إلا أنه - مع حرصه على المجاملة حرص الإفراط في بعض الأحيان - لم يجامل أحدا فيما يشذ عن آداب المناظرة أو يقحم المثالب الشخصية بين مباحث النقد ومناقشات الآراء، وكان يقول كما ذكر في ترجمته: «إنني أتحاشى في تحرير الصحيفة كل إساءة شخصية من تلك الإساءات التي وصمت بلادنا في السنوات الأخيرة. وكلما ألح الملحون علي لنشر كلام من هذا القبيل واحتجوا كعادتهم بحرية الصحافة، وشبهوا الصحيفة لتسويغ طلبهم بالمركبة الحافلة التي ينبغي أن تتسع لكل راكب وكل مشترك - كان جوابي لهم أنني على استعداد لطبع كلامهم على حدة ولهم أن يطبعوا منها النسخ التي يريدونها ويباشرون توزيعها، ولكنني أنا غير مسئول أن أشترك معهم في عمل لا أرضاه.»
ولا نخاله كان بحاجة خاصة إلى مطبعة خصوصية لطبع رسائله في باريس، فربما كان حكم العادة وحب الصناعة التي شب عليها سلواه في أيام الشيخوخة وباعثه الأول إلى اقتناء المطبعة الخصوصية قبل كل باعث من بواعث الأعمال السياسية أو الأدبية، ولكن مطبعة «باسي» على هذا قد أخرجت له نخبة من الرسائل والنشرات لم تخرج مطابعه الأولى نظيرا لها أيام الشباب، ولو سقطت هذه المطبوعات من مجموعته الكاملة لاختفى باختفائها أجمل ما كتب من الفكاهة والنقد بعد تهذيب السن وحنكة الشيخوخة والاطلاع.
وفقا للخطة المقررة.
هذه عبارة شاعت أيام الحرب الأخيرة، في بلاغات القيادات العسكرية، وتعود القراء بعد تكرارها أن يفهموا منها أنها تكتب في البلاغات التي تنذر بالارتداد من غير اعتراف بالهزيمة! فإذا سمعوا خبرا يبتدئ بالتراجع والارتداد بادروا إلى تمامه متهكمين: نعم. وفقا للخطة المقررة.
ترى هل كان أصحاب هذه البلاغات من قراء فرنكلين؟
لا نظنهم قرءوه. ولكنه قد سبقهم إلى هذه العبارة وأمثالها، وعود قراءه قبلهم أن يتوقعوا كل حركة كبيرة من حركات سيرته الحافلة، وفقا للخطة المقررة! وعودهم أن يبتسموا لهذه الخطة التي ترسم كل حركة من حركاته سلفا حتى حركات الأفكار والأخلاق! ولكنهم يبتسمون هنا لتلك العادة المزمنة التي لا تتغير ولا تذكر إلا مقرونة بأخبار النجاح، فليس في ابتسامتهم المتوالية شيء من التهكم أو السخرية على إخفاء الفشل بالدعوى، بل هي ابتسامات العطف التي ترتفع إلى الشفاه كلما نظر الناظر فرأى أمامه وجها قديما يطالعه من جديد، ويرجع إليه في كل مرة على ديدنه وهجيراه.
قال فرنكلين يصف مقدمات سيرته الطويلة: «إن الذين يكتبون عن فن الشعر يعلموننا أننا لا ننظم شيئا جديرا بأن يقرأ إلا إذا رسمنا له من البداءة خطة مفصلة عن مقاصده، وإلا تورطنا في السخف والإطالة، وأراني أعتقد أن هذه الخطة تصدق على الحياة برمتها، خلافا لمنزعي الأول إذ كنت لا أتبع في حياتي خطة موحدة، ولا أرى الحياة على هذه الحالة إلا شتيتا من المناظر لا تربط بينها رابطة. وإنني الآن لمقدم على حياة جديدة، ولا بد لي من عزائم أمضي عليها ومسالك في الأعمال أتوخاها؛ كي أعيش من جميع الوجوه عيشة مخلوق عاقل. فليكن لزاما علي إذن أن أتحرى القصد زمنا لأبرئ ذمتي من كل زيف، وأن أروض نفسي على قول الصدق في كل موقف، فلا أدع إنسانا يتوقع من كلامي أملا لا يتحقق، ولا أحيد عن سنة الإخلاص في كل كلمة أفوه بها أو عمل أعمله، وهي أحب السنن في مناقب العقلاء، وأن أفرغ نفسي بجهد وعناية لكل شاغل أقدم عليه، فلا أنصرف بذهني عنه سعيا وراء الأمل الخادع في الثروة العاجلة؛ لأن الاجتهاد والمثابرة أضمن وسائل الثراء، وعلي ألا أنبس بكلمة مسيئة عن إنسان من الناس ولو في سياق الإفضاء بالحقيقة، بل أحاول أن ألتمس المعاذير لما أسمعه من أخطاء الناس، وأن أذكرهم بالثناء في كل مقام.»
3
وعلى هذا البرنامج سار فرنكلين في حياته الكتابية وحياته الصحفية، فلم يقصر عن غاية كان في وسعه أن يبلغها، وتقدم إلى الطليعة بين كتاب عصره في وطنه وغير وطنه، ونظم من حياته قصيدة لا اختلال في أوزانها على النحو الذي رواه عن فن الشعر في رأي معلميه. ولا ريب أن هذه القصيدة الحية، بل هذه الملحمة الوافية، أبدع قصائده من منظوماته وأناشيده، فلم ينظم من الشعر ما أبقاه أو تركه للبقاء، ولم يطاوع هواه مع عروس الشعر إلا ليستعين بها على حفظ كلمات المنثور أو توقيع الأناشيد في مجلس من مجالس الحبور، فلم تبق له غير قصيدة واحدة ذات قواف متعددة، هي الحياة على هذا الوزن الرتيب، ومن قوافيها المتعددة قافية الكاتب الأديب.
السياسي
Página desconocida