فصل
قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة﴾ سُورَة الْبَقَرَة ٥ قَالَ عَليّ بن أبي طَالب الصَّبْر من الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الرَّأْس من الْجَسَد فَإِن انْقَطع الرَّأْس بار الْجَسَد أَلا لَا إِيمَان لمن لَا صَبر لَهُ
فالصبر على أَدَاء الْوَاجِبَات وَلِهَذَا قرنه بِالصَّلَاةِ فِي أَكثر من خمسين موضعا فَمن كَانَ لَا يُصَلِّي من جَمِيع النَّاس رِجَالهمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يُؤمر فَإِن امْتنع عُوقِبَ بِإِجْمَاع الْمُسلمين ثمَّ أَكْثَرهم يوجبون قتل تَارِك الصَّلَاة وَهل يقتل كَافِرًا مُرْتَدا أَو فَاسِقًا على قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَالْمَنْقُول عَن أَكثر السّلف يَقْتَضِي كفره وَهَذَا مَعَ الاقرار بِالْوُجُوب فَإِنَّهُ مَعَ حجود الْوُجُوب فَهُوَ كَافِر بالِاتِّفَاقِ
1 / 211
وَمن ذَلِك تعاهد مَسَاجِد الْمُسلمين وأئمتهم وامرهم بِأَن يصلوا بهم النَّبِي ﷺ حَيْثُ قَالَ صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَصلى مرّة بِأَصْحَابِهِ على طرف الْمِنْبَر وَقَالَ إِنَّمَا فعلت هَذَا لتأتموا بِي ولتعلموا صَلَاتي
فعلى إِمَام الصَّلَاة أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاة كَامِلَة لَا يقْتَصر على مَا يجوز للمنفرد الِاقْتِصَار عَلَيْهِ إِلَّا لعذر وَكَذَلِكَ على إمَامهمْ فِي الْحَج وأميرهم فِي الْحَرْب أَلا ترى الْوَكِيل وَالْوَلِيّ فِي البيع وَالشِّرَاء عَلَيْهِ أَن يتَصَرَّف لمُوكلِه ولموليه على الْوَجْه الْأَصْلَح لَهُ فِي مَاله وَهُوَ فِي مَال نَفسه يفوت على نَفسه مَا شَاءَ فَأمر الدّين أهم وَمَتى اهتمت الْوُلَاة بإصلاح دين النَّاس صلح الدّين للطائفتين وَالدُّنْيَا وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ الْأُمُور عَلَيْهِم جَمِيعًا
وملاك ذَلِك حسن النِّيَّة للرعية وإخلاص الدّين كُله لله ﷿ والتوكل عَلَيْهِ فَإِن الْإِخْلَاص والتوكل جماع صَلَاح الْخَاصَّة والعامة كَمَا أمرنَا أَن نقُول فِي صَلَاتنَا ﴿إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين﴾ فهاتان الكلمتان قد قيل إنَّهُمَا تجمعان مَعَاني الْكتب الْمنزلَة من السَّمَاء
وروى أَنه ﷺ كَانَ مرّة فِي غزَاة فَقَالَ يَا مَالك يَوْم الدّين إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين فَجعلت الرُّءُوس تندر عَن كواهلها
وَقد ذكر ذَلِك فِي غير مَوضِع من كِتَابه كَقَوْلِه ﷿ ﴿فاعبده وتوكل عَلَيْهِ﴾ سُورَة هود ١٢٣ وَقَوله ﴿عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب﴾ سُورَة هود ٨٨ سُورَة الشورى ١٠ وَكَانَ ﷺ إِذا ذبح أضحيته قَالَ مِنْك وَإِلَيْك
وأصل ذَلِك الْمُحَافظَة عل الصَّلَوَات بِالْقَلْبِ وَالْبدن وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس بالنفع وَالْمَال
1 / 212
الَّذِي هُوَ الزَّكَاة وَالصَّبْر على أَذَى الْخلق وَغَيره من النوائب فبالقيام بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصَّبْر يصلح حَال الرَّاعِي والرعية وَإِذا عرف الْإِنْسَان مَا يدْخل فِي هَذِه الْأَسْمَاء الجامعة عرف مَا يدْخل فِي الصَّلَاة من ذكر الله تَعَالَى ودعائه وتلاوة كِتَابه وإخلاص الدّين لَهُ والتوكل عَلَيْهِ وَفِي الزَّكَاة من الْإِحْسَان إِلَى الْخلق بِالْمَالِ والنفع من نصر الْمَظْلُوم وإغاثه الملهوف وَقَضَاء حَاجَة الْمُحْتَاج وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ قَالَ كل مَعْرُوف صَدَقَة فَيدْخل فِيهِ كل إِحْسَان وَلَو ببسط الْوَجْه والكلمة الطّيبَة
فَفِي الصَّحِيح عَن عدي بن حَاتِم قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ مَا مِنْكُم من أحد الا سيكلمه ربه لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان وَلَا حَاجِب فَينْظر أَيمن مِنْهُ فَلَا يرى إِلَّا شَيْئا قدمه وَينظر أشأم مِنْهُ فَلَا يرى إِلَّا شَيْئا قدمه وَينظر أَمَامه فيستقبل النَّار فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يَتَّقِي النَّار وَلَو بشق تَمْرَة فَلْيفْعَل فَإِن لم يجد فبكلمة طيبَة
وَفِي السّنَن لَا تحقرن من الْمَعْرُوف شَيْئا وَلَو أَن تلقي أَخَاك بِوَجْه طلق وَفِي رِوَايَة ووجهك إِلَيْهِ منبسط وَلَو أَن تفرغ من دلوك فِي إِنَاء المستسقى
وَفِي الصَّبْر احْتِمَال الْأَذَى وكظم الغيظ وَالْعَفو عَن النَّاس وَمُخَالفَة الْهوى وَترك الأشر والبطر كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ إِنَّه ليؤوس كفور وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني إِنَّه لفرح فخور إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات﴾ الْآيَة (سُورَة هود ٩ ١١)
وروى الْحسن الْبَصْرِيّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَاد من بطْنَان العلق الا ليقمْ من
1 / 213
أجره على الله فَلَا يقوم الا من عَفا وَأصْلح
وَلَيْسَ من حسن النِّيَّة للرعية وَالْإِحْسَان اليهم أَن يفعل مَا يهوونه وَيتْرك مَا يكرهونه قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ﴾ سُورَة الْمُؤْمِنُونَ ٧١ وَقَالَ لأَصْحَاب نبيه ﷺ ﴿وَاعْلَمُوا أَن فِيكُم رَسُول الله لَو يطيعكم فِي كثير من الْأَمر لعنتم﴾ سُورَة الحجرات ٧
وَقَالَ الشَّيْخ الاسلام رَحمَه الله تَعَالَى
هَذَا تَفْسِير آيَات أشكلت حَتَّى لَا يُوجد فِي طَائِفَة من كتب فِي التَّفْسِير الا مَا هُوَ الْخَطَأ فِيهَا
مِنْهَا قَوْله ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا﴾ الْآيَتَيْنِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وصف أهل السَّعَادَة من الْأَوَّلين والآخرين وَهُوَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ وَيعرف بِهِ مَعْنَاهُ من غير تنَاقض ومناسبة لما قبلهَا وَلما بعْدهَا وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد السّلف وَيدل عَلَيْهِ مَا ذَكرُوهُ من سَبَب نُزُولهَا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَة عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ سلمَان سَأَلت النَّبِي ﷺ عَن أهل دين كنت مَعَهم فَذكر من عِبَادَتهم فَنزلت الْآيَة وَلم يذكر فِيهِ أَنهم من أهل النَّار كَمَا روى بأسانيد ضَعِيفَة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح كَمَا فِي مُسلم إِلَّا بقايا من أهل الْكتاب
وَالنَّبِيّ ﷺ لم يكن بِمَا لَا علم عِنْده وَقد ثَبت أَنه أثنى على من مَاتَ فِي الفترة كزيد بن عَمْرو وَغَيره وَلم يذكر ابْن أبي حَاتِم خلافًا عَن السّلف لَكِن ذكر عَن ابْن عَبَّاس ثمَّ أنزل الله ﴿وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا﴾ الْآيَة وَمرَاده أَن الله يبين أَنه لَا يقبل إِلَّا الْإِسْلَام من الْأَوَّلين والآخرين
وَكثير من السّلف يُرِيد بِلَفْظ النّسخ رفع مَا يظنّ أَن الْآيَة دَالَّة عَلَيْهِ فَإِن من الْمَعْلُوم ان من كذب رَسُولا وَاحِدًا فَهُوَ كَافِر فَلَا يتَنَاوَلهُ قَوْله ﴿من آمن بِاللَّه﴾ الخ
وَظن بعض النَّاس ان الْآيَة فِيمَن بعث إِلَيْهِم مُحَمَّدًا ﷺ خَاصَّة فغلطوا ثمَّ افْتَرَقُوا على أَقْوَال متناقضة
1 / 214
فصل قَالَ الشَّيْخ الْإِسْلَام
فَذكر سُبْحَانَهُ قصَّة مَرْيَم والمسيح فِي هَذِه السُّورَة المكية الَّتِي أنزلهَا فِي أول الْأَمر بِمَكَّة فِي
1 / 307
السُّور الَّتِي ذكر فِيهَا أصُول الدّين الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاء ثمَّ ذكرهَا فِي سُورَة آل عمرَان وَهِي من السُّور الْمَدِينَة الَّتِي يُخَاطب فِيهَا من اتبع الْأَنْبِيَاء من أهل الْكتاب والمؤمينن لما قدم عَلَيْهِ نَصَارَى نَجْرَان فَكَانَ فِيهَا الْخطاب لأهل الْكتاب فَقَالَ تَعَالَى ﴿إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض وَالله سميع عليم إِذْ قَالَت امْرَأَة عمرَان رب إِنِّي نذرت لَك مَا فِي بَطْني محررا فَتقبل مني إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم فَلَمَّا وَضَعتهَا قَالَت رب إِنِّي وَضَعتهَا أُنْثَى وَالله أعلم بِمَا وضعت وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى وَإِنِّي سميتها مَرْيَم وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ مَا من مَوْلُود إِلَّا يمسهُ الشَّيْطَان فَيَسْتَهِل صَارِخًا من الشَّيْطَان إِلَّا مَرْيَم وَابْنهَا ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة اقرأوا إِن شِئْتُم ﴿وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿فتقبلها رَبهَا بِقبُول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زَكَرِيَّا كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله إِن الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب﴾
ثمَّ ذكر قصَّة زَكَرِيَّا وَيحيى ثمَّ قَالَ ﴿هُنَالك دَعَا زَكَرِيَّا ربه قَالَ رب هَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة إِنَّك سميع الدُّعَاء﴾ الْآيَات من سُورَة آل عمرَان (٣٨ - ٦٨)
1 / 308
فَهُوَ سُبْحَانَهُ قد ذكر قصَّة مَرْيَم والمسيح فِي هَاتين السورتين
إِحْدَاهمَا مَكِّيَّة نزلت فِي أول الْأَمر مَعَ السُّور المهدة لأصول الدّين وَهِي سُورَة كهيعص
1 / 309
وَالثَّانيَِة مَدَنِيَّة نزلت بعد أَن أَمر بِالْهِجْرَةِ وَالْجهَاد وَلِهَذَا تَضَمَّنت مناظرة أهل الْكتاب ومباهلتهم كَمَا نزلت فِي بَرَاءَة مجاهدتهم فَأخْبر فِي السُّور المكية أَنَّهَا لما انْفَرَدت لِلْعِبَادَةِ أرسل إِلَيْهَا روحه فتمثل لَهَا بشرا سويا فَقَالَت ﴿إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا﴾
قَالَ أَبُو وَائِل علمت أَن المتقي ذُو نَهْيه أَي تقواه ينهاه عَن الْفَاحِشَة وَأَنَّهَا خَافت مِنْهُ أَن يكون قَصده الْفَاحِشَة فَقَالَت ﴿أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا﴾ أَي تتقي الله وَمَا يَقُول بعض الْجُهَّال من أَنه كَانَ فيهم رجل فَاجر اسْمه تَقِيّ فَهُوَ من نوع الهذيان وَهُوَ من الْكَذِب الظَّاهِر الَّذِي لَا يَقُوله إِلَّا جَاهِل ثمَّ قَالَ ﴿إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا﴾
وَفِي الْقِرَاءَة الْأُخْرَى ﴿لأهب لَك غُلَاما زكيا﴾ فَأخْبر هَذَا الرّوح الَّذِي تمثل لَهَا بشرا سويا أَنه رَسُول رَبهَا فَدلَّ الْكَلَام على أَن هَذَا الرّوح عين قَائِمَة بِنَفسِهَا لَيست صفة لغَيْرهَا وَأَنه رَسُول الله لَيْسَ صفة من صِفَات الله وَلِهَذَا قَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء إِنَّه جِبْرِيل ﵇ فَإِن الله سَمَّاهُ الرّوح الْأمين وَسَماهُ روح الْقُدس وَسَماهُ جِبْرِيل وَهَكَذَا عِنْد أهل الْكتاب أَنه تجسد من مَرْيَم وَمن روح الْقُدس لَكِن ضلالهم حَيْثُ يظنون أَن روح الْقُدس حَيَاة الله وَأَنه إِلَه يخلق ويرزق ويعبد وَلَيْسَ فِي شَيْء من الْكتب الإلهية وَلَا فِي كَلَام الْأَنْبِيَاء أَن الله سمى صفته الْقَائِمَة بِهِ روح الْقُدس وَلَا سمى كَلَامه وَلَا شَيْئا من صِفَاته ابْنا وَهَذَا أحد مَا تبين بِهِ ضلال النَّصَارَى وَأَنَّهُمْ حرفوا كَلَام الْأَنْبِيَاء وتأولوه على غير مَا أَرَادَت بِهِ الْأَنْبِيَاء فَإِن أصل تثليثهم مَبْنِيّ على مَا فِي أحد الأناجيل من أَن الْمَسِيح ﵇ قَالَ لَهُم عَمدُوا النَّاس باسم الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس فَيُقَال لَهُم هَذَا إِذا كَانَ قد قَالَه الْمَسِيح وَلَيْسَ فِي لُغَة الْمَسِيح وَلَا لُغَة أحد الْأَنْبِيَاء أَنهم يسمون صفة الله الْقَائِمَة بِهِ لَا كَلمته وَلَا حَيَاته لَا ابْنا وَلَا روح قدس وَلَا يسمون كَلمته ابْنا وَلَا يسمونه نَفسه ابْنا وَلَا روح قدس وَلَكِن يُوجد فِيمَا ينقلونه عَنْهُم أَنهم يسمون الْمُصْطَفى المكرم ابْنا وَهَذَا مَوْجُود فِي حق الْمَسِيح وَغَيره كَمَا يذكرُونَ أَنه قَالَ تَعَالَى لإسرائيل أَنْت ابْني بكري أَي بني إِسْرَائِيل وروح الْقُدس يُرَاد بِهِ الرّوح الَّتِي تنزل على الْأَنْبِيَاء كَمَا نزلت على دَاوُد وَغَيره فَإِن فِي كتبهمْ أَن روح الْقُدس كَانَت فِي دَاوُد وَغَيره وَأَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فَسَماهُ أَبَا للْجَمِيع لم يكن الْمَسِيح مَخْصُوصًا عِنْدهم باسم الابْن وَلَا يُوجد عِنْدهم لفظ الابْن إِلَّا اسْما للمصطفى المكرم لَا اسْما لشَيْء من صِفَات الله الْقَدِيمَة حَتَّى يكون الابْن صفة الله تولدت مِنْهُ وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ فِي هَذَا مَا يبين أَنه لَيْسَ المُرَاد بالابن كلمة الله الْقَدِيمَة الأزلية الَّتِي يَقُولُونَ
1 / 310
أَنَّهَا تولدت من الله عِنْدهم مَعَ كَونهَا أزلية وَلَا بِروح الْقُدس حَيَاة الله بل المُرَاد بالابن ناسوت الْمَسِيح وبروح الْقُدس مَا أنزل عَلَيْهِ من الْوَحْي وَالْملك الَّذِي أنزل بِهِ فَيكون قد أَمرهم بالايمان بِاللَّه وبرسوله وَبِمَا أنزلهُ على رَسُوله وَالْملك الَّذِي نزل بِهِ وَبِهَذَا الَّذِي نزل بِهِ وَبِهَذَا أمرت الْأَنْبِيَاء كلهم وَلَيْسَ للمسيح خَاصَّة اسْتحق بهَا أَن يكون فِيهِ شَيْء من اللاهوت لَكِن ظهر فِيهِ نور الله وَكَلَام الله وروح الله كَمَا ظهر فِي غَيره من الْأَنْبِيَاء وَالرسل
ومعلوله أَن غَيره أَيْضا فِيمَا ينقلونه عَن الْأَنْبِيَاء يُسمى ابْنا وروح الْقُدس حلت فِيهِ وَهَذَا مَبْسُوط فِي غير هَذَا الْموضع
وَالْمَقْصُود هُنَا التَّنْبِيه على أَن كَلَام الْأَنْبِيَاء ﵈ يصدق بعضه بَعْضًا وَأَنه لَيْسَ مَعَ النَّصَارَى حجَّة سمعية وَلَا عقلية توَافق مَا ابتدعوه وَلَكِن فسروا كَلَام الْأَنْبِيَاء بِمَا لَا يدل عَلَيْهِ وَعِنْدهم فِي الْإِنْجِيل أَنه قَالَ إِن السَّاعَة لَا يعلمهَا الْمَلَائِكَة وَلَا الابْن وَإِنَّمَا يعلمهَا الْأَب وَحده فَبين أَن الابْن لَا يعلم السَّاعَة فَعلم أَن الابْن لَيْسَ هُوَ الْقَدِيم الأزلى وَإِنَّمَا هُوَ الْمُحدث الزماني
فصل موقف الْأُمَم من الرُّسُل
وَأما قَوْله تَعَالَى ﴿يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ ومطهرك من الَّذين كفرُوا وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة﴾
فَهَذَا حق كَمَا أخبر الله بِهِ فَمن اتبع الْمَسِيح ﵇ جعله الله فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَكَانَ الَّذين اتَّبعُوهُ على دينه الَّذِي لم يُبدل قد جعلهم الله فَوق الْيَهُود أَيْضا فالنصارى فَوق الْيَهُود الَّذين كفرُوا بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
وَأما الْمُسلمُونَ فهم مُؤمنُونَ بِهِ لَيْسُوا كَافِرين بِهِ بل لما بدل النَّصَارَى دينه وَبعث الله مُحَمَّدًا ﷺ بدين الله الَّذِي بعث بِهِ الْمَسِيح وَغَيره من الْأَنْبِيَاء جعل الله مُحَمَّدًا وَأمته فَوق النَّصَارَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ إِنَّا معاشر
1 / 311
الْأَنْبِيَاء دينا وَاحِد وَإِن أولى النَّاس بِابْن مَرْيَم لأَنا لِأَنَّهُ لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي
قَالَ تَعَالَى ﴿شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ كبر على الْمُشْركين﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون فتقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ﴾ فَكل من كَانَ أتم إِيمَانًا بِاللَّه وَرُسُله كَانَ أَحَق بنصر الله تَعَالَى فَإِن الله تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه ﴿إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد﴾
وَقَالَ فِي كِتَابه ﴿وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون وَإِن جندنا لَهُم الغالبون﴾
الْيَهُود كذبُوا الرُّسُل
وَالْيَهُود كذبُوا الْمَسِيح ومحمدا ﷺ كَمَا قَالَ الله فيهم ﴿بئْسَمَا اشْتَروا بِهِ أنفسهم أَن يكفروا بِمَا أنزل الله بغيا أَن ينزل الله من فَضله على من يَشَاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب﴾
فالغضب الأول تكذيبهم الْمَسِيح وَالثَّانِي مُحَمَّدًا ﷺ وَالنَّصَارَى لم يكذبوا الْمَسِيح وَكَانُوا منصورين على الْيَهُود والمسلمون منصورون على الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُم آمنُوا بِجَمِيعِ كتب الله وَرُسُله وَلم يكذبوا بِشَيْء من كتبه وَلَا كذبُوا أحدا من رسله بل اتبعُوا مَا قَالَ الله لَهُم حَيْثُ قَالَ ﴿قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله وَقَالُوا سمعنَا وأطعنا غفرانك رَبنَا وَإِلَيْك الْمصير﴾
1 / 312
الْمُسلمُونَ أَتبَاع جَمِيع الرُّسُل
وَلما كَانَ الْمُسلمُونَ هم المتبعون لرسل الله كلهم الْمَسِيح وَغَيره وَكَانَ الله قد وعد الرُّسُل وأتباعهم قَالَ النَّبِي ﷺ فِي الحَدِيث الصَّحِيح لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرَة على الْحق لَا يضرهم من خالفهم وَلَا من خذلهم حَتَّى تقوم السَّاعَة وَقَالَ أَيْضا سَأَلت رَبِّي أَن لَا يُسَلط على أمتِي عدوا من غَيرهم فيجتاحهم فَأَعْطَانِيهَا الحَدِيث فَكَانَ مَا احْتَجُّوا بِهِ حجَّة عَلَيْهِم لَا لَهُم
فصل
وَأما قَوْله تَعَالَى ﴿من أهل الْكتاب أمة قَائِمَة يَتلون آيَات الله آنَاء اللَّيْل وهم يَسْجُدُونَ يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويسارعون فِي الْخيرَات وَأُولَئِكَ من الصَّالِحين﴾ فَهَذِهِ الْآيَة لَا اخْتِصَاص فِيهَا لِلنَّصَارَى بل هِيَ مَذْكُورَة بعد قَوْله تَعَالَى ﴿كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه وَلَو آمن أهل الْكتاب لَكَانَ خيرا لَهُم مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ لن يضروكم إِلَّا أَذَى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يولوكم الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ ضربت عَلَيْهِم الذلة أَيْن مَا ثقفوا إِلَّا بِحَبل من الله وحبل من النَّاس وباؤوا بغضب من الله وَضربت عَلَيْهِم المسكنة ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون﴾ ثمَّ قَالَ ﴿لَيْسُوا سَوَاء من أهل الْكتاب أمة قَائِمَة﴾ وَمَعْلُوم أَن الصّفة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق﴾ صفة للْيَهُود وَكَذَلِكَ قَوْله
1 / 313
﴿وَضربت عَلَيْهِم الذلة والمسكنة﴾
فَقَوله عقب ذَلِك من أهل الْكتاب أمة قَائِمَة لَا بُد أَن يكون متناولا للْيَهُود ثمَّ قد اتّفق الْمُسلمُونَ وَالنَّصَارَى على أَن الْيَهُود كفرُوا بالمسيح وَمُحَمّد ﷺ لَيْسَ فيهم مُؤمن وَهَذَا مَعْلُوم بالاضطرار من دين مُحَمَّد ﷺ وَالْآيَة إِذا تناولت النَّصَارَى كَانَ حكمهم فِي ذَلِك حكم الْيَهُود وَالله تَعَالَى إِنَّمَا أثنى على من آمن من أهل الْكتاب كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِن من أهل الْكتاب لمن يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم وَمَا أنزل إِلَيْهِم خاشعين لله لَا يشْتَرونَ بآيَات الله ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم إِن الله سريع الْحساب﴾
وَقد ذكر أَكثر الْعلمَاء أَن هَذِه الْآيَة الْأُخْرَى فِي آل عمرَان نزلت فِي النَّجَاشِيّ وَنَحْوه مِمَّن آمن بِالنَّبِيِّ ﷺ لكنه لم تمكنه الْهِجْرَة إِلَى النَّبِي ﷺ وَلَا الْعَمَل بشرائع الْإِسْلَام لكَون أهل بَلَده نَصَارَى لَا يوافقونه على إِظْهَار شرائع الْإِسْلَام وَقد قيل إِن النَّبِي ﷺ إِنَّمَا صلى عَلَيْهِ لما مَاتَ لأجل هَذَا فَإِنَّهُ لم يكن هُنَاكَ من يظْهر الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي جمَاعَة كَثِيرَة ظَاهِرَة كَمَا يُصَلِّي الْمُسلمُونَ على جنائزهم
وَلِهَذَا جعل من أهل الْكتاب مَعَ كَونه آمنا بِالنَّبِيِّ ﷺ بِمَنْزِلَة من يُؤمن بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي بِلَاد الْحَرْب وَلَا يتَمَكَّن من الْهِجْرَة إِلَى دَار الْإِسْلَام وَلَا يُمكنهُ الْعَمَل بشرائع الاسلام الظَّاهِرَة بل يعْمل مَا يُمكنهُ وَيسْقط عَنهُ مَا يعجز عَنهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة﴾ فقد يكون الرجل فِي الظَّاهِر من الْكفَّار وَهُوَ فِي الْبَاطِن مُؤمن كَمَا كَانَ مُؤمن آل فِرْعَوْن
قَالَ تَعَالَى ﴿وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب يَا قوم لكم الْملك الْيَوْم ظَاهِرين فِي الأَرْض فَمن ينصرنا من بَأْس الله إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْن مَا أريكم إِلَّا مَا أرى وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد يَوْم تولون مُدبرين مَا لكم من الله من عَاصِم وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب الَّذين يجادلون فِي آيَات﴾
1 / 314
فقد أخبر ﷾ أَنه حاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب وَأخْبر أَنه كَانَ من آل فِرْعَوْن رجل مُؤمن يكتم إيمَانه وَأَنه خاطبهم بِالْخِطَابِ الَّذِي ذكره فَهُوَ من آل فِرْعَوْن بِاعْتِبَار النّسَب وَالْجِنْس وَالظَّاهِر وَلَيْسَ هُوَ من آل فِرْعَوْن الَّذين يدْخلُونَ أَشد الْعَذَاب وَكَذَلِكَ امْرَأَة فِرْعَوْن لَيست من آل فِرْعَوْن هَؤُلَاءِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امْرَأَة فِرْعَوْن إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين﴾ وَامْرَأَة الرجل من آله بِدَلِيل قَوْله ﴿إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا إِنَّهَا لمن الغابرين﴾
وَهَكَذَا أهل الْكتاب فيهم من هُوَ فِي الظَّاهِر مِنْهُم وَهُوَ فِي بَاطِن يُؤمن بِاللَّه وَرَسُوله مُحَمَّد ﷺ يعْمل بِمَا يقدر عَلَيْهِ وَيسْقط عَنهُ مَا يعجز عَنهُ علما وَعَملا ﴿لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا﴾ وَهُوَ عَاجز عَن الْهِجْرَة إِلَى دَار الْإِسْلَام كعجز النَّجَاشِيّ وكما أَن الَّذين يظهرون الْإِسْلَام فيهم من هم فِي الظَّاهِر مُسلمُونَ وَفِيهِمْ من هُوَ مُنَافِق كَافِر فِي الْبَاطِن إِمَّا يَهُودِيّ وَإِمَّا مُشْرك وَإِمَّا معطل
كَذَلِك فِي أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين من هُوَ فِي الظَّاهِر مِنْهُم وَهُوَ فِي الْبَاطِن أهل الْإِيمَان
1 / 315
بِمُحَمد ﷺ يفعل مَا يقدر على علمه وَعَمله وَيسْقط عَنهُ مَا يعجز عَنهُ من ذَلِك
وَفِي حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس قَالَ لما مَاتَ النَّجَاشِيّ قَالَ النَّبِي ﷺ اسْتَغْفرُوا لأخيكم فَقَالَ بعض الْقَوْم تَأْمُرنَا أَن نَسْتَغْفِر لهَذَا العلج يَمُوت بِأَرْض الْحَبَشَة فَنزلت ﴿وَإِن من أهل الْكتاب لمن يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم﴾ ذكره ابْن أبي حَاتِم وَغَيره باسانيدهم وَذكر حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ اسْتَغْفرُوا لأخيكم النَّجَاشِيّ فَذكر مثله
وَكَذَلِكَ ذكر طَائِفَة من الْمُفَسّرين عَن جَابر وَابْن عَبَّاس وَأنس وَقَتَادَة أَنهم قَالُوا نزلت هَذِه الْآيَة فِي النَّجَاشِيّ ملك الْحَبَشَة واسْمه أَصْحَمَة وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّة وَذَلِكَ أَنه لما مَاتَ نعاه جِبْرِيل للنَّبِي ﷺ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ رَسُول الله ﷺ لأَصْحَابه اخْرُجُوا فصلوا على أَخ لكم مَاتَ بِغَيْر أَرْضكُم فَقَالُوا وَمن هُوَ قَالَ النَّجَاشِيّ فَخرج رَسُول الله ﷺ إِلَى البقيع وَزَاد بَعضهم وكشف لَهُ من الْمَدِينَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة فأبصر سَرِير النَّجَاشِيّ وَصلى عَلَيْهِ وَكبر أَربع تَكْبِيرَات واستغفر لَهُ وَقَالَ لأَصْحَابه اسْتَغْفرُوا لَهُ فَقَالَ المُنَافِقُونَ أبصروا الى هَذَا يُصَلِّي على علج حبشِي نَصْرَانِيّ لم يره قطّ وَلَيْسَ على دينه فَأنْزل الله تَعَالَى ﴿وَإِن من أهل الْكتاب لمن يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم وَمَا أنزل إِلَيْهِم خاشعين لله لَا يشْتَرونَ بآيَات الله ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم إِن الله سريع الْحساب﴾
وَقد ذهبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَنَّهَا نزلت فِيمَن كَانَ على دين الْمَسِيح ﵇ إِلَى أَن بعث الله مُحَمَّدًا ﷺ فَآمن بِهِ كَمَا نقل ذَلِك عَن عَطاء
وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنَّهَا نزلت فِي مؤمني أهل الْكتاب كلهم
وَالْقَوْل الأول أَجود فَإِن من آمن بِمُحَمد ﷺ وَأظْهر الْإِيمَان بِهِ وَهُوَ من أهل دَار الْإِسْلَام يعْمل بِمَا يعمله الْمُسلمُونَ ظَاهرا وَبَاطنا فَهَذَا من الْمُؤمنِينَ وَإِن كَانَ قبل ذَلِك مُشْركًا يعبد الْأَوْثَان فَكيف إِذا كَانَ كتابيا وَهَذَا مثل عبد الله بن سَلام وسلمان الْفَارِسِي
1 / 316
وَغَيرهمَا وَهَؤُلَاء لَا يُقَال إِنَّهُم من أهل الْكتاب كَمَا لَا يُقَال فِي الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار إِنَّهُم من الْمُشْركين وَعباد الْأَوْثَان وَلَا يُنكر أحد من الْمُنَافِقين وَلَا غَيرهم أَن يُصَلِّي على وَاحِد مِنْهُم بِخِلَاف من هُوَ فِي الظَّاهِر مِنْهُم وَفِي الْبَاطِن من الْمُؤمنِينَ وَفِي بِلَاد النَّصَارَى من هَذَا النَّوْع خلق كثير يكتمون إِيمَانهم إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا يكتمونه عَن الْعَامَّة ويظهرونه لخاصتهم وَهَؤُلَاء قد يتناولهم قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِن من أهل الْكتاب لمن يُؤمن بِاللَّه﴾ الْآيَة فَهَؤُلَاءِ لَا يدعونَ الْإِيمَان بِكِتَاب الله وَرَسُوله لأجل مَال يأخذونه كَمَا يفعل كثير من الْأَحْبَار والرهبان الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ويصدونهم عَن سَبِيل الله فيمنعونهم من الْإِيمَان بِمُحَمد ﷺ
وَأما قَوْله ﴿من أهل الْكتاب أمة قَائِمَة يَتلون آيَات الله آنَاء اللَّيْل وهم يَسْجُدُونَ يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويسارعون فِي الْخيرَات وَأُولَئِكَ من الصَّالِحين﴾ فَهَذِهِ الْآيَة تتَنَاوَل الْيَهُود أقوى مِمَّا تتَنَاوَل النَّصَارَى وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى ﴿وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ﴾ هَذَا مدح مُطلق لمن تمسك بِالتَّوْرَاةِ لَيْسَ فِي ذَلِك مدح لمن كذب الْمَسِيح وَلَا فِيهَا مدح لمن كذب مُحَمَّدًا ﷺ
وَهَذَا الْكَلَام تَفْسِير سِيَاق الْكَلَام فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى ﴿كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه﴾ ثمَّ قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَو آمن أهل الْكتاب لَكَانَ خيرا لَهُم مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ﴾ فقد جعلهم نَوْعَيْنِ نوعا مُؤمنين ونوعا فاسقين وهم أَكْثَرهم لقَوْله تَعَالَى ﴿مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ﴾ يتَنَاوَل من كَانَ مُؤمنا قبل مبعث مُحَمَّد ﷺ كَمَا يتناولهم قَوْله تَعَالَى ﴿وَجَعَلنَا فِي قُلُوب الَّذين اتَّبعُوهُ رأفة وَرَحْمَة﴾ إِلَى قَوْله ﴿وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ﴾ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَقَد أرسلنَا نوحًا وَإِبْرَاهِيم وَجَعَلنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب فَمنهمْ مهتد وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ﴾
وَقَوله عَن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل ﴿وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَاق وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين﴾ ثمَّ قَالَ ﴿وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ﴾ قَالَ ﴿لن يضروكم إِلَّا أَذَى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يولوكم الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ ضربت عَلَيْهِم الذلة أَيْن مَا ثقفوا إِلَّا بِحَبل من الله وحبل من النَّاس وباؤوا بغضب من الله وَضربت عَلَيْهِم المسكنة ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون﴾
1 / 317
وَضرب الذلة عَلَيْهِم أَيْنَمَا ثقفوا ومباؤهم بغضب من الله الْآيَة وَمَا ذكر مَعَه من قتل الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق وعصيانهم واعتدائهم كَانَ الْيَهُود متصفين بِهِ قبل مبعث مُحَمَّد ﷺ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة ﴿وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على طَعَام وَاحِد فَادع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قَالَ أتستبدلون الَّذِي هُوَ أدنى بِالَّذِي هُوَ خير اهبطوا مصرا فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم وَضربت عَلَيْهِم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ النَّبِيين بِغَيْر الْحق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون﴾ ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾
فتناولت هَذِه الْآيَة من كَانَ من أهل الْملَل الْأَرْبَع متمسكا بهَا قبل النّسخ بِغَيْر تَبْدِيل كَذَلِك آيَة آل عمرَان لما وصف أهل الْكتاب بِمَا كَانُوا متصفا بِهِ أَكْثَرهم قبل مُحَمَّد ﷺ من الْكفْر قَالَ ﴿لَيْسُوا سَوَاء من أهل الْكتاب أمة قَائِمَة يَتلون آيَات الله آنَاء اللَّيْل وهم يَسْجُدُونَ يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويسارعون فِي الْخيرَات وَأُولَئِكَ من الصَّالِحين﴾
وَهَذَا يتَنَاوَل من كَانَ متصفا مِنْهُم بِهَذَا قبل النّسخ فَإِنَّهُم كَانُوا على الدّين الْحق الَّذِي لم يُبدل وَلم ينْسَخ كَمَا قَالَ فِي الْأَعْرَاف ﴿وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ﴾ ﴿وقطعناهم فِي الأَرْض أمما مِنْهُم الصالحون وَمِنْهُم دون ذَلِك وبلوناهم بِالْحَسَنَاتِ والسيئات لَعَلَّهُم يرجعُونَ فخلف من بعدهمْ خلف ورثوا الْكتاب يَأْخُذُونَ عرض هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سيغفر لنا وَإِن يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه ألم يُؤْخَذ عَلَيْهِم مِيثَاق الْكتاب أَن لَا يَقُولُوا على الله إِلَّا الْحق ودرسوا مَا فِيهِ وَالدَّار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب وَأَقَامُوا الصَّلَاة إِنَّا لَا نضيع أجر المصلحين﴾ وَقد قَالَ تَعَالَى مُطلقًا ﴿وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ﴾
1 / 318
فَهَذَا خبر من الله عَمَّن كَانَ متصفا بِهَذَا الْوَصْف قبل مبعث مُحَمَّد ﷺ وَمن أدْرك من هَؤُلَاءِ مُحَمَّدًا ﷺ فَآمن بِهِ كَانَ لَهُ أجره مرَّتَيْنِ
فصل فِي ﴿إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم﴾
دَعْوَى النَّصَارَى فِي الْمَسِيح
قَالُوا وَقَالَ أَيْضا فِي مَوضِع آخر ﴿إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب﴾ فأعنى بقوله ﴿مثل عِيسَى﴾ إِشَارَة إِلَى الناسوت المؤخوذ من مَرْيَم الطاهرة لِأَنَّهُ لم يذكر هُنَا اسْم الْمَسِيح إِنَّمَا ذكر عِيسَى فَقَط
وكما أَن آدم خلق من غير جماع ومباضعة فَكَذَلِك جَسَد الْمَسِيح خلق من غير جماع وَلَا مباضعة وكما أَن جَسَد آدم ذاق الْمَوْت فَكَذَلِك جَسَد الْمَسِيح ذاق الْمَوْت وَقد يبرهن بقوله أَيْضا قَائِلا إِن الله ألْقى كَلمته إِلَى مَرْيَم وَذَلِكَ حسب قَوْلنَا معشر النَّصَارَى إِن كلمة الله الخالقة حلت فِي مَرْيَم وتجسدت بِإِنْسَان كَامِل
وعَلى هذاالمثال نقُول فِي السَّيِّد الْمَسِيح طبيعتان
طبيعة لاهوتية الَّتِي هِيَ طبيعة كلمة الله وروحه
وطبيعة ناسوتية الَّتِي اخذت من مَرْيَم الْعَذْرَاء واتحدت بِهِ وَلما تقدم بِهِ القَوْل من الله تَعَالَى على لِسَان مُوسَى النَّبِي إِذْ يَقُول أَلَيْسَ هَذَا الْأَب الَّذِي خلقك وبرأك واقتناك قيل وعَلى لِسَان دَاوُد النَّبِي روحك الْقُدس لَا تنْزع مني وَأَيْضًا على لِسَان دَاوُد النَّبِي بِكَلِمَة الله تشددت السَّمَوَات وبروح فَاه جَمِيع أفواههن وَلَيْسَ يدل هَذَا القَوْل على ثَلَاثَة خالقين بل خَالق وَاحِد الْأَب ونطقه أَي كَلمته وروحه أَي حَيَاته
الرَّد عَلَيْهِم حَقِيقَة القَوْل فِي عِيسَى وَالْجَوَاب من وُجُوه
1 / 319
أَحدهَا أَن قَوْله تَعَالَى ﴿إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون﴾ كَلَام حق فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خلق هَذَا النَّوْع البشري على الْأَقْسَام الممكنة ليبين عُمُوم قدرته
فخلق آدم من غير ذكر وَلَا أُنْثَى
وَخلق زَوجته حَوَّاء من ذكر بِلَا أُنْثَى كَمَا قَالَ ﴿وَخلق مِنْهَا زَوجهَا﴾
وَخلق الْمَسِيح من أُنْثَى بِلَا ذكر
وَخلق سَائِر الْخلق من ذكر وَأُنْثَى
وَكَانَ خلق آدم وحواء أعجب من خلق الْمَسِيح فَإِن حَوَّاء خلقت من ضلع آدم وَهَذَا أعجب من خلق الْمَسِيح فِي بطن مَرْيَم وَخلق آدم أعجب من هَذَا وَهَذَا وَهُوَ أصل خلق حَوَّاء
فَلهَذَا شبهه الله بِخلق آدم الَّذِي هُوَ أعجب من خلق الْمَسِيح فَإِذا كَانَ سُبْحَانَهُ قَادِرًا أَن يخلقه من تُرَاب وَالتُّرَاب لَيْسَ من جنس بدن الْإِنْسَان أَفلا يقدر أَن يخلقه من امْرَأَة هِيَ من جنس بدن الْإِنْسَان
وَهُوَ سُبْحَانَهُ خلق آدم من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون لما نفخ فِيهِ من روحه فَكَذَلِك الْمَسِيح نفخ فِيهِ من روحه وَقَالَ لَهُ كن فَيكون وَلم يكن آدم بِمَا نفخ فِيهِ من روحه لاهوتا وناسوتا بل كُله ناسوت فَكَذَلِك الْمَسِيح كُله ناسوت وَالله ﵎ ذكر هَذِه الْآيَة فِي ضمن الْآيَات الَّتِي أنزلهَا فِي شَأْن النَّصَارَى لما قدم على النَّبِي ﷺ نَصَارَى نَجْرَان وناظروه فِي الْمَسِيح وَأنزل الله فِيهِ مَا أنزل فَبين قَول الْحق الَّذِي اخْتلفت فِيهِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى فكذب الله الطَّائِفَتَيْنِ هَؤُلَاءِ فِي غلوهم فِيهِ وَهَؤُلَاء فِي ذمهم لَهُ
وَقَالَ عقب هَذِه الْآيَة ﴿فَمن حاجك فِيهِ من بعد مَا جَاءَك من الْعلم فَقل تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم وَنِسَاءَنَا ونساءكم وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ ثمَّ نبتهل فَنَجْعَل لعنة الله على الْكَاذِبين إِن هَذَا لَهو الْقَصَص الْحق وَمَا من إِلَه إِلَّا الله وَإِن الله لَهو الْعَزِيز الْحَكِيم فَإِن توَلّوا فَإِن الله عليم بالمفسدين قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَلا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ﴾
وَقد امثثل النَّبِي ﷺ قَول الله فَدَعَاهُمْ إِلَى المباهلة فعرفوا أَنهم إِن باهلوه أنزل الله عَلَيْهِم
1 / 320
لعنته فأقروا بالجزية وهم صاغرون ثمَّ كتب النَّبِي ﷺ الى هِرقل ملك الرّوم بقوله تَعَالَى ﴿يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا﴾ إِلَى آخرهَا وَكَانَ أَحْيَانًا يقْرَأ بهَا فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من رَكْعَتي الْفجْر وَيقْرَأ فِي الأولى بقوله ﴿قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ﴾
وَهَذَا كُله يبين أَن الْمَسِيح عبد لَيْسَ بإله وَأَنه مَخْلُوق كَمَا خلق آدم وَقد أَمر أَن يباهل من قَالَ أَنه إِلَه فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه الْمُخْتَص بِهِ ثمَّ يبتهل هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء وَيدعونَ الله أَن يَجْعَل لعنته على الْكَاذِبين فَإِن كَانَ النَّصَارَى كاذبين فِي قَوْلهم هُوَ الله حقت اللَّعْنَة عَلَيْهِم وَإِن كَانَ من قَالَ لَيْسَ هُوَ الله بل عبد الله كَاذِبًا حقت اللَّعْنَة عَلَيْهِ وَهَذَا إنصاف من صَاحب يَقِين يعلم أَنه على الْحق
وَالنَّصَارَى لما لم يعلمُوا أَنهم على الْحق نكلوا عَن المباهلة وَقد قَالَ عقب ذَلِك ﴿إِن هَذَا لَهو الْقَصَص الْحق وَمَا من إِلَه إِلَّا الله﴾ تكذبيا لِلنَّصَارَى الَّذين يَقُولُونَ هُوَ إِلَه حق من إِلَه حق فَكيف يُقَال أَنه أَرَادَ أَن الْمَسِيح فِيهِ لاهوت وناسوت وَأَن هَذَا هُوَ الناسوت فَقَط دون اللاهوت
وَبِهَذَا ظهر الْجَواب عَن قَوْلهم قَالَ فِي مَوضِع آخر إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم فأعنى بقوله عِيسَى أَشَارَ الى البشرية الْمَأْخُوذَة من مَرْيَم الطاهرة لِأَنَّهُ لم يذكر الناسوت هَا هُنَا اسْم الْمَسِيح إِنَّمَا ذكر عِيسَى فَقَط فَإِنَّهُ يُقَال عِيسَى هُوَ الْمَسِيح بِدَلِيل أَنه قَالَ ﴿مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل﴾ فَأخْبر أَنه لَيْسَ الْمَسِيح إِلَّا رَسُولا لَيْسَ هُوَ بإله وَأَنه ابْن مَرْيَم وَالَّذِي هُوَ ابْن مَرْيَم هُوَ الناسوت وَقَالَ ﴿إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة انْتَهوا خيرا لكم إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾
1 / 321
وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله ذَلِك قَوْلهم بأفواههم يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل قَاتلهم الله أَنى يؤفكون﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم قل فَمن يملك من الله شَيْئا إِن أَرَادَ أَن يهْلك الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَأمه وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا﴾
الْوَجْه الثَّانِي
أَن مَا ذَكرُوهُ من مَوته قد بَينا أَن الله لم يذكر ذَلِك وَأَن الْمَسِيح لم يمت بعد وَمَا ذَكرُوهُ من أَنه صلب ناسوته دون لاهوته بَاطِل من وَجْهَيْن إِن ناسوته لم يصلب وَلَيْسَ فِيهِ لاهوت وهم ذكرُوا ذَلِك دَعْوَى مُجَرّدَة فَيَكْفِي فِي مقابلتها الْمَنْع
الْوَجْه الثَّالِث
وَلَكِن نقُول فِي الْوَجْه الثَّالِث إِنَّهُم فِي اتِّحَاد اللاهوت بالناسوت يشبهونه تَارَة باتحاد المَاء بِاللَّبنِ وَهَذَا تَشْبِيه اليعقوبية وَتارَة باتحاد النَّار بالحديد أَو النَّفس بالجسم وَهَذَا تَشْبِيه الملكانية وَغَيرهم
وَمَعْلُوم أَنه لَا يصل إِلَى المَاء إِلَّا وصل إِلَى اللَّبن فَإِنَّهُ لَا يتَمَيَّز أَحدهمَا عَن الآخر وَكَذَلِكَ النَّار الَّتِي فِي الْحَدِيد مَتى طرق الْحَدِيد أَو بَصق عَلَيْهِ لحق ذَلِك بالنَّار الَّتِي فِيهِ وَالْبدن إِذا ضرب وعذب لحق ألم الضَّرْب وَالْعَذَاب للنَّفس فَكَأَن حَقِيقَة تمثيلهم يَقْتَضِي أَن اللاهوت أَصَابَهُ مَا أصَاب الناسوت من إهانة الْيَهُود وتعذيبهم وإتلافهم لَهُ والصلب الَّذِي ادعوهُ
وَهَذَا لَازم على القَوْل بالاتحاد فَإِن الِاتِّحَاد لَو كَانَ مَا يُصِيب أَحدهمَا لَا يشركهُ الآخر فِيهِ لم يكن هُنَا اتِّحَاد بل تعدد
1 / 322