فحملتها الأم السلام والشكر، وذهبت الخادم من حيث أتت، واقترب حسن من السلة وحسر عنها الغطاء، فبدت الفطائر بألوانها الوردية، وطار عرفها الشهي إلى الأنوف، ولم يكن تهيأ للأسرة طوال الأسبوعين المنصرمين طعام شهي؛ لما أخذت به الأم نفسها من الحذر والتقتير. ولاحت الرغبة في أعين الأخوة، ولكن الأم كانت تتجهم لها الخواطر، والحقيقة أن تلك الأيام لم تكن تضمر لها خيرا، وحتى خيرها لم يخل من نكد، وبدا التفكير في تجاعيد وجهها وهي تقول: هدية مشكورة، ولكن الواجب أن نهدي ما يماثلها عقب العودة من القرافة، فما العمل؟!
وجد الإخوة خيبة، وأراد حسين أن يخفف عن أمه فقال: فلنعد الهدية إلى أصحابها شاكرين!
فقالت الأم في حيرة: يعد مثل هذا العمل معيبا، لا أثر للمودة فيه.
فقال حسن متحمسا لقول أمه: بل يعد سلوكا عدائيا.
وتناول فطيرة، وشمها ثم قال باستهانة: لا تحملوا هما. إنما ترد هذه الهدايا في أوقاتها، فإذا مات فريد أفندي بعد عمر طويل أهدينا إلى أسرته سلة فطائر، ولن يعجزنا صنعه وقتئذ بإذن الله.
وراح يلتهم الفطيرة. وتبادل الشقيقان نظرة ثم مدا يديهما إلى السلة، حتى نفيسة سمعت تمطقهم فلم تعد تقاوم.
13
جلست نفيسة على الكنبة في الحجرة التي تنام فيها مع أمها، مكبة على ماكينة الخياطة، وقد نثرت على أرض الحجرة قصاصات من الأقمشة. كانت الأم في المطبخ، والشقيقان في المدرسة، أما حسن فحيث لا يدري أحد. وقد باتت الفتاة تضمر لشقيقها الأكبر مر اللوم، فلو أنه وجد لنفسه عملا لما وجدت نفسها في الوضع التي هي فيه. لا يؤمن أحد بأنه جاد - كما يقول - في البحث عن عمل، ولكنه يغيب النهار ونصف الليل، ثم يعود كما خرج صفر اليدين، ولم تعد الأيام تطالعهم إلا بما يسوء؛ فاليوم اضطرت الأم إلى الاستغناء عن الخادم الصغيرة لتوفر أجرتها فأصبح عليها هي واجبان يوميا؛ أن تبتاع حوائج البيت من الطريق لتسد الفراغ الذي تركته الخادم، وأن تعكف سحابة يومها بعد ذلك على ماكينة الخياطة. وقد مهدت لها الأم سبيل العمل بنفسها منذ يومين، فقالت لصاحبة البيت التي جاءت بقطعة من القماش لتفصيلها: هل عندك مانع من مكافأة نفيسة على عملها؟
فقالت المرأة بلا تردد: أبدا يا ست أم حسن. هذا حق وعدل. وهيهات أن نوفي ما علينا من دين لست نفيسة.
ما زال سمعها يرجع هاتين الجملتين. وما تذكر أنها وجدت نفسها في مثل هذا الموقف طوال عمرها. لقد تصاعد الدم إلى وجهها الشاحب فكاد ينضح به، وشعرت بأنها تهوي من عل، وأنها أمست فتاة أخرى. ليس بين الكرامة والضعة إلا كلمة. كانت فتاة محترمة فانقلبت خياطة. وأعجب شيء أنه لم يستجد جديد بالنسبة إلى العمل نفسه، فطالما خاطت ثياب صاحبة البيت، وامرأة فريد أفندي وابنتها وغيرهن من الجيران. فالخياطة هوايتها، ولها فيها من البراعة ما يجعلها قبلة الجيران والصديقات، لشد ما تغير شعورها. أحست بالخزي والهوان والضعة، وتضاعف حزنها على أبيها، فبكته بكاء حارا، وبكت نفسها فيه. مات الفقيد المحبوب فمات بموته أعز ما فيها.
Página desconocida