El Estado Otomano antes y después de la Constitución
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Géneros
وإن في هذه البلاد شعوبا كان لها في كل زمان - قديما وحديثا - شأن في التجارة عظيم، يطوف أبناؤها البحار، ويرودون القفار في سبلها طلبا للكسب والاستعمار، فحيثما استتبت لهم قوة اليد والمال زادوا على زمر تجارهم المقيمين في البلاد روادا يجوبون المجاهل في أقاصي المعمور، فيستعمرون استعمار الفينيقيين أو يستطلعون استطلاع العرب الذين بلغوا بطوافهم أطراف العالم الجديد، وإذا ضعفت قوتهم وقل مالهم ضربوا أشتاتا في قلب الأرض، واتجروا بالقليل من المال إلى أن يتجمع لديهم كثيره - كما يفعل المهاجرون العثمانيون في هذه الأيام.
فبلاد هذا موقعها وتلك صفات سكانها لا بد أن يكون أهلها يوما في مقدمة الأمم التجارية إذا التأم صدعها وصلحت حالها. وليس من غرضنا في هذا المجال الضيق أن نضع تقويما لتجارة البلاد ونصف الصادر والوارد، وإنما هي كلمة إجمالية نستكمل بها هذا البحث الموجز.
إن التجارة في البلاد العثمانية جارية بمجراها الطبيعي بمعنى أنها تقوى وتضعف بالعوامل الطارئة عليها، وقلما نرى للحكومة مسعى في إنمائها إلا ما أتى عن طريق التوسيع في وسائل النقل وأكثره صادر عن مساعي الأجانب. ولكن في تحويل هذه الطرق من جهة أخرى، أو فتح طرق جديدة خراب بلاد وعمار بلاد، كما جرى بعد فتح ترعة السويس؛ إذ تحولت جميع تجارة العجم وبعض تجارة الهند إلى هذا الطريق بعد أن كان الصادر والوارد يقطعان العراق إلى ثغر الإسكندرونة، فانحطت تجارة البلاد من ذلك الثغر إلى حلب وبغداد، وبلغ الضرر جميع البلاد الممتدة برا حتى الأستانة. وهكذا فإن فتح هذا الطريق الجديد أضر بتجارة جميع البلاد العثمانية، وإن ما نشأ عنه من النفع بالنظر إلى ثغور البحر الأحمر لا يذكر بجانب ضرره. ولا نعرف بلدا استفاد منه فائدة حقيقية إلا البصرة إذ سهل لها إصدار حاصلاتها - وأخصها التمر - إلى أوروبا. فلو كانت طرق الحديد ممتدة في البلاد امتدادها في أوروبا لخفت وطأة ذلك الضرر، فإن الطرق القليلة التي أنشئت حديثا في سوريا قد نشأ عنها رواج في التجارة غير قليل، ولا ريب أنه بعد بلوغ سكة حديد بغداد إلى خليج فارس، وتشعب الفروع منها إلى أطراف البلاد يكون للتجارة حركة لم تكن في الحسبان.
ومع أن الملاحة الوطنية بحكم العدم، فللثغور تجارة رائجة بفضل السفن الأجنبية. وأما البلاد البعيدة عن مشارف البحر كديار بكر والموصل وأريافهما، فما أشد ما ينالها من الضرر لصعوبة النقل منها وإليها. فلقد يشهد المراقب فيها ما شهد فرعون في مصر إذ أكلت البقرات العجاف البقرات السمان، ومرت عليها بعد سنة 1874 سنو خصب ورخاء فضاقت البيادر بحاصل الحبوب من نتاج الزراعة، ولم يكن في الإمكان إصدارها إلى الخارج لصعوبة النقل وغلاء أجرته مع رخص أثمان الحبوب، فبقيت ركاما بعضها فوق بعض إلى أن تلفت. ثم عقب تلك السنين زمن قحط فلم تأت سنة 1879 حتى اشتد الضيق، ثم كانت مجاعة فتكت بالسكان أي فتك، ولم يبلغهم المدد لبعد المسافة حتى فني منهم من فني وتشتت من تشتت من الفقراء، وابتاع الباقون من الموسرين قوت يومهم بدخل سنتهم.
على أن أمثال تلك النكبات سيمتنع حصولها بعد تشعب الطرق في البلاد، وإن تفاؤلنا بنمو التجارة في جميع أنحاء السلطنة لا يقل عنه بسائر وسائل النمو والارتقاء المادية والمعنوية.
وإذا اعتبرت أن في داخل البلاد جميع أصناف التجارة من حاصل الزراعة حبوبا وبقولا وثمرا وسائر ما تنبت الأرض ويربى فيها مما يستعمل نسيجا وصبغا ويدخل في الصناعات المختلفة وما تدخره الطبيعة من غاب ومعدن وحجر وصدف، وما يسرح على وجه الأرض من ماشية بلحمها وصوفها وجلدها من داب وطائر وسابح؛ إذا اعتبرت ذلك ونظرت بعين البصيرة إلى المستقبل فتصورت ما يكون من شأن جميع هذه الأصناف بعد بسط العدل واستتاب الأمن وتسهيل وسائل النقل برا وبحرا، وإذا أضفت إلى ما تقدم نتاج الصناعة المقبلة مع ما تعلمه من اتساع هذه البلاد وتوسطها بين الشرق والغرب؛ يخيل لك أنه لا يطول بها العهد حتى تصبح المحور الأعظم لتجارة العالم.
الأعمال العامة والشركات
إذا ضجت البلاد بالشكوى من إهمال الزراعة والصناعة وقلة العناية بإنماء التجارة فشكواها عظيمة أيضا لإهمال الأعمال العامة المنوط النظر فيها بنظارة النافعة.
ولسنا بمنكرين أن في البلاد طرقا حديدية ومرافئ قليلة وبعض الطرق للعربات وشركات قليلة لتوزيع المياه وما أشبه، ولكن كل ذلك نقطة من بحر من حاجة البلاد، فوسائل النقل وتقريب سبل الاتصال - وهي روح إنماء الثروة - لا تزال قاصرة على بعض طرق الحديد التي لا تفي بالمراد، وجميعها - ما خلا سكة حديد الحجاز - مما يدار بالامتياز بأيدي الأجانب بشروط فادحة تثقل كاهل الدولة والأمة.
ولقد كانت الحكومة وضعت لعهد السلطان عبد العزيز خطة مستوفاة لجميع فروع الطريق الحديدية التي يجب أن تخترق البلاد عرضا وطولا، ولكنها أهملت فيما أهمل إلا نزرا مما أنشأته الشركات الأجنبية. وأظن المقترح لتلك الخطة مدحت باشا.
Página desconocida