تمهيد
الجزء الأول: عن فرانكلين
معالم الطريق
العالم
الكاتب
السياسي
الفيلسوف
الإنسان
الجزء الثاني: من فرانكلين
تمهيد
Página desconocida
تقويم ريتشارد المسكين
رسائل
خرافات وحكايات ذات مغزى
علميات
اجتماعيات
محاكمة السحرة في جبل هولي
خاتمة
تمهيد
الجزء الأول: عن فرانكلين
معالم الطريق
Página desconocida
العالم
الكاتب
السياسي
الفيلسوف
الإنسان
الجزء الثاني: من فرانكلين
تمهيد
تقويم ريتشارد المسكين
رسائل
خرافات وحكايات ذات مغزى
Página desconocida
علميات
اجتماعيات
محاكمة السحرة في جبل هولي
خاتمة
بنجامين فرنكلين
بنجامين فرنكلين
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
إنسان وافر النصيب من ثناء الناس، ومن ثناء الذين لا يثنون على أحد إلا بمقدار، وقلما يثنون بمقدار.
Página desconocida
حياه فولتير فسماه «فرنكلين المجيد الحكيم».
1
وحياه دافيد هيوم فقال: «إنه الفيلسوف الأول والأديب الأول الذي جذب أنظار أوروبا إلى البلاد الأمريكية.»
2
وحياة المصلح الناقد صمويل روميلي فقال بعد زيارته: «بين المشاهير الذين اتفق لي أن رأيتهم في حياتي، يلوح لي أن فرنكلين - بسيماه وحديثه - أجدرهم بالتنويه فطلعته الأبوية وبساطته في هيئته وكلامه، وجدة ملاحظاته، تركت في نفسي رأيا فيه أنه من صفوة الرجال الذين وجدوا في كل زمان.»
3
وقال بلزاك: «إنه اخترع عمود الصواعق، واخترع القفشة، واخترع الجمهورية.»
وخاطبه رئيس قومه واشنطون فقال: «إذا كان التبجيل إكراما للخير، وإذا كان الإعجاب إكراما للنبوغ، وإذا كان التقدير للوطنية، والحب للإنسانية خليقة أن تلهم عقل الإنسان الرضا والغبطة، فلا مشاحة يتوافر لك السلوان بالحياة التي لا تذهب سدى.»
4
وقال رئيس قومه فرنكلين روزفلت وهو يحيي ذكراه بعد مائة وخمسين سنة: «إن بنيامين فرنكلين الذي تدين له الجامعة - جامعة ييل - بالكثير، قد أدرك أيضا أن المبادئ الأساسية في العلم، والأخلاق، وآداب الاجتماع على خلودها تتجدد بالتطبيق والتنفيذ على حسب المعيشة من جيل إلى جيل، وإنني على يقين أنه لو كان معنا اليوم لقرر أن الواجب الأكبر على الفيلسوف والمعلم أن يحققا المثل العليا للحق، والخير، والعدل بقسطاس الحاضر لا بقسطاس الزمن الغابر.»
Página desconocida
5
هؤلاء يحملون غصن التحية.
وأناس آخرون يثنون عليه وهم لا يحملون غير الميزان، وقد يحسنون حمله باليمين وباليسار.
قال ليونل الفين
Lionel Elvin
في كتابه رجال أمريكا:
كان للحياة في نفسه حب وعلاقات شتى، وكان يحسن المتعة باللغو، ويجتذب إليه القلوب ويملكها بتلك المودة التي تنجم من القناعة العميقة والصفاء القرير. وحق أنه كان إلى العطف أقرب منه إلى الشعور اللاعج، وإلى الفطنة أقرب منه إلى القريحة الشعرية، وإلى الأخلاق العملية أقرب منه إلى السريرة الصوفية، وإلى الإصلاح أقرب منه إلى الثورة، والانقلاب، وإلى أن يعد في زمرة أبناء الدنيا أقرب من أن يعد في زمرة الأنبياء، ولو أنه قذف به إلى جزيرة خالية لكان مسلكه فيها كمسلك روبنسون كروزو، ولم يكن مسلكه ثمة كمسلك إسكندر سلكيرك من تصنيف كوبر، وإن اختلاف الرأي في عرض هذا الخلق على معيار النقد ليتوقف على مزاج الناقد وتقديره، وإنما أساس النقد كله أن فرنكلين قد أفرط في التوحيد بين الفضيلة والنجاح المحترم، أو كما كتب على هامش ترجمته: ما من شيء كالفضيلة يكفل للمرء حظه، ولكن مما يوضع له في الكفة الأخرى أنه إذا لم يكن قد عبر علمه وحبه لخير بلاده الأمريكية، كما جعل الدنيا كلها مكانا أصلح للعيش فيه. وقد صعد بمجهوده في سلم وطنه الجديد، وقذف بكل عن أرفع الآفاق وأبعد الأعماق في الطبيعة الإنسانية. قد جعل بفضل ما عنده في معركة الديمقراطية التي تقابل المجتمع الخاضع لسلطان الاستبداد، وآمن بأن الناس جميعا ينبغي أن يكونوا - في كل مكان - راضين سمحين أحرارا مثقفين، وأن العمل لمثل هذه الغاية وحسن الإبانة عنها ليس بالمطلب الصغير ولا بالأمر الهين.
ومن الذين يثنون عليه من لا يحملون غصن التحية ولا يحملون ميزان الحساب، ولكنهم يحتكمون إلى هوى العاشق وشوق المفتون، ويقولون بلسان قائلهم لورنس نبي الجسد في القرن العشرين: «إنني لأعجب به.» «أعجب بشجاعته الدءوب قبل كل شيء، ثم أعجب بحصافته، ثم ببصره النافذ في غمائم البروق والرعود والكهربا، ثم بفكاهته الدارجة؛ كلها خصال الرجل العظيم الذي لم يكن قط أكبر من مواطن عظيم.»
ثم يقول، أو تقول شيعته كلها بلسانه: «إنه طابع، فيلسوف، عالم، مؤلف، وطني، زوج صالح، مواطن، فما باله لا يكون نموذجا يقاس عليه؟»
أتراه رائدا؟ يا للرواد!
Página desconocida
لقد كان بنيامين رائدا من أكبر الرواد في الولايات المتحدة، ولكننا لا نستطيع أن نسلك معه، فما هو جانب الخطأ فيه؟ وما هو جانب الخطأ فينا؟ «إنني لأذكر في صباي كيف كان أبي يشتري الكتاب الذي يسمى التقويم، وتظهر على غلافه صور الشمس والقمر والنجوم، وتتخلله النبوءات عن الحروب والمجاعات، ومعها في الزوايا نوادر وأضاحيك تمازجها العبر والعظات، وقد كنت أضحك ضحكتي الصغيرة الغريرة من تلك المرأة التي تعودت أن تعد الكتاكيت قبل انفراج البيض عنها وما إلى هذه الفكاهات، وعلمت من ثم أن الأمانة أفضل سياسة بشيء من تلك الغرارة، وكان مؤلف هذه الشذور ريتشارد المسكين، وكان ريتشارد المسكين بنيامين فرنكلين، كاتبا ما كتب في فلادلفيا قبل أكثر من مائة عام، وربما كنت حتى اليوم لا أسيغ تلك العبر والعظات، ولا أزال ضائقا بها، كأنها الشوك في لحم الصبي الصغير، ولأنني لا أزال أومن بأن الأمانة أفضل سياسة أراني أبغض السياسة بحذافيرها، وإنه لسواء عندي أن تعد الكتاكيت قبل مولدها، وأن تعدها منهوما بمنظرها بعد خروجها من البيضة، ولقد لبثت السنوات الطوال، وعانيت الوخزات التي لا عداد لها كي أخلص من ذلك السلك الشائك الذي أقام به ريتشارد المسكين أسوار الأخلاق.»
وقبل ذلك يقول لورنس عن فرنكلين والروح الإنسانية: «إن الروح الإنساني غاب ألفاف، وفرنكلين يقتطع منه حيزا يحرثه ويدير عليه حائط البستان.»
6
وهذا هو الشرط الناقص في معيار لورنس نبي الجسد في القرن العشرين، أو نبي النزوات الحسية على التعبير الصحيح.
فلا يوافق ذوقه نظام متكشف لضوء النهار، ولا بد من الألفاف المتشابكة على غير نسق معلوم، ولا بد من الزوايا المظلمة، واللفحات المضطربة هنا وهناك، ولا بد من صدع الحائط حول البستان ليزول البستان اسما وسمة، ولا يبقى غير الغابة ذات الألفاف، وذات السباع، وحبذا لو اتسعت للأفاعي مع السباع!
ولا يطلب من كل عظيم أن يكون وفقا لشروط لورنس فيما يستحق به المحبة والعاطفة المشتعلة، حسب العظيم أن يكون وفقا لإعجابه وتعظيمه بسبب أو سببين، وقد كان فرنكلين وفقا لشروط إعجابه بأسباب كثيرة: شجاعة وحصافة وبصر نافذ خلل الغمام، وفكاهة دارجة ووطنية جديرة بالإعظام والإكرام.
ولا نكتم عن أنفسنا أننا نرضى عن معيار لورنس في تقدير العظمة بعض الرضا، ولا نحس في صميم الوجدان أننا ننكره كل الإنكار.
أتكون عظمة بغير نار مقدسة؟
كلا. لا غنى عن هذه النار المقدسة في عظمة عظيم، وليس من حق النظام ولا النور أن يسلبها تلك النار التي لا يقر لها قرار.
إلا أن العبقرية كلها نار مقدسة، والعبقرية كلها لا يقر لها قرار مع اضطرام تلك النار.
Página desconocida
وفرنكلين على وفاق هذا الشرط بغير شذوذ ولا استثناء، فلا دخان ولا شرر ولا قعقعة من الوقود المتأجج بين الضرام.
ولكن النار هناك في الموقد المصون.
لا صاعقة تنقض على الحطام بين البروق والرعود، ولكن العمود هناك يتلقى الصاعقة في أمان.
والتفرقة بين النارين حتم في مقام الكلام على عبقرية فرنكلين. أليس هو صاحب الموقد الذي نحس ناره ولا نحس دخانه وشرره؟ أليس هو صاحب العمود الذي يستنزل الصاعقة ويروضها بعد الجماح رياضة الفارس الخبير؟
إن العبقرية التي يعجب بها لورنس كالنار التي تلتهب في المدخنة، ثم تطير الحرارة منها بين الجدران وبين الهواء والهباء.
ولم تذهب هذه النار بين يدي فرنكلين؛ لأنه صاحب الموقد الذي اخترعه ليحفظ النار ويبثها على السواء بين الجدران، وليرسل منها إلى الفضاء ما تستغني عنه الأبدان.
والصاعقة لم تذهب كذلك بين يديه، ولكنه ساسها وقادها وأسلس زمامها، فهي صاعقة في طريقها بين السماء والأرض، ولكنها من قبيل العبقرية التي خلقت لفرنكلين!
ويوشك أن يكون التشبيه هنا واقعة محتومة لا مجاز فيها، ويوشك أن يكون الموقد وعمود الصاعقة من اختراع هذا العبقري؛ لأنهما أشبه النيران بعبقريته الطيعة الرفيقة: عبقرية تعجب النفوس والعقول، ولكنها لا تروع ولا تهول.
لهذه العبقرية محلها بين العبقريات في كل زمن، ولعلها أولى بالمحل الأول من هذا الزمن خاصة؛ لأنه زمن لا تعوزه عبقريات اللهيب والدخان، وقد تعوزه المئات من عبقريات النور والهداية والأمان.
ومن رسائل هذه العبقرية في هذا الزمن أنه زمن ضاعت فيه الشخصية الإنسانية بين التخصص والكثرة العددية، وكلاهما «فناء» لمزايا الإنسان أشبه بفناء «النرفانا» في عقائد المنهزمين المنكرين للحياة.
Página desconocida
إن «التخصص» قد جار على «الشخصية الإنسانية» فلم يترك في كل امرئ إلا جزءا من إنسان مستغرقا في جزء من المعرفة وجزء من العناية بالعالم الواسع الذي يعيش فيه، وليس أضر، ولا أوخم من هذه التجزئة في الزمن الذي ولدت فيه الفكرة العالمية وأصبحت علاقة العالم الإنساني بعضه ببعض حقيقة متمكنة تتطلب الإنسان كله للمساهمة فيها، ولا تقنع منه بجزء ناقص محبوس في أصداف المحار.
وإن هذه العبقرية التي تعددت جوانبها وتشعبت شواغلها، مع الاتزان والاعتدال وحسن الإحاطة والإجمال، لهي الترياق الذي يشفي من هذه الآفة، والقدرة التي تستنهض الهمة لمحاكاتها، ثم لا تيئسها من بلوغ الغاية في المحاكاة؛ لأنها - بطبيعتها - تعجب النفوس والعقول، ولكنها لا تروع ولا تهول.
وقد جارت الكثرة العددية على معالم الشخصية الإنسانية فوق هذا الجور الذي ابتليت به من داء التخصص والانحصار، وقد تجدي هذه العبقرية جدواها التي لا تشبهها جدوى العبقريات الأخرى في إنصاف «الشخصية» الممتازة من طوفان الكثرة العددية؛ لأنها من هذه الكثرة خرجت، ولهذه الكثرة عملت، وعلى هذه الكثرة عولت في كل مرحلة من مراحل النجاح وعلى كل درجة من درجات السمو والارتفاع، فلم يمنعها ارتفاعها من غمار الكثرة العددية أن تكون من زمانها إلى هذا الزمان مثلا نادرا «للشخصية» الفذة التي لا تضيع في غمار.
والصفحات التالية صور متتابعة لهذه الشخصية أو لهذه العبقرية، لم نحفل فيها بسجل الأرقام ولا بإحصاء الأيام، ولم نكتبها لنبدأ فيها بسنة الولادة، ونختمها بسنة الوفاة، ونمضي فيها مع التقويم شهرا بعد شهر وعاما بعد عام، ولكننا كتبناها كما نكتب تراجمنا عامة لنعرض فيها لمحة بعد لمحة تتم بها ملامح الصورة بعد الفراغ من النظر إليها، وقد يتابعها القارئ فلا يفوته من ذلك سجل الأرقام ولا إحصاء الأيام، وإنما يلم بها حيث يعبرها في طريقه، ويستغني عنها بعد ذلك إذا شاء، أو يبقيها على حد سواء.
وسنبدأ «الصورة» بترجمة مجملة ترسم مراحل الطريق، أو ترسم حدود النظر إلى الإطار الذي يحيط بملامحها وقسماتها، ثم نتبعها بصورة لكل جانب من جوانب هذه الشخصية على أعمها وأوسعها، مع صعوبة التعميم والإحاطة بهذه الشخصية الفذة التي لم تدع شأنا من شئون عصرها إلا اشتغلت به في وقت من الأوقات، ثم ندع لها أن تتكلم بلسانها، وتعبر لنا عن كل جانب من جوانبها، ولعل الكلام الذي نسمعه منها أدل عليها من كل كلام يقال فيها.
ولنبدأ بالترجمة: ترجمة العالم الكاتب السياسي الفيلسوف الإنسان.
عباس محمود العقاد
الجزء الأول
عن فرانكلين
معالم الطريق
Página desconocida
كتب فرنكلين سيرته التي سماها المفكرات، وسميت فيما بعد بالترجمة الذاتية، وبدأها وهو ينوي أن يخص بها أبناء أسرته للاستفادة بها في شئونهم العائلية، ثم اطلع عليها بعض أصدقائه فأعجبوا بها وأشاروا عليه بإتمامها وتعميم نشرها، ولكنها لم تنشر في حياته ولم يحصل عليها الناشرون كاملة، إلا بعد مساومات ومفاوضات طويلة مع الذين جمعوا أجزاءها في فرنسا، حيث ظهر الجزء الأول منها للمرة الأولى مترجما إلى اللغة الفرنسية.
وقد كتبت هذه الترجمة على أربعة أجزاء في أوقات متعددة وأماكن متفرقة.
كتب الجزء الأول منها في إنجلترا وهو في الخامسة والستين من عمره، واشتمل بعد تاريخ أسلافه على تاريخ حياته من مولده في سنة 1706 إلى زواجه سنة 1730.
وكتب الجزء الثاني في باسي بفرنسا بعد ذلك بثلاث عشرة سنة (أي سنة 1784).
وكتب الجزء الثالث بعد أربع سنوات (1788) على أثر عودته إلى فلادلفيا وبلغ به حوادث سنة 1757 حين كان في الحادية والخمسين.
والمظنون أنه أضاف إليها الجزء الرابع ما بين أواخر سنة 1789 وأوائل سنة 1790 قبل وفاته بفترة وجيزة.
ولا توجد بين الترجمات الذاتية ترجمة لها نصيب هذه الترجمة من الإقبال والقراءة العامة؛ لأنها حديث شائق عن رجل مشهور محبوب يروي قصة حياته ، ويحسن روايتها على النسق الذي يهم كل قارئ وقارئة كأنها قصة للتسلية، وكأنها في الوقت نفسه قصة القارئ في حياته الإنسانية التي تتشابه بين جميع الناس على اختلاف الحوادث والأوقات.
وهذه الترجمة تصور صاحبها أصدق تصوير فيما ذكره من أخباره وأعماله، وفيما يستخلصه القارئ من بين السطور على غير قصد من المؤلف؛ لأن أسلوبه فيها يفسر الناحية المهمة في شخصية فرنكلين، وفي عوامل نجاحه وسهولة مسلكه بين الناس في كل مكان عمل فيه، من وطنه إلى إنجلترا إلى فرنسا، ومن بيئة الصناع الفقراء إلى بيئة الملوك والأمراء والنبلاء، ومن طوائف الأميين وأشباه الأميين إلى طوائف العلماء والحكماء وقادة الآراء.
إن الرجل لم يكسب هذا المسلك السهل بالملق والموافقة؛ لأنه كان يبدي رأيه على أتمه إذا خالف سامعيه، وكان لا يثني على أحد بغير أسلوب العالم الذي يعني كل ما يقوله وإن تلطف في التعبير، ولكنه كسب هذا المسلك السهل بتسليمه للضعف الإنساني حيث لا تجدي المكابرة، فكان يعرف عيوبه ولا يداريها، وكان حكمته التي كتبها في تقويمه «نظف أصابعك قبل أن تنظر إلى بقعي» شعارا له يتبعه ولا يلزم أحدا أن يتبعه مثله، فإذا كتب عن عيوبه خيل إلى القارئ أنه بريء من تلك العيوب، وإذا شرح أعماله وتكلم عن أسباب نجاحه لم يكتم القارئ أنه فخور بها كما يصنع الكثيرون من أدعياء التواضع وإنكار الذات، ولكنه يتكلم عنها ويدع القارئ يفهم أنه قادر على مثلها إذا أراد، وأن الأسباب التي استعان بها مبسوطة بين يديه لأنها في ميسوره ومقدوره.
ومن مفتتح الترجمة إلى ختامها يجري المؤلف على هذا الأسلوب الصريح بغير تكلف ولا مداجاة، فيقول في مفتتح الترجمة أنه كتبها ليرضي شهوة التحدث عن النفس التي تملك الشيوخ في أخريات أيامهم دون أن يضجر أحدا من سامعيه؛ لأنهم أحرار في السماع أو الإعراض، وأنه لا يكتم عن القارئ أنه فخور بنجاحه، ولا يبدأ الكلام قائلا على سبيل الاعتذار «بلا فخر، ولا ادعاء» ثم يتلوه كلام كله فخر وادعاء، وبمثل هذا الأسلوب يجرد الفخر من شوكته المؤذية، ويجرد التواضع من طلائه الكاذب، ويقف «بإنسانيته» الضعيفة القوية بين أيدي إخوته من الناس.
Página desconocida
ويستخلص القارئ من الترجمة صفة أخرى كان لها ولا ريب أثرها العظيم في ألفة فرنكلين للناس، وألفة الناس إياه، فإن القارئ ليفهم من الصفحات الأولى أنه يعيش مع «مخلوق اجتماعي» من فرعه إلى أصبع قدمه، وقد قيل قديما وحديثا: إن الحاسة العائلية أساس الحاسة الاجتماعية وقرارها الذي ترجع إليه في الأعماق، وهذه الحاسة العائلية أو هذه الحاسة الاجتماعية هي التي تنضح بها كل صفحة من صفحات الترجمة من بدايتها إلى نهايتها، فإنه على علمه بفقر آبائه وأجداده، وعلى عزيمة الهجرة الأبدية التي اعتزمها مؤثرا دار الهجرة على مواطن الآباء والأجداد، وعلى كثرة الشواغل التي تشغل السفير الأمريكي عند حكومة الدولة البريطانية في إبان الخلاف والشقاق، لم يمنعه هذا كله أن يبحث عن تواريخ أسلافه البسطاء، وأن يتحرى منها كل ما أمكنه العثور عليه، وأن يثبته كما انتهى إليه بغير صقل ولا تزويق وبغير حشو ولا ادعاء.
ويستطيع القارئ من قراءة السطور وما بينها أن يفهم أن «بنيامين» قد ورث من كل سلف مذكور حمل اسم فرنكلين بنية قوية ومزاجا كأقرب ما يكون المزاج الإنساني إلى الاعتدال، فسلك سبيله بين الناس بغير عقدة خفية، وبغير خبيئة مطوية، واستعان بتلك البنية على احتمال ما يعيا به الكثيرون من خلائق الناس التي تطاق أو لا تطاق، ولا وجه لاستغراب النجاح من رجل عليم بالضعف الإنساني مقتدر على المعذرة مطبوع على الحاسة الاجتماعية، سليم الأعصاب، غير مضطرب المزاج.
ونحن لا نريد في هذا الفصل - بداهة - أن ننقل الترجمة كلها، أو نلخصها، ولا نريد كما ذكرنا في التمهيد أن نستقصي هذه الترجمة في سائر فصول الكتاب؛ لأننا آثرنا أن نتكلم على جوانب الصورة التي ترسم لنا ملامح فرنكلين، وندع الكلام عن وقائع الحوادث وأرقام السنين، فيعنينا فرنكلين العالم كيف كان عالما، وفرنكلين الكاتب كيف كان كاتبا، وفرنكلين السياسي، وفرنكلين الفيلسوف كيف كان في مناهجه السياسية وفي آرائه الفلسفية، وكيف كان فرنكلين الإنسان بعد ذلك إنسانا حقا في جميع تلك الجوانب، أو جميع تلك الملامح من الصورة الشاملة، ولا يعنينا ما عدا ذلك من التاريخيات التي لا تصحبها «نفسية» من هذه النفسيات.
نحن لا نريد أن ننقل الترجمة أو نلخصها، ولكننا لا نستطيع مع هذا أن نغفلها وندع النقل منها في كتاب عن «شخصية» الكاتب الذي ألفها، فما ننقله هنا من الترجمة فإنما هو الجزء الذي يكفي للإبانة عن أسلوبه والجزء الذي تنفرد الترجمة به، فلا يشاركها فيه مصدر آخر من مصادر السيرة التاريخية، وذلك هو الجزء الذي يتكلم فيه فرنكلين عن سلفه إلى مولده وطفولته واختياره لصناعته على آسال من سوابق أولئك الأسلاف، ثم نتبع هذا الجزء بالإشارة إلى خطوات هذه الحياة الحافلة بين أرقام السنين؛ لأنها سجل يراجع عند الضرورة كلما دعت الحاجة إليه في متابعة فصول الكتاب، ولا يفوتنا أن نعد من أسباب هذا الاكتفاء أن مفكرات فرنكلين ليست من قبيل التراجم التي تختصر وتلخص فيغني عنها الاختصار والتلخيص؛ لأنها بنية حية، وليست أشتاتا من الحوادث يمسكها السمط، ويأتي من يشاء فيقطع السمط حيث يشاء، ولكنها تؤخذ جانبا جانبا كما تؤخذ الصور من جوانبها المتعددة، وهذا هو جانبها الذي اخترناه لنقله بغير تصرف فيه، للسبب الذي قدمناه.
قال فرنكلين في النسخة الأولى من مفكراته:
هنا سأرضي تلك النزعة المألوفة في الشيوخ: نزعة التحدث عن أنفسهم وأعمالهم الماضية، دون أن أزعج بها غيري ممن يحسبون - رعاية للسن - أنهم مطالبون بالإصغاء إلي، إذ كان في وسعهم أن يقرءوا أو يدعوا القراءة متى شاءوا، وسأعترف أخيرا بأنني سأرضي غروري لأنني إن أنكرته لم يصدقني أحد، والحق أنني ما سمعت ولا قرأت قولة لقائل في التمهيد لكلامه: أنه لا يريد أن يدعي أو يغتر، إلا رأيت بعد ذلك ضربا من الادعاء أو الغرور يأتي على الأثر، وإن كثيرا من الناس ليبغضون الغرور في الآخرين مهما يكن من وفرة نصيبهم منه، ولكنني تعودت أن أفسح له مكانا كلما التقيت به، لعلمي أنه يفيد أحيانا من يغترون ومن يتصلون بهم في جوارهم، وليس من العبث إذن أن يشكر الإنسان ربه على ما يسديه إليه من الغرور بين سائر النعم التي يستمتع بها في حياته.
والآن أقول بعد حمد الله متطامنا بين يديه أنني مدين بما نعمت به من السعادة لحكمته الرحيمة التي هدتني إلى الوسائل التي توسلت بها وبلغت ما بلغت من النجاح بفضلها، وأن يقيني بهذا يدعوني إلى الأمل، وإن كنت لا أعلم الغيب، أن تلك الحكمة الرحيمة سوف تتولاني لاستبقاء تلك السعادة أو للصبر على ما يصيبني من خيبة الرجاء كما يصيب الآخرين؛ إذ لا يعلم مصيري غير الله القدير على أن يجعل في كل شيء بركة حتى العذاب.
إن المذكرات التي أسلمها إلى أحد أعمامي المعنيين مثلي باستطلاع الأخبار والنوادر عن أسلافي قد زودتني ببعض المعلومات الخاصة عن أولئك الأسلاف، وقد علمت من هذه المذكرات أن العائلة سكنت القرية بعينها - قرية أكتون في نورثامبتون شاير - ثلثمائة سنة، ولا يعلم كم من السنين أقامت فيها قبل ذلك، ولعلها بدأت منذ اتخذت اسم فرنكلين، الذي كان علما على طائفة من الناس، لقبا لها يوم ذهب الناس جميعا يقرنون أسماءهم بالألقاب في سائر أنحاء المملكة.
وكانوا يعيشون على نحو ثلاثين فدانا مستعينين مع غلتها بصناعة الحدادة التي احترفتها الأسرة إلى أيامه، وكان أكبر الأبناء يتدرب من نشأته على هذه الصناعة، عادة جرى عليها الآباء من القدم، ونهج هو، وأبي على مثالهم فيها.
ولما ذهبت لمراجعة السجلات المحفوظة في قرية أكتون وجدت فيها تسجيلات لمولدهم وزواجهم ووفاتهم منذ سنة 1555، ولم أجد لهم تسجيلات محفوظة قبل تلك السنة، وعلمت من تلك التسجيلات أنني كنت أصغر الأبناء لأصغر الأبناء خمسة أجيال متعاقبة، وكان جدي توماس الذي ولد سنة 1598 معمرا عاش في أكتون حتى أقعدته السن عن مباشرة الصناعة، فذهب إلى بانبري من إقليم «أكسفورد شاير» ليعيش مع ابنه جون الذي كان يحترف الصباغة وعلى يديه تعلم أبي هذه الصناعة، وقد توفي جدي ودفن بها ورأينا شاهد قبره سنة 1758.
Página desconocida
وسكن ابنه الأكبر - توماس - في منزل أكتون ثم تركه ومعه الأرض لابنته الوحيدة التي باعت الميراث - هي وزوجها المسمى فيشر من ولنجبورو - لمستر استيد مالك الأرض الآن.
وقد كان لجدي أربعة أبناء شبوا وكبروا وهم توماس، وجون، وبنيامين، وجوشيا، وسأخبرك بما علمته عنهم بعيدا من مراجعي وأوراقي معتمدا على ما وعته الذاكرة. فإن لم تكن تلك الأوراق قد ضاعت، فإنك واجد فيها مزيدا من التفصيلات.
نشأ توماس حدادا بصحبة أبيه، ولكنه كان ذكيا فشجعه السيد بالمر عميد البلد كما شجع إخوته على التعلم والاستزادة من المعرفة، فتدرب على كتابة العقود ونبه شأنه في أمور البلد، وأصبح وعليه المعول في توجيه المسائل العامة بنورثامبتون وقريته التي روت لنا أخبارا كثيرة عنه، وذاع صيته في أكتون فتولاه لورد هليفاكس يومئذ برعايته. ثم مات في السادس من شهر يناير سنة 1702 حسب التقويم القديم قبل مولدي بأربع سنوات، وتدل سيرته التي تلقيناها من شيوخ أكتون كما أذكرها على أمر عجب لشدة الشبه بينها وبين سيرتي، ولو أنه مات في نفس اليوم الذي ولدت فيه لخطر لك أنني تقمصت روحه.
ونشأ جون صباغا يشتغل على ما أظن بصبغ الصوف، ونشأ بنيامين صباغا للحرير متتلمذا في الصناعة بلندن. وكان رجلا ألمعيا أذكره جيدا؛ لأنه جاءنا إذ كنت طفلا ليزور والدي في بوستون، وسكن معنا بالمنزل بضع سنوات، وقد عمر طويلا، وحفيده صمويل فرنكلين يعيش في بوستون اليوم، وقد ترك بعده مجلدين من نظمه يشتملان على مقطوعات منظومة لمناسباتها موجهة إلى أصدقائه وأقاربه، ومنها واحدة وجهها إلي.
1
واخترع طريقة للاختزال علمني إياها، ولكنني لم أستعملها قط ونسيتها الآن. وقد سميت على اسم هذا العم للعطف المتبادل بينه وبين أبي، وكان تقيا جدا شديد المواظبة على حضور العظات من أبلغ الوعاظ يسمعها ويدونها بطريقة الاختزال ويحتفظ عنده بمجموعات كبيرة منها. وكان كذلك مشغولا بالسياسة كثيرا، ولعل اشتغاله بها كان أكثر مما يلائم مركزه. وقد عثرت له في لندن على مجموعة للكراسات التي صدرت في موضوعات المسائل العامة من سنة 1641 إلى سنة 1717، ضاع منها بعضها كما يتبين من ترقيمها، وبقي منها ثمانية مجلدات من القطع الكبير وأربعة وعشرون مجلدا بين متوسط وصغير، وكان رجل من باعة الكتب القديمة أعرفه وأشتري منه بعض الكتب قد عثر بها فأحضرها إلي، ويظهر أن عمي تركها عند سفره إلى أمريكا إذ كان قد جاوز الخمسين من عمره، ودون على هوامشها كثيرا من تعليقاته وملاحظاته.
لقد كانت عائلتنا الخاملة هذه بين السابقين إلى قبول مذهب الإصلاح، ولبثت على المذهب البروتستانتي خلال حكم الملكة ماري، وتعرضت للمتاعب أحيانا من جراء غيرتها في مقاومة البابوية، وكان لديهم نسخة إنجليزية من الكتاب المقدس يحتالون على إخفائها بوضعها في داخل كرسي ينطوي وينبسط ويضعه جدي الأكبر على ركبتيه كلما أراد أن يقرأ على الأسرة شيئا من آياته، وكان أحد الأطفال يقف عند الباب لينبههم إلى قدوم الرقيب الموظف بالمحاكم الروحية كلما بصر به قادما من بعيد، فينطوي الكرسي في هذه الحالة، ويختفي الكتاب المقدس فيه كما كان. وقد أنبأني بهذه القصة عمي بنيامين، وعلمت أن الأسرة كلها دانت بمذهب الكنيسة الإنجليزية إلى أيام شارل الثاني التي حدث فيها فصل بعض القساوسة لانحرافهم عن مذهب الكنيسة الملكية، فاستقلوا بنحلتهم في «نورثامبتون شاير» وانضوى إليهم بنيامين وجوشيا وظلت بقية الأسرة على مذهب الكنيسة الرسولية.
وتزوج أبي - جوشيا - صغيرا فانتقل بزوجته وأطفاله الثلاثة إلى نيو إنجلاند بأمريكا حوالي سنة 1682 لصدور القانون بتحريم قيام النحل المخالفة للكنيسة في البلاد الإنجليزية، وأقنع طائفة من صحبه بالهجرة إلى هذه البلاد لما كان يلقاه من العنت في وطنه، فاقتنع هو وصحبه بضرورة الهجرة أملا في التحرر من الحجر على عقائدهم، وولد له من زوجته الأولى أربعة أطفال آخرين، ثم عشرة أطفال من زوجة أخرى، فتم عددهم سبعة عشر، وأذكر منهم ثلاثة عشر يجلسون على مائدته عاشوا حتى أصبحوا رجالا ونساء وتزوجوا جميعا. وكنت أنا أصغر الأبناء وأصغر الأطفال جميعا ما عدا طفلتين أصغر مني، وولدت في بوستون بنيو إنجلاند.
وزوجته الثانية - أمي - هي آببا فولجر بنت بطرس فولجر أحد السابقين من المهاجرين إلى نيو إنجلاند، وأشار إليه كوتون ماثر إشارة مشرفة في تاريخه لكنيسة ذلك الإقليم فقال عنه - إذا لم تخني الذاكرة: إنه رجل إنجليزي صالح مثقف.
وسمعت أنه كتب مقطوعات متفرقة كثيرة في مناسباتها لم تطبع منها غير واحدة اطلعت عليها منذ سنوات، وقد نظمها في سنة 1675 على النسق الذي كان متداولا مألوفا يومذاك، ووجهها إلى القائمين بالحكم في ذلك الحين حاثا فيها على حرية الضمير منافحا عن عقيدة العماديين وجماعة الصحابيين وغيرها من النحل التي كانت عرضة للحجر والاضطهاد، وعزا فيها مصائب الحرب الهندية والمصائب الأخرى التي ابتليت بها البلاد إلى تلك السيئة البغيضة التي يصب الله غضبه على مرتكبيها، داعيا إلى إلغاء القوانين التي سنت للتضييق على ضمائر الناس، وقد لاح لي أن المقطوعة كلها كتبت بأسلوب الصراحة اللائقة والرجولة الكريمة في الذود عن الحرية، وإني لأذكر سطورها الستة الأخيرة حيث يقول: إنني لأمقت المذمة من كل قلبي، وأناديكم من مدينة شربورن التي أقيم فيها موقعا باسمي، غير مسيء إلى أحد منكم، أنا بطرس فولجر.
Página desconocida
وتتلمذ إخوتي الكبار جميعا في صناعات مختلفة، وأدخلت أنا مدرسة الأجرومية في الثامنة من عمري، وأراد والدي أن ينذرني للكنيسة لأنني عاشر أبنائه، وقد كان استعدادي المبكر لتعلم القراءة - ولا بد أنه كان مبكرا جدا لأنني لا أذكر زمنا كنت فيه أجهلها - موافقا لنبوءة أصدقائه الذين اعتقدوا أنني خليق بمستقبل حسن في الأستاذية، فشجعه اعتقادهم على إتمام مقصده. وقد أقره عمي بنيامين على رأيه، واقترح أن يهب لي كل ما عنده من مجاميع العظات الدينية، ولكنني بقيت في المدرسة مدة لا تزيد على السنة نقلت خلالها من وسط الفصل إلى مقدمته ثم نقلت من هذا الفصل إلى الفصل الذي يليه كي أنتظم في الفصل الثالث عند نهاية السنة.
على أن والدي وجد أثناء ذلك أن التعليم الجامعي كبير النفقة لا ينهض بأعبائه مع تكاليف عائلته الكبيرة ووفرة مطالب المعيشة التي تلائم المتعلمين، وسرد هذه الأسباب على مسمع مني لأصدقائه تسويغا لنقلي من مدرسة الأجرومية إلى مدرسة أتعلم فيها الكتابة والحساب يديرها رجل مشهور يسمى جورج برنويل ناجح في صناعته لوداعته وطيب معشره، ومنه تعلمت الكتابة المقبولة في وقت وجيز، ولكنني أخفقت في تعلم الحساب ولم أتقدم فيه، ولما بلغت العاشرة خرجت من المدرسة لمساعدة والدي في صناعته وهي صناعة الشمع والصابون التي لم يكن قد تدرب عليها منذ صباه، بل اتخذها بعد وصوله إلى نيو إنجلاند؛ لأن رزقه من الصباغة لم يقم بنفقة العائلة الكبيرة لقلة الحاجة إليها في نيو إنجلاند، فعملت في قطع الفتائل للشمع وصب السائل في القوالب وملاحظة الدكان وإيصال الرسائل والطلبات.
ونفرت من هذه الصناعة وشعرت بميل شديد إلى العمل في البحار، ولكن والدي أبى علي هذا العمل، وظللت - لقربي من الماء - متعلقا بالبحر، فتعلمت السباحة وتسيير الزوارق وأصبح من المألوف كلما اجتمعت في زورق أو قارب مع زملائي من الصبية أن يعهدوا إلي في تسييره، وبخاصة في الحالات المتعسرة، وتكررت قيادتي لهم في غير تلك الحالات، فكنت أقودهم إلى بعض المناوشات التي أذكر هنا مثلا منها لما فيه من الدلالة على الدوافع العامة، وإن لم يكن مثلا لحسن تدبيرها وتصريفها.
كان في جوارنا مستنقع ملح يحيط ببركة المصنع، تعودنا أن نقف عند حافته ساعة المد لنصطاد السمك الصغار، وطال ترددنا على تلك الحافة حتى توحلت وجعلت تسيخ بأقدامنا. فعن لي أن نبتني عليها رصيفا نستخدم في بنائه كوما من الحجارة معدا لإقامة منزل جديد بجانب المستنقع وصالحا كل الصلاح لبناء الرصيف الذي نريده، وعلى هذا جمعت بعض الرفاق - بعد انصراف العمال في المساء - وأخذنا في نقل الحجارة كأننا سرب من النمل يتعاون اثنان منا أو ثلاثة أحيانا على نقل الحجر الواحد حتى نقلنا الحجارة كلها، وأتممنا بناء الرصيف، وجاء العمال صباح اليوم التالي، فدهشوا لاختفاء الحجارة وعلموا أنها نقلت إلى الرصيف الذي بنيناه، وبحثوا عن الجناة فعرفونا وشكونا إلى آبائنا، ولم ينفعني عند أبي اعتذاري له بأنه عمل نافع؛ لأنه قال لي: إنه ما من عمل يخل بالأمانة يوصف بالمنفعة.
وأحسبك تواقا الآن إلى الإلمام بشيء من صفاته وأخلاقه. فاعلم أنه كان ضليع البنية معتدل القامة لا بالطويل ولا بالقصير، ولكنه مدمج الجسم قوي الأركان، ذكيا يرسم رسما حسنا، ويجيد العزف على آلات الموسيقى بعض الإجادة، وله صوت مقبول يتغنى به حين يوقع المزامير على القيثار كما تعود في المساء بعد الفراغ من أعمال النهار، فيطربنا جدا أن نصغي إليه، وكانت له براعة في تناول الأدوات والآلات يستخدم منها ما ليس من صناعته فيحسن استخدامه. غير أن المزية الواضحة التي كان يمتاز بها سلامة الفهم والرأي في تناول المسائل الخاصة والعامة، وإن تكن شواغله العائلية لم تدع له قط وقتا للعمل في هذه المسائل العامة، واستغرقت أوقاته جميعا في القيام بتعلمها والتفرغ لكسب الرزق مع قلة المورد والعائدة. إلا أنني أذكر جيدا أن أناسا من الوجهاء البارزين كانوا يزورونه فينة بعد فينة؛ لاستشارته في شئون البلد أو شئون الكنيسة التي ينتمي إليها، ويتقبلون منه الرأي والنصيحة بالتجلة والاحترام، كما أذكر أن أناسا من أصحاب المشكلات الخاصة كانوا يسألونه النصيحة ويحتكمون إليه فيما يشجر بينهم من خلاف، وكان من عاداته أن يدعو إلى مائدته صديقا أو جارا من ذوي الفطنة يتحدث إليه، ويحاول على الدوام أن يختار للحديث موضوعا يفتق أذهان الأطفال ويلفتنا بهذه الوسيلة لما ينبغي من الخير والعدل والحكمة في تدبير شئون الحياة.
هذه النبذة من مفكرات فرنكلين معينة لنا - على وجازتها - في تصوير الجانب الموروث من تكوينه واستعداده وعامة أخلاقه، وتتلخص في قوة البنية، واستقامة الطبع، وسداد الفطنة، والاعتراف بالواقع مع الشجاعة، وإباء الضيم، والتأهب للمخاطرة إيثارا لها على الخضوع للمذلة، وقد تكون هذه النبذة الوجيزة معينة لنا في تصوير الاستعداد الاجتماعي الذي ينتقل بالوراثة مع كيان البنية، ولكنه لا يظهر في المجتمعات كافة على درجة واحدة، بل يتوقف ظهوره على مؤاتاة الحوادث والبيئات، ومن هذه الموروثات الفطرية الاجتماعية حسن الاستعداد للسلوك مع الناس من الأنداد والرؤساء، وحسن الاستعداد للفهم والمعرفة، وحسن الاستعداد للحكم على عوارض الحياة ما كان منها عاما مشتركا، وما كان منها خاصا محصورا في شئون المرء وذويه، وقد تكون الدراية بالصناعات من المعادن «المصنوعة» كما يؤخذ من اسمها ولكنها لا تكسب في جميع البيئات على السواء، ولا تكسب في البيئة الواحدة على درجة واحدة، وقد يطول البحث في وراثة المزاج الذي يعين صاحبه على مطالب الحياة الاجتماعية، هل هو موروث كله، أو هو مكسوب كله من البيئة الاجتماعية؟ غير أننا نخال أن البحث قليل في صلاح المرء للسلوك مع الناس، وحسن التصرف في علاقاته الاجتماعية، كلما اعتدل مزاجه، وسلم تكوينه، واستقامت فطرته. فلا شك هنا في معاونة الأخلاق الموروثة للأخلاق الاجتماعية، ولا في التفرقة بين الصالحين للحياة وغير الصالحين لها كائنة ما كانت شروط المجتمعات على الأحياء.
بهذه الوراثة - وراثة الصلاح للحياة - ولد فرنكلين وعاش إلى ختام حياته في سنه العالية، وقد كان هذا المزاج الموروث فيه أشبه بالبنية الصالحة لاهتضام كل طعام واستخراج كل ما فيه من غذاء، فما كان عسيرا على غيره أن يهتضمه ويستفيد منه لم يكن عسيرا عليه أن يجعله غذاء صالحا على ما يعيبه من غثاثة أو مرارة، ولم يكن يعيبه أن يهيئ ذلك الغذاء لغيره بعدوى الحكمة المطبوعة والسجية السمحة، وقد يصنع ذلك مع الزملاء المنافسين كما يصنعه مع الرؤساء والمرءوسين، ونادرته مع جفرسون - وهو من أعظم زملائه في قيادة الثورة الأمريكية - مثل لهذا الخلق المطبوع على الترويض والتهوين: ترويض الطبائع العصبية وتهوين المشكلات الصعاب.
فقد عز على جفرسون أن يعارضه آباء الاستقلال في كل كلمة كتبها في الإعلان الذي أذيع به استقلال الأمة الأمريكية، وجلس كئيبا حانيا رأسه بين يديه لا يدري ماذا يصنع بتلك الملاحظات المتناقضة؟ وكيف يكتب ما يرضاه هذا الفريق وذاك الفريق وهم يجددون الملاحظة مع كل تعبير، ولا ملامة عليهم في التدقيق الشديد؛ لأنه إعلان تاريخي توزن فيه كل كلمة بموازين الحقوق والأرواح.
فخرج فرنكلين من تلك الجلسة الغائمة بفكاهة من فكاهاته السمحة، هونت على جفرسون ما كان يلقاه ونشطت به إلى تجديد العناء في الحذف والإبدال والإصغاء.
قال فرنكلين: إنها قصة جون تومبسون تعاد من جديد.
Página desconocida
وسأل جفرسون: من جون تومبسون هذا؟
فعاد فرنكلين يقول: جون تومبسون هذا صديق قديم، كان يتتلمذ على معلم مشهور بصناعة القبعات، ثم خطر له أن ينفرد بالعمل ويفتتح له دكانا يكتب له إعلانا جامعا يجتذب إليه طلاب القبعات. فكتب الإعلان وقال فيه: «إن جون تومبسون قبعاتي، يصنع القبعات ويبيعها نقدا». وراح يعرض الإعلان على أصدقائه ليسألهم رأيهم فيه، فقال له أولهم: إنه لا حاجة به إلى كلمة «قبعاتي» ما دام في الإعلان أنه يصنع القبعات ويبيعها، وقال له الصديق الثاني: إن الناس لايهمهم أنه صانع القبعة ما داموا يجدونها أمامهم معروضة للبيع، وقال له الثالث: إنه من السخف أن يقول «يبيعها نقدا» ما دام معروفا عنه أنه لم يكن من أصحاب المصارف التي تقرض على الحساب، وقال له الرابع: إنه ما من أحد ينتظر منه أن يتبرع له بالقبعة إحسانا، أو هدية، فما حاجته أن يقول أنه يبيع القبعات؟ وبقي الإعلان هكذا بعد كل هذه التنقيحات: (جون تومبسون. قبعات) فقال له الصديق الخامس: إنه لا حاجة إلى كلمة قبعات ما دامت صورة القبعة مرسومة في الإعلان، وانتهت النصائح والتعديلات ببقاء اسم جون تومبسون وإلى جانبه صورة قبعة، وهكذا تنتهي بلاغة البلغاء كلما عرضوها على الناس للتنقيح وإبداء الآراء.
وهذه القصة - وحدها - كلمات فارغة لا يقرؤها أحد ويظن أنها تساوي أن ينفق فيها وقت استماعها، ولكنها في ذاكرة فرنكلين وضعت في موضعها فصلحت لتفريج أزمة، ودفع سآمة وتجديد نشاط في نفس عظيمة، ولم يستطع فرنكلين أن يصنع بها هذه المعجزة لأنه يعرف حكاية تروى، وإنما استطاع المعجزة لأنه اتخذ من تلك الحكاية أداة للطبيعة السمحة المفطورة على تذليل الصعاب، وتقدير المعاذير، وقبول الدنيا على علاتها وأخذ الناس جملة بما طبعوا عليه من الهنات.
ونحن لا يفوتنا في معرض الكلام على الأخلاق الفطرية ، أو الأخلاق الموروثة، أن نقرر تلك الحقيقة المشهودة التي يتوقف عليها إنصاف «الشخصية الإنسانية» وتقويم كل ترجمة من تراجم العظماء بقيمة صاحبها، ونعني بتلك الحقيقة المشهودة أن الخلق الموروث لا يلغي المزايا الفردية ولا ينقص من فضل الفرد في الانتفاع بما ورث مع اختلاف الزمن وتبدل المواطن والمناسبات التي ينتفع فيها بتلك المزايا. فإذا استطاع الفرد في الجيل الحاضر أن يستخدم مزاياه الموروثة التي كانت نافعة لآبائه قبل جيل أو جيلين فلا بد من فضل له في حسن الاستخدام وحسن الاحتفاظ بما آل إليه من تراث الأقدمين، وإذا كان الحطام الموروث قابلا للضياع، أو كان الغالب عليه أن يضيع ولا يبقى، فالأخلاق الموروثة تضيع كما يضيع الحطام إذا آلت إلى المفرط فيها والعاجز عن صيانتها، وقد توضع الفطنة في غير موضعها فتضر ولا تنفع، وتجور الشهوات على الجثمان القوي فتنهكه، وقد يكون الشعور بالقوة من بواعث الشطط والتمادي في الغواية، وقد كان مساك الاعتدال في خلائق الآباء والأجداد.
وفرنكلين لم يضيع ما ورث ولم يحتفظ به كما ورثه، بل نماه وثبته وقواه، وعاش إلى ختام أيامه بثروته النفسية وعليها أضعاف مضاعفة من ثمرات السنين.
رآه شاب من شارلستون يسمى فيليب ماكنزي وهو في السبعين فكتب إلى صديق له يقول: «إنه يقارب خمس أقدام وتسعة قراريط، وبدنه أضخم مما يناسب طوله، وعيناه رماديتان نفاذتان كالصلب الحديد. وله رأس كبير وجبين عال وعلى خده الأيسر خال. لا يلبس الشعر المستعار وشعره الطبيعي مرسل يتدلى على كتفيه، ومن الغريب أنه لم يخطه الشيب إلا قليلا مع أنه في السبعين، وقد تحدث إلى أعظم العظماء في العالم، ولكنه كان يصغي إلى تعليقاتي الغريرة كأنها تستحق الإصغاء حقا، وقد أبديت ملاحظتي هذه بعد انصرافه لصديقي ايد روتلدج فضحك وقال لي: «إياك أن تخطئ فهمه. إن الدكتور فرنكلين كان مهتما حقا وأنت لا تعرف، فإنه ليهتم بكل شيء وكل إنسان، ويعنيه من تكون أنت وماذا عملت في حياتك».»
2
واهتمام فرنكلين هذا الاهتمام بكل شيء وبكل إنسان ، هو موطن العجب والإعجاب بتلك القدرة التي صمدت لمهام الحياة طوال ذلك العمر المديد، ولم تبخل على مهمة منها بحقها من العناية ولا على أحد بحقه من المبالاة، وبقي الرجل بعد هذه التكاليف جميعا وكأنه في وهم من يراه لا يهتم بشيء ولا يكثرث لخطب ولا يرى على حال من القلق والاضطراب.
وليس أكثر من الحوادث والأنباء التي اعترضت هذه الحياة في مراحل طريقها، بل طرقها العديدة. وليس من اللازم للتعريف به أن نحصيها ونرتبها على حسب تواريخها، فكل ما يهمنا في ترجمة العظيم من حوادثه وأنبائه أن تصور لنا جانبا من جوانب شخصيته وسرا من أسرار عظمته واقتداره، وسنتحرى ذلك فيما سنكتبه عن فرنكلين العالم، وفرنكلين الكاتب، وفرنكلين السياسي، وفرنكلين الفيلسوف، ونكتفي بالسلسلة التالية من أرقام السنين ومعالم الطريق لمراجعة المواقيت كلما دعت الحاجة إليها في مناسباتها، وهذه هي كما نقتبسها من تقويم سيرته في كتاب رجال أمريكا تأليف ليونل الفين، وهو تقويم واف في بابه لمن يتتبع مراحل الطريق من هذه السيرة:
السنة
Página desconocida
الحدث
1706
ولد في السابع عشر من يناير في بوستون.
1714
قضى سنة في مدرسة الأجرومية.
1714-1716
في مدرسة تجارية.
1716
مساعدا لأبيه في عمله.
1718
Página desconocida
تلميذا لأخيه من أبيه، جيمس، في صناعة الطباعة.
1721
ينشئ جيمس فرنكلين صحيفة «ذي إنجلاند كورانت» رابع صحيفة في المستعمرات.
1722
بنيامين فرنكلين يحرر الصحيفة أثناء حبس أخيه لانتقاداته السياسية.
1723
أخوه لا يحسن معاملته فيهجر بوستون إلى فلادلفيا ويعمل في الطباعة.
1724
يغرى بالسفر إلى لندن لشراء اللوازم ويتخلى عنه صاحب عمله الحاكم كيث ولا يبعث إليه برسائل التوصية التي وعده بها، ويعمل في الطباعة.
1725
Página desconocida
ينشر كتابه الأول نقدا لبعض الآراء الدينية.
1726
يعود إلى فلادلفيا ليعمل في دكان، ولكنه يعود إلى الطباعة.
1730
ينفرد بحيازة مطبعة، ويتزوج.
1730-1748
طباع ناجح مطرد النجاح. يصدر تقويم ريتشارد المسكين وصحيفة بنسلفانيا جازيت، ويتولى شئونا مهمة في حياة فلادلفيا العامة، ولا سيما مشروعات إصلاح المدينة وخدماتها الاجتماعية. يشتغل بمباحثه ومخترعاته العلمية، ويؤسس في سنة 1743 جماعة الفلسفة الأمريكية، وتناط به أمانة سرها.
1748
يعتزل العمل محتفظا بمورد سنوي منه يكفل له معيشته.
1749-1752
Página desconocida
تجاربه الكهربية الأولى، وإثباته للكهربية في الصواعق، واختراعه لعمود الصاعقة، وشهرته العلمية الواسعة.
1751
نائب عن فلادلفيا في هيئتها النيابية.
1753
نائب مدير لمصلحة البريد في المستعمرات.
1754
ينوب عن بنسلفانيا في مؤتمر ألباني للمستعمرات ويقترح تكوين الاتحاد.
1755
منظم تموين البعثة التي قادها الجنرال برادوك في قتال الفرنسيين والهنود الحمر.
1757
Página desconocida
سافر إلى لندن للنيابة عن الشعب في خلافه مع ملاك الإقطاع في بنسلفانيا.
1762
عاد إلى أمريكا.
1764
سافر إلى إنجلترا مرة أخرى.
1766
نوقش علنا بمجلس النواب في مطالب الأمريكيين بصدد القانون المعروف بقانون الدمغة.
1767-1775
تزداد شكوكه في سياسة وزراء جورج الثالث، ويزداد اقتناعه بضرورة إعلان المستعمرات لاستقلالها، ويثابر مع ذلك على بحوثه العلمية، وتتصل صداقته العلمية والسياسية والفلسفية بالعالم «بريستلي»، ويتصل العطف بينه وبين بيرك خطيب الأحرار.
1775
Página desconocida
يعود إلى وطنه، ويختار عضوا للمؤتمر القومي الثاني، وعضوا في لجنته المنوط بها تحرير إعلان الاستقلال، ويباشر إعداد العدد العملية للمقاومة.
1776
أرسل مع اثنين للنيابة عن بلده في فرنسا.
1777
نجاح عظيم، وشهرة سياسية وفلسفية ودبلوماسية في فرنسا.
1778
عقد المعاهدة بين فرنسا والولايات المتحدة، وفرنكلين هو المندوب الأمريكي الوحيد في فرنسا.
1783
أحد المندوبين في مفاوضات الصلح مع بريطانيا العظمى، ويتم توقيع معاهدة الصلح بباريس.
1785
Página desconocida