En la Filosofía de la Crítica
في فلسفة النقد
Géneros
إن مؤرخي هذا الاتجاه التكعيبي في الفن، ليحدثوننا بأن عبارة هامة قالها سيزان كانت بمثابة البداية لهذه المدرسة الخطيرة الشأن؛ إذ قال: «كل شيء في الطبيعة قد صيغ على شكل أسطواني أو كري أو مخروط.» وقال كذلك: «انظر إلى الطبيعة بعين ترى فيها الأسطوانة والكرة والمخروط.»
وليس لي عين الفنان لأنظر بها إلى الطبيعة تلك النظرة التي أرادها سيزان، حتى أقرر لنفسي هل أخطأ أو أصاب، لكني مع ذلك أستطيع أن أرى الإنسان مثلا ذا رأس هو الكرة في صورته، وذا جذع وذراعين وساقين أسطوانية الصور، وأستطيع أن أرى الشجرة فإذا هي جذوع وساق وفروع كلها أسطوانية الشكل، وأستطيع أن أرى نجوم السماء وكواكبها كرات سابحة في الفضاء، وهكذا.
ومهما يكن من أمر فقد جاء «براك» بعد سيزان، فتولاه إحساس قوي بصور التكوين في الأشياء، حتى لقد عرض عام 1908م معرضا للوحات سبع رد فيها الطبيعة إلى أسطوانات ومخروطات ودوائر جريا على مبدأ سيزان. ومن لطيف ما يروى في هذا الصدد أن ماتيس - وقد كان من المحكمين الذين رفضوا من تلك اللوحات السبع خمسا - كان قد أشار إلى تلك اللوحات إشارة ساخرة؛ إذ قال إنها ليست إلا تكعيبا. ومن هذه الإشارة الساخرة نشأ للمدرسة الجديدة اسمها الجديد.
لم يكن المكعب بين الصور الهندسية التي أشار إليها سيزان الذي اقتصر في إشارته على الأسطوانة والكرة والمخروط، لكن خطوة يسيرة تخطوها من هذا المبدأ كما صاغه سيزان كفيلة أن تعمم القول، فتجعل حقائق الطبيعة أشكالا هندسية كائنة ما كانت، وذلك هو أقوى طابع ينطبع به الفن الحديث، فقف أمام الصورة، وإذا رأيت نفسك قد وصفتها بالحداثة في أسلوبها الفني، فابحث عن مصدر حكمك هذا تجده دائما مرتكزا على أن الصور قد أبرزت الجوانب الهندسية التي ينطوي عليها التكوين المصور، كأنما كانت تلك الجوانب الهندسية كامنة في الشيء ثم جاء الفنان فكشف عنها الستار.
ولكنا نتساءل: لماذا كان المكعب مقدما على سائر الأشكال الهندسية عند هذه المدرسة الفنية؟ لعل الجواب هو هذا: إن طبيعة العالم طبيعة معمارية قبل كل شيء؛ لأن العالم بناء على كل حال، ووحدة الطبيعة المعمارية هي المكعب من الحجر. لا، بل إنه ليجوز لنا أن نضرب في التعليل إلى ما هو أهم من ذلك وأعمق؛ إن تشريح أي كائن حي - بما في ذلك الإنسان - ليوضح أنه بناء من خلايا. ولئن كانت الخلية الواحدة، وهي مفردة وحدها، قد تنداح في شكل لا تكعيب فيه، إلا أنها وهي داخلة مع غيرها من الخلايا في بناء الكائن الحي، تنضغط من جوانبها بجيرانها حتى لتتخذ هيئة التكعيب. ولقد حدثني طبيب صديق فأنبأني أنك إذا رأيت عضوا من أعضاء الإنسان، كالكبد مثلا، وجدته في تكوينه بناء من مكعبات كأي جدار تراه في أي بناء. وإن كان هذا هكذا، كانت الكائنات هندسية الصورة في صميم تكوينها، وكان المكعب في مقدمة الصور الهندسية التي منها يتألف ذلك التكوين.
ولئن كان «براك» أحد اثنين وضعا أساس الحركة التكعيبية، فثانيهما هو «بيكاسو» الذي التقى هو وزميله براك لأول مرة في خريف 1907م، وكان ذلك بعد أن فرغ بيكاسو من لوحته المشهورة «غانيات أفنيون» التي توصف اليوم بأنها أول صورة في مرحلة الفن التكعيبي.
وإن شئت قليلا من دقة فقل إن للفن التكعيبي مرحلتين: أولى تحليلية، وأخرى تركيبية.
في المرحلة الأولى التحليلية كان الفنان يفتت أي شيء من أشياء الحياة اليومية المألوفة، كمنضدة أو مقعد أو وجه إنسان، يفتته في مكعبات، ثم يعود إلى تجميع المكعبات في بناء نحتي جديد يخلقه لنفسه خلقا. لقد فتن أنصار التكعيبية بالفورم - أي بطريقة التكوين - فتنة كادت تنسيهم كل ما عداها، حتى لقد أرادوا أن يتركوا تكوين الصورة يتحدث عن نفسه دون أن يستعينوا باللون إلا إلى الحد الأدنى؛ أراد براك وبيكاسو للرائي أن يدخل في تكوين الصورة دخولا مباشرا، فأسقطا عن الصور إطاراتها لئلا يكون ثمة حائل بين الرائي والتكوين الذي يراد له أن يراه رؤية مباشرة. وما أقرب الشبه هنا بين صورة بغير إطارها وبين المسرح الجديد الذي يسمونه مسرح الحلبة؛ حيث يقام التمثيل وسط غرفة جلس المتفرجون حول جدرانها، حتى يكون المتفرجون والممثلون في حالة التقاء مباشر.
وأراد براك وبيكاسو للرائي أن يلتقي بالتكوين هذا اللقاء المباشر دفعة واحدة؛ فلا بأس من وضع المنظر الجانبي للأنف فوق المنظر الأمامي للوجه، ولا من وضع العين كاملة كما ترى من أمام على الوجه الذي يرى من جانب. ولا يسعنا نحن المصريين إزاء هذا الاهتمام بتكوين الأجزاء بغض النظر عما يتألف منها، سوى أن نذكر قواعد التصوير المصري القديم؛ لنقول: ما أشبه الليلة بالبارحة!
هكذا بعدت التكعيبية التحليلية بالشيء المصور عن واقعه الظاهر بعدا استحال معه أن تعرف عن الصورة ماذا تصوره؛ ولماذا تعرف والصورة قد أريد بها ألا تصور شيئا مما يظهر لك في العالم الخارجي، بل أن تبني بناء جديدا من مكعبات تستخرجها من تفتيت الشيء إلى أجزائه؟
Página desconocida