En la Filosofía de la Crítica
في فلسفة النقد
Géneros
لكن أصحاب هذه المدرسة كأنما قد أجهدهم هذا البعد كله عن ظاهر الواقع، فكروا قافلين في الطريق عائدين من غايتهم التي انتهوا إليها إلى البداية التي بدأ منها الفن على إطلاقه؛ فلماذا لا يرسمون على اللوحة جانبا واحدا من الشيء رسما واقعيا، كأن يرسموا مثلا ظهر مقعد أو ساق منضدة، ثم يحيكون حول هذا الجزء ما يريدون نسجه من تكوينات هندسية، فيكون ذلك الجزء الصغير الواقعي في الصورة رامزا إلى شيء من عالم الواقع كما يظهر؟ ولا يكاد الإنسان يبدأ طريقا حتى يأخذه ما يشبه الهوس في التحمس له؛ فما دمنا قد رضينا بأن نثبت في الصورة جزءا من الشيء الواقع كظهر المقعد مثلا، فلماذا لا نضع الجزء الواقعي بذاته ملصقا إلى اللوحة؟ لماذا نرسمه كما هو إذا كان يمكن إثباته بواقعيته كلها؟ ومن ثم راح براك وبيكاسو يلصقان على لوحاتهما قصاصة من جريدة، أو من ورق اللعب، أو قطعة من علبة الكبريت، وهكذا، ثم يديران حول القطعة الملصقة ما شاء لهما الخيال أن يقيماه من تكوينات تعتمد على هندسة التكوين وحدها ولا تستعين باللون إلا قليلا.
إنه لا مندوحة لمن أراد أن يدخل عالم الفن الحديث عن اطراح مفهوم الفن القديم اطراحا تاما، ومفتاح الدخول إلى هذا العالم الفني الجديد هو ألا تنظر إلى الصورة على أنها صورة لشيء مما يتبدى للعين، إننا في الحقيقة سيئو الحظ في كلمة «صورة» هذه؛ لأنها ما دامت هناك فسيظل الإنسان يسأل: صورة ماذا؟ ولو عودنا أنفسنا على استعمال كلمة أخرى، مثل لوحة، لجاز أن ننسى مفهومنا القديم للفن، ولأصبحت اللوحة شيئا إن أشار إلى العالم الخارجي فهي الإشارة إلى صميم ذلك العالم وحقيقة طبيعته، لا إلى ظاهره المرئي للعين.
وإني لأسوق هنا عبارة قالها بيكاسو لأرد بها على من لا يزال يسأل: ماذا تعني الصورة في الفن التكعيبي؟ إذ قال:
إذا كانت التكعيبية قد لبثت أمدا طويلا بعيدة عن الأفهام، ثم إذا كان هنالك إلى يومنا هذا من لا يرون فيها شيئا يسيغونه، فذلك كله لا يعني شيئا؛ فأنا لا أقرأ الإنجليزية؛ ولذلك فإن الكتاب المكتوب بهذه اللغة يكون بالنسبة إلي كالورق الخالي، فهل يعني هذا أن اللغة الإنجليزية غير قائمة؟ وهل يجوز أن أوجه اللوم في ذلك إلا إلى نفسي حين أراني لا أفهم ما لست أعلمه؟
ويحلو لي في هذه المناسبة أن أذكر فصلا فكها رائعا كتبه الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه «فن الأدب» يصور به حيرته إزاء الفن التكعيبي، وذلك حين كان في باريس يسمع الناس يعلقون في إعجاب شديد على هذا الفن، ولم يكد يصادف فنانا تكعيبيا في إحدى قهوات مونمارتر، حتى دعاه على شراب ليطلب إليه أن يفتح له مغاليق هذا الفن الجديد.
قال الأستاذ توفيق لزميله الفنان التكعيبي إنه زار اللوفر، ورأى اللوحة الفلانية للفنان الفلاني، ولوحة أخرى لفنان آخر وهكذا، فكان كلما ذكر اسما من هؤلاء الأعلام، قاطعه الفنان التكعيبي محتجا على عد هؤلاء من أصحاب الفن بمعناه الصحيح: أتسمي هذا مصورا؟ لا يا سيدي، إنه نقاش. أتسمي فان دايك بلوحته «المسيح في القبر» فنانا؟ إنه يستدر عطف الرائي بحادث مؤلم، ولا دخل لهذا في فن التصوير بمعناه الصحيح. أتسمي «كورو» بلوحته التي يصور فيها الصباح فنانا؟ كلا، بل عده شاعرا إذا أردت. أتسمي لوحة فرنيه عن معركة نابليون في وجوام فنا؟ قل عنه إنه مؤرخ إذا شئت؛ إذ ما دخل الفن في وصف المعارك، وهكذا وهكذا.
سأله: ما الفن إذن؟ فقال: هو إبراز حقائق الأشياء في تكوينها الهندسي. واستطرد الكاتب يبين كيف وضح الفنان رأيه على فخذ دجاجة طلبها له الحكيم فأكلها بعد أن قال إن حقيقته مثلث، ثم على طبق من السلطة أكله بعد أن قال إن حقيقته ألوان الجزر الأحمر وورقة الخس الخضراء وقطعة البنجر الأصفر ... إلخ.
حسبنا هذا عن المذهب الفيثاغوري وما يقابله في الفن، لننتقل إلى إجابة أخرى أجاب بها فيلسوف آخر - هو أفلاطون - عن السؤال نفسه، وهو: ماذا عسى أن تكون حقائق الكون الكامنة وراء ظواهره؟ ما حقيقة الإنسان مثلا؟ وما حقيقة الدائرة أو المثلث؟
يقول أفلاطون ما معناه: إن أفراد الكائنات كما نراها في دنيانا الظاهرة هذه يستحيل أن تكون هي الحقائق. خذ الدائرة مثلا؛ ففي عالمنا الحسي دوائر كثيرة، فهنالك أقراص من المعدن دائرية، وقطع من النقود دائرية، وأرغفة من الخبز دائرية، وهناك دوائر مرسومة على الورق وغيره، فهل هذه كلها دوائر حقا؟ كلا؛ لأننا نلاحظ بينها تفاوتا؛ فالدائرة في قطعة النقود أكمل منها في الرغيف، والدائرة المرسومة بالفرجار على الورق أكمل من دائرة القرش، وهكذا تستطيع أن تتصور سلما متدرجا من دوائر يعلو بعضها على بعض في نصيبها من حقيقة الدائرة؛ فأين تكون «الدائرة» الكاملة؟ إنها لا تكون إلا كائنا عقليا، هو الذي نسميه «مثال» الدائرة، فإذا لم يكن هذا «المثال» العقلي كائنا بيننا في عالم المحسات، فلا بد أن يكون هناك عالم عقلي لهذه المثل كلها.
ولكن ما الفرق بين مثال الدائرة والدائرة كما نراها في عالم الحس؟ بين مثال الشجرة والشجرة كما نراها في عالم الحس؟ بين مثال الإنسان والإنسان كما نراه في عالم الحس؟ الفرق هو أن المثال في كل حالة من هذه الحالات مجرد؛ أي أنه متخلص من كثير من التفصيلات التي نراها عالقة بالكائنات الحسية؛ فالشجرة كما نراها هنا وهناك ذات أوراق وذات ثمار وهكذا، لكن هل هذه الأوراق وهذه الثمار جزء من حقيقة الشجرة؟ كلا؛ إذ نستطيع أن ننزع عنها أوراقها وثمارها وتظل «شجرة»، وهكذا تستطيع أن تجرد الكائن الجزئي من كثير جدا من تفصيلاته العالقة به، وتظل حقيقته قائمة.
Página desconocida