إِنَّك تَأتي قوما أهل كتاب وَأمره أَن يَأْخُذ من كل حالم دِينَارا وعدله مغافر وَلم يفرق بَين من دخل أَبوهُ قبل النّسخ أَو بعده وَكَذَلِكَ وَفد نَجْرَان وَغَيرهم من النَّصَارَى الَّذين كَانَ فيهم عرب كَثِيرُونَ أقرهم بالجزية وَكَذَلِكَ سَائِر الْيَهُود وَالنَّصَارَى من قبائل الْعَرَب لم يفرق رَسُول الله ﷺ وَلَا أحد من خلفائه وَأَصْحَابه بَين بَعضهم وَبَعض بل قبلوا مِنْهُم الْجِزْيَة وأباحوا ذَبَائِحهم ونساءهم وَكَذَلِكَ نَصَارَى الرّوم وَغَيرهم لم يفرقُوا بَين صنف وصنف وَمن تدبر السِّيرَة النَّبَوِيَّة علم كل هَذَا بِالضَّرُورَةِ وَعلم أَن التَّفْرِيق قَول مُحدث لَا أصل لَهُ فِي الشَّرِيعَة
الْوَجْه الثَّالِث أَن كَون الرجل مُسلما أَو يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا وَنَحْو ذَلِك من أَسمَاء الدّين هُوَ حكم يتَعَلَّق بِنَفسِهِ لَا باعتقاده وإرادته وَقَوله وَعَمله لَا يلْحقهُ هَذَا الِاسْم بِمُجَرَّد اتصاف آبَائِهِ بذلك لَكِن الصَّغِير حكمه فِي أَحْكَام الدُّنْيَا حكم أَبَوَيْهِ لكَونه لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِذا بلغ وَتكلم بِالْإِسْلَامِ أَو بالْكفْر كَانَ حكمه مُعْتَبرا بِنَفسِهِ بِاتِّفَاق الْمُسلمين فَلَو كَانَ أَبَوَاهُ يهودا أَو نَصَارَى فَأسلم كَانَ من الْمُسلمين بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَلَو كَانُوا مُسلمين فَكفر كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاق الْمُسلمين فقد كفر بردة لم يقر عَلَيْهِ لكَونه مُرْتَدا لأجل آبَائِهِ وكل حكم علق بأسماء الدّين من إِسْلَام وإيمان وَكفر ونفاق وردة وتهود وَتَنصر إِنَّمَا يثبت لمن اتّصف بِالصِّفَاتِ الْمُوجبَة لذَلِك وَكَون الرجل من الْمُشْركين أَو أهل الْكتاب هُوَ من هَذَا الْبَاب فَمن كَانَ بِنَفسِهِ مُشْركًا فَحكمه حكم أهل الشّرك وَإِن كَانَ أَبَوَاهُ غير مُشْرِكين وَمن كَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكين وَهُوَ مُسلم فَحكمه حكم الْمُسلمين لَا حكم الْمُشْركين فَكَذَلِك إِذا كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا وآباؤه مُشْرِكين فَحكمه حكم الْيَهُود وَالنَّصَارَى أما إِذا تعلق عَلَيْهِ حكم الْمُشْركين مَعَ كَونه من الْيَهُود وَالنَّصَارَى لأجل كَونه آبَائِهِ قبل النّسخ والتبديل كَانُوا مُشْرِكين فَهَذَا خلاف الْأُصُول
الْوَجْه الرَّابِع أَن يُقَال قَوْله تَعَالَى ﴿لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين﴾ وَقَوله ﴿وَقل للَّذين أُوتُوا الْكتاب والأميين أأسلمتم فَإِن أَسْلمُوا فقد اهتدوا﴾ وأمثال ذَلِك إِنَّمَا هُوَ خطاب لهَؤُلَاء الْمَوْجُودين وإخبار عَنْهُم المُرَاد بِالْكتاب هُوَ الْكتاب الَّذِي بِأَيْدِيهِم الَّذِي جرى عَلَيْهِ من النّسخ والتبديل مَا جرى لَيْسَ المُرَاد بِهِ من كَانَ متمسكا بِهِ قبل النّسخ والتبديل فَإِن أُولَئِكَ لم يَكُونُوا كفَّارًا وَلَا هم مِمَّن خوطبوا بشرائع الْقُرْآن وَلَا قيل لَهُم فِي الْقُرْآن يَا أهل الْكتاب فَإِنَّهُم قد مَاتُوا قبل نزُول الْقُرْآن وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَكل من تدين بِهَذَا الْكتاب الْمَوْجُود عِنْد أهل الْكتاب فَهُوَ من أهل الْكتاب وهم كفار تمسكوا بِكِتَاب مبدل مَنْسُوخ وهم مخلدون فِي نَار جَهَنَّم كَمَا يخلد سَائِر أَنْوَاع الْكفَّار وَالله تَعَالَى مَعَ ذَلِك سوغ إقرارهم بالجزية وَأحل طعامهم ونساءهم
الْوَجْه الْخَامِس أَن يُقَال هَؤُلَاءِ الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب بِالْقُرْآنِ هم كفار وَإِن كَانَ أجدادهم كَانُوا مُؤمنين وَلَيْسَ عَذَابهمْ فِي الْآخِرَة بأخف من عَذَاب من كَانَ أَبوهُ من غير
2 / 21