وأدركت نفيسة ما في قولها من التهكم والتحدي، فتمادت بها روح الشر التي ركبتها واندفعت قائلة وكأنها تلقي عبئا ثقيلا عن كاهلها: جميعهم جديرون بالإعجاب حقا؛ فهم موظفون محترمون!
فاستنكرت العروس هذه الوقاحة التي لم تكن تتوقعها، وتساءلت بغضب: ألا يكون الإنسان محترما إلا إذا كان موظفا؟
فقالت نفيسة بصوت مرتعش النبرات أعياها التحكم فيه: أعتقد هذا.
فصرخت العروس قائلة: وإذا كان خياطة؟
فقالت نفيسة بحقد وغضب: لا علي أن أكون خياطة، إخوتي طلبة مثقفون، وكان أبي موظفا محترما. - حقا لا يستاهل الرحمة كل المساكين ما دام يوجد بينهم من هو في قلة أدبك! - لا يدهشني هذا السباب من ابنة بقال.
فهبت العروس واقفة وهي تنتفض غضبا وصاحت: يا مجرمة، يا قليلة الأدب، اغربي عن وجهي قبل أن أدعو الخدم ليرموك خارجا.
ونهضت نفيسة فاقدة الوعي، وتناولت بقجة الأقمشة، وقذفتها في وجهها فانتشرت الحرائر على كتفي العروس وتحت قدميها، وتلوت على الأرض في ألوانها الزاهية، ثم غادرت الحجرة مهرولة وصراخ الفتاة ينطلق وراءها بأقذع أنواع السباب، وتركت الشقة في لهوجة الفرار. وتراخت أعصابها المتوترة وداخلها ارتياح غريب، وكاد يغلبها الضحك. ولكن هذا لم يدم طويلا فسرعان ما انقلبت واجمة متفكرة، وبدا لها سلوكها على حقيقته. «ما هذا الذي فعلت؟ سيقولون كل شيء لست زينب، وستقول هذه بدورها كل شيء لأمي، لا بد أن تغضب أمي، وستحزن كثيرا على الربح الذي أضعت بحماقتي. ولكنني أقول لها إن العروس خاطبتني بعجرفة، وأهانتني بلا سبب حتى ثرت لكرامتي، وإذا لم تقبل عذري أبث شكواي بصوت مرتفع ليبلغ مسمع حسنين، فيغضب لغضبي ويثور لكرامتنا، وينتهي كل شيء. هذا حسن! ولكن كيف اندفعت إلى هذا! أي جنون! لم يكن في نيتي شيء من هذا فكيف حدث؟ وضاع عمل مربح، ولكن لا داعي للأسف، لدي عمل لا بأس به في هذا الشارع نفسه، لست آسفة على ما وقع.» وانتهت إلى شارع شبرا ولم يعد يرى من شعاع الشمس إلا أثر خفيف في أعلى الدور. وسارت على الطوار في اتجاه المحطة، فمرت في طريقها بجراج لإصلاح السيارات، وكانت غائبة عما حولها في تيار أفكارها، فما تدري إلا وشخص يعترض سبيلها وهو يقول «أهلا وسهلا.» ورفعت رأسها فرأت شابا ذا بنطلون وقميص خاكيين، مشمرا عن ساعديه، يدل مظهره على أنه من عمال الجراج، فألقت عليه نظرة شذراء وتنحت عن موقفه، ولكنه اعترض سبيلها مرة أخرى وقال: حلمك يا ست هانم، انظري إلى يسارك، هذه السيارة ملك العبد لله، وهي على قدمها تستطيع أن تحملنا إلى أي مكان شئت، محسوبك محمد الفل، صاحب هذا الجراج ولا فخر!
فصاحت به: ابعد وإلا ناديت العسكري.
فضحك الشاب وقال: لا داعي لذلك؛ أنا أحب النسوان، ولا أحب العساكر.
36
Página desconocida