بداية ونهاية
بداية ونهاية
بداية ونهاية
بداية ونهاية
تأليف
نجيب محفوظ
بداية ونهاية
1
ألقى الضابط نظرة كئيبة على الردهة الطويلة التي تفتح عليها فصول السنتين الثالثة والرابعة، وقد شمل المدرسة - التوفيقية - سكون عميق، ثم مضى إلى فصل من فصول السنة الثالثة، ونقر على الباب مستأذنا، ودخل متجها صوب المدرس وأسر في أذنه بضع كلمات، فسدد المدرس بصره صوب تلميذ يجلس في الصف الثاني وناداه قائلا: حسنين كامل علي.
فقام التلميذ وهو يردد بين المدرس والضابط نظرة مليئة بالترقب والقلق، وغمغم: أفندم؟
Página desconocida
فقال المدرس: اذهب مع حضرة الضابط.
فخرج التلميذ عن قمطره، وتبع الضابط الذي غادر الفصل في خطوات بطيئة. ولم يطمئن قلبه لهذه الدعوة، وراح يسائل نفسه: ترى أجاءت بسبب المظاهرات الأخيرة؟ وكان قد اشترك في المظاهرات، وهتف مع الهاتفين: «ليسقط تصريح هور» و«ليسقط هور ابن الثور»، وقد ظن أنه نجا من الرصاص والعصي والعقوبات المدرسية جميعا، فهل كان مغاليا في ظنه؟ وسار وراء الضابط في الردهة الطويلة متفكرا، يتوقع بين لحظة وأخرى أن يجبهه بما عنده من تهم، ولكن قطع عليه تفكيره وقوف الرجل حيال فصل من فصول السنة الرابعة ودخوله مستأذنا، ثم بلغ مسمعه صوت المدرس وهو ينادي قائلا: حسين كامل علي.
شقيقه أيضا؟! ولكن كيف يمكن أن توجه إليه تهمة من هذه التهم، وهو لا يشترك في المظاهرات بتاتا؟! وعاد الضابط يتبعه الفتى واجما، وما إن وقعت عيناه على شقيقه حتى غمغم في دهشة: وأنت؟! .. ماذا حدث؟!
وتبادلا نظرة حائرة، ثم تبعا الضابط الذي مضى متسمتا حجرة الناظر. وسأله حسين في لهجة رقيقة مؤدبة: ما الذي أوجب استدعاءنا من الفصل؟
فأجاب الضابط بعد تردد قائلا: ستقابلان حضرة الناظر.
وقطعوا بقية الردهة دون أن ينبس أحدهم بكلمة، وكان الشقيقان متشابهين لدرجة كبيرة؛ فكلاهما له هذا الوجه المستطيل، وعينان عسليتان واسعتان، وبشرة سمراء ضاربة إلى العمق، إلا أن حسين في التاسعة عشرة، يكبر أخاه بعامين ودونه طولا، على حين يمتاز حسنين بدقة في قسمات وجهه أكسبته وضاءة ووسامة . ومضى قلقهما يتزايد وهما يقتربان من حجرة الناظر، وتخايل لعينيهما منظره الصارم في رهبة وخوف، وزرر الضابط سترته، ونقر على الباب، ثم دفعه برقة ودخل وهو يومئ إليهما أن يتبعاه. ودخلا وهما ينظران إلى الرجل وقد انكب على مكتبه في صدر الحجرة يقرأ رسالة بعناية دون أن يرفع بصره نحو القادمين كأنه لم يشعر بحضورهم. وحياه الضابط بأدب جم وقال: التلميذان حسين كامل علي، وحسنين كامل علي.
فرفع الناظر رأسه وهو يطوي الرسالة بيديه، وأطفأ عقب سيجارة في النافضة، وجعل يردد بصره بينهما، ثم تساءل: في أي سنة أنتما؟
فقال حسين بصوت متهدج: رابعة رابع.
وقال حسنين: ثالثة ثالث.
فنظر الرجل إليهما مليا ثم قال: أرجو أن تكونا رجلين كما ينبغي. لقد توفي والدكما كما أبلغني أخوكما الأكبر، والبقية في حياتكما.
Página desconocida
ووجما في ذهول وانزعاج، وهتف حسنين وهو لا يدري قائلا: توفي أبي! .. مستحيل!
وغمغم حسين وكأنه يحدث نفسه: كيف؟! لقد تركناه منذ ساعتين في صحة جيدة وهو يتأهب للخروج إلى الوزارة.
فصمت الناظر قليلا ثم سألهما برقة: ماذا يعمل أخوكما الأكبر؟
فقال حسين بعقل غائب: لا شيء.
فتساءل الرجل: أليس لكما أخ آخر موظف، أو شيء من هذا القبيل؟
فهز حسين رأسه قائلا: كلا.
فقال الرجل: أرجو أن تتحملا الصدمة بقلوب الرجال، واذهبا الآن إلى البيت، كان الله في عونكما.
2
وغادرا المدرسة إلى شارع شبرا يلتمسان طريقهما خلل الدموع. وكان حسنين أسرعهما إلى البكاء، فأراد حسين أن ينهره في حال عصبية، ولكن أفحمه البكاء، واختنق صوته، فلم ينبس بكلمة. وعبرا الطريق إلى الجانب الآخر، وحثا خطواتهما قاصدين عطفة نصر الله على مسيرة دقائق من المدرسة. وتساءل حسنين وهو ينظر إلى شقيقه كالمستغيث: كيف مات؟
فهز حسين رأسه واجما وتمتم: لا أدري. لا أستطيع أن أتصور. لقد تناول فطوره معنا، وتركناه في صحة جيدة. لا أدري كيف وقع هذا.
Página desconocida
وحاول حسنين أن يتذكر الصباح القريب بتفاصيله؛ فذكر أنه رأى أباه أول ما رآه وهو عائد من المرافق، فحياه كعادته قائلا : «صباح الخير يا بابا» فأجابه مبتسما: «صباح الخير، ألم يستيقظ أخوك؟» واجتمعوا بعد ذلك حول المائدة، فدعا الرجل الأم إلى مشاركتهم الطعام فاعتذرت بأن نفسها مصدودة، فتذمر الرجل قائلا: «إذا جلست معنا انفتحت نفسك» ولكنها أصرت على الاعتذار، فقال بعدم اكتراث وهو يقشر بيضة: «على كيفك.» لا يذكر أنه سمعه يتكلم بعد ذلك، اللهم إلا نحنحة مقتضبة. وكان آخر ما رآه منه ظهره وهو يدخل حجرته مجففا يديه في منشفته. ثم انتهى، انتهى، أبشع بها من كلمة! واسترق إلى حسين نظرة مروعة فوجده محزونا واجما كأنما كبر وشاخ، وعاد إلى ذكرياته وهو يكابد لوعة حارة: لا أصدق أنه مات، لا أستطيع أن أصدق. ما هذا الموت؟ لا أستطيع أن أصدقه. انتهى؟ لو كنت أعلم أن هذا آخر ما بقي لنا من عمره ما غادرت البيت. من أين لي أن أعلم؟ أيموت الإنسان وهو يأكل ويضحك؟ لا أصدق. لا أستطيع أن أصدق. وانتبه على أخيه وهو يجذبه من ذراعه إلى عطفة نصر الله التي كاد يفوتها في ذهوله. وسارا في طريقها الضيق تصطف على جانبيه البيوت القديمة، والحوانيت الصغيرة إلى ما يعترضها من عربات الغاز والخضر والفاكهة. وسبقهما البصر إلى عمارتهما ذات الأدوار الثلاثة، والفناء المستطيل الترب، ثم ترامى إلى أذنيهما الصوات، فتبينا صوتي أمهما وأختهما الكبرى، وهزهما حتى الأعماق فأجهشا في البكاء، وجريا لا يلويان على شيء، وارتقيا السلم مهرولين إلى الدور الثاني، فوجدا باب الشقة مفتوحا فتدافعا إلى الداخل، وقطعا الصالة إلى حجرة الأب في نهايتها، ثم دخلا وهما يلهثان. وثبتت عيناهما على الفراش وقد وشى الغطاء بالجسم الممدد تحته، ثم اقتربا من حافته وارتميا عليها وأغرقا في نشيج حار. وكفت الأم والأخت عن الصوات على حين غادرت الحجرة امرأتان غريبتان. وأرادت الأم أن تتركهما ينفسان عن صدرهما فتماسكت واقفة في جلبابها الأسود، وقد احمرت عيناها وانتفخ خداها وأنفها، أما الأخت فقد ارتمت على كنبة وأخفت وجهها في مسندها، وراح جسمها ينتفض من البكاء، وكان حسين يبكي ولسانه يتلو بطريقة آلية بعض السور الصغيرة؛ استنزالا للرحمة. وكان حسنين يبكي في جو من الخوف والذهول والإنكار. وقف حيال الموت محتجا ثائرا، ولكن في نفس الوقت خائفا يائسا، «ليس هذا بأبي. لا يمكن أن يسمع أبي هذا البكاء كله دون أن يتحرك، رباه لماذا يجمد هكذا؟ إنهم يبكون ولكن في تسليم من لا حيلة له. لم أكن لأتصور هذا، ولا أتصوره. ألم أره يمشي في هذه الحجرة منذ ساعتين؟ ليس هذا أبي. وليست هذه حياة.» وبدأ الانتظار وكأن لا نهاية له، فاقتربت الأم من الشابين ومالت نحوهما قائلة: حسبكما. قم يا حسين خذ أخاك خارجا.
وأعادت القول حتى قام حسين وأنهض أخاه، ولكنهما لم يغادرا الحجرة، وقفا يلقيان على الجدث المسجى نظرة طويلة غائمة بالدموع. ولم يستطع حسين أن يقاوم رغبة حارة غامضة، فانحنى على الجثمان، وكشف الغطاء عن وجهه دون مبالاة بالحركة التي بدرت من أمه، فطالعه الوجه الغريب موسوما بميسم الفناء، تشوبه زرقة مروعة، ويرين على صفحته سكون غير دنيوي، في عمق العدم ولا نهائيته، فسرت رجفة في أوصاله. لم يكن أحد منهما قد رأى ميتا قبل هذه المرة، فركبهما الخوف والأسى. ونفذ إلى أعماقهما حزن قهار إلى حيث لم تنفذ عاطفة من قبل. ومال حسين نحو الميت، ولثم جبينه فعاودته الرجفة. ومال حسنين نحوه كذلك، ولثم جبينه في شبه غيبوبة. وأعادت الأم الغطاء على الرأس الفاني، وحالت بينهما وبين الفراش، ثم قالت لهما بلهجة حازمة: اخرجا.
فتراجعا خطوتين، وتولى حسنين عناد طارئ فتوقف، وتشجع به حسين فتوقف كذلك. وجال بصرهما بالحجرة فيما يشبه الذهول، وكأنهما كانا يتوقعان تغيرا شاملا لا يدريانه، ولكنهما وجداها كالعهد بها لم يتغير منها شيء. هذا الفراش على يمين الداخل، والصوان في الصدر يليه المشجب، وإلى اليسار الكنبة التي ارتمت عليها الأخت، وقد أسند إلى حافتها عود انغرست ريشته بين أوتاره، وثبتت عيناهما على العود في دهشة ممزوجة بالحزن. طالما لعبت أنامل الراحل بهذه الأوتار، وطالما التف حولها الأصدقاء مطربين يستعيدون ويعيد، فما أعجب ما بين الطرب والحزن من خيط رقيق، أرق من هذا الوتر. ثم مر بصرهما الحائر بساعة الراحل على خوان غير بعيد من الفراش، لا تزال تدور باعثة دقاتها الهامسة، ولعل الراحل قرأ فيها آخر تاريخ له في الدنيا، وأول عهدهما باليتم. وهذا قميصه على المشجب وقد لاحت آثار عرقه ببنيقته، فرنوا إليها بحنان عميق، وقد بدا لهما في تلك اللحظة أن عرق الإنسان أشد ثباتا من حياته العظيمة. ولبثت الأم تنظر إليهما في صمت. لم تجر لها خواطرهما على بال، ولكنها كانت تدرك من هول الكارثة ما لم يدر لهما بخلد. وندت من حسنين تنهيدة حارة لفتت إليه شقيقه، فوضع يده على كتفه وهمس في أذنه: هلم بنا.
وألقى الشابان نظرة أخيرة على الجثمان المسجى وهما يعتقدان - بحكم العادة المتوارثة - أن عيني أبيهما تريانهما رغم الموت، فلم يولياه ظهرهما؛ أن يسيء إعراضهما إلى شعوره، وبعثا إليه بتحية قلبية، وتقهقرا إلى الباب ثم غادرا الحجرة. ولاحت من حسنين نظرة إلى أخيه فطالع في وجهه حزنا عميقا مؤثرا، فخفق قلبه وأحس نحوه بالعطف، كما أحس بحاجته الشديدة إلى عطفه.
3
وغادر الشقيقان الشقة إلى باب العمارة حيث اصطفت بعض الكراسي، فوجدا أخاهما الأكبر - حسن - جالسا في صمت وكآبة. وجلسا إلى جانبه يشاركانه صمته وكآبته. لم يكن لديهما فكرة عما ينبغي عمله، أما حسن فكان ذا تجارب كثيرة. وكان يشبه أخويه إلى حد كبير، بيد أنه اختلف عنهما في نظرة عينيه التي تنم عن جرأة واستهتار، فضلا عن أن طريقته في ترجيل شعره الكثيف المنفوخ، ولبس البدلة، دلت على عنايته بنفسه من ناحية، وعلى قدر غير قليل من الابتذال من ناحية أخرى. كان حسن يعلم بما ينبغي عمله، ولكنه لم يبد حراكا لأنه كان ينتظر مقدم شخص هام. وقد سأله حسين بتأثر: كيف مات والدنا؟
فأجاب قائلا وهو يقطب: مات فجأة فأذهلنا جميعا. كان يرتدي ملابسه وكنت جالسا في الصالة، فما أدري إلا ووالدتنا تناديني بفزع، فهرعت إلى الحجرة، فوجدته ملقى على الكنبة وصدره يعلو وينخفض. وجعل يومئ في ألم إلى صدره وقلبه، فحملناه إلى الفراش، وقدمنا له كوب ماء ولكنه لم يستطع أن يشرب. ثم غادرت الحجرة مسرعا لاستدعاء طبيب، ولكني لم أكد أبلغ الفناء حتى صك مسامعي صوات حاد فعدت فزعا، ووجدت أن كل شيء انتهى.
ورأى وجهي شقيقيه يتقلصان من الألم فازداد وجهه كآبة. كان يشعر بحرج شديد جعله يتوجس خيفة من شقيقيه أن يظنا بحزنه الظنون. كانا يعلمان بطبيعة الحال بما كان يقع بينه وبين والديه من شقاق وملاحاة بسبب حياته المضطربة المستهترة، فخاف أن يحسباه دونهما حزنا وأسفا. والحق أنه يجد لوعة الحزن والأسى. والحق أنه لم يبغض أباه قط على رغم ما كان. وإذا لم يكن حزنه كحزنهما فمرجع هذا إلى تقدمه عنهما في السن - كان في الخامسة والعشرين - وإلى تمرسه بالحياة حلوها ومرها، ومرها على الأكثر، الأمر الذي يلطف عادة من مرارة الموت. حقا كان قلبه يحدثه بأنه لن يجد بعد اليوم من يصرخ في وجهه قائلا: «لا أستطيع أن أعول رجلا خائبا مثلك إلى الأبد، فما دمت قد نبذت الحياة المدرسية، فشق سبيلك بنفسك ولا تلق بنفسك علي.» حقا لن يجد من يقول له هذا بعد اليوم، ولكنه لن يجد كذلك من يئويه إذا ضاقت به السبل، وكثيرا ما تضيق به حتى لا يوجد بها منفذ لأمل. إنه أعظم إدراكا لحقيقة الكارثة التي وقعت من هذين الطفلين الكبيرين، فكيف تنقصه دواعي الحزن والأسف؟! واختلس من الوجهين المحزونين نظرة سريعة من عينيه البراقتين، ثم عض شفتيه. كان يحبهما على رغم الظروف التي تدعوه إلى الحقد عليهما، وفي مقدمتها جميعا نجاح حياتهما المدرسية وتمتعهما بعطف أبيه. ولكنه لم يكن يرى في المدرسة ميزة يحسد عليها أحد، ومن ناحية أخرى كان مقتنعا بأن أباه يحبه كشقيقيه وإن ران على حبه السخط والغضب، وأهم من هذا كله أن الشعور برابطة الأسرة كان ولا يزال قويا في آل كامل بفضل الأم قبل كل شيء.
وعند الضحى أقبل عليهم رجل وامرأة في ثياب ريفية، فعرفوا فيهما خالتهم وزوجها عم فرج سليمان، وقد عزاهم الرجل وشاركهم جلستهم، على حين هرولت الخالة إلى الداخل وهي تصرخ «يا خراب بيتك يا اختي» فدوت العبارة في آذانهم دويا مفجعا وعاود الشابين البكاء. وراح عم فرج سليمان يحادث حسن بينما خلا الشقيقان إلى نفسيهما في صمت طويل، والتقت أفكارهما وهما لا يدريان في مصير أبيهما بعد الموت. وكان حسين راسخ العقيدة عن وراثة وبعض العلم، فلم يداخله شك في النهاية، وسأل الله بقلبه أن يلقى أباه في ذلك اليوم البعيد، وهما على أحسن حال من رضوان الله. وأما حسنين فكان في حيرة من كرب الموت لا يدع للعقل راحة للتأمل والتفكر. وكان يسلم بالإيمان تسليما وراثيا لا شأن فيه للفكر، وقد حملته أمه يوما على أداء الفرائض فأداها دون وعي، ثم هجرها في شيء من التردد دون تكذيب أو زيغ. ولم تتسلط العقيدة على فكره. ولم تشغل باله كثيرا، ولكنه لم يجد نفسه خارجا على حقائقها قط. وقد دفعه الموت إلى التفكير ولكنه لم يطل به، وسرعان ما عاوده التسليم تؤيده هذه المرة عاطفة حادة: «هل الموت هو النهاية؟ ألا يبقى من أبي إلا التراب ولا شيء من وراء هذا؟ معاذ الله. لن يكون هذا. إن كلام الله لا يكذب.» ولبث حسن وحده لا يشغله شيء من هذه الأفكار، ولم يستطع الموت نفسه أن يدعوها إلى رأسه، كأنه كان وثنيا بالفطرة. والحقيقة أنه لم يتأثر بأي نوع من التربية أو التهذيب. كان ابن الشارع كما كان يدعوه أبوه في ساعات الغضب. وقد طبع على العبث فلم يعد قلبه تربة صالحة لبذور العقيدة، وما انفك يتخذ منها مادة لمزاحه ودعابته، وحتى الأثر الخفيف الذي علق بقلبه من وحي أمه ضاع في خضم الحياة التي اكتوى بنارها. لذلك تاه به الفكر في وديان بعيدة عن الأبدية، تتركز حول هذه الحياة، وحظه وحظ أسرته منها. بيد أنه لم يطل به المكث مع شقيقيه وزوج خالته؛ فقد تراءى عن بعد رجل يهرول قادما، ما إن وقع بصر حسن عليه حتى قال بارتياح كأنه كان ينتظره: فريد أفندي محمد!
وكان القادم يجفف جبينه بمنديل على رغم لطافة الجو الخريفي، ولكنه كان بدينا مفرطا في البدانة، ذا كرش عظيمة، ووجه مستدير مكتنز لاحت فيه قسماته دقيقة صغيرة، على أن بدانته وكهولته وأناقته أيضا أضفت عليه وقارا مما يعتز به موظفو الحكومة، والكتبة منهم خاصة. وعلقت به أعين الأخوة برجاء يستحقه من كان جارا مثله، وصديقا قديما لأبيهم، وأقبل الرجل عليهم معزيا. ثم خاطب حسن قائلا: طلبت إجازة اليوم من الوزارة. هلم بنا إلى ديوان المرحوم لصرف الدفنة، ثم لابتياع اللوازم الضرورية.
Página desconocida
وجعل يسأل عما كان وصاه به قبل ذهابه إلى الوزارة من إجراءات تستدعيها الوفاة، ثم تأبط ذراعه وذهبا معا.
4
وعند اقتراب موعد الجنازة بلغ الاضطراب بحسنين مداه، اضطراب من نوع جديد، كان يشغله عن الحزن نفسه. كان يرجو لأبيه جنازة رائعة تليق بمقامه وبمكانته هو، التي يحب أن يظهر بها أمام الناس. لم يكن أخواه ليكترثا كثيرا لهذا الأمر، أما هو فكان يعد إخفاق الجنازة كارثة كالموت نفسه؛ غضبا لأبيه الذي يحبه، ولنفسه هو. وقلب عينيه فيمن تجمع من المشيعين فلم ير أحدا يملأ العين إلا جارهم الكريم فريد أفندي محمد، أما زوج خالته فكان في حكم العمال، وليس عم جابر سليمان البقال بخير منه، والحلاق أدهى وأمر، ونفر غيرهم غيابهم أشرف من حضورهم. وانقبض صدره وغشيه كدر عميق. ولكنه كان قليل الصبر، فما وافت الساعة الرابعة حتى تدفقت جماعات الموظفين حتى سدوا عطفة نصر الله سدا. وردت إليه الروح فعاد إلى حزنه خالصا من القلق. ثم حدث ما لم يدر له في حسبان، فجاءت سيارة فخمة تنطق بالعز والجاه، ووقفت على بعد يسير من البيت وغادرها ساع ففتح بابها، ثم نزل منها رجل ينم مظهره على الألقاب والرتب. وتقدم بجسمه الطويل العريض الذي عقدت عليه الخمسون هالة من وقار فهرع إليه الإخوة بأدب، واندس بينهم فريد أفندي محمد ليحظى باستقبال الشخصية الممتازة التي ينبغي أن يقدرها - كموظف - أكثر من سواه، وتساءل القادم في صوت منخفض: أليس هذا بيت المرحوم كامل أفندي علي؟
فبادره فريد أفندي قائلا باحترام: بلى يا سعادة البك.
ولم يجدوا ما يقدمونه له إلا كرسيا خيزرانا على قارعة الطريق، فشعروا بحرج غير قليل. وكان حسنين قد امتلأ ارتياحا لمقدمه، ولكنه وجد ضيقا لسؤاله عن بيت المرحوم؛ مما دل على أنه لم يكن يعرف البيت، واقترب من أخيه حسن يسأله: من يكون هذا الرجل؟
فقال حسن: أحمد بك يسري، مفتش عظيم بالداخلية، وصديق حميم للمرحوم.
فسأله بغرابة: لماذا سأل عن البيت كأنه لا يعرفه؟
فحدجه حسن بنظرة غريبة وقال: كان والدنا كثير التردد على بيته، أما هو .. إنه رجل عظيم كما ترى!
وصمت الشاب لحظة ثم استدرك قائلا: كان المرحوم يحبه ويعده أعز صديق.
وتناسى حسنين هذا، ولم يشأ أن يفسد على نفسه زهوها، وود لو يراه - ذلك المفتش - المشيعون جميعا. ثم حلت اللحظة المفجعة، فخرج النعش من البيت وعلا الصوات من الشرفة والنوافذ. انتظمت الجنازة بالمشيعين جميعا يتقدمهم النعش. وعلقت أعين الشقيقين بالنعش في ذهول وإنكار، وتساقط دمعهما طوال الطريق. وبلغوا المسجد فأخذوا في توديع المشيعين وشكرهم. وأظهر البعض استعدادا لمرافقة النعش حتى مستقره الأخير، ولكن حسنين همس في أذن أخيه الأكبر قائلا: لا تسمح لأحد بالذهاب مهما كلفك الأمر.
Página desconocida
كان حريصا على ألا تقع عين على القبر؛ حفظا لكرامة الأسرة. ووفقوا إلى صرف المشيعين، وركبوا سيارة الموتى وليس في ركابهم إلا عم فرج سليمان، وفريد أفندي محمد الذي أبى الرجوع إباء لم ينفع فيه الرجاء. وانطلقت السيارة بهم إلى باب النصر، ووقفت بهم ناحية قامت بها القبور في العراء ثم ووري جثمان كامل أفندي في قبر غير بعيد من الطريق الملتوي الذي يشق المدافن كأنه من قبور الصدقة. ووقف حسنين غارقا في الحزن والبكاء، ولكنه على حزنه كان يسترق النظرات إلى محمد أفندي فريد في خجل واستياء «لو علم التلاميذ بالوفاة لجاءوا معزين، ولرافقني بعضهم حتما إلى هذا القبر. الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. لا مقبرة ولا يحزنون. لماذا لم يبن والدنا مقبرة تليق بأسرتنا؟!»
5
انتصف الليل أو كاد، وخلت الشقة إلا من أهلها. وآوت الأسرة إلى الصالة ومعهم الخالة وزوجها. وراحت الأم تعيد قصة الوفاة للمرة العشرين في ذاك اليوم الحزين، وأنصت إليها حسين وحسنين باهتمام، على حين وجم حسن متفكرا.
وتحدث حسنين عن أحمد بك يسري متحاشيا مسألة جهله للبيت؛ لوجود خالته وزوجها من ناحية، ولأنه لم يكن يحب أن يذكرها من ناحية أخرى. وكان شعور العطف نحو والده يملأ عليه نفسه، فجعل يرنو إلى باب حجرته المغلقة بطرف حزين، ويتخيل فراشه الخالي بإنكار وأسف، ثم نظرت الأم إلى الأبناء وقالت: قوموا للنوم.
وأذعنوا لمشيئتها بلا اعتراض بعد يوم شاق أليم، ومضوا إلى حجرتهم. وكان بالحجرة ثلاثة أسرة صغيرة فأخلوا واحدا لزوج خالتهم الذي لحق بهم على الأثر، وشارك حسنين حسين في فراشه. ولكنهم لم يستسلموا للنوم، أو تأبى النوم عليهم، فراحوا يتحدثون عن أبيهم بحزن وحنان، ويذكرون أيامه الأخيرة، وميتته المفاجئة. ثم قال حسين: كانت جنازته تليق بمقامه حقا.
فقال عم فرج سليمان مؤمنا على قوله: كان رحمه الله رحمة واسعة رجلا عظيما، فلا عجب أن تكون جنازته عظيمة مثله. ولقد امتلأت عطفة نصر الله بالمشيعين من البيت إلى شارع شبرا.
ولم يرتح حسنين لصوت الرجل، وكان يشعر لوجوده بضيق، ثم ذكر حانقا أنه رأى القبر العاري، فقال: العجيب أن والدنا وقد أفنى مالا كثيرا لم يفكر في بناء مقبرة تليق بالأسرة.
فعاد الصوت الذي لم يرتح إليه يقول: وهل كان يظن أنه سيهلك في مثل هذه السن؟ إن والدك في الخمسين. وعندنا في الريف كثيرون يتزوجون للمرة الثانية أو الثالثة في هذه السن.
وصمت الرجل مليا ثم استدرك قائلا: ولا تنس أن والدك قد هاجر مع جدته من دمياط إلى القاهرة، وهو في مثل سنك يا سي حسنين، فلستم من أهل القاهرة الذين يتوارثون المقابر جيلا بعد جيل.
فقال حسنين بامتعاض: حقا لسنا من أهل القاهرة، وإن كانت أسبابنا بآلنا في دمياط قد انقطعت.
Página desconocida
وذكر في حزن أنه لا يعرف لنفسه أقارب غير خالته هذه، وسيبقى هذا القبر المغمور في العراء رمزا لضياعهم المخجل في هذه المدينة الكبيرة، وازداد ضيقا بوجود هذا الرجل الذي احتل فراشه. فآثر الصمت حتى يقطع عليه سبيل الكلام. وساد الصمت حتى رنق النوم بأجفانهم. وفي الصالة لم تبارح الأم وأختها وابنتها مجلسهن، ولم يتعبن من الحديث عن الفقيد العزيز. وكان الشعور بالفاجعة هنا أعمق من الحجرة الأخرى. وقد ارتسمت أماراته على وجه الأم النحيل البيضاوي وعينيها الملتهبتين. وكانت بأنفها القصير الغليظ وذقنها المدبب وجسمها النحيل القصير؛ توحي بأنها وهبت الأسرة خير ما فيها، فلم يبق من حيويتها إلا نظرة قوية تنم عن الصبر والعزم.
وكان التغير الطارئ عليها من العمق بحيث يتعذر تصور ما كانت عليه أيام شبابها، إلا أن ابنتها نفيسة كانت تعيد حياتها وصورتها بدقة كبيرة، كان لها هذا الوجه البيضاوي النحيل والأنف القصير الغليظ والذقن المدبب، إلى شحوب في البشرة، واحديداب قليل في أعلى الظهر، فلم تكن تختلف عن أمها إلا في طولها المماثل لطول شقيقها حسنين. كانت بعيدة عن الوسامة وأدنى إلى الدمامة، وكان من سوء الحظ أن خلقت على مثال أمها، على حين ورث الإخوة خلقة أبيهم. وكان الحزن قد أتى عليها فبدت في صورة بشعة واستغرقت فكرها ذكريات والدها الحبيب. أما الأم فعلى حزنها الشديد دارت برأسها خواطر أخرى. كان يداخلها نحو أختها شعور بعدم الارتياح. ولم تستطع أن تنسى أنها كانت تنغص عليها حياتها، وأنها كان يحلو لها كثيرا أن تقارن بين حظيهما فتقول: إن أختها تزوجت من موظف، أما زوجها هي فعامل في محلج قطن، وإن أختها تقيم في القاهرة، وهي مقضي عليها بالحياة في الريف، وإن أبناء أختها تلاميذ وأبناءها هي لا حظ لهم إلا حظ العمال، وإن كرار أختها لا ينضب معينه، أما بيتها فلا يعرف السعة إلا في المواسم. لعلها لا تجد الآن ما تحسدها عليه. وامتلأت نفسها امتعاضا إلى ما بها من حزن. إنها تدرك من هول الكارثة ما لا يدركه أحد. انتهى زوجها، وإنها لتتلفت يمنة ويسرة فلا تجد أحدا تعرفه إلا هذه الأخت التي لا يعقد بها رجاء. لا قريب ولا نسيب. ولم يخلف الراحل شيئا. وهيهات أن تأمل في معاش مناسب وقد كان مرتبه كله يستنفد في ضرورات الأسرة. وقد وجدت في محفظته جنيهين وسبعين قرشا هي كل ما تملك من نقود حتى تنتظم الأمور. ورنا بصرها إلى حجرة الأبناء في سهوم. اثنان في المدرسة، معفيان من المصاريف حقا، ولكن هيهات أن يغني هذا عنهما شيئا. أما الثالث ففي حكم الصعاليك! وتنهدت من الأعماق، ثم حولت عينيها إلى نفيسة فتقطع قلبها ألما. فتاة في الثالثة والعشرين من العمر بلا مال ولا جمال ولا أب. وهذه هي الأسرة التي باتت مسئولة عنها بلا معين. بيد أنها لم تكن من النساء اللاتي يفضضن همومهن بالدموع. وأن حياتها الماضية وإن أمست حلما سعيدا موليا إلا أنها لم تكن يسيرة، خصوصا في مطلعها حين كان المرحوم موظفا صغيرا ذا جنيهات معدودات، وقد علمتها الصبر والجلد والكفاح. كانت دائما قوية، وكانت محور البيت الأول، بل كانت على الأرجح تقوم بدور الأب، على حين كان المرحوم أدنى إلى حنان الأمهات وضعفهن. والأبناء أنفسهم مثال حي على التباين بين الأب والأم، فكان حسن شاهدا تعيسا على رخاوة الأب وتدليله، وكان حسين وحسنين شاهدين على حزم الأم وحسن تربيتها. أجل كانت أرملة قوية، ولكنها لم تمتلك في تلك اللحظة من الليل إلا اجترار الحزن والقلق.
6
في مساء اليوم التالي لم يبق في الدار أحد غير أهلها، وقد كوم أثاث حجرة الراحل في ركن منها وأغلق بابها. واجتمع الأبناء حول أمهم وهم يشعرون بأنه آن لهم أن يسمعوا لها. وكانت الأم تعلم بأنه ينبغي لها أن تتكلم. ولم يختلط عليها الأمر فيما يجب قوله؛ فقد كانت فكرت فأطالت التفكير، ولعله لم يكن يحيرها شيء مثل هذا التناقض بين ظاهرها الدال على الحزم والقوة، وباطنها الذي يندى رحمة وعطفا على أسرتها البائسة. وخفضت عينيها متحامية النظرات المصوبة نحوها وقالت: مصيبتنا فادحة، ليس لنا إلا الله، والله لا ينسى عباده.
لم يكن بوسعها أن تتساءل «ما عسى أن نفعل؟» وهيهات أن تنتظر جوابا من أحد من المحيطين بها، حتى كبيرهم حسن. وليس في الدنيا أحد تستطيع أن تلقي إليه بهذه الاستغاثة فتشركه في بعض همها.
شعرت بالخلاء يكتنفها، ولكن أبت أن تستسلم لليأس، واستدركت تقول: ليس لنا من قريب نعتمد عليه، وقد رحل العزيز الغالي دون أن يترك شيئا إلا معاشه، ولا شك أنه دون المرتب الذي كان لا يكاد يكفينا. فالحياة تبدو كالحة الوجه، ولكن الله لا ينسى عباده. وكم من أسرة مثلنا صبرت حتى أخذ الله بيدها فشقت طريقها إلى بر الأمان.
واختنق صوت نفيسة بالبكاء وهي تقول: لا أحد يموت جوعا في هذه الدنيا، وسيأخذ الله بيدنا، أما المصيبة التي تجل عن العزاء فهو موته هو. أسفي عليك يا بابا.
ولم تحدث هذه الدموع أثرا عميقا؛ لأن كلام الأم أنذر بأمور خطيرة استأثرت بجل اهتمامهم، فثبتت أعينهم على أمهم التي عادت تقول: لا يجوز إذن أن نيئس من رحمة الله، ولكن ينبغي أن نعرف رأسنا من قدمنا وإلا هلكنا، وأن نوطن نفوسنا على تحمل ما قدر لنا من حظ بصبر وكرامة، وربنا معنا.
وأحست بأن معين الكلام العام قد نفد، وأنه ينبغي أن تخاطب الأبناء، كل بما يعنيه، ورأت عن حكمة أن تبدأ بمن هو أقل خطورة، تمهد به لمن هو أشد خطورة، فنظرت صوب حسين وحسنين، وقالت بصوت هادئ أن تكشف عما لحق قلبها من تأثر: لن يكون في الإمكان إعطاؤكما أي مصروف يومي، ومن حسن الحظ أن المصروف ينفق عادة في وجوه تافهة.
وجوه تافهة! اشتراك نادي الكرة، السينما، الروايات، أهذه وجوه تافهة؟! وقد تلقى حسين الحكم في وجوم، وتاه عقله متخيلا الحياة بلا مصروف، ولكن دون أن ينبس بكلمة. أما حسنين فقد انقض الحكم عليه كالصاعقة، وسرعان ما قال معترضا، وبلا وعي تقريبا: كل المصروف؟! ولا مليم؟!
Página desconocida
فحدجته أمه بنظرة طويلة ثم قالت بحزم: ولا مليم.
أحزنها اعتراضه، ولكنها رحبت به لأنه أتاح لها أن تؤكد قولها بما لا يدع سبيلا إلى الشك فيه، ولكي يسمعه شخص آخر تخشى متاعبه أكثر من شقيقيه. وفتح حسنين شفتيه، وهمهم دون أن يبين، ثم قال بصوت منخفض: سنكون التلميذين الوحيدين اللذين تخلو جيوبهما من مصروف.
فقالت أمه بحدة: إنك واهم، المصائب كثيرة، والتلاميذ المصابون لا حصر لهم .. ولو أنك فتشت جيوب التلاميذ جميعا لوجدت أكثرها فارغا. وهبكما الوحيدين الفقيرين فما في هذا من عيب، ولست المسئولة عما وقع.
ولاذ حسنين بالصمت متذكرا أنه يخاطب أمه. كان دائما يجد عند أبيه من التسامح ما لا يجده عندها، وكان الرجل يحبه كثيرا فلم ينزل من نفسه هذه المنزلة إلا ابنته نفيسة. أما الأم فلم تكن تتخلى عن حزمها قط. ولما فرغت من الرد على اعتراضه استطردت قائلة: كذلك أحذركما من ترك نصيبكما من الغداء المدرسي كما تفعلان عادة.
وكان الشقيقان يقنعان من غدائهما المدرسي بلقمات معدودات كي يتناولا وجبتهما الرئيسية في البيت. وكان التلاميذ الذين يأكلون في المدرسة حتى الشبع موضع غمز عادة. فتساءل حسنين برقة: لماذا لا نأكل في بيتنا كعادتنا؟
فقالت الأم بامتعاض: من يدري؛ فلعله لن يتاح للبيت الطعام الذي تحب!
وارتسمت على شفتي حسن - الذي أصغى إلى الحديث كله في صمت عميق - شبه ابتسامة، أخفاها بتقطيبة مصطنعة، ولكنها لم تخف على الأم، فصمتت على أن تواجهه بالحقيقة - إن كان حقا في حاجة لذلك - بعد هذا التمهيد الطويل. فتساءلت بلهجة حزينة: وأنت يا حسن؟!
هذا أكبر الأبناء، أول من أيقظ أمومتها، الحبيب الأول! ولكنه دليل ملموس على أن الأمومة قد تتأثر بأمور لا تمت للفطرة بسبب. لا يعني هذا بطبيعة الحال أنها كرهته. إنها أبعد ما يكون عن هذا. ولكنها أسقطته من حسابها؛ فتوارى من مرموق آمالها في حسرة بالغة. انزوى في ركن مظلم، ولم يعد حبه يتحرك في فؤادها إلا مصحوبا بالأسف والحزن وقاتم الذكريات. وقد كان ولا يزال المشكلة المستعصية لهذه الأسرة. كان في البدء ضحية لفقر أبيه وتدليله، فلم يبعث به إلى المدرسة إلا في سن متأخرة. وسرعان ما ظهر تمرده على الحياة المدرسية، وتكرر هروبه من المدرسة، وتوالى سقوطه عاما بعد عام، حتى انقطع عنها ولم يجاوز السنة الثالثة. واستحال ما بينه وبين أبيه إلى نقار وشجار، ثم إلى ما يشبه العداوة الحقة، فكان يطرده أحيانا من البيت فيقضي أياما متسكعا ثم يعود إلى البيت، وقد اكتسب شرورا جديدة من مخادنة الأشقياء والغوص في الإثم والإدمان وهو دون العشرين. ولما بلغ اليأس من أبيه مداه ألحقه بحانوت بقال، فمكث به شهرا ثم طرده صاحبه بعد معركة كاد يذهب الحانوت ضحية لها. ثم عمل في شركة سيارات وطرد منها إثر عراك أيضا. ولم يعد يأبه لا بغضب أبيه ولا بحزم أمه، ففرض نفسه على البيت فرضا، يلقى سخطهم باستهانة أو بدعابة أو بشجار، ولكنه لا يتزحزح ولا يبحث جادا عن عمل. وبدا وكأنه لا يعمل للمستقبل حسابا، وظل سادرا مستهترا حتى فاجأه موت الأب. إنه يدرك خطورة الحال؛ فهو الوحيد الذي عرف مرتب أبيه، وقدر على وجه التقريب معاشه. وفهم ما تعني الأم بتساؤلها «وأنت يا حسن؟» «أنت تقولين إن الله لا ينسى عباده، وأنا عبد من عباده. فلننظر كيف يذكرنا. لماذا أخذ والدنا؟ ولماذا يعلن عن حكمته على حساب أمثالنا من الضحايا؟» ولكنه طالعها بابتسامة مؤدبة، وشعور ممتلئ عطفا وتقديرا للمسئولية، ثم قال: إني أدرك كل شيء.
فقالت المرأة في ضيق متسائلة: ما عسى أن يجدي الإدراك وحده؟ - لا بد من عمل شيء.
فقالت في انفعال: هذا ما نسمعه كثيرا. - الآن تغير الحال. - أليس ثمة أمل أن تتغير أنت؟!
Página desconocida
فقال حسن في نبرات قوية: مثلي لا يضيع في الحياة؛ إني أستطيع أن أشق سبيلي. والفرص كثيرة، والأسلحة في يدي لا حصر لها، أصغي إلي يا أماه؛ لن أطالبك بغير المأوى واللقمة!
هذا أسلوبه ! يبدأ وكأنه يسلم بكل شيء، ثم ينتهي وكأنه يطالب بحقوق جديدة. المأوى واللقمة، وماذا يبقى بعد ذلك؟! ورمقته باستياء وقالت: إن حالنا لا يحتمل هذا الهذر. - الهذر؟! - أجل، نحن في حاجة إلى من يطعمنا فكيف نهيئ لك اللقمة؟! لماذا تضطرني إلى مصارحتك بهذا؟
فابتسم ابتسامة باهتة وقال: أعني إلى حين. حتى تفرج. لن يضيق البيت بي، أم تريدين أن تطرديني؟! وسوف ألتقط رزقي ما وجدت إليه سبيلا. ولكن هبي أياما انقضت دون أن أجد عملا، فلا أحسبك ترضين أن أموت جوعا. وعلى أية حال سأقاسمك رغيفك حتى أجد عملا!
وتنهدت في يأس. إنها حيال مشكلة حقا ولا تدري ماذا تفعل. وأخوف ما تخاف أن يستسلم لحياة البطالة والكسل والتسكع، خاصة إذا فتر تأثره بموت أبيه، فقالت برجاء: أرجو أن تبحث بجد وإخلاص عن عمل.
فقال بلهجة تنم عن الصدق: أعدك بهذا، وأقسم لك بقبر والدنا.
وأثار قسمه عاصفة حزن في الصدور لموقعه الأليم، وهزتهم «قبر والدنا» هزة عنيفة، فأجهشت نفيسة في البكاء، وغاص قلب حسنين في صدره، على حين رمق حسين أخاه بنظرة حيرة وعتاب، ولبثت الأم صامتة مليا تكابد جرحا عميقا، ولكنها لم تنس - حتى في هذه اللحظة - أنها لم تفرغ بعد من قول ما تريد قوله، فرددت عينيها اللتين انتفخ جفناهما واحمرت أشفارهما بين أبنائها ثم قالت: أما نفيسة فتحسن الخياطة. وهي تخيط كثيرا لجارتنا محبة ومجاملة، ولست أرى بأسا في أن تتقاضى على تعبها مكافأة.
وهتف حسن بحماس: عين الصواب.
ولكن حسنين صاح بغضب وقد اصفر وجهه غضبا: خياطة؟!
فأجابه حسن معترضا: ما عيب إلا العيب، فلتكن.
فقال حسنين بحدة: لن تكون أختي خياطة، كلا، ولن أكون أخا لخياطة.
Página desconocida
وقطبت الأم في غضب وصاحت به: أنت ثور، تأكل وتنام، ولا تدري عن الدنيا شيئا، وهيهات أن يفهم عقلك الغبي حقيقة حالنا!
وفتح فاه ليعترض ولكنها صاحت به: اخرس.
فنفخ دون أن ينبس بكلمة. ورأت الأم أنها فرغت من معارضته؛ فالتفتت إلى حسين، فالتقت عيناهما برهة قصيرة، ثم خفض الفتى عينيه وتمتم على مضض: إذا لم يكن من هذا بد فالأمر لله!
فقالت الأم بتأثر: ما عيب إلا العيب كما يقول حسن. لست أحب لأحد منكم المهانة، ولكن للضرورة أحكام، ولا حيلة لي.
وساد صمت مؤلم. وكان حسين أشبه الأبناء بأخلاق أمه في صبرها، وعقلها، وإخلاصها للأسرة. وقد تألم كثيرا لمصير أخته، ولكنه استسخف الاعتراض على اقتراح أوحت به الضرورة. وشعر في ألمه بأنه تعلم في هذين اليومين ما لم يتعلم في حياته كلها. أما نفيسة فسكتت مغلوبة على أمرها. ولم تكن تسمع الاقتراح لأول مرة؛ فقد أقنعتها أمها بضرورته ووجاهته معا. وكانت الخياطة هوايتها وملهاتها، فلم يبق إلا أن توطن النفس لقبول الأجر. لهذا كله تضاعف حزنها على أبيها الذي لم تعد بعده شيئا. ثم قطع حسن الصمت قائلا بلهجة تنم عن الحسرة: من المؤسف حقا أن المرحوم أبى على نفيسة أن تواصل تعلمها في المدرسة. تصوروا لو كانت أختنا مدرسة الآن!
وحدجوه بغرابة، فأدرك أنه تورط فيما يشبه الدعابة وهو لا يدري. أفلم يكن الأولى به أن يعرف للتعليم قيمته، فيواصل حياته المدرسية؟! وقطب مغيظا وقال: التعليم ينفع أمثالها ممن لا حيلة لهم.
7
وفي صباح اليوم التالي مضت الأم إلى وزارة المعارف مصطحبة معها حسن أكبر الأبناء. ولما علم هناك أنها أرملة المرحوم كامل علي أفندي أظهر كثير من زملائه استعدادهم لأن يكونوا في خدمتها، وطلبت المرأة صرف المستحق من مرتبه فدلها بعضهم على إجراءات إثبات الوراثة. وسألت عن معاشه فذهب معها أحد الزملاء إلى إدارة المستخدمين. وتبين أن المرحوم خدم الحكومة حوالي الثلاثين عاما فبلغ مرتبه 17 جنيها، واستحق معاشا قدره خمسة جنيهات لورثته، لم تكن المرأة تتصور هذا، ولا كانت تعلم شيئا عن نصيب الحكومة من معاش المتوفى، ولكن الذي أفزعها حقا هو ما قيل عن الإجراءات الطويلة التي تسبق صرف المعاش، والتي تستغرق أشهرا طوالا. هالها الأمر فلم تملك أن قالت: وكيف يتيسر لنا الانتظار طوال فترة الانتظار؟
وقال حسن مسوغا قلق أمه: نحن لا نملك إلا هذا المعاش المنتظر!
وندم حسن على قوله عقب إلقائه مباشرة لأنه بدا غريبا من شخص في مثل طوله ورجولته، ولكن الموظف قال دون أن يلقي بالا إلى هذا: أعدك يا سيدتي بألا نضيع دقيقة واحدة بلا عمل. أما إجراءات وزارة المالية فلا حيلة لنا فيها.
Página desconocida
ما جدوى هذا الكلام الطيب؟ ولكن أية فائدة تنتظرها من التذمر والشكوى؟! وغادرا الوزارة في شبه ظلام من القلق واليأس. وهتفت المرأة: كيف نلقى الحياة هذه الأشهر؟! وكيف نعيش بخمسة جنيهات بعد ذلك؟!
وخفض الشاب بصره في وجوم وضيق، ولاح لعيني المرأة المكدودتين بصيص من نور فقالت: سأزور أحمد بك يسري. إنه مفتش عظيم نافذ الكلمة، وكان صديقا عزيزا لأبيك.
فقال حسن بأمل: رأي حسن، إن الكلمة منه تغير إجراءات الحكومة.
فنظرت إليه باهتمام وقالت: لا تضيع وقتك معي. لعلك تدرك حالنا على حقيقتها فاذهب وابحث لك عن عمل مهما كلفك الأمر.
وعادت إلى شبرا بمفردها، ولبثت في البيت حتى العصر، ثم قصدت شارع طاهر أو حي الأعيان كما يسمونه. وكان يقع شمال عطفة نصر الله بثلاث محطات، متفرعا من الطريق العام. تقوم على جانبيه الفيلات الأنيقة والعمارات الحديثة. واسترشدت ببعض السابلة حتى استدلت على فيلا البك. وكان بناء جميلا مكونا من دورين تحيط به حديقة مونقة. وذكرت للبواب صفتها «حرم المرحوم كامل أفندي علي»، فعاد إليها مسرعا وقادها إلى بهو استقبال فاخر موصل بفراندة كبيرة، ثم أخبرها أن البك قادم بعد ارتداء ملابسه. وخيل إليها أن فترة الانتظار قد طالت، ولكنها لبثت بمكانها دون أن ترفع النقاب الأسود عن وجهها. وقد شغلت بأفكارها المضطربة عن رؤية المنظر النفيس الذي يكتنفها. بيد أنها كانت كبيرة الرجاء في هذا الصديق العظيم. طالما ذكره المرحوم أمامها بالحب والفخار، وطالما لمست بنفسها أنعم هذه الصداقة في أقفاص العنب والمانجو تهدى إليهم في المواسم، وكان المرحوم يقضي أكثر سهراته في هذه الفيلا، وربما في هذا الموضع منها حيث تجلس الآن - وقد ألقت على ما حولها نظرة حزينة - يلعب بأوتار عوده، ويسمر هزيعا طويلا من الليل. فليس بعيدا أن تغادر هذه الفيلا مجبورة الخاطر، وإنها لمغرقة في أفكارها إذ فتح الباب الداخلي للبهو وجاء البك بجسمه الطويل العريض، وشاربه المفتول بعناية بالغة، فقامت المرأة في أدب، وسلم عليها البك وهو يقول برقة: تفضلي يا ست بالجلوس، شرفتنا. رحمة الله على زوجك، كان صديقا عزيزا أحزنني فقده، وسوف يحزنني طوال العمر.
فاستبشرت المرأة خيرا بهذا اللقاء، وشكرت له عطفه، وراح البك يحدثها عن الفقيد حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وزادها الموقف استفاضة فلم تحاول منعها مدفوعة برغبة غريزية في استثارة عطفه. ثم ساد الصمت حينا فأدركت رغم حزنها واضطرابها أن شارب البك وسوالفه مصبوغة، وأنه يغالي في العناية بمظهره، إلى ما تطيب به من رائحة زكية عميقة الأثر. ولما تكرم بسؤالها عن طلبتها قالت: جئت مستشفعة بسعادتك؛ لاستعجال صرف معاش المرحوم. قالوا لي يا سعادة البك إن إجراءات صرفه تستنفذ أشهرا.
فتفكر الرجل مليا، ثم قال: لن أدخر وسيلة في سبيل ذلك، وسأقابل وكيل المالية بنفسي.
فأثلج صدرها ارتياحا، وشكرته، ثم ترددت لحظات وقالت: الحال يا بك تستدعي السرعة، والله المطلع.
فقال الرجل باهتمام: طبعا، طبعا. إني فاهم كل شيء. هل أنت في حاجة إلى مساعدة؟!
يا له من سؤال! إنها لا تملك إلا جنيهين هما ما تبقيا من المبلغ الذي وجدته بمحفظة المرحوم، ولن تجد سواهما حتى يصرف لها ما يستحق من مرتبه حتى تاريخ الوفاة. ولكن كيف تفصح له عن هذه الحقيقة؟ لم تتعرض لمثل هذا الموقف من قبل، وإنه لموقف يستوجب أن يألفه المرء حتى يخرج منه بطائل، وعقل الحياء لسانها فسكتت قليلا ثم قالت بصوت منخفض: أحمد الله على الستر. بوسعي أن أنتظر قليلا.
Página desconocida
وارتاح البك للجواب. لقد انزلق إلى السؤال متأثرا بالحياء والذوق، ولم يكن ارتياحه لبخل مركب في طبعه، ولا لأنه يكره أن يمد يد المساعدة إلى أرملة صديقه، ولكن لأنه كان على ثرائه لا يكاد يبقي على شيء؛ لكثرة نفقاته على نفسه وأفراد أسرته. كان يضايقه أن يأخذ بيد هذه الأسرة حتى تبلغ بر السلامة. ولكنه كان على استعداد للبذل لو سألته المرأة إياه. وقد غاب عن المرأة أن زوجها لم يكن صديقا للبك بالمعنى الذي يفهمه البك من الصداقة. ولعله كان صديقا من أصدقاء الدرجة الثالثة. كان يحبه، ويقربه، ويود سمره وفنه دون أن يعده ندا له، أو صديقا كسائر البكوات والباشوات. ولكن نيته صدقت على السعي لخدمة هذه المرأة حتى يصرف لها المعاش؛ إكراما لذكرى الراحل، وتفاديا من التورط في مساعدتها، ونهضت المرأة مستأذنة في الانصراف فودعها بالاحترام. ولما خلصت إلى الطريق تنهدت في أمل، ولكنها قالت لنفسها في شبه ندم: «لو أوتيت قدرا من الشجاعة لما ضيعت على نفسي معونة أنا في أمس الحاجة إليها.»
8
وخلا حسين وحسنين لنفسيهما أول مرة بعد الوفاة. كانت نفيسة في المطبخ والأم في وزارة المعارف سعيا وراء همومها الجديدة، وحسن لا يعلم بمكانه إلا الله، وكان حسين متربعا على فراشه، والآخر جالسا إلى مكتب المذاكرة بركن الحجرة، يرعش بين أصابعه قلما في نرفزة ويقول: يبدو أن الحياة لم تعد تطاق.
وانتظر أن يتكلم حسين، ولكنه تجاهل ملاحظته فرفع إليه بصره في حنق. كان حسنين آخر عنقود الأسرة، فلم يكن غريبا أن يبحث لمشكلاته عن حلول عند الآخرين. وضاق صدره بصمت أخيه فسأل: ما رأيك؟
فتساءل حسين متجاهلا: فيمه؟ - فيما قالت! أتحسب حقا أن حالنا بهذا السوء؟
فهز منكبيه قائلا: ولماذا تكذبنا؟
فتألقت عينا الفتى ببريق أمل، وقال: كي تكسر من حدتنا، كي نخاف ونتئد. وليس هذا عجيبا؛ فالشدة مركبة في طبعها، ولولا المرحوم والدنا ما عرفنا المرح!
فقال حسين بحزن: ليتنا ما عرفناه قط! - ماذا تقول؟ - أقول ليتنا ما عرفنا التدلل أبدا؛ إذن لهانت الحياة الجديدة المقضي علينا بها!
فقال حسنين وقد ساوره الخوف: إذن فأنت تصدق ما قالت! أحقا لم يترك والدنا شيئا؟ ألا يسد المعاش نفقاتنا؟
فتنهد حسين قائلا: إني مؤمن بكل كلمة نطقت بها. هذه هي الحقيقة.
Página desconocida
فتساءل حسنين في جزع: كيف نطيق هذه الحياة؟
فارتسمت على شفتي حسين ابتسامة حزينة. كان يشارك أخاه حزنه وقلقه، ولكنه رأى من الحكمة أن يقف منه موقف المعارضة فقال: كما يطيقها الكثيرون. أم حسبت الناس جميعا يحظون بأب كريم ورزق موفور؟! ومع ذلك فهم يعيشون ولا ينتحرون.
فامتلأ حسنين غيظا، وهو يحدق في وجه أخيه، وهتف به: لشد ما يحنقني برودك.
فقال حسين مبتسما: لو جاريتك في عواطفك لركبك اليأس وأجهشت باكيا.
فقال حسنين بسخط: إن من يستسلم للأقدار يشجعها على التمادي في طغيانها!
فابتسم الآخر ابتسامة ساخرة وقال في شبه دعابة: هلم نثر عليها، دعنا نهتف لتسقط الأقدار كما هتفنا: ليسقط هور. - ألم تفدنا ليسقط هور؟! - هيهات أن تفيدنا الأخرى!
وقطب حسنين في كدر وتساءل: من لنا الآن؟
فابتسم حسين ابتسامة عريضة فرطحت أنفه الذي بدا في تلك اللحظة شبيها بأنف أمه الغليظ، وقال باقتضاب: الله!
وزاد الجواب من حنقه! إنه لا يشك في هذا، ولكنه لا يقنع به. الله للجميع حقا، ولكن كم في الدنيا من جائع ومصاب! لم يتنكر يوما لعقيدته ولكنه يتلهف في خوفه على سبيل محسوس للطمأنينة. وتوهم أن أخاه يحرجه ليتخلص منه فتشبث بعناده وقال: لقد شاء أن يأخذ والدنا ويتركنا بلا معين!
فقال حسين وكأنه يمعن في إثارته: هو المعين.
Página desconocida
فانفجر حسنين قائلا: إن هدوءك الكاذب لا يجوز علي، أأنت مطمئن حقا؟!
فأصغى حسين إليه في امتعاض وألم، ثم قال ولعله كان يداري عواطفه: المؤمن لا تخونه طمأنينته. - إني مؤمن وقلق معا.
فقال حسين في غير إيمان بما يقول: هذا من ضعف الإيمان.
فقال حسنين بحنق: أوه، ليكن، إني أعرف تلاميذ يجاهرون بالشك! - أعلم هذا. - هم أذكياء ومطلعون. - أتحب أن تفعل مثلهم؟
فقال في خوف: كلا، لست من هواة الاطلاع. أنت نفسك تقرأ كثيرا؟
فقال حسين مبتسما: هذا حق ولكني لم أنتزع الله من قلبي. والحق أننا نغالي في تحميل الله مسئولية مصائبنا الكثيرة. ألا ترى أن الله إذا كان مسئولا عن موت والدنا فليس مسئولا بحال عن قلة المعاش الذي تركه.
وشعر حسنين أن تطور الحديث نأى به عن مخاوفه الحقيقية فقال بضيق: دعنا من هذا وخبرني كيف نعيش بلا مصروف؟ أي بلا سينما ولا كرة. والأدهى من هذا كله أني كنت شارعا في تعلم الملاكمة!
فقطب حسين قائلا: تحام ما يؤلم أمنا، إذا لم يكن في وسعنا أن نساعدها فلا أقل من أن نريحها من منغصات لا داعي لها. واذكر أنها وحيدة فلا أعمام لنا ولا أخوال! - لا أعمام ولا أخوال! كان هذا يهون لو لم تصبح أختنا خياطة! رباه ما عسى أن يقول الناس عنا؟!
وضاق صدر حسنين، وغلبه الحزن، ووقعت لفظة «خياطة» من نفسه موقعا مؤلما، فقال بغضب: نستطيع أن نعيش دون مبالاة بما يقول الناس.
وأراد أن يقطع الحديث فنهض قائما وغادر الحجرة.
Página desconocida
9
شعرا بحرج وهما يدخلان فناء المدرسة لأول مرة بعد الوفاة. لن يستطيعا مواصلة الحياة الأولى، وسيتغير كل شيء، وهيهات أن تخفى خافية على أعين التلاميذ. وكانا يعانيان من هذا شعورا مؤلما وإن تباينت درجة ألمهما. ولم يكن قد علم بالوفاة إلا قليل فسرعان ما ذاع الخبر بين الأصدقاء، وأقبلوا عليهما معزين. وقال أحدهم محذرا: يجمل بذويكما أن يحسنا اختيار الوصي عليكما؛ فإنني لم أدرك حقيقة الفاجعة بموت أبي حتى ابتليت بوصاية عمي!
الوصي! وتظاهر حسين بالإصغاء إلى نفر يتحدثون عن المظاهرات الأخيرة، والمساعي المبذولة لضم الصفوف، ولكنه سمع حسنين وهو يجيب صاحبه قائلا: نحن مطمئنون إلى الوصي كل الاطمئنان.
فقال محدثه: إني أغبطكما على حظكما، بيد أن الأمر يتوقف على نوع التركة، فإذا كانت أراض زراعية تيسرت سبل الخداع، وإذا كانت عقارا ضاقت السبل على الوصي بعض الشيء، أو هذا ما تقول أمي.
فقال حسنين بهدوء: من حسن الحظ أن تركتنا عقار!
وأصغى إليه حسين في غيظ. لم يحنقه الكذب فحسب ولكنه أشفق من عواقبه. «كيف نواجه الحال الجديدة إذا ظن بنا الإخوان اليسار؟ ماذا نفعل وماذا نقول؟ إنه يكذب بلا مبالاة. سحقا له!» وصوب عينيه نحو أخيه محذرا، فتحاشاه الفتى في تذمر. ثم تساءل تلميذ كيف مات والدهما، فأجاب حسنين في تأثر قائلا: قيل لنا إنه مات فجأة. ومن عجب أنه لما رآني خارجا إلى المدرسة صباح اليوم الذي توفي فيه، وقبل أن يتوفى بساعة واحدة، وضع يده على منكبي ورنا إلي في حنان، وقال لي بلا داع ظاهر «مع السلامة .. مع السلامة!»
فمن كان يدريني أنه يودعني؟!
لم يكن شيء من هذا قد حصل، ولا يدري كيف قاله، والأعجب من هذا كله أنه قاله بتأثر صادق كما لو كان وقع حقا. وقد نطق به ارتجالا مدفوعا برغبة غامضة في تبجيل والده. وعجب حسين لوصفه ثم دهش لتأثره، فكاد يغلبه الابتسام، ونحى وجهه جانبا فرأى عن بعد قريب رئيس فرقة كرة القدم، فأراد أن ينفس عن ضيقه بمواجهة الحقائق، فمضى إليه وحياه ثم قال: أرجو أن تعفيني وأخي من الاشتراك في نادي شبرا.
ولاحت الدهشة في وجه الرئيس، وأزعجه الطلب، خاصة فيما يتعلق بحسنين - جناح الفريق الأيمن - فقال معترضا: لعل أمرا ضايقكما!
فقال حسين بتأثر: توفي والدنا!
Página desconocida
فوجم الرئيس مليا، ثم عزاه برقة، وصمت لحظات ثم قال: ألا ترى أن هذا لا يدعو إلى حرمان النادي من عضوين بارعين مثلكما؟
فقال حسين بلهجة خاطفة: إن الحداد يقضي بهذا!
فقال الفتى بإشفاق: إن الحداد لا يتعارض مع الرياضة!
فقال حسين باشا: إن ظروفنا تقضي بهذا. إني آسف!
ثم حياه مرة أخرى وغادره متحاميا النظر إلى عينيه، وانضم إلى أصدقائه، ووجدهم يتحدثون في السياسة، وكان أحدهم يقول: رحمة الله على شهداء الآداب، والزراعة، ودار العلوم!
فقال آخر: لا بد من التضحية؛ فالدم هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز.
فقال ثالث: لم يضع الدم الطاهر عبثا، ألم تسمعوا عن الدعوة إلى الاتحاد؟ - وهذه التيمس تلمح إلى المفاوضة.
ودق الجرس فاتجهوا إلى الفصول وهم يتناقشون.
10
قطعا فناء البيت في صمت حاملين كتبهما، ثم قال حسنين وهما يرتقيان السلم: عما قليل يبدأ فريق نادي شبرا في التمرين استعدادا للمباراة القادمة!
Página desconocida
فلاذ حسين بالصمت. وجعل يتخيل الملعب واللاعبين، فكأنه يسمع الرئيس وهو ينبئ الآخرين بانفصالهما؛ «لظروف الأسرة الجديدة!» لا لعب ولا مسرة ولا رحمة من شكوى حسنين المتواصلة. وطرقا الباب ثم دخلا. وتسمرت أقدامهما وراء الباب لمنظر غريب لم يتوقعاه. رأيا أثاث البيت مكوما في اضطراب شامل، وقد رصت المقاعد فوق الكنبات ولفت الأبسطة وفكت الدواليب، ولاحت الأم ونفيسة مشمرتين يعلوهما التراب ويتصببان عرقا على لطافة الجو. وهتف حسنين: ماذا حصل؟
فقالت الأم: سنترك الشقة. - إلى أين؟! - إلى الدور التحتاني، سنتبادل السكن مع صاحبة البيت.
شقة أرضية بمستوى التراب، لا شرفة لها، ونوافذها مطلة على عطفة جانبية تكاد تبدو منها رءوس المارة، وطبعا محرومة من الشمس والهواء، وتساءل حسنين في امتعاض ولو أنه كان يعرف الجواب مقدما: لماذا؟!
فقالت الأم بصوت واضح: لأن إيجارها 150 قرشا!
فقال الشاب متذمرا: فرق الإيجار أقل من 50 قرشا لا يتناسب مع الفرق بين الشقتين!
فسألته الأم ساخطة: هل تتعهد بدفع هذا الفرق التافه؟ - لماذا رضينا إذن بأن تشتغل نفيسة خياطة؟
فالتهمته الأم بنظرة من نار وصاحت به: كي نأكل، كيلا تموتوا جوعا!
وحافظ حسين على طلاقة وجهه أن يفتضح امتعاضه وسأل أمه بلهجة لا أثر فيها للاعتراض: متى تم هذا يا أماه؟
فقالت المرأة وهي تمسح جبينها بكم ثوبها الأسود: عرضت الأمر على صاحبة البيت غير مخفية شيئا من حالنا، فأظهرت روحا طيبا، ووافقت بلا تردد.
فقال حسنين في استياء: لو كانت ذات روح طيب حقا لنزلت عن فرق الإيجار مع إبقائنا في شقتنا!
Página desconocida
فقالت الأم في حدة: للناس أعمال أخرى غير العناية برفاهيتك! - وكيف ننام ليلتنا؟
فقالت نفيسة بصوت كسير دل على أنها لم تفق بعد من صدمة الوفاة: سننام في الشقة الجديدة.
وخرج في تلك اللحظة حسن من حجرة المرحوم، حاملا بين يديه المشجب، وهي آخر ما بقي من الأثاث في الحجرات وقال بسرعة: كفاكم نقارا وهلموا نرفع الأثاث إلى الدور التحتاني؛ فليس بيننا وبين الليل إلا ساعتان. وأراد أن يضرب لهم مثلا عمليا، فرفع كنبة من جانب وخاطب حسين قائلا: ارفع.
وفتحت نفيسة الباب على مصراعيه وسار الشقيقان بحملهما الثقيل، وجعل حسين يتساءل وهو يهبط في السلم بحذر: ترى هل يراهما أحد من أسرة فريد أفندي محمد جارهم الكريم بالدور الثالث؟! «ليس الفراق شر ما في الموت، إن الفراق حزن المطمئن! متاعبنا تتلاحق بحيث لا تدع لنا وقتا للتفكير في الحزن. لشد ما نتغير وتتدهور، ولكن ينبغي أن نصبر أو في الأقل أن نتظاهر بالصبر. أكبر جريمة في نظري أن نضاعف بجزعنا شقاء أمنا. سأخاطب حسنين بحزم أكثر!» ثم تبعتهما الأم والأخت تحملان ما تقدران على حمله من قطع الأثاث. ولم يستطع حسنين أن يقف متفرجا فانضم للعاملين. وما زالت الأسرة في نزول وصعود، والأثاث يتحول من فوق لتحت. وكانت صاحبة البيت قد أخلت الشقة وجمع أثاثها في الفناء إلى جانب الحمالين الذين وقفوا ينتظرون دورهم في العمل. وكانت الأسرة جميعا - الصامت منهم والساخط - سواء في الحزن والألم. ولم يكن وجه الأم مما تسهل قراءته، أما نفيسة فابتلت عيناها بالدموع. واشتغل حسن بهمة كأنه يتملق بجهده أمه فلا تلحف في تأنيبه على تعطله، وكان أقل الأخوة تأثرا للتغير الذي قلب الأسرة كما ينبغي لرجل ذاق التشريد وألف التسكع، وهمس حسنين في أذن حسين وهو يلهث من الجهد: ألا ترى أن خسارتنا بموت أبينا لا تعوض أبدا؟!
وانسابت من عينيه دمعتان.
11
غادر حسن البيت مبكرا، عقب خروج شقيقيه للمدرسة. لم يكن ثمة داع ضروري لهذا الخروج المبكر، ولكنه أراد أن يتفادى من الاصطدام بوالدته أن يصبحها بنقار هي في غنى عنه، بما تكابد من تغير الزمن، وتجهم الحظ. انطلق من عطفة نصر الله بلا غاية ولا أمل. «ابحث عن عمل! لا تفتأ تردد على مسمعي هذه الجملة. أين يوجد هذا العمل؟ صبي بقال؟! هذا معناه الإسعاف ثم البوليس.» ولكنه لم يكن يائسا للحد الذي توجبه حاله. كان كبير الثقة بنفسه، وكان في طبعه تفاؤل لا يدري من أين يأتيه. ولكنه لم يستطع أن يتجاهل دقة موقفه وراح يخاطب نفسه قائلا «يا أبا علي، مات الوالد رحمه الله ففقدت الركن الذي كنت تأوي إليه، حقا كنت تلتقط رزقك بالشجار والنقار، وتتحمل في سبيله السب واللعن، ولكنه كان على أي حال رزقا مضمونا. هذه البدلة التي تجعل منك أفنديا لا بأس به، من نقوده رحمة الله عليه. أجل أبى أن يبتاعها لك بادئ الأمر، ولكنك هددته بأن تمشي في الطرق باللباس والفانلة، وأن تقتحم عليه مجلسه بقصر أحمد بك يسري شبه عار، فأذعن على مضض وكلف الخياط بأن يفصلها لك. الآن لو مشيت عاريا بلا لباس ولا فانلة، فلن تجد من يسأل عن صحتك إلا الشرطي!» كانت البدلة حسنة وإن لم تخل من بقع باهتة عند ثنية الركبة. وكان يربط رقبته ببابيون، فبدا القميص في حال لا يحسد عليها. وكان شعره أعجب ما فيه؛ فقد تركه حتى غزر واسترسل، وتصاعد في جعودة جعلت منه رأسا مستقلا فوق الرأس الأصلي. أما وجهه فكان حسن كشقيقيه إلى جسم طويل مفتول العضلات عريض العظام. سار متفكرا فيما خاطب به نفسه، ثم واتته ثقته بنفسه فجأة فقال: «يا سيدي، لا تسمح للهم بأن يركبك؛ فما يجوز أن يركب إلا البهائم من عباد الله. سوف تعيش طويلا وتلقى الحياة بخيرها وشرها. لم أسمع عن إنسان مات جوعا. الأغذية تسد الطرق سدا. ولست طماعا فما تريد إلا اللقمة والسترة، وكم كأس من الكونياك، وكم نفس من الحشيش، وكم امرأة من النساء، وكل أولئك متوفرة بكثرة، أكثر من الهم على القلب. توكل على الله ولا تحمل هما.» ولم يكن خلو الجيب؛ فقد أشرف على جنازة أبيه، وخرج منها بأربعين قرشا لم يعلم بها أحد، وقد تساءل ألم يكن الأخلق به أن يعطيها لوالدته؟ «كلا لو نزلت عنها ما أفادت أمي منها نفعا مذكورا، ولكن ضياعها يضرني ضررا لا شك فيه. لا أدري متى يتاح لي الحصول على مثلها!» وأخذت قهوة الجمال تلوح لعينيه الحادتين فحث خطاه حتى انتهى إليها. هي قهوة صغيرة لم تؤت من ميزة إلا وجودها على الطريق العام. ولم يوجد بها في هذه الساعة المبكرة إلا زبونان جلسا إلى مائدة على الطوار يتشمسان ويحتسيان القهوة، على حين قبع في ركن بالداخل شبان ثلاثة يدل مظهرهم ونظرات أعينهم الحائرة على الفراغ واليأس، فلم يكن عجيبا أن يقصدهم الشاب وينضم إلى مجلسهم، وما لبث أن طلب أحدهم الورق فتهيئوا للعب الكومي. وكان كل منهم يمني نفسه بأن يربح رزق يومه - خمسة قروش فوق الكفاية - من رفقائه. بيد أن حسن كثيرا ما يكون الصائد؛ لمهارته من ناحية ولخفة يده وعينيه من ناحية أخرى. لهذا قال أحدهم قبل البدء في اللعب: لا نريد غشا.
فقال حسن: طبعا.
فقال الشاب: فلنقرأ الفاتحة.
وقرءوا الفاتحة جميعا بصوت مسموع، ولعل حسن تعلم حفظها حول هذه المائدة، ثم لعبوا مقدار ساعة فربح أحدهم دورا، وربح حسن دورين، كان صافي ربحه أربعة قروش ونصفا بعد خصم نصف قرش ثمن فنجان القهوة، واقترح بعضهم أن يمدوا وقت اللعب، ولكن دخل القهوة شاب ما إن رآه حسن حتى نهض قائما، وأقبل نحوه في احترام وسرور وهو يقول: صباح الخير يا أستاذ علي صبري.
Página desconocida
فمد له القادم يده في حركة تشي بشعوره بقدر ذاته، وقال: صباح الخير.
وجلسا إلى مائدة متقابلين، واجتاحت نفس حسن موجة كرم عاتية فنادى النادل وطلب للأستاذ علي صبري قهوة، ثم قال الأستاذ للنادل قبل أن يذهب: ونارجيلة.
وغاص قلب حسن في صدره أن يلزم بدفع ثمن النارجيلة أيضا، فيضيع عليه ما ربح باللعب والحظ واليد والعين. ولكنه سرعان ما تناسى قلقه ليفرغ إلى استطلاع وجه الأستاذ. وكان علي صبري في منتصف عقده الثالث، متوسط القامة نحيل العود، صغير القسمات، أما شعره فأشبه ما يكون بشعر حسن، إلى سوالف تزحف حتى منتصف خده، وكان مظهره بوجه عام يدل على سوء الحال، ولكنه يغطيه بنفخة كاذبة وغرور غير محدود. قال حسن بأسف وهو يستطلع وجهه: لم نسمع صوتك من زمان!
وكان أذاع مرات من المحطات الأهلية، وبدا وكأن الحظ يبتسم له ، فلما ألغيت المحطات الأهلية وأنشئت محطة الإذاعة الرسمية حيل بينه وبين إحياء الحفلات، وضاعت مساعيه وراء هذا الأمل هباء. وكان حسن أحد أفراد تخته المعطل، وطبيعي أن العمل لم يكن يدر عليه أكثر من قروش في الحفلة، ولكنه كان يحبه ويؤثره على العمل الجدي الذي لم يصادف فيه توفيقا على مشقته و«حقارته!» وقال الأستاذ: سأبدأ نشاطا جديدا عما قريب.
فخفق قلب حسن وقال برجاء: نحن رجالك، وفي الخدمة دائما.
فهز الأستاذ رأسه في رضا؛ لأنه لم يكن يشعر بالعزة إلا إذا خاطبه أحد أفراد تخته المتسكعين، خصوصا حسن، ذلك الشرس الجبار، الذي ينقلب بين يديه وديعا متملقا، ثم قال: طبعا. إنك تردد ترديدا حسنا، وصوتك لا بأس به.
فانطلقت أسارير حسن في بشر وقال: ولقد حفظت كثيرا من الطقاطيق. - مثل ماذا؟! - اللي حبك، ظالمني ليه، لما انكويت بالنار.
فهز الأستاذ منكبيه استهانة وقال: إن محك الفن الدور والليالي. ماذا يسمع الآن في الراديو؟ لا شيء. هذا زعيق فارغ وليس بغناء، ولو كانت المحطة تراعي وجه الفن وحده لكنت المذيع الأول بعد أم كلثوم وعبد الوهاب. وعبد الوهاب نفسه يخاف كثيرا أن تخونه حنجرته فتراه يتحامى النفس الطويل، ويشطره أجزاء قصيرة متواريا وراء ما يسميه بالتجديد، ثم يغطي ضعفه بضجيج الآلات. إليك كيف غنى «يا ليل» في الحفلة الأخيرة.
وتنحنح ثم راح يغني يا ليل مقلدا عبد الوهاب. وجاء النادل بالنارجيلة والقهوة وهو يغني فتناول الخرطوم دون أن يمسك عن الغناء حتى انتهى، وحينذاك هتف رفاق حسن «الله .. الله»، فأخذ نفسا من النارجيلة دون أن يلتفت إليهم، ثم قال لحسن همسا: هذا إعجاب بالصوت لا بالفن. اسمع هذه الليالي في نفس واحد كما كان ينبغي أن تغنى.
وأنشد بصوت ملأ القهوة الصغيرة حتى رفع صاحب القهوة رأسه عن صندوق الماركات، وأسارير وجهه تراوح بين الابتسام والاعتراض. وانتهى الأستاذ علي صبري، وعاد إلى النارجيلة وفي نيته أن يشكر في هذه المرة للرفاق استحسانهم إذا أبدوه، ولكن ساد الصمت فلم يسمع إلا قرقرة الماء في قنينة النارجيلة، وقطب الأستاذ وقال في ثقة: هذه أصول الفن.
Página desconocida
فقال حسن بحماس: لا شك في هذا.
فقال بلهجة الناصح: مرن صوتك، لا تكف عن التمرين. أكثر من الليالي. ولا تن عن مص السكر النبات. - يا سلام! - مفيد جدا، ويا حبذا لو استيقظت حين الفجر وأذنت للصلاة؛ فهو خير مران للحنجرة، وهو ما كان يفعله سلامة حجازي.
فضحك حسن وقال: ولكني أنام عادة قبيل الفجر. - إذن قبل النوم. - في مسجد؟! - المهم الأذان نفسه في هذه الساعة المبكرة. في مسجد، في حانة، كيفما اتفق! - وإذا كان الإنسان من غير مؤاخذة سكران أو مسطولا؟ - يكون أفضل. فما تستطيعه وأنت غائب عن وعيك تستطيع أضعافه وأنت صاح. - ينبغي أن نتقابل كثيرا حتى يفتح الله علينا.
ثم التفت صوب الرفاق الثلاثة وسألهم: ماذا كنتم تفعلون؟ - كنا نلعب الكومي.
فقال الأستاذ علي صبري باهتمام: هلم نجرب حظنا.
ونهض الرفاق وأقبلوا نحوهما بلا تردد، ثم تحلقوا المائدة والطمع يلعب بقلوبهم جميعا، بيد أن حسن كان قلقا مشفقا من مغبة هذا اللعب. «ما عسى أن أصنع مع ابن القديمة هذا؟ إذا كسبت أغضبته، وإذا خسرت ضاع اليوم هدرا؟!»
12 - لا أدفع مليما واحدا أكثر من الثلاثة الجنيهات.
قالها تاجر الأثاث وهو يلقي نظرة على فراش المرحوم. ولم تعد تجدي مساومة الأم. وكانت قد أجمعت على بيع الفراش ولوازمه لما يثيره وجوده من الأحزان، ولأنها باتت في مسيس الحاجة إلى نقود، وكانت ترجو له ثمنا أكثر من هذا لعله يسد بعض عوزها الملح إلى النقود، ولكنها لم تجد بدا من الإذعان، فقالت للتاجر: غلبتنا سامحك الله، ولكنني مضطرة للقبول.
ودفع الرجل إليها بالجنيهات الثلاثة، وهو يشهد الله أنه المغلوب، ثم أمر تابعين بحمل الفراش.
واجتمعت الأسرة في الصالة تلقي نظرة الوداع على فراش فقيدها المحبوب. وتمثل الراحل لهم فكأنهم يرونه رؤية العين، وغلب الحزن نفيسة فأجهشت في البكاء، وأطبقت الأم شفتيها كاتمة آلامها. كانت تحرم على نفسها البكاء أمام أبنائها؛ أن تعاودهم حدة الحزن، لم يكن لهم من أحد يعتمد عليه سواها، فوجب أن تظهر بمظهر الرجولة. ولو وجد هذا الشخص للاذت بالدموع كسائر النساء، ولكن لم يكن لها محيد عن التصبر والتجلد. وفضلا عن هذا كله فلم تواتها فرصة للتنفيس عن حزنها بما جبهها من هموم العيش وأثقاله، ووجدت نفسها في الغالب مضطرة إلى تناسي أحزان القلب لتناضل ما يتهدد أسرتها من الضراء. «يحز في نفسي ألا أجد فراغا للحزن عليك يا سيدي وفقيدي. ولكن ما الحيلة؟ حتى الحزن نفسه محرم على أمثالنا من الفقراء.» ولم يكن حسنين يتصور أن يفرطوا في مخلفات أبيه، ولكنه لم يفكر في الاعتراض. والواقع أن حال الأسرة لم تعد تخفى على أحد. ومضى التاجر بالفراش وأغلق الباب فساد الوجوم حينا، وأرادت الأم أن تبدد سحابة الحزن التي أظلتهم فقالت مخاطبة حسين وحسنين: هيا إلى حجرتكما للمذاكرة.
Página desconocida