وبدت أمينة كالعذراء المتعثرة في حيائها، بيد أن الحياء لم يكن كل ما تعانيه، ساءلت نفسها في حيرة وانزعاج عما يعنيه حديث العالمة عن حرم «السيد أحمد عبد الجواد» وعن إطرائها ذوق السيد بلهجة لا يدعيها لنفسه إلا الخبير به، وشاركتها شعورها عائشة وخديجة التي رددت عينيها بين العالمة وبين بعض الفتيات من صديقاتها كأنما تسائلهن عن رأيهن في «هذه المرأة السكيرة»، ولكن جليلة لم تأبه لما أثاره كلامها من انزعاج، فحولت عينيها إلى العروس وتفحصتها كما تفحصت أمها من قبل، ثم أرعشت حاجبيها وهي تقول بإعجاب: قمر ورسول الله، أنت بنت أبيك حقا، ومن ير هاتين العينين يذكر من توه عينيه ... (ثم مقهقهة) أراكن تتساءلن من أين لهذه المرأة معرفة السيدة أحمد؟! ... إني أعرفه من قبل أن تعرفه زوجه نفسها، إنه ربيب حينا وقرين صباي، وكان والدانا صديقين، أم تحسبين العالمة لا أب لها؟ ... كان أبي شيخ كتاب من أهل البركة ... ما رأيك يا زينة الستات؟!
وجهت السؤال الأخير إلى أمينة، فدفعها الخوف وما طبعت عليه من لين وتودد إلى أن تجيبها - وهي تقاوم ما ركبها من ارتباك - قائلة: رحمه الله، كلنا أبناء حواء وآدم.
فجعلت جليلة تحرك رأسها يمنة ويسرة، وهي تضيق عينيها كأنما بلغ تأثرها بالذكرى وموعظتها نهايته، أو لعل رأسها السكران وجد في هذه الحركة رياضة التذ بها، ثم استطردت قائلة: وكان رجلا غيورا، ولكني نشأت بفطرتي لعوبا لا أبالي كأنما رضعت الغنج في المهد، كنت أضحك الضحكة في الدور الأعلى، فتضطرب لها جوانح الرجال في الشارع، فما يبلغه صوتي حتى ينهال علي ضربا ويرميني بشر الصفات، ولكن ما حيلة التأديب فيمن قدرت عليها فنون العشق والطرب والدلال؟! ... ضاع التأديب هباء، ومضى الرجل إلى الجنة ونعيمها، وقضي علي بأن أتخذ مما رماني به من شر الصفات شعارا لي في الحياة ... هي الدنيا ... ربنا يطعمكن خيرها ويكفيكن شرها ... ولا حرمنا الله جميعا من الرجال سواء في الحلال أو في الحرام.
وعزف الضحك في جنبات الحجرة، حتى غطى على تأوهات الدهش التي ندت هنا وهناك، ولعل ما استثاره قبل أي شيء آخر هو وجه التناقض بين الدعاء الإباحي الأخير وبين ما سبقه من عبارات توحي - في ظاهرها على الأقل - بالجد والتأسي، أو بين ما تقنعت به المرأة من ستار الجد والرزانة، وما جهرت به أخيرا من مزاح مكشوف، حتى أمينة نفسها - وعلى رغم ارتباكها - ما تمالكت أن ابتسمت وإن نكست وجهها لتواري ابتسامتها، على أن النساء كن يستجبن - في مثل هذا المجلس - لدعابات مهرجات العوالم، ويرحبن بمزاحهن وإن خدش الحياء أحيانا كأنما ينفسن به على طول تزمتهن، وواصلت العالمة السكرانة حديثها قائلة: وكان، جعل الله الجنة مثواه، سليم الطوية، وآي ذلك أنه جاءني يوما برجل طيب مثله، وأراد أن يزوجني منه (وكركرت ضاحكة) ... أي زواج يا عمر؟! وماذا بقي للزوج بعد ما كان مما كان! ... وقلت لنفسي: انفضحت يا جليلة وواقعتك كحل ...
وأمسكت مليا لتستزيد من التشويق، أو لتتمتع أكثر بصمت الانتباه المركز فيها الذي لا تحظى بمثله حين الغناء نفسه، ثم عادت تقول: ولكن الله سلم فأدركتني النجاة قبل الفضيحة المتوقعة بأيام؛ إذ هربت مع المرحوم حسونة البغل تاجر المنزول، وكان للمرحوم أخ عواد عند العالمة نيزك فعلمني العود، ثم طاب له صوتي فعلمني الغناء، وأخذ بيدي حتى ضمني إلى تخت نيزك التي حللت محلها بعد وفاتها، ومارست الغناء دهرا عرفت فيه من العشاق مائة و... (وقطبت وهي تتذكر بقية العدد ثم التفتت إلى الدفافة، وسألتها): وكم يا فينو؟
فبادرتها الدفافة قائلة: وخمسة في عين من لا يصلي على النبي.
وتعالى الضحك مرة أخرى، فجعلت بعض المشغوفات بالحديث يسكتن الضاحكات ليصفو الجو للعالمة، ولكنها نهضت بغتة واتجهت نحو باب الحجرة غير ملقية بالا إلى اللاتي تساءلن عن وجهتها دون أن يحظين بجواب، ولكن أحدا لم يلح عليها في السؤال لما اشتهرت به عند الناس من أنها صاحبة نزوة إذا نادتها لبت دون مراجعة، وهبطت السلم إلى باب الحريم ثم مرقت منه إلى فناء الدار، ولما جذب ظهورها المفاجئ بعض الأنظار القريبة تلبثت بمكانها لتتيح لنفسها أن ترى من الجميع، فتستمتع بما يحدثه منظرها فيهم من اهتمام طمعت في أن تتحدى به صابرا وهو في ذروة التطريب، وتحققت رغبتها إذ سرت عدوى الالتفات نحوها - كالتثاؤب - من فرد إلى فرد، وتردد اسمها على الألسن، ثم شعر صابر نفسه - رغم انهماكه في الغناء - بالفجوة الفجائية التي فصلت بينه وبين جمهوره، فمد بصره إلى الهدف الذي استشرفته الأعين، حتى استقر على العالمة وهي تنظر إليه من بعيد برأس مائل إلى الوراء من سلطنة السكر والخيلاء، فاضطر إلى الإمساك عن الغناء وأشار إلى تخته فتوقف عن العزف، ثم رفع يديه إلى رأسه تحية لها! ... كان صابر خبيرا بنزوات جليلة - وعلى خلاف الكثيرين - عالما بطيبة قلبها، ومقدرا في الوقت نفسه لخطر معاندتها، فأظهر لها التودد بلا تحفظ، ونجحت حيلته فانطلقت أسارير المرأة بالبشر، وهتفت به: «واصل غناءك يا سي صابر فما جئت إلا لسماعه.» فصفق المدعوون وعادوا إلى صابر مهللين على حين اقترب منها إبراهيم شوكت شقيق العريس الأكبر، وسألها بلطف عن حاجتها فذكرت بسؤاله السبب الحقيقي الذي دعاها إلى المجيء، وسألته بدورها بصوت ترامى إلى الكثيرين ومنهم - وهو الأهم - ياسين وفهمي: ما لي لا أرى السيد أحمد عبد الجواد؟! ... أين يختبئ الرجل؟
فأخذ إبراهيم شوكت بيدها وسار بها إلى المنظرة باسما، على حين تبادل فهمي وياسين نظرة ملئت دهشا واستغرابا، وشيعاهما بعينين متسائلتين حتى واراهما الباب، ولم يكن السيد دون ابنيه دهشا لدى رؤيتها مقبلة نحوه تخطر فحدجها بنظرة انزعاج وتساؤل، بينما تبادل صحبه نظرات باسمة ذات معان، وشملت جليلة الجميع بنظرة عابرة قائلة: مساء الأنس يا رجال.
وركزت عينيها في السيد، فما تمالكت أن أغربت في الضحك وهي تتساءل ساخرة: هل أخافك مجيئي يا سيد أحمد؟!
فأشار السيد إلى الخارج محذرا، وهو يقول لها جادا: اعقلي يا جليلة، ماذا حملك على المجيء إلى هنا تحت أنظار الناس جميعا؟!
Página desconocida