصر واحد أو بمجموعة صغيرة من العناصر - كما حاول سائر الفلاسفة في عصر فيثاغورس - لأن هذا التحديد من شأنه أن يضيق بشتى صنوف الكائنات، فإن فسر منها بعضها فهو قاصر عن تفسير بعضها الآخر.
وكان الميدان التطبيقي لهذه النظرية الكمية في تفسير الاختلافات الكيفية، الذي جال فيه فيثاغورس وصال ، هو ميدان الموسيقى؛ فقد كان أول من تنبه إلى أن كل ضروب الاختلاف الكيفي في عالم الصوت، هو في صميمه اختلاف في النسب الرياضية بين أطوال موجاته، فخذ هذه النسبة تكن لك هذه النغمة في الأذن، وخذ تلك تكن لك أخرى.
ولو اتخذنا النظرية الفيثاغورية أساسا لوجهة نظرنا إلى العالم، وجدنا هذا العالم مما يمكن وصفه بلغة الرياضة وحدها: أشكالا هندسية وأعدادا حسابية على السواء.
فضع هذه النظرة نصب عينيك، وانظر إلى مدارس الفن الحديث؛ أفلا ترى معي أن الفنان التكعيبي هو فيثاغوري المذهب لحما ودما؟
Página desconocida
إن مؤرخي هذا الاتجاه التكعيبي في الفن، ليحدثوننا بأن عبارة هامة قالها سيزان كانت بمثابة البداية لهذه المدرسة الخطيرة الشأن؛ إذ قال: «كل شيء في الطبيعة قد صيغ على شكل أسطواني أو كري أو مخروط.» وقال كذلك: «انظر إلى الطبيعة بعين ترى فيها الأسطوانة والكرة والمخروط.»
وليس لي عين الفنان لأنظر بها إلى الطبيعة تلك النظرة التي أرادها سيزان، حتى أقرر لنفسي هل أخطأ أو أصاب، لكني مع ذلك أستطيع أن أرى الإنسان مثلا ذا رأس هو الكرة في صورته، وذا جذع وذراعين وساقين أسطوانية الصور، وأستطيع أن أرى الشجرة فإذا هي جذوع وساق وفروع كلها أسطوانية الشكل، وأستطيع أن أرى نجوم السماء وكواكبها كرات سابحة في الفضاء، وهكذا.
ومهما يكن من أمر فقد جاء «براك» بعد سيزان، فتولاه إحساس قوي بصور التكوين في الأشياء، حتى لقد عرض عام 1908م معرضا للوحات سبع رد فيها الطبيعة إلى أسطوانات ومخروطات ودوائر جريا على مبدأ سيزان. ومن لطيف ما يروى في هذا الصدد أن ماتيس - وقد كان من المحكمين الذين رفضوا من تلك اللوحات السبع خمسا - كان قد أشار إلى تلك اللوحات إشارة ساخرة؛ إذ قال إنها ليست إلا تكعيبا. ومن هذه الإشارة الساخرة نشأ للمدرسة الجديدة اسمها الجديد.
لم يكن المكعب بين الصور الهندسية التي أشار إليها سيزان الذي اقتصر في إشارته على الأسطوانة والكرة والمخروط، لكن خطوة يسيرة تخطوها من هذا المبدأ كما صاغه سيزان كفيلة أن تعمم القول، فتجعل حقائق الطبيعة أشكالا هندسية كائنة ما كانت، وذلك هو أقوى طابع ينطبع به الفن الحديث، فقف أمام الصورة، وإذا رأيت نفسك قد وصفتها بالحداثة في أسلوبها الفني، فابحث عن مصدر حكمك هذا تجده دائما مرتكزا على أن الصور قد أبرزت الجوانب الهندسية التي ينطوي عليها التكوين المصور، كأنما كانت تلك الجوانب الهندسية كامنة في الشيء ثم جاء الفنان فكشف عنها الستار.
ولكنا نتساءل: لماذا كان المكعب مقدما على سائر الأشكال الهندسية عند هذه المدرسة الفنية؟ لعل الجواب هو هذا: إن طبيعة العالم طبيعة معمارية قبل كل شيء؛ لأن العالم بناء على كل حال، ووحدة الطبيعة المعمارية هي المكعب من الحجر. لا، بل إنه ليجوز لنا أن نضرب في التعليل إلى ما هو أهم من ذلك وأعمق؛ إن تشريح أي كائن حي - بما في ذلك الإنسان - ليوضح أنه بناء من خلايا. ولئن كانت الخلية الواحدة، وهي مفردة وحدها، قد تنداح في شكل لا تكعيب فيه، إلا أنها وهي داخلة مع غيرها من الخلايا في بناء الكائن الحي، تنضغط من جوانبها بجيرانها حتى لتتخذ هيئة التكعيب. ولقد حدثني طبيب صديق فأنبأني أنك إذا رأيت عضوا من أعضاء الإنسان، كالكبد مثلا، وجدته في تكوينه بناء من مكعبات كأي جدار تراه في أي بناء. وإن كان هذا هكذا، كانت الكائنات هندسية الصورة في صميم تكوينها، وكان المكعب في مقدمة الصور الهندسية التي منها يتألف ذلك التكوين.
ولئن كان «براك» أحد اثنين وضعا أساس الحركة التكعيبية، فثانيهما هو «بيكاسو» الذي التقى هو وزميله براك لأول مرة في خريف 1907م، وكان ذلك بعد أن فرغ بيكاسو من لوحته المشهورة «غانيات أفنيون» التي توصف اليوم بأنها أول صورة في مرحلة الفن التكعيبي.
وإن شئت قليلا من دقة فقل إن للفن التكعيبي مرحلتين: أولى تحليلية، وأخرى تركيبية.
في المرحلة الأولى التحليلية كان الفنان يفتت أي شيء من أشياء الحياة اليومية المألوفة، كمنضدة أو مقعد أو وجه إنسان، يفتته في مكعبات، ثم يعود إلى تجميع المكعبات في بناء نحتي جديد يخلقه لنفسه خلقا. لقد فتن أنصار التكعيبية بالفورم - أي بطريقة التكوين - فتنة كادت تنسيهم كل ما عداها، حتى لقد أرادوا أن يتركوا تكوين الصورة يتحدث عن نفسه دون أن يستعينوا باللون إلا إلى الحد الأدنى؛ أراد براك وبيكاسو للرائي أن يدخل في تكوين الصورة دخولا مباشرا، فأسقطا عن الصور إطاراتها لئلا يكون ثمة حائل بين الرائي والتكوين الذي يراد له أن يراه رؤية مباشرة. وما أقرب الشبه هنا بين صورة بغير إطارها وبين المسرح الجديد الذي يسمونه مسرح الحلبة؛ حيث يقام التمثيل وسط غرفة جلس المتفرجون حول جدرانها، حتى يكون المتفرجون والممثلون في حالة التقاء مباشر.
وأراد براك وبيكاسو للرائي أن يلتقي بالتكوين هذا اللقاء المباشر دفعة واحدة؛ فلا بأس من وضع المنظر الجانبي للأنف فوق المنظر الأمامي للوجه، ولا من وضع العين كاملة كما ترى من أمام على الوجه الذي يرى من جانب. ولا يسعنا نحن المصريين إزاء هذا الاهتمام بتكوين الأجزاء بغض النظر عما يتألف منها، سوى أن نذكر قواعد التصوير المصري القديم؛ لنقول: ما أشبه الليلة بالبارحة!
هكذا بعدت التكعيبية التحليلية بالشيء المصور عن واقعه الظاهر بعدا استحال معه أن تعرف عن الصورة ماذا تصوره؛ ولماذا تعرف والصورة قد أريد بها ألا تصور شيئا مما يظهر لك في العالم الخارجي، بل أن تبني بناء جديدا من مكعبات تستخرجها من تفتيت الشيء إلى أجزائه؟
Página desconocida
لكن أصحاب هذه المدرسة كأنما قد أجهدهم هذا البعد كله عن ظاهر الواقع، فكروا قافلين في الطريق عائدين من غايتهم التي انتهوا إليها إلى البداية التي بدأ منها الفن على إطلاقه؛ فلماذا لا يرسمون على اللوحة جانبا واحدا من الشيء رسما واقعيا، كأن يرسموا مثلا ظهر مقعد أو ساق منضدة، ثم يحيكون حول هذا الجزء ما يريدون نسجه من تكوينات هندسية، فيكون ذلك الجزء الصغير الواقعي في الصورة رامزا إلى شيء من عالم الواقع كما يظهر؟ ولا يكاد الإنسان يبدأ طريقا حتى يأخذه ما يشبه الهوس في التحمس له؛ فما دمنا قد رضينا بأن نثبت في الصورة جزءا من الشيء الواقع كظهر المقعد مثلا، فلماذا لا نضع الجزء الواقعي بذاته ملصقا إلى اللوحة؟ لماذا نرسمه كما هو إذا كان يمكن إثباته بواقعيته كلها؟ ومن ثم راح براك وبيكاسو يلصقان على لوحاتهما قصاصة من جريدة، أو من ورق اللعب، أو قطعة من علبة الكبريت، وهكذا، ثم يديران حول القطعة الملصقة ما شاء لهما الخيال أن يقيماه من تكوينات تعتمد على هندسة التكوين وحدها ولا تستعين باللون إلا قليلا.
إنه لا مندوحة لمن أراد أن يدخل عالم الفن الحديث عن اطراح مفهوم الفن القديم اطراحا تاما، ومفتاح الدخول إلى هذا العالم الفني الجديد هو ألا تنظر إلى الصورة على أنها صورة لشيء مما يتبدى للعين، إننا في الحقيقة سيئو الحظ في كلمة «صورة» هذه؛ لأنها ما دامت هناك فسيظل الإنسان يسأل: صورة ماذا؟ ولو عودنا أنفسنا على استعمال كلمة أخرى، مثل لوحة، لجاز أن ننسى مفهومنا القديم للفن، ولأصبحت اللوحة شيئا إن أشار إلى العالم الخارجي فهي الإشارة إلى صميم ذلك العالم وحقيقة طبيعته، لا إلى ظاهره المرئي للعين.
وإني لأسوق هنا عبارة قالها بيكاسو لأرد بها على من لا يزال يسأل: ماذا تعني الصورة في الفن التكعيبي؟ إذ قال:
إذا كانت التكعيبية قد لبثت أمدا طويلا بعيدة عن الأفهام، ثم إذا كان هنالك إلى يومنا هذا من لا يرون فيها شيئا يسيغونه، فذلك كله لا يعني شيئا؛ فأنا لا أقرأ الإنجليزية؛ ولذلك فإن الكتاب المكتوب بهذه اللغة يكون بالنسبة إلي كالورق الخالي، فهل يعني هذا أن اللغة الإنجليزية غير قائمة؟ وهل يجوز أن أوجه اللوم في ذلك إلا إلى نفسي حين أراني لا أفهم ما لست أعلمه؟
ويحلو لي في هذه المناسبة أن أذكر فصلا فكها رائعا كتبه الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه «فن الأدب» يصور به حيرته إزاء الفن التكعيبي، وذلك حين كان في باريس يسمع الناس يعلقون في إعجاب شديد على هذا الفن، ولم يكد يصادف فنانا تكعيبيا في إحدى قهوات مونمارتر، حتى دعاه على شراب ليطلب إليه أن يفتح له مغاليق هذا الفن الجديد.
قال الأستاذ توفيق لزميله الفنان التكعيبي إنه زار اللوفر، ورأى اللوحة الفلانية للفنان الفلاني، ولوحة أخرى لفنان آخر وهكذا، فكان كلما ذكر اسما من هؤلاء الأعلام، قاطعه الفنان التكعيبي محتجا على عد هؤلاء من أصحاب الفن بمعناه الصحيح: أتسمي هذا مصورا؟ لا يا سيدي، إنه نقاش. أتسمي فان دايك بلوحته «المسيح في القبر» فنانا؟ إنه يستدر عطف الرائي بحادث مؤلم، ولا دخل لهذا في فن التصوير بمعناه الصحيح. أتسمي «كورو» بلوحته التي يصور فيها الصباح فنانا؟ كلا، بل عده شاعرا إذا أردت. أتسمي لوحة فرنيه عن معركة نابليون في وجوام فنا؟ قل عنه إنه مؤرخ إذا شئت؛ إذ ما دخل الفن في وصف المعارك، وهكذا وهكذا.
سأله: ما الفن إذن؟ فقال: هو إبراز حقائق الأشياء في تكوينها الهندسي. واستطرد الكاتب يبين كيف وضح الفنان رأيه على فخذ دجاجة طلبها له الحكيم فأكلها بعد أن قال إن حقيقته مثلث، ثم على طبق من السلطة أكله بعد أن قال إن حقيقته ألوان الجزر الأحمر وورقة الخس الخضراء وقطعة البنجر الأصفر ... إلخ.
حسبنا هذا عن المذهب الفيثاغوري وما يقابله في الفن، لننتقل إلى إجابة أخرى أجاب بها فيلسوف آخر - هو أفلاطون - عن السؤال نفسه، وهو: ماذا عسى أن تكون حقائق الكون الكامنة وراء ظواهره؟ ما حقيقة الإنسان مثلا؟ وما حقيقة الدائرة أو المثلث؟
يقول أفلاطون ما معناه: إن أفراد الكائنات كما نراها في دنيانا الظاهرة هذه يستحيل أن تكون هي الحقائق. خذ الدائرة مثلا؛ ففي عالمنا الحسي دوائر كثيرة، فهنالك أقراص من المعدن دائرية، وقطع من النقود دائرية، وأرغفة من الخبز دائرية، وهناك دوائر مرسومة على الورق وغيره، فهل هذه كلها دوائر حقا؟ كلا؛ لأننا نلاحظ بينها تفاوتا؛ فالدائرة في قطعة النقود أكمل منها في الرغيف، والدائرة المرسومة بالفرجار على الورق أكمل من دائرة القرش، وهكذا تستطيع أن تتصور سلما متدرجا من دوائر يعلو بعضها على بعض في نصيبها من حقيقة الدائرة؛ فأين تكون «الدائرة» الكاملة؟ إنها لا تكون إلا كائنا عقليا، هو الذي نسميه «مثال» الدائرة، فإذا لم يكن هذا «المثال» العقلي كائنا بيننا في عالم المحسات، فلا بد أن يكون هناك عالم عقلي لهذه المثل كلها.
ولكن ما الفرق بين مثال الدائرة والدائرة كما نراها في عالم الحس؟ بين مثال الشجرة والشجرة كما نراها في عالم الحس؟ بين مثال الإنسان والإنسان كما نراه في عالم الحس؟ الفرق هو أن المثال في كل حالة من هذه الحالات مجرد؛ أي أنه متخلص من كثير من التفصيلات التي نراها عالقة بالكائنات الحسية؛ فالشجرة كما نراها هنا وهناك ذات أوراق وذات ثمار وهكذا، لكن هل هذه الأوراق وهذه الثمار جزء من حقيقة الشجرة؟ كلا؛ إذ نستطيع أن ننزع عنها أوراقها وثمارها وتظل «شجرة»، وهكذا تستطيع أن تجرد الكائن الجزئي من كثير جدا من تفصيلاته العالقة به، وتظل حقيقته قائمة.
Página desconocida
ضع هذه الفكرة الأفلاطونية نصب عينيك وانظر إلى عالم الفن الحديث؛ ألست تري شبها شديدا بينها وبين ما تذهب إليه مدرسة التجريد؟ إن الفنان التجريدي لا يهمه أن يثبت الشجرة التي يراها بكل ما يراه فيها من تفصيلات؛ لأن هذه التفصيلات زائلة عابرة، وإنما يهمه أن يستبقي منها ما يكون لها بمثابة الجوهر الثابت؛ وبهذا يضع الطبيعة على لوحته، لا كما تراها العين، بل كما يفهمها العقل.
والحق أن الفن قد سار في تاريخه من التعين إلى التجريد على نحو قد يؤيد لنا وجهة نظر التجريديين المعاصرين؛ ألم يبدأ الفن صورا على جدران الكهوف تصور الحيوان المراد اصطياده تصويرا مباشرا؟ وإذا نحن أدخلنا الكتابة في أنواع التصوير - ولا شك أنها كذلك - قلنا إن الإنسان قد استعاض عن الصور المباشرة بكتابة مصورة يكتفي فيها بالرمز إلى الموضوع دون رسمه رسما مباشرا، ثم أخذت الصورة الكتابية تبعد عن الرمز التصويري شيئا فشيئا - مارة خلال المرحلة الهيروغليفية - حتى انتهت أخيرا إلى هذه الأحرف الهجائية التي نستخدمها في كلماتنا، والتي إن هي إلا تصوير بلغ غاية في التجريد، وانظر - إذا شئت - إلى كلمة «شجرة»، فهل ترى أية رابطة بين صورتها وبين الشجرة ذاتها التي أريد تصويرها بتلك الكلمة؟ ليس بين الطرفين أدنى شبه، ومع ذلك فطرف منهما يصور طرفا على سبيل التجريد لا على سبيل التعين الجزئي.
ونعود إلى الفن التجريدي الحديث، أو إن شئت فسمه الفن اللاموضوعي؛ أي الذي هو بغير موضوع مما تراه الأعين رؤية مباشرة، فنقول إن من هؤلاء التجريديين من يتصل بالمدرسة التكعيبية صلة قريبة، وهم أولئك الذين يقصدون بالتجريد إلى تكوينات هندسية مقصودة لذاتها، لكني أترك الحديث عن هذا الفريق لأعود إليه حين أتحدث عن الفن الذي تستقل فيه اللوحة عن كل ما عداها. وأما الفريق الثاني فهو أولئك الذين يجردون من الطبيعة ألوانها ليتناولوا هذه الألوان وحدها دون موضوعاتها، فيركبونها على أي نحو تهديهم إليه أذواقهم، وزعيم هذه الجماعة هو كاندنسكي الذي جعل اللوحة الفنية موسيقى لونية لا أكثر ولا أقل.
ونعود إلى عالم الفلسفة مرة ثالثة وأخيرة، إلى أرسطو الذي اتفق هو وأستاذه أفلاطون في جانب واختلف عنه في جانب؛ فهو كأستاذه يرى أن الفورم في أي كائن ليس هو التفصيلات الجزئية التي نراها عالقة بهذا الكائن، بل هو جوهره الذي يحدد حقيقته، لكنه يختلف عن أستاذه في أن هذا الفورم لا يقوم وحده في عالم عقلي، بل هو دائما كائن في الشيء ذاته، وهو الذي يطبع الشيء بالطابع الذي يجعله منتسبا إلى هذا النوع أو ذلك من أنواع الكائنات. الفورم في الشيء هو الوظيفة التي يقوم بها ذلك الشيء؛ فالفورم في الفرد من أفراد الإنسان هو الوظيفة التي تجعل من الإنسان إنسانا، والفورم في الشجرة هو الوظيفة التي تجعل من الشجرة شجرة وهكذا؛ ومعنى ذلك أن الفورم هو مصدر الحركة والنشاط والفاعلية في الشيء؛ أي إن الفورم في الشيء هو «طبيعته» أو «حقيقته».
إن لكل شيء في الطبيعة - عند أرسطو - غاية يريد تحقيقها، هذه الغاية تكون موجودة فيه بالقوة قبل تحقيقها، ثم توجد فيه بالفعل بعد تحقيقها ، وهذه السيرة، أو هذا الانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، هو الفورم الذي يحدد طبيعة الشيء؛ فالحبة تلقيها في التربة إنما تنزع أن تصبح شجرة من صنف معين، وهي لا تني تكد حتى تحقق هذه الغاية، وهذا الكد منها لتحقيق طبيعتها هو الفورم.
وهكذا ترى معنى الفورم في الطبيعة قد اختلف اختلافا جوهريا عند أرسطو عنه عند فيثاغورس وأفلاطون؛ فهو عند أرسطو فاعلية ونشاط، وأما عند فيثاغورس وأفلاطون فهو صورة ساكنة؛ هو عند أرسطو حقيقة تطورية بيولوجية، وأما عند فيثاغورس وأفلاطون فهو حقيقة رياضية.
الفورم عند أرسطو هو فكرة النوع انطبعت بها المادة فأصبحت بها فردا ينتمي إلى ذلك النوع، وأفراد النوع الواحد تتفاوت في درجة تحقيقها لفكرة نوعها.
فكيف يكون الفن على هذا الأساس الأرسطي؟ يكون الفنان فنانا بمقدار ما يستطيع أن يصور لنا فردا واحدا تصويرا يعبر فيه عن حقيقة النوع كلها، كأن يبرز الشجاعة في شجاع، والطموح في طامح، والبلاهة في أبله، والحكمة في حكيم، وهكذا.
وأحسب أن الفن بمعناه الكلاسيكي تطبيق يقوم على هذا الأساس.
2
Página desconocida
كل هذا الذي أسلفناه إنما هو تحليل لوقفة واحدة من الوقفات الثلاث التي ذكرناها في مستهل هذا البحث، وأعني بها وقفة الفنان حين يريد أن يشير بفنه إلى الطبيعة، في ظاهرها حينا، وفي صميم حقيقتها حينا آخر. وهو إذ يشير إلى الطبيعة في صميم حقيقتها، فهو إما أن يجعل تلك الحقيقة أشكالا هندسية، أو تجريدا للجوهر، أو إبرازا لوظائف الكائنات في فاعليتها ونشاطها.
على أن الفنان قد يقف وقفة أخرى بأن يجعل عمله الفني إخراجا لطبيعته هو الداخلية، وهنا تأتي المدارس التعبيرية والسريالية وما يدور مدارها.
وإني لأخشى طول الاستطراد في الحديث، فأترك هذه الناحية من الفن لأنتقل مسرعا إلى كلمة موجزة أقولها في الوقفة الثالثة.
3
ثالث الوقفات التي يمكن للفنان أن يقفها إزاء عمله الفني، وقفة يريد بها ألا يجيء إنتاجه صورة لشيء كائنا ما كان خارج حدود ذلك الإنتاج نفسه، وها هنا نجد «الفورمالزم » بأكمل معانيه؛ إذ الصورة هنا لا سند لها إلا نفسها، وبديهي أن يلجأ الفنان هنا كذلك إلى التجريد، لكنه لا يجرد من الشيء جوهره كما فعل زميله في الحالة التي أسلفنا ذكرها، بل يجرد تجريدات هندسية أو لونية كل عمادها وقعها في الإدراك الحسي، وإما أن يقبلها هذا الإدراك الحسي أو يرفضها. إن اللوحة في هذه الحالة لا تعبر عن أي شعور أو عاطفة أو انفعال؛ لأنها لو فعلت كانت ناقلة عن نفسية الفنان؛ فلست ترى على اللوحة إلا أشكالا هندسية مجردة، كأن ترى مربعات أو دوائر سوداء على أرضية بيضاء، أو ترى تشكيلات من مربعات ودوائر ومستطيلات. ولعل في هذا ما يذكرنا بقول أفلاطون:
إن جمال الأشكال ليس - كما يظن معظم الناس - جمال الجسوم الحية أو جمال الصور، لكنه جمال الخطوط المستقيمة والدوائر وسائر الأشكال - ذوات السطح أو ذوات الحجم على السواء - المكونة من الخطوط والدوائر تكوينا نصوغه بالمخرطة والمسطرة؛ فعندئذ لا يكون الجمال - كما هي الحال في بقية الأشياء - جمالا نسبيا، بل هو جمال ثابت مطلق.
ومن زعماء هذه الحركة الفنية في عصرنا مالفتش الروسي
Malevich ، وموندريان الهولندي
Mondrian .
ولا حاجة بي إلى القول بأن الفن العربي قائم معظمه على هذا التجريد الهندسي، كما نراه في زخرفة العمارة وفي السجاد والأثاث، بل في الكتابة وغيرها. •••
Página desconocida
إن ما ذكرناه حتى الآن هو إجابة عن هذا السؤال: ما هي الصورة (أي الفورم) عند بعض الفلاسفة من جهة، وعند بعض رجال الفن من جهة أخرى؟ (1)
فالنظرية الفيثاغورية في الفلسفة، تقابلها التكعيبية في الفن. (2)
ونظرية المثل الأفلاطونية في الفلسفة، يقابلها الفن الذي يجرد من الشيء جوهره. (3)
والنظرية الأرسطية في أن الصورة هي ما ينطبع به الكائن الفرد بحيث ينتمي إلى نوع معين، يقابلها الفن الكلاسيكي.
وهذه الثلاثة كلها تفسيرات للصورة حين تعنى بإبراز الطبيعة على حقيقتها. (4)
والتحليل النفسي للشعور واللاشعور، تقابله في الفن مدارس التعبيرية والسريالية. (5)
واستقلال الفن في عالم وحده، عالم ثالث، بين الطبيعة والذات، يقابلها التجريد الخالص في الفنون.
لكن هناك سؤالا آخر، لعله أهم من السؤال الذي حاولنا الإجابة عنه، وهو بغير شك أعسر جوابا، وأعني به هذا السؤال: متى تكون الصورة (الفورم) جميلة؟ فسواء كانت الصورة تكوينا هندسيا، أم تجريدا لجوهر الشيء المرسوم، أم إبرازا لحقيقة النوع متمثلة في الفرد الواحد، أم غير ذلك، فهو قد يوصف بالجمال هنا وهنا وهناك؛ ومن ثم ينشأ سؤالنا الجديد: متى تكون الصورة جميلة، بغض النظر عن اختلاف الوجهة التي يختارها الفنان في تفسيرها؟
إنني ها هنا أغض النظر عن بحث فرعي هو غاية في الأهمية والخطورة إذا أردنا أن نفهم الفن على حقيقته، وهو البحث الذي نسأل فيه: هل الجمال هو حقا غاية الفن كما هو شائع بين الناس؟ فالواقع أن تحليلا قليلا كاف للدلالة على أن القول بأن الجمال هو غاية الفن إن هو إلا السذاجة بعينها، لكني أغض النظر الآن عن هذا البحث بأكمله، وحسبنا أن تحدث عند الناظر إلى الأثر الفني نشوة من نوع معين، لنسأل سؤالنا، وهو: ما سر هذه النشوة، وما مبعثها؟
أعتقد أنه لا بد أن تكون هناك علاقة وثيقة بين ما يبعث فينا النشوة الجمالية وبين التكوين الفسيولوجي والنفسي للإنسان المشاهد.
Página desconocida
فأيهما أبعث إلى الراحة عند الإنسان؛ الخط المستقيم أم الخط المنحني؟ أظن أن أحدا منا لا يتردد في تفضيل المنحني على المستقيم؛ لأن البصر يستريح للأول أكثر مما يستريح للثاني. لماذا؟
لأن العين وهي تتعقب الخط المستقيم، خصوصا إذا طال امتداده، تحاول أن تحتفظ بالحدقة في وضع واحد تقريبا؛ ومن ثم يكون التعب والملل، ذلك بالطبع إذا لم يكن الخط المستقيم من القصر بحيث ندركه والرأس ثابت في موضعه، بل يطول بحيث يضطر الرائي إلى إدارة رأسه، ومع الرأس البصر، فلا عجب أن يقع الخط المستقيم الطويل من مشاهده موقع الصلابة والجفاف، ولا عجب كذلك أن اضطر فنان العمارة دائما أن يحني العمد في أسافلها وأعاليها بقواعد ورءوس فيها انحناء.
والخط المنحني أروح للبصر؛ لأن عضلات الإبصار في متابعته لا تثبت على حالة واحدة، بل بحكم استدارة الخط تتغير حالة الحاسة المبصرة، فيزول أساس التعب والملل؛ ومن ثم ترانا نصف الخطوط المنحنية بالانسياب والرشاقة واللين.
لكن الانحناء إذا ما بلغ حد الاستدارة الكاملة - في دائرة تقع كلها في مجال الإدراك الحسي - يفقد كثيرا من جماله. لماذا؟ لأن التباين هنا سيزول ويحل محله الاطراد؛ فالمشاهد سيقع ببصره على مركز الدائرة، ولن يجد البصر ما يلفته إلى اليمين أكثر مما يلفته إلى اليسار، أو إلى أعلى أو إلى أسفل؛ ومن ثم يكون الاطراد الممل.
كثيرا ما أبدى فلاسفة اليونان فتنتهم بالدائرة لما فيها من الاستمرار والبساطة، حتى لقد حسبوا أن الكواكب تدور في أفلاك مستديرة لجمال هذه الأفلاك الدائرية، لكني أرى الدائرة ينقصها الحافز المثير؛ ومن ثم ينقص جمالها. نعم إن في الفن الكلاسيكي أمثلة كثيرة فيها هالات مستديرة تحيط بالوجوه، لكنها تخف على العين لسببين؛ أولهما أن الوجه نفسه بمثابة كسر للاطراد، والآخر هو أن أمثال هذه الهالات توحي بفكرة تصرف النظر عن الدائرة نفسها، كفكرة الشمس المشعة أو القمر المضيء.
وبديهي أن هذا الحكم لا ينطبق على الدوائر الصغيرة داخل الصورة كأزرار الثوب مثلا؛ لأن البصر لا يقف عند الواحدة منها وقفة خاصة بها، بل يتخذ منها نقطا تقسم له الصورة تقسيما قد يساعد على انتقال العين انتقالا مريحا من جانب من المرئي إلى جانب آخر.
ومن أهم الأمثلة التي أوضح بها وجهة النظر القائلة بأن جمال الفورم مرتكز في النهاية على تكويننا الفسيولوجي والنفسي، المماثلة أو السيمترية، فلماذا يكون في المماثلة جمال؟ ومتى يكون؟
يلاحظ أولا أن الإنسان نفسه في تكوينه الجسدي تماثل بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر، ولا تماثل هناك بين أعلاه وأسفله؛ ولذلك ترانا نقصر الحديث في المماثلة في الأثر الفني بين الجانب الأيمن من الصورة أو من البناء، أما بين الجانب الأعلى والجانب الأسفل فالمماثلة لا تطلب أبدا، بل يكاد عدم المماثلة هنا أن يكون شرطا؛ ففي أعلى تكون السماء - مثلا - وفي أسفل يكون المنظر الأرضي، أفلا يكون هذا نفسه انعكاسا لتكويننا الجسدي؟ أضف إلى ذلك أن المشاهد لا يحرك رأسه من أعلى إلى أسفل بقدر ما يحركها من اليمين إلى اليسار؛ ولهذا كانت المماثلة مطلوبة بين اليمين واليسار، وغير مطلوبة بين الأعلى والأسفل.
إن المصور عادة يضع في وسط صورته ما يسترعي النظر، كأن يضع شخصا أو مجموعة أشخاص وسط منظر طبيعي، حتى إذا ما استقرت العين على هذا المركز، حدث لها جذب طبيعي أن تجول في بقية الجهات متجهة يمينا ويسارا، فإذا ما كان هنالك اتزان بين الجانبين استراحت راحة مصدرها الاقتصاد في جهدها العضلي.
إن الإيقاع على فترات متساوية ظاهرة مألوفة في طبيعة الإنسان نفسه، فبين ضربات القلب انتظام، وبين وحدات التنفس انتظام، وبين النوم واليقظة انتظام، وهكذا. وأحسب أن هذا الإيقاع الفطري فينا هو ما يجعلنا نتوقعه في مدركاتنا، ونستريح إذا وجدناه، ويصيبنا القلق إذا فقدناه، من هنا كان الوزن في الشعر، وكانت السيمترية في العمارة وفي التصوير. قارن حالتك وأنت تتبع بنظرك جدارا طويلا لا يكون فيه أبدا ما يقسمه إلى فترات، بحالتك إذا كان هذا الجدار منقسما إلى وحدات تحددها أبراج أو عواميد أو غير ذلك، لكن هل يكون معنى ذلك أن يعمد المصور - مثلا - إلى جعل صورته متماثلة أدق المماثلة في يمناها ويسراها؟ كلا، بل إنه يعتمد على مبدأ المماثلة دون أن يطيعه طاعة عمياء؛ فالإنسان الرائي إذا ما وجد الأيمن مختلفا عن الأيسر انتابته صدمة توقظه، فإن كان سبب الاختلاف مثيرا لاهتمامه فإن ذلك هو مصدر جمال الفورم، أما إذا كان الاختلاف الذي سبب الصدمة غير مثير لاهتمامه، اجتمعت الصدمة إلى خيبة الأمل، وفقد الفورم كل جمال مقصود أو غير مقصود.
Página desconocida
إن مشاهد الطبيعة نفسها تقاس «روعتها» (لاحظ العلاقة بين الروعة والروع) بهذا المبدأ نفسه: يتوقع المشاهد أن يرى رتابة، فإن وجدها نام واستراح، وإن انكسرت الرتابة بالاختلاف والتباين، حدث أحد أمرين؛ فإن كان سبب الاختلاف مثيرا للاهتمام كان المنظر رائعا، وإلا كان قبيحا.
الحقيقة أن مبدأ السيمترية نفسه - أو إن شئت فقل مبدأ الإيقاع - يمكن اعتباره فرعا عن مبدأ أشمل في فطرة الإنسان وطريقة تكوينه، وذلك هو ميل الإنسان أن يرى وحدة في الشيء المدرك.
فإذا كان الشيء من الصغر بحيث تدرك العين وحدته بغير عسر، امتنعت ضرورة الإيقاع بين أجزائه، أما إذا كان من الكبر بحيث تحتاج رؤيته إلى انتقال العين من جانب إلى جانب، فعندئذ تريد العين أن ترى كل جزء وكأنما هو وحدة؛ ومن ثم وجب على الفنان أن يعين العين على ذلك في انتقالها من هذا الجانب إلى ذلك من جوانب الصورة أو البناء.
وأما إذا كان الشيء أكبر جدا من أن يدركه الإنسان وهو في موقف واحد، حتى إن دار برأسه في كل الجهات - كمدينة مثلا أو غابة - فلا ضرورة عندئذ أبدا أن تجيء المدينة أو الغابة متماثلة الجوانب، بل يكفي أن يكون هذا التماثل في كل جزء منها مما يمكن للرائي أن يدركه في وقفة واحدة؛ فالمماثلة في الشارع الواحد أو في الميدان الواحد مطلوبة، لكنها لا تطلب في المدينة باعتبارها كلا واحدا.
مبدأ الوحدة التي تضم كثرة العناصر في كائن واحد هو مبدأ أصيل في الفنون على اختلافها؛ هو المبدأ الذي بمقدار تحققه يكون للأثر الفني قيمته.
فالرائي الغافل الذي ينظر إلى زهرة مثلا فيرى وحدتها ويغفل عن الكثرة المكونة لهذه الوحدة، يفوته كثير من جمال ما يراه، والذي يفوته عندئذ هو إدراك الفورم الذي يربط الأجزاء.
غير أن مجرد الكثرة لا يكفي.
فالكثرة التي هي مجرد تكرار عددي كدقات الساعة أو قضبان السور الحديدي أو صفوف الجند، قليلة الجمال لقلة فاعلية المبدأ التوحيدي.
بل لا بد أن تكون الأفراد منوعة، ومع ذلك يكون بينها وحدة، كأعضاء الجسم الحي؛ فالأفراد في زحمة من الناس أجمل من الأفراد في صفوف، والأشجار في غابة أجمل منها في حديقة منسقة.
نعم إن للتكرار العددي جماله، لكنه جمال تكفيه لمحة، وليس هو الجمال الذي يزداد غزارة كلما عاودنا إدراكه.
Página desconocida
والتكرار العددي محدود في قدرته على تداعي الأفكار؛ إذ ما يستدعيه عضو هو نفسه ما يستدعيه عضو آخر، وما هكذا الكثرة المنوعة الأفراد؛ ومن ثم تكون الخصوبة والغنى.
وأعتقد أن التزام الشعر العربي قافية واحدة مكررة في القصيدة يفقده شيئا من جمال تكسبه القصيدة لو تنوعت قوافيها.
والجمال الزخرفي المكون من تكرار الوحدات أقل من جمال الطبيعة المنوعة المحتوى.
تحليل الذوق الفني
1
الذوق حاسة من الحواس الخمس الظاهرة: البصر، والسمع، واللمس، والذوق، والشم. وعضو الذوق هو اللسان، كما أن عضو البصر هو العين، وعضو السمع هو الأذن، وعضو الشم هو الأنف، وعضو اللمس هو سطح الجلد كله؛ حتى لنستطيع أن نقول إن الحاسة الأولى في مراحل التطور البيولوجي هي اللمس، حين كانت الأميبا تحس محيطها باللمس وحده، ثم حدث على مر الزمن تخصص في أجزاء الجلد المختلفة، أدى إلى أن تختص أجزاء معينة ب «لمس» أجسام معينة دون سواها؛ فالعين «تلمس» الضوء، والأذن «تلمس» الصوت، والأنف «يلمس» الرائحة، واللسان «يلمس» الطعم، وبقية سطح الجلد «تلمس» ما بقي بعد ذلك من ملموسات، كالنعومة والخشونة.
لكننا نلاحظ أن شعوب الأرض جميعا، على اختلاف لغاتها، قد اختارت حاسة «الذوق» دون سائر الحواس الأخرى لترمز بها إلى نوع المعرفة التي يحصلها الإنسان بالاتصال المباشر بالشيء المعروف، وحين تكون تلك المعرفة المباشرة ممتزجة بالميل والرغبة؛ وعلى هذا الأساس جاز لنا أن نقول إن للعين «ذوقا» تفاضل به بين الألوان المرئية، وإن للأذن «ذوقا» تقوم به الأصوات المسموعة، وهلم جرا؛ وترانا نتهم الناس في «أذواقهم» حين لا يحسنون الاختيار، أو حين لا يصدقون الحكم في شتى ضروب المحسوسات الأخرى، فلماذا ننيب حاسة «الذوق» عن سائر الحواس الأخرى؟ ما الذي يميز حاسة الذوق دون بقية الحواس؛ مما يكسبها هذه القوة التعبيرية التي تعبر بها عن مجالها الخاص أصالة، وعن بقية المجالات نيابة ومجازا؟
إن أول ما نلاحظه في هذا الصدد هو أن ثلاث حواس من الخمس تحس الشيء المحسوس وهو على مبعدة منها، وهي حواس البصر والسمع والشم، فأنت ترى الشيء، أو تسمع الصوت، أو تشم الرائحة ، دون ما حاجة إلى مس المصدر الخارجي مسا مباشرا، بل إنه في حالتي السمع والشم قد لا يكون ذلك المصدر ظاهرا. وتبقى حاستان، هما اللمس والذوق، لا تعملان عملهما إلا إذا مستا المصدر الخارجي مسا مباشرا (لاحظ المعنى الحرفي لكلمة «يباشر»، وهو أن تمس البشرة البشرة في الشيئين اللذين يتماسان).
لكننا نعود فنجد فرقا هاما بين هاتين الحاستين المباشرتين، اللمس والذوق؛ وذلك أن التنبيه اللمسي آلي، على حين أن التنبيه الذوقي كيموي؛ وأعني بهذا أن التنبيه في الحالة الأولى لا يتطلب أكثر من وجود المنبه على سطح الجلد، وأما التنبيه في حالة الذوق فيتطلب إذابة المذوقات وتفاعلها بالمواد الموجودة في الحلمات التي تكسو الغشاء اللساني؛ أي إن التنبيه الذوقي يتطلب من الفاعلية العضوية في الجسم المدرك أكثر مما يتطلبه التنبيه اللمسي.
وللذوق صلته الوثيقة بالتغذية - التي هي العماد الأول لبقاء الحياة - إذ هو بمثابة الحارس الذي يقف عند مدخل القناة الهضمية، يميز بين الأجسام الداخلة تمييزا يمكنه من قبول المفيد منها ورفض الضار المميت.
Página desconocida
ومن هذا التحليل السريع، نخلص إلى نتيجتين خاصتين بحاسة الذوق؛ الأولى: هي أن هذه الحاسة أقرب إلى الفطرة الأولية من غيرها؛ لأنها متصلة بمادة الغذاء الذي هو مادة الحياة، ولأنها تمتزج بالشيء المحسوس امتزاجا لا يدع لها فرصة تتروى فيها أو أن تتدبر الأمر قبل حدوثه؛ فالشيء المحسوس باللسان إما مقبول فورا أو مرفوض فورا، وليس الأمر كذلك بالنسبة لحاسة البصر - مثلا - فلأننا نرى الشيء وهو على مبعدة منا، يتاح لنا أن «نفكر» في نتيجة الصدام بيننا وبينه قبل وقوعه، فإما أن نقرر العمل على التقرب إذا كان معينا لنا، أو أن نقرر الفرار إذا كان مناهضا لمصالحنا؛ ومن أجل ضرورة البت السريع بالنسبة لحاسة الذوق، كان لا بد لها من قابلية شديدة للتهذيب لكي ترهف الإرهاف الذي يساعدها على هذا البت السريع في القبول والرفض، أفيكون غريبا بعد هذا أن تتخذ مقياسا للتهذيب الحضاري كله؟
الثانية: هي أن حاسة الذوق لكونها مباشرة على النحو الذي وصفناه، فإنها لا تستغني بالرمز عن الموقف نفسه. وأشرح ذلك قليلا فأقول إن الكائن الحي وهو على فطرته يستجيب لمواقف متعينة مشخصة، حتى إذا ما نما في طريق الإدراكات المجردة (وهو نمو خاص بالإنسان وحده دون سائر الحيوان) أخذ ينيب شيئا عن شيء، فجزء واحد من أجزاء الموقف يكفيه ليستجيب الاستجابة التي لم يكن ليستجيبها إلا للموقف كله، ثم يمضي الإنسان في عملية الإنابة التجريدية هذه حتى يصل إلى مرحلة استخدام اللغة، وهنا تغنيه اللفظة عن الشيء نفسه، فيستجيب لها الاستجابة نفسها التي يستجيب بها للشيء ذاته لو كان قائما أمامه مشهودا له.
والذي نقوله الآن هو أن حاسة الذوق لا تستغني بالرمز - لغويا أو غير لغوي - عن الشيء نفسه أو عن الموقف نفسه؛ لضرورة أن يكون الشيء المذاق واقعا وقوعا مباشرا على اللسان. نعم إن عملية الإنابة بالرموز - الرموز اللغوية أو غيرها - هي من أقوى علامات الرقي الإنساني، حتى لقد قيل إن استخدام «الكلمة» - أي الرمز - هو المرحلة التي حددت خروج الإنسان في مدارج التطور البيولوجي من عالم الحيوان الأعجم، ومن هنا قيل عنه إنه الحيوان الناطق، كما قيل في الكتب المقدسة على اختلافها إن في البدء كانت الكلمة. أقول إنه على الرغم من عملية الإنابة بالرموز عن الأشياء والمواقف، وإن تكن أقوى علامة على الرقي الإنساني، إلا أنها في الوقت نفسه تتضمن البعد بين الإنسان المدرك والشيء المدرك؛ ولذلك خلت منها حاسة الذوق، وهذا هو السر في أننا نشير ب «الذوق» إلى أية عملية إدراكية يكون فيها الإنسان على صلة مباشرة بالشيء المدرك، سواء أكان ذلك الشيء مرئيا - كما هي الحال عند رؤية لوحة فنية - أم كان مسموعا كما هي الحال عند الاستماع إلى قطعة موسيقية أو إلى قصيدة من الشعر.
2
على ضوء هذا الذي أسلفناه، نستطيع أن نفرق بين شيئين كثيرا ما يحدث الخلط بينهما، وهما: (1) التذوق الفني. (2) النقد الفني.
فالتذوق الفني هو أن تجابه عملا فنيا مجابهة مباشرة، «فتذوقه» بالحاسة الملائمة له (بالعين إذا كان صورة ، وبالأذن إذا كان نغمة ) تماما كما تضع لقمة الطعام على لسانك وضعا مباشرا لتذوقها بلسانك؛ فها هنا لا نطق ولا كلام ولا تجريد ولا رمز؛ إنك تتذوق ما تتذوقه وأنت صامت، تنظر إلى اللوحة في صمت، أو تنصت إلى القطعة الموسيقية في صمت، وإلى هنا فلا نقد؛ لأن النقد يقتضي أن تعلق على ما قد تذوقته تعليقا تبين به - بعد تحليل - لماذا جاء تذوقك له على النحو الفلاني من إعجاب أو من نفور.
وإذن فمرحلة النقد الفني هي مرحلة ثانية تأتي بعد مرحلة الذوق أو التذوق، وهي مرحلة - كما قلت لتوي - يقوم فيها الناقد بعملية تحليلية؛ أي بعملية فكرية لا ذوقية؛ إذ يحاول أن يلتمس المواضع والعناصر التي تدخل في تركيب الشيء المنقود، والتي كان من شأنها أن تحدث ما قد أحدثته من أثر إبان عملية التذوق. ولا أريد أن أترك هذه النقطة قبل أن أبدي عجبي من أولئك الذين يصرون على أن النقد الفني عملية ذوقية لا مجال فيها للفكر العقلي، ولست أدري كيف يفرق هؤلاء - بناء على وجهة نظرهم هذه - بين التذوق الذي يتبعه نقد، وبين التذوق فقط! أم أنهم يحسبون أن كل متذوق ناقد؟ كلا، فبينما لا يكون نقد فني إلا إذا سبقه تذوق، يجوز أن يكون هنالك تذوق بغير أن يلحقه نقد فني. إن الناقد الفني يسأل نفسه - بعد أن تذوق ما تذوقه - لماذا كان ذلك كذلك؟ وما دام هو يسأل عن «أسباب» فهو يؤدي عملية فكرية عقلية يعلل بها الحالة الذوقية التي مر بها ممارسا ومكايدا ومعانيا ومخالطا ومعايشا، وما شئت من هذه المترادفات.
لكن الناقد إبان عملية التحليل للقطعة الفنية، كثيرا ما يتأثر في تحليله بفكرة سابقة تجعله يبحث عن شيء معين، هذا أمر لا بد منه؛ لأن القطعة الفنية مكونة من آلاف العناصر، فماذا يجديه تحليل تلك العناصر الكثيرة ما لم يكن مهتديا بشيء يبحث عنه؟ وباختلاف هذا الشيء المبحوث عنه تختلف مذاهب النقد الفني؛ فهنالك الناقد الذي يعتقد أن القطعة الفنية إنما جسدت مشاعر كانت - قبل تجسيدها - كائنات نفسية باطنية يشعر بها صاحبها شعورا داخليا، وبتجسيدها أصبحت كائنات مرئية - في حالة التصوير مثلا - أو كائنات مسموعة في حالة الموسيقى، وما دامت هذه هي عقيدة الناقد في القطعة الفنية التي يريد تحليلها، فتراه يبحث فيها عن الدلالات التي تشير إلى الحالات الشعورية النفسية التي دفعت الفنان إلى خلق فنه هذا؛ أفيها - مثلا - ما يدل على النشوة أم فيها ما يدل على الحزن؟ أفيها ما يدل على الانطلاق الحر أم فيها ما يدل على التقيد؟ أفيها ما يدل على تلقائية الطفل وهو على فطرته، أم فيها ما يدل على تدبير العقل الرشيد وهو مكبل بأغلال القواعد؟ وهكذا وهكذا.
وليس في هذا الاتجاه النقدي - أعني الاتجاه الذي ينتقل من العناصر المحسوسة التي أمامه إلى العناصر النفسية الخافية في بطن الفنان - أقول ليس في هذا الاتجاه النقدي ما يدعو إلى الغرابة؛ لأنه مستند إلى أساس طبيعي؛ فالإنسان بطبيعته الجسدية نفسها تراه يخرج الباطن في علامات ظاهرة، فيخرج الخجل - وهو حالة نفسية - في حمرة الوجه، ويخرج الخوف - وهو حالة نفسية أيضا - في اصفرار الوجه ورعشة الأطراف، ويخرج الغضب - وهو حالة نفسية كذلك - في تقطيبة الجبين، وهكذا. أفلا يجوز للفنان - على هذا الأساس - أن يخرج حالاته على اللوحة ألوانا أو خطوطا دالة عليها؟
وها هنا نلاحظ أن الناس قد تواضعوا - لأسباب بيولوجية في معظم الأحيان، ولأسباب اجتماعية ثقافية في بقية الأحيان - تواضعوا على أن تكون الألوان والخطوط دالة على حالات نفسية معينة؛ فاللون الأحمر - الذي هو في الطبيعة لون النار ولون الدم - صالح لأن يرمز إلى اضطراب العاطفة وهيجانها، وإلى العنف؛ واللون الأبيض - الذي هو في الطبيعة كثيرا ما يكون ناشئا عن الخلو من القذر - صالح لأن يرمز إلى الحالات النفسية التي تكون خالية من الشوائب، كالطهر والصفاء ونقاء الضمير؛ والضوء - الذي هو في الطبيعة آت من مصادر في السماء كالشمس مثلا - صالح لأن يرمز إلى الشعور بالقداسة، وكذلك الارتفاع المكاني نرمز به إلى الارتفاع المعنوي، وإن شئت فانظر إلى الألفاظ اللغوية الدالة على «الرفعة» الروحية، تجدها جميعا - في أصلها - كلمات استخدمت أساسا للدلالة على ارتفاع مادي في المكان، مثل: «شرف»، و«سمو»، و«شمم»، و«أنفة»، و«علو» ... إلخ. والعكس صحيح أيضا؛ أي إن الكلمات الدالة في أصلها على انخفاض مادي في المكان، تستخدم بالطريقة الرمزية لتدل على انخفاض روحي، مثل: «منحط»، و«سافل»، و«دنيء»، و«واطي» ... إلخ.
Página desconocida
وفي هذه المناسبة تعن لي ملاحظة جديرة بالذكر ونحن بصدد النقد الفني، وهي أن هنالك بين العلامات الجسدية الدالة على الحالات النفسية فرقا جوهريا؛ فمنها ما يستحيل على الإنسان أن يفتعله متعمدا، كحمرة الخجل، ومنها ما يستطيع الإنسان أن يفتعله مزورا، كتقطيبة الجبين الدالة على الغضب. وكذلك الحال بالنسبة لإخراج الحالات النفسية في رموز فنية كالألوان؛ فقد يستخدم الفنان لونا ما ليدل به - صادقا - على حالته الشعورية الملائمة له، وقد يستخدمه مقلدا لغيره؛ فهو مزور في فنه، وعلى الناقد الفني أن يميز بين هاتين الحالتين في عالم الفن، كما يميز بينهما الإنسان المجرب في دنيا الحياة العملية.
هكذا قد يبحث الناقد في القطعة الفنية المنقودة عن العلامات التي تدله على ما قد كان في دخيلة نفس الفنان من مشاعر، كأنما هو يسير طريقه بادئا من الخارج إلى الداخل، أو بتعبير أصح، كأنما هو يستدل النصف المغموس المختفي، من النصف الظاهر البادي للعين.
لكن الناقد قد يبحث عن شيء آخر؛ ولذلك فقد يغير مجرى سيره؛ إذ قد يبحث عن شيء خارج العمل الفني نفسه، وخارج ذات الفنان، يبحث عنه في حوادث الماضي - مثلا - أو فيما ورد في الكتب (مقدسة أو غير مقدسة) من أساطير وقصص، أو في مظاهر الطبيعة من جبال وأنهار وما إلى ذلك، أو في أشخاص بأعينهم، وهكذا. وكلما كان الأثر الفني أنصع دلالة على ذلك الشيء الخارجي، كان أجود. وقد يدخل في هذا القبيل أن يبحث الناقد في الأثر الأدبي عن عناصر تدل على المبادئ الخلقية المعترف بها في المجتمع، كالعفة والعدل والطهر وما إليها.
هذان اتجاهان في النقد الفني متضادان؛ أحدهما يتسلل خلال العمل الفني إلى ما وراءه في نفس خالقه، والثاني يتسلل خلال العمل الفني إلى ما وراءه في العالم الخارجي - ماضيه أو حاضره - وبالطبع قد يلتقي هذان الاتجاهان في ناقد واحد وإزاء عمل فني واحد، وعندئذ ترى النقد يعنى بالاتجاه النفسي إلى جانب عنايته بدلالة القطعة الفنية على أمور الواقع. وتستطيع أن تجمع هذين الاتجاهين تحت نظرية نقدية واحدة تشملهما معا، هي نظرية المحاكاة، التي تقول إن العمل الفني يحاكي شيئا سواه، وهذا الشيء المحاكى إما أن يكون في داخل الفنان أو أن يكون في خارجه، ولو أن بعض رجال النقد يقصرون نظرية المحاكاة على محاكاة الفن للخارج فقط، ثم يطلقون على محاكاة الفن للداخل اسم «النظرية النفسية» آنا، و«النظرية التعبيرية» آنا آخر.
لكن هنالك مذهبا ثالثا في النقد، يتشيع له كاتب هذه الأسطر، وهو مذهب في حركة النقد الفني جديد في أوروبا وأمريكا، وقديم معروف في حركة النقد الفني عند العرب الأقدمين، ومؤداه أن ينصب تحليل الناقد على العمل الفني نفسه، لا لننفذ خلاله إلى نفس الفنان، ولا إلى العالم الخارجي بماضيه وحاضره، بل لنقف عنده هو ذاته، فنرى كيف تأتلف عناصره؛ مما قد أدى إلى حسن وقعه على «ذوق» المتذوق. نعم، نحصر أنفسنا في العمل الفني نفسه، فلا نسمح لأي عامل خارجي أن يتدخل في حكمنا، كنفس الفنان ومشاعره، أو حوادث التاريخ، أو الأساطير الدينية وغير الدينية، أو المبادئ الخلقية، أو الأفكار الفلسفية، أو المذاهب السياسية؛ فلا يجوز للناقد - بناء على هذه المدرسة الجديدة - أن يسأل عن لوحة - مثلا - قائلا: ما مغزاها؟ أو ما معناها؟ لأنه لا مغزى ولا معنى في الفنون؛ إذ الفن «خلق» لكائن جديد. هل نسأل عن جبل أو عن نهر أو عن شروق أو غروب قائلين: ما مغزى؟ وما معنى؟ أو هل ترانا ننظر إلى التكوين وحده معجبين أو نافرين؟ وهكذا ينبغي أن يكون موقفنا إزاء العمل الفني؛ لأنه خلق وإنشاء، وليس كشفا عن أي شيء كان موجودا بالفعل ثم جاء الفن ليصوره. العمل الفني - بناء على هذه المدرسة النقدية - معياره هو الفن نفسه؛ فمعيار الشعر هو الشعر، ومعيار الموسيقى هو الموسيقى، ومعيار التصوير هو التصوير، وهكذا؛ أعني أن تقاليد كل نوع من أنواع الفنون، وقواعده الخاصة به، هي السند في أحكامنا النقدية، ولا يجوز لناقد اللوحة التصويرية - مثلا - أن يقومها على أساس ما فيها من حادثة تاريخية، أو من موقعة حربية، أو من أسطورة أو قصة، أو من حكمة فلسفية، أو من مبدأ خلقي، كل هذه أشياء لها قيمتها في مضمارها، لكنها ليست من فن التصوير ذاته؛ فمادة التصوير لون؛ أعني أن مادته هي الضوء، كما أن مادة الموسيقى هي الصوت، ولا بد لنا أن نحاسب الفنان على الطريقة التي وزع بها هذا اللون أو هذا الضوء على لوحته، بغض النظر عن الشيء المرسوم؛ لأن هذا الشيء لا يزيد على كونه تكئة اتخذها الفنان اتفاقا ليرتكز عليها في تكوين الكتل الضوئية على اللوحة.
3
وأيا ما كان الأمر بالنسبة إلى النقد الفني وقواعده وأهدافه، فموضوعنا هو الذوق الفني، وقد أسلفنا القول بأنه شيء يختلف عن النقد الفني؛ إذ هو المرحلة الأولى الضرورية التي لا بد أن يجتازها الرائي - أو السامع - قبل أن يقف حيالها ليسأل نفسه عن العناصر التي كانت مبعث نشوته الفنية، وسؤالنا الرئيسي هو: ما هي الخيوط الأولية التي منها ينشأ النسيج الذي ندعوه ب «الذوق الفني»؟ ماذا عند صاحب الذوق الفني مما يعوزه من ليس عنده مثل هذا الذوق؟ هذا هو السؤال.
والرأي الذي انتهيت إليه في هذا، والذي أعرضه الآن، هو أن اكتساب القدرة الذوقية في مجال الفنون معتمد على نفس الأساس الذي تتعلم عليه ألفاظ اللغة. ولشرح هذه الفكرة أقول:
إن متعلم اللغة إنما يتعلم ألفاظها وتراكيبها أول الأمر بعملية الترابط بين الوحدة اللغوية من جهة وبين الشيء المسمى بتلك الوحدة من جهة أخرى؛ فإذا أشير أمام الطفل إلى برتقالة ثم نطق له في نفس اللحظة بكلمة «برتقالة»، ربط بين الشيء والكلمة ربطا يجعله بعد ذلك يستغني بالواحدة عن الأخرى؛ أي إن الكلمة وحدها تكفي للتفاهم بعد ذلك، ولا داعي بعدئذ إلى أن يجيء المتفاهم ببرتقالة حقيقية كلما أراد أن يتفاهم على شيء يتصل بها، وتلك هي المهمة العظمى والأهمية الكبرى للرمز في حياة الإنسان العقلية.
لكن الرمز اللفظي قد يكون أحيانا غير محدد الإشارة، وذلك حين يستخدم لينطبق على أسرة كبيرة من الأشياء والمواقف، بينها شبه ظاهر أو شبه خفي، وعندئذ لا يكون سبيل إلى تحديد مثل هذا الرمز إلا ضرب الأمثلة من أفراد تلك الأسرة التي ينطبق عليها؛ فلو سألتني مثلا: ما معنى كلمة «مربع»؟ لما وجدت حيرة في أن أشير لك إلى شكل مرسوم على صورة معينة قائلا: هذا هو مربع. ثم لما وجدت حيرة في أن أصف لك على وجه الدقة مجموعة الخصائص التي تجعل من المربع مربعا، لكنك لو سألتني: ما معنى «الحب»؟ أو ما معنى «الغيرة»، مثلا؟ لأخذتني الحيرة في طريقة تحديد المسمى؛ ولذلك فقد تراني أذكر لك الأمثلة الموضحة، قائلا: أما الحب فهو الذي يتمثل في حالات كالتي وقعت بين قيس وليلى، وبين روميو وجولييت، وأما الغيرة فهي التي تتمثل في حالات كالتي نعرفها في عطيل. وإذن فمعاني ألفاظ كهذه تزداد تحديدا كلما ازدادت خبراتنا بمواقف متشابهة من أسرة واحدة.
Página desconocida
ومن هذا القبيل الألفاظ الجمالية التي نستخدمها في وصف التذوق الفني؛ فالرائي يقف أمام صورة مثلا، وفجأة تراه يتذكر من خبراته الماضية مواقف يجد بينها وبين هذه الصورة الماثلة أمامه وجها من الشبه، فيصف الصورة بنفس الكلمة التي يصف بها تلك المواقف المألوفة في حياته اليومية، كأن يقول مثلا: إن في هذه الصورة «رشاقة»، أو إن فيها «حرارة» أو «حركة»، وهكذا.
خذ إحدى هذه الكلمات، ولتكن «الرشاقة»، وسل نفسك: كيف جاءتني هذه الكلمة؟ وكيف تعلمتها؟ ثم ما معناها؟ تجد أن الطريقة الوحيدة لتعلمها هي أنها ارتبطت في ذهنك بأشياء، إن اختلفت في نواح فهي تتشابه في نواح أخرى تشابها يبرر أن نصفها كلها بهذه اللفظة الواحدة. وإنك لتعرف كيف تستعمل الكلمة استعمالا صحيحا، ولكنك قد لا تعرف أبدا كيف تحدد معناها تحديدا قاطعا جامعا مانعا. إنك تعرف متى تصف فتاة بالرشاقة، ومتى تصف إناء بالرشاقة، ومتى تصف طائرا بالرشاقة، ومتى تصف زهرة بالرشاقة؛ ففيم تتشابه هذه الأشياء الرشيقة كلها؟ أنقول إنها تتشابه في نحول الأجزاء ودقتها ورقتها؟ لكن هذا وحده لا يكفي؛ لأنني قد أرى الفتاة النحيلة الأجزاء فأصفها بالمرض ولا أصفها بالرشاقة؛ إذن فلا بد أن تضاف إلى النحولة حيوية الصحة ونشاط العافية؛ فإذا ما نظرت إلى صورة رقيقة الخطوط هادئة الألوان ووصفتها بالرشاقة، فإنني بذلك أضمها إلى سائر أفراد الأسرة التي توافرت لها الصفات التي تسوغ هذه التسمية، وبمقدار ما تكون لك القدرة على إيجاد الشبه بين الصورة وبين أشياء الحياة الجارية المألوفة في أمثال هذه الصفات الجمالية، تكون لك القدرة الذوقية؛ وإذن فما نسميه بالذوق الفني يرتد في نهاية التحليل إلى قدرة على تطبيق الألفاظ الجمالية على عمل فني.
وقد تسألني: ماذا تعني بقولك «لفظة جمالية»؟ وأجيب بأنك حين تكون بإزاء عمل فني - كلوحة مثلا - وتريد أن تتحدث عن ذلك العمل، فلن يخرج حديثك عن استعمال أحد نوعين من الكلمات: (أ)
فإما أن تستخدم كلمات لها دلالات محسوسة في أجزاء العمل الفني المعروض، كأن تقول مثلا: «لون أصفر»، أو تقول: «خط مستقيم». (ب)
أو أن تستخدم كلمات ليس لها دلالات محسوسة في أجزاء العمل الفني المعروض، كأن تقول مثلا عن لوحة ما إن فيها «حياة». بديهي أن ليس فيها حياة بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، فهي لا تأكل ولا تشرب ولا تمشي؛ إذن فهذه الكلمة لم تستخدم لتشير إلى أي جزء محسوس مرئي يشار إليه بالأصابع، بل تشير إلى صفات مقدرة، وغير محسوسة بحاسة البصر، وإنما المعول في استخدامها هو التشابه من بعض الوجوه بين الصورة من جهة وبين الكائنات الحية من جهة أخرى، وصاحب الذوق الفني هو الذي له القدرة على إيجاد هذا التشابه، والقدرة على الوقوع على اللفظة المناسبة التي تحدد نوع هذا التشابه بين العمل الفني وبين أشياء الحياة الجارية. وإني لأخشى أن يظن ظان أن المسألة إن كانت كذلك فهي هينة، لكنه ظن بعيد عن الحقيقة بعدا بعيدا، ولطالما استمعت إلى أصحاب الذوق الفني وهم يطلقون أمثال هذه الكلمات الجمالية التي تلقي الضوء على أوجه الشبه بين العمل الفني وبين أشياء الحياة اليومية ومواقفها، فكنت أحس أحيانا أن كلمة من هذه الكلمات حين تجيء صائبة، تفتح مغاليق العمل الفني أمام عيني.
وقد يحدث أن صاحب الذوق الفني، إذ هو يصف العمل الفني بلفظة جمالية تبين سر جمالها، يرتب وصفه الجمالي هذا على وصف جمالي آخر، كأن يقول مثلا: في هذه اللوحة حيوية شديدة؛ لأن خطوطها حرة قوية جريئة، أو إن هذه اللوحة فيها تلقائية؛ لأن خطوطها تنساب في سهولة ويسر، أو إن هذه اللوحة متزنة لما بين أنغامها اللونية من تجاوب.
وفي مثل هذه الحالة التي يرتب فيها الناقد الفني صفة جمالية على صفة جمالية أخرى، يكون كمن يترك الخيوط سائبة الأطراف معلقة في الهواء. وفي رأيي أن التعليل الذوقي لا تتم دورته إلا إذا عاد الناقد فربط بين ألفاظه الجمالية التي لا تشير إلى شيء محسوس في اللوحة المعروضة أمامه - إن كان العمل المنقود لوحة - وبين شيء محسوس فيها، تراه العين بين أجزائها وتشير إليه الأصابع. وكأن يقول مثلا: إن هذه اللوحة رشيقة (الرشاقة لفظة جمالية لا تشير إلى محسوس) بسبب هذه الخطوط المنحنية (الخطوط المنحنية المشار إليها شيء محسوس)، أو إن هذه اللوحة ينقصها الاتزان (الاتزان لفظة جمالية) لكثرة الشخوص في جانبها الأيمن دون جانها الأيسر (كثرة الشخوص شيء محسوس)، أو لشدة اللمعان في أحد جانبيها دون الآخر (اللمعان شيء محسوس). وإذا لم يقدم لنا الناقد الفني الذي يعلل تذوقه لعمل ما شواهد حسية كهذه، كان كالذي ما يزال واقفا عند مرحلة التذوق وحدها لا يجد لها تعليلا نقديا. وأحسب أننا جميعا قد مرت بنا أمثال هذه الحالات، والواحد منا ينظر إلى صورة أو تمثال، أو وهو يسمع قطعة موسيقية أو قصيدة من الشعر؛ إذ هو يحس إحساسا قويا بما فيها من صفات جمالية يستطيع أن يفسرها تفسيرا جماليا بما يهتدي إليه من أوجه الشبه بينها وبين خبراته المعتادة المألوفة، لكنه يعجز عن تحديد الأجزاء الفعلية في العمل الفني الذي أحس نحوه هذا الإحساس؛ الأجزاء الفعلية التي قد أدت به إلى إحساسه ذاك، حتى يسعفه الناقد البارع، فيضع أصابعه على تلك العناصر الحسية في الأثر الفني، وعندئذ تراه يدرك على الفور أنه قد عثر على ضالته، أو أن غطاء قد انكشف عن المجهول فوضح أمام العين.
ومؤدى هذا الذي قلناه أن الذوق الفني يسير خطوتين؛ في الخطوة الأولى تكون لدى المتذوق قدرة على وصف العمل الفني بألفاظ جمالية، وفي الخطوة الثانية يربط هذه الألفاظ الجمالية بجوانب محسوسة في العمل المنقود، والفرق المنطقي بين الخطوتين هو أن الناقد الفني في الحالة الأولى يستخدم ألفاظا تصدق على أشياء كثيرة في وقت واحد؛ فليس هناك شيء واحد محدد هو الذي لا بد أن يوصف ب «الاتزان» - مثلا - بحيث لا يجوز أن يوصف شيء غيره بهذه الصفة، ولنفرض أن الأشياء التي يمكن أن تنطبق عليها كلمة «اتزان» هي إما «أ» أو «ب» أو «ج» أو «د»، كل واحدة من هذه الحالات لو وجدت في الصورة قيل عن الصورة إن فيها «اتزانا». وأما في الحالة الثانية فالناقد لا يكتفي بهذه اللفظة «العائمة» ثم يتركها لتعني أي شيء من الأشياء المختلفة التي قد تعنيها («أ» أو «ب» أو «ج» أو «د»)، بل يحدد معناها في الموقف المعين الذي هو فيه، فيقول إن في هذه الصورة التي أمامي الآن «اتزانا» لأن فيها «ب» (افرض أن «ب» معناها هنا تعادل الكتل اللونية في جانبي الصورة). بعبارة أخرى، موقف الناقد في الخطوة الأولى التي يستخدم فيها لفظا جماليا هو موقف «مفتوح»؛ أي أنه قابل لأن تدخل فيه أشياء كثيرة، وأما موقفه في الخطوة الثانية التي يشير فيها إلى شيء محسوس في العمل المنقود فهو موقف «مقفل»؛ لأن الأمر عندئذ يختم وينحسم بالإشارة إلى شيء واحد دون سائر الأشياء التي قد تعنيها اللفظة الجمالية في الحالة الأولى.
وأحب هنا أن أشير إلى أن هذا التحليل لا يصدق فقط على النقد الفني، بل هو بعينه ما نراه في مجالات كثيرة أخرى؛ فافرض مثلا أن أحدا وصف شخصا ما ب «الذكاء»، فلا شك أنه يكون عندئذ قد حدده بعض التحديد، لكن «الذكاء» كلمة يصح استعمالها في حالات متعددة، ولنرمز إلى هذه الحالات بالرموز «أ»، «ب»، «ج»، «د»؛ أي إن كل حالة من هذه الحالات يجوز وصفها بكلمة «ذكاء»، لكن الأمر ينحسم بالخطوة الثانية التي يقول فيها القائل إن هذا الشخص المعين موصوف ب «الذكاء» لأنه «قادر على التفكير المجرد»، أو «لأنه قادر على ربط العلاقات بين أشياء قد يبدو أن ليس بينها أية علاقة»، وهكذا.
على أن هذا الطريق ذا المرحلتين الذي حللنا به تكوين الذوق الفني، لا يجوز السير فيه إلا في اتجاه واحد، وإلا تعرضنا للزلل إذا نحن سرنا في الاتجاه المضاد - وكثيرا ما يكون هذا هو موضع الزلل بالنسبة للناقد المبتدئ - وأعني بذلك أنه إذا جاز لنا أن نقول عن صورة ما: إن هذه الصورة دافئة، بسبب هذا اللون الأحمر الباهت الذي نراه فيها، فلا يجوز أن أسير في الاتجاه المضاد فأقول: إن في هذه الصورة لونا أحمر باهتا؛ وإذن فلا بد أن تكون صورة دافئة؛ وذلك لأنه بينما صفة الدفء لا تتوافر ولا تتحقق إلا باللون الأحمر، إلا أن العكس قد لا يكون صحيحا؛ أي إنه قد يتوافر اللون الأحمر دون أن يسود في الصورة صفة الدفء. ولو قلت هذا بمصطلح منطقي لقلت: إن صدق المقدم في الجملة الشرطية يستدعي صدق التالي، لكن صدق التالي لا يستلزم صدق المقدم.
Página desconocida