وذكر الفضل هذا، أنه خرج ذات يوم مع المعتز للصيد. قال: فانقطعنا عن الموكب أنا وهو ويونس بن بغا. فشكا المعتز العطش. فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن في هذا الدير راهبًا أعرفه له مودة حسنة خفيفة الروح. وفيه آلات جميلة. فهل لأمير المؤمنين أن نعدل إليه؟ قال: افعل. فصرنا إلى الديراني، فرحب بنا وتلقانا أجمل لقاء، وجاءنا بماء بارد فشربنا. وعرض علينا النزول عنده وقال: تبتردون عندنا ونحضركم ما تيسر في ديرا فتنالون منه؟ فاستظرفه المعتز وقال انزل بنا إليه. فنزلنا. فسألني الديراني عن المعتز ويونس بن بغا. فقلت هما فتيان من أبناء الجند. فقال: بل مفلتان من أزواج الحور! فقلت: هذا ليس من دينك ولا اعتقادك! قال: هو الآن من ديني واعتقادي! فضحك المعتز. ثم جاءنا بخبز وأشاطير وما يكون مثله في الديارات، فكان من أنظف طعام وأطيبه وأحسن آنية. فأكلنا وغسلنا أيدينا. فقال لي المعتز: قل له بينك وبينه: من تحب أن يكون معك من هذين ولا يفارقك؟ قال: فقلت له، فقال: كلاهما وتمرًا فضحك المعتز حتى مال على حائط الدير من الضحك. فقلت: للديراني: لا بد من أن تختار. فقال: الاختيار في هذا دمار! ما خلق الله عقلًا يميز بين هؤلاء. ثم لحقنا الموكب، فارتاع الديراني. فقال له المعتز: بحياتي، لا تنقطع عما كنا فيه، فإني لمن ثم مولىً ولمن ها هنا صديق. فجلسنا ساعة، وأمر له المعتز بخمسين ألف درهم. فقال: والله لا قبلتها إلا على شرط. قال: وما هو؟ قال: يكون أمير المؤمنين في دعوتي مع من أحب. قال: ذاك إليك. فاتفقنا ليوم جئناه فيه على ما أحب. فلم يبق غاية، وأقام بمن كان معه، وجاء بأولاد النصارى فخدمونا أحسن خدمة. فسر المعتز سرورًا ما رأيته سر مثله. ووصله في ذلك اليوم بمال كثير، ولم يزل يطرقه إذا اجتاز به ويأكل عنده ويشرب مدة حياته.
قال: وكان المعتز سمح الأخلاق، واسع النفس، له أدب وفهم، ويقول شعرًا صالحًا. وكان يحب يونس بن بغا ولا يصبر عنه. وكان هو ويونس بن بغا من أحسن الناس وجهًا وأجملهم، ولم يكن في خلفاء بني العباس أحسن وجهًا من الأمين والمعتز، وكان يضرب بهما المثل في الحسن والجمال.
قالت عريب: كنت لمحمد الأمين وصيفة في عداد الوصائف، ألبس قباء ومنطقة وأقوم على رأسه وربما سقيته. وسني إذ ذاك سبع عشرة سنة. وكان أحسن خلق الله، لم نر ذكرًا ولا أنثى مثله جمالًا وحسنًا مع حسن خلق. قال أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي، وهو ابن مولاهما: أين كان المعتز منه؟ فقد رأيناه ولم نر الأمين. قالت: كان المعتز فيه لمحة منه، وأما مثله فلم يكن.
قال: وكان إلف المعتز ليونس بن بغا إلف الصبا. فلم يكن يفارقه، ولا يصبر عنه. وله فيه أشعار كثيرة، فمن ذلك:
إني عرفت دواء الطب من وجعي ... وما عرفت دواء المكر والخدع
جزعت للحب والحمّى صبرت لها ... إني لأعجب من صبري ومن جزعي
من كان يشغله عن إلفه وجعٌ ... فليس يشغلني عن حبكم وجعي
وكان المعتز يشرب على بستان مملوء بالنمام، وبين النمام شقائق النعمان، فأقبل يونس بن بغا وعليه قباء أخضر، فقال المعتز:
شبّهت حمرة خده في ثوبه ... بشقائق النعمان في النمام
ثم قال: أجيزوا. فبدر بنان المغني، فقال:
والقدّ منه إذا بدا متثنّيا ... بالغصن في لين وحسن قوام
فقال: غنّ فيه الآن. فعمل فيه لحنًا وغناه إياه.
قال: وشرب المعتز يومًا ويونس بن بغا بين يديه يسقيه والجلساء والمغنون بين يديه. وقد أعد الخلع والجوائز، فدخل بغا، فقال: يا سيدي، والدة عبدك يونس في الموت، وهي تشتهي أن تراه فأذن له، فخرج. وفتر المعتز وتغير ثم نعس فنام، ونام الجلساء وتفرق المغنون. فلما كان وقت المغرب وعاد المعتز إلى مجلسه عاد يونس وبين يديه الشمع. فلما رآه المعتز دعا برطل فشربه وسقاه مثله. ثم عاد الندماء وغناه المغنون ورجع المجلس إلى أحسن مما كان فيه، فقال المعتز:
تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرح
وإن كنت عذّبتني ... بأنك لا تسمح
فأصبحت ما بين ذي ... ن لي كبدٌ تجرح
على ذاك يا سيدي ... دنوّك لي أصلح
1 / 39