La filosofía: sus tipos y problemas
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
Géneros
وينبغي أن نؤكد أن هذه المدرسة لا تنكر صحة أو أهمية عملياتنا الفعلية بوصفها وسيلة لتوسيع نطاق معرفتنا المستمدة من الحواس، ولكنها تؤكد مرارا وتكرارا أن الدليل النهائي على هذه الامتدادات التجريبية ينبغي أن يكون هو العودة إلى التجربة. وفي مناهج البحث العلمي نجد أبرز مثال لدورة الابتعاد والعودة هذه. فالعلم يبدأ من المعطيات الحسية، ويصوغ (بالعقل) فرضا تفسيريا. وبعد ذلك يستنبط، بالعقل أيضا، تلك النتائج التي يمكن توقعها عندما يجري تجربة فاصلة (يستخدم في وضعها العقل والإدراك الحسي معا)، وهذه التجربة هي التي تؤدي إلى تأييد فرضه أو تنفيذه على نحو قاطع. وبعد ذلك يقوم بإجراء التجربة، وهذا معناه القيام بتحديد تجريبي لنتائج العمليات العقلية التي توسطت بين الملاحظة الأصلية وبين التجربة. وهكذا يكون لدينا في العلم مزيج رائع من المنهجين العقلي والتجريبي. فكل منهما يقوم بما هو أهل للقيام به، ويترك المنهج الآخر ما يكون هذا الأخير أقدر عليه. ومع ذلك فإن التجريبي بوجه خاص هو الذي تكون له الغلبة، آخر الأمر، في كل نشاط علمي. ذلك لأنه مهما يكن مدى الطابع العقلي الذي تتصف به بعض خطوات المنهج العلمي (وهو طابع يكون عقليا خالصا في حالة استخدام الرياضيات مثلا) فإن هذا المنهج عملية ينبغي أن تبدأ وتنتهي بالإحساس. أما إذا كنا نفتقر إلى المعطيات الحسية عند بداية هذه العملية أو نهايتها. فلن يكون لدينا عندئذ علم.
نقد التجريبيين للمذهب العقلي : ذكرنا من قبل أن التجريبي يؤمن بأن المبادئ الأولية الواضحة بذاتها المزعومة (التي يرى صاحب المذهب العقلي أنها تفهم بالحدس) مستمدة من التجربة الحسية. فلنتأمل الآن مثلا أثيرا لدى صاحب المذهب العقلي، وهو مبدأ العلية. ففيلسوف المذهب العقلي يرى أننا لا نستطيع أبدا أن نستمد هذا المبدأ الشامل بطريقة تجريبية، فلا يمكن أن تشتمل تجربتنا على كل الحوادث الحاضرة - ناهيك بالماضية والمستقبلة - ومن هنا فلا بد أن يكون مصدر آخر لاعتقادنا الأكيد بأن لكل حادث علة. ويعترف التجريبي بوجود هذا القصور لدى الذهن، ولكنه يهاجم موقف المذهب العقلي بأن يتحدى القضية الأصلية القائلة إن العلية تمثل معرفة مطلقة. والحجة التي يأتي بها التجريبي في هذا الصدد تسير، بالاختصار، على النحو الآتي: فإيماننا بالعلية الشاملة لا يمثل إلا امتدادا لتجربتنا؛ ذلك لأن تحليلنا لكل حادث لاحظناه يثبت أنه يتوقف على علة سابقة. ومن هنا فإنا نتوسع في هذه الوقائع التجريبية فنجعلها شاملة، غير أن هذا الطابع الشامل لا يمثل يقينا، وإنما يمثل احتمالا فحسب. فنحن لا نعرف أن كل الحوادث، الماضية منها والحاضرة والمستقبلة، لها علل، وإنما نفترض أنها كذلك، على أساس التجربة التي مرت بنا حتى الآن بالنسبة إلى شتى أنواع الحوادث. ومع ذلك فليس هذا إلا اعتقادا، لا واقعة من وقائع المعرفة المطلقة. وينتهي التجريبي من ذلك إلى القول إن الأساس الوحيد الممكن للمناقشة بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي هو، بالاختصار، ما إذا كان مبدأ العلية يمثل معرفة مطلقة أم لا. فإذا أصر المذهب العقلي على أن يعده معرفة مطلقة، فعندئذ يكون من المسلم به أننا لا نستطيع استخلاص مثل هذه المعارف المطلقة الشاملة من تجربتنا المحدودة. ومع ذلك فلا حاجة بنا إلى النظر إلى مبدأ العلية على أنه أكثر من مجرد فرض ناجح عمليا، ينطوي على درجة عالية جدا من الاحتمال. ففي استطاعة العلم أن يسير في طريقه على خير وجه باستخدام العلية على هذا النحو، وليس هناك ما يدعو المذهب العقلي إلى ارتكاب مغامرة إبستمولوجية غير مأمونة العواقب بأن ينظر إليها على أنها معرفة مطلقة.
المذهب العقلي مقابل المذهب التجريبي في الأخلاق : يعد الخلاف بين المذهبين العقلي والتجريبي في ميدان الأخلاق من أشد الخلافات احتداما بين المذهبين. ذلك لأن صاحب المذهب العقلي يعتقد أنه يستطيع أن يكشف في ميدان الأخلاق حقائق واضحة بذاتها، من نفس النوع الذي يكتشفه في المنطق والرياضيات والميتافيزيقا. وهنا أيضا تكشف قائمة المبادئ الأخلاقية التي وضعها مختلف المفكرين العقليين عن تباين كبير؛ فهذه المبادئ تتفاوت ما بين «كل كذب هو خطأ مطلق - حتى أكذوبة الطبيب من أجل إنقاذ حياة مريضه»، وبين مبادئ رفيعة كالقاعدة الذهبية.
8 ⋆
أما التجريبي فهو، كما يمكننا أن نتوقع، يتحدى كل ادعاء للأولية في الأخلاق. وهو يعتقد بدلا من ذلك أن أسس القواعد الأخلاقية وأشملها هي ذاتها مستمدة من تجربتنا الفعلية المتعلقة بالأمور التي تؤدي إلى تحقيق مصالح المجتمع أو الأضرار بها. ولما كان الفصل الذي سنخصصه للأخلاق سيشتمل على مناقشة مفصلة لهذين الموقفين المتعارضين، فلا حاجة بنا إلى مناقشتها أكثر من ذلك في هذا المجال. (6) دور «كانت» في نظرية المعرفة
يمثل مذهب إمانويل كانت، الذي هو دون شك أقوى المفكرين تأثيرا في الفلسفة الحديثة، محاولة للتوفيق بين المذهبين المتعارضين، العقلي والتجريبي، على أن أنصار الموقفين المتطرفين لم يرضوا أبدا عن حل كانت للمشكلة، كما يحدث للحلول الوسطى في معظم الأحيان. ولكن كثيرا من الفلاسفة المعاصرين يرون أن مذهبه يقوم بعمل رائع في التوفيق بين الآراء المتعارضة لكلتا المدرستين؛ لذلك فإن الواجب يقضي علينا بحث نظرية المعرفة عند كانت بإيجاز.
ولو نظرنا إلى الأمر من الناحية التاريخية، لوجدنا أن «كانت» كان يهدف إلى التوفيق بين ذاتية باركلي، بنظريتها القائلة إنه لا يوجد شيء ما عدا الأذهان وإدراكاتها، وبين تجريبية مفكرين مثل لوك. فقد كان لوك يرى أن هناك عالما كاملا من المادة يوجد مستقلا عن أذهاننا المدركة، على الرغم من المادي الكامن من وراء الكيفيات الحسية. أما كانت فيبدأ بالاعتراف بضرورة أنه قد اضطر إلى الاعتراف بأنه لا سبيل لنا إلى كشف طبيعة هذا الأساس وجود علة لكل الانطباعات الحسية، وبأن هذه العلة ينبغي أن توجد خارج الذهن ذاته. ومع ذلك فإن الاعتراف بوجودها الطبيعي لا يثبت أننا نعلم أي شيء عن طبيعتها. ففي وسعنا أن نعلم أن هناك شيئا خارجيا معينا، ولكننا لا نستطيع أن نعلم ماذا يكون هذا الشيء. فهو يظل، وسيظل دائما، «الشيء في ذاته» الذي لا يمكن أن يعرف. ذلك لأن أذهاننا مهيأة بحيث لا تعرف إلا مظاهر الأشياء، أو الظواهر
أما الأشياء في ذاتها
Noumena
المقابلة لها، أو الحقيقة الحقة، فلا يمكننا إلا التخمين بها، بل إن العلم ذاته، بكل مناهجه وإنجازاته، لا يستطيع أن ينفذ من وراء الظواهر ليكشف الواقع الحقيقي.
Página desconocida