قال عبيد الله بن عبد الله: حدثني نصير وياسر وجماعة من مشايخ موالينا، إن أبا العباس عبد الله بن طاهر، لما أشرف على كيسوم، تحصن بها نصر بن شبت، فركب من الغد وقد عبأ جيشه للقاء، فوافى نصرًا وقد خرج من الحصن، فصف بإزائه وواقفه إلى الليل على غير حرب، ثم أوقد نصر النيران، فشاور عبد الله قواده، فقالوا: هذا الليل، فننصرف ونبيت في معسكرنا، ثم نغاديه الحرب فقال: إن انصراف المحارب نكوص، ولست أبرح من موضعي. فنزل، وكان يحم حمى ربع، وكان نوبتها تلك الليلة، فوعك وعكًا شديدًا، فالتمس ما يدفئه فلم يكن معهم، فقالوا: أحفروا حفيرة بأسيافهم، وأمر أن يجمع من مخالي الدواب التبن فيلقي في الحفيرة، ففعل ذلك، ثم جلس فيها. وجاءت السماء بهطل ووبق شديد. فقال: استروني بتراسكم، فلم نزل كذلك ليلتنا أجمع نستره حتى أصبح، وصلينا وصلى وأعاد سلاحه وركب فرسه وتطرف، ونحن معه، فنظر فإذا ليس خارج الحصن أحد. فقال: خدعنا الخبيث وأوهمنا أنه بإزائنا ودخل حصنه ووكل به من يوقد النيران، والساعة يخرج عليكم بحدته. فخذوا حذركم. ودعا العزيز فقال: إمض في ألفي فارس فأريحوا واستريحوا، وسمى لهم موضعًا يكونون فيه، ولا يبرح منكم أحد أو يأتيه طاهر بن إبراهيم بن مدرك برسالتي. فإذا أتاك، فإن قدرت أنت وأصحابك أن تكونوا في أجنحة الطير حتى توافوني فافعلوا، فمضى. ولم يستتم الكلام حتى خرج نصر وحمل عليهم، فبرز إليه عبد الله يقدم أصحابه، فلم تزل الكرات بينهم والجلاد، وعبد الله يفدي اصحابه ويعدهم ويرمي نفسه كل مرمى، إلى أن صارت الشمس في كبد السماء، وكل من معه وتبين فيهم الضعف والعجز، فأرسل طاهر إلى العزيز يأمره بالاسراع، فوافى. فلما رأى نصر ومن معه الرايات السود والأسود السود، وكان عبد الله من اتخذها، جزعوا وتبين فيهم الفشل، وقال عبد الله للعزيز: شأنك وأصحابك نحو القوم! فلم يكن إلا ساعة حتى انهزم نصر ولجأ إلى حصنه. فدعا أبو العباس بالنقابين وأمر بنصب العرادات والمجانيق والسلاليم، واطلعوا، فلم يروا في الحصن أحدًا، وإذا نصر قد نقب نقبًا من وراء الحصن وخرج منه؛ وأمر الرجال ففتحوا الباب، ودخل فغنم وأصحابه جميع ما في الحصن، وبشر في ذلك الوقت وهنيء بالفتح. فأنشده عوف بن محلم الخزاعي:
أُشكر لربّك يوم الحصن نعمته ... فقد حباك بعز النصر والظفر
وهي قصيدة طويلة.
ومضى نصر، فلجأ إلى جبال لم تحصنه، فعاذ بالأمان. فكتب عبد الله إلى المأمون يخبره، فكتب إليه: أعطه الأمان على أن يطأ بساط أمير المؤمنين وينفذ فيه حكمه. فرضي بذلك، ووجه به عبد الله مع محمد بن الحسين بن مصعب إلى حضرة المأمون.
قال: وكان نصر قد كبر، فرآه المأمون وغلامان له يحملانه على السرج: فقال: نصر يحمله اثنان! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ولا ينزله مائتان! ثم سار عبد الله بن طاهر إلى مصر في سنة عشر وفتحها واستأمن إليه ابن السري؛ وأقام بها إلى سنة إحدى عشرة. وقدم على المأمون وقد أصلح البلد وجبى أمواله واستقامت أحواله، فتلقاه أبو إسحق والعباس بن المأمون، وقدم معه بالمتغلبين على مصر.
قال: وقال المأمون يومًا: هل تعرفون رجلًا يزيد على جميع أهل دهره نزاهة وحسن سيرة؟ فذكر قوم ناسًا فأطروهم، فقال: لم أرد هؤلاء. فقال علي بن صالح، صاحب المصلى: ما أعلم يا أمير المؤمنين أحدًا له مثل هذا النعت إلا عمر بن الخطاب. فقال المأمون: اللهم غفرًا، لم أرد قريشًا، فأمسك القوم جميعًا. فقال المأمون: ذاك عبد الله بن طاهر، وليته مصر وأموالها جمة، فوجد لعبيد الله بن السري من الأموال ما تقصر عنه الصفة، فما تعرض منه لدينار ولا لدرهم، ولم يخرج من مصر إلا بعشرة آلاف دينار وثلاثة أفراس وحمارين؛ ولكنه غرس يدي وخريج أدبي. ولأنشدنكم أبياتًا في صفته، ثم أنشد:
حليمٌ مع التقوى، شجاعٌ مع الرّدى ... ندٍ حين لا يندى السحاب سكوب
شديد مناط القلب في الموقف الذي ... به لقلوب العالمين وجيب
فتىً هو من غير التخلق ماجدٌ ... وعن غير تأديب الرجال أديب
1 / 32