فأقام قبل المأمون سنة، ثم سيره إلى بابك، وقد كان ظهر وعظمت شوكته، فأقام بإزائه سنة، وكان شرط على المأمون أنه إن ظفر ببابك رجع إلى الباب. فيكون مقامه بحضرة المأمون ويختار لخلافته على خراسان من أحب من أخوته. فأقام بالدينور تسعة أشهر يستعد لقتال بابك. فبينا هو كذلك، إذ ورد على المأمون كتاب صاحب نيسابور يذكر أنا لمارقة أغارت على قرية منها يقال لها الحمراء على طريق الجادة، وأنهم أحرقوا وسبوا وقتلوا النساء والأطفال. فعظم ذلك على المأمون، ودعا إسحق بن إبراهيم وهو خليفة عبد الله بن طاهر على الشرط، ويحيى بن أكثم، وبعث بهما إلى عبد الله وكتب معهما كتابًا بخطه إلى عبد الله يقسم عليه أن يحول مضربه من وجه بابك إلى وجه خراسان، فإن خراسان أهم من المملكة كلها بعد الحضرة، وأن يشير عليه بمن يبعث به إلى بابك، فامتثل ما أمره به، وأشار بعلي بن هشام، وكاتب من بخراسان بما أحب وقدم أخاه محمد بن طاهر على مقدمته ووافاه علي بن هشام فوافقه على الطريق في محاربة بابك، ومضى لوجهه إلى خراسان، حتى وافى نيسابور وكتب إلى المأمون أن أمير المؤمنين انهضني إلى هذا الثغر بسبب ما قد غلب عليه من أمر الحمراء، وما أحدثه المارقة بها. وإني وافيت نيسابور فوجدت ما حولها عش المارقة، ووجدتها أهم الكور، والمهم أبدى وآدى. قال: فأعجب المأمون من الكتاب بهذه اللفظة، ولم يزل الكتاب يتذاكرونها بينهم. وكان مقامه بخراسان، إلى أن توفى بها، خمس عشرة سنة.
وذكر ابن جدان عن الجلودي، قال: جلس عبد الله يومًا بخراسان انصف فيه من وجوه القواد وأمراء الأجناد، وضرب الأعناق وقطع الأيدي والأرجل وعقد العقود، فلما زالت الشمس، دخل داره. قال الجلودي: وكنت أقرب من قلبه وأدل عليه. فتلقاه الخدم، فأخذ هذا قباءه، وأخذ آخر خفه، وآخر رانه، وبقي في غلالة وسراويل. فرفع الغلالة على كتفه وجعل يقول:
النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف البنيان عنم
قال: فأغلظت عليه، ونزعت ثوبه عن عاتقه ورددته إلى حاله وقلت له: تجلس اليوم مجلس الاسكندر ودارا بن دارا، وتفعل الساعة فعل علويه ومخارق؟ قال: فنظر إلي نظر الصؤول، ورد ثوبه على كتفه وقال.
لا بدّ للنفس إذ كانت مصرّفة ... من التنقل من حال إلى حال
ولما مات المأمون، أقر المعتصم عبد الله بن طاهر على خراسان وإسحق بن إبراهيم على خلافته ببغداد وكان سيء الرأي فيه، فكتب إليه: أما بعد: عافانا الله معًا. فقد كانت في نفسي عليك حزازات غيرها بقاء الانتقام عليك لك. وقد بقيت منها هنات أخاف منها عليك، فلا تقدم، وحسبك مما أنا منطو عليه لك إظهاري إياك على ما في ضميري. والسلام.
قال الفضل بن مروان: ذكر المعتصم يومًا عبد الله بن طاهر، فنال منه، وتابعته الجماعة ووصفوه بسوء الطاعة وأنا حاضر. فقمت وقلت: اكتب إليه في القدوم، فإنه لا يمسى حتى يشخص. فقال: اجلس واكتب إليه بالخبر.
فكتب إلى المعتصم كتابًا، أنفذه درج كتابي إليه. وسألني أن أوصله من يدي إلى يده، ففعلت. فقرأه المعتصم وأقبل يسألني عن الحرف بعد الحرف، فأفتح عليه: فإذا هو قد كتب يحلف أن الكتاب لو ورد عليه بالشخوص لما أمسى حتى يشخص.
قال أبو العميثل: دخل على عبد الله بن طاهر، فقال: إنك لناح الأدؤر قليلًا ما ترى، ومد يده إلي فقبلتها، فقال: ما عققتني به أكثر مما بررتني. قلت: بماذا؟ قال: بخشونة شاربك. قلت: إن شوك القنفذ لا يضر برثن الأسد. قال: هذا والله أحب إلي من مدح مائة قافية، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
وكانت وفاة عبد الله بن طاهر في سنة ثلاثين ومائتين، في أيام الواثق.
1 / 33