ثم غادروا الشقة، كانوا من ذوي الجلاليب، تلفت سحنتهم النظر بغرابتها، ولا يكاد يخلو وجه أحدهم من تشويه، وداخل حسنين شعور بالقلق؛ من يكون هؤلاء الرجال؟ .. أفراد التخت؟ .. ما أبعد هذا عن التصور! لقد ذكره منظرهم برجال العصابات كما يظهرون على الشاشة، وطرأت عليه فكرة مرعبة بأن شقة أخيه تناصب القانون العداء! وألقى على حسن نظرة متوجسة، فرآه يرتدي جلبابا مقلما فضفاضا، ويبدو في صحة وقوة، ولكن يلوح فوق حاجبه الأيسر وفي صفحة عنقه اليسرى ندبان كبيران كأنهما أثرا طعنتين شديدتين، رباه! إن أخاه لا يخلو من تشويه إجرامي أيضا! ولعله الآن يستطيع أن يدرك حقيقة الأسباب التي حجبته عن عالمهم، وأومأ حسن إلى الحجرة في نهاية الدهليز وقال للمرأة: رتبي الحجرة واجمعي الأشياء.
وشبك ذراعه بذراع حسنين واتجه إلى حجرة النوم، ثم أغلق الباب وراءهما، وأجلسه إلى جانبه على الكنبة وهو يقول: كيف حالكم؟ .. كيف الوالدة؟ .. ونفيسة؟ .. وما أخبار حسين؟
وحدثه عن الأسرة بعقل شارد، وروى له ما يعلم من أخبار حسين، ثم قال بلهجة تنم عن العتاب: انقطعت عنا كأنك لست منا ولسنا منك، وباتت أمنا في حزن شديد.
وهز حسن رأسه في كآبة وقال: إني غارق في حياتي حتى قمة رأسي، ولكن توظيف حسين طمأنني عليكم.
وتساءل حسنين متأثرا بما طرأ على أخيه من تغير في مظهره، ترى هل أبقى على حبه القديم لهم؟ وانساق بغريزته إلى التودد إليه قبل أن يتطرق إلى مهمته وتساءل في قلق: ما هذا يا أخي؟!
فقال حسن ضاحكا: مخلفات معارك، لم تكن حياتي لتخلو من عراك، وقد أصبح العراك من أهم واجباتي في الحياة الجديدة.
وود لو يسأله عن هذه الحياة الجديدة، ولكنه تحامى ذلك بغريزته أيضا، لقد قصد هذا البيت المحرم في سبيل الحياة، وحسن يتخذ من العراك واجبا في سبيل الحياة أيضا، فما أفظع ما تسيمنا الحياة من خسف! «من كان يحلم بهذا المصير ونحن صغار نلعب! كان حسن طفلا حاذقا شاطرا، وكان أبي يحبه أكثر من أي شيء في الوجود، ثم بدا وكأنه انقلب له عدوا، ولكن لم يكن يتصور أحد أن ينتهي به المطاف إلى هذا البيت! لا شك أن حسين أدرك الحقيقة في زيارته لهذا البيت في سبتمبر الماضي، ولكن ترى هل تعلم أمي بكل شيء؟!» لم تواته شجاعة على السؤال الصريح، ولكنه تساءل في مكر: ما العلاقة بين الغناء والعراك؟
فقهقه حسن ضاحكا ثم قال: هما شيء واحد في عرف الكثيرين.
وهنا جاءهما صوت المرأة من خارج وهي تقول: إني ذاهبة، هل تريد شيئا؟
فقال لها باقتضاب: مع السلامة.
Página desconocida