El Estado Otomano antes y después de la Constitución
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Géneros
وأما الملاحة - وهي قرينة طرق الحديد - فهي في جميع البلاد العثمانية اسم بلا مسمى. وإذا استثنينا بعض بويخرات تمخر في البوسفور لنقل المصطافين أو تقطع دجلة لحساب الخزينة الخاصة أو تتهادى بين أزمير والأستانة لحساب بعض الأهالي، فليس في البلاد العثمانية كلها طائفة سفن تجارية تزود الثغور العثمانية وغيرها لحساب القوة الحاكمة أو الأمة المحكومة.
أوليس من الغرائب أن تكون هذه البلاد المتسعة الأرجاء وثغورها ممتدة على ألوف من الأميال، وجزرها قائمة كالرواسي في قلب البحار، ولها من الإشراف على الشواطئ ما تحسدها عليه جميع دول أوروبا؟ حتى إنكلترا ملكة البحار مضطرة هي وحكومتها إلى استخدام سفن الأجانب في أقل الحاجات.
فإذا كان لنا زملاء مماثلون في التأخر والتقهقر في جميع الشئون فليس لنا من أمم الأرض أمة تماثلنا بتأخر ملاحتنا، وهذه أصغر الدول لا تعدم سفنا تجارية لها أو لأبنائها تمخر في عرض البحار، وهذه جارتنا إيران تجوب بواخرها خليج فارس والإقيانوس الهندي وغيرهما. وهذه الدول الصغيرة التي انفصلت من جسمنا باتت جميعها ذوات أساطيل تجارية.
وإذا كان سلك البحار بما يعد مسافة يسيرة عن الشاطئ مباحا لجميع الدول على السواء، وكان لنا غنى بسفن الأجانب لنقل ركابنا وأصناف تجارتنا، أليس من العار أن نكون مضطرين إلى نقل بريدنا بين ثغر وثغر على سفن الأجانب مسافة ساعات؟
وإذا أرادت الحكومة أن تتملص من تبعة هذا الإهمال زاعمة أن ذلك شأن الأهالي وأنها لم تصدهم يوما عن القيام بمثل هذه الأعمال؛ فحسبنا ردا لهذا الزعم الرجوع إلى موقفها إزاء الشركات الوطنية - كما سيأتي بعيد هذا - وإلا فسكان جميع الثغور البحرية أهل مجازفة في التجارة وإقدام في التجارة كما يشهد ماضيهم، وكثيرا ما يهب أفرادهم إلى بناء السفن الشراعية لتجارتهم، ولكن بعد أن قضى البخار على الشراع في الأسفار الطويلة باتت سفنهم الخاصة غير وافية بالمقصود التام.
انظر مثلا إلى اليونان أبناء الدولة المنفصلة من دولتنا، وإلى اليونان إخواننا في بلادنا وهم جميعا من دم واحد، فلماذا ترى لأولئك بواخر وشركات تسيرها شرقا وغربا ولا ترى لهؤلاء أمثالها؟ وانظر أيضا إلى العرب أبناء الدولة العثمانية وإلى إخوانهم من سكان حضرموت وبحر عمان مما خرج عن سيطرة الدولة، وهم أقل منهم علما ومدنية، فعلام لا ترى لعربنا أسطولا تجاريا ولأولئك أساطيل تعد سفنها بالمئات وهي إن كانت شراعية فإنهم يبنونها بأيديهم ويسيرون بها ماخرين بتجارتهم من ساحل بحر عمان إلى الهند والصين وجاوه وسيلان وثغور البحر الأحمر وخليج فارس.
فالملاحة من بعض جهاتها أشد لزوما من طرق الاتصال الداخلية؛ لأنها من جهة تربط البلاد بعضها ببعض، وهي من جهة أخرى عروة الوصل بينها وبين بلاد الأجانب. فهي بهذا الاعتبار من أعظم أركان الثروة والقوة والعظمة، وهذه الدولة الإنكليزية يشهد تاريخها أن أسطولها التجاري كانت يده في إنماء الثروة وإعلاء شأن البلاد فوق يد الأسطول الحربي بكل قوته وعظمته.
ومن لوازم الملاحة أيضا: إصلاح المرافئ، وهي على كونها تعد بالمئات ليس فيها ما يصلح لرسو السفن الكبيرة وإقامتها فيها إلا ما أعدته الطبيعة كثغر الإسكندرونة وأشباهها، ما خلا مرافئ قليلة أصلحت بيد الشركات الأجنبية كمرافئ الأستانة وأزمير وبيروت، فهذه جميعها أمور داخلة في مجال الإصلاح المتسع الذي اختطته الحكومة الدستورية لإعلاء شأن البلاد .
وليست وسائل النقل برا وبحرا داخل البلاد وخارجها على المسافات الشاسعة بأسوأ حالا من وسائل انتقال أصناف الناس على المسافات القريبة داخل البلاد، مما يمكن تسهيله بمد خطوط الترام أو تسهيل طرق العربات. ولقد طالما رأينا المثرين من العثمانيين سكان المدن يؤثرون الاصطياف في أوروبا تفاديا من مشقة السفر إلى أريفهم العذبة الماء النقية الهواء، ولا غرو فإن ابن دمشق الشام مثلا لا يعاني في قطع البحار وصعود الجبال إلى سويسرا نصف ما يعانيه هو وعياله بتسلق مشاعب الجبل الشرقي إلى إحدى قراه البديعة الموقع البهجة المناظر، هذا بصرف النظر عن سهولة المعيشة في تلك وصعوبته في هذه.
وإذا انثنيت إلى المدائن في قلب البلاد بدت لك أيضا تلك الصعوبة، وإن كانت أخف وطأة فإن الشاخص مثلا في نفس بغداد من الباب الشرقي إلى باب المعظم تعجزه السهولة التي ينتقل بها ابن باريس إلى ڨرساي أو ابن لندن إلى بريتن على مسافات تعادل أضعاف أضعاف تلك المسافة.
Página desconocida