ولا يخفى على الذين اختبروا تعلم اللغات أن الصعوبة فيها درجات؛ أولاها درجة الفهم من الكلام المكتوب، وتليها درجة الفهم من الكلام المسموع؛ لأنه يرتبط بلهجات النطق الذي لا يسهل التقاطه على السمع ساعة النطق به، كما يسهل التقاط الحرف المكتوب ثم التأمل في الكلمات على الإجمال، وتلي هذه الدرجة في الصعوبة درجة السماع والإجابة عليه بالكلام المفيد، ولا سيما الكلام المصطلح عليه فيما جرت به تقاليد أبناء اللغة من المثقفين وغير المثقفين.
وفرنكلين لم يبدد جهده في لغة من اللغات التي تعلمها لغير ضرورة، وقد عاش في فرنسا زمنا، واتصل فيها بصفوة العلماء والمتعلمين، وعالج الكتابة وأحسنها إلى حد الرضا من طبقة المتكلمين بالفرنسية النقية في زمانه، ولكنه ظل إلى آخر أيامه بين الفرنسيين يفهم الكلام في المجلس، ولا يفهم الكلام في الخطابة العامة، ولا سيما الخطابة السريعة التي لا تجري مجرى الحوار على حسب المفهوم من السؤال والجواب، والتي يترتب على فوات معنى من معانيها فوات المعاني التالية لها إلى آخر الخطاب.
ومن طرائفه في هذه المآزق - وهي طريفة تدل على لطف الحيلة كما تدل على حب المجاملة - أنه حضر اجتماعا عاما تعاقب فيه الخطباء وتعذر عليه أن يتابع فهم الخطب، وعز عليه أن يهمل واجب التحية وينفرد بهذا الإهمال بين المستمعين، فاحتال على الخروج من هذا المأزق بمراقبة إحدى السيدات الحاضرات ممن يثق بذوقهن وفهمهن وبعدهن من الغرض في مهب الأهواء السياسية، وجعل يتابعها بالتصفيق كلما صفقت، وبالسكوت كلما سكتت، وهو يحسب أنه قد أحسن الحيلة، وتخلص من المأزق، وأدى واجب المجاملة للمتكلمين والمستمعين، ثم علم بعد ذلك أنه كان يجامل نفسه على غير قصد منه، وقال له حفيده: إنه كان يصفق للثناء عليه والتنويه بمآثره! وإنه كان يكثر من التصفيق كلما أكثر الخطباء من الثناء والتنويه، وكان لا يكتفي بتصفيق السيدة، ومن يصفقون معها بل يحب دائما أن يزيد عليه فضلة من عنده ... ولعله لم يخسر بهذا الموقف الطريف الذي ساقه إليه جهله باللغة وحبه للمجاملة، فإن أذكياء الباريسيين والباريسيات لا تفوتهم حيلته التي كشفها لهم على الرغم منه، ولا تضيره عندهم ولا تحرمه لديهم من ابتسامة العطف والتسلية! ... وقد روى الكثيرون ممن سمعوه يتكلم الفرنسية مع صفوة المجتمع الباريسي من العلماء والنبلاء أن الخطأ في كلامه كان أحب إليهم من الصواب؛ لأنهم يتفكهون به ويكشفون ما ينطوي فيه من حسن الاحتيال على التعبير.
ولم يكتب فرنكلين لغير الصحافة إلا القليل، وأطول مؤلفاته ترجمته التي كتبها لنفسه ولم يتمها إلى نهايتها ولم تظهر في حياته، وله رسالة في الأخلاق كتبها في إنجلترا وسماها «مبحث في الحرية والضرورة والسرور والألم» غلبت فيها عليه فلسفة العصر كله، وذهب فيها مذهب القائلين بأن الفضيلة والرذيلة لا وجود لهما في الطبيعة التي تسيرها قوانين الضرورة وتدار وفاقا لتلك القوانين كما تدار الآلات، ثم عدل عن هذا الرأي أو عدله تعديلا يبقي للفكرة قالبها ويغير جوهرها، فكان مذهبه الذي صمد عليه بقية حياته أن الفضيلة أهل لأن يفضلها المختار لو أنه أحسن الاختيار، وأن الخبثاء الدهاة لو عرفوا قيمتها لأصبحوا باختيارهم فضلاء بوحي من الخبث والدهاء، وتعود بنا هذه المصالحة بين الضرورة والاختيار إلى تلك النزعة الواقعية التي تلاقي النزعة المثالية في منتصف الطريق، فتتقاربان، أو هما على الأقل لا تتنافران.
وفيما عدا الترجمة والرسالة الأخلاقية، لم يفرغ لتأليف الكتب مع اشتغاله بالصحافة والتجارب العلمية ووظائف الحكومة التي وكلت إليه بعد اشتهار اسمه وذيوع مخترعاته وعلومه. وقد كان عمله في الصحافة أعمالا متشعبة كما تقدم، فإنها كانت تشمل التحرير والطباعة والنشر وإنشاء الصحف وتوزيعها وبيع الكتب التي يطبعها أو يستوردها من البلاد الإنجليزية، وكانت الطباعة التي يتولاها تشمل سبك الحروف. وإدارة المكنات وحفر النقوش وكل صناعة طباعية يحتاج إليها الصحفي والناشر في عمله. وقد عقد النية منذ فارق أخاه على أن يشتغل بإنشاء صحيفة يملكها ويتصرف في إدارتها وتحريرها، فبدأ بعد عودته من لندن إلى فلادلفيا بشراء مطبعة نجحت في إتقان مطبوعاتها وتوفير عملائها، ثم اشترى في سنة (1729) صحيفة بنسلفانيا جازيت، وأصدر تقويم ريتشارد المسكين بعد ذلك بثلاث سنوات، وضم إلى الصحيفة مجلة سماها المجلة العامة
The General Magazine and Historical Chronicle
صدرت في سنة (1741) وكانت ثانية المجلات التي صدرت في الولايات الأمريكية، وحاول في أثناء ذلك إصدار صحيفة ألمانية يكتبها أستاذ من أساتذة اللغات، فصدرت منها أعداد قليلة، ولكنها لم تعمر طويلا لقلة القراء باللغة الألمانية، ومكنته سمعته الحسنة في الصحافة والطباعة من المشاركة في بعض صحف الجنوب، ثم أرادت الجماعة النيابية بكارولينا الجنوبية أن تشجع الطباعين على إنشاء مطبعة فيها، فتبرعت بألف جنيه لمن يقيم مطبعة كاملة في الولاية، فاتفق فرنكلين مع أحد زملائه على إقامة المطبعة مشتركين في إدارتها وأرباحها، وحيل بينه وبين الحصول على المعونة الموعودة فلم يكف عن السعي حتى حصل عليها بعد وفاة الطباع المزاحم له (سنة 1732) وأصبح هو وشريكه مستقلين بإصدار صحيفة الولاية باسم «سوث كارولينا جازيت» أي صحيفة كارولينا الجنوبية.
وكان فرنكلين كفؤا لكل صعوبة تعترضه في أعماله الصحفية، ولا سيما أعمال النشر والتوزيع، ومن أخطر هذه الصعوبات التي تغلب عليها أنه مني بمزاحمة أندرو برادفورد مدير البريد يوم كان البريد «التزاما» يتولاه المدير لحسابه، ولا يدخل في عداد المصالح الحكومية، فمنع برادفورد سعاته من توزيع صحيفة فرنكلين وأوشك أن يشل حركتها لولا ذلك الخلق المطبوع الذي أسعد فرنكلين بالأنصار والأعوان في جميع المآزق المحرجة، وهو خلق الكياسة، وطيب المعاشرة، وحسن التفاهم مع الناس من كل طبقة، فلم يلبث أن تفاهم مع السعاة، واسترضاهم بالهدايا تارة والإقناع تارة أخرى، فأقبلوا على توزيع صحيفته على غير علم من مديرهم، ونجح حيث أخفق مدير البريد.
وأعانه هذا الخلق على اجتذاب العملاء، فأقبلت دواوين الحكومة على طبع أوراقها عنده، واختاره تجار الكتب لطبع الكتب التي يوزعونها، وكان هو يطبع من التصانيف السلفية ما يقدر له الرواج في كل زمن، كالمجاميع القانونية، ومجاميع الصلوات، ودساتير الماسونيين، ومفكرات التطبيب، والإسعاف، ودواوين القصائد التي تصلح للمناسبات، ونصائح الإرشاد في مشكلات الأسر، وأصحاب المعاملات، ومراجع الصناعة التي تجمع بين العلم والفائدة، غير ما كان يستورده من المطبوعات الأدبية الي يقبل عليها قراء الشعر والنثر من خاصة القراء، ولم يكن يستورد منها غير العدد الذي ينفد لساعته، ويضمن له ثقة الخاصة من قراء الإقليم وتعويلهم على مطبوعاته ووارداته.
ومن المحرجات في صناعة الطبع والنشر ما يحسه فرنكلين بصفة خاصة؛ لأنه على إيمانه بحرية الرأي يكره العداوات، ولا يميل إلى إغضاب المخالفين ما استطاع أن يرضيهم بالكلمة الحسنة والصراحة المقبولة، وليس من اليسير على طابع أو ناشر أن يقصر مطبوعاته ومنشوراته على ما يرضي الناس جميعا ولا يسوء أحدا منهم، وأعسر ما كان ذلك في عصر المجادلات السياسية والدينية بين أناس من مختلف الأقدار والعقائد والميول، فاجتهد فرنكلين في اجتناب ما يمكن اجتنابه مما يسوء القارئ لغير ضرورة، ولم يبال بعد ذلك أن ينشر ويكتب ما يخالف أناسا ويوافق آخرين، وكتب دفاعه عن صناعة الطباعين توضيحا لمسلكه بين الآراء المتضاربة، فكاد يرضى الجميع به لو كان إلى إرضاء الجميع من سبيل.
Página desconocida