La filosofía: sus tipos y problemas
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
Géneros
مقدمة المترجم
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
1 - لا بد لنا من التفلسف
2 - الفلسفة وجيرانها
3 - المثالية: العالم ملائم لنا
4 - المذهب الطبيعي: العالم غير مكترث
5 - أصل الحياة ومجراها
6 - الذهن: لغز أم أسطورة أم نظام آلي؟
7 - الحقيقة: مشكلة بيلاطس - ومشكلتنا
Página desconocida
8 - نظرية المعرفة: ماذا يمكننا أن نعرف؟
9 - الميتافيزيقا: ما الواقع؟
10 - الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
11 - التجريبية المنطقية
12 - الأخلاق: ماذا ينبغي أن نفعل
13 - الأخلاق: ما الخير الأسمى؟
14 - الحتمية في مقابل اللاحتمية
15 - الأخلاق المعاصرة ومشكلاتها
16 - علم الجمال: ربيب الفلسفة
17 - الخلود: في أي شيء آمل؟
Página desconocida
18 - النزعة الإنسانية والوجودية
قائمة المصطلحات
مقدمة المترجم
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
1 - لا بد لنا من التفلسف
2 - الفلسفة وجيرانها
3 - المثالية: العالم ملائم لنا
4 - المذهب الطبيعي: العالم غير مكترث
5 - أصل الحياة ومجراها
Página desconocida
6 - الذهن: لغز أم أسطورة أم نظام آلي؟
7 - الحقيقة: مشكلة بيلاطس - ومشكلتنا
8 - نظرية المعرفة: ماذا يمكننا أن نعرف؟
9 - الميتافيزيقا: ما الواقع؟
10 - الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
11 - التجريبية المنطقية
12 - الأخلاق: ماذا ينبغي أن نفعل
13 - الأخلاق: ما الخير الأسمى؟
14 - الحتمية في مقابل اللاحتمية
15 - الأخلاق المعاصرة ومشكلاتها
Página desconocida
16 - علم الجمال: ربيب الفلسفة
17 - الخلود: في أي شيء آمل؟
18 - النزعة الإنسانية والوجودية
قائمة المصطلحات
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
تأليف
هنتر ميد
ترجمة
فؤاد زكريا
Página desconocida
مقدمة المترجم
لا شك أن الخبرة الطويلة التي اكتسبها مؤلف هذا الكتاب في تدريس الفلسفة تظهر واضحة في كل صفحات كتابه؛ إذ نجد لديه إدراكا واضحا لطريقة تفكير طالب الفلسفة، حين يقبل على دراسته لأول مرة، في تلك المشكلات النهائية القصوى التي تتميز بها الدراسة الفلسفية عن غيرها من الدراسات. ويعترف مؤلف الكتاب صراحة بأن الكتاب نص دراسي قصد منه أن يفيد الطالب المبتدئ في الدراسة الفلسفية؛ ومن هنا كان ذلك الطابع العام الذي اكتسبه طريقة معالجته لموضوعاته، ومحاولة مسايرة تفكير الطالب خطوة خطوة، وتصور الحجج والاعتراضات التي قد يثيرها ذهنه، والأسئلة والردود التي قد تطرأ على باله. ومما يزيد في قيمة الطابع التعليمي لهذا الكتاب، أن المؤلف لم يحاول أن يقطع برأي نهائي في أية مشكلة من المشكلات التي عالجها، بل ترك المجال مفتوحا أمام الطالب لكي يختار الموقف الذي يراه ملائما - والأهم من ذلك أنه كان يؤكد على الدوام إمكان وجود حلول مختلفة للمشكلة الواحدة، وهو تأكيد له أهمية كبرى في تكوين أذهان أولئك الذين يزمعون التخصص في الدراسات.
وعلى الرغم من أن مؤلف الكتاب ينتمي إلى ما يسمى بالمدرسة التحليلية الفلسفية، وهي المدرسة التي تسيطر على عدد كبير من الجامعات الإنجليزية والأمريكية في الوقت الحالي، فإنه يحرص على تحقيق التوازن بين النظرة التحليلية، بما فيها من تشريح دقيق للمشكلات وتفريغ دائم لها، وبين النظرة التركيبية، بما فيها من رؤية جامعة شاملة لكل مشكلة في صلتها بالتجربة الإنسانية عامة. ومن المؤكد أنه قد نجح إلى حد بعيد في تحقيق غايته هذه، بحيث يمكن القول إن الطبيعة التي عرض بها آراءه تجمع بين مزايا النظرتين التحليلية والتركيبية معا، وتتجنب كثيرا من عيوبهما.
ولعل أوضح ميزات هذا الكتاب هي محاولة الربط بين المشكلات الفلسفية وبين المواقف الفعلية التي يمكن أن يواجهها دارس الفلسفة في حياته الخاصة والعامة. وتلك دون شك ميزة لا يستهان بها من وجهة النظر التربوية؛ إذ إنها تشجع طالب الفلسفة على أن يخوض بلا وجل غمار مشكلات قد ينفر منها لو عرضت عليه بطريقة تجريدية جافة. ويظهر اتجاه المؤلف هذا بوضوح منذ الفصل الأول، الذي ضرب فيه الأمثلة لحالات متعددة الأنماط من الطلاب الذين يقبلون على الدراسة الفلسفية لأسباب مختلفة، ولكنهم يتفقون جميعا - رغم تباين أمزجتهم واستعداداتهم - على أن التفلسف أمر لا مفر منه، مهما تكن وجهة نظر المرء بالنسبة إلى العالم وإلى المجتمع الذي يعيش فيه. فإذا وجد القارئ العربي أن النماذج التي اختارها المؤلف محلية تنتمي إلى بيئته الخاصة وحدها، فليعلم رغم ذلك أن أمثال هذه الأنماط يمكن أن توجد - مع تحوير بسيط - في أية بيئة معاصرة في عالمنا الذي تتقارب طرق التفكير فيه، وخاصة بين الشباب، بسرعة مذهلة.
ولست أزعم - بوصفي مترجما للكتاب - أنني قد اتفقت مع مؤلفه في كل ما قال. ومع ذلك فقد آثرت ألا أقحم في نص الكتاب أي رأي قد أكون فيه مختلفا مع المؤلف، وإن كنت قد أشرت بإيجاز، في بعض الهوامش إلى عدد من النقاط التي اعتقدت أن رأي المؤلف يحتاج فيها إلى إيضاح، أو تعقيب، أو تعديل، دون الدخول في خلافات مفصلة.
وأخيرا، فإن لمؤلف هذا الكتاب، كما قلت من قبل، خبرة طويلة في التدريس الفلسفي أتاحت له أن يسلك - في كتابه هذا - أقصر الطرق وأيسرها إلى عقول الطلاب وربما إلى قلوبهم، بدليل انتشار استخدام هذا الكتاب بوصفه مدخلا إلى الفلسفة في كثير من الجامعات الأمريكية، وقام بالتدريس في عدة جامعات وكليات، بعضها في الشرق الأدنى، وبعضها في الولايات المتحدة. وهو يشغل منذ عام 1947م منصب أستاذ الفلسفة وعلم النفس في معهد كاليفورنيا التكنولوجي
California Institute of Technology
ومن مؤلفاته الأخرى: مدخل إلى علم الجمال
An Introduction to Aesthetic
كما أنه عضو في مجلس تحرير الكتاب السنوي لدائرة المعارف الأمريكية.
Página desconocida
الدكتور فؤاد زكريا
مقدمة الطبعة الثالثة
حاولت مرة أخرى، وأنا أراجع هذا الكتاب للمرة الثانية، أن أنتفع من الاقتراحات المتعددة التي تلقيتها من الأساتذة الذين درسوه وألموا به إلماما كافيا. ولا شك أنني لم أتمكن من أن أضمن الكتاب إلا جزءا من هذه الآراء، وإلا لكان علي أن أؤلف كتابا جديدا كل الجدة، ولكني أخذت على الأقل بعديد من المقترحات التي تكرر إبداؤها من أشخاص كثيرين.
ولقد كانت أبرز التغيرات التي أدخلتها على هذه الطبعة، إضافة فصل ختامي عن النزعة الإنسانية والوجودية؛ ذلك لأن طلب معلومات عن هاتين الحركتين كان هو أكثر الاقتراحات التي تلقيتها تكرارا. كذلك فقد أعدت كتابة معظم الفصلين المتعلقين بالميتافيزيقا، ولا سيما الأقسام الخاصة بالمذهب الثنائي والمذهب التعددي. ويبدو أن هناك إجماعا في الآراء على أن هذين كانا أصعب فصول الطبعتين السابقتين؛ ولذا حاولت أن أزيدهما قربا إلى أفهام الطلاب، فأضفت إلى هذا الغرض مزيدا من الأمثلة الملموسة، واهتممت بتفرعات المذهب الثنائي والمذهب التعددي في الميادين الأخرى.
ولقد أضفت قسما مطولا تتبعت فيه تاريخ مفهوم «الواجب»، ليكون قبل كل شيء بمثابة مدخل إلى دراسة مذهب «كانت » الأخلاقي. وإني لعلى ثقة من أن هذه الإضافة ستجعل الطلاب أكثر تعاطفا مع موقف «كانت» الصارم القاطع، وذلك حين يلمون ببعض الآراء التي كانت فلسفته الأخلاقية رد فعل عليها.
كذلك فإني أعدت كتابة جزء من الفصل الخاص بالمثالية، وتوسعت بوجه خاص في باركلي. ذلك لأنني كنت قد تلقيت عدة اقتراحات بتحسين هذا الفصل، وقد أخذت بها على قدر ما كان ذلك ممكنا من الوجهة العملية. وفضلا عن ذلك فقد توسعت في الفصل الخاص بالتصوف، مع الاهتمام بوجه خاص بالتصوف من حيث هو موقف معرفي (إبستمولوجي).
أما قائمة المصطلحات، التي كانت من قبل مطولة، فقد زيدت قليلا، وذلك بوجه خاص لكي تشتمل على المصطلحات الواردة في الإضافات المشار إليها من قبل. وقد حاولت في كل الأحيان أن أجعل الكتاب متمشيا مع أحدث التطورات في ميدان الفلسفة. وصحيح أن الأفكار الفلسفية قد لا تكون سريعة التغير، ولكن من المؤكد أن المراجع والأمثلة واهتمامات الطلاب تتغير بسرعة أكبر بكثير مما يدركه معظمنا، ولا بد للمؤلف الشاعر بمسئوليته من أن يأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار عندما يراجع كتابه.
أما الأشخاص الذين قدموا إلي اقتراحات مفيدة بشأن تنقيح هذا الكتاب بفهم أكثر مما يتسع المقام لذكره، ولكن س. ن. ستوكتون، من كلية بيكرزفيلد، يستحق ثناء خاصا على أفكاره المفصلة المطولة بشأن طريقة تحسين الكتاب. ومن الحظ سوء أنني لم أستطع، لأسباب عملية، أن أنفذ إلا قدرا يسيرا من اقتراحاته الرائعة. كذلك تستحق ماري أليس آرنت، وفرجينيا كوتكين، ثناء عطرا على مساعدتهما في الأعمال الكتابية.
هنتز ميد
باسادينا، يناير 1959م
Página desconocida
مقدمة الطبعة الأولى
هناك طريقتان مألوفتان لبدء الدراسة المنهجية للفلسفة، لكل منهما أنصارها المتحمسون. أما الطريقة الأولى، وربما الأقدم منهما، فتبدأ بتعريف الطالب تاريخ الفلسفة؛ أعني ذلك السجل الزمني للتعاقب المتصل من الشخصيات والمدارس والحركات، الذي يبدأ بطاليس في حوالي 600ق.م. ويظل مستمرا حتى يصل بنا إلى مفكرين ما زالوا أحياء. وربما كانت الميزتان الرئيسيتان لهذه الطريقة التاريخية هما: (1)
أن الطالب يكتسب الإحساس باتصال البحث الفلسفي واستمراره . (2)
وأنه يكتسب قدرا كبيرا من المادة العقلية التي يستطيع الانتفاع منها في أي تأمل فلسفي شخصي قد يقوم به. غير أن العيب الأساسي لهذه الطريقة التاريخية، من الناحية التربوية، هو عيب يكمن في أية دراسة تبدأ الموضوع الجديد منذ أصله ومنشئه الأول: فمهما بدت الطريقة التاريخية منطقية، فإنها لا يمكن أن تكون هي الطريقة الطبيعية بالنسبة إلى المبتدئ. ذلك لأن أي اهتمام تلقائي قد يتملك هذا المبتدئ في موضوع كالفلسفة، لا بد أن يكون ناشئا عن احتكاكه أو صراعه مع مشكلات فلسفية معاصرة له، لا من حب استطلاع ينصب على أصل المفاهيم الفلسفية وتاريخها، أو الاهتمام بما قال به مفكر تاريخي معين. صحيح أن الطالب المبتدئ، حين يعلم أن كثيرا من المشكلات التي تشغل ذهنه هي من المشكلات الدائمة في الفلسفة، يستفيد فائدة ثقافية حقيقية، ولكن الذي يحدث في كثير من الأحيان هو أن الطالب الذي يدرس موضوعا معينا؛ لأنه يشعر باهتمام أصيل به، يجد أن اهتمامه قد أخذ يتلاشى بالتدريج بعد أن يقوم بتحليل طويل للفكر القديم والوسيط وتفكير عصر النهضة والقرن الثامن عشر. ذلك لأن مشكلاته العقلية الخاصة هي مشكلات معاصرة قبل كل شيء، ومطلبه الطبيعي هو أن يتلقى إجابات حديثة إلى حد معقول. وكثيرا ما يشعر، عندما يضطر إلى دراسة مقرر في تاريخ الفلسفة، أن جوعه الفلسفي قد ألقم حجرا - أو خبزا شديد الجفاف على أحسن الفروض.
لهذا السبب التربوي الأساسي يبدو أن الطريقة التاريخية، على مزاياها العديدة، قد أخذت قيمتها تقل تدريجيا، في أيامنا هذه، بوصفها أول مدخل إلى الفلسفة. ويبدو أن عددا متزايدا من الأساتذة قد أصبحوا مقتنعين بأن من الأفضل الاحتكاك بالموضوع، لأول مرة، بطريقة غير تاريخية. وتبنى هذه الطريقة الأخرى عادة إما على دراسة «لأنواع» الفلسفة (أي أهم المدارس والحركات الفلسفية)، كما هي الحال في كتاب «هوكنج
Hocking » المشهور
1
وإما على دراسة للمشكلات الأساسية في هذا الميدان، كما هي الحال في كتاب «كننجهام
Cunningham ».
2
Página desconocida
وقد نجد من آن لآخر من يحاول معالجة الموضوع بطريقة أكثر شمولا، يجمع فيها بين الأنواع الأساسية والمشكلات الرئيسية.
والكتاب الذي نقدمه ها هنا يحاول، كما يدل عنوانه، أن يعالج الموضوع بهذه الطريقة الجامعة. ففيه دراسة للمشكلات الرئيسية للفلسفة من خلال ما أعتقد أنه أهم المدارس والحركات الفلسفية الموجودة في أيامنا هذه. وهو يبدأ بمقدمة موجزة تحاول التعريف بالفلسفة، وتبين كيف أن الطلاب (ومعهم كل الناس الآخرين تقريبا) يتفلسفون سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه. ثم يبحث في الفصول من الأول إلى الثالث في العلاقات بين الفلسفة وجيرانها. ولا سيما العلم والدين. ويلي ذلك وصف مفصل للرأيين اللذين أعتقد أنهما أهم وأشمل الآراء عن العامل، وهما المذهبان المثالي والطبيعي
Naturalism
اللذان سنتخذ منهما في واقع الأمر نقطتي ارتكاز في هذا الميدان (في الفصلين الرابع والخامس). أما الفصول الباقية فتعالج مختلف مشكلات الفلسفة، كل مشكلة بما لها من حلول كثيرة ممكنة، وذلك من خلال نقطتي الارتكاز سالفتي الذكر. وبذلك تكون لدى المبتدئ بضعة معالم بارزة يسترشد بها خلال تجواله في هذه الأرض التي هي، على أحسن الفروض، أرض محيرة. وقد يجد الفيلسوف المحترف، الذي أصبح متمكنا من ميدانه على الرغم من تعقده الشديد، أن هذا الترتيب مبسط إلى حد يقارب الإفراط، غير أن تجربتي مع الكثير من فصول المبتدئين قد أقنعتني بأن هذه الطريقة تصلح أكثر من أية طريقة أخرى لكي تكون مدخلا أول إلى الموضوع. فقد اتضح لي أن هذه الطريقة هي التي تفي أكثر من غيرها بالغرض المطلوب، سواء أكان مقياسنا هو سرعة اندماج الطالب في المشكلات الفلسفية، أم كان مقدار التوجيه العام الذي يكتسبه في هذا الميدان بعد فصل دراسي واحد، وما هذا الكتاب إلا تعبير عن اقتناعي بأن النتائج التربوية التي تسفر عنها هذه الطريقة هي قطعا أفضل من كل ما عداها.
ولا شك أن كتابة مؤلف من هذا النوع، ونشره، يقتضي مساعدة من عدد كبير من الأصدقاء الذين يستحيل الاعتراف بفضل كل منهم على حدة. على أن هناك عدة أشخاص قدموا لي معونة خاصة، وهم جديرون بثناء أعظم مما يدل عليه الاقتصار على ذكر أسمائهم، هؤلاء هم: برنيس وجوردون ستافورد، وروسكوبولاند، ومارفن هدريك، وجون باسووتر، وروبرت همفريز، وشيرلي مورس، بل إن هناك عونا كان أعظم حتى من ذلك، هو الذي قدمه ريموند ديورانت، ووالدتي سوازن ه. ميد. ذلك لأن الصبر الذي أبداه الأول في كتابة صفحات الكتاب، والبصيرة النقدية للثانية، كانا لي عونا لا يقدر. كذلك يستحق ريموند إيردل، الأستاذ بكلية بومونا، ثناء خاصا على النصح الذي أسداه إلي في لحظة حاسمة بشأن قائمة مصطلحات الكتاب.
هنتز ميد
سان دييجو، كاليفورنيا
يناير 1946م
الفصل الأول
لا بد لنا من التفلسف
Página desconocida
«الفلسفة مضيعة للوقت.» «الفلسفة لا تحل أية مشكلة.» «الفلسفة لا تعالج إلا مشكلاتها الوهمية الخاصة - بل إنها تعجز عن حل هذه المشكلات.» «لم يظهر أبدا فيلسوف تحمل ألما في الضرس.» مثل هذه الملاحظات توجه إلى الفيلسوف المحترف وإلى طالب الفلسفة، وتتكرر إلى حد ينبغي معه النظر إليها على أنها من المتاعب المهنية. شأنها شأن غبار الطباشير في التدريس، أو قذارة الأظافر في أعمال الورش. ومع ذلك، فكما أن المدرس والميكانيكي يغضبان بطبعهما من أي تلميح إلى أن هندامهما الشخصي ليس على ما يرام، فكذلك يغضب الفلاسفة من التلميحات المألوفة التي تنطوي عليها أمثال هذه الملاحظات القائلة إن هندامهم العقلي معيب. وكما أن المدرس أو الميكانيكي قد يجيب كل منهما على النقد بقوله: «كم أود أن أراك وأنت تقوم بعملي وتظل محتفظا بنظافتك!» فكذلك يشعر الفيلسوف في كثير من الأحيان بالميل إلى أن يرد قائلا: «أتراك تتصرف على نحو أفضل لو كنت تعمل في ميدان؟»
ولكن التشابه بين الطرفين ينتهي عند هذا الحد؛ ذلك لأن من ينتقد السترة المغطاة بالطباشير أو الأظافر القذرة يستطيع أن يقول دائما (لنفسه على الأقل) «إن لدى العقل ما يكفي لتجنب أمثال هذه المهن التي تفسد الهندام.» أما في حالة الفيلسوف فليس هناك رد كهذا يمكن أن يوجه إليه؛ ذلك لأننا، كما لاحظ أرسطو منذ وقت طويل، سواء أردنا أن نتفلسف أو لم نرد، لا بد لنا جميعا من التفلسف. فقد يكون في استطاعة الشخص الحريص على النظافة أن يتجنب المهن التي تجعل منظره يبدو غير مرتب، ولكن ليس في وسع أحد أن يفكر منطقيا، وبعمق، دون أن يقوم بدور الفيلسوف، على طريقة الهواة على الأقل. وفضلا عن ذلك، فليس في وسع أحد أن يتأمل تجربته الخاصة، ويصل إلى أية نتائج، حتى لو كانت مفتقرة تماما إلى الدقة، عن العالم، أو الحياة، أو طبيعة الوجود ومعناه، دون أن يكون قد أقحم في تفكيره (ضمنيا على الأقل) مذهبا ميتافيزيقيا كاملا. ذلك لأن ما يفعله الفيلسوف المحترف هو أنه يعرض بالتفصيل ذلك المذهب الفكري الذي توجد بذوره البسيطة في أي رأي ساذج غير واع عن العالم. والفارق الأساسي بين آراء المفكر المدرب وبين الخواطر غير النقدية التي تطرأ بالذهن الساذج من الوجهة الفلسفية، هو فارق في المسافة التي قطعها كل من الذهنين؛ أي إن كل ما يفعله الفيلسوف هو أنه يمضي أبعد في نفس الطريق الفكري الذي يسير فيه المفكر غير النقدي دون وعي. والفيلسوف يسلك عادة طريقا أقصر؛ إذ إنه قد اكتسب مزيدا من الخبرة في تجنب الطرق المسدودة والمسالك الفرعية العقيمة التي قد تعترضه خلال سيره. وفضلا عن ذلك فالأرجح أنه خلال سيره يرى تفاصيل أكثر (أي أكثر أهمية وأعمق معنى بحق)، ومع ذلك فإن الطريق العام الذي يسلكه كل منهما يظل واحدا.
حتمية الفلسفة : من السهل أن يتعرض القارئ للشك في وصفنا هذا للفلسفة بأنها نشاط بشري شامل. فقد تقول: «هذا هراء. فقد أمضيت هذه السنين الكثيرة كلها بلا فلسفة، ولكن من المؤكد أنني خلال طريقي قد قمت ببعض التفكير!» ومع ذلك، فبينما أنه يكاد يكون من المؤكد بالفعل أنك قمت ببعض التفكير خلال وقتك هذا - ولولا ذلك لما كان لديك من التعليم ما يكفي لقراءة كتاب كهذا - فإن الأكثر من ذلك تأكيدا هو أنك لم تفلت من التفلسف خلال جزء من وقتك، هذا على الأقل. صحيح أنك لم تستخدم المصطلح الفني للفلسفة، ولم تكن بطبيعة الحال محترفا يرتزق من تدريس هذا المصطلح لطلاب الكليات، ومع ذلك فلا جدال في أنك كنت تستخدم، بطريقتك الخاصة وبلغتك الخاصة، بعض الأفكار والاتجاهات الفلسفية طوال جزء كبير من ذلك الوقت.
والأمر المؤكد أكثر من كل ما سبق هو أن القارئ لو كان طالبا فيك كلية فلا بد أنه بدأ يتفلسف منذ وقت قريب، وكلما كان بقاؤه في الكلية أطول، كان الأرجح أنه يقف مترددا، في أوقات كثيرة، على حافة التفكير الفلسفي الجاد. مثل هذا الطالب هو عادة شخص ذو ذهن جاد، يهتم بما هو أكثر من الحياة الرياضية والاجتماعية بالجامعة، والأغلب أنه قد انزلق من هذه الحافة مرات كثيرة، وخاض بحر المشكلات الفلسفية العميقة، الذي سبح فيه دون أن يدري، برفقة مجموعة من كبار مفكري التاريخ.
والحق أن من أكثر التجارب التي يمكن أن يمر بها المبتدئ في الفلسفة مدعاة للاستغراب (وربما لخيبة الأمل الشديدة)، أن يكتشف أن مجموعة الأفكار الغامضة، بل المفككة، التي يعتنقها في موضوع الحياة والكون، قد يكون لها اسم، وأن من الممكن، على أساس هذه الأفكار، أن يصنف على أساس أنه «مثالي»، أو «طبيعي»، أو «من أصحاب مذهب اللذة»، وربما على أنه «برجماتي». ذلك لأنك لو كنت شخصا واثقا بنفسه، فأغلب الظن أنك كنت دائما تنظر إلى أفكارك ووجهات نظرك على أنها فريدة في نوعها. وهذا النوع من الأشخاص يدهشه، بل يغضبه، ذلك الهدوء الرزين الذي قد يستطيع أستاذ الفلسفة تحديد الفئة التي تنتمي إليها آراؤه. ومن جهة أخرى فلو كنت طالبا من النوع الأكثر تواضعا وانطواء، فالأرجح أنك تشعر عندئذ بأن ذهنك كان يحتوي على كثير من الأفكار التي هي أكثر «حمقا» من أن تستحق معنوياتها اسما محترما كالفلسفة. وفي هذه الحالة بدورها ستتملكك الدهشة بلا شك، وإن كان سرورك بذلك أعظم؛ إذ إنك لا بد أن تكتشف بدورك أن واحدا أو أكثر من الشخصيات التي حفظها تاريخ الفلسفة، قد قال بنفس هذه الأفكار «الحمقاء»، ووصل إلى الشهرة لا لشيء إلا لأنه قد وسع هذه الأفكار وزادها تكاملا ودقة. وهكذا فإن المبتدئين، سواء أكانوا من الواثقين أم من غير الواثقين بأنفسهم، يكتشفون عادة أنهم ليسوا وحيدين في تفكيرهم؛ إذ إنهم سرعان ما يعلمون أنه لا جديد - إلا القليل جدا - تحت شمس الفلسفة، ولا بد أن تمر بالمرء لحظة هائلة، قد تملكه فيها فرحة طاغية أو خيبة أمل عميقة، عندما يكتشف أنه شريك في الفكر لأفلاطون، أو باركلي، أو اسبينوزا.
الطلاب بوصفهم فلاسفة : يعلم أساتذة الفلسفة في الكليات أن الطلاب الذين يختارون موضوع تخصصهم يفعلون ذلك لأسباب متباينة. ومن الشائع أن يكتشف هؤلاء الأساتذة، من بين الطلاب الذين يختارون منهاج دراستهم لسبب أهم من كونه يتسم بالسهولة أو تلقى محاضراته في مواعيد مريحة، أغلبية يقوم أفرادها بهذا الاختيار لأنهم غير راضين عن الإجابات التي يتلقونها عادة ردا على أسئلة أساسية معينة. وفي معظم الأحيان يقوى هذا الشعور بعدم الرضا كثيرا منذ دخول الكلية؛ لأن من الأسباب التي تبعث في الطالب هذا الشعور، اتساع نطاق معرفته، والمناقشات والمجادلات الحامية التي لا تنتهي، والتي تؤلف عنصرا هاما في الحياة الجامعية. على أن أكثر المؤثرات مدعاة للاضطراب وعدم الاستقرار، قد يكون هو الشعور المتزايد بوجود تباين بين المثل العليا المعترف بها في المجتمع والحضارة، وبين سلوك الناس الفعلي في محيط العمل أو عالم المجتمع - أو في الوسط الجامعي ذاته. وقد يدرك الطالب ذو الضمير الحي أيضا أن المثل العليا التي ينادي بها هو ذاته علنا، كثيرا ما تكون ذات صلة واهية بسلوكه اليومي، ويكتشف أنه ما زال يطيع بلسانه معايير السلوك التي تعلمها في البيت أو في المدرسة، ولكنه يتجاهل معظمها وهو يحيا حياته الجامعية الراهنة.
هذه التناقضات والمفارقات - العقلية، والأخلاقية، والدينية - هي التي تدفع كثيرا من الطلاب إلى القيام بأول اتصال لهم مع الفلسفة، إما في المدرج الجامعي، وإما عن طريق كفاحهم الخاص في سبيل الاتساق العقلي. فكل أستاذ مثلا، يشاهد أمثلة كثيرة لطلاب مثل «بوب». وبوب هذا قد تربى في جو مسيحي محافظ، ولكنه سرعان ما أدرك أن أية إشارة إلى التعاليم التي ظل يقبلها دائما دون مناقشة، تثير على وجوه زملائه من الطلاب نظرات عابسة أو مستنكرة، وربما معبرة عن الحرج الشديد. وفي البداية كان بوب يميل إلى الاستخفاف بهذه الاستجابات السلبية، على أساس أنها تعبر عن حالات استثنائية لا تمثل الموقف العام في الجامعة، ولكن لما كانت كليته تمثل المجموع، فقد كان لا بد له أن يضطر إلى مواجهة الحقيقة الفعلية، وهي أنه هو الاستثناء (أو على الأقل واحد ضمن أقلية)، وأن التعاليم المسيحية لا تؤثر مباشرة إلا في تفكير وسلوك قلة من أصدقائه وزملائه في الدراسة. وقد اشتدت حدة الصراع الذي أثاره هذا الاكتشاف في ذهن بوب بوجه خاص عندما أدرك أن كثيرا من الطلاب الذين كان يقدرهم ويعجب بهم - والأسوأ من ذلك، بعض مدرسيه المحبوبين - يشاركون في عدم الاكتراث العام هذا، أو في تلك العداوة الصريحة، للتعاليم الدينية التقليدية.
ولكي يصل بوب إلى حل لهذا الصراع، فعل ما يفعله أي شخص عاقل في مثل هذه الظروف؛ فقد بدأ يفكر، فاكتسب مزيدا من المعلومات عن أصل وتاريخ تلك التعاليم التي كان يقبلها دائما على أنها «مقدسة»، وحاول فهم الأسباب التي أدت بأشخاص أذكياء مثقفين (ومتمسكين تماما بالأخلاق) إلى التخلي عن هذه التعاليم. فناقش مختلف المشكلات التي يثيرها الموضوع مع ممثلين ينتمون إلى كلتا المدرستين الفكريتين، محاولا أثناء ذلك أن يحتفظ بموقف الحكم النزيه.
ولقد كان هذا الجهد الذي بذله بوب للوصول إلى حل لصراعه هذا، يقتضي منه أن يستخدم العقل لا العاطفة؛ إذ إنه أدرك أن المشكلة عقلية قبل كل شيء، ولا تمس العاطفة إلا بطريق غير مباشر. فانتهى رأيه إلى أن أسرته ومعلميه الدينيين ليسوا «موضوعيين» في الحجج التي يزعمون بها إثبات وجود الله أو خلود النفس، ومن جهة أخرى رأى أن أصدقاءه الشكاك والملحدين لم يكونوا في بعض الأحيان أقل تعصبا وعاطفية، أو كان كل ما يفعلونه هو تبرير تمرد مبني على أسس دينية مشابهة لما لديه. وهكذا بدا له أن كلتا الجماعتين لا تقدم إليه مصدرا موثوقا به للتفكير النزيه، غير الانفعالي، ورأى نفسه مضطرا إلى رفض الاسترشاد بهذا الجانب أو ذاك في حل مشكلته. ومن ثم فقد اضطر إلى محاولة البحث بنفسه عن صيغة منطقية لما يستطيع أن يؤمن به إيمانا صادقا على أسس تجربته ومعرفته التي اكتسبها حتى ذلك الحين.
ومنذ هذه اللحظة، أصبح بوب فيلسوفا، سواء أعرف ذلك أم لم يعرفه. ولو ظل منطقيا وثابر على محاولته صياغة معتقداته الخاصة، لوصل على الأرجح إلى نتائج مشابهة لتلك التي وردت في مذهب ميتافيزيقي معين من المذاهب الموجودة بالفعل. ولكن، سواء أكانت وجهة النظر التي سيصل إليها هي تلك التي اشتهرت بفضل أرسطو، أو وليام جيمس، أم وجهة نظر يستطيع أن يصفها - عن حق - بأنها خاصة به وحده، فإن منهجه لو كان منطقيا، وطريقة معالجته للموضوع لو كانت عقلية، لكان تفكيره هذا، والنتائج التي وصل إليها، جديرا باسم «الفلسفة».
Página desconocida
ولنتأمل حالة الطالبة «روث»، وهي حالة نجد لها نظائر في كل جامعة بها تعليم مشترك. فعلى الرغم من أن تعليمها لم يكن محافظا من الوجهة الدينية على قدر ما كان تعليم «بوب»، فإن التعاليم الأخلاقية التي تلقتها من والديها كانت صارمة قاطعة. صحيح أن والديها يعدان نفسيهما «متحررين» ولكن روث قد تعلمت أن هناك أمورا معينة تتجاوز حدود أكثر أنواع السلوك تحررا. وأبرز هذه البنود المستبعدة، كل نوع من السلوك الجنسي يتم خارج نطاق الزواج، ولا سيما بالنسبة إلى امرأة تحترم نفسها. وعلى حين أن والديها قارئان مثقفان، ولديهما بعض المعلومات عن علم النفس وعلم الاجتماع فإنهما قد نشآ ابنتهما على الاعتقاد بأن معايير الأخلاق الجنسية صارمة لا تتغير.
ولكن، بعد أن تمضي روث في الجامعة فصلا دراسيا أو فصلين، تبدأ في إدراك أنه، على الرغم من أن معظم الفتيات قد نشأن في جو أخلاقي مشابه للجو السائد في بيتها، فإن بعضهن قد انحرف عنه نظريا أو عمليا أو كليهما معا. وفضلا عن ذلك فإن بعض هؤلاء الفتيات صريحات فيما يتعلق بسلوكهن، لا سيما حين يتحدثن مع صديقات حميمات. وقد دهشت روث إذ وجدت أن اتجاهاتهن هذه لا يبدو أنها تؤدي إلى الحد من قدرهن في نظر صديقاتهن. ولما كانت روث قد تعلمت دائما أن مثل هذا السلوك يؤدي دائما إلى التعاسة، ولا سيما بالنسبة إلى الفتيات، فإن الأمر الذي كان مصدر أكبر قدر من الإزعاج والحيرة لها، هو أنها لاحظت أن هؤلاء الفتيات لا يبدو عليهن أنهن أقل سعادة وانسجاما مع بيئتهن من معظم زميلاتهن الأخريات.
ولما كانت روث ذكية واسعة الأفق، فقد حاولت بدورها أن تفكر في المسألة من أولها إلى آخرها بطريقة عقلية. وقد أتاحت لها سياسة التسامح التي تتبعها مكتبة الجامعة، أن تطلع على كتب موثوق بها في المشكلات الرئيسية للجنس والزواج، ولكنها سرعان ما أدركت أن حل مشكلتها لن يوجد في هذه الكتب، ولن يستمد من مناقشات منتصف الليل في عنابر بيت الطالبات؛ ذلك لأن ما كانت تحاول كشفه هو شيء أعمق وأعقد وأهم بكثير من أية إجابة على مشكلة العفة الجنسية. فقد كانت تحاول كشف ما يحدد «الصواب» و«الخطأ». فهي قد ظلت حتى الآن تعتمد دائما على كلمة أبويها ومعلميها في تحديد فئتي السلوك هاتين، ولكن ها هي ذي تدرك فجأة أن ذلك لم يعد كافيا، ما دامت كل تعاليمهم قد صيغت على هيئة أوامر محددة تتعلق بأفعال معينة، لا على صيغة معيار عقلي «للحق أو الصواب». أما كون معظم الناس يؤمنون كما يؤمن والدها، فهذا أمر لا يؤثر فيما تبحث عنه شيئا؛ مثلما لا يؤثر فيه كون العفة صفة أثيرة لدى المجتمعات منذ عهود بعيدة؛ ذلك لأنها تدرك أن هذه ليست إلا صورا متباينة للسلطة، التي لا يمكن أن تكون لها قوة عقلية ملزمة لأذهان ترفض السلطة الخاصة المتعلقة بهذا الموضوع بعينه. فلا بد إذن من شيء أكثر تأصلا، وأكثر معقولية.
وهكذا تجد روث نفسها قادرة، آخر الأمر، على البدء بعملية إعادة بناء عقلية. ولا يمضي وقت طويل حتى تكتشف أن مشكلة «الصواب» و«الخطأ» لا يمكن أن تحل إلا بمزيد من التعمق؛ إذ إنها تدرك أن هذين اللفظين يعتمدان على «الخير» و«الشر». ومن هنا فإن بحثها يؤدي بها آخر الأمر إلى هذا السؤال الأساسي: «ما هي الحياة الخيرة؟» وإلى أن يتسنى إيجاد جواب مرض لهذا السؤال - الذي هو أكثر أسئلة الإنسان إلحاحا - فإن روث تدرك أنها لا تستطيع إلا أن تعود إلى سلطة من نوع ما، لتتخذ منها مرشدا لسلوكها، حتى لو كانت سلطة مشكوكا فيها مثل رأي الأغلبية من زملائها الطلاب. ومن الجائز أن بحثها هذا عن جواب شاف عن مشكلة الحياة الخيرة سيؤدي بها إلى اختيار برنامج دراسي في الفلسفة أو الأخلاق. ولكنها - سواء أفعلت ذلك أم لم تفعله - فإنها ستكون سائرة بجد في طريق الفلسفة الفسيح إذا أدت بها جهودها الخاصة إلى بلوغ نقطة قريبة من تلك التي وصفناها.
ولا شك أننا لن نجد جميع الطلاب، حتى لو كانوا أذكياء، ذوي عقول جادة، قادرين على المثابرة في التفكير في مثل هذه المشكلات إلى الحد الذي يكشف لهم بوضوح عن المسائل الفلسفية الأساسية. مثل ذلك أن «بوب» كان يستطيع أن يتوقف فجأة في تحليله بأن يقرر أنه يوجد لدى أي شخص، على ما يبدو، دليل موثوق به على حقيقة المعتقدات الدينية أو بطلانها؛ وبالتالي يصبح «الإيمان» مسألة شخصية بحتة. وكذلك كانت «روث» تستطيع التراجع في رحلتها العقلية بعد البداية مباشرة؛ وذلك بأن تقرر أن أبويها أكبر منها سنا وأحكم عقلا؛ ولذا فمن الواجب اتباع نصائحهما، لا سيما وأن آراءهما تتفق مع رأي الأغلبية فيما يتعلق بالأخلاق الجنسية.
لكن حتى لو لم يكن الطالبان اللذان نتحدث عنهما قد وصلا إلا إلى موقفين مبدئيين من هذا النوع، فإن كلا منهما يكون مؤمنا ضمنيا بفلسفة وجدت خلال التاريخ الطويل للفكر من يعبر عنها بوضوح ويدافع عنها بحرارة. فعندئذ يكون «بوب» مثلا، قد اتجاه نحو مذهب نسبي شكاك من نوع ما، على حين أن «روث» تكون قد ظلت قانعة بنوع من مذهب السلطة المفترض ضمنا.
أمثلة أخرى : ولنبحث الآن حالة «تشارلس». ففي أثناء دراسة تشارلس الثانوية، أبدى اهتماما كبيرا بتلك الألغاز التي لا بد أن كلا منا قد صادفها في وقت ما، من أمثال: «إذا سقطت شجرة في وسط غابة ولم يكن هناك شخص قريب يسمعها، فهل يكون هناك أي صوت؟» وحتى بعد أن عرف أن الجواب يتوقف تماما على تعريف «الصوت»، فقد ظلت المشكلة تخلب لبه، لا سيما بعد أن أخبره شخص أكبر منه سنا أن من الممكن توجيه نفس هذا السؤال بشأن كل تجربة حسية لنا. مثال ذلك، أيكون الفرن «ساخنا»، أو الجو «شديد الرطوبة»، إن لم يكن هناك من يحس به؟ ... وهكذا أخذ تشارلس يشعر بالتدريج أن الشخص، في كل تجربة، يكون أهم من الشيء الذي يمر به في تجربته، بل إن الشخص ليس أهم فقط، وإنما هو أهم وأكثر «حقيقة»، بحيث ينبغي أن يعد الذهن أو الوعي العنصر المركزي الرئيسي في الكون. وبذلك يكون تشارس قد اهتدى، عن وعي أو دون وعي، إلى الفكرة الأساسية لدى مدرسة من أعظم مدارس الفكر الفلسفي وأقواها تأثيرا، وهي المثالية الميتافيزيقية.
وهناك طالب آخر، هو «ديك»، يبدي اهتماما كبيرا بالعلم ولا سيما الجيولوجيا والفلك والدراسات البيولوجية. وقد تعلم مما درسه في هذه الفروع أن العلم، حتى في أشمل تعميماته وأوسع قوانينه نطاقا، يتوقف دائما، وفي نهاية الأمر، على «الوقائع». وهو يشعر بإعجاب متزايد بقدرة العلم على تفسير مختلف أسرار التجربة البشرية واحدا بعد الآخر، ويشعر برضا خاص إذ يدرك أن حدود المجهول والغامض وما هو «خارق للطبيعة» تتراجع وتنكمش يوما بعد يوم. وأخيرا يشعر، كما يشعر كل أساتذته في العلم، أنه على حين أن العلم قد لا يكون قادرا على أن ينبئنا بكل ما نود معرفته، فهناك بالفعل أدلة كافية تثبت أن أي ميدان لا يثمر أكبر قدر ممكن من المعرفة الموثوق منها إلا إذا اتبعت فيه الطريقة العلمية. كذلك يعتقد «ديك» أنه لا يوجد شيء من وراء الكون الطبيعي الذي يدرسه العلم. «فالطبيعة» تشمل كل ما يوجد، بحيث لا يكون ثمة مجال لما هو «خارق للطبيعة». وعندما يصل إلى وجهة النظر الأخيرة هذه، يكون قد عثر (ربما دون أن يعلم مطلقا). على الفكرة الرئيسية في موقف فلسفي رئيسي آخر، هو المذهب الطبيعي.
والمثل الأخير هو «باربارا»، وهي فتاة في السنة الأولى، تتصف بصلابة الرأي وبنزعة عملية مشوبة بشيء من السخرية وعدم الاكتراث، ولا تطيق التفكير النظري أو التأمل أبدا. ففي كل مناقشة نظرية، نراها دائما ترد بقولها: «إلى أين ستؤدي بك؟» وفي الآونة الأخيرة أخذ نطاق تحديها النقدي يزداد اتساعا؛ إذ إنها الآن قد أصبحت تتساءل: «هل نوع النظرية التي تعتنقها يؤدي إلى أي فارق في المدى الطويل - وإذا كان هناك فارق، فما هو؟ وما العائد من النتائج الملموسة - هذا وحده هو ما يهمني!» وهنا نجد أن باربارا بدورها تتخذ موقفا نظريا موجودا بصورة ضمنية في أسئلتها، وإن كانت ستدهش قطعا (وربما غضبت) لو عرفت بالأمر. ذلك لأن أسئلتها توحي بنوع ساذج من «البرجماتية» التي تحاول تقويم كل شيء من خلال نتائج ذات أثر ملموس، وتذهب إلى أن النظريات والتمييزات النظرية لا يكون لها معنى إلا بقدر ما تؤدي إليه من اختلافات يمكننا أن نجربها مباشرة.
وهنا ينبغي أن نؤكد مرة أخرى أنه قد لا يكون هناك واحد من هؤلاء الطلاب الخمسة يعتقد أن النشاط العقلي الذي يمارسه هو نوع من التفلسف، والأبعد من ذلك احتمالا أن تكون نتائج تفكيرهم في نظرهم بوادر أولى لمذهب فلسفي. على أن الفلسفة المنظمة، كما سنرى في الصفحات التالية، قد نمت من تفكير مماثل لهذا تماما، في نفس هذه المشكلات، بل إن تاريخ الفلسفة ليس إلا تعاقبا متصلا من الإجابات المتباينة على هذه المشكلات (وعلى مشكلات أخرى مماثلة لها)، على حين أن أي «مذهب» فلسفي ليس أكثر من محاولة متكاملة شديدة التنظيم للإجابة عن نفس الأسئلة الأساسية التي تلح على ذهن الإنسان كلما بدأ يفكر تفكيرا عميقا شاملا. (1) الاختلافات الرئيسية بين الفلسفة الشعبية والفلسفة المذهبية
Página desconocida
هناك ثلاثة اختلافات تفرق بين الفلسفة التي نسميها «شعبية» أو «شخصية» وبين ذلك النوع الذي يحظى بشهرة باقية، بل حتى ذلك النوع الذي يزاوله معظم الفلاسفة المحترفين. أوضح هذه الفروق هو أن هذه الفلسفات الشخصية يعبر عنها باللغة البسيطة التي يستخدمها الإنسان العادي كل يوم. أما أفكار معظم المفكرين الكبار فتصاغ عادة من خلال مصطلح فني أكثر تجريدا، ينبغي أن نتعلمه مثلما نتعلم المصطلح الخاص بأي علم. وهذا المصطلح الفني هو في الوقت ذاته الحاجز الأكبر الذي يقف حائلا بين معظم الفلاسفة وبين عامة الناس.
ولكن الواقع أن هذا الفارق بين النوعين الشعبي والاحترافي أو الفني للفلسفة، ليس ضخما إلى الحد الذي يبدو عليه. فما إن يتعلم المرء هذا المصطلح الفني، حتى يبدأ في اكتشاف أوجه شبه بين الاثنين لم يكن يخطر بباله وجودها. ومن الأمور الشائع حدوثها أن يقول الطالب المبتدئ، بعد أن يقوم معلمه أو القاموس بترجمة عبارة ميتافيزيقية معقدة إلى لغة بسيطة: «لم لم يقل ذلك منذ البداية؟» والرد على هذا السؤال الطبيعي بالنسبة إلى الشخص غير المتخصص، هو أننا حتى لو افترضنا أن الترجمة إلى اللغة العادية دقيقة (وهو ما لا يصح دائما؛ إذ إن هناك جملا فلسفية معينة قد يكون من المستحيل التعبير عنها بالألفاظ المستخدمة يوميا)، فإن الوضع يكون شاذا إلى حد بعيد لو عبرنا عن التجريدات العميقة بلغة غير اللغة الفنية التجريدية.
والحق أن نفس هذه المشكلة المتعلقة بالمصطلح تظهر في معظم فروع العلم، فكثير من المفاهيم الأساسية في أي فرع بعينه يرمز لها بعبارات يراها الشخص غير المتخصص عبارات فنية، غير أن الكاتب أو المتحدث يكون عليه أن يستخدم جملة كاملة (وربما عدة جمل)، بدلا من هذا اللفظ الواحد، إذا ما طلب إليه الاقتصار على استخدام اللغة العادية. ولو أتيح لغير المتخصص أن يقرأ كلاما كهذا أو يستمع إليه وقتا قصيرا، لأدرك بسرعة أن محاولة تجنب كل لغة فنية يؤدي إلى نقص كبير في القدرة التعبيرية ، وذلك من وجهة نظر الكاتب وجمهوره معا. والأمر الذي يبدو أن الحاجة تدعو إليه، ولا سيما في الفلسفة، هو وجود استعداد أكبر من جانب الفلاسفة لتعريف الألفاظ بوضوح ثم استخدامها بدقة واتساق، واستعداد مماثل من جانب الدارسين لتعلم لغة هذا الفرع الخاص. وإننا لنأمل أن يقتنع قراء هذا الكتاب بعينه أن مؤلفه، حين أضاف قائمة بالمصطلحات الفلسفية في نهاية الكتاب، إنما كان يود أن يلتقي مع قرائه، في هذه المسألة، في منتصف الطريق، ومع ذلك فإن هذا العامل المساعد على التفاهم والاتصال. شأنه شأن كل الوسائل الأخرى من هذا النوع، لن تكون له قيمة إلا إذا استعمل.
والفارق الواضح الثاني بين الفلسفات الشعبية وبين الفلسفة الفنية المتخصصة هو أن الفلسفات الشعبية توجد، في معظم الأحيان، بصورة ضمنية، على حين أن المفكر المنهجي قد جعل تفكيره صريحا ظاهرا. ذلك لأن الفلسفة الشعبية، وخاصة إذا كان واضعها شخصا ليست له معرفة بتاريخ الفلسفة، هي فلسفة في طور الجنين فحسب. وقد تكون فيها كل الإمكانيات التي تبشر بالتحول إلى مذهب كامل النمو، ولكن مثلما أنه لا بد من عالم بيولوجي متخصص في علم الأجنة لإدراك هذه القوة الكامنة في الكائن العضوي الذي لم يتشكل إلا جزئيا، فكذلك لا بد من شخص ذي خبرة واسعة في الفلسفة المنهجية لكي يكتشف جميع الإمكانيات الكامنة في موقف فلسفي لم يتشكل إلا جزئيا. إن الفرق ضخم بين الجنين وبين الكائن العضوي الناضج، ومع ذلك فالأجنة لها من الأهمية في نظام الأشياء بقدر ما للبالغين المكتملي النمو. ومن هنا كان من دواعي التفاؤل أن نجد الطلاب عادة يتشجعون حين يستكشفون أن مفكرا مشهورا معينا قد اكتسب شهرته بفضل تقديمه لعرض موسع دقيق لأفكار يستطيع الطالب أن يعرفها على أنها أفكاره الخاصة.
وهناك فارق ثالث هو أن معظم المذاهب الفلسفية تنطوي على قدر من التنظيم والاتساق يكاد يكون من المؤكد أن الآراء الشعبية الخاصة عن العالم تفتقر إليه؛ ذلك لأن الفيلسوف المعترف به ينظم أفكاره بطريقة منهجية، بحيث إن تفكيره يكون نظاما لتفسير الكون وحل المشكلات التي تعترض الذهن عندما يبدأ البحث جديا في طبيعة التجربة. أما تفكير معظم الناس، حتى حين يكون جادا متعمقا، فإنه لا يستطيع أن يصل إلى الاتساق والإحكام في معالجته لأي مجال شديد الاتساع من مجالات الفكر والتجربة. ومع اعترافنا بأن الفيلسوف المنهجي، شأنه شأن أي إنسان آخر، ليس معصوما من التناقض العقلي وعدم الاتساق المنطقي، فإنه مع ذلك ينجح في تحقيق التماسك والوحدة المنطقية بالنسبة إلى مجالات فكرية أوسع بكثير من تلك التي ينجح فيها الرجل العادي، بغض النظر عن مدى إخلاص هذا الأخير وشعوره بالمسئولية بوصفه مفكرا. فالنظر الفلسفية إلى العالم تظل عادة شيئا يدعو إلى الإعجاب من حيث هي مذهب منظم محكم البناء، حتى لو أخفقت فيما عدا ذلك من النواحي. (2) مشكلة التعريف
عندما نحاول تنظيم هذه الأفكار العامة عن طبيعة الفلسفة في تعريف شكلي للموضوع، فسرعان ما تعترضنا الصعوبات؛ ذلك لأن الفلسفة هي عملية أو نشاط أكثر من كونها موضوعا أو بناء للمعرفة، وتعريف النشاط أصعب دائما من تعريف الكيان أو الشيء المحدد المعالم. ويحاول البعض أحيانا تجنب هذه الصعوبة بالقول إنه لا يوجد شيء اسمه الفلسفة، بل يوجد فقط تفلسف. وهو النشاط العقلي الواعي الذي يحاول به الناس كشف طبيعة الفكر، وطبيعة الواقع. ومعنى التجربة الإنسانية. وقد يذهب أناس آخرون إلى القول بأنه لا توجد، على أحسن الفروض، إلا فلسفات؛ أي طرق متعددة للنظر إلى العالم. يصوغها مفكرون يعيشون في مدنيات كثيرة مختلفة. هذه الفلسفات تتباين، وكثيرا ما تتناقض، ومن هذا كان من الممتنع (على ما يقولون) أن ننظر إلى الفلسفة على أنها ميدان أو بناء موحد للمعرفة. وفضلا عن ذلك، فلا مفر لكل مدرسة وكل مفكر فردي من تعريف الموضوع بطريقة مختلفة، فيؤدي هذا التعريف ذاته إلى إغفال الكثير مما يود ممثل المدرسة المضادة أن يعمل له حسابا.
ولا بد لنا من تأكيد هذه النقطة الأخيرة: إذ إنها شيء قد يجده المبتدئ في دراسة الفلسفة عسير الفهم. فهو قد يدرك أن إجابتك عن أي سؤال فلسفي معين تتوقف على المدرسة الفكرية التي تنتمي إليها، ولكن لا يستطيع أن يفهم كيف أن تعريف الفلسفة في ذاتها يتوقف أيضا - إلى حد ما - على المدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها القائم بالتعريف. والواقع أننا عندما نقارن بين فلسفة ينصب اهتمامها الأكبر على المسائل الميتافيزيقية (كالمثالية) وبين مدرسة أخرى يتركز اهتمامها على نظريات الحقيقة والقابلية للتحقيق (كالوضعية المنطقية)، فإنا نرى عندئذ أن هذه النتيجة تغدو أمرا لا مفر منه؛ ذلك لأن المدرسة الأولى لا بد أن تعرف الفلسفة على أساس أنها جهد منظم لإثبات الطابع المنطقي للواقع، على حين أن الثانية، التي ترى أن لفظ «الواقع
Reality » لا معنى له، وترى في أي جهد يبذل من أجل إثبات طابعه مضيعة للوقت، تعرف الفلسفة على أساس التحليل المنطقي للغة والمعنى. وهكذا الحال في القائمة الكاملة للمدارس الفكرية الكثيرة، فكل منها تبرز في تعريفها ما تهتم به في نشاطها التأملي أو التحليلي، وكل منها تستبعد بدورها ما لا يهمها، أو ما لا ترى في نفسها الكفاية لمعالجته.
فإذا ما انحزنا مؤقتا إلى صف أولئك الذين يفضلون النظر إلى الفلسفة على أنها نشاط أو عملية، لكانت مشكلتنا هي أن نقرر ما الذي يفعله كل هؤلاء المفكرين المتعددين، المتعارضين أحيانا، عندما يتفلسفون. فما هو العنصر المشترك بين عملياتهم العقلية؛ أي بالاختصار، ما الذي يميز التفكير الفلسفي من الأنواع الأخرى للتفكير؟ وما الذي يفعله الفيلسوف ويختلف فيه عما يفعله العالم أو رجل الدين، وربما الفنان ذاته؟ وما هي أوجه نشاطه العقلي الفريدة أو المميزة له؟
على الرغم من أن تصور الفلسفة على هذا الأساس الوظيفي الدينامي يؤدي إلى تبسيط مشكلتنا إلى حد ما، فما زال التعريف أمرا شديد الصعوبة. فهناك على الأقل نمطان متميزان من النشاط الفكري يزاولهما الفلاسفة من حيث هم جماعة، وإن لم يكن هناك فيلسوف واحد يزاول النوعين معا. وعلى الرغم من أن كلا من هذين النوعين من النشاط العقلي ليس منقطع الصلة بالآخر، فإن بينهما مع ذلك من الاختلاف في المقصد والمنهج ما يكفي لتعقيد محاولات التعريف. وسوف تكون مهمة كثير من الفصول التالية إيضاح هذا الفارق، أما هنا فنستطيع على الأقل تقديم عرض مبدئي لهذا الموضوع. (3) المهمتان الكبيرتان للفلسفة
Página desconocida
الفلسفة بوصفها تحليلا : أول نشاط فلسفي رئيسي هو التحليل أو النقد، وفي هذا الدور يقوم المفكر بتحليل ما يمكن تسميته بأدواتنا العقلية: فيدرس طبيعة الفكر، وقوانين المنطق والاتساق، والعلاقات بين أفكارنا والواقع، وطبيعة الحقيقة، ومدى صلاحية مختلف المناهج التي نستخدمها في توصلنا إلى «الحقيقة» أو «المعرفة» (وهذا الموضوع الأخير ربما كان أهم الجميع)؛ فهو يحلل مناهج العلم والدين والفن والحدس والموقف الطبيعي. ويبدي اهتماما كبيرا بأية وسيلة يستخدمها الناس لاكتساب المعرفة أو تنظيم تجربتهم؛ إذ إن الفيلسوف ربما كان أكثر الناس اهتماما بالبحث عن أفضل الطرق للوصول إلى اليقين. ومن بين الأعمال التي يهتم بها، اختبار المناهج العقلية في جميع الميادين لكي يرى ماذا يمكنه أن يتعلم منها، ولكنه أكثر من ذلك اهتماما بتقويم هذه المناهج لذاتها. وهنا تقوم الفلسفة بدور الناقد الأعلى؛ إذ إنها تقوم باختبار دقيق لما تدعيه مختلف الفروع الأخرى من معرفة أو حقيقة، وذلك على أساس المناهج المستخدمة فيها واتساق النتائج التي تصل إليها، والعلاقة بين هذه النتائج وبين الأوجه الأخرى للتجربة البشرية.
على أن هذه المهمة النقدية التحليلية للفلسفة، كما سنرى في الفصول القادمة، لا يفهمها معظم الناس ولا يقدرونها إلا على نحو أقل بكثير من فهمهم وتقديرهم للمهمة الأخرى الأوسع منها شهرة للفلسفة، ألا وهي التركيب، وهذا أمر يدعو إلى الأسف؛ لأن هذه الجهود التحليلية للفلسفة هي التي أصبحت تسود الميدان على نحو متزايد في السنوات الأخيرة، وفي ميدان التحليل هذا يبدو أن الفلاسفة يقومون اليوم بأعظم أعمالهم فائدة. فمعظم المنشورات الفلسفية التي تظهر على شكل كتب أو على شكل مقالات، هي في واقع الأمر دراسات نقدية، تهتم أساسا بمشكلة المعرفة ومناهجها. ولذلك فإن القارئ العام الذي لا يدرك هذه الحقيقة يشعر بالنفور وخيبة الأمل حين يحاول دراسة أوجه المعرفة هذه؛ إذ إنه بدلا من أن يجد إجابات لأسئلته المتعلقة بالحياة والكون، يصطدم بمناقشات شديدة التخصص حول مناهج العلم أو قوانين اللزوم أو مشكلة العلية. فقد كان التصور التقليدي للفلسفة هو أنها مصدر يقدم إجابات للأسئلة التي يمكن أن يوجهها أي شخص مولع بالتفكير. ولكن جهود الفلسفة في العصور الحديثة أخذت تسير على نحو متزايد في طرق تحليلية (وبالتالي فنية متخصصة جدا). أما مسألة ما إذا كان هذا النشاط الرئيسي للفلسفة الحديثة هو أيضا أهم أوجه نشاطها، فهذا أمر لا يمكن البت فيه إلا بعد أن نكون قد توصلنا إلى فهم أفضل لمجال الفلسفة في مجموعه.
الفلسفة بوصفها تركيبا : أما المهمة الرئيسية الأخرى للفلسفة فهي في الوقت ذاته المهمة التقليدية الأقدم عهدا، فهي تحاول إيجاد مركب لكل المعارف، ولتجربة الإنسان الكلية. وهنا ينصب الاهتمام على النتيجة المتوقعة، بدلا من المناهج أو الأدوات المستخدمة. وفي هذا النشاط التركيبي يبحث الفيلسوف عن أشمل رأي ممكن بشأن طبيعة الواقع، ومعنى الحياة وهدفها. وأصل الوعي ومكانته ومصيره، وغير ذلك من الأسئلة الحدية القصوى. فهنا ينصب الاهتمام على «الاكتمال» أو «الشمول». والهدف هو تكوين نظرة إلى العالم (يستخدم للتعبير عنها أحيانا اللفظان الألمانيان
Weltansicht
أو
Weltanschauung )، أو صورة عن الكون لا تغفل من التجربة البشرية شيئا يمكنه أن يجعل من هذا التدفق المستمر للتجربة كلا منظما متكاملا له مغزاه.
ويحرص الفيلسوف الحديث عادة على ألا يخلط بين هذا البحث عن نظرة شاملة إلى العالم الحقيقي، وبين الاعتقاد الضمني بأن أي مركب متكامل يصوغه للتاريخ والتجربة البشرية هو مركب نهائي،
1
إذ يبدو من المؤكد أنه ما دام الجنس البشري مستمرا، فسوف تظهر خبرات وتجارب جديدة تحتاج إلى مركبات أحدث وأوفى. وعلى كل جيل أن يعيد تقويم وتفسير الخبرة المتراكمة للجنس البشري كله، وذلك على الأقل لأن مجموع التجربة البشرية قد زاد منذ الانتهاء من أي مركب سابق.
وفضلا عن ذلك فإن هذا الجزء من الكل، الذي يبدو هو الأهم بالنسبة إلى أي جيل حاضر (أعني ذلك الذي يحدث خلال العقدين أو العقود الثلاثة السابقة)، لا يكون قد تم هضمه عقليا، إن جاز هذا التعبير. ومن هنا فإن مهمة الفلسفة في تحقيق التكامل لا نهاية لها، وينبغي بالضرورة أن تظل كذلك. فليست هناك صيغة، مهما يكن شمولها، تستطيع أن تصمد طويلا بوصفها الكلمة الأخيرة. فقد تظل هذه الصيغة باقية بضعة أجيال، على الرغم من أن ظروف المدنية الحديثة لا تتيح مثل هذا العمر الطويل نسبيا إلا للقلة القليلة جدا. ومن هنا يبدو أن الفيلسوف، شأنه شأن أي مشتغل آخر بالأعمال العقلية، لديه عمل دائم لا ينتهي. (4) بعض التعريفات الممكنة
Página desconocida
من الشائع محاولة تعريف الفلسفة من خلال موضوعها، وبالفعل يجد المبتدئ في الفلسفة عادة أن هذه التعريفات السكونية أو الثابتة أكثر فائدة بالنسبة إليه. فهناك تعريف يتخذ صيغة شاملة تعطي لكلتا الطريقتين في النظر إلى ذلك الميدان حقها، يقول إن الفلسفة محاولة مستمرة منظمة «للنظر إلى الحياة في مجموعها، وبطريقة ثابتة». ويفهم هذا التعريف أحيانا بمعنى البحث المنظم عن معان وقيم، وأحيانا أخرى على أنه يوحي باختبار متعمق لطبيعة الواقع، من ذلك النوع الذي يقوم به العالم عندما يبحث في خصائص العالم الفيزيائي أو طبيعة النشاط العضوي. ولكن أيا كانت طريقة فهمنا لهذه العبارة، فالفلسفة هي محاولة دقيقة منظمة للربط بين الكون والحياة البشرية على نحو له مغزاه. وكما قال شخص ما، فإن هدف الفلسفة هو «كشف طبيعة الكون، وعلاقتنا به، وما ينتظرنا فيه، وذلك لغرض مزدوج هو إرضاء عقولنا في سعيها إلى إشباع حب استطلاعها، وقلوبنا في سعيها إلى إضفاء أكبر قدر ممكن من الدلالة والقيمة على الحياة البشرية والتجربة البشرية».
2
إن الفلسفة، (ولا سيما في نشاطها التركيبي)، تمثل الجهود التي ترمي إلى الجمع بين المعرفة كلها والتجربة كلها، سواء منها ما يكتسبه الفرد والجنس بأكمله، في نسق متكامل. وهي تسعى إلى تنظيم كل الحقائق في كل موحد، وإلى أن تستخلص من حياتنا اليومية كل تلك الأوجه الجزئية للتجربة التي ترد إلينا في صورة مجزأة، لكي تمزج بينها في صورة متكاملة. وقد يسمى المفكرون المختلفون هذه الصورة المتكاملة نظرة إلى العالم، أو ترديدا للواقع، أو تلخيصا عاما لطبيعة الأشياء تخطيطا لصورة «المجهول»، أو إطارا يحدد «ماهية الأشياء في ذاتها»، أو تصويرا للمنطق. ولكن أيا كان الاسم الذي نطلقه عليها، وأيا كان ما تمثله في أذهاننا، فإن الدافع الذي يحفز إلى تكوين مثل هذه الصورة واحد في كل مكان وكل عصر: وأعني به زيادة الفهم، وإشباع رغبة الإنسان في أن يعرف؛ وبالتالي جعل الحياة أقرب إلى الفهم وأجدر بأن نحياها في آن واحد.
الفلسفة بوصفها حب الحكمة : نستطيع أن نستشف من المعنى الأصلي للفظ «الفلسفة»، عناصر كثيرة من قصتها. فهذا المعنى كان عند اليونانيين «حب الحكمة»؛ ومن هنا كان الفيلسوف «محبا للحكمة». وقد تفضل وجهة النظر الحديثة النظر إليها على أنها السعي وراء الحكمة أو البحث عنها، غير أن التمييز ليست له على الأرجح أهمية. فالحب يؤدي عادة إلى سعي من نوع ما، وحب الحكمة ليس استثناء لهذه القاعدة. والمهم في الأمر أن الرغبة في الحكمة، لا في الأشياء المألوفة التي يتجه إليها الناس عادة، هي التي تحفز الفيلسوف إلى ممارسة نشاطه. فالمعرفة هي ميله المفضل، والفهم هو هدف حياته. غير أن الفيلسوف يختلف، على الأرجح، عن كثير من أقرانه في درجة الفهم اللازمة لإرضائه. ذلك لأن معظم الأذهان تكون على استعداد للاستقرار والاكتفاء إذا ما جمعت من المعرفة ما يكفي لمواجهة الحاجات العملية للحياة اليومية، أو لجعل أصحاب هذه الأذهان يشعرون بأن لديهم على الأقل بعض الاستبصار بمعنى التجربة البشرية. أما الفيلسوف فلا يقنع بهدف متواضع كهذا، وإنما المعرفة عنده تعني المعرفة الشاملة - أو على الأقل المعرفة التي تكون شاملة بالقدر الذي تتيحه الحياة البشرية القصيرة، والحدود التي لا يتعداها الذهن البشري. فالحكمة الفلسفية تنطوي على نوع من الفهم الأصيل للكون وللتجربة البشرية بأكملها.
الفلسفة بوصفها سعيا عمليا : ومع اعتراف الفيلسوف بأن هدفه أبعد منالا من الأهداف الأخرى الأكثر تواضعا، التي يصبو إليها معظم الناس، فإنه ينكر القول بأن مسعاه أبعد عن الطابع العملي من سائر المساعي البشرية العادية، ذلك لأنه يعتقد أن حافز حب الاستطلاع متغلغل وطبيعي في الإنسان، شأنه شأن أية دوافع أخرى من النوع المسمى «بالعملي»، كاللذة، أو القوة، أو الشهرة، فإذا كان أي نشاط يهدف إلى إرضاء رغبة هو نشاط عملي، فعندئذ يكون البحث عن الفهم أو الحكم، الذي ينشأ عن رغبة من أكثر الرغبات تأصلا في نفس الإنسان، بحثا عمليا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. صحيح أن للفيلسوف عادة من هذا الدافع الخاص أكثر مما لدى معظم الناس، ولكن لا يوجد شخص واحد لا يملك قدرا معينا منه. فحب الاستطلاع جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان، ومعنى أن يكون المرء محبا للاستطلاع هو أن يطلب إجابات عن أية أسئلة تدخل في نطاق عقولنا الدائمة التنقيب؛ ومن هنا فإن المرء عندما يتفلسف فهو إنما يحقق إنسانيته. وسواء أقمنا بهذا التفلسف عن وعي، وباستمرار، وبوصفنا محترفين، أم بلا وعي، وعلى فترات متقطعة، وبوصفنا هواة، فلا بد أن نتفلسف على نحو ما، لمجرد كوننا منتمين إلى نوع «الإنسان العاقل
Homo Sapiens ».
ملخص التعريفات : فإذا ما شئنا تلخيصا لهذه التعريفات المتباينة، كان في وسعنا أن نصف الفلسفة بأنها النشاط الذي يسعى فيه الناس إلى فهم طبيعة الكون، وطبيعة أنفسهم، والعلاقات بين هذين العنصرين الأساسيين في تجربتنا. وهكذا تكون الفلسفة بحثا منظما عن المعرفة، نقوم به عن طريق التفكير المنظم في كشوف العالم، ونتائج المؤرخ، ورؤيا الفنان والشاعر والمتصوف، مع الجمع بين هذه كلها وبين تجربتنا اليومية الشخصية. وتقتضي هذه الأفكار المنظمة من جانبها تحليلا دقيقا لقدرة الذهن على اكتساب المعرفة، بحيث إن جزءا أساسيا من النشاط الفلسفي يتألف من دراسة مصادر المعرفة البشرية ومناهجها وحدودها. ولما كانت المعرفة توصل إلى الغير وتسجل عادة، فإن هذا بدوره قد يؤدي إلى تحليل لوسائل الإنسان في الاتصال بغيره، ولا سيما اللغة.
إننا عندما نتفلسف نحاول الإجابة عن الأسئلة التي تطرأ بأذهان الناس جميعا في وقت ما، عن طبيعة الحياة ومعناها وقيمتها . وهكذا فإن موضوع الفلسفة هو طبيعة الوجود، وطبيعة التجربة، وأخيرا، العلاقة التي تربط بين الإنسان وذهنه وبين بقية الكون. فالسعي الفلسفي هو في أساسه سعي وراء معرفة شاملة عن طبيعة التجربة ومعناها وقيمتها. (5) مشكلات الفلسفة
سرعان ما يتضح لنا، عندما نخوض ميدان الفلسفة، أن دراسة هذا الموضوع تقتضي قبل كل شيء الإلمام بمشكلات معينة. وسرعان ما ندرك أن الفلسفة تدور حول هذه المشكلات الرئيسية، ثم نكتشف بمضي الوقت أن هذه المشكلات وحلولها المتعددة هي ذاتها الفلسفة. والواقع أن تاريخ هذا الميدان هو إلى حد بعيد سجل للإجابات المختلفة التي وضعت لنفس المجموعة من الأسئلة التي تتكرر دائما. ولقد تعددت هذه الإجابات بقدر ما تعددت الأذهان التي وضعتها، وبلغت من التباين حدا يصعب معه أحيانا الاعتقاد بأن المقصود منها هو أن تكون إجابات لنفس المجموعة من المشكلات. ومع ذلك فهناك من وراء هذا كله لب عميق من المشكلات الدائمة التي ناضلت حولها أجيال متعاقبة من المفكرين. فالمجتمعات تتغير، والمدنيات تنشأ وتنهار، ولكن كل عصر وكل مجتمع تقريبا، يخلف وراءه من الآثار ما يكفي لإثبات أنه قد صارع بدوره مع المشكلات القديمة جدا، والباقية على الدوام، للفلسفة. وسوف نعالج معظم هذه المشكلات الكبرى بشيء من التفصيل في الفصول القادمة، ولكن قد يكون من المفيد ها هنا أن نقدم وصفا موجزا لبعضها، ما دامت هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها تكوين فكرة عن نطاق الفلسفة وأهدافها.
المشكلة الأساسية : كانت المشكلة الأساسية في الفلسفة التقليدية أو الكلاسيكية هي دائما: بماذا تتعلق التجربة البشرية بأسرها؟ هذا السؤال، إذا ما فهمت دلالته الكاملة، لاتضح أنه يلخص (أو يتضمن على الأقل) معظم المشكلات والمسائل الأخرى التي تعالجها الفلسفة. فالفيلسوف المحترف يسأل هذا السؤال دائما في صورة مجردة ما، مثل: ما طبيعة الحقيقة النهائية؟ أما غير المتخصصين فهم أقرب إلى أن يصوغوا هذا السؤال بطريقة مثل: ما معنى الحياة والكون؟ وبينما هذا السؤال الأخير يقتضي إجابة مختلفة إلى حد ما، فإنه بدوره يشير إلى نفس المشكلة الرئيسية . وأيا كانت طريقة صياغته ، فإنه هو السؤال الأساسي الذي يبني حوله أي مذهب في الفلسفة. ويمكن القول إن كل شخص قد تساءل هذا السؤال، بصورة ما، في وقت معين من حياته، بغض النظر عن ذكائه، أو مدى ثقافته، أو عدم اكتراثه الظاهري بالتأمل الميتافيزيقي.
Página desconocida
مشكلة علاقة الإنسان بالكون : وهناك مشكلة أخرى يتعين على الفلسفة مواجهتها، وهي متولدة عن تلك التي عرضناها منذ قليل. هذه المشكلة خاصة بالعلاقة بين الإنسان وبقية الكون. وهناك من المفكرين من يعتقدون أن هذا أهم سؤال نستطيع أن نتساءله؛ إذ إنه رغم أنه قد يكون أضيق نطاقا من البحث الأول الشامل في طبيعة الواقع، فإنه أوثق اتصالا بتجربتنا اليومية؛ ذلك لأن هذا التساؤل الخاص بالعلاقة بيننا وبين بيئتنا قد يكون أهم بالنسبة إلى سعادتنا ورفاهنا من أي سؤال غيره.
ولقد كان الناس في العصور الوسطى يعتقدون أن الكون (بقدر ما كان معروفا في ذلك الحين) لم يخلق إلا ليكون تابعا لكوكبنا، الذي هو بدوره موجود بوصفه مسرحا تمثل عليه دراما الخلاص الكبرى. وبطبيعة الحال كان لهذه النظرية الكونية المتمركزة حول الأرض، تأثير مباشر في تلك النظرة إلى الأشياء، المتمركزة حول الإنسان، وقد اتضح ذلك عندما تقدم كوبرنيق لأول مرة بنظامه الفلكي معارضا به هذه النظرة القديمة. فقد كان الحجة الأخلاقية الكبرى ضد النظرة الجديدة «المهرطقة» هو أنها حطت من قدر الإنسان لأنها أزاحته من مكانته المركزية في الكون، بحيث لم يعد يبدو هو الشخصية الرئيسية في المسرحية الكونية الكبرى. وبينما أي رأي كهذا في علاقة الإنسان بالكون يبدو في نظر العلم الحديث ممتنعا وذاتيا مفرطا، فما زالت هناك من الاختلافات في الرأي حول التحديد الدقيق لطبيعة هذه العلاقة ما يكفي لشغل أوقات الفلاسفة في عمل لا يتوقف. (6) مشكلات الدين
الخلود : كل هذا يؤدي إلى مشكلات أخرى قد تكون أشد إلحاحا، وهي مشكلات لا بد أن تعترف الفلسفة بأنها تنتمي إلى مجالها الخاص. فالبحث في طبيعة الكون وعلاقته بالإنسان يؤدي بنا إلى سؤال يراه الكثيرون أشد الأسئلة التي يتعين على الفلسفة أو الدين أن يواجهها إلحاحا، وأعني به: إلى أين نذهب؟ والواقع أن معظم الأذهان ترى أن لغز المصدر الذي أتينا منه أقل أهمية بكثير من السؤال عن سبب مجيئنا هنا، وعن الوجهة التي سنقصدها فيما بعد. فهم على استعداد لاستبعاد مشكلة أصل الإنسان بوصفها سرا لا أمل فيه، أو على الأقل شيئا ليست له إلا أهمية أكاديمية في المحل الأول. أما مشكلة هدف الحياة والمصير النهائي، فهي مشكلة لا يستطيع إنسان أن يتجنبها. فلا بد أن يكون لكل فرد رأي ما في موضوع الخلود، وهنا أيضا نجد الفيلسوف لا يختلف عن معظم الناس إلا في أن آراءه في الموضوع قد اكتسبت بعد تفكير أعمق، وربما كانت أكثر اتساقا مع الصورة العامة التي يكونها عن الواقع.
الخلود بوصفه مشكلة فلسفية : يرتبط البحث الجاد في الخلود الإنساني عادة بالدين واللاهوت، ونتيجة لذلك فإن الطلاب كثيرا ما يدهشون إذ يعلمون أن الفلسفة تبدي اهتماما جديا بهذا الموضوع. ومع ذلك فإننا إذا ذكرنا أنه لا يوجد في التجربة البشرية شيء يخرج عن مجال الفلسفة - لا سيما إذا كان متعلقا بالمعاني والقيم النهائية - فلن يدهشنا أن تقع مسألة لها كل هذه الأهمية بالنسبة إلى الدين والأخلاق، تحت أعين الفيلسوف الفاحصة.
ونستطيع أن نتوقع أن تكون طريقة معالجة الفلسفة لهذه المشكلة مختلفة اختلافا كبيرا عن طريقة معالجة الدين لها؛ ذلك لأن الميتافيزيقي، على الأقل لن ينظر على الأرجح إلى الخلود على أنه «مصادرة ضرورية» للحياة الأخلاقية، بل إنه سيسترشد على الأرجح بالأدلة العلمية في بحثه عن جواب لهذا السؤال الهائل. وهو يلح عادة على استطلاع الإمكانيات الفعلية لبقاء الشخص بعد الموت استطلاعا كاملا، ويطالب بمناقشة المسألة بأسرها دون مسلمات قبلية حول «ضرورة» الخلود أو علاقته المفترضة بالأخلاق. وحتى لو كان الفيلسوف يعتقد أن من الممكن إثبات البقاء بعد الموت على أسس عقلية، أو أن نظرته إلى العالم تجعل منه على الأقل إمكانا مثيرا، فيكاد يكون من المؤكد أنه سيفسر أي وجود كهذا على أسس تختلف عن الأسس التقليدية في التفكير الديني؛ ذلك لأن العلاقة بين الحياة الأرضية وبين البقاء بعد الموت تتمركز عادة، بالنسبة إلى رجل اللاهوت، حول نقاط معينة كالأخلاق، والعدالة الإلهية، والقصاص وما إلى ذلك. ففي جميع الأديان تقريبا، يرتكز الخلود على الافتراض القائل إنه حالة ينبغي «اكتسابها»، وهذا يؤدي إلى الربط بينه وبين بقية تجربتنا على أسس أخلاقية في المحل الأول. أما الفيلسوف فيهتم، على الأرجح، بالعلاقات بين هذا البقاء وبين تجربتنا الكاملة - وضمنها قراراتنا ومعاييرنا الأخلاقية بالطبع - ولكن ضمنها أيضا عناصر كثيرة غير هذه. فالفلسفة إذ تنظر إلى الكون نظرة شاملة لكل شيء، لا تقتصر على النظر إلى الحياة من زاوية «الخير» و«الشر» و«الخطيئة» و«الخلاص»، ومن ثم فهي تنظر إلى مسألة الخلود بدورها من زاوية واسعة، فتحاول الربط بينها وبين طابع الكون في مجموعه، بدلا من طابع الإنسان أو الخلاص الإنساني.
مشكلة الله : لا يشعر المبتدئ في الفلسفة عادة بدهشة كبيرة عندما يعلم أن مشكلة «الله» تمثل إحدى المشكلات في ميدان الفلسفة. إذ إن موضوع الألوهية عادة يتمثل لنا موضوعا لا يقتصر معالجته على الدين وحده، على خلاف الحال في موضوع الخلود. ومع ذلك فمن الشائع أن يشعر هؤلاء المبتدئون بالدهشة للموقف الذي يتخذه معظم المفكرين من هذه المسألة. فحتى بعد أن يعلم الطالب أننا نستخدم في ميدان الفلسفة نفس منهج التحليل العقلي لكل المشكلات، ونعالجها بموضوعية ونزاهة، فإنه يشعر بعدم الارتياح حين يدرك أن «الله» هو بالنسبة إلى الفلسفة مشكلة عقلية أخرى فحسب. وأحيانا يكون من الصعب إقناع المبتدئ بأن من الممكن (أو حتى من حسن الذوق) أن نتحدث في هذا الموضوع بغير أعين غاضة «منخفضة» وعقل خاشع. والواقع أننا حينما ننبه الطالب في هذا المجال إلى أن الفلسفة لا تعرف جوانب في التجربة البشرية تكون «مقدسة»، بمعنى أنها تظل بمنأى عن التحليل العقلي، فإن هذا التنبيه كثيرا ما يبدو له موقفا غير لائق؛ ذلك لأن البحث في مشكلة الله دون إبداء خشوع أو انفعال يزيد على ما نبديه عند تحليل مفهوم «العلية» (مثلا) يبدو أمرا غير جدير بهذا الموضوع على الإطلاق. وحتى لو فهم الطالب أن موقف الفيلسوف لا ينطوي على أي شيء من عدم الاحترام، وإنما هو مجرد نوع من الضمان الدستوري بأن «كل المشكلات قد خلقت سواء»، فسيظل من المستبعد أن يتمكن من خوض هذه المسألة دون أفكار سابقة؛ ذلك لأن الإيمان بوجود الله قد تأصل في التفكير الغربي منذ أقدم العهود إلى حد أصبح معه أي تحد لهذا الإيمان، أو حتى التفكير جديا في أي بديل عنه، يعد في نظر أذهان كثيرة أمرا لا يتصوره العقل. وحتى لو عقمنا المناقشة تعقيما دقيقا باتفاق جميع الأطراف على أن هذه مسألة أكاديمية بحتة لا ترتبط بالإيمان الديني ارتباطا مباشرا، فسيظل من الصعب على بعض الطلاب أن يهدئوا أعصابهم ويشتركوا في المناقشة بحرية.
ومع ذلك فإن أي شخص يستطيع أن يدرك، بعد أن يمضي في مدرج الفلسفة أياما غير كثيرة، أن مشكلة الله ليست فقط واحدة من أهم المشكلات التي تعالجها الفلسفة، بل هي أيضا من أطرف المشكلات وأكثرها إثارة للفكر. ومن المألوف أن يتبين الطلاب أن الخشوع الذي ضاع من تصور الألوهية قد عوض بمزيد من الاهتمام والإثارة العقلية. ولو كان من حسن حظهم أن يصلوا إلى هذا الكشف، لأصبحوا إلى هذا الحد فلاسفة. (7) مشكلة حرية الإنسان
هناك مشكلة ثالثة تقترن بمشكلتي الله والخلود، هي مشكلة حرية الإرادة. ولقد كان من أهم التغيرات العقلية التي أسفر عنها توسيع نطاق وجهة النظر العلمية، تضاؤل مجالات تجربتنا التي لا تسودها الحتمية الدقيقة. فقد كان الناس في الأصل ينظرون إلى الطبيعة كلها (والطبيعة البشرية بالطبع) على أنها خارجة أساسا عن القانون. فالذهن البدائي كان يرى أنه إذا تدحرجت صخرة على جانب تل، فذلك لأن للصخرة إرادة خاصة بها، يمكن أن تمارس باختيار. أي إن الذهن البدائي كان ينقل حرية الاختيار والحركة التي يستشعرها الإنسان في نفسه بوضوح، إلى كل الأشياء والمخلوقات. فلكل منها إرادة مستقلة ، يمارسها بحرية. على أن هذه النظرية الساذجة قد استبعدت، في معظم أرجاء العالم، بعد أن عرفنا أن الأشياء المادية العادية تخضع لقوانين آلية، على الرغم من أننا لسنا موقنين بعد بماهية هذه القوانين أو طريقة سيرها.
والحق أن نمو العلم قد أحدث تغييرا عميقا في طريقة تفكيرنا، فقد تمكن جاليليو ورفاقه في العمل من صياغة هذه المعرفة المبسطة للواقع الآلي في صورة قوانين لا يتطرق إليها الشك. وفضلا عن ذلك، فقد تبين أن هذه القوانين لا تقبل أي استثناء، وتنطوي على تعاقب دقيق للعلة والمعلول. ومنذ ذلك الحين، أصبح القانون والنظام العلمي يبسط سيطرته على عملية طبيعية بعد الأخرى. وامتدت حدود العالم الخاضع للعلم، من مجال الأجسام المادية، إلى عالم الحياة الحيوانية، ولم يعد أحد يسلم مقدما بأن وجود القدرة على الفعل الحركي يبطل المبدأ الأساسي القائل إن كل تغير ينتج عن تغيرات سابقة من نوع ما - أي إن كل حادث يتحدد بسبب، ويؤدي إلى نتيجة مناظرة له.
ولكن على الرغم من الزحف المتصل للقانون العلمي، فقد كان هناك مجال عظيم الأهمية، هو مجال الحياة البشرية، يعد حتى عهد قريب بمنأى عن أي تطبيق كامل لمبدأ الحتمية هذا فبينما الناس قد تعلموا منذ عهد بعيد أن أجسامهم تخضع لقوانين آلية كثيرة تؤثر في الأشياء غير الحية (كالجاذبية مثلا) فإنهم كانوا يتأثرون دائما بذلك الشعور الذي لا يمكن إنكاره، وأعني به الشعور بأننا أحرار في مجال الاختيار والإرادة. هذا الشعور بالحرية يبلغ من الأهمية في التجربة البشرية حدا يجعل معظم الناس يسلمون دون جدال بأنه إذا كانت أفعالهم خاضعة للعوامل الفيزيائية، فإن إرادتهم تستطيع الاختيار على نحو يستقل عن أية سوابق. والواقع أن هذا الشعور يبلغ من القوة، ويكاد يبلغ من الشمول، حدا يجعل من العسير على أي شخص ليس لديه تكوين علمي أو فلسفي متعمق، أن يعترف باحتمال أن يكون فعله واختياره معا متحددين تماما بحوادث سابقة (هي في العادة فعل واختيار سابقان)، شأنها في ذلك شأن أي حادث آخر في الطبيعة.
Página desconocida
حرية الإرادة في مقابل الحتمية : على الرغم من أن علم النفس الحديث قد دعم وجهة النظر الحتمية بقوة، فإن الحتمية ما زالت حتى الآن فرضا لم يتم إثباته؛ ومن ثم فإن المجال يكون فسيحا للجدل الفلسفي حول مسألة حرية الإرادة في مقابل الحتمية. فلما كان موقف المذهب الحتمي منفرا تماما لمعظم الأشخاص ذوي الميول الدينية أو المثالية القوية، فإن المشاعر الفلسفية تحتد حول هذه المسألة، على الأرجح، أكثر مما تحتد حول أية مشكلة أخرى في ميدان الفلسفة، فالذهن الميال إلى المذهب المثالي يرى في توسيع نطاق الحتمية الدقيقة بحيث تمتد إلى مجال الحياة البشرية، أنكارا لتلك القدرة التي ترى أمثال هذه الأذهان أنها هي المميزة للإنسان بحق؛ وأعني بها القدرة على اتخاذ القرارات الأخلاقية. أما الحجج القوية التي يأتي بها مذهب الحتمية (وهي الحجج التي سنعرضها بالتفصيل في فصل تال) فلا يبدو لها، في نظر أصحاب النزعات المثالية الواضحة، من القوة ما يبرر إنكار حرية الإرادة.
على أن أيا من جانبي النزاع الحاد الخاص بحرية الإرادة لم يفلح في قهر الجانب الآخر، وما زالت هذه المشكلة، على الأرجح، أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج الآخر، وما زالت هذه المشكلة، على الأرجح، أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج والمتاعب. ولكن هناك على الأقل احتمالا في أن يؤدي تطور علم النفس إلى تسوية نهائية لهذه المسألة القديمة العهد. ولو حدث ذلك لكان هذا يوما سعيدا لأمها الفلسفة؛ إذ إن هذا سيثبت مرة أخرى رأيها القائل إنه ليس كل أفراد ذريتها حالات مستعصية يستحيل تقويمها. ولا جدال في أن الفلسفة سوف يسعدها التخلص من هذه المشكلة؛ إذ لا توجد من المشكلات ما أثارت من المتاعب بقدر ما أثارت هذه. (8) الميدان الأخلاقي ومشكلاته
والمسألة الرئيسية التالية التي يتعين على الفيلسوف المتخصص أن يعالجها هي أقرب الألغاز الفلسفية إلى الطابع العملي. ففي وسع المرء أن يستبعد المشكلات التي عرضناها حتى الآن، على أساس أنها ليست بذات أهمية عملية ملحة، مهما تكن حقيقتها ودلالتها من حيث هي مشكلات عقلية، ولكن ها هي ذي مشكلة تعد أكثر المشكلات الإنسانية الكبرى اتصالا بالإنسان، وأعمقها تأصلا فيه، وربما أشدها إلحاحا عليه، وأعني بها: ما الحياة الخيرة؟ أما أولئك الذين ينفرون من أي سؤال يتضمن لفظ «الخير» خشية أن يؤدي إلى إقحامهم في جدل حول الأخلاق، فمن الممكن أن نعيد صياغة السؤال لهم دون أن يفقد شيئا من دلالته، بحيث يصبح: ما أهم شيء في الحياة؟ أو (إذا شئت أن نستخدم صيغة يشعر مؤلف الكتاب نحوها بميل شخصي قوي): ما أكثر شيء يجعل الحياة جدية بأن نحياها؟
والواقع أن مشكلة الخير الأقصى أو النهائي، وطبيعته وعلاقته بكل القيم، هي من أهم الموضوعات التي يبحث فيها ذلك الفرع من الفلسفة المسمى «بالأخلاق». وهناك احتمال في أن الفصول القادمة التي تعالج المشكلات الأخلاقية ستكون هي أطرف المشكلات في نظر أغلبية من القراء. فمثلا: هل «السعادة» أهم شيء في الحياة؟ وإن كان الأمر كذلك، فما علاقة السعادة «باللذة»، التي كان السعي إليها يعد، تقليديا، من البواعث الرئيسية للسلوك البشري؟ وهل يمكن أن يكون تحقيق نوع من «الكمال» أهم حتى من بلوغ السعادة، أم أن «خدمة الآخرين» قد تكون هي أقصى خير في الحياة؟ وما موقع «الواجب» و«الالتزام»؟ وما العلاقة بين كل من هذه المعاني النهائية المحتملة في الأخلاق، وبين حياتنا ككل، وما تأثير كل منها في حياتنا اليومية لو اخترناه بوصفه الخير الأسمى
Summum Bonum ؟
من الواضح أن الأخلاق هي أقل فروع الفلسفة تعرضا للاتهام بالبعد عن الميدان العملي. ذلك لأنه أيا ما كان رأينا في أهمية الأسئلة من أمثال «من أين نأتي؟» أو «إلى أين نذهب؟» فإن السؤال عما ينبغي أن نفعله خلال حياتنا هو سؤال عملي تماما. فمسألة ما يتعين علينا أن نفعله بأيامنا وما ينبغي أن نحاول صنعه بحياتنا، هي في نظر الناس جميعا أشمل الموضوعات العملية وأعظمها أهمية. قد يكون المثقفون وحدهم هم الذين يرون جدوى في البحث النظري حول طبيعة الحقيقة النهائية، ولكن الناس جميعا، حتى أقلهم حظا من الثقافة، يجدون أنفسهم أحيانا منغمسين في مجادلات عنيفة حول طبيعة الحياة الخيرة، وما إذا كان من واجبهم أن يفعلوا هذا أو ذاك. وإذا كنا موقنين بأن التفلسف أمر لا مفر منه، فإن الأمر الأكثر من ذلك يقينا هو أنه ليس ثمة مهرب من ضرورة اتخاذ قرارات أخلاقية على الدوام. وفي هذا المجال يكون الدور الأكبر للفيلسوف هو أن يجعل هذه القرارات عاقلة ومنطقية ومرضية بقدر الإمكان. وتشكل محاولة جعل هذه القرارات على هذا النحو موضوع «علم الأخلاق».
وهناك مشكلات أخرى عديدة تنتمي إلى أسرة الفلسفة الكبيرة، بعضها له من الأهمية ما يستحق معه أن نفرد له فصلا مستقلا في الصفحات التي ستأتي فيما بعد. فسوف تقتضي مشكلة الحقيقة والمشكلات المعقدة المتعلقة بعلم الجمال اهتماما خاصا، ما دامت تنطوي على مشكلات تتعلق بالفلسفة ككل. ومع ذلك فالأفضل أن نرجئ أية إشارة إلى هذه المشكلات حتى نكون متأهبين تماما لبحث ما تنطوي عليه من صعوبات؛ إذ إن أي تقديم موجز لهذه المشكلات قد يبعث في القارئ مزيدا من الحيرة، بدلا من أن يساعده على فهمها. (9) هدف الفلسفة
لا بد أن يكون قد اتضح لنا الآن أن المهمة التي يأخذها الفيلسوف على عاتقه ليست مهمة هينة أو هدفا متواضعا. فالفيلسوف - كما أحسن أفلاطون التعبير عن مهمته - هو من يشاهد كل زمان وكل وجود. وهو إذ يتخذ من المعرفة كلها ميدانا له، ومن التجربة بأسرها مادة خاما لبحثه، يهدف إلى وضع مركب لا يخرج عنه أي وجه للوجود، أو أي جزء من الفكر، أو أية ذرة من الواقع. وعلى ذلك فكل شيء في الكون داخل في نطاق التجربة البشرية، يدخل أيضا في نطاق الفلسفة. وكل ما يمر بنا، أو يؤثر فينا أو يترك أي أثر في وعينا، يهم الفيلسوف. وهو لا يستطيع أن يقبل أي مثل أعلى أقل من تكوين صورة شاملة تامة التوحد للواقع، وهو يقصد بالواقع عادة مجموع التجربة كلها - من ماضية وحاضرة ومستقبلة، وفعلية وممكنة. فكل شيء، في كل مكان، وحيثما حدث، هو وقود لآلة الفيلسوف الذهنية.
أما مسألة تحديد المدى الذي يستطيع الذهن البشري أن يذهب إليه من أجل بلوغ مثل هذا المثل الأعلى الهائل، فلا بد لبحثنا من الانتظار حتى نعالجها في الفصول القادمة. أما الآن فحسبنا أن نذكر أن لدى الفيلسوف شعورا واضحا كل الوضوح بأن مثل هذا المثل الأعلى لم يتحقق حتى الآن. وفضلا عن ذلك، فقد يكون من الأفضل الاعتراف صراحة بأن هناك مفكرين محدثين كثيرين يؤمنون باستحالة بلوغ هذا الهدف. فهناك جزء كبير من النشاط الفلسفي المعاصر يتركز حول السؤال: ما هي قدرات الذهن، وما هي بالضبط حدود المعرفة البشرية؟ ولكن على الرغم من هذه الشكوك الحديثة في قدرة الذهن البشري على بلوغ ذلك الهدف الذي كان الفيلسوف يضعه نصب عينيه في العصور السالفة، فإن هذا الهدف ما زال مثلا أعلى. ومن المؤكد أن الرغبة في معرفة أشمل وفهم أوسع، هي بالفعل الدافع الأساسي لوجود كل فيلسوف أصيل.
الفلسفة بوصفها نشاطا يمارسه البشر أجمعون : لا يمكن أن يكون هناك مفر من هذه المحاولة للتفكير منطقيا حول تجربتنا في مجموعها، ولجعلها معقولة بقدر الإمكان. قد يختلف الأفراد في درجة المعقولية التي يبحثون عنها وسط التجارب اليومية المختلطة، ولكن لا بد لكل منا، لكي يجد الحياة محتملة، من أن يكتشف نظاما وإحكاما ما في المادة الخام التي تتدفق إلى وعينا ساعة بعد ساعة أثناء مضي حياتنا. فكلنا - حتى أقلنا ثقافة أو أكثرنا سذاجة - نقوم بالضرورة بجهد لا ينقطع من أجل الاهتداء إلى معنى من وراء الافتقار الظاهر إلى المعنى، ومن أجل كشف وحدة تحت التنوع السطحي، ومن أجل فرض قدر معين من النظام على الفوضى البادية لتجربتنا الشخصية - وهذا الهدف الأخير هو أهم هذه الأهداف جميعا. وربما كان قدر كبير من هذه الجهود غير واع أو غير واضح المعالم، غير أنه لا مفر لنا من بذلها. فبعض النظر عن عمرنا أو مهنتنا، أو تعليمنا، أو المدينة التي نعيش فيها، فإن هذا الجهد يمثل الحد الأدنى من النشاط العقلي على المستوى الإنساني للوجود.
Página desconocida
وهذا بعينه هو ما يفعله الفيلسوف بدوره. فإذا كانت الفلسفة، كما يعتقد الكثيرون، تمثل الحد الأقصى من النشاط العقلي، فمن الواجب أن نستنتج أن الحد الأدنى الذي لا مفر منه، وكذلك الحد الأقصى للفكر البشري، يتعلقان معا بمهمة واحدة: هي كشف النظام والمعنى في تجربتنا التي تنساب من لحظة إلى أخرى. أما الفارق الأساسي بين هذين المستويين العقليين فقد أشرنا إليه من قبل. فالفيلسوف يزاول عن وعي نشاطا يشغل وقته بأكمله، على حين أن معظم الأذهان تزاول عن غير وعي نشاطا متقطعا. غير أنهما معا يسيران في طريق واحد. ومن الطبيعي أن يقطع المسافر المتفرغ للسفر شوطا أبعد، ويرى خلال الطريق أمورا أكثر بكثير، ولكن لا مفر للاثنين معا من أن يكونا رفيقي طريق. وسواء شئنا أم لم نشأ، فلا بد لنا جميعا، بوصفنا بشرا، من أن نسير على نفس الدرب. أما إلى أي مدى نذهب، وما مقدار ما نهتدي إليه أثناء سيرنا، فهذا أمر يتوقف على ذكائنا، ومزاجنا، وتعليمنا، ومع ذلك، فليس لنا مفر من القيام برحلة ما.
إننا لن نحاول في الصفحات الآتية أن نفرض على الطالب أية مجموعة من الإجابات على هذه المشكلات الكبرى للعالم الفلسفي، بل سنحاول طوال الوقت أن نقدم أوفى موجز ممكن للإجابات الرئيسية التي صاغتها المدارس المتعددة وأقطابها الأفراد، حتى نعين القارئ على تنظيم آرائه وتجاربه الخاصة في كل أكثر إحكاما وإرضاء. ونحن لا نستطيع أن نعد القارئ بأنه سيجد في الفصول التالية إجابات على كل الأسئلة النهائية، ولكن أغلب الظن أن الطالب المفكر سيجد على الأقل أن ضوءا جديدا قد ألقي على هذه المشكلات العسيرة. والأهم من ذلك هو أن من المحتمل أن يجد هنا مادة خاما تسهم بدور هام في تمكينه من صياغة وجهة نظر فلسفية خاصة به.
الفصل الثاني
الفلسفة وجيرانها
لا بد أن يكون القارئ قد شعر، عند هذه النقطة من دراستنا، بشيء من الحيرة حول العلاقات بين الفلسفة وبعض الميادين الفكرية الأخرى. فمن الجائز أن كثيرا من التعريفات التي قدمناها توحي بأن الفلسفة تتداخل مع اثنين على الأقل من جيرانها، هما: العلم والدين، وربما تكرر عملهما بلا داع. أليس معنيا، في المحل الأول، بطبيعة العالم الفيزيائي وتركيب الكون؟ أليست هذه المسائل بعينها هي موضوع اهتمام الفيزياء والكيمياء والفلك والجيولوجيا؟ أولم تقدم هذه العلوم إجابات كاملة ومحددة إلى حد معقول؟ وما الذي يستطيع الفيلسوف أن يفعله أكثر من ذلك - بل ما الذي يستطيع أن يريده أكثر من ذلك؟ أما فيما يتعلق بالأسئلة العظيمة الأهمية، المتعلقة بدور الإنسان في الكون ومعنى تجربتنا، فأي هدف يمكن أن يكون للدين سوى تقديم إجابات عن هذه الأسئلة؟ وهنا أيضا نتساءل: أي دفاع نستطيع أن ندافع به عن الفيلسوف وعمله؟
في اعتقادنا أن أفضل وسيلة لاكتساب مزيد من الفهم لميدان الفلسفة، بعد التعريف المبدئي لميدانها، الذي عرضناه منذ قليل، هي أن نعالج الموضوع بطريقة سلبية ونوضح ما لا تكونه الفلسفة. فمع اعترافنا بأن ميدان الفلسفة له صلات هامة جدا بالعلم والدين معا، وبأنه يسعى إلى الإتيان بإجابات أساسية من نفس النوع الذي يسعيان إلى الإتيان به، فإن الفوارق بين الميادين الثلاثة من ذلك أهم مما بينها من أوجه الشبه. فإذا استطعنا أن ننفذ إلى أعماق هذه الفوارق في الغاية والمنهج معا، لقطعنا بذلك شوطا لا بأس به في سبيل فهم روح الفلسفة ومضمونها.
إن للفلسفة، شأنها شأن كل ميادين النشاط البشري، صلات وثيقة بالبعض من جيرانها، وصلات سطحية فقط بجيران آخرين. وأقرب صلاتها هي تلك التي تجمعها بالعلم من جهة وبالدين من جهة أخرى. وهناك ارتباطات أقل وثوقا، بين الفلسفة وبين الفن والأدب، على الرغم من أنه لا يوجد، كما رأينا من قبل؛ أي ميدان للنشاط وأي ميدان للفكر يعد خارجا تماما عن مطلق البحث الفلسفي. فكل شيء يسهم في هذا البحث، وما كان اختيارنا للعلم والدين على التخصيص لإجراء هذه المناقشة الخاصة المتعلقة بالفلسفة إلا أن أهميتها بالنسبة للبحث الفلسفي أعظم. كذلك فإن الخلط بين مجال الفيلسوف وبين هذين الميدانين المجاورين له ، هو أكثر وقوعا من الخلط بينه وبين أي ميدان آخر. وهذا الخلط أمر طبيعي، وما دمنا في الفلسفة نعالج موضوعا قريبا كل القرب من الموضوعات التي يعالجانها. وبالإضافة إلى ذلك فإن المشكلات الخاصة بهذه الميادين الثلاثة تتداخل إلى حد بعيد. وهناك قدر كبير من التشابه في اللغة المستخدمة فيها. ولكن، مهما كان هذا الخلط أمرا طبيعيا، فإن تخليص تفكيرنا منه أمر لا بد منه لأي فهم للفلسفة. ولقد كانت نتائج هذا الخلط خطيرة بوجه خاص في العلاقات بين الفلسفة والدين، وهي العلاقات التي سوف نستهل بها مناقشتنا ... (1) الفلسفة والدين
من أخطر العقبات التي اعترضت عمل المفكر الفلسفي خلال قرون طويلة، الفكرة القائلة إن الفلسفة والدين، نظرا إلى ما في موضوعهما من تداخل جزئي هما توأمان عقليان متلاصقان، لا يستطيع أحدهما أن يذهب إلى أي مكان دون الآخر. ولقد كان هذا الربط مصدر متاعب للتوأم الفلسفي بوجه خاص؛ إذ إن الدين كان عادة يحتل مركز السلطة السائدة؛ وبالتالي كان قادرا على تحديد سرعة أي تقدم واتجاهه. ففي الجزء الأكبر من القرون الوسطى، مثلا، كانت العلاقة الرسمية بين الفلسفة والدين تتلخص في أن للفيلسوف الحرية في الوصول إلى أية نتائج قد يوحي بها تفكيره - شريطة ألا تكون هذه النتائج متعارضة مع نتائج الوحي واللاهوت المقدس. ومن الجائز أن عددا قليلا من مفكري العصور الوسطى هو الذي وجد في هذا القيد من المضايقة ما قد يجده فيه معظم فلاسفة اليوم، ولكن من الواضح أن ذلك القيد لم يكن متمشيا مع الحرية العقلية كما نفهمها في وقتنا الحالي. وعلى حين أن سيطرة الدين على الفلسفة لم تكن دائما كاملة بالقدر الذي كانت عليه في العصور الوسطى، فإن الكنيسة (في فرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي معا) لم تكن على استعداد، خلال الجزء الأكبر من تاريخها الطويل، للسماح للفكر النظري بالتنقل بحرية في جميع أرجاء عالم الفكر. ذلك لأن الكنيسة كانت عادة تبدي رغبتها في أن تقوم هي، على الأقل، بإصدار جوازات السفر التي تبيح القيام بأمثال هذه الرحلات، وبذلك تحتفظ لنفسها بسلطة البت فيمن يسمح له بالسفر الفلسفي. والواقع أن الفلسفة لم تتمكن من التحرر من هذه القيود إلا منذ أقل من قرنين من الزمان، حتى في البلاد الديمقراطية الليبرالية ذاتها، بل إن هذه الحرية قد اكتسبت، في مجالات معينة، منذ وقت يذكره أناس ما زالوا أحياء. ولما كان هذا الاستقلال قد اكتسب بعد كفاح مرير، فمن المنطقي أن تنظر إليه جماعة المشتغلين بالفلسفة على أنه أهم الحريات المدنية، وأن تعده جديرا بأن يحفظ بأي ثمن.
صعوبة المحافظة على الاستقلال : على الرغم من أن الفلسفة قد وصلت آخر الأمر إلى موقف تستطيع أن ترفض فيه الاعتراف بأي واجب نحو العقيدة، أو قبول أي مركز خاضع لها، فقد أتت أوقات كان الفيلسوف يبدو فيها كما لو كان قد قفز من المقلاة إلى النار. ففي صراعه للتحرر من سيطرة الدين، كان طبيعيا أن يتحالف مع العالم، الذي مر بتجربة مشابهة لتجربة الفيلسوف إلى حد بعيد قبل حصوله على استقلاله. وفضلا عن ذلك فإن النمو الرائع للعلم خلال الفترة التي كانت الفلسفة فيها تكافح في سبيل استقلالها، كان أحيانا يشعر الفيلسوف بخشوع مفرط، بحيث اتجه في أحيان معينة إلى ربط تفكيره بذيل «طيارة» العالم ربطا أوثق مما ينبغي. وسوف يتضمن الفصل التالي مزيدا من المعلومات عن هذا الخضوع الممكن من الفلسفة للعلم. ولكن مهما تكن حقيقة هذا الخطر، فإن المشكلة الرئيسية، من الوجهة التاريخية، كانت المحافظة على التأمل الفلسفي متخلصا من القيود اللاهوتية؛ لذلك سنبدأ تحليلنا للارتباطات بين الفلسفة وجيرانها ببحث علاقاتها بالدين. (2) الفرق بين الفلسفة والدين
الفارق الأول: الموضوع
Página desconocida
تختص الفلسفة، شأنها شأن الدين، بوضع إجابات على أسئلة نهائية معينة. والأسئلة التي يشترك فيها الميدانان بوضوح هي أصل الإنسان ومصيره، وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه، وطبيعة الله، وعلاقة الإنسان بالله، وخلود النفس، وحرية الإرادة، وعلاقة السلوك الإنساني بالسعادة الإنسانية. ولا شك أن اشتراك الميدانين، من حيث الموضوع، في مثل هذه المشكلات الكبرى، يكفي في ذاته لكي يجعل الميدانين يتداخلان تداخلا جزئيا. ومع ذلك، فهناك على الأقل أربعة أمور تفصل بين الميدانين فصلا أوضح بكثير. فمن الملاحظ أولا أنه، بينما نجد أن جزءا كبيرا من الموضوعات التي يبحثانها مشترك بينهما، فإن جزءا كبيرا منها مختلف أيضا. فالفلسفة مثلا تتعمق في مشكلة قدرة الذهن على معالجة تجربته معالجة كافية. أما الدين فيحل هذه المشكلة عادة بافتراض مصدرين للمعركة، هما العقل والإيمان، ولا يحلل قدرات أي منهما على أي نحو من الدقة التي تحللها بها الفلسفة. كذلك فإن الفلسفة أكثر اهتماما بالمشكلات العلمية وشبه العلمية، كأصل الكون المادي وتاريخه وقوانينه وتركيبه العام، وأصل الحياة وتطورها، وطبيعة العلية، وما إلى ذلك. ويمكن القول بوجه عام إن مجال نشاط الفيلسوف أوسع من مجال نشاط رجل الدين؛ ومن ثم فإن المشكلات التي يعالجها الفيلسوف تشمل نطاقا أوسع بكثير. وعلى أية حال، فمن الإنصاف أن نقول إنه بينما الاثنان يبدآن بكثير من المشكلات المتماثلة، فالأرجح أن يظل الفيلسوف، بعد مضي وقت طويل من اهتداء المفكر الديني إلى إجابات مرضية، يناضل بعنف في سبيل الاهتداء إلى ما يعده «حلولا أفضل» لنفس المشكلات. والمقصود بهذه الحلول الأفضل، إجابات أدق وأشمل. وبهذا تكون الفلسفة ميالة إلى النظر إلى الأذهان الدينية على أنها معرضة لقبول حلول أسهل مما ينبغي. وأخيرا فأغلب الظن أننا في أية لحظة نرقب فيها الفيلسوف وهو يعمل، سنجده يناضل لحل مشكلات لا تهم اللاهوتي إلا بطريق غير مباشر، إن كانت تهمه على الإطلاق. أي إن الفلسفة، بوجه عام، تتجاوز اللاهوت في نطاقها ومدى تحليلها لأية مشكلة تبحثها.
الفارق الثاني: المناهج
والفارق الثاني بين الميدانين مرتبط بالأول، وهو متعلق بالمناهج التي يستخدمها كل منهما. فالدين، كما رأينا منذ قليل، يقبل قضايا معينة على أنها موضوعات للإيمان - أي يقبلها تصديقا - على حين أن الفلسفة لا تقبل ذلك. ولعل من المفيد - دون الدخول في استطراد طويل نناقش فيه منطق الإيمان أو سيكولوجيته - أن نشير بإيجاز إلى معنى «الإيمان» ما دام هذا اللفظ يستخدم عادة في الدوائر الدينية والفلسفية معا ، فاللفظ، في معناه العادي، يدل على قبول رأي أو مذهب على أنه ينطوي على حقيقة لا تستمد من المصادر الحسية أو من العمليات العقلية. ويعد ذلك المذهب عادة ذا أصل من نوع إلهي أو خارق للطبيعة، فهو نتيجة «للوحي»، الذي يدل بدوره على أية وسيلة يتلقى بها الإنسان مباشرة اتصالا من العالم الخارق للطبيعة. وقد يكون هذا المصدر كتابا (كالكتب المقدسة)، أو أحاديث نبوية، أو تجارب صفوية من نوع ما. ومع ذلك فلا بد أن يكون الوسيط المباشر للوحي إنسانا ما، ولكن قدرته على أن يكون حلقة اتصال بين الله والناس العاديين تؤخذ بدورها على أنها موضوع للإيمان.
ومن الصحيح بالطبع أن المفكر الديني يستخدم المنطق والعقل، ويحرز في ذلك نتائج رائعة، عند شرحه لتفاصيل هيكل التفكير الديني، غير أن المنطق والعقل يستخدمان هنا لإضافة أدلة عقلية إلى ما يقبله هو، مع سائر المؤمنين. على أساس الإيمان. وفي معظم حالات التفكير الديني، نجد أنه إذا ظهر تعارض أو تناقض بين وحي «الإيمان» وثمار «العقل»، فإن الأخيرة تخضع للأولى، وتخلي استنتاجات العقل مكانا لمشاعر الرضا التي يستطيع الإيمان بعثها فينا. أما في الفلسفة فإن للعقل والمنطق دورا رئيسيا. فالفيلسوف على استعداد تام (بل هو حريص كل الحرص) على صياغة نظرة إلى العالم ترضي مطالب الرأس والقلب معا، أما إذا لم يكن هناك مفر من التضحية بأحدهما، فهو في الأغلب يضحي بأشواق القلب.
الفلسفة والعقل : كل هذا يعني أن الميل الطاغي للفيلسوف إنما هو الميل إلى المعرفة، مهما يكن الثمن: فإذا ما أدى بحثه وراء المعرفة والفهم إلى تفسير للتجربة يوازي تفسير معظم الأديان، كان ذلك أفضل. أما إذا أدى استدلاله بمنطق محكم إلى نظرة للعالم لا تكون لحياتنا فيها من غاية أو قيمة إلا ما نستطيع تحقيقه بجهودنا الخاصة في عالم غير شاعر بوجودنا ولا مكترث بسعادتنا، فليكن الأمر كذلك. أي إن الفيلسوف يبذل كل جهد للسير وراء العقل إلى أية نتيجة يؤدي إليها. وهو يسعى، بقدر ما في البشر من طاقة، إلى مجاراة العالم وتجاهل نزوعه الانفعالي خلال بحثه عن الحقيقة. وفي ذلك يقول برتراند راسل: «إن لب النظرة العلمية هو رفض النظر إلى رغباتنا وأذواقنا واهتماماتنا على أنها تمدنا بمفتاح فهم العالم».
1
وبينما الفيلسوف لا يحقق دائما هذا المثل الأعلى الصارم بنفس الكمال الذي يتعين على العالم أن يحققه به، فإن تفانيه من أجله، بوصفه مثلا أعلى، يفيد في التمييز بين نشاطه وبين نشاط المفكر الديني.
ويذكر مؤلف الكتاب أنه سمع ذات مرة سيدة متقدمة في السن طيبة النوايا، تسأل فيلسوفا صارم الذهن: «ولكن ألا تستطيع أن تقنع نفسك عقليا بمثل هذا الإيمان؟» فكان جوابه الفوري: «أليس ما تعنينه هو: ألا أستطيع أن أبرر لنفسي
2
هذا الإيمان؟» وهو يعني بذلك عمل نفس الشيء الذي يحرص العالم والفيلسوف معا كل الحرص على تجنبه - ألا وهو ترك انفعالاته، ورغبته البشرية الطبيعية في العيش في عالم ملائم لنا ولغاياتنا، تؤثر في النتائج التي يتجه إليها استدلاله. فمهما تكن ضروب الإرضاء الأخرى التي قد تتيحها الحياة للفيلسوف، فلا بد له من أن يكتسب الرضا العقلي قبل كل ما عداه. وبينما بعض الأشخاص يرون أن أي مفكر يضع رضاء العقل في مرتبة أعلى من رضاء القلب، لا يكاد يكون بشرا، فإن الفيلسوف يرى أن أي موقف مخالف لذلك لا يمكن أن يكون جديرا بكائن مفكر.
Página desconocida
وهناك مشهد معين في إحدى التراجيديات اليونانية القديمة، يمكن أن يبصرنا بطبيعة هذا المسعى الفلسفي. في هذا المشهد يعود أجاكس، وهو أحد أبطال الجيش اليوناني في حربه الطويلة ضد الطرواديين، ولكنه بطل يتسم بشيء من الغباء، يعود إلى داره بعد سقوط طروادة، وهو يتيه فخرا وخيلاء بفتوحاته في ساحة الوغى. وفي آخر الأمر، تشعر آلهة الأولمب المتسامحة ذاتها بالسأم من غروره، وتدبر له عقابا مناسبا؛ ففي ذات يوم تسلبه الآلهة عقله حيث يضطر إلى مهاجمة قطيع من الغنم، وذبح الكثير منها متوهما أنه ما زال يقاتل أهل طروادة. وعندما يستعيد رشده، يكون قد أصبح موضع سخرية اليونان بأسرها؛ فها هو ذا أجاكس، المحارب المغوار، يقضي وقته الآن في ذبح الغنم! على أن مثل هذه السخرية أمر لا يحتمل في نظر شخص لديه دوافع أنانية قوية كهذا البطل السابق؛ لذلك قرر أجاكس، بعد إمعان الفكر في موقفه، أن يعمد إلى الانتحار - وهو الحل التقليدي لمثل هذه المشكلة. فأخذ يشحذ سيفه الذي أصبح الآن مدنسا، ثم تريث لحظة أخيرة محاولا أن يفهم ما الذي حدث له بحيث جعل مكانته كبطل تنحط إلى هذا الحد المؤسف. وقبل أن يغمد سلاحه في نفسه يهتف صارخا للآلهة المنتقمة: «النور! النور! يا ليتني أموت فيه!» في هذه اللحظة الأخيرة من حياة أجاكس، ارتفع إلى المستوى الذي يحاول الفيلسوف أن يعيش فيه في كل الأوقات: فالشوق إلى المعرفة قد سما فوق كل شوق آخر، وهو قد رأى أن الموت يغدو أقل مرارة وإذلالا لو أمكن أن يقترن بالفهم.
التضاد مع الموقف الديني : ليس في وسع الدين أن يقدم نظيرا لهذا الموقف الفلسفي. فالهدف الأول لكل عقيدة تقريبا هو إعطاء أتباعها إحساسا بالسلام والانسجام. وأفضل وسيلة تحقق بها هذا الهدف هي أن تفترض عالما يكون فيه للفرد قيمة وغاية، ويكون فيه لحياته معنى لشيء أو لشخص غيره هو ذاته وغير المقربين إليه. فإذا لم يستطع رجل الدين أن يجد أسبابا عقلية لهذا الاعتقاد، فإنه يجعل العقل خاضعا، ويهيب بالإيمان أن يمده بالاقتناع الذي يفتقر إليه. وعلى قدر ما يطلب الفيلسوف رضا عقليا، يطلب الشخص المتدين رضا انفعاليا. وكل نوع من الذهنين تتملكه الحيرة عادة حين يجد الآخر قانعا بهذا المستوى في الرضا، وكل منهما يجد في الطرف الآخر، في أغلب الأحيان، شخصا ينظر إليه شذرا.
الاختلاف الثالث: المسلمات المبدئية
والعامل التالي الذي يفيد في التفرقة بين هذين الميدانين الكبيرين يتبع العاملين اللذين أوضحناهما عن كثب. هذا العامل هو درجة التسليم التي يأخذ بها كل منهما قبل بدء عملياته العقلية. وهذا يشمل المسلمات والمصادرات وشتى أنواع الأفكار المفترضة.
ففي الفلسفة مثلا يبذل جهد كبير لتجنب التسليم مقدما بأي شيء ما لم يكن ضروريا ضرورة مطلقة، بل إن الفيلسوف يبذل جهدا أعظم للاحتراس من المسلمات الخفية أو اللاواعية. ويشعر الفيلسوف بأن وجود مسلمات غير معترف بها هو إحدى العقبات الكبرى في وجه التفكير الواضح؛ ومن ثم فهو يسعى على الدوام إلى تطهير فكره من أي أثر لها.
مشكلة الله بوصفها مثلا : فلنضرب لذلك مثلا من التضاد بين موقفي كل من الميدانين من مشكلة الله. فاللاهوتي قد يخصص مجلدات لمناقشة طبيعة الله - وعلاقاته بالكون والنفس البشرية الفردية ... إلخ. ولكن مهما طالت مناقشته، ومهما تكن دقة تحليله لفكرة الله، فإن هذا كله يرتكز على أساس افتراض أن الله موجود. وحتى عندما يشتمل التحليل اللاهوتي على ما يسمى بأدلة عقلية على وجود الله، فإننا نجد دائما اقتناعا انفعاليا بهذا الوجود، هو أهم بكثير من أي إثبات مبرهن عليه عقليا. فهناك شيء واحد مؤكد على الأقل في نظر المفكر الديني، مهما تكن الصفات الإيجابية أو السلبية لله، وسواء أكان مشخصا أم غير مشخص، وأيا ما كان دوره في أمور البشر: هذا الشيء المؤكد هو أن الله موجود. فهو يوجد على نحو ما، وفي مقر ما
3
ومعظم اللاهوتيين يعترفون صراحة بأن الله، هو المسلمة الكامنة من وراء كل تفكير لهم. أما المؤمن العادي فقلما يكون شاعرا بأنه يأخذ وجود الله، دون أن يشعر، قضية مسلما بها في أي تفكير يقوم به حول هذا الموضوع. وبالاختصار، فبينما اللاهوتي يعترف عادة بمسلمته الأساسية فإن الذهن المتدين الأقل ثقافة نادرا ما يعترف بذلك.
موقف التجرد في الفلسفة : يتميز موقف الفيلسوف، على خلاف موقف التفكير الديني بمستوييه السالفي الذكر، بأنه موقف تجرد ونظر خالص. فهو يرى أن مسألة الله بأسرها، من حيث وجوده، ومن حيث طبيعته معا، هي مسألة مفتوحة تماما. فالفلسفة لا تعرف «أمورا مقدسة» لا يمكن الاقتراب منها. والمفكر الميتافيزيقي لا يشعر عند معالجته لمفهوم الكائن الأسمى بخشوع يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى من تلك المسائل القصوى التي يحار لها ذهن الإنسان . وإن من أول ما يتعلمه دارس الفلسفة، أن نفس وجود ميدان الفلسفة هذا - بوصفه نشاطا عقليا له دلالته - يتوقف على حقنا في مناقشة أية فكرة، أو أي تصور، أو قيمة، أو قانون، أو نشاط، أو نظام داخل في نطاق التجربة البشرية. وكما يقال أحيانا على سبيل المزاح، فحتى الله نفسه ينبغي «أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدخل مدرج الفلسفة.»
هذا الموقف النظري المتجرد الذي تقفه الفلسفة، يجعل النتائج التي يصل إليها الفيلسوف أقل تعرضا للاشتمال على مسلمات خفية. فهو يختبر تفكيره ويعيد اختباره مرارا، لكي يتأكد من عدم تسلل أية مصادر لم يعترف بها، أو أي افتراض سابق، في لحظة لم يأخذ فيها حذره. والحالة المثلى هي تلك التي يبدأ فيها تفكيره دون أية مسلمات فيما عدا ما هو ضروري تماما لمزاولة هذا النشاط الفكري. وهو يتمنى لو أمكن إنقاص هذه المسلمات إلى اثنتين أو ثلاث، كوجوده الخاص مثلا، ووجود العالم الخارجي ووجود نوع من علاقة المعرفة أو التجربة بينهما. وبينما أنه من المشكوك فيه أن يستطيع كل فيلسوف أن يدعي صادقا أن عتاده العقلي قد أنقص في الأصل إلى هذه العناصر التي لا تقبل مزيدا من النقصان، فإنه يدعي عادة أنه بذل جهدا واعيا للكشف عن جميع المسلمات - وضمنها تلك المسلمات التي لا غناء عنها كهذه التي تحدثنا عنها.
Página desconocida
الفلسفة وحقائق الدين «الواضحة بذاتها» : ينطبق ما قلناه عن فكرة الله على جميع المصادرات الأخرى التي يبنى عليها أي مذهب في الفكر الديني. فكثير من الأديان، مثلا، تبدأ بناءها اللاهوتي بمجموعة معينة من «الحقائق الواضحة بذاتها». هذه الحقائق لا تتعلق عادة بوجود الله وحده، وإنما تتعلق أيضا بقدرته الشاملة، وعلمه المحيط، وحضوره في كل شيء، وخيره المطلق، ودوره بوصفه خالق الكون ... إلخ. وقد تبدو القضايا الإيجابية المتعلقة بهذه المسلمات كلها، في نظر المؤمن، أوضح في حقيقتها من أن تحتاج إلى برهان، فهي تبدو «واضحة بذاتها». ولكنها لا تبدو كذلك في نظر الفيلسوف. فكلمة «واضح بذاته» تمثل تحديا له. وبمجرد أن يرى هذا اللفظ أو يسمعه، نراه ميالا إلى أن يقول: «قف عندك! إن «الواضح بذاته» ليس بالصفة التي يمكن إطلاقها بمثل هذه السهولة. فما الذي تعنيه بها حقيقة وفي نظر من تكون قضيتك واضحة الصحة إلى حد لا تحتاج معه إلى دليل؟» ويلي ذلك عادة مقارنة بين القضية موضوع البحث وبين بعض الأمثلة الكلاسيكية للوضوح الذاتي، كتلك التي تتمثل في البديهيات الكامنة من وراء هندسة إقليدس. ومن هذه النقطة تنتقل المناقشة بالطبع إلى بحث كذلك الذي يقوم به الرياضيون المحدثون أحيانا، حول الوضوح الذاتي لهذه الأمثلة الكلاسيكية ذاتها. وقد يؤدي ذلك منطقيا إلى تحليل لمفهوم الوضوح الذاتي بأسره، وأهميته بوصفه مصدرا للمعرفة، وعلاقته بمشكلة البرهان، وما شابه ذلك. ولكن المفكر الديني يكون خلال هذا الوقت قد انتقل دون شك إلى ما يعتقد أنه بحث فكري أعظم جدوى، مقتنعا بأن هناك من الأفراد الذين سيقبلون قضاياه «الواضحة بذاتها» على أنها واضحة بذاتها حقا، ما يكفي لجعل حديثه إليهم ممكنا.
الاختلاف الرابع: الأهداف
والفارق الرئيسي الأخير بين الفلسفة والدين يكمن في هدفهما أو غايتهما القصوى. وهذا يؤثر بطبيعة الحال في الموقف العقلي الذي يبدأ به نشاط من يمارسونهما كما يؤثر في المناهج التي يستخدمونها. ولقد ذكرنا من قبل أن أول شوق للفيلسوف هو شوقه إلى المعرفة، دون أن يهتم إلا قليلا بالثمن الذي يكلفه بلوغ هذه المعرفة، ودون أن يهتم إلا أقل من ذلك بانسجامها أو عدم انسجامها مع آماله وأمانيه البشرية المتأصلة فيه بعمق. ومن جهة أخرى فقد رأينا أن الهدف الأول للدين هو إعطاء إحساس بالأمان والطمأنينة «لا يستطيع العالم أن يعطيه إيانا أو ينتزعه منا». وهكذا يتضح لنا أن للدين هدفا عمليا أكثر من الفلسفة - وذلك على الأقل من وجهة النظر المباشرة. كذلك يتضح أن الدين يكون على الأرجح أهم في حياة عدد من الناس يزيد كثيرا على أولئك الذين يمكن أن تمسهم الفلسفة ولو من بعيد. وبطبيعة الحال فإن من يكرسون حياتهم للعمل الفلسفي يسارعون دائما بتأكيد أن الدافع إلى المعرفة لا يقل تأصلا في الإنسان عن الرغبة في الأمان والطمأنينة الروحية. ولكن على الرغم من أن الدافعين قد يكونان سواء في أهميتهما، فإنه لا يترتب على ذلك القول بأنهما موجودان بنفس القوة لدى الناس جميعا. فمعظم الأشخاص يرون أن الوعد الذي يقدمه إليهم الدين أقوى جاذبية بكثير. وهم يشعرون بضرورة حصولهم على ضمان بأن الحياة جديرة بأن تعاش، ويؤمنون بأن الدين قادر على أن يعطيهم هذا الضمان على نحو أيسر مما تقدر عليه منافسة الدين (أي الفلسفة). ذلك لأن الفلسفة لو استطاعت تقديم مثل هذا الضمان، فإن ذلك لا يكون عادة إلا بعد تفكير طويل مضن.
وباختصار، فعلى الرغم من أن الفيلسوف قد ينتفع من أنظاره الميتافيزيقية في صياغة فلسفة للحياة تصلح للتطبيق عمليا (وبذلك يحقق نفس النتيجة «العملية» التي يحققها رجل الدين)، فإن معظم الناس يدركون أن الفلسفة تهتم بالنظر أكثر مما تهتم بالعمل. وهم يعتقدون أن الفيلسوف سيواصل تأملاته بنفس الإصرار سواء أدت إلى نتائج عملية - أو إلى «أية» نتائج - أو لم تؤد إليها. أما المفكر الديني، حتى إذا كان تفكيره يكتسب طابعا لاهوتيا تجريديا في بعض الأحيان، فإن هدفه الأول يظل دائما إيجاد الأساس العقلي لنشاط عملي إلى أبعد حد: هو بلوغ سلام الروح وطمأنينة القلب. (3) الفلسفة والعلم
كانت علاقات الفلسفة بجارها الآخر الكبير أكثر توافقا وتعاونا، في عمومها، من علاقتها بالدين. فعلى الرغم من الاتهامات المتبادلة والمناقشات العائلية المعتدلة التي كانت تحدث من آن لآخر، فقد عاشت الفلسفة والعلم معا كما تعيش الأم مع ابنها الذكي. وقد ارتكب كل منهما خطأ التعصب الجامد في اللحظات التي لم يكن منتبها فيها، كما كان العلم يعيب على الفلسفة أحيانا كما يفعل كل الأبناء - أنها أم متمسكة بأساليب وأفكار عفى عليها الزمان، أو تتدخل في الحياة المستقلة لجيل أصغر من جيلها. ومن جهة أخرى فقد كان رد الفلسفة هو انتقادها لكثير من المسلمات والأدوات العقلية التي يستخدمها العلم. كما أنها أبدت قلقا ملحوظا من أن يرتكب ابنها، في لحظة طيش، خطأ «رمى الطفل الوليد مع ماء المستحم»
4
وذلك بأن ينظر إلى أوجه التجربة البشرية التي لا يمكن دراستها في المعمل على أنها غير ذات جدوى (بل غير حقيقية). ومع ذلك فقد كانت العلاقة بين الاثنين، عموما، علاقة احترام متبادل. وقد ازداد ذلك ظهورا منذ رد الفعل على المثالية الألمانية المطلقة، عندما اضطرت الفلسفة ذاتها إلى الاعتراف بخطأ محاولة الإغراق في النظر الميتافيزيقي على نحو مستقل عن العلم. ولما كانت الأم قد اعترفت بأي خطأ سابق ارتكبته في هذه المسألة، فإن الابن قد استعاد الاحترام الذي فقده مؤقتا. وأصبح الوضع الحالي هو أنه، مع اضطرار الفلسفة إلى أن تعتمد على ابنها، وهو العلم، اعتمادا كبيرا في معيشتها، فإن إخلاصه لها قد بلغ حدا جعله لا يشكو منها - على شرط أن تعترف بالطبع بمصدر دخلها، وألا تحاول أن تتجاوزه في الإنفاق على نفسها، بأن تنسب إلى النظريات غير المبرهن عليها، أو للأنظار الفلسفية الخاصة، سلطة علمية.
العلاقة المزدوجة بين الميدانين : يمكننا أن نصف العلاقة بين الميدانين - بلغة أدق - بأنها علاقة مزدوجة. فقد تحدثنا في الفصل الافتتاحي عن النشاط المزدوج الذي تقوم به الفلسفة ككل، وأوضحنا أن عمل الفيلسوف قوامه التحليل والتركيب. ولقد أصبح الفارق بين هاتين الوظيفتين الفلسفيتين المتكاملتين أوضح ما يكون في علاقتهما بالعلم؛ إذ إن نمو العلم هو الذي قام بالدور الأكبر في ضمان السيطرة للنشاط التحليلي للفلسفة في السنوات الأخيرة. وفضلا عن ذلك، فإن هذا التحليل هو الذي يقرب الميدانين بقدر الإمكان، ويولد أكبر قدر من الاحترام المتبادل بينهما. ومع ذلك، فلما كانت الوظيفة التحليلية الأعمق هي في الوقت ذاته أكثر تخصصا وأبعد عن التجربة العقلية لمعظم الطلاب، فقد رأينا أن من الإحكام التأمل أولا في العمليات التركيبية للفلسفة. ولما كان هذا النشاط الفلسفي هو في الوقت ذاته الأقدم عهدا، فإننا حين نبدأ بحثنا به أنما نساير التاريخ العام للفكر. (4) العلم بوصفه تخصصا
في الوقت الذي بدأت فيه ما نسميها الآن «بالعلوم» تغادر لأول مرة بيت أمها الفلسفة وتكون لنفسها حياة خاصة بها، لم تكن التقسيمات المحددة المعالم، والقائمة الآن، قد عرفت بعد، بل إن لفظ «العلم» ذاته لم يكن موجودا، بل إن تلك الدراسات الغامضة التي كانت لا تزال في مهدها، كانت تجمع معا تحت لفظ «الفلسفة الطبيعية». وكان الرواد الأوائل في هذا الميدان أكثر انشغالا بمعالجة مشكلات محدودة، من أن يهتموا ببيان حدوده المنتظرة أو بإدراك أنه قد يحدث شقاق بين المطالبين بأجزاء معينة من الأرض الجديدة التي لم يكن قد تم مسحها. ولقد كان الموقف مشابها لموقف رواد الحدود الأمريكيين. إذ إن انشغال المستوطنين الأوائل بقطع أشجار فردية كان أعظم من أن يترك لهم مجالا للاهتمام بحجم الغابة، وكان الجزء الصغير من الأرض التي يطالبون بها لأنفسهم يشغلهم إلى حد لا يعبئون معه لو أن جارا لهم اجتث بعض الأشجار في الأجزاء الأبعد من ذلك. ولم تبدأ التقسيمات التي نعرفها الآن في الظهور إلا بعد أن أصبحت الأجزاء المتباينة لأرض العلم مطروقة ولو جزئيا. ولقد ظهرت عندئذ عدة خطوط تقسيم طبيعية، ولا سيما حول التمييز الشائع بين العلوم «الفيزيائية» و«البيولوجية». وفيما بعد، نمت العلوم الاجتماعية، وادعت لنفسها الحق في أن تطلق على نفسها اسم العلوم، بحيث إنه لا يوجد اليوم إلا القليل من أوجه النشاط البشري العقلي الذي لا يظهر فيه تأثير وجهة النظر العلمية، وربما طريقتها الأساسية في التنظيم.
ولقد أدى تقسيم «الفلسفة الطبيعية» إلى كثير من الميادين شبه المستقلة، إلى مكاسب كثيرة، وإلى بعض الخسائر. أما التقسيم ذاته فكان شيئا لا مفر منه. ففي أواخر القرن الخامس عشر، كان في استطاعة عبقرية شاملة مثل ليوناردو دافنشي أن يلم إلماما كافيا بكل علوم عصره، وأن يقوم ببحوث أصيلة في كثير منها. وحتى عند نهاية القرن الثامن عشر كان في استطاعة جوته أن يقوم ببحوث في كثير من العلوم غير المرتبطة، إلى جانب كونه سياسيا بارعا، وأعظم شعراء الأمة الألمانية. غير أن هذا النطاق العقلي أصبح اليوم مستحيلا من الوجهة العملية ؛ ذلك لأن كلا من أقسام العلوم، بل كثيرا من الأقسام الفرعية، قد أصبح من التعقيد والتفصيل إلى حد صار لا بد معه من قضاء سنوات من التحصيل من أجل استيعاب أي واحد منها. ولا بد، عادة، من أجل الإسهام بأي نصيب أصيل في الميدان، من احتفاظ المرء بوحدة الهدف طوال حياته، بالإضافة إلى قدر من التخصص لا يكاد يكون من الممكن أن يتصوره الأشخاص الخارجون عن نطاق المعمل. ففي العصور الحديثة أصبح التخصص هو القانون الأول للتقدم العلمي.
Página desconocida