بين القصرين
بين القصرين
بين القصرين
بين القصرين
تأليف
نجيب محفوظ
بين القصرين
1
عند منتصف الليل استيقظت، كما اعتادت أن تستيقظ في هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبه أو غيره، ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها، فتواظب على إيقاظها في دقة وأمانة. وظلت لحظات على شك من استيقاظها، فاختلطت عليها رؤى الأحلام وهمسات الإحساس، حتى بادرها القلق الذي يلم بها قبل أن تفتح جفنيها من خشية أن يكون النوم خانها، فهزت رأسها هزة خفيفة فتحت عينيها على ظلام الحجرة الدامس. لم يكن ثمة علامة تستدل بها على الوقت؛ فالطريق تحت حجرتها لا ينام حتى مطلع الفجر، والأصوات المتقطعة التي تترامى إليها أول الليل من سمار المقاهي وأصحاب الحوانيت هي التي تترامى عند منتصفه وإلى ما قبيل الفجر، فلا دليل تطمئن إليه إلا إحساسها الباطن - كأنه عقرب ساعة واع - وما يشمل البيت من صمت ينم عن أن بعلها لم يطرق بابه بعد، ولم تضرب طرف عصاه على درجات سلمه.
هي العادة التي توقظها في هذه الساعة، عادة قديمة صاحبت شبابها منذ مطلعه ولا تزال تستأثر بكهولتها، تلقنتها فيما تلقنت من آداب الحياة الزوجية، أن تستيقظ في منتصف الليل لتنتظر بعلها حين عودته من سهرته، فتقوم على خدمته حتى ينام. وجلست في الفراش بلا تردد لتتغلب على إغراء النوم الدافئ وبسملت، ثم انزلقت من تحت الغطاء إلى أرض الحجرة، ومضت تتلمس الطريق على هدي عمود السرير وضلفة الشباك، حتى بلغت الباب ففتحته، فانساب إلى الداخل شعاع خافت ينبعث من مصباح قائم على الكونصول في الصالة، فدلفت منه وحملته وعادت به إلى الحجرة وهو يعكس على السقف من فوهة زجاجته دائرة مهتزة من الضوء الشاحب تحف به حاشية من الظلال، ثم وضعته على خوان قائم بإزاء الكنبة. وأضاء المصباح الحجرة، فبدت برقعتها المربعة الواسعة، وجدرانها العالية، وسقفها بعمده الأفقية المتوازية، إلا أنها لاحت كريمة الأثاث ببساطها الشيرازي، وفراشها الكبير ذي العمد النحاسية الأربعة والصوان الضخم والكنبة الطويلة المغطاة بسجاد صغير المقطع مختلف النقوش والألوان. واتجهت المرأة إلى المرآة وألقت على صورتها نظرة، فرأت منديل رأسها البني منكمشا متراجعا، وقد تشعثت خصلات من شعرها الكستنائي فوق الجبين، فمدت أصابعها إلى عقدته، فحلتها وسوته على شعرها، وعقدت طرفيه في أناة وعناية، ومسحت براحتيها على صفحتي وجهها كأنما لتزيل عنه ما علق به من آثار النوم. كانت في الأربعين متوسطة القامة، تبدو كالنحيفة، ولكن جسمها بض ممتلئ في حدوده الضيقة لطيف التنسيق والتبويب. أما وجهها فمائل إلى الطول مرتفع الجبين دقيق القسمات، ذو عينين صغيرتين جميلتين تلوح فيهما نظرة عسلية حالمة، وأنف صغير دقيق يتسع قليلا عند فتحتيه، وفم رقيق الشفتين ينحدر تحتهما ذقن مدبب، وبشرة قمحية صافية تلوح عند موضع الوجنة منها شامة سوادها عميق نقي. وقد بدت وهي تتلفع بخمارها كالمتعجلة، واتجهت صوب باب المشربية، ففتحته ودخلت، ثم وقفت في قفصها المغلق تردد وجهها يمنة ويسرة ملقية نظراتها من الثقوب المستديرة الدقيقة التي تملأ أضلافها المغلقة إلى الطريق.
كانت المشربية تقع أمام سبيل بين القصرين، ويلتقي تحتها شارعا النحاسين الذي ينحدر إلى الجنوب، وبين القصرين الذي يصعد إلى الشمال، فبدا الطريق إلى يسارها ضيقا ملتويا متلفعا بظلمة تكثف في أعاليه، حيث تطل نوافذ البيوت النائمة، وتخف في أسافله بما يلقى إليه من أضواء مصابيح عربات اليد وكلوبات المقاهي، وبعض الحوانيت التي تواصل السهر حتى مطلع الفجر، وإلى يمينها التف الطريق بالظلام، حيث يخلو من المقاهي، وحيث توجد المتاجر الكبيرة التي تغلق أبوابها مبكرا، فلا يلفت النظر به إلا مآذن قلاوون وبرقوق لاحت كأطياف من المردة ساهرة تحت ضوء النجوم الزاهرة. منظر ألفته منها العينان ربع قرن من الزمان ولكنها لم تسأمه، ولعلها لم تدر ما السأم طوال حياتها على رتابتها، وعلى العكس وجدت فيه أنيسا لوحشتها، وأليفا لوحدتها عهدا طويلا عاشته، وكأنه لا أنيس ولا أليف لها. كان ذلك قبل أن يأتي الأبناء إلى هذا الوجود، فلم يكن يحوي هذا البيت الكبير - بفنائه الترب وبئره العميقة وطابقيه وحجراته الواسعة العالية الأسقف - سواها، أكثر النهار والليل. وكانت حين زواجها فتاة صغيرة دون الرابعة عشرة من عمرها، فسرعان ما وجدت نفسها، عقب وفاة حماتها وسيدها الكبير، ربة للبيت الكبير، تعاونها على أمره امرأة عجوز تغادرها عند جثوم الليل؛ لتنام في حجرة الفرن بالفناء، تاركة إياها وحيدة في دنيا الليل الحافلة بالأرواح والأشباح، تغفو ساعة، وتأرق أخرى، حتى يعود الزوج العتيد من سهرة طويلة.
ولكي يطمئن قلبها اعتادت أن تطوف بالحجرات مصطحبة خادمتها مادة يدها بالمصباح أمامها، فتلقي في أركانها نظرات متفحصة خائفة، ثم تغلقها بإحكام، واحدة بعد أخرى، مبتدئة بالطابق الأول مثنية بالطابق الأعلى، وهي تتلو ما تحفظ من سور القرآن دفعا للشياطين، ثم تنتهي إلى حجرتها، فتغلق بابها، وتندس في الفراش، ولسانها لا يمسك عن التلاوة، حتى يغلبها النوم، ولشد ما كانت تخاف الليل في عهدها الأول بهذا البيت، فلم يغب عنها - هي التي عرفت عن عالم الجن أضعاف ما تعرفه عن عالم الإنس - أنها لا تعيش وحدها في البيت الكبير، وأن الشياطين لا يمكن أن تضل طويلا عن هذه الحجرات القديمة الواسعة الخالية، ولعلها آوت إليها قبل أن تحمل هي إلى البيت، بل قبل أن ترى نور الدنيا، فكم دب إلى أذنيها همساتهم! وكم استيقظت على لفحات من أنفاسهم، وما من مغيث إلا أن تتلو الفاتحة والصمدية، أو أن تهرع إلى المشربية، فتمد بصرها الزائغ من ثقوبها إلى أنوار العربات والمقاهي، وترهف السمع لالتقاط ضحكة أو سعلة تسترد بها أنفاسها.
ثم جاء الأبناء تباعا، ولكنهم كانوا أول عهدهم بالدنيا لحما طريا، لا يبدد خوفا ولا يطمئن جانبا، وعلى العكس ضاعف من خوفها بما أثار في نفسها المتهافتة من إشفاق عليهم وجزع أن يمسهم سوء، فكانت تحويهم بذراعيها وتغمرهم بأنفاس العطف، وتحيطهم في اليقظة والمنام بدرع من السور والأحجبة والرقى والتعاويذ، أما الطمأنينة الحقة، فلم تكن لتذوقها حتى يعود الغائب من سهرته. ولم يكن غريبا وهي منفردة بطفلها تنومه وتلاطفه، أن تضمه إلى صدرها فجأة، ثم تتنصت في وجل وانزعاج، ثم يعلو صوتها هاتفة، وكأنها تخاطب شخصا حاضرا: «أبعد عنا، ليس هذا مقامك، نحن قوم مسلمون موحدون.» ثم تتلو الصمدية في عجلة ولهوجة. وعندما طالت بها معاشرة الأرواح بتقدم الزمن تخففت من مخاوفها كثيرا، واطمأنت لدرجة إلى دعاباتهم التي لم تجر عليها سوءا قط، فكانت إذا ترامى إليها حس طائف منهم قالت في نبرات لا تخلو من دالة: «ألا تحترم عباد الرحمن! الله بيننا وبينك، فاذهب عنا مكرما.» ولكنها لم تكن تعرف الطمأنينة الحقة حتى يعود الغائب. أجل كان مجرد وجوده بالبيت - صاحيا أو نائما - كفيلا ببث السلام في نفسها، فتحت الأبواب أم أغلقت، اشتعل المصباح أم خمد. وقد خطر لها مرة، في العام الأول من معاشرته، أن تعلن نوعا من الاعتراض المؤدب على سهره المتواصل، فما كان منه إلا أن أمسك بأذنيها وقال لها بصوته الجهوري في لهجة حازمة: «أنا رجل، الآمر الناهي، لا أقبل على سلوكي أية ملاحظة، وما عليك إلا الطاعة، فحاذري أن تدفعيني إلى تأديبك.» فتعلمت من هذا الدرس وغيره مما لحق به أنها تطيق كل شيء - حتى معاشرة العفاريت - إلا أن يحمر لها عين الغضب، فعليها الطاعة بلا قيد ولا شرط، وقد أطاعت وتفانت في الطاعة، حتى كرهت أن تلومه على سهره ولو في سرها، ووقر في نفسها أن الرجولة الحقة والاستبداد والسهر إلى ما بعد منتصف الليل صفات متلازمة لجوهر واحد، ثم انقلبت مع الأيام تباهي بما يصدر عنه سواء ما يسرها أو يحزنها، وظلت على جميع الأحوال الزوجة المحبة المطيعة المستسلمة. ولم تأسف يوما على ما ارتضت لنفسها من السلامة والتسليم، وإنها لتستعيد ذكريات حياتها في أي وقت تشاء، فلا يطالعها إلا الخير والغبطة، على حين تلوح لها المخاوف والأحزان كالأشباح الخاوية، فلا تستحق إلا ابتسامة رثاء. ألم تعاشر هذا الزوج بعلاته ربع قرن من الزمان، فجنت من معاشرته أبناء هم قرة عينيها وبيتا مترعا بالخير والبركة وحياة ناضجة سعيدة ... بلى، أما مخالطة العفاريت، فقد مرت كما تمر كل ليلة بسلام، وما امتدت يد أحدهم إليها أو إلى أحد من أبنائها بسوء، اللهم إلا ما هو بالمزاح والمداعبات أشبه، فلا وجه للشكوى، ولكن الحمد كل الحمد لله الذي بكلامه اطمأن قلبها، وبرحمته استقامت حياتها.
حتى ساعة الانتظار هذه، على ما تقطع عليها من لذيذ المنام وما تستأديها من خدمة كانت خليقة بأن تنتهي بزوال النهار، أحبتها من أعماق قلبها، ففضلا عن أنها استحالت جزءا لا يتجزأ من حياتها، ومازجت الوفير من ذكرياتها، فإنها كانت ولم تزل الرمز الحي لحدبها على بعلها وتفانيها في إسعاده، وإشعاره ليلة بعد أخرى بهذا التفاني وذاك الحدب. لهذا امتلأت ارتياحا وهي واقفة في المشربية، وراحت تنقل بصرها خلال ثقوبها مرة إلى سبيل بين القصرين، ومرة إلى منعطف الخرنفش، وأخرى إلى بوابة حمام السلطان، ورابعة إلى المآذن، أو تسرحه بين البيوت المتكأكئة على جانبي الطريق في غير تناسق كأنها طابور من الجند في وقفة راحة تخفف فيها من قسوة النظام. وابتسمت للمنظر الذي تحبه، هذا الطريق الذي تنام الطرق والحواري والأزقة، ويبقى ساهرا حتى مطلع الفجر، فكم سلى أرقها وآنس وحشتها، وبدد مخاوفها لا يغير الليل منه، إلا أن يغشى ما يحيط به من أحياء بالصمت العميق فيهيئ لأصواته جوا تعلو فيه، وتوضح كأنه الظلال التي تملأ أركان اللوحة، فتضفي على الصورة عمقا وجلاء؛ لهذا ترن الضحكة فيه فكأنها تنطلق في حجرتها، ويسمع الكلام العادي فتميزه كلمة كلمة، ويمتد السعال ويخشوشن، فيترامى لها منه حتى خاتمته التي تشبه الأنين، ويرتفع صوت النادل وهو ينادي: «تعميرة نادية» كهتاف المؤذن، فتقول لنفسها في سرور: «لله هؤلاء الناس .. حتى هذه الساعة يطلبون مزيدا من التعميرة.» ثم تذكر بهم زوجها الغائب فتقول: «ترى أين يكون سيدي الآن؟ .. وماذا يفعل؟ .. فلتصحبه السلامة في الحل والترحال.» أجل قيل لها مرة إن رجلا كالسيد أحمد عبد الجواد في يساره وقوته وجماله - مع سهره المتواصل - لا يمكن أن تخلو حياته من نساء، يومها تسممت بالغيرة وركبها حزن شديد، ولما لم تواتها شجاعتها على مشافهته بما قيل أفضت بحزنها إلى أمها، فجعلت الأم تسكن خاطرها بما وسعها من حلو الكلام، ثم قالت لها: «لقد تزوجك بعد أن طلق زوجته الأولى، وكان بوسعه أن يستردها لو شاء، أو أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وقد كان أبوه مزواجا، فاحمدي ربنا على أنه أبقاك زوجة وحيدة.» ولو أن حديث أمها لم يجد مع حزنها وقت اشتداده، إلا أنها مع الأيام سلمت بما فيه من حق ووجاهة، فليكن ما قيل حقا، فلعله من صفات الرجولة كالسهر والاستبداد، وشر على أي حال خير من شرور كثيرة، وليس من الهين أن تسمح لوسواس بأن يفسد عليها حياتها الطيبة المليئة بالهناء والرغد، ثم لعل ما قيل بعد هذا كله أن يكون وهما أو كذبا. ووجدت أن موقفها من الغيرة، شأنها حيال المتاعب التي تعترض سبيل حياتها، لا يعدو التسليم بها كقضاء نافذ لا تملك حياله شيئا، فلم تهتد إلى وسيلة في مقاومتها إلا أن تنادي الصبر، وتستعدي مناعتها الشخصية، ملاذها الأوحد في مغالبة ما تكره، فانقلبت الغيرة وأسبابها، كطباع زوجها الأخرى، وكمعاشرة العفاريت، مما تحتمل.
جعلت تنظر إلى الطريق، وتنصت إلى السمار حتى ترامى إليها وقع سنابك جواد، فعطفت رأسها صوب النحاسين، فرأت «حنطورا» يقترب وئيدا، ومصباحاه يسطعان في الظلام، فتنهدت في ارتياح وغمغمت: «أخيرا ...» ها هو «حنطور» أحد أصدقائه يوصله بعد السهرة إلى باب البيت الكبير، ثم يمضي كالعادة إلى الخرنفش، حاملا صاحبه ونفرا من الأصدقاء الذين يقطنون هذا الحي. ووقف «الحنطور» أمام البيت، وارتفع صوت زوجها، وهو يقول في نبرات ضاحكة: أستودعكم الله ...
وكانت تنصت إلى صوت زوجها وهو يودع أصحابه بشغف ودهشة، ولولا أنها تسمعه كل ليلة في مثل هذه الساعة لأنكرته، فما عهدت منه - هي وأبناؤها - إلا الحزم والوقار والتزمت، فمن أين له بهذه النبرات الطروبة الضحوكة، التي تسيل بشاشة ورقة! وكأن صاحب «الحنطور» أراد أن يمازحه فقال له: أما سمعت ماذا قال الجواد لنفسه بعد نزولك من العربة؟ قال إنه من المؤسف أن أوصل هذا الرجل كل ليلة إلى بيته، وهو لا يستحق أن يركب إلا حمارا.
وانفجر الرجال بالعربة ضاحكين، فانتظر السيد حتى عادوا إلى السكون، ثم قال يجيبه: أما سمعت بماذا أجابته نفسه؟ قالت إذا لم توصله أنت، فسيركب البك صاحبنا.
وضج الرجال ضاحكين مرة أخرى، ثم قال صاحب العربة: فلنؤجل الباقي إلى سهرة الغد.
وتحركت العربة إلى شارع بين القصرين، واتجه السيد نحو الباب، فغادرت المرأة المشربية إلى الحجرة، وتناولت المصباح ومضت إلى الصالة، ومنها إلى الدهليز الخارجي حتى وقفت في رأس السلم. وترامت إليها صفقة الباب الخارجي وهو يغلق، وانزلاق المزلاج، وتخيلته وهو يقطع الفناء بقامته المديدة مستردا هيبته ووقاره، خالعا مزاحه الذي لولا استراق السمع لظنته من مستحيل المستحيلات، ثم سمعت وقع طرف عصاه على درجات السلم، فمدت يدها بالمصباح من فوق الدرابزين لتنير له سبيله.
2
وانتهى الرجل إلى موقفها فراحت تقدمه رافعة المصباح، فتبعها وهو يتمتم: مساء الخير يا أمينة.
فقالت بصوت خفيض ينم عن الأدب والخضوع: مساء الخير يا سيدي.
وفي ثوان احتوتهما الحجرة، فاتجهت أمينة إلى الخوان لتضع المصباح عليه، في حين علق السيد عصاه بحافة شباك السرير، وخلع الطربوش ووضعه على الوسادة التي تتوسط الكنبة، ثم اقتربت المرأة منه لتنزع عنه ملابسه، وبدا في وقفته طويل القامة، عريض المنكبين، ضخم الجسم، ذا كرش كبيرة مكتنزة اشتملت عليها جميعا جبة وقفطان في أناقة وبحبحة، دلتا على رفاهية ذوق وسخاء، ولم يكن شعره الأسود المنبسط من مفرقه على صفحتي رأسه في عناية بالغة، وخاتمه ذو الفص الماسي الكبير، وساعته الذهبية، إلا لتؤكد رفاهة ذوقه وسخاءه. أما وجهه فمستطيل الهيئة مكتنز الأديم، قوي التعبير، واضح الملامح، يدل في جملته على بروز الشخصية والجمال بعينيه الزرقاوين الواسعتين، وأنفه الكبير الأشم المتناسق على كبره مع بسطة الوجه، وفمه الواسع بشفتيه الممتلئتين، وشاربه الفاحم الغليظ المفتول طرفاه بدقة لا مزيد عليها. ولما تدانت المرأة منه بسط ذراعيه، فخلعت الجبة عنه وأطبقتها بعناية، ثم وضعتها على الكنبة، وعادت إليه ففكت حزام القفطان ونزعته، وجعلت تدرجه بالعناية نفسها لتضعه فوق الجبة، على حين تناول السيد جلبابه فارتداه، ثم طاقيته البيضاء فلبسها، وتمطى وهو يتثاءب وجلس على الكنبة، ومد ساقيه مسندا قذاله إلى الحائط. وانتهت المرأة من ترتيب ملابسه، فقعدت عند قدميه الممدودتين، وراحت تخلع حذاءه وجوربيه، ولما كشف قدمه اليمنى بدا أول عيب في هذا الجسم الهائل الجميل في خنصره الذي تآكل من توالي الكشط بالموسى في موضع كاللو مزمن. وغادرت أمينة الحجرة فغابت دقائق، ثم عادت بطست وإبريق، فوضعت الطست عند قدمي الرجل، ووقفت والإبريق في يدها على أهبة الاستعداد، فاستوى السيد في جلسته، ومد لها يديه، فصبت له الماء، فغسل وجهه ومسح على رأسه، وتمضمض طويلا، ثم تناول المنشفة من فوق مسند الكنبة، ومضى يجفف رأسه ووجهه ويديه، بينما حملت المرأة الطست، وذهبت به إلى الحمام. كانت هذه الخدمة آخر ما تؤدي من خدمات في البيت الكبير، وقد واظبت عليها ربع قرن من الزمان بهمة لا يعتريها الكلال، بل في سرور وانشراح، وبنفس الحماس الذي يستفزها إلى النهوض بواجبات البيت الأخرى من قبيل مطلع الشمس حتى مغيبها، فاستحقت من أجله أن يطلق عليها جاراتها اسم «النحلة» لدأبها ونشاطها المتواصلين.
وعادت إلى الحجرة فأغلقت الباب، وسحبت من تحت السرير شلتة، فوضعتها أمام الكنبة وتربعت عليها؛ إذ لم تكن ترى لنفسها الحق في أن تجلس إلى جانبه تأدبا، ومضى الوقت وهي ملازمة الصمت، حتى يدعوها إلى الكلام فتتكلم. وتراخى ظهر السيد إلى مسند الكنبة، وبدا عقب سهرته الطويلة متعبا، فثقل جفناه اللذان جرى في أطرافهما احمرار طارئ من أثر الشرب، وجعل يزفر أنفاسا ثقيلة مخمورة. ومع أنه كان يعاقر الخمر كل ليلة إلى إفراط في الشرب حتى السكر، إلا أنه لم يكن ليقرر العودة إلى بيته حتى تزايله سورة الخمر، ويستعيد سيطرته على نفسه؛ حرصا منه على وقاره، والمظهر الذي يجب أن يبدو به في بيته. وكانت زوجه الشخص الوحيد من آل بيته الذي يلقاه في أعقاب سهرته، ولكنها لم تلمس من آثار الشرب إلا رائحته، ولم تلاحظ على سلوكه شذوذا مريبا، إلا ما كان يبدو منه أول عهده بزواجها وقد تناسته، وعلى العكس من المنتظر جنت من مصاحبتها له في هذه الساعة إقبالا منه في الحديث، وتبسطا في فنونه قل أن تظفر بمثله في أوقات إفاقته الكاملة. وإنها لتذكر كم ارتعبت يوم أدركت أنه يعود من سهرته ثملا، واستدعت الخمر إلى ذهنها ما يقترن بها من وحشية وجنون ومخالفة الدين وهي الأفظع، فتقززت نفسها وركبها الذعر، وعانت لدى عودته كلما عاد آلاما لا قبل لها بها. وبمضي الأيام والليالي ثبت لها أنه حين عودته من سهرته يكون ألطف منه في جميع الأوقات، فيخفف من صرامته، وترق ملاحظته، ويسترسل في الحديث، فاستأنست إليه واطمأنت وإن لم تنس أن تضرع إلى الله أن يغفر له معصيته ويتوب عليه. وكم تمنت لو يتطبع بنفس اللين النسبي وهو صاح منتبه، وكم عجبت لهذه المعصية التي ترقق حواشيه، وتحيرت طويلا بين ما تجد نحوها من كراهية دينية موروثة وبين ما تجني منها من راحة وسلام، ولكنها دفنت أفكارها في أعماق نفسها، ودارتها مداراة من لا يطيق أن يعترف بها، ولو فيما بينه وبين نفسه. أما السيد فكان أحرص ما يكون على وقاره وحزمه، وما يصدر عنه من لطف فخلسة يصدر، وربما جرت على شفتيه ابتسامة عريضة - في جلسته هذه - لذكرى طافت به من ذكريات سهرته السعيدة، فسرعان ما ينتبه إلى نفسه، ويطبق شفتيه، ويسترق إلى زوجه نظرة، فيجدها كعادتها بين يديه خافضة العينين، فيطمئن ويعود إلى ذكرياته. والحق أن سهرته لم تكن تنتهي بعودته إلى بيته، ولكنها تواصل حياتها في ذكرياته، وفي قلبه الذي يجذبها إليه بقوة نهم إلى مسرات الحياة لا يروى، وكأنه لا يزال يرى مجلس الأنس تزينه النخبة المختارة من أصدقائه وأصفيائه، ويتوسطه بدر من البدور التي تطلع في سماء حياته حينا من بعد حين، وما برحت تطن في أذنيه الدعابات واللطائف والنكات التي تجود قريحته بدررها إذا هزه السكر والطرب، وهذه الملح خاصة يراجعها في عناية واهتمام ينضحان بالعجب والزهو ، ويتذكر أثرها في النفوس وما لاقت من نجاح وابتهاج جعلاه الحبيب الأول لكل نفس، ولا عجب؛ فإنه كثيرا ما يشعر بأن الدور الذي يلعبه في سهرته من الخطورة كأنه أمل الحياة المنشودة، وكأن حياته العملية بجملتها ضرورة يؤديها في سبيل الفوز بساعات مترعة بالشراب والضحك والغناء والعشق يقضيها بين صحبه وخلصائه، وبين هذا وذاك تسجع في باطنه أنغام حلوة لطيفة مما تردد في المجلس السعيد، فذهب معها وجاء وهتف وراءها من أعماق قلبه: «آه ... الله أكبر.» هذا الغناء الذي يحبه كما يحب الشراب والضحك والصحاب والبدور، فلا يطيق أن يخلو منه مجلسه، ولا يأبه للشقة البعيدة يقطعها إلى أطراف القاهرة ليسمع الحامولي أو عثمان أو المنيلاوي حيثما تكون مغانيهم، حتى آوت أنغامهم إلى نفسه السخية كما تأوي البلابل إلى شجرة مورقة، فاكتسب دراية بالنغم والمذاهب وتوج حجة في السمع والطرب، وكان يحب الغناء بروحه وجسمه، أما روحه فتطرب وتغمرها الأريحية، وأما جسمه فتهتاج حواسه وترقص أطرافه خاصة الرأس واليدين؛ ولهذا احتفظت نفسه لبعض المقاطع الغنائية بذكريات روحية وجسدية لا تنسى، مثل: «وليه بقى تلاويعك وهجرك» أو «يا ما بكره نعرف .. وبعده نشوف» أو «اسمع بقى وتعالى لما أقول لك» وكان حسبه أن تهفو إليه نغمة من هذه النغمات معانقة حواشيها من الذكريات كي تهيج موطن السكر من نفسه، فيهز رأسه طربا وترف على شفتيه ابتسامة أشواق، ويفرقع بأصابعه وقد يشدو مترنما إذا كان إلى نفسه خاليا. ومع هذا فلم يكن الغناء هوى منفردا يجذبه لذاته فحسب، ولكنه كان زهرة في طاقة يحلو بها وتحلو به، أهلا به ومرحبا بين الصديق الصافي والحبيب الوفي والشراب المعتق والملحة العذبة، أما أن يصفو له وحده - كما يتلقى في البيوت عن الفونوغراف - فهو جميل حبيب بلا شك، ولكنه غاب عن جوه وبيئته وملابساته، وهيهات أن يقنع به القلب، إنه يتوق إلى أن يفصل بين النغمة والنغمة بنكتة تهتز لها النفوس، وأن يسابق الترديد بالنهل من كأس مترعة، ويرى أثر التطريب في وجه الصديق وعين الحبيب، ثم يتعاونون جميعا على التهليل والتكبير. بيد أن السهرة لم يقتصر أثرها على بعث الذكريات، فمن مزاياها أيضا أنها تهيئه في أعقابها لأسلوب طيب من الحياة هو الذي تتلهف عليه زوجه المطيعة المستسلمة حين تجد نفسها بين يدي رجل حلو المعشر يتبسط معها في الحديث، ويفضي إليها بما في طويته على نحو يشعرها ولو إلى حين بأنها ليست جارية فحسب، ولكنها شريكة حياته أيضا. وهكذا راح يحدثها عن شئون البيت، فأنبأها بأنه أوصى بعض التجار من معارفه على شراء خزين البيت من السمن والقمح والجبن، وجعل يحمل على ارتفاع الأسعار واختفاء المواد الضرورية بسبب هذه الحرب التي تطحن العالم منذ ثلاثة أعوام، وكعادته كلما ذكر الحرب اندفع يلعن الجنود الأستراليين الذين ينتشرون في المدينة كالجراد، ويعيثون في الأرض الفساد. والحق أنه كان يحنق على الأستراليين لسبب خاص به، وهو أنهم بجبروتهم حالوا بينه وبين مجالي اللهو والطرب في الأزبكية، فارتد عنها مغلوبا على أمره - إلا في القليل النادر من مختلس الفرص - لأنه لم يكن يسعه أن يعرض نفسه للجنود الذين يسلبون الناس متاعهم جهارا، ويتسلون بصب ألوان الاعتداء والإهانة عليهم بغير رادع. ثم مضى يسأل عن حال «الأولاد» كما يدعوهم بلا تفرقة بين كبيرهم الكاتب بمدرسة النحاسين، وصغيرهم التلميذ بمدرسة خليل أغا، ثم تساءل بلهجة ذات معنى: وكمال؟! إياك وأن تتستري على شيطنته!
فذكرت المرأة ابنها الصغير الذي تتستر عليه حقا فيما لا خطر له من اللعب البريء، وإن كان السيد لا يعترف ببراءة أي لون من ألوان اللعب واللهو، وقالت بصوتها الخاشع: إنه يلتزم أوامر أبيه.
وصمت السيد قليلا فبدا كالشارد، وعاد يقطف من ذكريات ليلته السعيدة، ثم تراجع مؤشر ذاكرته إلى ما سبق سهرته من أحداث يومه، فذكر فجأة أنه كان يوما حافلا، ولما كان في حال لا يستحب معها كتمان شيء مما يطفو على سطح الوعي؛ فقد قال وكأنه يخاطب نفسه: يا له من رجل كريم الأمير كمال الدين حسين! أما علمت بما فعل؟ .. أبى أن يعتلي عرش أبيه المتوفى في ظل الإنجليز.
ومع أن المرأة علمت بوفاة السلطان حسين كامل أمس، إلا أنها كانت تسمع اسم ابنه لأول مرة، ولم تجد ما تقول ولكنها - مدفوعة بعواطف الإجلال للمتكلم - كانت تخاف ألا تعلق على كل كلمة يقولها بما يرضيه، فقالت: رحم الله السلطان وأكرم ابنه.
فاستطرد السيد قائلا: وقبل العرش الأمير أحمد فؤاد أو السلطان فؤاد كما سيدعى من الآن فصاعدا، وقد تم الاحتفال بتوليته اليوم، فانتقل في موكبه من قصر البستان إلى سراي عابدين .. وسبحان من له الدوام.
وأصغت أمينة إليه باهتمام وسرور، اهتمام يستثيره في نفسها أي نبأ يجيء من العالم الخارجي الذي تكاد لا تعرف عنه شيئا، وسرور يبعثه ما تجد في حديث بعلها معها عن هذه الشئون الخطيرة من لفتة عطف تزدهيها، إلى ما في الحديث نفسه من ثقافة يلذ لها أن تعيدها على مسمع من أبنائها، وخاصة فتاتيها اللتين تجهلان مثلها العالم الخارجي جهلا تاما. ولم تجد لتجزيه عن كريم عطفه خيرا من أن تردد على مسمعيه دعاء تعلم مقدما بمقدار ارتياحه إليه كما ترتاح إليه هي من أعماقها، فقالت: ربنا قادر على أن يعيد إلينا أفندينا عباس.
فهز الرجل رأسه وتمتم قائلا: متى؟ .. متى؟ .. علم هذا عند ربي .. ما نقرأ في الجرائد إلا عن انتصارات الإنجليز، فهل ينتصرون حقا أو ينتصر الألمان والترك في النهاية؟ اللهم استجب.
وأغمض الرجل عينيه إعياء، وتثاءب، ثم تمطى وهو يقول: أخرجي المصباح إلى الصالة.
ونهضت المرأة قائمة وذهبت إلى الخوان، فتناولت المصباح ومضت إلى الباب، وقبل أن تجوز العتبة سمعت السيد وهو يتجشأ فتمتمت: صحة وعافية.
3
وفي هدوء الصباح الباكر، وذيول الفجر لا تزال ناشبة في أسهم الضياء، تعالى صوت العجين من حجرة الفرن بالفناء في ضربات متتابعة كدوي الطبل، وكانت أمينة قد غادرت الفراش قبل هذا بنحو نصف ساعة. فتوضأت وصلت ثم نزلت إلى حجرة الفرن، فأيقظت أم حنفي - امرأة في الأربعين خدمت وهي صبية بالبيت، وفارقته للزواج، ثم عادت إليه بعد طلاق - وبينما نهضت الخادم لتعجن عكفت أمينة على إعداد الفطور. وكان للبيت فناء متسع، في أقصاه إلى اليمين بئر سدت فوهتها بعارض خشبي مذ دبت أقدام الصغار على الأرض، وما تبع هذا من إدخال مواسير المياه، وفي أقصى اليسار على كثب من مدخل الحريم حجرتان كبيرتان أقيمت الفرن في إحداهما، واستعملت بالتالي مطبخا، وأعدت الأخرى مخزنا. وكان لحجرة الفرن على عزلتها علاقة بقلبها لا تهن، فلو حسب الزمن الذي قضته بين جدرانها لكان عمرا، إلى ما تتزين به الحجرة من مباهج المواسم عند حلولها حين تتطلع إليها القلوب الهاشة لأفراح الحياة، وتتحلب الأفواه لألوان الطعام الشهية التي تقدمها موسما بعد موسم كخشاف رمضان وقطائفه، وكعك عيد الفطر وفطائره، وخروف عيد الأضحى الذي يسمن ويدلل، ثم يذبح على مشهد من الأبناء فلا يعدم دمعة رثاء وسط بهجة شاملة، هنالك تبدو عين الفرن المقوسة يلوح في أعماقها وهج النار كجذوة السرور المشتعلة في السرائر، وكأنها زينة العيد وبشائره. وإذا كانت أمينة تشعر بأنها في أعلى البيت سيدة بالنيابة وممثلة لسلطان لا تملك منه شيئا، فهي في هذا المكان ملكة لا شريك لها في ملكها، فهذه الفرن تموت وتحيا بأمرها، وهذا الوقود من فحم وحطب في الركن الأيمن يتوقف مصيره على كلمة منها، والكانون الذي يحتل الركن المقابل تحت رفوف الحلل والأطباق والصينية النحاسية ينام أو يزغرد بألسنة اللهب بإشارة منها. وهي هنا الأم والزوجة والأستاذة والفنانة التي يترقب الجميع والثقة ملء قلوبهم ما تقدم يداها، وآية ذلك أنها لا تفوز بإطراء سيدها إذا تفضل بإطرائها إلا عن لون من الطعام أحكمت صنعه وطهيه، وأم حنفي كانت اليد اليمنى في هذه المملكة الصغيرة، سواء تصدت للإدارة والعمل أم تخلت عن مكانها لإحدى فتاتيها لتتمرس بفنها تحت إشرافها، وهي امرأة بدينة في غير تنسيق ولا تفصيل، نما لحمها نموا سخيا، فراعى في نموه السمنة فحسب وأهمل اعتبارات الجمال، بيد أنها رضيت عنه كل الرضا؛ لأنها كانت تعد السمنة في ذاتها الجمال كل الجمال. ولا عجب فقد كان كل عمل لها في البيت يكاد يعد ثانويا بالقياس إلى واجبها الأول، وهو تسمين الأسرة - أو بالأحرى إناثها - بما تعد لهن من «بلابيع» سحرية هي رقية الجمال وسره المكنون، ومع أن أثر البلابيع لم يكن ناجعا دائما إلا أنه برهن على جدارته في أكثر من مرة، فاستحق ما يناط به من آمال وأحلام. فليس عجيبا بعد هذا أن تسمن أم حنفي، على أن سمنتها لم تقلل من نشاطها، فما إن أيقظتها سيدتها حتى نهضت بنفس متفتحة للعمل، وخفت إلى «ماجور» العجين. وتعالى صوت العجين الذي يؤدي وظيفة جرس المنبه في هذا البيت، فترامى إلى الأبناء في الدور الأول، ثم تصاعد إلى الأب في الدور الأعلى، منذرا الجميع بأن وقت الاستيقاظ قد أزف. وتقلب السيد أحمد عبد الجواد على جنبيه ثم فتح عينيه، وسرعان ما قطب حانقا على الصوت الذي أزعج منامه، ولكنه كظم حنقه؛ لأنه كان يعلم أنه يجب أن يستيقظ، وتلقى أول إحساس يتلقاه عادة عقب استيقاظه وهو ثقل الرأس، فقاومه بقوة إرادته وجلس في فراشه وإن كانت تغلبه الرغبة في معاودة النوم. ولم تكن لياليه الصاخبة لتنسيه واجب النهار؛ فهو يستيقظ في هذه الساعة الباكرة مهما تأخر به وقت النوم، حتى يتسنى له الذهاب إلى متجره قبيل الثامنة، ثم له في القيلولة فسحة من وقت يعتاض بها عما فاته من نوم، ويستعيد نشاطه للسهرة الجديدة. لهذا كان وقت استيقاظه أسوأ أوقات يومه جميعا، يغادر الفراش مترنحا من الإعياء والدوار. ويستقبل حياة عاطلة من حلو الذكريات ولطيف المشاعر، وكأنها تستحيل دقا في الدماغ والجفون.
وتوالت دقات العجين على رءوس النائمين بالدور الأول، فاستيقظ فهمي، وكان استيقاظه يسيرا على رغم سهره عاكفا على كتب القانون، فإذا استيقظ فأول إحساس يبادره صورة وجه مستدير تتوسط صفحته العاجية عينان سوداوان، فيهمس باطنه قائلا: «مريم»، ولو أذعن لسلطان الإغراء للبث تحت الغطاء طويلا، خاليا إلى الخيال الزائر الذي جاء يصحبه بألطف الهوى، فيرنو إليه ما دعاه الشوق ويبادله الحديث ويبوح له بأسرار وأسرار، ويتدانى إليه بجسارة لا تتأتى في غير هذا الرقاد الدافئ في مطلع الصباح، ولكنه كعادته أجل نجواه إلى صباح الجمعة، وجلس في فراشه، ثم مد بصره إلى أخيه النائم في الفراش الذي يليه وهتف: ياسين ... ياسين ... اصح.
انقطع شخير الشاب، ونفخ فيما يشبه الضيق، وتمتم من أنفه: صاح ... استيقظت قبلك.
فانتظر فهمي مبتسما حتى عاود الآخر شخيره، فصاح به: اصح ...
فتقلب ياسين في فراشه متذمرا فانحسر الغطاء عن جانب من جسمه الذي يضاهي جسم والده ضخامة وبدانة، ثم فتح عينين محمرتين تلوح فيهما نظرة غائبة ارتسمت فوقها تقطيبة تنطق بالتذمر: «أف ... كيف طلع الصبح بهذه السرعة! ... لماذا لا ننام حتى نشبع ... النظام ... دائما النظام ... كأننا عساكر.» ونهض معتمدا على يديه وركبتيه، وهو يحرك رأسه لينفض عنه النعاس، فلاحت منه التفاتة إلى الفراش الثالث، حيث يغط كمال في نومه الذي لن ينتزعه منه أحد قبل نصف ساعة فغبطه عليه «يا له من غلام سعيد!» ولما أفاق قليلا تربع على الفراش وأسند رأسه إلى يديه، ورغب في معابثة الخواطر اللذيذة التي تحلو بها أحلام اليقظة، ولكنه كان يستيقظ - كأبيه - على حال من ثقل الرأس تتعطل معها الأحلام، ولاحت لمخيلته زنوبة العوادة، فلم تترك في حساسيته أثرا مما تترك في صحوه، وإن افترت شفتاه عن ابتسامة.
وفي الحجرة المجاورة كانت خديجة قد غادرت الفراش دون حاجة إلى منبه العجين. كانت أشبه الأسرة بأمها في نشاطها ويقظتها، أما عائشة فتستيقظ عادة على الحركة التي تنبعث في السرير من نهوض شقيقتها وانزلاقها إلى أرض الحجرة في عنف متعمد يجر وراءه جدلا وملاحاة انقلبا مع التكرار نوعا من الدعابة الفظة، فإذا استيقظت وفزعت من النقار لم تنهض، ولكنها تستسلم لحلم طويل من أحلام اليقظة السعيدة قبل أن تغادر فراشها.
ثم دبت الحياة فشملت الدور الأول كله، فتحت النوافذ وتدفق النور إلى الداخل، وعلى أثره هفا الهواء حاملا صلصلة عجلات سوارس وأصوات العمال ونداء بائع البليلة، وتواصلت الحركة ما بين غرفتي النوم والحمام وبدا ياسين في جلبابه الفضفاض بلحمه المتكتل، وفهمي بطوله الفارع وقده النحيف، وكان - فيما عدا نحافته - صورة من أبيه. وهبطت الفتاتان إلى الفناء؛ لتلحقا بأمهما في حجرة الفرن، وكان في صورتيهما اختلاف قل أن يوجد مثله في الأسرة الواحدة، خديجة سمراء وفي قسمات وجهها تنافر ملحوظ، وعائشة شقراء تشع هالة من حسن ورواء.
ومع أن السيد أحمد كان في الدور الأعلى بمفرده إلا أن أمينة لم تدعه في حاجة إلى إنسان. وجد على الخوان طبق فنجان مملوءا حلبة ليغير ريقه عليها، وذهب إلى الحمام فتطاير إلى أنفه عرف البخور الطيب، وألفى على الكرسي ثيابا نظيفة مرتبة في عناية، فاستحم بالماء البارد كعادته كل صباح - عادة لا ينقطع عنها صيفا أو شتاء - ثم عاد إلى حجرته مستجدا حيوية ونشاطا. ثم جاء بسجادة الصلاة - وكانت مطوية على مسند الكنبة - فبسطها وأدى فريضة الصبح، صلى بوجه خاشع، وهو غير الوجه البسام المشرق الذي يلقى به أصحابه، وغير الوجه الحازم الصارم الذي يواجه به آل بيته، هذا وجه خافض الجناح تقطر التقوى والحب والرجاء من قسماته المتراخية التي ألانها التزلف والتودد والاستغفار. لم يكن يصلي صلاة آلية قوامها التلاوة والقيام والسجود، ولكن صلاة عاطفة وشعور وإحساس يؤديها بنفس الحماس الذي ينفضه على ألوان الحياة التي يتقلب فيها جميعا، كما يعمل فيتفانى في عمله، ويصادق فيفرط في مودته، ويعشق فيذوب في عشقه، ويسكر فيغرق في سكره، مخلصا صادقا في كل حال. هكذا كانت الفريضة حجة روحية يطوف فيها برحاب المولى، حتى إذا انفتل من صلاته تربع وبسط راحتيه، وراح يدعو الله أن يكلأه برعايته، ويغفر له ويبارك في ذريته وتجارته.
وفرغت الأم من تجهيز الفطور، فتركت للفتاتين إعداد الصينية، وطلعت إلى حجرة الإخوة، حيث وجدت كمالا ما زال يغط في نومه، فأقبلت عليه باسمة وحطت راحتها على جبينه وتلت الفاتحة، وجعلت تناديه وتهزه برفق، حتى فتح عينيه، ولم تدعه حتى فارق الفراش. ودخل فهمي الحجرة، فلما رآها ابتسم إليها وحياها تحية الصباح، فردت عليه قائلة ونظرة الحب تترقرق في عينيها: صباح النور يا نور العين.
وبنفس الرقة صبحت على ياسين «ابن» زوجها، فرد عليها بمودة خليقة بالمرأة التي تنزل من نفسه منزلة الأم الجديرة بهذا الاسم. ولما عادت خديجة من حجرة الفرن تلقاها فهمي وياسين - وياسين خاصة - بما يغمرانها به عادة من دعابة. وكانت مثار دعابة سواء بصورتها المتنافرة أو بلسانها الحاد، رغم ما لها من نفوذ على الأخوين بما تتعهد من شئونهما بمهارة فائقة يندر أن تجود بمثلها عائشة التي تلوح وسط الأسرة كالرمز الجميل رواء وجاذبية وعدم فائدة. وبادرها ياسين قائلا: كنا نتحدث عنك يا خديجة، وكنا نقول إنه لو كان النساء جميعا على شاكلتك لارتاح الرجال من متاعب القلوب.
فقالت على البداهة: ولو كان الرجال على شاكلتك لارتاحوا جميعا من متاعب الرءوس.
عند ذلك هتفت الأم قائلة: أعد الفطور يا سادة.
4
كانت حجرة الطعام بالدور الأعلى حيث توجد حجرة نوم الوالدين، وكان بنفس الدور غير هاتين الحجرتين أخرى للجلوس وأربع خالية إلا من بعض أدوات اللعب التي يلهو بها كمال في أوقات فراغه. وكان السماط قد أعد وصفت حوله الشلت، ثم جاء السيد فتصدره متربعا، ودخل الإخوة الثلاثة تباعا فجلس ياسين إلى يمين أبيه، وفهمي إلى يساره، وكمال قبالته. جلس الإخوة في أدب وخشوع، خافضي الرءوس كأنهم في صلاة جامعة، يستوي في هذا كاتب مدرسة النحاسين وطالب مدرسة الحقوق وتلميذ خليل أغا، فلم يكن أحد منهم ليجترئ على التحديق في وجه أبيه. وأكثر من هذا كانوا يتجنبون في محضره تبادل النظر أن يغلب أحدهم الابتسام لسبب أو لآخر، فيعرض نفسه لزجرة مخيفة لا قبل له بها. ولم يكن يجمعهم بأبيهم إلا مجلس الفطور؛ لأنهم يعودون إلى البيت عصرا بعد أن يكون السيد قد غادره إلى دكانه عقب تناول الغداء والقيلولة، ثم لا يعود إليه إلا بعد منتصف الليل، وكانت الجلسة على قصر مدتها شديدة الوطأة على نفوسهم بما يلتزمون فيها من أدب عسكري إلى ما يركبهم من رهبة تضاعف من حساسيتهم، وتجعلهم عرضة للهفوات بطول تفكيرهم في تحاميها، فضلا عن أن الفطور نفسه يتم في جو يفسد عليهم تذوقه واستلذاذه، ولم يكن غريبا أن يقطع السيد الفترة القصيرة التي تسبق مجيء الأم بصينية الطعام في تفحص أبنائه بعين ناقدة، حتى إذا عثر على خلل ولو تافها في هيئة أحدهم، أو بقعة في ثوبه انهال عليه نهرا وتأنيبا، وربما سأل كمال بغلطة: «غسلت يديك؟» فإذا أجابه بالإيجاب قال له آمرا: «أرنيهما» فيبسط الغلام كفيه، وهو يزدرد ريقه فرقا، وبدلا من أن يشجعه على نظافته يقول له مهددا: «إذا نسيت مرة أن تغسلهما قبل الأكل قطعتهما وأرحتك منهما.» أو يسأل فهمي قائلا: «أيذاكر ابن الكلب دروسه أم لا؟» ويعرف فهمي بالبداهة من يعني لأن «ابن الكلب» عند السيد كناية عن كمال، فيجيب بأنه يحفظ دروسه جيدا. والحق أن شطارة الغلام - التي استوجب عليها حنق أبيه - لم تقعد به عند الجد والاجتهاد كما يدل عليهما نجاحه وتفوقه، ولكن السيد كان يطالب أبناءه بالطاعة العمياء الأمر الذي لا يطيقه غلام اللعب أحب إليه من الطعام؛ ولهذا يعلق على إجابة فهمي قائلا بامتعاض: «الأدب مفضل عن العلم.» ثم يلتفت إلى كمال ويستطرد بحدة: «سامع يا بن الكلب!»
وجاءت الأم حاملة صينية الطعام الكبيرة فوضعتها فوق السماط وتقهقرت إلى جدار الحجرة على كثب من خوان وضعت عليه «قلة»، ووقفت متأهبة لتلبية أية إشارة. وكان يتوسط الصينية النحاسية اللامعة طبق كبير بيضاوي امتلأ بالمدمس المقلي بالسمن والبيض، وفي أحد طرفيها تراكمت الأرغفة الساخنة، وفي الطرف الآخر صفت أطباق صغيرة بالجبن، والليمون والفلفل المخللين، والشطة والملح والفلفل الأسود، فهاجت بطون الإخوة بشهوة الطعام، ولكنهم حافظوا على جمودهم متجاهلين المنظر البهيج الذي أنزل عليهم كأنه لم يحرك فيهم ساكنا، حتى مد السيد يده إلى رغيف فتناوله ثم شطره وهو يتمتم: «كلوا»، فامتدت الأيدي إلى الأرغفة في ترتيب يتبع السن؛ ياسين ففهمي ثم كمال، وأقبلوا على الطعام ملتزمين أدبهم وحياءهم. ومع أن السيد كان يلتهم طعامه في وفرة وعجلة وكأن فكيه شطرا آلة قاطعة تعمل في سرعة وبلا توقف، ومع أنه كان يجمع في لقمة كبيرة واحدة من شتى الألوان المقدمة - الفول والبيض والجبن والفلفل والليمون المخللين - ثم يأخذ في طحنها بقوة وسرعة وأصابعه تعد اللقمة التالية، إلا أنهم كانوا يأكلون متمهلين في أناة بالرغم مما يحملهم تمهلهم من صبر لا يتفق وطبيعتهم الحامية، فلم يكن ليغيب عن أحدهم ما قد يتعرض له من ملاحظة شديدة أو نظرة قاسية إذا تهاون أو ضعف، فنسي نفسه وغفل بالتالي عما يأخذها به من التأني والأدب. وكان كمال أشدهم تبرما؛ لأنه كان أعظمهم تخوفا من أبيه، وإذا كان أكثر ما يتعرض له أحد أخويه نهرة أو زجرة، فأقل ما يتعرض له هو ركلة أو لكمة؛ فلذلك كان يتناول طعامه في حذر وضيق، مسترقا النظر بين آونة وأخرى إلى المتبقي من الطعام الذي يتناقص سريعا، وكلما تناقص اشتد قلقه، وانتظر في جزع أن يصدر عن أبيه ما يدل على فراغه من طعامه فيخلو له الجو ليملأ بطنه. وعلى رغم سرعة أبيه في الالتهام وضخامة لقمته وتشبعها بشتى الأصناف، كان يعلم بالتجربة أن ما يتهدد الطعام - وما يتهدده هو بالتالي - من ناحية أخويه أشد وأنكى؛ لأن السيد كان سريع الأكل سريع الشبع، أما أخواه فكانا يبدآن المعركة حقا عقب جلاء السيد عن السفرة، ثم لا يتخليان عنها حتى تخلو الأطباق من كل شيء شهي يؤكل؛ ولهذا فما كاد السيد ينهض قائما ويفارق الحجرة حتى شمر عن ساعديه وهجم على الطبق كالمجنون مستغلا يديه الاثنتين؛ يدا للطبق الكبير، ويدا للأطباق الصغيرة، بيد أن اجتهاده بدا قليل الجدوى فيما انبعث من نشاط الأخوين، فلجأ إلى الحيلة التي يستغيث بها كلما هدد سلامته مهدد في مثل هذه الحال، وهي أن يعطس في الطبق عامدا متعمدا، وعطس فتراجع الأخوان ونظرا إليه حانقين، ثم غادرا المائدة وهما يغرقان في الضحك، فتحقق له حلم الصباح، وهو أن يجد نفسه وحيدا في الميدان.
وعاد السيد إلى حجرته بعد أن غسل يديه، فلحقت به أمينة وبيدها قدح مزجت به ثلاث بيضات نيئة بقليل من اللبن وقدمته له، فتجرعه ثم جلس ليحسو قهوة الصبح، وهذا القدح الدسم خاتمة فطوره، وهو «وصفة» من وصفات يداوم عليها بعد الوجبات أو فيما بينها - كزيت السمك، والجوز واللوز والبندق المسكرة - رعاية لصحة بدنه الضخم، وتعويضا له عما تستهلكه منه الأهواء، إلى اقتصاره على اللحوم بأنواعها والأغذية المشهورة بدسمها، حتى ليعد الأكلة الخفيفة بل والعادية «لعبا» و«تضييع وقت» لا يجملان بمثله. وقد وصف له الحشيش كفاتح للشهية - إلى فوائده الأخرى - فجربه، ولكنه لم يألفه وانصرف عنه غير آسف، وقد ساء به ظنه لما يورث من ذهول وقور مشبع بالهدوء ميال للصمت مشعر بالانفراد ولو بين الصفوة من الأصدقاء، فنفر من أعراضه تلك التي تتجافى مع سجيته المولعة بصبوات المرح ونشوات الهياج ولذات الاندماج في النفوس ووثبات المزاح والقهقهة، ولكيلا يفقد مزاياه الضرورية لفحول العشاق اعتاض عنه بنوع نفيس من المنزول اشتهر به محمد العجمي بائع الكسكسي عند مطلع الصالحية بالصاغة، وكان يعده خاصة لصفوة زبائنه من التجار والأعيان، ولم يكن السيد من مدمني المنزول ولكنه كان يلم به بين حين وآخر كلما استقبل هوى جديدا خاصة إذا كانت المعشوقة امرأة خبيرة بالرجال وأحوالهم. فرغ السيد من حسو قهوته ثم نهض إلى المرآة وراح يرتدي ملابسه التي قدمتها إليه أمينة قطعة قطعة، وألقى على صورة هندامه نظرة متفحصة، ومشط شعره الأسود المرسل على صفحتي رأسه، ثم سوى شاربه وفتله، وتفرس في هيئة وجهه ثم عطفه رويدا إلى اليمين ليرى جانبه الأيسر، ثم إلى اليسار ليرى جانبه الأيمن، حتى إذا ارتاح إلى منظره مد يده إلى زوجه فناولته زجاجة الكولونيا التي عبأها له عم حسين الحلاق، فغسل يديه ووجهه ونضح صدر قفطانه ومنديله، ثم وضع الطربوش على رأسه وأخذ عصاه وغادر الحجرة ناشرا بين يديه ومن خلفه عرفا طيبا. ذلك العرف المقطر من شتى الأزهار يعرفه أهل البيت جميعا، وإذا تنشقه أحدهم تمثل لعينيه السيد بوجهه الوقور الحازم، فينبعث في قلبه - مع الحب - الإجلال والخوف. إلا أن انتشاره في هذه الساعة من الصباح كان إيذانا بذهاب السيد، فالنفوس تتلقاه بارتياح غير منكور على براءته، كارتياح الأسير إلى صليل السلاسل وهي تنفك عن يديه وقدميه، ويعلم كل بأنه سيسترد حريته عما قليل في الكلام والضحك والغناء والحركة دون ثمة خطر. وكان ياسين وفهمي قد فرغا من ارتداء ملابسهما، أما كمال فقد هرع إلى الحجرة عقب خروج أبيه مباشرة ليشبع رغبته في محاكاة حركاته التي يختلس النظر إليها من زيق الباب الموارب، فوقف أمام المرآة ينظر إلى صورته بإمعان وارتياح، ثم قال مخاطبا أمه بلهجة آمرة وهو يغلظ نبرات صوته: «زجاجة الكولونيا يا أمينة.» وكان يعلم أنها لا تلبي هذا النداء ولكنه جعل يمسح على وجهه وجاكيتته وبنطلونه القصير بيديه كأنه يبلها بالكولونيا، ومع أن أمه كانت تغالب الضحك إلا أنه ثابر على التظاهر بالجد والصرامة، وراح يستعرض وجهه في المرآة من جانبه الأيمن إلى الأيسر، ثم مضى يسوي شاربه الوهمي ويفتل طرفيه، ثم تحول عن المرآة وتجشأ، ونظر صوب أمه، ولما لم يجد منها إلا الضحك قال لها محتجا: «لماذا لا تقولين لي صحة وعافية؟» فغمغمت المرأة ضاحكة: «صحة وعافية يا سيدي.» هنالك غادر الحجرة مقلدا مشية أبيه محركا يمناه كأنه يتوكأ على عصاه.
وبادرت الأم والفتاتان إلى المشربية، ووقفن وراء شباكها المطل على النحاسين ليرين من ثقوبه رجال الأسرة في الطريق، وبدا السيد وهو يسير في تؤدة ووقار يحف به الجلال والجمال رافعا يديه بالتحية بين حين وآخر، وقد وقف له عم حسنين الحلاق والحاج درويش بائع الفول والفولي اللبان وبيومي الشربتلي، فأتبعنه أعينا مترعة بالحب والزهو، وتلاه فهمي في مشيته المتعجلة، ثم ياسين في جسم الثور وأناقة الطاوس، وأخيرا ظهر كمال فلم يكد يخطو خطوتين حتى استدار ورفع بصره إلى الشباك الذي يعلم أن أمه وشقيقتيه مستخفيات وراءه، وابتسم، ثم واصل سيره متأبطا حقيبة كتبه منقبا في الأرض عن زلطة ليركلها.
كانت هذه الساعة من أسعد أوقات الأم، بيد أن إشفاقها من شر الأعين على رجالها لم يقف عند حد، فلم تكن تمسك عن تلاوة:
ومن شر حاسد إذا حسد
حتى يغيبوا عن عينيها.
5
وغادرت الأم المشربية وتبعتها خديجة، على حين تلكأت عائشة حتى خلا لها الجو، فانتقلت إلى جانب المشربية المطل على بين القصرين ومدت بصرها من ثقوب الشباك في اهتمام ولهفة. بدا من لمعة عينيها وعضها على شفتيها أنها تنتظر. ولم يطل بها الانتظار فقد مرق من عطفة الخرنفش ضابط بوليس شاب، ومضى مقبلا متمهلا في طريقه إلى قسم الجمالية، عند ذلك غادرت الفتاة المشربية في عجلة إلى حجرة الاستقبال، واتجهت إلى نافذتها الجانبية، وأدارت أكرتها ففرجت مصراعيها عن زيق ووقفت وراءه وقلبها يبعث ضربات بالغة العنف من العاطفة والخوف معا. ولما اقترب الضابط من البيت رفع عينيه في حذر دون أن يرفع رأسه - فلم يكن أحد يرفع رأسه في مصر وقتذاك - فأضاءت أساريره بنور ابتسامة متوارية انعكست على وجه الفتاة إشراقة موردة بالحياء فتنهدت ... ثم أغلقت النافذة وهي تشد عليها بعصبية - كأنها تخفي آثار جريمة دامية - وتراجعت عنها مغمضة العينين من شدة الانفعال، فأسلمت نفسها إلى مقعد، وأسندت رأسها إلى يدها وساحت في جو مشاعرها اللانهائي. لم تكن سعادة خالصة ولم يكن خوفا خالصا، كان قلبها موزعا بين هذا وتلك فهما يتجاذبانه بلا رحمة، إذا استنامت إلى نشوة الفرح وسحره قرعت قلبها مطرقة الخوف محذرة موعدة، فلا تدري أيجمل بها أن تقلع عن مغامرتها أم تتمادى في مطاوعة قلبها، كلا الحب والخوف شديد، ولبثت في تهويمها كثيرا أو قليلا، فاستكنت هواتف الخوف والتأنيب، ومضت تنعم بسكرة الحلم في ظل سلام، وذكرت - كما يلذ لها أن تذكر دائما - كيف كانت تنفض الستارة المسدلة على النافذة يوما فلاحت منها نظرة إلى الطريق من النافذة التي فتحت نصف فتحة لطرد الغبار، فوقعت عليه وهو يتطلع إلى وجهها في دهشة مقرونة بالإعجاب، فتراجعت فيما يشبه الذعر، ولكنه لم يذهب قبل أن يترك في مخيلتها أثرا باقيا من منظر نجمته الذهبية وشريطه الأحمر، منظر يخلب اللب ويسرق الخيال، فظل يتخايل لعينيها طويلا، وفي نفس الساعة من اليوم التالي - والأيام التالية - راحت تقف وراء الخصاص دون أن يراها، ولمست في فرحة ظافرة كيف يتطلع بعينيه إلى النافذة المغلقة باهتمام وتشوق، ثم كيف أخذ يستبين شبحها وراء الخصاص فتشع أساريره ضياء البهجة، وقلبها المشبوب - الذي يتمطى مستيقظا لأول مرة - ينتظر هذه اللحظة في لهفة ويذوقها في سعادة ويودعها فيما يشبه الحلم، حتى دار الشهر وعاد يوم التنفيض مرة أخرى، فانبرت إلى الستارة تنفضها وراء النافذة المواربة متعمدة - هذه المرة - أن ترى، وهكذا يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، حتى غلب التعطش للمزيد من الحب الخوف الجاثم، فخطت خطوة - جنونية - وفرجت مصراعي النافذة، ووقفت وراءها وقلبها يبعث ضربات بالغة العنف من العاطفة والخوف معا، كأنها تعلن حبها له، بل كانت كمن يقذف بنفسه من علو ساحق ليتقي نارا مستعرة تحيط به. •••
استكنت عواطف الخوف والتأنيب ومضت تنعم بسكرة الحلم في ظل سلام، ثم أفاقت من حلمها، وصممت على أن تتحامى الخوف الذي ينغص عليها صفوها فجعلت تقول لنفسها استدرارا للطمأنينة: «لم تزلزل الأرض ومر كل شيء بسلام، لم يرني أحد ولن يراني أحد، ثم إني لم أقترف إثما!» ونهضت قائمة، ولكي توهم نفسها يخلو البال ترنمت - وهي تغادر الحجرة - بصوت عذب: «يا أبو الشريط الأحمر يا للي أسرتني ارحم ذلي.» ورددتها مرة ومرة حتى جاءها صوت أختها خديجة من حجرة الطعام وهي تزعق في تهكم: يا ست منيرة يا مهدية، تفضلي، أعدت لك خادمتك السفرة.
وأثابها صوت أختها إلى نفسها تماما فيما يشبه الرجة، فهوت من عالم المثال إلى عالم الواقع مرتعبة بعض الشيء لسبب غير ظاهر - ما دام كل شيء قد مر بسلام كما قالت لنفسها - ولكن اعتراض صوت أختها - بالذات - لغنائها وخواطرها أرعبها، ربما لأن خديجة كانت تقف منها موقف المنتقد، بيد أنها طاردت هذا القلق الطارئ وأجابتها بضحكة مقتضبة، ثم جرت إلى حجرة الطعام فوجدت السماط معدا حقا وأمها مقبلة بالصينية. وقالت لها خديجة بحدة حال دخولها: تتلكئين بعيدا حتى أعد كل شيء وحدي ... كفاية لنا الغناء.
ومع أنها كانت تتلطف معها في الحديث تفاديا من حدة لسانها، إلا أن إصرار الأخرى على قرصها بلسانها كلما سنحت فرصة جعلها تتعلق أحيانا بإغاظتها، فقالت مصطنعة الجد: ألم نتفق على تقسيم العمل بيننا في البيت؟ فعليك هذا الواجب وعلي الغناء.
فنظرت خديجة إلى أمها وقالت متهكمة وهي تعني الأخرى: يمكن ناوية تكون عالمة!
ولم تغضب عائشة، وبالعكس قالت باهتمام مصطنع أيضا: وما له! ... أنا صوتي كالكروان.
ومع أن قولها السابق لم يستثر غيظها؛ لأنه كان بين الدعابة إلا أن كلامها الأخير استثاره؛ لأنه كان واضح الحق، ولأنها تنفس عليها جمال صوتها فيما تنفس عليها من مزايا، فقالت في تهجم: اسمعي يا ست هانم ... هذا بيت رجل شريف لا يعيب بناته أن تكون أصواتهن كصوت الحمير، ولكن يعيبهن أن يكن كالصورة لا فائدة منهن ولا نفع. - لو كان صوتك جميلا كصوتي ما قلت هذا! - طبعا! ... كنت تغنين وأرد عليك، تقولين يا بو الشريط الأحمر يا للي ... فأقول لك أسرتني ارحم ذلي، ونترك للست (مشيرة إلى أمها) الكنس والمسح والطبخ.
وكانت الأم - التي ألفت هذا النقار - قد اتخذت مجلسها، فقالت برجاء: أمسكا بالله، واجلسا لنأكل فطورنا بسلام.
وأقبلتا على السماط وجلستا وخديجة تقول: أنت يا نينة لا تصلحين لتربية أحد.
فتمتمت الأم في هدوء: سامحك الله، سأترك لك أمر التربية على ألا تنسي نفسك ... (ثم مدت يدها إلى الطبق) بسم الله الرحمن الرحيم.
كانت خديجة في العشرين من عمرها، فهي كبرى إخوتها فيما عدا ياسين - أخاها من الأب - الذي ناهز عامه الواحد والعشرين، وكانت قوية ممتلئة - والفضل لأم حنفي - مع ميل إلى القصر، أما وجهها فقد قبس من قسمات الوالدين على نهج لم يراع فيه الانسجام، ورثت عن أمها عينيها الصغيرتين الجميلتين، وعن أبيها أنفه العظيم، أو صورة مصغرة منه، ولكن ليس إلى القدر الذي يغتفر له، ومهما يكن من شأن هذا الأنف في وجه الأب الذي يناسبه ويكسبه جلالا ملحوظا، فقد لعب في وجه الفتاة دورا مختلفا.
أما عائشة فكانت في السادسة عشرة من ربيعها، صورة من بديع الحسن، رشيقة القد والقوام - وإن عد هذا في محيط أسرتها من العيوب المتروك علاجها لأم حنفي - ووجه بدري تزينه بشرة بيضاء مشربة بحمرة، وعينان زرقاوان أحسنت اختيارهما من الأب مع أنف الأم الصغير، إلى شعر ذهبي دللها به قانون الوراثة فخصها به وحدها من ميراث جدتها لأبيها. وطبيعي أن تدرك خديجة ما يقوم بينها وبين شقيقتها من فوارق، ولم تكن براعتها الفائقة في التدبير المنزلي والتطريز ولا نشاطها الدائب الذي لا يكل ولا يمل بمغنيين عنها شيئا، فوجدت على الغالب نحوها غيرة لم تراع إخفاءها مما حمل الفتاة الحسناء على البرم بها في كثير من الأحايين. ولكن من سوء الحظ أن هذه الغيرة الطبيعية لم تترك رواسب سوداء في النفس، وكفاها أن تروح عن حدتها بسخرية اللسان وسلاطته. وأكثر من هذا أن كانت الفتاة رغم مشكلتها الطبيعية أما بالفطرة عامرة القلب بالحنو نحو الأسرة التي لا تعفي أفرادها من مرارة تهكمها، فلم تكن غيرتها إلا نوبات تطول أو تقصر، ولكنها لم تنحرف بسجيتها إلى الحقد أو البغضاء، بيد أن دأبها على السخرية - الذي اقتصر في الأسرة على الدعابة - خلق منها فيما وراء ذلك من الجيران والمعارف عيابة من الدرجة الأولى، لا تقع عيناها من الناس إلا على مناقصهم كعقرب البوصلة المنجذب إلى القطب أبدا، وإذا توارت المناقص تمحلت في الكشف عنها وتكبيرها، ثم راحت تطلق على ضحاياها أوصافا تناسب عيوبهم كادت تغلب عليهم في محيط أسرتها، فهذه حرم المرحوم شوكت أقدم صديقة لوالديها تدعوها «المدفع الرشاش» لتناثر ريقها أثناء الحديث، وهذه الست أم مريم جارتهم بالبيت الملاصق لبيتهم تسميها «لله يا أسيادي» لاستعارتها بعض الأدوات المنزلية من بيتهم بين حين وآخر، كما تدعو شيخ كتاب بين القصرين «شر ما خلق» لترديده هذه الآية ضمن سورتها كثيرا بحكم وظيفته مع قبح وجهه، وبائع الفول «الأقرع» لصلعه، واللبان «الأعور» لضعف بصره، إلى تسميات مخففة بعض الشيء خصت بها أسرتها، فأمها «لمؤذن» لتبكيرها في الاستيقاظ، وفهمي «عمود السرير» لنحافته، وعائشة «البوصة» للسبب نفسه، وياسين «بمبة كشر» لسمنته وأناقته. ولم تكن سلاطة لسانها من وحي السخرية فحسب، فالحق أنها لم تخل من قسوة على من عدا أهلها من الخلق، وهكذا اتسم نقدها للناس بالعنف، وتجافى عن التسامح والعفو، كما غلب عليها عدم الاكتراث للأحزان التي تلم بالناس يوما بعد يوم، وتبدت هذه الغلظة في البيت في معاملة أم حنفي معاملة لا تلقاها من أحد سواها، بل في معاملة الحيوان الأليف كالقطط التي تحظى من عائشة بإعزاز يفوق الوصف. وكانت معاملتها لأم حنفي مثار خلاف بينها وبين أمها؛ فالأم تعامل الخدم كما تعامل أهل بيتها سواء بسواء، وكان ظنها بالناس أنهم ملائكة فلم تدر كيف تسيء الظن بأحد، على حين دأبت خديجة على سوء الظن بالمرأة تمشيا مع طبيعتها التي تسيء الظن بالناس جميعا، ولم تخف تخوفها من بياتها غير بعيد من غرفة الخزين فقالت لأمها: «من أين تجيئها هذه السمنة المفرطة؟! ... من الوصفات التي تصنعها؟! كلنا نتعاطى وصفاتها فلا نسمن سمنتها، ولكنه السمن والعسل اللذان تطفح منهما بغير حساب، ونحن نيام.»
لكن الأم دافعت عن أم حنفي ما وسعها الدفاع، ولما ضاقت بإلحاح ابنتها قالت: «فلتأكل ما تشاء، الخير كثير، وبطنها له حد لا يتعداه فلن نجوع على أي حال.» ولم يعجبها قولها وراحت تفحص صفائح السمن وبلاليص العسل كل صباح وأم حنفي ترى هذا باسمة؛ لأنها كانت تحب الأسرة كلها إكراما لستها الطيبة. وعلى النقيض من هذا كان حنان الفتاة حيال أهلها جميعا، فلم يكن يهدأ لها بال إذا أصابت أحدهم وعكة، ولما مرض كمال بالحصبة أبت إلا أن تشاركه فراشه، حتى عائشة نفسها لم تكن تطيق أن يلم بها أهون سوء، فلم يكن مثل قلبها لا في بروده ولا في رحمته.
وباتخاذها مجلسها من السماط تناست ما نشب بينها وبين عائشة من نقار، وأقبلت على الفول والبيض بشهية كانت مضرب الأمثال في الأسرة. وكان للطعام بينهن - إلى فائدته الغذائية - غاية جمالية عليا بصفته الدعامة الطبيعية للسمنة، فكن يتناولنه في تؤدة واهتمام، ويبالغن في سحقه وطحنه، فإذا شبعن لم يمسكن ولكن يستزدن منه حتى يمتلئن، على تفاوت لطاقاتهن، فكانت الأم أسرعهن إلى الانتهاء، تليها عائشة، ثم تنفرد خديجة ببقايا المائدة، فلا تتخلى عنها إلا وهي أطباق مغسولة. ولم تكن نحافة عائشة لتتناسب مع اجتهادها في الأكل فضلا عن عصيانها لسحر البلابيع، مما دعا خديجة للسخرية منها والقول بأن المكر السيئ هو الذي يجعلها تربة غير صالحة للبذور الطيبة التي تلقى فيها، كما كان يطيب لها أن تعلل نحافتها بضعف دينها، فتقول لها: «كلنا نصوم رمضان إلا أنت، تتظاهرين بالصوم، وتندسين في حجرة الخزين كالفأرة وتملئين بطنك بالجوز واللوز والبندق، ثم تفطرين معنا بنهم يحسدك عليه الصائمون، ولكن الله لا يبارك لك.» وكانت ساعة الفطور من الأوقات النادرة التي يختلين فيها إلى أنفسهن، فكانت أخلق الأوقات بالمكاشفة ونفض السرائر خاصة في الأمور التي يدعو إلى كتمانها عادة الحياء البالغ الذي تتسم به مجالس الأسرة الحاوية للجنسين. وكان لدى خديجة ما تقوله رغم انهماكها في الأكل، فقالت بصوت هادئ يختلف كل اختلاف عن الصوت الذي كانت تزعق به منذ حين قصير: نينة ... حلمت حلما غريبا.
فقالت الأم قبل أن تزدرد لقمتها مبالغة في إكرام ابنتها المخيفة: خير يا بنتي إن شاء الله.
فقالت خديجة باهتمام مضاعف: رأيت كأني أمشي على سور سطح، ربما كان سطح بيتنا أو غيره، وإذا بشخص مجهول يدفعني فأهوي صارخة.
وأمسكت أمينة عن تناول طعامها في اهتمام جدي فلازمت الفتاة الصمت قليلا لتستأثر بأكبر قدر من الاهتمام حتى تمتمت الأم: اللهم اجعله خيرا.
وقالت عائشة وهي تغالب ابتسامة: لم أكن أنا الشخص المجهول الذي دفعك ... أليس كذلك؟!
وخافت خديجة أن يفسد الجو بالمزاح، فصاحت بها: إنه حلم وليس لعبا فكفي عن هذرك ... (ثم مخاطبة أمها) هويت صارخة، ولكني لم أرتطم بالأرض كما توقعت بل وقعت على جواد، حملني وطار.
وتنهدت أمينة في ارتياح كأنما أدركت ما وراء الحلم واطمأنت إليه، وعادت إلى طعامها مبتسمة، ثم قالت: من يدري يا خديجة؟ ... لعله العريس!
لم يكن يباح الكلام عن «العريس» إلا في هذه الجلسة، وفي إيجاز بالإشارة أشبه، ووجب قلب الفتاة الذي لم يكربه شيء كما أكربه أمر الزواج، وكانت على إيمان بالحلم وتأويله، بحيث وجدت لكلام أمها سرورا عميقا، بيد أنها أرادت أن تداري حياءها بالسخرية كعادتها - ولو من نفسها - فقالت: أتظنين الجواد عريسا؟ ... لن يكون عريسي إلا حمارا.
فضحكت عائشة حتى تطاير نثار الطعام من فيها، ثم خافت أن تسيء خديجة فهم ضحكتها فقالت: لشد ما تظلمين نفسك يا خديجة! ... ما فيك من شيء يعاب.
فحدجتها خديجة بنظرة تنم عن الحذر والشك على حين راحت الأم تقول: أنت فتاة نادرة المثال، من يضارعك في مهارتك أو نشاطك؟ ... وروحك الخفيفة ووجهك اللطيف؟ ماذا تريدين أكثر من هذا؟
فمست الفتاة بسبابتها أرنبة أنفسها وتساءلت ضاحكة: ألا يسد هذا طريق الأزواج؟
فقالت الأم مبتسمة: كلام فارغ ... ما زلت صغيرة يا بنية.
وتضايقت لذكر الصغر لأنها لم تكن تعد نفسها صغيرة بالقياس إلى سن الزواج، وخاطبت أمها قائلة: لقد تزوجت يا نينة وأنت دون الرابعة عشرة.
فقالت الأم التي لم تكن في الحق دون ابنتها قلقا: لا يتقدم أمر أو يتأخر إلا بإذن الله.
وقالت عائشة في صدق: ربنا يفرحنا بك قريبا يا خديجة.
فلحظتها خديجة بريبة وذكرت كيف طلبت إحدى جاراتهم يدها لابنها، فرفض الأب أن يزوج الصغرى قبل الكبرى، وتساءلت: أتودين حقا أن أتزوج أم تتمنين أن يخلو لك السبيل فتتزوجي؟!
فقالت عائشة ضاحكة: الاثنين معا.
6
ولما فرغن من الفطور قالت الأم: عليك يا عائشة الغسيل اليوم، وعلى خديجة تنظيف البيت، ثم تلحقان بي في حجرة الفرن.
كانت أمينة توزع بينهما العمل عقب الفطور مباشرة، ومع أنهما ترضيان بحكمها، وترضى به عائشة بلا مناقشة، إلا أن خديجة تكلف بتوجيه الملاحظات على سبيل الاستعلاء أو على سبيل المشاكسة؛ فلهذا قالت: أنزل لك عن التنظيف إذا كنت تستثقلين الغسيل، أما التمحك بالغسيل للبقاء في الحمام حتى ينتهي العمل في المطبخ فعذر مرفوض مقدما.
وتجاهلت الفتاة ملحوظتها ومضت إلى الحمام، وهي تدندن فقالت خديجة متهكمة: يا بختك بالحمام يرن فيه الصوت كما يرن في نفير الفونوغراف، فغني وسمعي الجيران.
وغادرت الأم الحجرة إلى الدهليز، ثم إلى السلم ورقته إلى السطح لتجول فوقه جولتها الصباحية قبل أن تنزل إلى حجرة الفرن. لم يكن التشاحن بين الفتاتين بالجديد عليها بعد أن انقلب مع الأيام عادة مألوفة في غير الأوقات التي يوجد فيها الأب في البيت، أو التي يطيب فيها السمر بين أفراد الأسرة، وجعلت تعالجه بالرجاء والدعابة والرقة البالغة، وهي السياسة الوحيدة التي تنتهجها إزاء أبنائها؛ لأنها صادرة عن طبع لا يطيق سواها، أما ما تقتضيه التربية أحيانا من الحزم فشيء لم تعرفه، ربما تمنته دون أن تقدر عليه، وربما حاولت تجربته فغلبها التأثر والضعف، وكأنها لا تحتمل أن يقوم بينها وبين أبنائها غير أسباب المودة والحب، تاركة للأب - أو لشخصيته التي تسيطر من بعيد - تقويم المعوج وإلزام كل حدوده. لهذا لم يضعف النقار السخيف من إعجابها بفتاتيها ورضائها عنهما، حتى عائشة المولعة لحد الهوس بالغناء والوقوف أمام المرآة، لم تكن دون خديجة مهارة وتدبيرا بالرغم من تكاسلها. وكان هذا حريا بأن يمد لها في أوقات الراحة لولا ما طبعت عليه من وسوسة بالداء أشبه؛ فهي تأبى إلا أن تشرف على كل صغيرة وكبيرة بالبيت. وإذا فرغت الفتاتان من عملهما نشطت هي بالمكنسة في يد والمنفضة في يد، وراحت تتفقد الحجرات والصالات والدهاليز، متفحصة الأركان والجدران والستائر وسائر العفش، عسى أن تزيل نقطة غبار منسية، واجدة لذة وارتياحا كأنما تزيل قذى من عينيها، ومن وسوستها تلك أنها كانت تفحص الثياب المعدة للغسيل قبل غسلها، فإذا عثرت على قطعة منها قد خرقت قذارتها المألوف لم تترك صاحبها دون أن تتلطف في تنبيهه إلى واجبه، من كمال الذي يناهز العاشرة إلى ياسين الذي كان ذا ذوقين متناقضين في العناية بنفسه يتجليان في تأنقه المفرط في مظهره من البدلة والطربوش والقميص ورباط الرقبة والحذاء، وإهماله المعيب لثيابه الداخلية. ومن الطبيعي ألا تغفل هذه العناية الشاملة السطح وسكانه من الحمام والدجاج، بل كانت ساعة السطح حافلة بالحب والسرور، فيها من أغراض العمل ما فيها إلى ما تجده من فرحة اللهو والمرح. ولا عجب فالسطح هو الدنيا الجديدة التي لم يكن للبيت الكبير بها عهد قبل انضمامها إليه، خلقته بروحها خلقا جديدا على حين ظل البيت محافظا على الهيئة التي شيد عليها منذ عهد سحيق. هذه الأقفاص المثبتة في بعض جدرانه العالية يهدل عليها الحمام من وضعها، وهذه الأكواخ الخشبية يقوقئ الدجاج في مسارحها من تركيبها، وكم يملكها الفرح وهي ترمي الحب أو تضع على الأرض آنية السقيا، فيستبق إليها الدجاج وراء ديكها، وتنهال مناقيرها على الحب في سرعة وانتظام كإبر آلة الخياطة، مخلفة في الأرض التربة بعد حين ثغرات دقيقات كآثار الرذاذ. وكم ينشرح صدرها إذ تنظر فتراها رانية إليها بأعين دقيقة صافية، مستطلعة متسائلة، ناقة مقوقئة، في مودة متبادلة ينز لها قلبها الحنون. أحبت الدجاج والحمام كما تحب مخلوقات الله جميعا، فهي تناغيها مناغاة رقيقة تحسب أنها تفهمها وتتأثر لها، ذلك أن خيالها يخلع الحياة الشاعرة العاقلة على الحيوان، وأحيانا الجماد نفسه. وعندها بمنزلة اليقين أن هذه الكائنات تسبح بحمد ربها وتتصل بعالم الروح بأسباب، فعالمها بأرضه وسمائه، حيوانه ونباته، عالم حي عاقل. ثم لا تقتصر مزاياه على نعمة الحياة فيكملها بالعبادة. لم يكن غريبا بعد هذا أن تكثر معاتيقها من الديوك والدجاج معتلة بسبب أو آخر، هذه لأنها معمرة وتلك لأنها بياضة وهذا لأنها تستيقظ على صياحه، ولعلها لو تركت وشأنها ما ارتضت أن تعمل سكينها في رقابها، وإذا دعتها الظروف إلى الذبح تخيرت الدجاج أو الحمام فيما يشبه الضيق، ثم تسقيها وتترحم عليها وتبسمل وتستغفر، وتذبحها وعزاؤها أنها تستمتع بحق منحه الله المنان وأوسع به على عباده. أما أعجب ما في السطح فكان نصفه الجنوبي المشرف على النحاسين؛ حيث غرست يداها في الأعوام الخالية حديقة فريدة لا نظير لها في أسطح الحي كله التي تغطى عادة بطبقة من قاذورات الدواجن، بدأت أول ما بدأت بعدد قليل من أصص القرنفل والورد، وراحت تستكثر منها عاما بعد عام حتى نضدت صفوفا بحذاء أجنحة السور ونمت نموا بهيجا، وخطر لخيالها أن تقيم فوق حديقتها سقيفة، فاستدعت نجارا فأقامها، ثم غرست شجرتي ياسمين ولبلاب ثم أنشبت سيقانها في السقيفة وحول قوائمها، فاستطالت وانتشرت حتى استحال المكان بستانا معروشا ذا سماء خضراء ينبثق منها الياسمين ويتضوع في أرجائها عرف طيب ساحر. هذا السطح بسكانه من الدجاج والحمام، وبستانه المعروش، هو دنياها الجميلة المحبوبة، وملهاها الأثير في هذا العالم الكبير الذي لا تعرف عنه شيئا، وكشأنها في مثل هذه الساعة مضت تتعهده برعايتها فكنسته، وسقت زرعه، وأطعمت الدجاج والحمام، ثم تملت طويلا المنظر المحيط بها بثغر باسم وعينين حالمتين، ثم ذهبت إلى نهاية البستان ووقفت وراء السيقان الملتفة المتشابكة تمد بصرها من ثغراتها إلى ما يليها من فضاء لا تحده حدود.
كم تروعها المآذن التي تنطلق انطلاقا ذا إيحاء عميق، تارة عن قرب حتى لترى مصابيحها وهلالها في وضوح كمآذن قلاوون وبرقوق، وتارة عن بعد غير بعيد فتبدو لها جملة بلا تفصيل كمآذن الحسين والغوري والأزهر، وثالثة من أفق سحيق فتتراءى أطيافا كمآذن القلعة والرفاعي، وتقلب وجهها فيها بولاء وافتتان، وحب وإيمان، وشكر ورجاء، وتحلق روحها فوق ذراها أقرب ما تكون إلى السماء، ثم تستقر منها العينان على مئذنة الحسين، أحبها - لحب صاحبها - إلى نفسها، فتنفض نظرتها حنانا وأشواقا، مشوبة بحزن يطوف بها كلما ذكرت حرمانها من زيارة ابن بنت رسول الله وهي على مسير دقائق من مثواه. وتنهدت نهدة مسموعة، استردتها من استغراقها فتابت إلى نفسها، وراحت تتسلى بالنظر إلى الأسطح والطرقات فلم تزايلها الأشواق، ثم استدبرت السور وقد فاض بها التطلع إلى المجهول، المجهول بالقياس إلى الناس جميعا وهو عالم الغيب، والمجهول بالقياس إليها وحدها وهو القاهرة. بل الأحياء المتاخمة التي تترامى إليها أصواتها. ترى ما هذه الدنيا التي لم تر منها إلا المآذن والأسطح القريبة؟! ربع قرن من الزمان خلا وهي حبيسة هذا البيت لا تفارقه إلا مرات متباعدة لزيارة أمها بالخرنفش، وعند كل زيارة يصطحبها السيد في حنطور؛ لأنه كان لا يحتمل أن تقع عين على حرمه سواء وحدها أو بصحبته، لم تكن ساخطة ولا متذمرة، إنها أبعد ما تكون عن هذا. بيد أنها ما تكاد تنفذ ببصرها من ثغرات الياسمين واللبلاب إلى الفضاء والمآذن والأسطح، حتى تعلو شفتيها الرقيقتين ابتسامة حنان وأحلام. ترى أين تقع مدرسة الحقوق حيث يجلس فهمي في هذه اللحظة؟ وأين مدرسة خليل أغا التي يؤكد كمال أنها على مسير دقيقة من الحسين؟ ... وقبل أن تغادر السطح بسطت كفيها ودعت ربها قائلة: «اللهم أسألك الرعاية لسيدي وأبنائي، وأمي وياسين، والناس جميعا مسلمين ونصارى، حتى الإنجليز يا ربي وأن تخرجهم من ديارنا إكراما لفهمي الذي لا يحبهم.»
7
عندما بلغ السيد أحمد عبد الجواد دكانه الذي يقع أمام جامع برقوق بالنحاسين كان جميل الحمزاوي وكيله قد فتحه وهيأه للعمل، فحياه السيد تحية رقيقة وهو يبتسم ابتسامة وضيئة واتجه إلى مكتبه. وكان الحمزاوي في الخمسين من عمره، أنفق منها ثلاثين عاما في هذا الدكان، وكيلا لمنشئه الحاج عبد الجواد، ثم وكيلا للسيد بعد وفاة أبيه، وظل على الوفاء للسيد بداع من العمل والحب معا؛ فهو يجله ويحبه كما يجله ويحبه جميع من يتصل به بسبب من أسباب العمل أو الصداقة. والحق لم يكن السيد مرهوبا مخوفا إلا بين أهله، أما بين سائر الناس من أصدقاء ومعارف وعملاء فهو شخص آخر، له حظه الموفور من المهابة والاحترام، ولكنه شخصية محبوبة قبل كل شيء، ومحبوبة لظرفها قبل أي من سجاياها الحميدة الكثيرة، فلا الناس يعرفون السيد الذي يقيم في بيته، ولا أهل البيت يعرفون السيد الذي يعيش بين الناس. وكان دكانه متوسط الحجم، مكدسة رفوفه وجنباته بجوالات البن والأرز والنقل والصابون، وعند ركنه الأيسر في قبالة المدخل يقوم مكتب السيد بدفاتره وأوراقه وتليفونه، وإلى اليمين من مجلسه تقوم الخزانة الخضراء داخل الجدار يوحي منظرها بالصلابة ويذكر لونها بالأوراق المالية. وفي منتصف الجدار فوق المكتب على إطار من الأبنوس نقشت بداخله البسملة مموهة بالذهب. ولم تكن عجلة الدكان تدور قبل الضحى. فجعل السيد يراجع حسابات اليوم السابق بمثابرة ورثها عن أبيه وحافظ عليها بحيويته الموفورة، على حين وقف الحمزاوي عند المدخل شابكا ذراعيه على صدره مواصلا تلاوة ما تيسر له من الآيات في صوت باطني غير مسموع دلت عليه حركة شفتيه المستمرة، ووسوسة خافتة تند من آن لآن عن أحرف السين والصاد، ولم يتوقف عن تلاوته حتى جاء شيخ ضرير رتبه السيد للقراءة كل صباح. وكان السيد يرفع رأسه من الدفتر في فترات متباعدة فيستمع إلى التلاوة، أو يمد بصره إلى الطريق حيث لا ينقطع تيار المارة وعربات اليد والكارو، وسوارس التي تكاد تترنح من كبرها وثقلها، والباعة المغنون وهم يترنمون بطقاطيق الطماطم والملوخية والبامية كل على مذهبه، ولم تكن الضوضاء لتحول بينه وبين تركيز ذهنه بعدما اعتادها وألفها أكثر من ثلاثين عاما، فاستنام إليها حتى ليزعجه سكوتها. ثم جاء زبون فشغل الحمزاوي به، وأقبل نفر من أصحاب السيد وجيرانه من التجار ممن يحبون أن يقضوا معه وقتا طيبا، ولو لزمن وجيز يتبادلون فيه التحية ويغيرون ريقهم - على حد تعبيرهم - على دعابة من دعاباته أو نكتة من نكاته، الأمر الذي جعله يفاخر بنفسه كمحدث فائق البراعة، لا يخلو حديثه من لمعات غير مقطوعة الصلة بالثقافة العامة التي اكتسبها، لا من التعليم حيث توقف فيه دون الابتدائية، ولكن من قراءة الصحف ومصادقة نخبة من الأعيان والموظفين والمحامين الذين أهله لمخالطتهم - مخالطة الند للند - حضور بديهته ولطفه وظرفه ومنزلته كتاجر موفور الرزق، فاستجد لنفسه عقلية غير العقلية التجارية المحدودة ضاعف من اعتزازه بها ما حباه أولئك الممتازون من حب واحترام وتكريم، ولما قال له أحدهم مرة في صدق وإخلاص: «لو أتيح لك يا سيد أحمد أن تدرس القانون لكنت محاميا مفوها نادر المثال.» نفخ قوله في خيلائه الذي يحسن مداراته بظرفه وتواضعه وحلو معاشرته. ولم يطل بأحد من الوافدين الجلوس فذهبوا تباعا، وتزايدت حركة العمل بالدكان، ثم فجأة دخل رجل مهرولا كأنما دفعته يد قوية، ووقف في منتصف الدكان وهو يضيق عينيه الضيقتين ليحد بصره، وسددهما صوب مكتب السيد، ومع أنه لم يكن يفصله عنه أكثر من ثلاثة أمتار، إلا أنه أجهده في معاينته بلا طائل، ثم هتف متسائلا: السيد أحمد عبد الجواد موجود؟
فقال السيد باسما: أهلا وسهلا بالشيخ متولي عبد الصمد، تفضل، حلت البركة ...
وعطف الرجل رأسه فصادف اقتراب الحمزاوي منه ليسلم عليه، ولكنه لم ينتبه ليده الممدودة وعطس على غير انتظار، فتراجع الحمزاوي وهو يخرج منديله وقد التقت في صفحة وجهه ابتسامة وتقطيبة، واندفع الشيخ إلى المكتب وهو يتمتم: «الحمد لله رب العالمين»، ثم رفع طرف عباءته ومسح به على وجهه، وجلس على الكرسي الذي قدمه السيد له، وبدا الشيخ في صحة يحسد عليها على سنه التي جاوزت الخامسة والسبعين، ولولا عيناه الكليلتان الملتهبتا الأشفار، وفوه المندثر، ما وجد ما يشكوه، وكان يتلفع بعباءة بالية ناصلة وإن أمكنه أن يستبدل بها خيرا منها بما يجود به المحسنون، ولكنه استمسك بها؛ لأنه - فيما يقول - رأى الحسين في منامه وهو يباركه فبث فيها خيرا لا يبلى، وكان إلى كراماته في قراءة الغيب والدعوات الشافية وعمل الأحجبة معروفا بالصراحة والظرف، وبه متسع للدعابة والمزاح مما زاد من قدره عند السيد خاصة، ومع أنه كان من سكان الحي، إلا أنه لم يثقل على أحد من مريديه بالزيارات، وربما توالت الأشهر وهو غائب لا يعلم له مكان، فإذا ألم بزيارة بعد انقطاع لاقى ترحابا وأشواقا وهدايا. وقد أشار السيد إلى وكيله ليعد للشيخ الهدية المعتادة من الأرز والبن والصابون، ثم قال للشيخ مرحبا: أوحشتنا يا شيخ متولي ... منذ عاشوراء لم نستمتع برؤيتك.
فقال الرجل ببساطة وبغير مبالاة: أغيب كما يحلو لي، وأحضر كما يحلو لي، ولا أسأل عن السبب.
فابتسم السيد الذي ألف أسلوبه وتمتم قائلا: إذا غبت أنت فإن بركتك لا تغيب.
فلم يبد على الشيخ أنه تأثر لإطرائه، وعلى العكس حرك رأسه حركة تدل على نفاد الصبر وقال بخشونة: ألم أنبه عليك أكثر من مرة بألا تفاتحني بالحديث، وأن تلزم الصمت حتى أتكلم أنا؟!
فقال السيد وبه رغبة في التحكك به: معذرة يا شيخ عبد الصمد، لئن كنت نسيت تنبيهك، فعذري أني أنسيته لطول غيابك.
فضرب الشيخ كفا بكف وهتف: عذر أقبح من ذنب ... (ثم منذرا بسبابته) إذا تماديت في مخالفتي امتنعت عن قبول هديتك!
فأطبق السيد شفتيه باسطا راحتيه استسلاما حاملا نفسه على الصمت هذه المرة، فتريث الشيخ متولي ليتأكد من دخوله طاعته، وتنحنح ثم قال: ابدأ بالصلاة على سيد الخلق الحبيب.
فقال السيد من الأعماق: عليه الصلاة والسلام. - وأثن على أبيك بما هو أهله، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، كأني به متخذا مجلسك هذا، لا فارق بين الأب وابنه إلا أن الراحل حافظ على العمامة، واستبدلت بها هذا الطربوش ...
فتمتم السيد مبتسما: فليغفر الله لنا.
فتثاءب الشيخ حتى دمعت عيناه، ثم استطرد قائلا: وأدعو الله أن يمن على أبنائك بالفلاح والتقوى؛ ياسين وخديجة وفهمي وعائشة وكمال وأمهم آمين.
ووقع نطق الشيخ باسمي خديجة وعائشة من أذني السيد موقعا غريبا على الرغم من كونه هو الذي أفضى إليه باسميهما منذ عهد طويل ليكتب لهما حجابين، وليست أول مرة ينطق الشيخ باسميهما، ولا آخر مرة، ولكن لم يكن يتردد اسم واحدة من حريمه بعيدا عن الحجرات - ولو على لسان الشيخ متولي - حتى يقع من نفسه موقعا غريبا ينكره ولو إلى حين. بيد أنه غمغم قائلا: آمين يا رب العالمين.
فتنهد الشيخ قائلا: ثم أسأل الله المنان أن يعيد إلينا أفندينا عباس مؤيدا بجيش من جيوش الخليفة لا يعرف له أول من آخر. - نسأله وليس شيء عليه بكثير.
فعلا صوت الشيخ وهو يقول غاضبا: وأن يمنى الإنجليز وأعوانهم بهزيمة منكرة فلا تقوم لهم بعدها قائمة. - ربنا يأخذهم جميعا.
فحرك الشيخ رأسه في أسى، وقال بحسرة: كنت بالأمس سائرا في الموسكي، فاعترض سبيلي جنديان أستراليان، وطالباني بما معي فما كان مني إلا أن نفضت لهما جيوبي، وأخرجت الشيء الوحيد الذي كان معي وهو كوز ذرة فتناوله أحدهما وركله كالكرة، وخطف الآخر عمامتي وحل الشال ومزقه ورمى به في وجهي.
وتابعه السيد وهو يغالب ابتسامة تراوده، فما لبث أن داراها بالمبالغة في إظهار استيائه صائحا في استنكار: قاتلهم الله وأهلكهم.
فأتم الرجل حديثه قائلا: رفعت يدي إلى السماء، وصحت: يا جبار مزق أمتهم كما مزقوا شال عمامتي. - دعوة مستجابة بإذن الله.
ومال الشيخ إلى الوراء وأغمض عينيه ليستريح قليلا، ولبث على حاله والسيد يتفرس في وجهه مبتسما، ثم فتح عينيه وخاطب السيد بصوت هادئ ونبرات جديدة تنذر بموضوع جديد، قائلا: يا لك من رجل شهم جميل المروءة يا أحمد يا بن عبد الجواد!
فابتسم السيد في رضا وقال بصوت خفيض: أستغفر الله يا شيخ عبد الصمد ...
فبادره الشيخ قائلا: لا تتعجل، إن مثلي لا يلقي الثناء إلا تمهيدا لقول الحق، على سبيل التشجيع يا بن عبد الجواد.
فلاح الاهتمام والحذر في عيني السيد وتمتم قائلا: ربنا يلطف بنا.
فأشار إليه بسبابته العجراء، وتساءل فيما يشبه الوعيد: ماذا تقول، وأنت المؤمن الورع، في ولعك بالنساء؟!
كان السيد معتادا لصراحته فلم ينزعج لانقضاضه، وضحك ضحكة مقتضبة، ثم قال: ما علي من ذاك، ألا يحدث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن حبه للطيب والنساء؟
فقطب الشيخ ومط بوزه محتجا على منطق السيد الذي لم يعجبه، وقال: الحلال غير الحرام يا بن عبد الجواد، والزواج غير الجري وراء الفاجرات.
فمد السيد بصره للاشيء وقال بلهجة جدية: ما ارتضت نفسي يوما أن تعتدي على عرض أو كرامة قط، والحمد لله على ذلك.
فضرب الشيخ ركبتيه بيديه وقال بغرابة وباستنكار: عذر ضعيف لا ينتحله إلا ضعيف، والفسق لعنة ولو يكن بفاجرة، كان أبوك رحمه الله مولعا بالنساء، فتزوج عشرين مرة فلماذا لا تنتهج سبيله وتتنكب طريق المعاصي؟!
فضحك السيد ضحكة عالية وقال: أأنت ولي من أولياء الله أم مأذون شرعي؟! كان أبي شبه عقيم فأكثر من التزوج، وبالرغم من أنه لم ينجب سواي، إلا أن عقاره تبدد بيني وبين زوجات أربع مات عنهن، إلى ما ضاع على النفقات الشرعية في حياته، أما أنا فأب لثلاثة ذكور وأنثيين، وما يجوز لي أن أنزلق إلى الإكثار من الزوجات فأبدد ما يسر الله علينا من رزق، ولا تنس يا شيخ متولي أن غواني اليوم هن جواري الأمس، واللاتي أحلهن الله بالبيع والشراء، والله من قبل ومن بعد غفور رحيم.
فتأوه الشيخ وقال وهو يهز نصفه الأعلى يمنة ويسرة: ما أبرعكم يا بني آدم في تحسين الشر! والله يا بن عبد الجواد لولا حبي لك ما باليت أن تحدثني وأنت قاعد على فاجرة ...
فبسط السيد راحتيه وقال باسما: اللهم استجب.
فنفخ الشيخ متبرما وهتف قائلا: لولا مزاحك لكنت أكمل الناس. - الكمال لله وحده.
فالتفت إليه وهو يشير بيده كأنه يقول «فلندع هذا جانبا»، ثم ساءله بلهجة المحقق الذي ضيق عليه الخناق: والخمر؟ ... ماذا تقول فيها؟!
وسرعان ما فترت روح السيد ولاح في عينيه الضيق ولزم الصمت مليا، وآنس الشيخ من صمته تسليما فصاح بظفر: أليست حراما لا يقارفه من يحرص على طاعة الله ومحبته؟
فبادره السيد قائلا في حماس من يدفع بلاء محققا: لشد ما أحرص على طاعة الله ومحبته! - باللسان أم بالعمل؟!
ومع أن الجواب كان حاضرا إلا أنه تمهل متفكرا قبل أن ينطق به. لم يكن من عادته أن يشغل نفسه بالتفكير الذاتي أو التأمل الباطني. شأنه في ذلك شأن الذين لا يكادون يخلون إلى أنفسهم، ففكره لا يعمل حتى يبعثه إلى العمل شيء خارجي، رجل أو امرأة أو سبب من أسباب حياته العملية، وقد استسلم لتيار حياته الزاخر مستغرقا فيه بكليته، فلم ير من نفسه إلا صورتها المنعكسة على سطح التيار، ثم لم يتراخ توثبه للحياة مع تقدم العمر؛ لأنه بلغ الخامسة والأربعين ولم يزل يتمتع بحيوية فياضة مشبوبة لا يتأثر بها إلا الشاب اليافع؛ لذلك جمعت حياته شتى المتناقضات التي تراوح بين العبادة والفساد، وحازت جميعا رضاه على تناقضها دون أن يدعم هذا التناقض بسند من فلسفة ذاتية أو تدبير مما يصطنع الناس من ألوان الرياء، ولكنه كان يصدر في سلوكه عن طبيعته الخاصة بقلب طيب وسريرة نقية وإخلاص في كل ما يفعل، فلم تعصف بصدره عواصف الحيرة، وبات قرير العين. وكان إيمانه عميقا، أجل كان إيمانا موروثا لا دخل للاجتهاد فيه، بيد أن رقة مشاعره ولطافة وجدانه وإخلاصه أضفت عليه إحساسا رهيفا ساميا نأى به عن أن يكون تقليدا أعمى، أو طقوسا مبعثها الرغبة أو الرهبة فحسب، وبالجملة كان أبرز ما يتميز به إيمانه بالحب الخصب النقي. بهذا الإيمان الخصب النقي أقبل يؤدي فرائض الله جميعا، من صلاة وصيام وزكاة في حب ويسر وسرور، إلى سريرة صافية وقلب عامر بحب الناس، ونفس تسخو بالمروءة والنجدة جعلت منه صديقا عزيزا يستبق القوم إلى الري من منهله العذب، وبتلك الحيوية الفياضة المشبوبة فتح صدره لمسرات الحياة ولذائذها، يهش للمأكل الفاخر، ويطرب للشراب المعتق، ويهيم بالوجه القسيم، فينهل منها جميعا في مرح وبهجة وولع، غير مثقل الضمير بإحساس خطيئة أو وسواس قلق، فهو يمارس حقا منحته إياه الحياة، وكأنما لا تعارض بين حق الحياة على قلبه وحق الله على ضميره، فلم يشعر في ساعة من حياته بأنه بعيد عن الله أو عرضة لنقمته، وآخاه في السلام. أكان شخصين منفصلين في شخصية واحدة؟! ... أم كان اعتقاده في السماحة الإلهية بحيث لا يصدق أنها تحرم هاتيك المسرات حقا، وحتى في حال تحريمها فهي حرية بأن تعفو عن المذنبين ما لم يؤذوا أحدا؟! الأرجح أنه كان يتلقى الحياة بقلبه وإحساسه دون ثمة تفكير وتأمل، وجد بنفسه غرائز قوية؛ يطمح بعضها لله فراضها بالعبادة، ويتحفز بعضها الآخر للذات فأرواها باللهو، وخلطها بنفسه جميعا آمنا مطمئنا، دون أن يشق على نفسه بالتوفيق بينها. لم يكن يضطر إلى تبريرها بفكره إلا تحت ضغط انتقاد كالذي جابهه الشيخ متولي عبد الصمد، وفي هذه الحال يجد نفسه أضيق بالتفكير منه بالتهمة نفسها، لا لأنه يهون عليه أن يكون متهما أمام الله، ولكن لأنه لا يصدق أبدا أنه متهم، أو أن الله يغضبه حقا أن يلهو لهوا لا يصيب أحدا بأذى، أما التفكير فكان يتعبه من ناحية ويكشف عن تفاهة علمه بدينه من ناحية أخرى؛ لذلك تجهم للسؤال الذي ألقاه الرجل عليه متحديا وهو: «باللسان أم بالعمل؟» وأجابه بلهجة لا يخفى فيها الضيق: باللسان والعمل معا، بالصلاة والصيام والزكاة، بذكر الله قائما وقاعدا، وما علي بعد ذلك إذا روحت عن نفسي بشيء من اللهو الذي لا يؤذي أحدا أو يغفل فريضة، وهل حرم محرم إلا لهذا أو ذاك؟
فرفع الشيخ حاجبيه وأغمض عينيه معلنا عن عدم اقتناعه ثم تمتم: يا له من دفاع في سبيل الباطل!
وتحول السيد فجأة من الضيق إلى المرح كعادته فقال بأريحية: الله غفور رحيم يا شيخ عبد الصمد، إني لا أتصوره عز وجل غاضبا أو متجهما أبدا، حتى انتقامه رحمة خافية، وإني أقدم بين يديه الحب والطاعة والبر، والحسنة بعشر أمثالها. - أما في حساب الحسنات فأنت رابح.
فأشار السيد إلى جميل الحمزاوي ليأتي بهدية الشيخ وهو يقول مسرورا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وجاءه الوكيل باللفة فأخذها السيد وقدمها إلى الشيخ وهو يقول ضاحكا: في صحتك.
فتناولها الشيخ وهو يقول: رزقك الله رزقا واسعا وغفر لك.
فغمغم السيد «آمين»، ثم سأله باسما: ألم تكن يوما من أهل ذلك يا سيدنا الشيخ؟
فضحك الشيخ قائلا: سامحك الله، أنت رجل كريم طيب القلب، وبهذه المناسبة أحذركم من التمادي في الكرم؛ فإنه لا يتفق وما يطالب به التاجر من القصد.
فتساءل السيد دهشا: أتغريني باسترداد الهدية؟
فنهض الرجل وهو يقول: هديتي لا تجاوز القصد، فابدأ بغيرها يا بن عبد الجواد، والسلام عليكم ورحمة الله.
وغادر الشيخ الدكان مهرولا وغاب عن الأنظار، ولبث السيد مفكرا، ومضى يدير في نفسه ما ثار من جدل بينه وبين الشيخ، ثم بسط راحتيه في ضراعة وتمتم : «اللهم اغفر لي ما تقدم وما تأخر من ذنب، اللهم إنك أنت الغفور الرحيم.»
8
عند العصر غادر كمال مدرسة خليل أغا يضطرب في تيار زاخر من التلاميذ الذين يسدون الطريق بزحمتهم، ثم يأخذون في التفرق، بعضهم إلى الدراسة، وبعضهم إلى السكة الجديدة، وآخرون إلى طريق الحسين، على حين تتحلق جماعات منهم حول الباعة المتجولين الذين يعترضون تياراتهم عند رءوس الطرقات المتفرقة عن المدرسة بما تحمل سلالهم من اللب والفول السوداني والدوم والحلوى، وإلى هذا فلا يخلو الطريق في هذه الساعة من معارك تنشب هنا وهناك بين تلاميذ اضطروا إلى كتمان خلافاتهم في أثناء النهار تفاديا من العقوبات المدرسية. وكانت المرات التي سيق فيها إلى الاشتباك في معركة نادرة جدا، ولعلها لم تعد المرتين طوال العامين اللذين قضاهما في المدرسة، لا لندرة خلافاته التي لم تكن نادرة في الواقع ولا لكراهية للعراك، فقد أورثه اضطراره إلى تجنبه أسفا عميقا، ولكن لتقدم الكثرة الغالبة من التلاميذ عليه في السن مما جعله هو وقلة من أترابه غرباء في المدرسة يتعثرون في بنطلوناتهم القصيرة بين تلاميذ طعنوا فيما بعد الخامسة عشرة، وكثيرون منهم ناهزوا العشرين، فشقوا طريقهم في صلف وكبرياء وقد طرت شواربهم. من هؤلاء من كان يتعرض له في فناء المدرسة بلا سبب، فيخطف الكتاب من يده ويقذفه بعيدا كالكرة، أو من يسلبه قطعة من الحلوى فيدسها في فمه بغير استئذان مواصلا ما كان فيه من حديث، فلم تكن الرغبة في العراك لتنقصه، ولكنه كظمها تقديرا للعواقب، وما لباها حتى دعاه إليها أحد أقرانه الصغار، فوجد الهجوم عليه متنفسا لعواطفه الثائرة المكبوتة واسترداده لثقته بقوته ونفسه. وليس العراك أو العجز عنه بأسوأ ما لاقى من وقاحة المعتدين، فإلى هذا ما كان يترامى إلى أذنيه، سواء كان المقصود به أم غيره، من الشتائم والسباب، منه ما فطن لمعناه فحذره، ومنه ما جهله فردده في البيت بحسن نية، فأثار به عاصفة من الثورة والفزع اتصلت أنباؤها في صورة شكوى لضابط المدرسة الذي كان صديقا لأبيه ، ولكن سوء الحظ وحده هو الذي قضى بأن يكون أحد غريميه في المعركتين الوحيدتين اللتين خاضهما من أسرة فتوات معروفة بالدراسة، فلما كان عصر اليوم التالي للمعركة، وجد الغلام في انتظاره عند باب المدرسة عصابة من الشبان مدججين بالعصي في هالة من شر مستطير، ولما أشار إليه غريمه ليدل عليه تنبه لحركته وأدرك ما يتربص به من خطر، فتراجع هاربا إلى المدرسة وهو يستغيث بالضابط، وعبثا حاول الرجل أن يصرف العصابة عن مقصدها، وأغلظوا له القول حتى اضطر إلى استدعاء شرطي ليوصل الغلام إلى داره، وزار الضابط السيد في دكانه وأنبأه بما يتهدد ابنه من شر ناصحا إياه بمعالجة الأمر بالحلم والكياسة، ولجأ السيد إلى بعض معارفه من تجار الدراسة فمضوا إلى بيت الفتوات مستشفعين له، وهنالك استعان السيد بما عرف عنه من سماحة نفس ورقة شمائل، حتى ألان عريكتهم فأصدروا عن الغلام عفوهم، بل وتعهدوا بحمايته كأحد أبنائهم، ولم ينته اليوم حتى بعث السيد بمن يحمل إليهم نفحة من هداياه، ونجا كمال من عصي الفتوات، ولكنه كان كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأن عصا أبيه فعلت بقدميه ما لم تكن لتفعله عشرات العصي.
غادر الغلام المدرسة، ومع أنه كان لرنين الجرس المؤذن بانتهاء اليوم الدراسي فرحة في نفسه لا تعادلها فرحة في تلك الأيام، إلا أن نسائم الحرية التي نشقها خارج بوابة المدرسة بصدر رحب لم تمح أصداء الدرس الأخير الحبيب - درس الديانة - من قلبه. وقد قرأ عليهم الشيخ ذلك اليوم سورة «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن» وشرحها لهم، فتركز فيه بوعيه، ورفع أصبعه أكثر من مرة سائلا عما أغلق عليه، ولما كان الأستاذ يعطف عليه لإقباله على الاستماع لدرسه باهتمام بارز، إلى حفظه للسور حفظا جيدا، فقد أوسع صدره لأسئلته بحال يندر أن يحظى بها أحد التلاميذ، وراح الشيخ يحدثه عن الجن وطوائفهم، وعن المسلمين منهم خاصة الذين سيظفرون بالجنة في النهاية أسوة بإخوانهم من البشر، وحفظ الغلام عن ظهر قلب كل كلمة نطق بها، ولم يزل يديرها في نفسه حتى هذه اللحظة التي يعبر فيها الطريق قاصدا دكان البسبوسة على الجانب الآخر، فإلى شغفه بالديانة كان يعلم أنه لا يتلقاها لنفسه فحسب، وأن عليه أن يعيد ما وعى منها في البيت على أمه - كما اعتاد أن يفعل مذ كان في الكتاب - فيلقي إليها بمعلوماته وتستعيد هي على ضوئها ما عندها من معلومات عرفتها عن أبيها الذي كان شيخا أزهريا، ويتذاكران معارفهما طويلا ثم يحفظها الجديد من السور التي لم يسبق لها حفظها. وانتهى إلى دكان البسبوسة فمد يده الصغيرة بالملاليم التي احتفظ بها منذ الصباح، ثم تناول القطعة في ارتياح شامل لا يشعر به إلا في مثل هذا الموقف اللذيذ، مما جعله يحلم كثيرا بأن يكون يوما صاحب دكان حلوى ليأكلها لا ليبيعها، ثم واصل سيره في شارع الحسين وهو يقضم منها مسرورا مترنما. نسي وقتذاك أنه كان سجينا النهار كله، وأنه كان محروما من الحركة فضلا عن اللعب والمرح، وأنه كان عرضة في أية لحظة لعصا المدرس المسلطة على الرءوس، بيد أنه رغم هذا كله لم يكره المدرسة كراهية مطلقة؛ لأنه كان يظفر بين جدرانها بأسباب من التقدير والتشجيع - بسبب تفوقه الذي يرجع كثير من الفضل فيه إلى شقيقه فهمي - لا يحظى بعشر معشارها عند أبيه. ومر في طريقه بدكان ماتوسيان لبيع السجائر، فوقف كعادته كل يوم في مثل هذه الساعة تحت لافتتها يصعد عينيه الصغيرتين إلى الإعلان الملون الذي يصور امرأة مضطجعة على ديوان وبين شفتيها القرمزيتين سيجارة يتطاير منها خيط دخان متعرج، معتمدة بساعدها على حافة نافذة يلوح وراء ستارتها المنحسرة منظر يجمع بين حقل نخيل ومجرى من مجريات النيل، وكان يدعوها فيما بينه وبين نفسه «أبلة عائشة» لما بين الاثنتين من شبه يتمثل في الشعر الذهبي والعينين الزرقاوين، ومع أنه كان يناهز العاشرة إلا أن إعجابه بصاحبة الصورة فاق كل تقدير، فكم تخيلها متمتعة بالحياة في أبهج مظاهرها، وكم تخيل نفسه وهو يقاسمها حياتها الرغيدة بين حجرة ناعمة، ومنظر ريفي متاح لها - لهما - أرضه ونخيله وماؤه وسماؤه، يسبح في الوادي الأخضر أو يعبر النهر في قارب بدا في نهاية الصورة كالطيف، أو يهز النخيل فيساقط عليه الرطب، أو يجلس بين يدي الحسناء طامح الطرف إلى عينيها الحالمتين. على أنه لم يكن جميلا كأخويه، ولعله كان أشبه الأسرة بأخته خديجة، فمثلها قد جمع في وجهه بين عيني أمه الصغيرتين وأنف أبيه الضخم ولكن بكامل هيئته لا مهذبا بعض التهذيب كما ورثته خديجة، إلى رأس كبير يبرز عند الجبهة بروزا واضحا، جعل عينيه تبدوان غائرتين أكثر مما هما في الواقع، وكان من سوء الحظ أن نبه إلى غرابة صورته بحال مثيرة للسخرية حين دعاه أحد الرفاق بأبي «رأسين»، فأهاج غضبه وأورطه في إحدى المعركتين اللتين خاضهما، ولم يسكن خاطره الانتقام فشكا في البيت حزنه إلى أمه التي تكدرت لكدره، وراحت تعزيه مؤكدة له أن كبر الرأس من كبر العقل، وأن النبي عليه السلام كان كبير الرأس، وأنه ليس وراء التشابه بين الرسول وبينه من مطمع لطامع. ولما انتزع نفسه من صورة المدخنة واصل سيره رانيا هذه المرة إلى جامع الحسين الذي قضت نشأته بأن يكون لقلبه مثار أخيلة وعواطف لا تنضب. ومع أن المكانة التي نزلها الحسين من نفسه - تبعا لمنزلته من نفس أمه خاصة والأسرة عامة - كانت وليدة قرابته من النبي، إلا أن معرفته للنبي وسيرته لم تكن شفيعا إلى معرفته بالحسين وسيرته، وما تهفو نفسه دائما إليه من استعادة هذه السيرة والتزود منها بأنبل القصص وأعمق الإيمان، حتى لقد وجدت منه على مر القرون مستمعا مشغوفا ومحبا مؤمنا وأسيفا بكاء، فلم يهون من بلواه إلا ما قيل من أن رأس الشهيد بعد فصله عن جسده الطاهر لم يرض من الأرض مسكنا إلا في مصر، فجاءها طاهرا مسبحا ثم ثوى حيث يقوم ضريحه. وكم وقف حيال الضريح حالما مفكرا، يود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على الوجه الجميل الذي أكدت له أمه أنه قاوم غير الدهر بسره الإلهي، فاحتفظ بنضارته ورونقه حيث يضيء ظلمة المثوى بنور غرته، ولما لم يجد إلى تحقيق أمنيته سبيلا قنع بمناجاته في وقفات طويلة، مفصحا عن حبه، شاكيا إليه متاعبه الناشئة من تصوراته عن العفاريت، وخوفه من تهديد أبيه مستنجدا به على الامتحانات التي تلاحقه كل ثلاثة أشهر، ثم خاتما مناجاته عادة بالتوسل إليه أن يكرمه بالزيارة في منامه. ومع أن عادة مروره بالجامع صباحا ومساء خففت بعض الشيء من شدة تأثره به، إلا أنه لم تكن تقع عليه عيناه حتى يقرأ له الفاتحة، ولو تكرر ذلك منه مرات في اليوم الواحد، أجل لم تستطع العادة أن تقتلع من صدره بهجة الأحلام، فلم يزل لمنظر الجدران السامقة تجاوبها مع قلبه، ولم يزل لمئذنته العالية نداء ما أسرع أن تلبيه نفسه. قطع طريق الحسين، وهو يقرأ الفاتحة، ثم انعطف إلى خان جعفر، ومنها اتجه إلى بيت القاضي، ولكنه بدلا من أن يمضي إلى البيت مخترقا النحاسين عبر الميدان إلى درب قرمز على وحشته وإثارته لمخاوفه ليتفادى من المرور بدكان أبيه. كان يرتعد فرقا من أبيه ولا يتصور أنه يخاف العفريت لو طلع له أكثر منه إذا زعق به غاضبا، وضاعف من كربه أنه لم يقتنع يوما بالأوامر الصارمة التي يلاحقه بها للحيلولة بينه وبين ما تصبو إليه نفسه من اللعب والمراح، فلو أنه أذعن لمشيئته مخلصا لقضى وقت فراغه كله متربعا مكتوف اليدين لذلك لم يسعه أن يطيع تلك المشيئة الجبارة العاتية، واختلس اللهو من وراء ظهره كلما حلا له، في البيت أو في الطريق، وظل الرجل على جهل بأمره إلا أن يبلغه منه شيء بوشاية من أهل البيت إذا ضاقوا بغلوه وإفراطه. من ذلك أنه جاء يوما بسلم وارتقاه إلى عرش اللبلاب والياسمين فوق السطوح، ورأته أمه وهو على تلك الحال بين السماء والأرض فصرخت فزعة حتى أجبرته على النزول، ثم غلب إشفاقها من مغبة لعبة خطيرة كتلك على خوفها عليه من شدة أبيه، فصرحت للسيد بما كان منه، وسرعان ما دعا به وأمره أن يمد قدميه وانهال عليهما بعصاه غير مبال بصراخه الذي ملأ البيت، وغادر الغلام الحجرة وهو يظلع ليجد إخوته في الصالة وهم يغالبون ضحكهم إلا خديجة التي حملته بين يديها هامسة في أذنه: «تستاهل ... كيف تعلو اللبلاب وتناطح السماء! أحسبت نفسك زبلن؟!» على أنه فيما عدا الألعاب الخطرة كانت أمه تتستر عليه وتبيح له ما يشاء من اللعب البريء. ولشد ما يعجب كلما ذكر كيف كان هذا الأب نفسه ظريفا لطيفا معه على عهد طفولته القريبة، وكيف كان يتسلى بمداعبته وكيف كان ينفحه من آن لآخر بألوان شتى من الحلوى، وكيف هون عليه يوم الختان - على فظاعته - فملأ حجره بالشوكولاتة والملبس وشمله بعطفه ورعايته، ثم ما أسرع أن تغير كل شيء فتبدل عطفه صرامة، ومناغاته زعقا، ومداعباته ضربا، حتى الختان نفسه اتخذه أداة لإرهابه حتى اختلط عليه الأمر ردحا من الزمن، فظن أنه من الممكن حقا أن يلحقوا ما تبقى له بما ذهب! وليس الخوف وحده الذي شعر به نحو أبيه فإجلاله له لم يكن دون خوفه منه، كان يعجب بمظهره العظيم القوي، ومهابته التي تعنو لها الهام، وأناقة ملبسه، وما يعتقده فيه من قدرة على كل شيء، ولعل حديث الأم عن سيدها هو الذي هوله عنده، فلم يتصور أنه يوجد في الدنيا رجل يضارعه في قوته أو إجلاله أو ثروته. أما عن الحب فقد كان كل من في البيت يحب الرجل لحد العبادة، فانسرب حبه إلى قلبه الصغير بإيحاء البيئة، بيد أنه ظل جوهرة مكنونة في حق مغلق من الخوف والرعب. مضى يقترب من قبو درب قرمز المظلم الذي تتخذه العفاريت مسرحا لألعابها الليلية، والذي آثره لنفسه طريقا عن المرور بدكان أبيه، وعندما دخل في جوفه راح يقرأ «قل هو الله أحد» بصوت مرتفع رن في الظلمة تحت السقف المنحني، وسبقته عيناه إلى فوهة القبو البعيدة حيث يشع نور الطريق، ثم حث خطاه وهو يردد السورة لطرد من تحدثه نفسه بالظهور من العفاريت، فالعفاريت لا سبيل لها على من يدرع بآيات الله، أما أبوه فلن يدرأ غضبه عنه إذا ثار أن يتلو كتاب الله كله. وخرج من القبو إلى الشطر الآخر من الدرب، وعند نهايته طالعه سبيل بين القصرين ومدخل حمام السلطان، ثم لاحت لعينيه مشربيات بيته بلونها الأخضر القاتم، والباب الكبير بمطرقته البرنزية، فافتر ثغره عن ابتسامة فرح لما يدخره له هذا المكان من أفانين المرح، فعما قليل يهرع الغلمان إليه من جميع البيوت المجاورة إلى فناء الدار الواسع، الذي يحوي عدة حجرات تتوسطها الفرن فيكون لعب ولهو وبطاطة. وفي تلك اللحظة رأى سوارس وهي تقطع الطريق على مهل متجهة إلى بين القصرين، فوثب قلبه وشاع فيه سرور ماكر، وما لبث أن دس حقيبة كتبه تحت إبطه الأيسر، وجرى وراءها حتى أدركها ثم وثب إلى سلمها الخلفي، ولكن الكمساري لم يتركه في سروره طويلا، فجاءه يطالبه بثمن التذكرة وهو يرمقه بنظرة تنم عن ريبة وتحد، فقال له متوددا إنه سيغادرها حالما تقف؛ لأنه لا يسعه النزول وهي سائرة، فتحول الرجل عنه إلى السائق، وهتف به أن يوقف العربة وهو يزمجر غاضبا، فانتهز الغلام فرصة تحوله عنه وشب على أمشاط قدميه وصفعه، ثم وثب إلى الأرض وانطلق هاربا وشتائم الكمساري تلاحقه أشد من الأحجار المطينة! ... لم تكن خطة مدبرة، ولا هي من مختار شطارته، ولكنه رأى غلاما يفعلها في الصباح فراقت له، ثم وجدها سانحة لإعادتها بنفسه ففعل.
9
واجتمعت الأسرة - ما عدا الأب - قبيل المغيب فيما يعرف بينها بمجلس القهوة، وكانت الصالة بالدور الأول مكانه المختار حيث تحيط بها حجرات نوم الإخوة والاستقبال ورابعة صغيرة أعدت للدرس، وقد فرشت الصالة بالحصر الملونة وقامت في أركانها الكنبات ذوات المساند والوسائد، وتدلى من سقفها فانوس كبير يشعله مصباح غازي في مثل حجمه. وكانت الأم تجلس على كنبة وسيطة وبين يديها مدفأة كبيرة دفنت كنجة القهوة حتى النصف في جمرتها التي يعلوها الرماد، وإلى يمينها خوان وضعت عليه صينية صفراء صفت عليها الفناجين، يجلس الأبناء حيالها سواء من يؤذن له باحتساء القهوة معها كياسين وفهمي، أو من لا يؤذن له بحكم التقاليد والآداب فيقنع بالسمر كالشقيقتين وكمال. تلك ساعة محببة إلى النفوس يستأنسون فيها إلى رابطتهم العائلية وينعمون بلذة السمر، وينضوون جميعا تحت جناح الأمومة في حب صاف ومودة شاملة. وبدت في جلساتهم راحة الفراغ وتحرره فكانوا بين متربع ومضطجع، وبينما جعلت خديجة وعائشة تستحثان الشاربين على الفراغ من شربهم لتقرآ لهم الطالع في فناجينهم، راح ياسين يتحدث حينا ويقرأ في قصة اليتيمتين من مجموعة مسامرات الشعب حينا آخر. كان من عادة الشاب أن يهب بعض فراغه لمطالعة القصص والأشعار، لا لإحساسه بنقص تعليمه - فالابتدائية وقتذاك لم تكن مطلبا صغيرا - ولكن غراما بالتسلية وولعا بالشعر والأساليب الجزلة. وقد بدا بجسمه المكتنز في جلبابه الفضفاض كقربة هائلة إلا أن مظهره لم يتعارض - بحكم الزمن - مع قسامة في وجهه الأسمر الممتلئ بعينيه السوداوين الجذابتين وحاجبيه المقرونين وشفتيه الشهوانيتين، ونم بجملته - رغم حداثة سنه الذي لا يجاوز الواحدة والعشرين - على رجولة مفعمة بالفحولة. ولبد كمال لصقه ليلتقط ما يرمي إليه بين آونة وأخرى من نوادر القصص، وهو لا يكف عن الاستزادة منها غير مكترث لما يحدثه إلحاحه على أخيه من الضيق كي يشبع أشواقا تشتعل بخياله في مثل هذه الساعة من كل يوم، ولكن ما أسرع أن يشغل عنه ياسين بالحديث أو بالاستغراق في المطالعة متفضلا عليه بين حين وآخر - كلما اشتد إلحاحه بكلمات مقتضبة إن وجد بها الجواب على بعض أسئلته، فما أحرى أن تستثير أسئلة جديدة لا جواب لها عنده، ثم لا يفتأ يرمق أخاه وهو آخذ في المطالعة التي تبيح له مفتاح العالم السحري بعين الحسد والحزن، فكم حز في نفسه عجزه عن قراءة القصة بنفسه، وكم أحزنه أن يجدها بين يديه بحيث يقلبها كيف شاء دون أن يسعه حل رموزها، فالولوج منها إلى دنيا الرؤى والأحلام، فقد وجد في هذا الجانب من ياسين مثارا لخياله هيأ له من ألوان المسرة ما هيأ، وهيج من أسباب الظمأ وعذابه ما هيج. وكثيرا ما كان يرفع عينيه إلى أخيه ويسأله في لهفة: «وماذا حدث بعد ذلك؟» فينفخ الشاب قائلا: «لا تضيق علي بأسئلتك ولا تتعجل حظك، فإن لم أقص عليك اليوم فغدا.» ولم يكن يحزنه شيء كاستنظاره للغد حتى اقترنت لفظة الغد في ذهنه بالحسرة، ولم يكن نادرا أن يتحول إلى أمه بعد تفرق المجلس وبه أمل أن تقص عليه ما «حدث بعد ذلك»، ولكن المرأة كانت تجهل قصة اليتيمتين وغيرها مما يقرأ ياسين، إلا أنها يعز عليها أن ترده خائبا فتروي له ما تحفظ من حكايات اللصوص والعفاريت، فيروغ خياله إليها رويدا ظافرا بزاد من العزاء. في مجلس القهوة ذاك لم يكن عجيبا أن يشعر بأنه ضائع مهمل بين أهله، لا يكاد يلتفت إليه أحد، وأنهم مشغولون عنه بأحاديثهم التي لا تنتهي. فلم يتورع عن الاختلاق في سبيل الاستئثار باهتمامهم ولو إلى حين، ولذلك رمى بنفسه في مجرى الحديث معترضا تياره بجرأة، وقال بلهجة حادة فجائية كانطلاق القذيفة كأنما تذكر أمرا خطيرا بغتة: يا له من منظر لا ينسى الذي رأيته اليوم وأنا عائد! ... رأيت غلاما يثب إلى سلم سوارس ثم صفع الكمساري وركض بأكبر سرعة، فما كان من الرجل إلا أن عدا وراءه حتى أدركه ثم ركله في بطنه بكل قوته ...
وقلب عينيه في الوجوه ليرى أثر حديثه، فلم يجد ثمة اهتماما ولمس إعراضا عن خبره المثير وتصميما على مواصلة الحديث، بل رأى يد عائشة تمتد إلى ذقن أمه وتحولها عنه بعد أن همت بالإصغاء إليه، ولمح إلى هذا ابتسامة هازئة ترتسم على شفتي ياسين الذي لم يرفع رأسه عن الكتاب، فركبه العناد وقال بصوت مرتفع: وسقط الغلام يتلوى وازدحم حوله الناس، فإذا به قد فارق الحياة ...
وأبعدت الأم الفنجان عن فمها وهتفت: يا ولداه! ... أتقول إنه مات؟
وسر باهتمامها وركز قوته فيها كما يركز المهاجم اليائس قوته في نقطة ضعيفة من سور منيع، فقال: أجل مات، ورأيت بعيني دمه وهو يسيل بغزارة.
وحدجه فهمي بنظرة ساخرة كأنها تقول له: «إني أذكر لك أكثر من قصة من هذا النوع» وقال متسائلا في تهكم: قلت إن الكمساري ركله في بطنه؟ ... فمن أين سال الدم؟!
وانطفأت شعلة الظفر التي تلألأت في عينيه مذ جذب أمه إليه، وحل محلها سهوم الارتباك والحنق، ولكن أسعفه الخيال فاستردت نظرة عينيه حيويتها وقال: لما ركله في بطنه سقط على وجهه فشج رأسه!
وهنا قال ياسين دون أن يرفع عينيه عن اليتيمتين: أو أن الدم سال من فيه؛ فالدم قد يسيل من الفم دون حاجة إلى جرح ظاهري، هنالك أكثر من تفسير لخبرك المكذوب - كالعادة - فلا تخف ...
واحتج كمال على تكذيب أخيه وراح يحلف بأغلظ الأيمان على صدقه، ولكن احتجاجه ضاع في ضجة من الضحك جمعت الغليظ والرفيع من حناجر الرجال والنساء في هارموني واحدة، وتحركت طبيعة خديجة الساخرة فقالت: ما أكثر ضحاياك، لو صدقت فيما تروي من أخبار لما أبقيت على أحد من أهل النحاسين حيا ... ماذا تقول لربنا لو حاسبك على أخبارك هذه؟!
ووجد في خديجة مهاجما يقدر عليه، وكعادته كلما ارتطم بسخريتها راح يعرض بأنفها قائلا: أقول له إن الحق على منخور أختي!
فقالت الفتاة وهي تضحك: من بعض ما عندكم، ألسنا في البلوى سواء!
وهنا قال ياسين مرة أخرى: صدقت يا أختاه.
وتحولت إليه متحفزة للانقضاض فبادرها قائلا: هل أغضبتك! ... لماذا! ... ليس إلا أنني جاهرت بالموافقة على رأيك ...
فقالت له حانقة: اذكر عيوبك قبل أن تعرض بعيوب الناس.
فرفع حاجبيه متظاهرا بالحيرة ثم تمتم: والله إن أكبر عيب ليهون إلى جانب هذا الأنف.
وتظاهر فهمي بالاستنكار ثم تساءل في نبرات وشت بانضمامه إلى المهاجمين: ماذا قلت يا أخي، أهو أنف أم جريمة؟
ولما كان فهمي لا يشترك في مثل هذا النضال إلا نادرا، فقد رحب ياسين بقوله في حماس وقال: هي الاثنان معا، فكر في المسئولية الجنائية التي سيتحملها من يقدم هذه العروس إلى عريسها المنكود!
وقهقه كمال ضاحكا بصوت كالصفير المتقطع ولم ترتح الأم إلى وقوع ابنتها بين كثرة من المهاجمين، فأرادت أن ترجع الحديث إلى أصله وقالت بهدوء: خرج بكم الكلام الفارغ عن موضوع الحديث، كان حديثا عن السيد كمال أصدق في أخباره أم لم يصدق، ولكن أظن أنه لا داعي إلى الشك في صدقه بعد أن حلف ... أجل كمال لا يحلف كذبا أبدا.
وباخ سرور الغلام الانتقامي لتوه، ومع أن إخوته واصلوا المزاح حينا آخر إلا أنه انقطع عنهم بروحه، متبادلا مع أمه نظرة ذات معنى، ثم خاليا بنفسه متفكرا في قلق وكدر. كان يدرك خطورة الحلف الكاذب فيما يثير من سخط الله وأوليائه، ويعز عليه جدا أن يحلف كذبا بالحسين خاصة لولهه به، ولكنه كثيرا ما وجد نفسه في مأزق حرج - كما وجد اليوم - لا مخرج منه في نظره إلا بالحلف الكاذب، فينساق وهو لا يدري إلى التورط فيه. بيد أنه لم يكن ينجو، خاصة إذا ذكر بجريرته، من الهم والقلق، ويود لو يقتلع الماضي السيئ من جذوره، وأن يبدأ صفحة جديدة نظيفة، وذكر الحسين، وموقفه عند أصل مئذنته حيث تتراءى وكأن هامتها تتصل بالسماء، وسأله في ضراعة أن يعفو عن زلته وهو يشعر بغضاضة من اجترأ على حبيب بإساءة لا تغتفر. وغرق في توسلاته مليا ثم أخذ يفيق إلى ما حوله ويفتح أذنيه إلى ما يدور من حديث فيه المعاد وفيه الجديد، وقليل منه ما يسترعي انتباهه، ولكنه لا يكاد يخلو من ترديد ذكريات منتزعة من ماضي الأسرة البعيد أو القريب، وأنباء مما يجري عن مسرات الجيران وأحزانهم، ومواقف حرجة للأخوين أمام أبيهما الجبار، تنبري خديجة إلى استعادة وصفها وتحليلها على سبيل الفكاهة أو الشماتة، ومن هذه وتلك نمت للغلام معرفة تبلورت في مخيلته على صورة غريبة تأثر تكوينها غاية التأثر بما تجاذب طرفيه من روح خديجة التهجمية العيابة، وروح أمه السمحة العفوة. وانتبه أخيرا إلى فهمي وهو يقول مخاطبا ياسين: إن هجوم هندنبرج الأخير شديد الخطورة، ولا يبعد أن يكون الهجوم الفاصل في هذه الحرب.
وكان ياسين يعطف على آمال أخيه، ولكن في هدوء متسم بقلة الاكتراث، تمنى مثله أن ينتصر الألمان وبالتالي الترك، وأن تسترد الخلافة سابق عزتها، وأن يعود عباس ومحمد فريد إلى الوطن، ولكن أمنية من هذه الأماني لم تكن لتشغل قلبه في غير أوقات الحديث عنها، وقد قال وهو يهز رأسه: مضى أربع سنوات ونحن نردد هذا الكلام.
فقال فهمي برجاء وإشفاق: لكل حرب نهاية، ولا بد أن تنتهي هذه الحرب، ولا أظن الألمان ينهزمون! - هذا ما ندعو الله أن يتحقق، ولكن ماذا يكون رأيك لو وجدنا الألمان كما يصفهم الإنجليز؟!
ولما كانت المعارضة تشعل حدته، فقد علا صوته وهو يقول: المهم أن نتخلص من كابوس الإنجليز، وأن تعود الخلافة إلى سابق عظمتها، فنجد طريقنا ممهدا ...
وتدخلت خديجة في الحديث متسائلة: ولماذا تحبون الألمان وهم الذين أرسلوا زبلن ليلقي قنابله علينا!
وراح فهمي يؤكد - كعادته - أن الألمان قصدوا الإنجليز بقنابلهم لا المصريين، فانتقل الحديث إلى مناطيد زبلن، وما يقال عن ضخامتها وسرعتها وخطورتها، حتى استوى ياسين في جلسته ونهض إلى حجرته ليرتدي ملابسه تمهيدا لمغادرة البيت إلى سهرته المعتادة، وعاد بعد فترة وجيزة وقد تهيأ وأخذ زينته، فتراءى أنيق الملبس، جميل المظهر، وبدا بجسمه الضخم وفحولته الناضجة وشاربه النابت أكبر من سنه كثيرا، ثم حياهم وانصرف وشيعه كمال بنظرة تنم عما يغبطه عليه من التمتع بحريته في انطلاق ساحر، فلم يغب عنه أن أخاه لم يعد يحاسب - منذ تعيينه كاتبا بمدرسة النحاسين - على ذهابه أو إيابه، وأنه يسهر كما يشاء ويعود حين يشاء، ما أجمل هذا وأسعده، وكم يكون إنسانا سعيدا لو ذهب وجاء كما يحب، ومد سهرته إلى حين يشاء، وقصر القراءة - حين تتم له أداتها - على الروايات والأشعار، ثم سأل أمه فجأة: أيمكنني إذا وظفت أن أسهر في الخارج كياسين؟
وابتسمت الأم قائلة: ليس السهر في الخارج بالغاية التي يصح أن تحلم بها من الآن!
فصاح محتجا: ولكن أبي يسهر، وياسين يسهر كذلك.
فرفعت الأم حاجبيها ارتباكا وتمتمت: شد حيلك أولا حتى تصير رجلا ثم موظفا، ووقتها يفرجها ربنا!
ولكن كمال بدا متعجلا فتساءل: ولماذا لا أتوظف بالابتدائية بعد ثلاثة أعوام؟
وصاحت خديجة في سخرية: تتوظف دون الرابعة عشرة! ... وماذا تصنع إذا بلت على نفسك في الوظيفة؟!
وقبل أن يعلن ثورته على أخته قال له فهمي بازدراء: يا لك من حمار! ... لماذا لا تفكر في دخول الحقوق مثلي؟ ... إن ظروف ياسين القاهرة هي التي جعلته يأخذ الابتدائية في العشرين من عمره، ولولاها لأتم تعليمه ... ألا تدري كيف تتمنى يا كسول!
10
عندما صعد فهمي وكمال إلى سطح البيت كانت الشمس على وشك الاختفاء، فلاحت قرصا أبيض مسالما تولت عنه حيويته وبردت حرارته وانطفأ توهجه، وقد بدا بستان السطح المسقوف باللبلاب والياسمين في ظلمة وانية، ولكن الشاب والغلام مضيا إلى شطر السطح الآخر، حيث لا يحجب فلول النور حجاب، ثم مالا إلى السور الملاصق لسور السطح المجاور، سطح الجيران. وكان فهمي يرقى بكمال إلى هذا الوضع كل مغيب بحجة مراجعة دروسه في الهواء الطلق على الرغم من أن جو نوفمبر أخذ يميل إلى البرودة في هذه الساعة من اليوم، وأوقف الغلام بحيث جعل ظهره إلى السور، ووقف هو لقاءه، بحيث أمكنه أن يمد بصره إلى سطح الجيران الملاصق دون تلفت كلما بدا به. وهناك بين حبال الغسيل لاحت فتاة - شابة في العشرين أو نحو ذلك - وقد انهمكت في جمع قطع الثياب الجافة وتكديسها في سلة كبيرة. ومع أن كمال راح يتكلم بصوت مرتفع كعادته إلا أنها واصلت عملها وكأنها لم تنتبه إلى مجيء الطارئين. أمل كان يجيء به دواما في مثل هذه الساعة لعله يفوز منها بنظرة إذا اتفق ودعاها إلى السطح بعض شأنها، ولم يكن تحقيقه يسيرا كما دل تورد وجهه الناطق بفرط سروره، وخفقان قلبه المتتابع ببهجة مفاجئة، فجعل ينصت إلى أخيه الصغير بعقل تائه وعينين أقلقهما استراق النظر، وهي تتراءى تارة وتحتجب أخرى، أو يبدو بعضها ويغيب بعضها، كيفما اتفق موقفها من الثياب والملاءات المنشورة ... كانت فتاة متوسطة القامة صافية البشرة مع ميل إلى البياض، سوداء العينين، تنطق مقلتاها بنظرة تفيض حياة وخفة وحرارة ، إلا أن جمالها وعاطفته المتوثبة وإحساسه بالظفر لرؤيتها لم تستطع أن تمحو القلق الذي يدب وراء قلبه - وانيا حين حضورها، ثم قويا إذا خلا إلى نفسه - لجرأتها على التعرض لعينيه كأنه ليس بالرجل الذي ينبغي أن تتوارى فتاة مثلها عن عينيه، أو كأنها فتاة لا تبالي التعرض للرجال، وطالما ساءل نفسه ما بالها لا تفزع مولية كخديجة أو عائشة لو وجدت إحداهما نفسها في مثل موقفها! أي روح عجيب يشذ بها عن التقاليد المرعية والآداب المقدسة! وألا يكون أهدأ جانبا لو بدا منها ذاك الاحتشام المفتقد، ولو على حساب سروره الذي يفوق الوصف برؤيتها؟! ... بيد أنه دأب على انتحال الأعذار لها من قدم الجوار ووحدة النشأة، وربما الوداد أيضا. ثم لا يفتأ وراء نفسه يحاورها ويجادلها حتى تشجع وترضى. ولما لم يكن جريئا كجرأتها فقد جعل يختلس من الأسطح المجاورة النظر ليطمئن إلى خلوها من الرقيب؛ لأنه لم يكن مما يغض الطرف عنه أن يجرح شاب في الثامنة عشرة حرمة الجيران، وخاصة من كان منهم في طيبة جارهم السيد محمد رضوان؛ ولهذا أقلقه دائما شعوره بخطورة فعلته، وخوفه من أن يترامى نبؤها إلى أبيه فتكون الطامة، ولكن استهانة الحب بالمخاوف عجب قديم فلم يقدر شيء منها على إفساد نشوته، أو انتزاعه من حلم ساعته، فمضى يراقبها وهي تبدو أو تختفي حتى خلا ما بينه وبينها، وباتت تواجهه ويداها الصغيرتان ترتفعان وتنخفضان وأصابعها تنقبض وتنبسط على مهل وتؤدة، كأنها تتعمد إطالة عملها، وحدس قلبه ذاك التعمد وهو بين الشك والتمني ولكنه لم يقتصد في الانطلاق مع فرحته إلى أبعد الآفاق حتى استحال باطنه رقصا وأنغاما، ومع أنها لم ترفع عينيها إليه قط إلا أن هيئتها وتورد وجنتيها وتحاميها النظر إليه نمت جميعا عن شدة إحساسها بوجوده أو انعكاس وجوده على إحساسها. وبدت في هدوئها وصمتها موفورة الرزانة كأنها ليست هي هي التي تشيع الفرح والبهجة في بيته إذا زارت شقيقتيه، أو ليست هي هي التي يعلو صوتها في جنبات الدار وترن ضحكاتها، هنالك يقبع وراء باب حجرته وكتابه في يده استعدادا للتظاهر بالاستذكار إذا طرقه طارق، ويروح يستقبل بوعيه المركز أنغامها الناطقة والضاحكة بعد استخلاصها من أصوات الآخرين الملابسة لها التي لا يكاد يشعر بها كأنما وعيه مغناطيس يجذب إليه الصلب وحده من بين أخلاط شتى، وربما لحظ بعضا منها وهو يعبر الصالة، وربما التقت عيناهما في لمحة خاطفة ولكنها كافية لإسكاره وإذهاله كأنه تلقى بها رسالة خطيرة دار رأسه بخطورتها، وملأ بنظراته المسترقة من وجهها عينيه وروحه، فعلى الرغم من أنها كانت مسترقة خاطفة إلا أنها مستأثرة بروحه وإحساسه، فكانت شديدة النفاذ والقوة تأتي النظرة منها بما لا يستطيعه النظر الطويل والسبر العميق، كأنها انبثاق البرق الذي يتوهج لحظة قصيرة، فتضيء شرارته الرحاب وتخطف الأبصار، وثمل قلبه بسرور مسكر عجيب، ولكنه لم يخل - كحاله أبدا - من ظل أسى يتبعه كما تتبع رياح الخمسين مشرق الربيع؛ لأنه لم يكن يكف عن التفكير في الأربعة الأعوام التي يتم تعليمه فيها، والتي لا يدري كم من يد قد تمتد في أثنائها إلى الثمرة الناضجة لتقطفها. ولو كان جو البيت غير هذا الجو الخانق الذي تشد على عنقه قبضة أبيه الحديدية، لأمكنه أن يلتمس إلى سلام قلبه أقصر السبل، ولكنه خاف دائما أن ينفس عن آماله فيعرضها لزجرة من أبيه قاسية تطيرها وتبددها. وتساءل وهو يمد بصره فوق رأس أخيه: ترى أي أفكار تدور برأسها؟ ألا يشغله حقا إلا ما تجمع من قطع الملابس؟ ... ألم تشعر بعد بما يجذبه إلى موقفه هذا مساء بعد مساء؟ ... وكيف يلقى قلبها هذه الخطى الجريئة من ناحيته؟ ... وتخيل نفسه متخطيا سور السطوح إلى مكانها في الظلام، وتخيلها على أطوار شتى تارة تنتظره على ميعاد، وتارة تباغت بمقدمه حتى تهم بالفرار، ثم تصور ما يكون بعد ذلك وما يند عنه من بوح وشكوى وعتاب، ثم ما قد يستتبعه هذا أو ذاك من عناق وقبل، بيد أنها كانت محض تخيلات وأوهام، وكان أدرى الناس - بما جبل عليه من دين وآداب - ببطلانها ومحالها. وبدا الموقف صامتا إلا أنه كان صمتا مكهربا يكاد ينطق بغير لسان، وحتى كمال لاحت في عينيه الصغيرتين نظرة حائرة كأنه يسائل نفسه عن معنى هذا الجد الغريب، الذي يثير استطلاعه على غير جدوى، ثم نفد صبره فرفع صوته قائلا: لقد حفظت الكلمات، ألا تسمعها لي؟
وأفاق فهمي على صوته، فتناول الكراسة منه ومضى يسأله عن معاني الكلمات والآخر يجيب حتى وقعت عيناه على كلمة عزيزة وجد بينها وبين ما كان فيه سببا، وأي سبب فرفع صوته عمدا وهو يسأله عن معناها قائلا: قلب؟
وأجاب الغلام وتهجى والآخر يتلمس أثر موقع الكلمة من وجهها، ثم رفع صوته مرة أخرى متسائلا: حب؟
وارتبك كمال قليلا ثم قال بصوت يدل على الاعتراض: ليست هذه الكلمة في الكراسة ...
قال فهمي باسما: ولكني ذكرتها لك مرارا، وكان يجب أن تحفظها!
وقطب الغلام كأنه يشد قوس حاجبيه لاصطياد الكلمة الهاربة، ولكن أخاه لم ينتظر نتيجة محاولته وواصل امتحانه بنفس الصوت المرتفع قائلا: زواج.
وخيل إليه عند ذاك أنه لمح على شفتيها شبه ابتسامة، فتوالت ضربات قلبه في سرعة وحرارة، وملأه شعور بالظفر؛ لأنه أمكنه أخيرا أن ينقل إليها شحنة من الكهرباء التي تستعر في صدره، بيد أنه تساءل لماذا يا ترى لم تفصح عن تأثرها إلا عند هذه الكلمة، ألأنها استنكرت سابقتها أم أن الأخيرة كانت أول ما وعت أذناها؟! ... وما يدري إلا وكمال يقول محتجا بعد أن أعياه التذكر: هذه الكلمات صعبة جدا ...
وآمن قلبه بقولة أخيه البريئة، وذكر على ضوئها حاله ففترت فورة سروره أو كادت، وهم بالكلام ولكنه رآها انحنت على السلة ثم حملتها واتجهت نحو السور الملاصق لسطح بيته، ووضعتها عليه وراحت تضغط الغسيل براحتيها، قريبة من موقفه لا يفصلها عنه إلا ذراعان، ولو شاءت لاختارت موضعا آخر من السور ولكن كأنها تعمدت أن تتصدى له وجها لوجه، فبدت في هجومها جريئة لحد أخافه وأربكه، وإن عاود قلبه الخفقان السريع الحار، حتى شعر بأن الحياة تبيح له من كنوزها لونا جديدا لم يدره، لطيفا بهيجا مفعما حيوية وأفراحا، ولكن وقفتها القريبة لم تطل فما لبثت أن رفعت السلة بين يديها، واستدارت مولية صوب باب السطح حتى مرقت منه وغابت عن ناظريه، وجعل ينظر إلى الباب مليا دون مبالاة بأخيه الذي عاود التشكي من صعوبة الكلمة، ثم شعر برغبة في الانفراد لتملي ما استجد من تجارب الهوى، فقلب عينيه في الفضاء في تظاهر بالدهشة كأنما يتنبه إلى الظلمة الزاحفة في الأفق لأول مرة، وتمتم قائلا: آن لنا أن نعود ...
11
وكان كمال يستذكر دروسه في الصالة تاركا حجرة الاستذكار لفهمي وحده؛ ليكون غير بعيد عن مجلس أمه وأختيه. وكان ذلك المجلس امتدادا لمجلس القهوة، إلا أنه يقتصر على النسوة وحديثهن الخاص الذي يجدن فيه على تفاهته متعة لا تدانيها متعة، وقد جلسن كعادتهن متلاصقات كأنهن جسم واحد ذو رءوس ثلاثة في حين تربع كمال على كنبة أخرى قبالتهن فاتحا كتابه في حجره يقرأ فيه حينا، ويغمض عينيه ليحفظ عن ظهر قلب حينا آخر، ويتسلى بين هذا وذاك بالنظر إليهن والإصغاء لحديثهن. ولم يكن فهمي يوافق على استذكاره لدروسه بعيدا عن مراقبته إلا على كره، ولكن تفوق الغلام في المدرسة شفع له في اختيار المكان الذي يحب أن يستذكر فيه. والحق كان اجتهاده فضيلته الوحيدة التي تحمد له، ولولا شقاوته لاستحق عليها تشجيع أبيه نفسه، ولكنه على اجتهاده وتفوقه كانت تلم به ساعات ملل فيضيق بالعمل والنظام، حتى ليغبط أمه وأختيه على خلو بالهن وما يحظين به من راحة وسلام، وربما تمنى فيما بينه وبين نفسه لو كان حظ الذكور في هذه الدنيا كحظ النساء، إلا أنها كانت ساعات عابرة فلم تستطع أن تنسيه ما يتمتع به من مزايا دعته في أحايين كثيرة إلى التطاول عليهن بالفخر والمباهاة لداع ولغير ما داع، فلم يكن من النادر أن يسألهن وفي صوته رنة التحدي: «من منكن تعرف عاصمة الكاب؟» أو «ما معنى شاب بالإنجليزية؟» فيجد من عائشة صمتا لطيفا على حين تقر له خديجة بجهلها ثم تعرض به قائلة: «ليس لهذه الطلاسم إلا من كان له رأس كرأسك!» أما أمه فتقول له في إيمان ساذج: «لو علمتني هذه الأشياء كما تعلمني الديانة لما قصرت فيها دونك.» ذلك أن أمه - على استكانتها ورقتها - كانت شديدة الاعتزاز بثقافتها الشعبية المتوارثة عن أجيال متعاقبة منذ القدم، ولم تكن تظن أنها بحاجة إلى مزيد من العلم أو أنه استجد من العلم ما يستحق أن يضاف إلى ما لديها من معارف دينية وتاريخية وطبية، وضاعف من إيمانها بها أنها تلقته عن أبيها أو في بيته الذي نشأت فيه، وكان الأب شيخا من العلماء الذين فضلهم الله - لحفظهم القرآن - على العالمين. فلم يكن معقولا أن تعدل بعلمه علما ولو لم تجهر برأيها إيثارا للسلامة؛ ولهذا كثيرا ما أساءت الظن ببعض ما يقال للأبناء في المدارس، ووجدت ثمة حيرة شديدة سواء في تفسيره أو في السماح بتلقينه للناشئين، بيد أنها لم تعثر باختلاف يذكر بين ما يقال للغلام في المدرسة عن أمور الدين وبين ما لديها منها، ولما كان الدرس المدرسي لا يكاد يتسع إلا لقراءة السور وتفسيرها، وتبين المبادئ الدينية الأولية، فقد وجدت متسعا لقص ما عندها من أساطير لا تنفصل في اعتقادها عن حقيقة الدين وجوهره، بل لعلها رأت فيها دائما حقيقة الدين وجوهره، وجلها معجزات وكرامات عن النبي والصحابة والأولياء، وتعاويذ شتى للوقاية من العفاريت والزواحف والأمراض فصدقها الغلام وآمن بها؛ لأنها صادرة عن أمه من ناحية، ولأنها جديدة في موضوعها فلم تتعارض مع معارفه الدينية المدرسية من ناحية أخرى. وفضلا عن هذا وذاك فلم تكن عقلية مدرس الديانة - كما تتكشف في تبسطه في الحديث أحيانا - لتختلف عن عقلية أمه كثيرا أو قليلا، ثم أنه شغف بالأساطير شغفا لم يظفر بمثله في الدروس الجافة، فكان درس أمه من أسعد ساعات اليوم وأحفلها بالمتعة والخيال. أما فيما عدا الدين فلم يكن النزاع نادرا إذا تهيأت أسبابه، من ذلك أنهما اختلفا مرة عن الأرض، وهل هي تدور حول نفسها في الفضاء أو تنهض على رأس ثور، ولما وجدت من الغلام إصرارا تراجعت متظاهرة بالتسليم، ولكنها تسللت إلى حجرة فهمي وسألته عن حقيقة الثور الذي يحمل الأرض، وهل ما زال على عهده بحملها. ورأى الشاب أن يترفق بها ويجيبها باللغة التي تحبها، فقال لها إن الأرض مرفوعة بقدرة الله وحكمته. وعادت المرأة قانعة بهذا الجواب الذي سرها، وإن لم يمح من مخيلتها ذاك الثور الكبير. على أن كمال لم يؤثر هذا المجلس لاستذكاره رغبة منه في الفخر بعلمه أو حبا في النزاع الفكري، كان في الحق يحب بكل قلبه ألا يفارقهن ولو في وقت عمله، وكان يجد لمرآهن سرورا لا يعادله سرور؛ فهذه الأم يحبها أكثر من أي شيء في الدنيا ولا يحتمل تصور الوجود بدونها لحظة واحدة، وهذه خديجة وهي تلعب في حياته دور أم أخرى رغم سلاطة لسانها ووخز مزاحها، وهذه عائشة التي وإن لم تتحمس يوما لخدمة إنسان إلا أنها أحبته حبا عظيما، فبادلها حبا بحب حتى كان لا يشرب جرعة الماء من القلة، إلا إذا دعاها للشرب قبله ليضع شفتيه موضع شفتيها المبتل بريقها. ومضت الجلسة كما تمضي كل ليلة حتى قاربت الساعة الثامنة، فقامت الفتاتان وودعتا أمهما وذهبتا إلى حجرة نومهما، وعند ذاك عجل الغلام بقراءة درسه حتى فرغ منه، ثم تناول كتاب الديانة وانتقل إلى جانب أمه على الكنبة المقابلة له وهو يقول لها بصوت ينم عن الإغراء: استمعنا اليوم إلى تفسير سورة عظيمة ستعجبك جدا.
فاستوت المرأة في جلستها وهي تقول باحترام وإجلال: كلام ربنا عظيم كله.
وسره اهتمامها وهزه شعور بالغبطة والعزة لا يجده إلا حين هذا الدرس الأخير من اليوم. أجل كان يجد في هذا الدرس الديني أكثر من سبب للسعادة، فإنه يقوم في أثناء نصفه على الأقل بدور المدرس، ويحاول ما استطاع أن يستعيد ما يعلق بذاكرته من هيئة مدرسه وحركاته وما يتمثله فيه من إحساس بالاستعلاء والقوة، وإنه يستمتع في نصفه الآخر بما تلقيه عليه أمه من ذكريات وأساطير، وإنه يستأثر وحده في شطريه بأمه دون شريك. ونظر كمال في الكتاب فيما يشبه الإدلال ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا
حتى أتم السورة، ولاح في عيني الأم التردد والحيرة؛ إذ كانت تحذره من التفوه باسمي العفريت والجن درءا لشرور تذكر بعضها على سبيل التخويف، وتمسك عن البعض إشفاقا ومبالغة في الحيطة، فلم تدر كيف تتصرف وهو يتلو أحد الاسمين الخطيرين في سورة شريفة، بل لم تدر كيف تحول بينه وبين حفظها، أو ماذا تفعل لو دعاها كالمعتاد إلى حفظها معه. وقرأ الغلام في وجهها هذه الحيرة فداخله سرور ماكر، وجعل يبدأ ويعيد ضاغطا على مخارج الاسم الخطير وهو يلحظ حيرتها متوقعا أن تفصح أخيرا عن إشفاقها في لون من ألوان الاعتذار، ولكنها على شديد حيرتها لاذت بالصمت فمضى يعيد عليها التفسير كما سمعه حتى قال: ها أنت ترين أن من الجن من استمع إلى القرآن وآمن به، فلعل سكان بيتنا من هؤلاء الجن المسلمين، وإلا ما أبقوا علينا طوال هذا العمر.
فقالت المرأة في شيء من الضيق: لعلهم ... ولكن من الجائز أن يكون بينهم غيرهم، فيحسن بنا ألا نردد أسماءهم! - لا خوف من ترديد الاسم ... هكذا قال مدرسنا.
فحدجته المرأة بنظرة عتاب وقالت: المدرس لا يعرف كل شيء! - وإن كان الاسم ضمن آية شريفة؟
وشعرت حيال تساؤله بقهر ولكنها لم تجد بدا من أن تقول: كلام ربنا بركة كله.
واقتنع كمال بهذا القدر، ثم واصل حديثه عن التفسير قائلا: ويقول شيخنا أيضا إن أجسامهم من نار!
وبلغ بها القلق غايته فاستعاذت بالله وبسملت عدة مرات، أما كمال فاستطرد قائلا: وسألت الشيخ: هل يدخل المسلمون منهم الجنة؟ فقال: نعم، فسألته مرة أخرى: كيف يدخلونها بأجسام من نار؟ فأجابني بحدة قائلا: إن الله قادر على كل شيء ... - جلت قدرته.
فرنا إليها باهتمام ثم تساءل: وإذا التقينا بهم في الجنة ألا تحرقنا نارهم؟!
فابتسمت المرأة وقالت في ثقة وإيمان: ليس فيها أذى أو خوف.
وسرح الغلام بعينيه حالما وإذا به يسأل مغيرا مجرى الحديث فجأة: أنرى الله في الآخرة بأعيننا؟
قالت المرأة بنفس الثقة والإيمان: هذا حق لا ريب فيه.
فلاحت في نظرته الحالمة أشواق كما تلوح في الغلس بتأثير الضياء، وساءل نفسه: متى يرى الله، وفي أي صورة يتبدى؟ وإذا به يسأل أمه مغيرا مجرى الحديث فجأة مرة أخرى: أيخاف أبي الله؟!
فتولتها الدهشة وقالت في إنكار: يا له من سؤال غريب! ... أبوك رجل مؤمن يا بني، والمؤمن يخاف ربه.
فهز رأسه في حيرة وقال بصوت خفيض: لا أتصور أن أبي يخاف شيئا.
فهتفت المرأة في عتاب: سامحك الله ... سامحك الله ...
واعتذر عن قوله بابتسامة رقيقة، ثم دعاها إلى حفظ السورة الجديدة، وراحا يتلوانها آية آية ويعيدان. ولما استفرغا جهدهما نهض الغلام ليذهب إلى حجرة النوم فتبعته، حتى اندس تحت الغطاء على فراشه الصغير، ثم وضعت راحتها على جبينه وتلت آية الكرسي، وانحنت فوقه وطبعت قبلة على خده، فأحاط عنقها بذراعه ورد بقبلة طويلة صادرة من أعماق قلبه الصغير. وكانت تلقى دائما صعوبة في التخلص منه عند توديعه مساء؛ لأنه كان يبذل كل حيلته ليستبقيها إلى جانبه أطول مدة ممكنة إن لم يفز باستبقائها، حتى يغيب في نومه وهو بين ذراعيها، ولم يجد وسيلة لبلوغ غايته خيرا من أن يطلب إليها أن تتلو على رأسه - إذا ختمت آية الكرسي - سورة ثانية ثم ثالثة، حتى إذا آنس منها ابتسامة اعتذار توسل إليها معتلا بخوفه من وحدته في الحجرة، أو بما يتراءى له به من أحلام مزعجة لا تدفعها إلا تلاوة طويلة للسور الشريفة، وربما تمادى في تشبثه بها إلى حد تصنع المرض، غير واجد في تحايله هذا جورا، بل رآه عن يقين ممارسة منقوصة لحق من حقوقه المقدسة التي هضمت أفظع الهضم يوم فصل عن أمه ظلما وعدوانا، وجيء به إلى هذا الفراش المفرد بحجرة أخويه. كم يذكر مع الحسرة عهدا غير بعيد من ماضيه حين مضجعهما كان واحدا، وحين ينام متوسدا ذراعها وهي تسكب في أذنه بصوتها الرقيق قصص الأنبياء والأولياء، وحين النوم يغشاه قبل رجوع أبيه من سهرته، وينحسر عنه بعد نهوض الرجل إلى الحمام، فلم يكن يرى مع أمه ثالثا، وكانت الدنيا له بلا شريك. ثم بقضاء أعمى لم يدر له حكمة فرقوا بينهما، وتطلع إليها ليرى أثر نفيه في نفسها فما عجب إلا بتشجيعها الموحي بموافقتها وتهنئتها له قائلة: «الآن صرت رجلا فمن حقك أن يفرد لك فراش خاص.» من قال إنه يسره أن يكون رجلا، أو أنه يطمح إلى أن يفرد له فراش خاص؟! ومع أنه بلل أول وسادة خاصة له بدمعه، ومع أنه أنذر أمه بأنه لن يعفو عنها مدى الحياة، إلا أنه لم يجرؤ على التسلل إلى مضجعه القديم؛ لأنه كان يعلم أن وراء تلك الحركة الجائرة الغادرة تجثم إرادة أبيه التي لا ترد، ولشد ما حزن حتى رسبت عكارة الحزن في أحلامه، ولشد ما حنق على أمه - لا لأنه لم يسعه أن يحنق على أبيه فحسب - ولكن لأنها كانت آخر من يتصور أن يخيب عنده الأمل، بيد أنها عرفت كيف تسترضيه وترده إلى الصفاء رويدا ودأبت على ألا تفارقه بادئ الأمر حتى يوافيه النوم، وجعلت تقول له: «لم نفترق كما تزعم، ألست ترانا معا؟ وسنبقى دائما معا، لن يفرق بيننا إلا النوم الذي كان يفرق بيننا ونحن في فراش واحد.» والآن لم تعد تطفو على شعوره حسرة مما تخلف عن تلك الذكرى، واستنام إلى حياته الجديدة، بيد أنه لم يكن يدعها تذهب حتى يستنفد الحيل لاستبقائها إلى جانبه أطول مدة ممكنة، وقد قبض على راحتها في حرص شديد كما يقبض الطفل على لعبته بين أطفال يتخاطفونها. وراحت هي تتلو الآيات على رأسه حتى غافله الكرى، فودعته بابتسامة رقيقة وغادرت الحجرة، واتجهت إلى الحجرة التالية ففتحت بابها بخفة، ونظرت صوب فراش لاح شبحه في جانبها الأيمن وتساءلت في رقة: «نمتما؟» فجاءها صوت خديجة وهي تقول: كيف يتأتى لي النوم وشخير ست عائشة يملأ علي الحجرة؟!
ثم سمع صوت عائشة وهي تقول في نبرات ناعسة: ما سمع أحد لي شخيرا قط، ولكنها لا تدعني أنام بثرثرتها المتواصلة.
فقالت الأم في عتاب: أين وصيتي لكما بأن تكفا عن هذركما وقت النوم!
وردت الباب وسارت إلى حجرة الاستذكار، فطرقت بابها بخفة ثم فتحته وأدخلت رأسها وهي تقول باسمة: أفي حاجة إلى خدمة يا سيدي الصغير؟
فرفع فهمي رأسه عن الكتاب وشكرها مشرق الوجه بابتسامة لطيفة، فردت الباب وابتعدت عنه، وهي تدعو لفتاها بالفلاح وطول العمر، ثم عبرت الصالة إلى الدهليز الخارجي، وارتقت السلم إلى الدور الأعلى، حيث توجد حجرة نوم السيد وصوتها يسبقها تاليا الآيات.
12
لما غادر ياسين البيت كان يدري بطبيعة الحال وجهته التي يقصد مساء بعد مساء، ولكنه بدا - كعادته دائما إذا مشى في الطريق - وكأنه لا وجهة له. كان شأنه إذا سار أن يسير متمهلا في هوادة ورفق، مختالا في عجب وزهو، كأنه لا يغفل لحظة واحدة عن أنه صاحب هذا الجسم العظيم، وهذا الوجه الفائض حيوية وفحولة، وهذه الملابس الأنيقة الآخذة حظها - وأكثر - من العناية، إلى منشة عاجية لا تفارق يده صيفا أو شتاء، وطربوش طويل مائل يمنة حتى يكاد يمس حاجبه، ومن عادته أيضا إذا سار أنه كان يرفع عينيه - دون رأسه - مستطلعا ما وراء النوافذ لعل وعسى، فلم يكن يقطع طريقا حتى يشعر في نهايته بما يشبه الدوار من كثرة تحريك عينيه، إذ كان ولعه بالتهام النسوة اللاتي يصادفنه داء لا شفاء منه، فهو يتفحصهن مقبلات ويتبع عينيه أرادفهن مدبرات، ويظل في قلقه كثور هائج حتى ينسى نفسه فلا يعود يتدبر مداراة مقاصده، الأمر الذي تنبه له مع الزمن عم حسنين الحلاق والحاج درويش بائع الفول والفولي اللبان، وبيومي الشربتلي، وأبو سريع صاحب المقلى وغيرهم، فمنهم من حمله محمل الدعابة ومنهم من أخذه مأخذ الانتقاد لولا أن الجيرة ومنزلة السيد أحمد عبد الجواد شفعتا له بالإغفاء والتسامح. كانت حيويته من العنف بحيث ملكت عليه فراغه كله، فلم تدع له وقتا يستريح فيه من استفزازها، وشعر دائما بألسنتها تلهب حواسه ووجدانه، وكأنها عفريت يركبه ويوجهه حيث يشاء، بيد أنه عفريت لم يخفه أو يضق به، ولم يود الخلاص منه، بل لعله رام منه المزيد، ولكن سرعان ما توارى عفريته واستحال ملاكا لطيفا حين اقترب الشاب من دكان أبيه، هناك أغضى طرفه واستقامت مشيته، وتحلى بأدب وحياء، وحث خطاه لا يلوي على شيء، ولما مر بباب الدكان التفت إلى داخله فرأى خلقا كثيرين، ولكنه التقى بعيني أبيه وهو جالس وراء مكتبه فانحنى في إجلال رافعا يده إلى رأسه في أدب، فرد الرجل تحيته مبتسما، ثم استأنف مسيره مسرورا بهذه الابتسامة كأنما حظي بنعمة نادرة المثال. والحق أن عنف أبيه المعهود، ولو أنه اعتوره تغير ملموس منذ أن انخرط الفتى في سلك موظفي الدولة، إلا أنه لم يزل في نظره نوعا من العنف الملطف بالكياسة، فلم يزايل الموظف خوفه القديم الذي ملأ قلبه وهو تلميذ، ولم يفارقه شعوره بأنه ابن وأن الآخر الأب، وما فتئ يتضاءل بمحضره على ضخامته كأنما يستحيل عصفورة يرعشها وقع الحصاة. وما إن ابتعد عن دكان أبيه وصار بمنجى من عينيه حتى استرد خيلاءه وعادت عيناه إلى الذبذبة غير مفرقة بين الهوانم وبائعات الدوم أو البرتقال؛ إذ كان العفريت الذي يركبه مولعا بالنساء كافة، متواضعا يستوي عنده الرفيع والوضيع منهن؛ فبائعات الدوم والبرتقال - على سبيل المثال - وإن شابهن الأرض التي يقتعدنها لونا وقذارة لا يخلين أحيانا من ميزة حسن، كثديين ناهدين أو عينين مكحولتين. وماذا يروم غير هذا؟! ... ثم اتجه صوب الصاغة ومنها إلى الغورية، ومال إلى قهوة سي علي على ناصية الصنادقية، وكانت شبه دكان متوسطة الحجم يفتح بابها على الصنادقية وتطل بكوة ذات قضبان على الغورية، وقد اصطف بأركانها الأرائك. واتخذ مجلسه على أريكة تحت الكوة - مجلسه المختار منذ أسابيع - وطلب الشاي. جلس بحيث يوجه بصره في يسر ودون إثارة ظن إلى الكوة، ومنها يصعده كلما يشاء إلى نافذة صغيرة في بيت على الجانب الآخر للطريق، لعلها كانت الوحيدة بين النوافذ المغلقة التي لم يعن بإحكام إغلاق خصاصها، ولا عجب فقد كانت تابعة لمسكن زبيدة «العالمة»، ولم تكن «العالمة» مطمحه فدون هذا مراحل من المجون عليه أن يجتازها في صبر وأناة، ولكنه راح يرصد ظهور زنوبة العوادة ربيبة «العالمة» ونجمة تختها اللامعة، وكانت فترة توظفه بالحكومة عهدا حافلا بالذكريات جاءه بعد طول تقشف إجباري عاناه محاذرا في ظل أبيه الرهيب، فانطلق من ثمة كالشلال يتحدر في مهاوي الأزبكية على ما لاقى من مضايقات الجنود الذين قذفتهم عجلة الحرب إلى القاهرة، ثم ظهر في الميدان الأستراليون فاضطر إلى التخلي عن مغاني العبث فرارا من وحشيتهم، وضاقت به السبل فمضى يتقلب في أزقة حية كالمجنون، وأقصى ما يطمع فيه من لذة بائعة برتقال أو غجرية ممن يقرأن الطالع، حتى رأى يوما زنوبة فتبعها مذهولا إلى موطنها، ثم تعرض لها مرة بعد مرة ولا يكاد يظفر منها بما يبل صدره. كانت امرأة وكل امرأة عنده رغيبة، بيد أنها كانت إلى هذا ذات حسن فهوسته، وليس الحب لديه إلا تلك الشهوة العمياء أو هذه الشهوة المبصرة وهي أسمى ما عرف من ألوانه، وجعل يمد بصره خلال القضبان إلى النافذة الخالية في جزع وقلق أنسياه نفسه، فحسا الشاي الساخن دون أن ينتبه إلى سخونته إلا وهو يزدرده وراح ينفخ متألما، ثم أعاد القدح إلى الصينية الصفراء مسترقا النظر إلى السمار الذين أزعجته أصواتهم المرتفعة كأنما هي المسئولة عن لسعته، أو أنها السبب في عدم ظهور زنوبة بالنافذة ... «ترى أين الملعونة؟ ... أتتعمد الاختفاء! ... من المحقق أنها تعلم بوجودي هنا ... ولعلها رأتني قادما ... فإذا اصطنعت التدلل إلى النهاية ألحقت هذا اليوم بأيامي المحرقة.» وعاود استراق النظر إلى الجلوس ليرى هل يلاحظه أحد منهم، ولكنه وجدهم جميعا منهمكين في أحاديثهم التي لا تنتهي، فداخله ارتياح وأرجع بصره إلى الهدف المرموق، بيد أنه اعترضت تيار أفكاره ذكريات عن متاعب اليوم التي صادفته في المدرسة؛ إذ شك الناظر في أمانة متعهد اللحوم فقام بتحقيق اشترك هو فيه بوصفه كاتب المدرسة، ثم بدا منه شيء من التراخي في عمله حمل الناظر على نهره مما نغص عليه صفوه بقية اليوم، وجعله يفكر في أن يشكو الناظر إلى أبيه - وهما صديقان قديمان - لولا خوفه أن يجد أباه أشد عليه من الناظر ... «اطرح عنك هذه الأفكار السخيفة .. انتهينا من المدرسة والناظر عليهما اللعنة ... حسبي الآن ما ألاقي من القارحة بنت القارحة التي تبخل علينا بنظرة.» وإذا بأحلام عارية تنثال على خياله، أحلام كثيرا ما تمثل على مسرح أوهامه وهو يرنو إلى امرأة أو يستعيد ذكراها، تخلقها عاطفة هوجاء تنزع عن الأجساد أغطيتها وتجلوها عارية كما خلقها الله غير مستثنية جسده هو، ثم تمضي في فنون من العبث لا عاصم لها، ولكنه ما كاد يستنيم إلى هذه الأحلام حتى انتبه على صوت حوذي وهو يصيح على حماره «يس»، فرمى ببصره ناحية الصوت فرأى عربة كارو تقف أمام بيت العالمة. وتساءل: ترى أجاءت العربة لتحمل أفراد التخت إلى فرح من الأفراح؟ ... ونادى صبي القهوة ودفع إليه الحساب متأهبا لمغادرة المكان في أية لحظة إذا دعا داع. ومضت فترة انتظار وترقب ثم فتح باب البيت وبرزت امرأة من نسوة التخت وهي تجر رجلا أعمى مرتديا جلبابا ومعطفا وعوينات سوداء ومتأبطا القانون، وصعدت المرأة إلى العربة وتناولت القانون ثم أخذت بيد الأعمى، وأعانه الحوذي من ناحية أخرى حتى لحق بالمرأة، وجلسا متجاورين في مقدمة العربة، وتبعتهما على الأثر امرأة ثانية تحمل دفا ثم ثالثة متأبطة صرة، وقد تبدين في ملاءاتهن اللف سافرات، كاسيات - بدلا من البراقع - بأقنعة من زواق فاقع الألوان جعلهن بعرائس المولد أشبه. ثم ما هذا؟ ... رأى ببصر شيق وقلب خافق العود وهو يبرز من الباب في جرابه الأحمر ... وأخيرا بدت زنوبة وقد انحسر طرف ملاءتها عند أعلى الرأس عن منديل قرمزي ذي أهداب منمنمة. لمعت تحته عينان سوداوان ضاحكتان تنفث نظرتهما لعبا وشيطنة. واقتربت من العربة ومدت يدها بالعود فتناولته امرأة، ثم رفعت قدما إلى أعلى العجلة فاشرأب ياسين بعنقه وهو يزدرد ريقه، فلمح ثنية الجورب معقودة فوق الركبة على أديم بدا منه صفاء عذب خلال أهداب فستان برتقالي ... «آه لو تغوص بي الأريكة في الأرض مترا ... رباه ... إن وجهها أسمر، ولكن لحمها المكنون أبيض ... أو شديد الميل للبياض ... فكيف يكون الورك! ... وكيف يكون البطن! ... البطن يا هوه ...» وثبتت زنوبة راحتيها على سطح العربة وتحاملت عليها، حتى حطت ركبتيها على حافة العربة، ثم مضت تتحرك رويدا على أربع ... «يا لطيف ... يا لطيف، آه لو كنت على باب البيت ... أو حتى في دكان محمد الطرابيشي ... انظر إلى ابن الكلب كيف يحملق في الطابية بعينيه ... ما أجدر أن يسمي نفسه منذ اليوم محمد الفاتح ... يا لطيف ... يا منقذ ...» وأخذ ظهرها يستقيم حتى نهضت واقفة على سطح العربة، وفتحت الملاءة وقبضت على طرفيها وجعلت تهزها بيديها هزات متتابعات كأنها طائر يخفق بجناحيه، ثم لفتها حول جسمها لفة محكمة وشت بدقائق تقاطيعه وتفاصيله، وأبرزت - خاصة - عجيزة مدملجة رقراقة، ثم جلست عند مؤخرة العربة فتكور ردفها تحت الضغط متبلورا ذات اليمين وذات اليسار، فنعم الوسادة ... ونهض ياسين وغادر القهوة فوجد العربة قد تحركت فتبعها متمهلا وهو يلهث، ويصر على أسنانه من شدة الانفعال. وراحت العربة تسير سيرتها المتمهلة المتمايلة والنسوة على سطحها يتأرجحن معها يمنة ويسرة، فركز الشاب عينيه في وسادة العوادة، يذهب معها ويجيء حتى خالها بعد حين ترقص. وكانت الظلمة قد بدأت تغشى الطريق الضيق، وأخذت كثرة من الدكاكين تغلق أبوابها، إلا أن غالبية المارة كانت من جمهور العاملين العائدين إلى بيوتهم منهوكي القوى، فوجد ياسين بين الظلمة والجمهور المتعب متسعا لإنعام النظر والأحلام في أمن ودعة ... «اللهم لا تجعل لهذا الطريق من نهاية، ولا لهذه الحركة الراقصة من ختام ... يا لها من عجيزة سلطانية جمعت بين العجرفة واللطف يكاد البائس مثلي يحس بطراوتها وشدتها معا بالنظر المجرد ... وهذا المفرق العجيب الذي يشطرها تكاد تنطق الملاءة عنده ... وما خفي كان أعظم .. إني أدرك الآن لماذا يصلي بعض الناس ركعتين قبل أن يبني بعروسه ... أليست هذه قبة؟ ... بلى وتحت القبة شيخ ... وإني لمجذوب من مجاذيب هذا الشيخ ... يا هوه ... يا عدوي ...» وتنحنح والعربة تقترب من بوابة المتولي، فالتفتت زنوبة وراءها ورأته. ثم خيل إليه وهي تعيد رأسها أنه لمح على شفتيها بشير ابتسامة، فدق قلبه في عنف وسرت في وجدانه سكرة سرور ملتهب، ومرقت العربة من بوابة المتولي ثم مالت إلى اليسار، وهناك اضطر الشاب إلى التوقف عن متابعتها؛ لأنه رأى عن كثب معالم زينات وأنوار وجمهورا مهللا، فتراجع قليلا وبصره لا يفارق العوادة، وجعل يراقبها بنهم وهي تنزل على الأرض، وهي ترمي ناحيته بنظرة عابثة، ثم وهي تتجه إلى بيت العروس حتى واراها الباب في ضجة من الزغاريد. وتنهد تنهدة حامية، ولفته حيرة حانقة فبدا قلقا كأنه لا يدري أي وجهة يقصد ... «لعنة الله على الأستراليين! ... أين أنت يا أزبكية لأبثك همي وأشجاني، وأتزود منك بشيء من الصبر.» ثم دار على عقبيه وهو يتمتم «إلى العزاء الباقي .. إلى كستاكي.» وما كاد ينطق باسم البدال اليوناني حتى تندى رأسه حنينا إلى حميا الشراب .. كانت المرأة والخمر في حياته متلازمتين متكاملتين، ففي مجلس المرأة عاقر الخمر لأول مرة، ثم صارت بحكم العادة من مقومات لذته وبواعثها، بيد أنه لم يتح لهما - المرأة والخمر - أن يتلازما دائما، وخلت ليال كثيرات من النساء، فلم يجد بدا من أن يخفف لوعته بالشراب، ولكرور الأيام واستحكام العادة بات وكأنه المولع بالخمر لذاتها. وعاد من نفس الطريق الذي جاء منه، وقصد بدالة كستاكي عند رأس السكة الجديدة - حانوت كبير ظاهره بدالة وباطنه حانة يفصل بينهما باب صغير - ووقف عند مدخلها مختلطا بالزبائن ريثما يتفحص الطريق أن يكون أبوه هنا أو هناك، ثم اتجه صوب الباب الصغير الداخلي، ولكن ما كاد يتقدم خطوة حتى لمح في طريقه رجلا واقفا أمام الميزان والخواجة كستاكي نفسه يزن له لفة كبيرة، فانجذب رأسه إليه بلا إرادة، وسرعان ما اكفهر وجهه وسرت في بدنه رجفة قاسية تقبض لها قلبه خوفا واشمئزازا. لم يكن في مظهر الرجل ما يسبغ هذه العواطف العدائية. كان في الحلقة السادسة، مرتديا جلبابا فضفاضا وعمامة، وقد ابيض شاربه وعلاه الكبر والوداعة، إلا أن ياسين واصل سيره مضطربا كأنما يفر قبل أن تقع عليه عينا الرجل، ودفع باب الحانة بشيء من القوة ثم دخل تكاد تميد به الأرض ...
13
ارتمى على أول مقعد صادفه غير بعيد من الباب، وقد بدا خائر القوى ساهما، ثم دعا النادل وطلب دورق كونياك بنبرات نمت على نفاد صبره. وكانت الحانة بالحجرة أشبه، تدلى من سقفها فانوس كبير، وصفت بجنباتها موائد خشبية وكراسي خيزران جلس إليها نفر من أهل البلد والعمال والأفندية، وتوسط المكان تحت الفانوس مباشرة مجموعة من أصص القرنفل. من عجيب أنه لم ينس الرجل، وأنه عرفه من النظرة الأولى، متى رآه آخر مرة؟ ... لا يستطيع أن يجزم، ولكن من المحقق أنه لم تقع عليه عيناه في مدى اثنتي عشرة سنة، إلا مرتين إحداهما التي زلزلته الآن. وقد تغير الرجل ما في ذلك من شك فغدا شيخا هادئا وقورا! ... ألا سحق الله المصادفة العمياء التي ألقت به في سبيله. والتوت شفتاه تقززا وامتعاضا وشعر بمرارة الهوان تجري في ريقه. يا له من هوان مذل ما يكاد يفيق من دواره القديم بالعناء والعناد، حتى ترده إليه ذكرى من الذكريات المعتمة أو مصادفة لعينة كالتي حدثت اليوم فينقلب ذليلا منكسرا ... ضائعا. وعلى رغمه حملقت عيناه في الماضي البغيض، بقوة الهياج المثار في رأسه وقلبه، فانشق الظلام عن أشباح شائهة طالما ناوشته كرموز للعذاب والكراهية، فميز من بينها دكان فاكهة يقوم على رأس عطفة قصر الشوق، وطالعته صورة غامضة المعالم، هي صورته وهو صبي، فرآه وهو يحث خطواته المتقاربة إلى ذلك الدكان حيث استقبله ذلك الرجل، ثم حمله قرطاسا مليئا بالبرتقال والتفاح، فتناوله مسرورا وعاد به إلى المرأة التي بعثته وانتظرت، إلى أمه دون غيرها وا أسفاه! وانعكست الذكرى على جبينه عبوسة حنق وضيق، ثم استعادت مخيلته صورة الرجل فتساءل جزعا: ترى أكان يعرفه لو وقعت عليه عيناه؟ ... أكان يذكر فيه الصبي الصغير الذي عرفه قديما ابنا لتلك المرأة؟ ... وقرصته قشعريرة فزع فتخاذل جسمه البادن الفارع وتضاءل في حسه حتى استحال لا شيء، وجيء عند ذاك بالدورق والقدح فصب ونهل في نهم وعصبية متعجلا حظ الشاربين من الانتعاش والنسيان، ولكن فجأة تراءى له من أعماق الماضي وجه أمه، فلم يتمالك من أن يبصق. أيهما يلعن: الحظ الذي جعلها أمه أم جمالها الذي شغف كثيرين حبا وأحاطه بالكوارث؟! ... والحق أنه لم يكن بوسعه أن يغير أمرا مما قدر عليه، ولم يكن بوسعه إلا أن يذعن للقضاء الذي هرس عزة نفسه، أفليس من الظلم أن يكفر بعد ذلك عن حكم القضاء كأنه هو الجاني الأثيم؟! ... ولم يدر لم استحق اللعنة، فالأطفال الذين استقبلوا الدنيا في حضانة أمهات مطلقات مثله غير قليلين، وعلى خلاف أكثرهم وجد من أمه حنانا غير مشوب وحبا لا يعرف الحدود وتدليلا سابغا لا تشكمه رقابة أب، فتمتع بطفولة سعيدة قوامها الحب واللين والدماثة. ولا تزال ذاكرته تحتفظ بالكثير من ذكريات البيت القديم بقصر الشوق، كسطحه الذي يشرف على أسطح لا عداد لها ويرى مآذن وقبابا من نواحيه الأربع، ومشربيته التي تطل على الجمالية حيث تمر ليلة بعد أخرى مواكب الزفاف تضيئها الشموع ويكتنفها الفتوات، فينجلي أكثرها عن معارك تشتجر فيها النبابيت وتسيل الدماء. في ذاك البيت أحب أمه حبا لا مزيد عليه وفيه شاعت في قلبه الريبة الغامضة، وفيه رمى إلى صدره بالبذور الأولى لنفور غريب - نفور ابن من أمه - التي قدر لها أن تنمو وتستفحل حتى انقلبت مع الزمن كراهية كالداء العضال، وكثيرا ما قال لنفسه إنه ربما كان في وسع الإرادة القوية أن تتيح لنا أكثر من مستقبل واحد، ولكننا لن يكون لنا - مهما أوتينا من إرادة - إلا ماض واحد لا مفر منه ولا مهرب. والآن يتساءل - كما تساءل من قبل كثيرا - متى فطن إلى أن أمه لم تكن الشخص الوحيد في حياته؟! ... بعيد جدا أن يعرف هذا على وجه اليقين، وما يذكر إلا أنه في فترة ما من طفولته وعت حواسه شخصا جديدا كان يطرأ على البيت من حين لآخر، ولعله - ياسين - كان يتطلع إليه بغرابة وشيء من الخوف، ولعل الآخر بذل ما في وسعه لإيناسه وإرضائه، إنه يحملق في الماضي على استكراه ونفور شديدين، ولكنه وجد المقاومة لا تجدي، كأنما ذاك الماضي دمل يود لو يتجاهله على حين لا تمسك يده عن جسه من آن لآخر. ثم إن هناك أمورا لا يمكن أن تنسى ... ففي مكان ما ووقت بين النور والظلمة، وتحت أعلى نافذة أو باب مطعم بمثلثات من الزجاج الأزرق والأحمر ... في ذاك المكان يذكر أنه اطلع فجأة - في ظروف فرضها النسيان - على ذلك الشخص الطارئ وهو كأنه يفترس أمه، فما تمالك أن صرخ من أعماق قلبه وولول باكيا حتى أقبلت المرأة عليه في اضطراب باد وراحت تطيب خاطره وتسكن ثائره، وانقطعت من شدة الامتعاض عند ذاك سلسلة خواطره فقلب عينيه فيما حوله واجما، ثم صب من الدورق في القدح وشرب، وقد لمح وهو يعيد القدح إلى موضعه نقطة من سائل منداحة فوق طرف جاكيتته، فظنها خمرا وأخرج منديله وأنشأ يدلكها، ثم خطر له خاطر فتفحص ظاهر القدح فرأى قطرات من الماء عالقة بأسفله، فرجح عنده أن ما سقط على سترته ماء لا خمر واسترد طمأنينته ... ولكن أي طمأنينة خادعة! لقد رجعت عيناه إلى مرآة الماضي البغيض. لا يذكر متى وقعت الواقعة السالفة، ولا كم كان عمره حين وقوعها، ولكنه يذكر بلا ريب أن الشخص المفترس لم ينقطع عن البيت القديم، وأنه كثيرا ما تودد إليه بما لذ وطاب من ألوان الفاكهة، ثم كان يراه بعد ذلك في دكان الفاكهة عند رأس العطفة إذا استصحبته أمه معها في مشوار، وبسذاجة الأطفال كان يلفت نظرها إليه، فكانت تجذبه في عنف بعيدا عنه وتمنعه من الإيماء إليه، حتى تعلم أن يتجاهله وهو في صحبتها بالطريق، وازداد الشخص في نظره إبهاما وغموضا، ثم حذرته من أن يعود إلى ذكره أمام خال عجوز كان وقتذاك على قيد الحياة، ويزورهم من حين لآخر فاتبع تحذيرها وما يزداد إلا حيرة. ولم يقنع الحظ منه بذاك القدر، فكانت أمه - إذا غاب الرجل عن البيت أياما - يكون مبعوثا إليه ليدعوه إلى أن يحضر «الليلة»! وكان الرجل يستقبله بلطف ويملأ قرطاسا من التفاح والموز، ويحمله موافقته أو اعتذاره كيفما اتفق. ثم بلغ به الحال أنه إذا اشتاق إلى لذيذ الفاكهة استأذن أمه في أن يذهب إلى الرجل ليدعوه «الليلة»، ذكر هذا وجبينه يندى خزيا ثم نفخ في قهر، ثم صب وجرع. ورويدا انبعثت الحميا في دمه، وبدأت تلعب دورها الساحر في معاونته على حمل متاعبه ... «قلت ألف مرة إنه يجب أن أدع الماضي مدفونا في قبره ... لا فائدة ... لا أم لي وحسبي امرأة أبي الرقيقة الطيبة ... كل شيء طيب ما عدا ذكرى قديمة بيدي أن أميتها ... ترى لم أجاري إلحافها علي فأبعثها من قبرها حينا بعد حين! ... لم؟! ... سوء الطالع وحده الذي رمى بالرجل في طريقي اليوم ولكن مصيره أن يموت يوما ... أود أن يموت كثيرون ... لم يكن الرجل الوحيد ...» بيد أن خياله الثائر واصل إسراءه في ظلمات الماضي رغم مقاومته النظرية، ولكن على حال أخف توترا. أجل لم يعد في تلك القصة بالذات من بقية طويلة، ولعلها - هذه البقية - تمتاز بما يضيئها من نور نسبي بعد عبور طور الطفولة المعتم. كان هذا في السنوات القلائل التي سبقت انتقاله إلى حضانة أبيه، وقد وجدت أمه الشجاعة لتصارحه بأن ذاك «الفكهاني» يتردد عليها طلبا ليدها، وأنها مترددة في قبوله، وأنها غالبا سترفض إكراما له! ترى أصدق ما قيل له؟ ... هيهات أن يستوثق من تفاصيل ذكرياته، ولكنه كان بلا ريب يشرئب للإدراك والفهم، ويعاني نوعا من الريبة الغامضة التي تتكشف للقلب دون العقل، ويكابد ألوانا من القلق أطار عن هامته حمامة السلام، فتهيأت في نفسه تربة لتلقي بذرة النفور التي صارت مع الأيام إلى ما صارت إليه. ثم انتقل في التاسعة من عمره إلى حضانة أبيه الذي لم يكن رآه إلا مرات معدودة تحاميا للاحتكاك بأمه. انتقل إليه غلاما على الفطرة لم يتلقن من مبادئ العلم كلمة واحدة، ومضى يكفر عن سيئات التدليل الذي غلته به أمه فتلقى التعليم بنفس كارهة وإرادة خائرة، ولولا شدة السيد وطيبة جو البيت الجديد ما دفع إلى النجاح في الابتدائية بعد أن نيف على التاسعة عشرة من عمره. وبنمو عمره وإدراكه حقائق الأشياء، استعرض حياته الماضية في بيت أمه وقلبها على وجوهها ملقيا عليها من خبرته الجديدة أنوارا فاضحة، فتكشفت له الحقائق ببشاعتها ومرارتها، وكلما تقدم في الحياة خطوة بدا له الماضي سلاحا مسموما منغرسا في صميم نفسه وكرامته، وقد دأب أبوه بادئ الأمر على أن يسأله عن حياته في بيت أمه، ولكنه على حداثة سنه، تحاشى نبش الذكريات المحزنة وغلب كبرياءه الجريح على الرغبة في استثارة اهتمام أبيه، وحب الثرثرة الذي يستهوي أمثاله من الغلمان، ولزم الصمت حتى ترامى إليه نبأ غريب عن زواج أمه من تاجر فحم بالمبيضة فبكى الغلام طويلا، واشتد ضغط السخط على صدره حتى فضفض، فانطلق يحدث أباه عن «الفكهاني» الذي زعمت يوما أنها رفضت الزواج منه إكراما له! ... وانقطعت صلته بها من ذاك العهد - منذ إحدى عشرة سنة - فلم يعد يدري عنها شيئا إلا ما ينقله إليه أبوه من حين لآخر كطلاقها من الفحام بعد انقضاء عامين على زواجها منه، ثم زواجها من باشجاويش في العام التالي لطلاقها، ثم طلاقها مرة أخرى بعد حوالي عامين إلخ ... إلخ ... وفي فترة قطيعتها الطويلة سعت المرأة كثيرا إلى رؤيته، فكانت ترسل إلى أبيه من يستأذنه في السماح له بالذهاب إليها، ولكن ياسين صد عن دعوتها بإباء ونفور شديدين رغم نصح أبيه له بالتسامح والعفو. والحق أنه وجد عليها موجدة حامية نابعة من صميم قلب جريح، فأغلق دونها باب العفو والغفران، وأقام وراءه متاريس حنق وكراهية مؤمنا إلى هذا بأنه لم يظلمها، ولكن أنزلها بحيث أنزلتها فعالها ... «امرأة. أجل ما هي إلا امرأة ... وكل امرأة لعنة قذرة ... لا تدري امرأة ما العفة إلا حين تنتفي أسباب الزنا ... حتى امرأة أبي الطيبة، الله وحده يعلم ماذا كان يمكن أن تكون لولا أبي!» وقطع عليه أفكاره صوت رجل علا قائلا: «الخمر كلها فوائد، ومن يقل غير هذا أقطع رأسه ... الحشيش والمنزول والأفيون كثيرة الضرر ... أما الخمر فكلها فوائد ...» فتساءل صاحبه: «وما فوائدها؟» فقال الرجل مستنكرا: «وما فوائدها! ما أعجب سؤالك! ... كلها فوائد كما قلت ... وأنت تعلم هذا وتؤمن به ...» فقال صاحبه: «ولكن الحشيش والأفيون والمنزول مفيدة كذلك، فيجب أن تعلم هذا وتؤمن به ... الناس جميعا يقولون هذا فهل تخالف الإجماع؟!» وتريث الرجل قليلا، ثم قال: «كلها مفيدة إذن، الكل، الخمر والحشيش والأفيون والمنزول وما يستجد!» فعاد صاحبه يقول بلهجة تنم عن ظفر: «ولكن الخمر حرام!» فقال الرجل محتدا: «وهل ضاقت السبل! زك ... حج ... أطعم المساكين ... أبواب التكفير واسعة والحسنة بعشر أمثالها ...»
وابتسم ياسين في شيء من الارتياح، أجل أمكنه أخيرا أن يبتسم في شيء من الارتياح: «لتذهب إلى الجحيم، ولتأخذ الماضي معها ... لست عن شيء مسئولا ... كل إنسان ملوث في هذه الحياة ومن يزح الستار ير عجبا ... شيء واحد يهمني جدا هو عقارها، دكان الحمزاوي وربع الغورية والبيت القديم بقصر الشوق ... وإني أعد أمام الله إذا ورثته كاملا يوما أن أترحم عليها بلا أسف ... آه ... زنوبة ... كدت أنساك وما أنسانيك إلا الشيطان. امرأة عذبتني وامرأة ألتمس عندها العزاء ... آه يا زنوبة ما علمت قبل اليوم أن باطنك بهذا اللون الرائق ... أف ينبغي أن أمحو الفكر من رأسي ... الحق أن أمي كالضرس الثائر، لا يسكن حتى ينخلع ...»
14
جلس السيد أحمد عبد الجواد وراء مكتبه بالدكان تعبث أنامل يسراه بشاربه الأنيق كشأنه كلما جرفه تيار خواطره، ويرنو إلى لا شيء بوجه تنم معالمه عن ارتياح ورضا. إنه يرضيه بلا ريب أن يشعر بما يكنه له الناس من حب ومودة، ولو عرض له من حبهم دليل كل يوم لأوجد له كل يوم سرورا مشرقا لا يبليه التكرار، وقد أتاه اليوم دليل جديد بسبب اضطراره إلى التخلف ليلة الأمس عن شهود حفلة أنس دعاه إليها أحد الأصدقاء، فما استقر به مجلسه بالدكان هذا الصباح، حتى وافاه الداعي وبعض الإخوان من المدعوين، وأوسعوه عتابا لتخلفه وحملوه تبعة ما ضاع عليهم من بهجة وطرب، ثم قالوا - فيما قالوا - إنهم لم يضحكوا من قلوبهم كما تعودوا أن يضحكوا معه، ولم يجدوا للشراب لذته التي يجدون في منادمته، وأن مجلسهم خلا - على حد تعبيرهم - من روحه. وها هو يستعيد أقوالهم في سرور وزهو لطفا كثيرا مما لاقى من حدة الملام من ناحيتهم وحرارة الاعتذار من ناحيته، بيد أنه لم يخل من تأنيب ضمير حريص بطبعه على إرضاء الخلان، بدار إلى النهل من موارد الصداقة والمودة في إخلاص وإيثار، فكاد يكدر صفوه لولا ما أشاعت ثورة الأحباب الناطقة بحبهم في نفسه من أريحية الرضا والعجب، أجل طالما كان الحب الذي يجذبه إلى الناس ويجذبهم إليه معينا لقلبه يغدق عليه ما يشاء من فرح بهيج وزهو بريء وكأنه خلق للصداقة قبل كل شيء. وثمة آية أخرى على هذا الحب - والأصدق أن يقال إنه حب من نوع آخر - تجلت له ضحى اليوم حين ألمت به أم علي الخاطبة، وقالت له بعد حديث دارت فيه حول غرضها ما شاء لها الدوران: «ألا تعلم أن ست نفوسة أرملة الحاج علي الدسوقي تملك سبعة دكاكين في المغربلين؟» وابتسم السيد، وفطن بالغريزة إلى ما تومئ إليه المرأة، وحدثه قلبه بأنها ليست خاطبة فحسب هذه المرة، ولكنها رسول موصى بالكتمان، ألم يخيل إليه في أكثر من مناسبة أن الست نفوسة تكاد تعلن عن ودها أثناء ترددها على دكانه لابتياع حوائجها؟ ... بيد أنه أراد استدراج المرأة ولو على سبيل التفكه فقال باهتمام ظاهري: «عليك باختيار زوج صالح لها، فما أعز المطلوب!» وظنت أم علي أنها بلغت الغاية فقالت: «قد اخترتك من دون الرجال. فما قولك؟» وضحك السيد ضحكة مجلجلة وشت بسروره وثقته بنفسه، ولكنه قال بلهجة قاطعة: «لقد تزوجت مرتين، أخفقت في الأولى ووفقني الله في الأخرى ، ولن أبطر بنعمة الله.» والحق أنه طالما تغلب على مغريات الزواج على كثرة ما تهيأ له من فرص مواتية، بقوة إرادة لا تنثني، وكأنه لم ينس مثل أبيه الذي انزلق إلى زيجات متلاحقة بلا وعي، بددت ثروته وجرت عليه المتاعب، ولم تبق له هو - عقبه الوحيد - إلا على شيء من المال لا يغني، ثم إنه من ربحه ودخله في بسطة من العيش هيأت لأسرته هناء ورغدا، وأتاحت له ما يشاء للإنفاق في مسراته وملاهيه فكيف يقدم على ما يخل بهذا الوضع البديع المتناسق الذي يكفل له الكرامة والحرية؟! أجل لم يجمع السيد ثروة، لا لقصور في وسائلها عن تجميعها ولكن لما طبع عليه من جود جعل إنفاقها والاستمتاع بآثارها المعنى الوحيد لها الذي يؤمن به، إلى إيمان عميق بالله، وفضائله ملأ نفسه طمأنينة وثقة، وآمنه من الخوف الذي يساور كثيرين عن أرزاقهم ومستقبلهم. على أن صده عن مغريات الزواج لم يمنعه من السرور والزهو كلما رامته فرصة طيبة، وبالتالي لم يستطع أن يتناسى أن سيدة جميلة كالست نفوسة توده بعلا لها. وغلبت هذه الذكرى على خواطره فراح يراقب وكيله والزبائن بعينين غائبتين وأسارير حالمة باسمة، وذكر - باسما أيضا - ما قال له صاحب من صحبه صباح اليوم وهو يعابثه معرضا بأناقته وتعطره: «حسبك. حسبك يا عجوز! ...» عجوز؟! ... إنه في الخامسة والأربعين حقا، ولكن ما قول العاذل في هذه القوة العارمة والصحة الدافقة والشعر السبط اللامع السواد! لم يهن إحساسه بالشباب ولا تراخى، وكأن فتوته ما تزداد مع الأيام إلا قوة، إلى أن مزاياه لم تكن لتغيب عنه، بل كان على تواضعه وسماحة نفسه شديد الشعور بها، منطويا في أعماقه على زهو وعجب، يحب الثناء حبا جما، وكأنه بتواضعه ولطفه يستزيد منه ويحث الرفاق بمكر حسن عليه، ولكن مع أن ثقته بنفسه بلغت حد الاعتقاد بأنه خير الرجال قوة وبهاء وظرفا وكياسة، إلا أنه لم يثقل أبدا على أحد من الناس؛ لأن تواضعه كان طبعا وسجية كذلك، ولأنه نبع من فطرة تسيل بشاشة وإخلاصا وحبا. والحق أنه كان ينزع بفطرته إلى أن يحب كما يحب، ولا يمسك عن نشدان المزيد من الحب، فاتجهت طبيعته بوحي من غريزته الظامئة للحب إلى الإخلاص والوفاء والصفاء والتواضع، تلك السجايا التي تجذب الحب والرضا كما تجذب الزهور الفراش، ومن هنا استوى أن يقال إن تواضعه كياسة أو طبيعة، والأصح أن يقال إنه طبيعة تستمد كياستها من وحي الغريزة، لا تدبير الإرادة فتجلت طبعا بسيطا لا تكلف فيه ولا تعمل؛ ولذلك كان السكوت عن فضائله ومواراة مزاياه بل والتندر بعيوبه وهناته التماسا للعطف والحب أحب إليه من نشرها والمباهاة بها اللذين يجران عادة إلى الاستفزاز والحسد، وهي كياسة سديدة دفعت المحبين إلى التنويه بما يغضي عنه حكمة وحياء، وأذاعت سجاياه على نحو لم يكن ليقدر عليه بنفسه دون التضحية بأجمل جوانب شخصيته، وبما يحظى من جاذبية وحب لا تشوبهما شائبة. وبهذا الوحي الغريزي نفسه استهدى حتى في جانب حياته الماجن، في مجالس أنسه وطربه، فلم يتخل فيها - مهما لعب الشراب برأسه - عن لباقته وكياسته، ولو شاء بما أوتي من خفة الروح وحضور البديهة، وحلاوة الفكاهة وحدة السخرية، لاكتسح السمار بلا عناء، ولكنه كان يدير مجلس الأنس بمهارة وأريحية تفسح المجال لكل سامر، ويشجع أهل الدعابة وإن خالفهم التوفيق بضحكاته المجلجلة، إلى حرصه الشديد على ألا يخلف مزاحه في نفس جرحا، فإن اضطره الموقف إلى الحملة على قرين داوى عواقب حملته بتشجيعه والتودد إليه، ولو بالسخرية من نفسه. فلا ينفض المجلس إلا وقد حظي كل سامر من أطايب ذكرياته بما يشرح الصدر ويستأثر الفؤاد. على أن كياسته الفطرية أو فطرته الكيسة لم تقتصر آثارها الطيبة على حياته الضاحكة فحسب، ولكنها امتدت إلى جوانب هامة من حياته الاجتماعية، فأعلنت عن نفسها أروع إعلان في كرمه المأثور - سواء ما يتجلى منه في الولائم التي يدعو إليها من حين لآخر في البيت الكبير، أو في الهبات التي ينفح بها المحتاجين ممن يتصلون بعمله أو بشخصه - وفي شهامته ومروءته ونجدته التي فرضت له على أصدقائه ومعارفه نوعا من الوصاية المشربة بالحب والوفاء يفيئون إليها إذا دعت الضرورة إلى المشورة أو الشفاعة أو الخدمة فيما يعرض لهم من هموم العمل والمال، أو شئون المسائل الشخصية والعائلية كالخطبة والزواج والطلاق، أجل ارتضى لنفسه وظائف يؤديها بلا أجر - غير الحب - فكان سمسارا ومأذونا ومحكما، ثم وجد دائما في أدائها - على مشقته - حياة مليئة بالبهجة والغبطة. مثل هذا الرجل الذي تجود نفسه بفضائل اجتماعية كثيرة، ثم يطويها كأن في نشرها أذى وأي أذى، مثل هذا الرجل يكون خليقا - إذا خلا إلى خواطره وانقشع عنه الحياء الذي يتولاه حيال الناس - بأن يتملى مزاياه طويلا ويستسلم لزهوه وعجبه. لذلك راح يستعيد عتاب أصدقائه المحبين ودعوة أم علي الخاطبة بلذة وسرور وانشراح تعانقت في قلبه عن نشوة خالصة، حتى تطفلت على خلوته لذعة أسف فمضى يحدث نفسه ... «نفوسة هانم سيدة ذات مزايا لا يستهان بها ... يتمناها كثيرون ولكنها رغبت في أنا ... بيد أنني لن أتزوج، هذا أمر مفروغ منه، وليست هي بالمرأة التي تقبل أن تعاشر رجلا بغير زواج ... هذا أنا وهذه هي فكيف يمكن أن نلتقي! ... ولو صادفتني في غير هذه الأيام التي سد فيها الأستراليون علينا المنافذ لهان الأمر، ولكنها تصدت لنا ونحن في حاجة إليها فوا أسفاه.»
وقطع عليه أفكاره وقوف حنطور أمام مدخل الدكان فمد بصره مستطلعا، فرأى العربة وهي تميل ناحية الدكان تحت ضغط امرأة هائلة مضت تغادرها في بطء شديد على قدر ما تسمح طيات لحمها وشحمها، وقد سبقتها إلى الأرض جارية سوداء فمدت لها يدها لتعتمد عليها في أثناء نزولها. وكالمحمل وقفت مليا وهي تتنهد كأنها تستجم من عناء النزول، وكالمحمل راحت تتمايل وتخطر إلى ناحية الدكان، بينما علا صوت الجارية في لهجة شبه خطابية لتعلن عن مولاتها: وسع يا جدع أنت وهو للست زبيدة ملكة العوالم.
وندت عن الست زبيدة ضحكة مسجوعة وقالت تخاطب الجارية بلهجة تنم عن زجر كاذب: الله يسامحك يا جلجل ... ملكة العوالم مرة واحدة! ... هلا عرفت فضيلة التواضع!
وهرع إليها جميل الحمزاوي مفتر الثغر عن ابتسامة عريضة وهو يقول: أهلا وسهلا، كان حقا علينا أن نفرش الأرض بالرمل.
ونهض السيد وهو يتفحصها بنظرة تنم عن دهشة وتفكير، ثم قال متمما تحية وكيله: بل بالحناء والورد، ولكن ما حيلتنا والحظ يقبل إذا أقبل غير مسبوق ببشير؟
ورأى السيد وكيله وهو يتجه إلى كرسي ليأتي به، فسبقه إليه بخطوة واسعة بدت كالوثبة، فتنحى الرجل جانبا وهو يداري ابتسامة، وقدم السيد لها الكرسي بنفسه وهو يومئ براحته مرحبا، كأنه يقول لها: «تفضلي» بيد أن راحته انبسطت - ربما بلا شعور منه - لآخر طاقتها وانفرج ما بين أصابعه حتى صارت يده كالمروحة، ولعله تأثر في بسطها بما تركه في خياله منظر العجيزة الهائلة التي ستملأ مقعد الكرسي، وتفيض عن جوانبه حتما. وشكرته المرأة بابتسامة من وجهها الذي أسفر حسنه بغير حجاب، وجلست وهي تشع بزواقها وحليها نورا، ثم التفتت إلى جاريتها وخاطبتها قائلة وهي تعني بالخطاب غيرها: ألم أقل لك يا جلجل إنه ليس ثمة ما يدعونا للتخبط هنا وهناك لابتياع حوائجنا وعندنا هذا الدكان الفاخر؟
فأمنت الجارية على قول سيدتها قائلة: صدقت كعادتك يا سلطانة، لماذا نذهب بعيدا وعندنا السيد الكريم أحمد عبد الجواد!
فتراجع رأس الست كأنما هالها ما صرحت به جلجل، وألقت عليها نظرة استنكار ثم رددت عينيها بين السيد والجارية لتشهده على استنكارها، وقالت وهي تداري ابتسامة: وا خجلتاه! ... حدثتك عن الدكان يا جلجل لا عن السيد أحمد!
وشعر فؤاد السيد الذكي بالجو الودي الذي ينفثه حديث المرأة، فاندمج فيه بغريزته المتوثبة وتمتم باسما: الدكان والسيد أحمد شيء واحد يا سلطانة.
فرفعت حاجبيها في دلال وقالت بعناد لطيف: ولكنا نريد الدكان لا السيد أحمد.
وبدا أن السيد أحمد لم يكن الشخص الوحيد الذي شعر بالجو الطيب الذي خلقته السلطانة؛ فهذا جميل الحمزاوي يراوح بين مساومة الزبائن واستراق النظر إلى ما تيسر من جسم العالمة، وهؤلاء الزبائن جعلوا يجيلون أبصارهم بين البضائع لتمر في الذهاب والإياب بالست، بل بدا أن الزيارة المباركة قد لفتت بعض الأنظار في الطريق، فرأى السيد أن يقترب من السلطانة وأن يولي الباب والقوم ظهره العريض ليحول بينها وبين تطفل المتطفلين، بيد أن هذا لم ينسه ما كان فيه من أسباب الحديث، فقال يصل منه ما انقطع: قضى الله جلت حكمته أن يكون الجماد أحيانا أسعد حظا من الإنسان.
فقالت بلهجة ذات معنى: أراك تغالي، لن يكون الجماد أسعد حظا من الإنسان، ولكنه كثيرا ما يكون أجل فائدة.
فثقبها السيد بعينيه الزرقاوين، وقال متظاهرا بالدهشة: أجل فائدة! ... (ثم مشيرا إلى الأرض) ... هذا الدكان!
فوهبته ضحكة قصيرة عذبة، ولكنها قالت بلهجة لا تخلو من خشونة مدبرة: أريد سكرا وبنا وأرزا، فهل يغني الإنسان فيها عن الدكان شيئا! ... (وبنبرات اختلط فيها عدم الاكتراث بالدلال) ... ثم إن الرجال أكثر من الهم على القلب.
وكان السيد قد تفتحت له من الطمع أبواب، وشعر بأنه مقبل على شيء أجل خطرا من البيع والشراء، فقال محتجا: ليست كل الرجال سواء يا سلطانة، فمن قال لك إن الإنسان لا يغني عن الأرز والسكر والبن شيئا؟! الإنسان حقا من تجدين فيه الغذاء والحلاوة والكيف!
فساءلته ضاحكة: إنسان أم مطبخ هذا؟
فقال السيد بلهجة تدل على الظفر: لو نظرت من قريب لوجدت تشابها عجيبا بين الرجل والمطبخ ... كلاهما حياة للبطون!
وغضت المرأة بصرها مليا، وانتظر السيد أن ترفعه إليه موسوما بابتسامتها المشرقة، ولكنها واجهته بنظرة رزينة فأحس لتوه أنها غيرت «السياسة»، أو لعلها لم ترتح كل الارتياح لانزلاقها، فعدلت عنه ثم سمعها تقول في هدوء: أفادك الله! ... ولكن حسبنا اليوم الأرز والبن والسكر.
وتحول السيد عنها متظاهرا بالجد ودعا إليه وكيله، ثم وصاه بصوت مرتفع بطلبات الست، فأوحى مظهره بأنه قرر هو أيضا العدول عن «التودد» والعودة إلى «العمل»، ولكنها لم تكن إلا مناورة استعاد على أثرها ابتسامته الهجومية وتمتم مخاطبا السلطانة: الدكان وصاحبه تحت أمرك!
وكان للمناورة أثرها فقالت المرأة في دعابة: أريد الدكان وتأبى إلا أن تجود بنفسك! - نفسي بلا ريب خير من دكاني، أو خير ما في دكاني.
فأشرق وجهها بابتسامة ماكرة وهي تقول: هذا يخالف ما سمعناه عن جودة بضاعتك!
فقهقه السيد قائلا: ما حاجتك إلى السكر وفي لسانك هذه الحلاوة كلها؟!
وأعقب هذه المعركة الكلامية فترة سكون بدا فيها كلاهما راضيا عن نفسه، ثم فتحت العالمة حقيبتها وأخرجت مرآة صغيرة ذات مقبض فضي، وراحت تنظر في صورتها فمضى السيد إلى مكتبه، ووقف مستندا إلى حافته وهو يتفرس في وجهها باهتمام. والحق لقد حدثه قلبه حين وقعت عليها عيناه بأنها جادت بالزيارة لأمور غير الشراء والبيع، ثم جاء حديثها باستجاباته الحارة مؤكدا لظنه، فلم يعد أمامه إلا أن يقرر من الآن هل يوصلها بتاريخه أو يودعها الوداع الأخير. ولم يكن يراها لأول مرة؛ فقد رآها مرات في أفراح بعض الأصدقاء، وعرف عن الرواة أن السيد خليل البنان اتخذها خليلة دهرا حتى انفصلا منذ عهد غير بعيد، ولعل هذا ما جعلها تستبضع من دكان جديد! ... وهي موفورة الحسن وإن لم تعد منزلتها كعالمة المرتبة الثانية بين العوالم، بيد أن المرأة تهمه أكثر من العالمة، وإنها لشهية لطيفة وبها من طيات اللحم والدهن ما يدفئ المقرور في زمهرير الشتاء الذي غدا على الأبواب، واعترض أفكاره مجيء الحمزاوي حاملا ثلاث لفات، فتناولتها الجارية، ودست الست يدها في الحقيبة لتخرج النقود فيما بدا، ولكن السيد أشار إليها محذرا وهو يقول: يا له من عيب!
وتظاهرت المرأة بالدهشة وقالت: أي عيب يا سي السيد! ... ليس في الحق عيب. - هذه زيارة ميمونة يحق علينا أن نحييها بما هي أهله من الإكرام، وهيهات أن نوفيها حقها.
وكانت قد نهضت وهو يتكلم فلم تبد مقاومة جدية لكرمه، ولكنها قالت: ولكن كرمك هذا سيجعلني أتردد مرة ومرتين قبل أن أقصدك مرة أخرى.
فقهقه السيد قائلا: لا تخافي، إني أكرم الزبون في المرة الأولى، ثم أعوض خسارتي في المرات اللاحقة ولو بالسرقة! هذا شعارنا نحن التجار!
فابتسمت الست، ومدت له يدها قائلة: الكريم مثلك يسرق ولا يسرق ... أشكرك يا سيد أحمد.
فقال من كل قلبه: العفو يا سلطانة.
ووقف ينظر إليها وهي تتبختر صوب الباب، حتى صعدت إلى العربة واتخذت مجلسها، وجلست جلجل على المقعد الصغير قبالتها، وتحركت العربة بحملها النفيس، ثم غابت عن ناظريه. هنالك قال الحمزاوي وهو يقلب صفحة من دفتر الحساب: كيف يمكن أن يسدد هذا الحساب؟!
فألقى السيد على وكيله نظرة باسمة، وقال: اكتب مكان الأرقام «بضائع أتلفها الهوى».
ثم غمغم وهو يمضي إلى مكتبه: «الله جميل يحب الجمال.»
15
وحين المساء أغلق السيد الدكان، وغادره تحف به المهابة ويتضوع منه عرف طيب، ثم مضى صوب الصاغة، ومنها إلى الغورية حتى قهوة سي علي، فلحظ في مروره بها بيت العالمة وما يكتنفه، فرأى الدكاكين التي تمتد على جانبيه لا تزال مفتوحة وتيار السابلة في تدفقه، فواصل السير إلى بيت أحد الأصدقاء حيث قضى ساعة ثم استأذن عائدا إلى الغورية وقد غشيتها ظلمة فانقلبت كالمقفرة، وجعل يقترب من البيت آمنا مطمئنا، ثم طرق الباب وانتظر وهو يدقق النظر فيما حوله، ولم يكن ثمة نور إلا ما ترامى من كوة بقهوة سي علي، ومصباح غازي على عربة يد عند منعطف السكة الجديدة. وفتح الباب وبدا شبح خادم صغيرة فبادرها متسائلا بصوت قوي غير متردد ليوحي بما يود من الصدق والثقة: الست زبيدة موجودة؟
فرفعت إليه الخادم رأسها وسألته بدورها في تحفظ أملته عليها ظروف وظيفتها: من أنت يا سيدي؟
فقال بصوته القوي: شخص يروم الاتفاق معها على إحياء ليلة.
وغابت الخادم دقائق ثم عادت وهي تقول: «تفضل»، وأوسعت له فدخل ورقي وراءها في سلم متقارب الدرجات انتهى به إلى دهليز، ثم فتحت له بابا في مواجهته انتقل منه إلى حجرة مظلمة، فظل واقفا على كثب من المدخل وهو ينصت إلى أقدام الخادم وهي تجري، ثم وهي تعود حاملة مصباحا، وتتبعها بعينيه وهي تضعه على خوان، وتجيء بكرسي إلى وسط الحجرة وتقف عليه لتشعل المصباح الكبير المدلى من السقف، ثم تعيد الكرسي إلى موضعه وتحمل المصباح الصغير، وتغادر الحجرة قائلة في أدب: «تفضل بالجلوس يا سيدي.» واتجه السيد إلى كنبة في صدر الحجرة وجلس في ثقة وهدوء دلا على اعتياد هذا الموقف وأمثاله، وطمأنينة إلى الخروج منه بما يرضي ويطيب، ثم خلع الطربوش وحطه على نمرقة تتوسط الكنبة ومد ساقيه في ارتياح. رأى حجرة متوسطة الحجم نضدت بجنباتها الكنبات والمقاعد، وفرشت أرضها بسجادة فارسية وقام حيال كل كنبة من كنباتها الثلاث الكبرى خوان مطعم بالصدف، وقد أسدلت الستائر على نافذتيها وبابها، فحبست في جوها شذا بخور سر به متسليا بالنظر إلى فراشة راحت ترف على المصباح في نشاط عصبي، وانتظر بعض وقت جاءت في أثنائه الخادم بالقهوة، حتى ترامى إلى أذنيه وقع شبشب منغوم ذي دقات مدغدغة، فتنبهت أعصابه، وحدق إلى الباب الذي سرعان ما امتلأ فراغه بالجسم المفصل الهائل، وقد لف لفة شهوانية في فستان أزرق، وما كادت عينا المرأة تقعان عليه حتى توقفت دهشة وهتفت: بسم الله الرحمن الرحيم ... أنت!
فجرى بصره على جسمها في عجلة ونهم كما يجري الفأر على جوال أرز ليجد لنفسه منفذا، وقال بإعجاب: باسم الله ما شاء الله!
فواصلت تقدمها بعد التوقف باسمة، وهي تقول في خوف مصطنع: عينك! ... أعوذ بالله!
فنهض السيد مستقبلا يدها الممدودة بترحاب، وتشمم شذا البخور بأنفه العظيم وقال: أتخافين الحسد وعندك هذا البخور؟!
فاستخلصت يدها من يده وتراجعت إلى كنبة جانبية، وجلست وهي تقول: بخوري خير وبركة، إنه أخلاط من أنواع شتى بعضها عربي وبعضها هندي أؤلف بينها بنفسي، فهو جدير بأن يخلص الجسد من ألف عفريت وعفريت ...
فعادو السيد الجلوس قائلا وهو يلوح بيديه في يأس: إلا جسدي! ... بجسدي عفاريت من نوع آخر لا يجدي معها البخور، الأمر أجل وأخطر.
فضربت المرأة صدرا ناهضا كالقربة وهتفت: ولكني أحيي حفلات أفراح لا حفلات زار!
فقال السيد برجاء: سنرى إن كان لدائي عندكم شفاء!
وساد الصمت قليلا فجعلت السلطانة تنظر إليه فيما يشبه التفكير، وكأنما تستخبره عن سر حضوره، وهل جاء حقا للاتفاق على إحياء ليلة كما قال للخادم ؟ ... وغلبتها الرغبة في الاستطلاع فسألته: فرح أم ختان؟
فقال السيد باسما: لك ما تشائين! - عندك مختون أم عروس؟ - عندي كل شيء.
فأنذرته بنظرة كأنما تقول له: «كم أنت متعب!» ثم تمتمت في تهكم: نحن في خدمتك على أي حال.
فرفع السيد يديه إلى قمة رأسه في هيئة تنم عن الشكر، وقال بوقار يناقض نواياه: عظم الله قدرك ... بيد أنني ما زلت مصرا على أن أترك لك الاختيار!
فتنهدت في غيظ بالدعابة أشبه وقالت: إني أفضل أفراح العرائس بطبيعة الحال! - ولكني رجل متزوج ولا حاجة بي إلى زفة من جديد!
فصاحت به: يا لك من رجل مهذار ... إذن فليكن ختانا. - ليكن ...
وتساءلت وهي تحاذر: وليدك؟
فقال ببساطة وهو يفتل شاربه: أنا!
فأطلقت السلطانة ضحكة مائعة، وقررت العدول عن التفكير في مسألة إحياء الليلة التي خمنت خبيئتها، وهتفت به: يا لك من رجل قارح، لو طالتك يدي لقصمت ظهرك.
فنهض السيد وأقبل عليها قائلا: لا أحرمتك رغبة قط.
وجلس جانبها فهمت بضربه، ولكنها ترددت ثم أمسكت، فسألها بقلق: لماذا لم تتكرمي بضربي؟
فهزت رأسها وقالت ساخرة: أخاف أن أنقض وضوئي.
فتساءل في لهفة: أأطمع في أن نصلي معا؟!
واستغفر الله في سره عقب النطق بدعابته مباشرة؛ لأن هذره وإن كان لا يقف به في سكرة المجون عند حد إلا أن قلبه لم يكن ليطمئن ويواصل ابتهاجه حتى يستغفر في باطنه صادقا مما يعبث به لسانه مازحا. أما المرأة فتساءلت في دلال ساخر: أتعني، يا صاحب الفضيلة، الصلاة التي هي خير من النوم؟ - بل الصلاة التي هي والنوم سواء.
ولم تتمالك إلا أن تقول ضاحكة: يا لك من رجل مظهره الوقار والتقوى وباطنه الخلاعة والفجور، الآن صدقت حقا ما قيل لي عنك.
واستوى السيد في جلسته في اهتمام وتساءل: وماذا قيل؟! .. اللهم اكفنا شر القيل والقال. - قالوا لي إنك زير نساء وعبد شراب.
فتنهد بصوت مسموع يذيع به ارتياحه وقال: حسبته ذما والعياذ بالله. - ألم أقل لك إنك قارح فاجر؟! - هي الشهادة لي بأني حزت القبول إن شاء الله.
فرفعت المرأة رأسها في غطرسة وقالت: بعدك! ... لست كمن عرفت من النساء ... إن زبيدة معروفة ولا فخر بعزة النفس ودقة الاختيار.
فبسط السيد راحتيه على صدره ونظر إليها في تحد مشرب باللطف، وقال بطمأنينة: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. - من أين لك بهذه الثقة وأنت لم تختن بعد بشهادتك؟
فقهقه السيد طويلا حتى قال: لا تصدقي يا ختونة ... وإن كنت في شك ...
ولكمته في منكبه قبل أن يتم جملته فأمسك، ثم أغرقا في الضحك معا، وسر بمشاركتها إياه في ضحكه، وحدس وراء ذاك - بعد ما جرى بينهما من تلميح وتصريح - لونا من الجهر بالرضا ثبتته في وعيه بسمة دلال سالت بطرفها المكحول، وراح يفكر في أن يحيي هذا الدلال بتحية تليق به لولا أن قالت له محذرة: لا تحملني على مضاعفة سوء الظن بك.
فأعاده قولها إلى تذكر ما رددته عن القيل والقال، وسألها باهتمام: من الذي حدثك عني؟
فقالت باقتضاب وهي تلحظه بنظرة اتهام: جليلة!
وفجأه الاسم كأنه عاذل يطرق مجلسهما، فابتسم ابتسامة دلت على حرجه. جليلة، تلك العالمة المشهورة التي عشقها دهرا حتى فصل بينهما الشبع، ثم عاشا وما زالا على مودة متبادلة على البعد، بيد أنه كخبير بالنساء لم ير بدا من أن يقول في لهجة صادقة: لعنة الله على وجهها وصوتها معا! ... (ثم متهربا) ... دعينا من هذا كله ولنتكلم في الجد.
فتساءلت متهكمة: ألا تستحق جليلة كلمة أرق وألطف؟ ... أم هذا شأنك عند ذكر من قطعتهن من النساء؟
وداخل السيد شيء من الحرج إلا أنه ذاب في موجة الزهو الجنسي التي أثارها في نفسه حديث عشيقة جديدة عن عشيقة ولت، وأخذ مليا بنشوة ظفر حلوة ثم قال بلباقة معهودة: لا يسعني وأنا بمحضر من هذا البهاء أن أغادره إلى ذكريات طويت ونسيت.
وبالرغم من أن السلطانة حافظت على نظرتها التهكمية، إلا أنها استجابت للثناء كما بدا في رفع حاجبيها ومداراتها لابتسامة خفيفة اندست إلى شفتيها، ولكنها خاطبته بازدراء قائلة : لسان تاجر يسخو بالحلاوة حتى ينال غرضه. - لنا الجنة نحن التجار بما يظلمنا الناس.
وهزت كتفيها استهانة، ثم سألته في اهتمام غير خاف: متى رافقتها؟
فلوح السيد بذراعه كأنه يقول: «ما أبعده من زمن!» ثم تمتم: منذ أزمان وأزمان!
فضحكت في تهكم وقالت بنبرات تنم عن التشفي: في أيام الشباب الذي مضى!
فرنا السيد إليها معاتبا، ثم قال: بودي أن أمص من لسانك الأذى.
ولكنها واصلت حديثها بنفس اللهجة قائلة: أخذتك لحما وتركتك عظاما.
فأومأ إليها بسبابته محذرا، وقال: إني من صلب رجال يتزوجون في الستين. - بدافع العشق أم بدافع الخرف؟!
فقهقه السيد قائلا: يا ولية اتقي الله، ودعينا نتكلم في الجد. - الجد؟! ... أتعني إحياء الليلة التي جئت تتفق عليها؟ - أعني إحياء العمر كله. - كله أم نصفه؟! - ربنا يقدرنا على ما فيه الخير. - ربنا يقدرنا على الطيب.
واستغفر الله في سره مقدما ثم تساءل: نقرأ الفاتحة؟
ولكنها نهضت بغتة متجاهلة دعوته وهتفت متظاهرة بالجزع: رباه ... سرقني الوقت ولدي الليلة عمل هام.
ونهض السيد بدوره، ومد يده فتناول يدها ثم بسط راحتها المخضبة بالحناء، ورنا إليها بشوق وافتتان، وأصر على احتفاظه بها رغم جذبها إياها مرة ومرتين، حتى قرصته في أصبعه ورفعت يدها إلى شاربه، وصاحت به مهددة: دعني أو تخرج من بيتي بفردة شارب واحدة.
ورأى ساعدها قريبا من فيه، فزهد في النقاش وقرب منه شفتيه رويدا، حتى غاصتا في لحمه الطري، فتطاير منه إلى أنفه رائحة قرنفلية ذات طعم حلو، ثم تنهد مغمغما: إلى الغد؟!
فتخلصت من يده مقاومة من ناحيته هذه المرة، وحدقت إليه طويلا ثم ابتسمت وتمتمت:
عصفوري يا امه عصفوري
لألعب وأوري له أموري
وجعلت تردد: «عصفوري يا امه» مرات وهي تودعه، وغادر السيد الحجرة وهو يردد مطلع الأغنية بصوت منخفض ملؤه الوقار والرزانة كأنما يستخبر الألفاظ عما وراءها من معان.
16
كان ما يطلق عليه بهو الحفلات ببيت العالمة زبيدة يتوسط الدار كالصالة، أو كأن الصالة بالفعل استجدت لها أغراض أخرى. ولعل أهم أغراضه أنها كانت تقوم فيه - هي وجوقتها - بالتجارب الغنائية وحفظ الأغاني الجديدة، وقد اختارته لبعده عن الطريق العام بما يفصل بينهما من حجرات النوم والاستقبال. وجعله اتساعه - إلى هذا - صالحا لإحياء الحفلات الخاصة التي تتراوح عادة بين الزار والغناء، والتي تدعو إليها الخاصة من أصدقائها ومعارفهم المقربين. ولم يكن الباعث على هذه الحفلات أريحية كرم فحسب - إن كان ثمة كرم على الإطلاق فإنه غالبا ما ينهض بأعبائها الأصدقاء أنفسهم - ولكنها رمت من ورائها إلى الإكثار من الأصدقاء الممتازين الخليقين بأن يدعوها لإحياء الحفلات أو يقوموا لها بالدعاية النافعة في الأوساط التي يتقلبون فيها، ومن بينهم - إلى هذا كله - تنتقي الخليل بعد الخليل. وجاء دور السيد أحمد عبد الجواد ليشرف البهو السعيد محاطا بالخاصة من معارفه. والحق أنه تبدى عن نشاط جم عقب المقابلة الجريئة التي تمت بينه وبين زبيدة في بيتها، فسرعان ما حمل رسله كريم الهدايا من النقل والحلوى والهدايا ... إلى مدفأة أوصى على صنعها ونقشها وطليها بالفضة لتكون - جميعا - عربونا للمودة المقبلة، ففي لقاء هذا دعته السلطانة، تاركة له الخيار في دعوة من يشاء من أصدقائه، إلى حفلة تعارف تكريما للحب الجديد - ولشد ما كان البهو موسوما بطابع بلدي جذاب بكنباته المتلاصقة المزركشة الناعمة الموحية بالنفاسة والخلاعة، الممتدة على الجانبين حتى الصدر، حيث يقوم ديوان الست تكتنفه الشلت والوسائد المعدة للجوقة، أما أرضه المستطيلة فمفروشة بسجاد متعدد الألوان والشكول، وعلى كنصول يتوسط الجناح الأيمن - كالشامة رواء وصفاء - أوقدت الشموع منغرسة في الفنايير، غير مصباح ضخم يتدلى من قمة منور يتوسط سقف الحجرة ذي منافذ على سطح الدار تفتح في الليالي الدافئة وتغلق بأضلاف زجاجية في ليالي البرد.
جلست زبيدة متربعة على الديوان وإلى يمينها زنوبة العوادة ربيبتها، وإلى يسارها عبده عازف القانون الضرير، واستوت النسوة جلوسا عن يمين وشمال ما بين ممسكة بالدف، أو ماسحة على الدربكة أو عابثة بالصنج. وآثرت السلطانة السيد أحمد بأول مجلس في الجناح الأيمن، واتخذ الباقون من صحبه مجالسهم بلا كلفة كأنهم أصحاب الدار، ولا عجب فلم يكن الجو بالجديد عليهم، ولا السلطانة بالتي يرونها لأول مرة، وقدم السيد أحمد أصحابه إلى العالمة مبتدئا بالسيد علي بائع الدقيق، فضحكت زبيدة قائلة: ليس السيد علي بالغريب فقد أحييت فرح كريمته في العام الماضي ...
ثم ثنى بالسيد تاجر النحاس، ولما رماه أحدهم بأنه من رواد بمبة كشر بادر الرجل قائلا: وجئت تائبا يا ست.
وتتابع التعارف حتى تم، ثم جاءت الجارية جلجل بأقداح الشراب ودارت على المدعوين، ومضت النفوس تستشعر حيوية مشبعة بالأريحية والمرح، وبدا السيد عريس الحفلة بلا منازع، بهذا دعاه الأصدقاء، وبهذا شعر في أعماقه، وقد وجد لذلك بادئ الأمر لونا من الارتباك قل أن يلم به، فداراه بالإسراف في الضحك والمرح، حتى إذا أخذ في الشراب زايله بلا عناء، فاستعاد طمأنينته واندمج في الطرب بكل قلبه. وجعل كلما لج به الشوق - والأشواق في مغاني الطرب تثار - يمد بصره إلى سلطانة المجلس بنهم فيتلكأ ناظره عند طيات جسمها المكتنز، فطاب قلبا بما أفاء عليه الحظ من نعمة، وهنأ نفسه على ما يترقبها من لذيذ المسرات، هذه الليلة والليالي الأخريات: «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. هذا التصريح الذي تحديتها به، يجب أن أكون عند كلمتي، أية امرأة هي يا ترى، وأي مدى مداها، سأعرف الحقيقة في الساعة المناسبة ثم ألبس لكل حال لبوسها؛ لكي تضمن الانتصار على غريم ينبغي أن تفترض فيه الغاية من المناعة والبأس. لن أحيد عن شعاري القديم وهو أن أجعل من لذتي أنا مطلبا ثانويا، ومن لذتها هي الهدف والنهاية، وبذلك تتحقق لذتي على أكمل وجه.» ومع أن السيد لم يخبر من ألوان الحب - على وفرة مغامراته - إلا الحب العضوي وحب اللحم والدم، إلا أنه تدرج في اعتناقه إلى أرق صوره وأنقاها، فلم يكن حيوانا بحتا ولكنه إلى حيوانيته وهب لطافة إحساس ورهافة شعور وولع مغلغل بالغناء والطرب، فسما بالشهوة إلى أسمى ما يمكن أن تسمو إليه في مجالها العضوي. بهذه البواعث العضوية وحدها تزوج أول مرة ثم ثاني مرة، أجل أثرت عاطفته الزوجية - بكرور الأيام - بعناصر جديدة هادئة من المودة والألفة، ولكنها ظلت في جوهرها جسدية شهوانية، ولما كانت عاطفة من هذا النوع - خاصة إذا أوتيت قوة متجددة وحيوية دافقة - لا يمكن أن تستنيم إلى لون واحد، فقد انطلق في مذاهب العشق والهوى كالثور الهائج، كلما دعته صبوة استجاب لها في نشوة وحماس. لم ير في أية امرأة إلا جسدا، ولكنه لم يكن يحني هامته لهذا الجسد حتى يجده خليقا حقا بأن يرى ويلمس ويشم ويذاق ويسمع، شهوة نعم ولكنها ليست وحشية ولا عمياء، بل هذبتها صنعة، ووجهها فن فاتخذت لها من الطرب والفكاهة والبشاشة جوا وإطارا. فلم يكن أشبه بشهوته من جسمه، فهو مثلها في الضخامة والقوة اللتين توحيان بالقسوة والوحشية، ولكنه - مثلها أيضا - فيما ينطوي عليه في أعماقه من لطف ورقة ومودة على ما يتسربل به أحيانا متعمدا من الصرامة والشدة؛ ولذلك فلم يتركز خياله النشيط - وهو يلتهم السلطانة بنظراته - في المضاجعة ونحوها، ولكنه تاه - إلى هذا - في أفانين من أحلام اللهو واللعب والغناء والسمر. وأحست زبيدة بحرارة عينيه فقالت تخاطبه وهي تقلب عينيها في وجوه المدعوين بعجب ودلال: حسبك يا عريس، هلا استحييت حيال رفاقك!
فقال السيد متعجبا: وما انتفاعي بالحياء حيال قنطار من اللحم والدهن!
فأطلقت العالمة ضحكة رنانة، وتساءلت في غاية من الانبساط: كيف ترون صاحبكم؟
فقالوا في نفس واحد: معذور!
وهنا حرك عازف القانون الضرير رأسه يمنة ويسرة، وقد تدلت شفته السفلى وتمتم: قد أعذر من أنذر.
ومع أن حكمته لاقت ترحيبا إلا أن الست التفتت نحوه كالغاضبة ولكزته في صدره هاتفة: اسكت أنت وسد فاك الذي يبلع المحيط.
وتلقى الضرير الضربة ضاحكا ثم فتح فاه كأنما ليتكلم، ولكنه أغلقه مرة أخرى مؤثرا السلامة فوجهت المرأة رأسها صوب السيد، وقالت بلهجة تنم عن الوعيد: هذا جزاء من يجاوز حده.
فقال السيد متظاهرا بالانزعاج: ولكنني جئت لأتعلم قلة الأدب.
فدقت المرأة صدرها بيدها وصاحت: يا خبر! ... أسمعتم قوله؟!
فقال أكثر من واحد منهم في وقت واحد : إنه خير ما سمعنا حتى الآن.
وأضاف إلى هذا أحد الرفقاء قائلا: بل عليك بضربه إذا جاوز حدود قلة الأدب.
وقال آخر مؤمنا على قوله: الزمي طاعته ما قل أدبه.
فتساءلت المرأة وهي ترفع حاجبيها لتعلن عن دهشة لا أثر لها في نفسها: لحد هذا تحبون قلة الأدب!
فتنهد السيد قائلا: ربنا يديمها علينا.
فما كان من العالمة إلا أن تناولت الدف وهي تقول: سأسمعكم شيئا أفضل.
ونقرت عليه فيما يشبه العبث، ولكن علا النقر في حومة اللغو كالنذير حتى أسكته، وداعب الآذان متوددا فبدل القوم حالا بعد حال، تحفز أفراد الجوقة للعمل، وفرغ السادة الكئوس ثم مدوا رءوسهم نحو السلطانة، وساد المكان صمت يكاد ينطق من شدة التهيؤ للطرب، وأومأت العالمة إلى الجوقة فانطلقت تعزف بشرف عثمان بك، وراحت الرءوس تذهب مع الأنغام وتجيء، وسلم السيد نفسه لرنين القانون الذي جعل يلذع قلبه فيشعل فيه أصداء الأنغام المختلفة من عهد طويل حافل بليالي الطرب كأنها ذرات نفط تساقط على جمر مكنون، أجل كان القانون أحب آلات الطرب إلى نفسه - لا لمهارة العقاد وحدها - ولكن لسر مستلهم من طبيعة أوتاره، ومع أنه كان يعلم أنه يستمع إلى العقاد أو سي عبده إلا أن قلبه العاشق دارى بعشقه ما قصر دونه الفن. وما إن فرغت الجوقة من عزف البشرف حتى انطلقت العالمة تنشد «والذي أسكر من عذب اللمى» فلحقت بها الجوقة في حماس، وكان أجمل ما يطرب فيها صوتان متجاوبان؛ أحدهما غليظ عريض للعازف الضرير، والآخر رقيق يندى بالطفولة لزنوبة العوادة، فجاش صدر السيد بالانفعال فابتدر الكأس الذي بين يديه فأفرغه في جوفه واندفع يشارك في إنشاد التوشيح، وقد وشت نبرات صوته - عند مطلع الغناء - بشرق في حلقه لاندفاعه إلى الإنشاد قبل أن يتم بلع ريقه، وما لبث أن تشجع بقية الرفاق فحذوا حذوه، وسرعان ما انقلب البهو جوقة تنشد عن صوت واحد. ولما ختم التوشيح تهيأت روح السيد - بحكم العادة - لاستماع التقاسيم والليالي ولكن العالمة ذيلت الختام بضحكة من ضحكاتها الرنانة معلنة عن سرورها وعجبها، ومضت تهنئ أفراد الجوقة المستجدين مداعبة وتسألهم عن الدور الذي يودون سماعه، وانزعج السيد في باطنه ومرت به لحظة كدر امتحن فيها ولعه بالغناء امتحانا قاسيا لم يفطن إليه كثيرون ممن حوله، ولكنه أدرك في اللحظة التالية أن زبيدة ليست كفئا لتقاسيم الليالي شأن جميع العوالم بما فيهن «بمبة كشر» نفسها، فتمنى لو تختار المرأة طقطوقة خفيفة مما تغني للسيدات في الأفراح، مفضلا هذا على محاولة غناء دور من أدوار الفحول ستعجز حتما عن إجادة ترجيعه، وصمم على أن يتفادى من المتاعب التي تخافها أذنه بأن يقترح أغنية خفيفة تناسب حنجرة الست فقال: ما رأيكم في عصفوري يا امه؟
وحدجها بنظرة ذات معنى كأنما ليثير في نفسها إيحاء هذه الطقطوقة التي توجت بها حوار تعارفهما في حجرة الاستقبال منذ أيام قلائل، ولكن جاء صوت من أقصى البهو يصيح ساخرا: الأولى أن تطلبها من أمك!
وسرعان ما ضاع الاقتراح فيما تفجر من قهقهات أفسدت على السيد خطته، وقبل أن يكرر المحاولة طلب نفر «يا مسلمين يا اهل الله» وطلب آخرون «سلامتك يا قلبي»، ولكن زبيدة التي تحاشت أن ترضي فئة على حساب أخرى أعلنت أنها ستغنيهم «على روحي أنا الجاني» فاستقبلت بترحاب حار. ولم يجد السيد بدا من توطين النفس على الانبساط مستعينا بالشراب، وبأحلام ليلته الواعدة، فتألق ثغره بابتسامة وضيئة أدرك بها ركب النشاوى بلا كدر، بل وجد عطفا على رغبة المرأة في محاكاة الفحول إرضاء لمستمعيها الراسخين في السماع، وإن لم يخل حالها من غرور تألفه الغواني. وفيما تتهيأ الجوقة للغناء نهض أحد الرفاق وهتف بحماس: دعوا الدف للسيد أحمد فهو به خبير!
فهزت زبيدة رأسها عجبا وتساءلت: حقا؟!
فحرك السيد أصابعه في سرعة ورشاقة كأنما يعرض عليها مثالا من صنعته، فقالت زبيدة باسمة: فيم العجب وأنت تلميذ جليلة!
وضحك السادة في غير ما تحفظ، وتواصل الضحك حتى علا صوت السيد الفار، وهو يسأل السلطانة قائلا: وماذا تنوين أن تعلميه أنت؟
فقالت بلهجة ذات معنى: سأعلمه القانون ... ألا يروقك هذا؟
فقال السيد باستعطاف: علميني الهنك إن شئت.
وحث كثيرون السيد على الانضمام إلى التخت وأخذ الدف، فما كان منه إلا أن نهض وخلع الجبة، فبدا بطوله وعرضه في القفطان الكموني كجواد يقف مستوفزا على رجليه الخلفيتين، ثم شمر عن ساعديه ومضى إلى الديوان ليتخذ مجلسه إلى جانب الست، ولكي تفسح له قامت نصف قومة متزحزحة إلى اليسار، فانحسر الفستان الأحمر عن ساق لحيمة مرتوية بيضاء مشربة بلون وردي من أثر الحف والنتف محلى أسفلها بخلخال ذهبي أعيا ضمها ذراعيه، ورأى بعضهم ذاك المنظر فصاح بصوت كالرعد: تحيا الخلافة!
وكان السيد يغمز ثديي المرأة بعينيه فهتف وراءه: قل يحيا الصدر الأعظم.
فصاحت العالمة محذرة: خفضوا أصواتكم أو يبيتنا الإنجليز في السجن.
فهتف السيد الذي لعبت الخمر برأسه: أذهب معك مؤبدا مع الشغل.
وعلا أكثر من صوت يقول: لا عاش من يترككما تذهبان وحدكما.
وأرادت المرأة أن تحسم النزاع الذي أثاره منظر ساقها، فمدت يدها بالدف إلى السيد وهي تقول: أرني شطارتك.
وتناول السيد الدف، ومسح عليه براحته مبتسما، وبدأت أصابعه تنقر عليه في مهارة على حين انطلقت آلات الطرب عازفة، ثم غنت زبيدة وهي ترنو إلى الأعين المحدقة إليها:
على روحي أنا الجاني
وخلي في الهوى رماني
ووجد السيد نفسه في موقف عجيب، تهفو إليه أنفاس السلطانة بين اللفتة واللفتة فتلتقي بإشعاعات الخمر المتطايرة من يافوخه بين الحسوة والحسوة، فما أسرع أن غابت عن وعيه أصداء الحامولي وعثمان والمنيلاوي، وعاش في لحظته الراهنة قانعا سعيدا، ثم سرى إليه من نبرات صوتها ما حرك أوتار قلبه، فاستعر نشاطه ولعب بالدف لعبا لا يدانيه المحترفون، وما بلغت المرأة في الغناء قولها: «أمانة يا رايح يمه تبوس لي الحلو من فمه.» حتى كان من النشوة في سكرة عاتية ملهمة مدغدغة محرقة، ولحق به الرفاق أو سبقوه إذ بلغت الخمر بالضرب نهايته ونثرت الشهوات نثرا، فتركتهم كأدواح راقصة في حومة عاصفة هوجاء.
ورويدا رويدا شارف الدور الختام، وراحت زبيدة تختمه مرددة نفس المطلع الذي افتتحت به وهو: «على روحي أنا الجاني.» ولكن بروح يوحي بالدعة والتذكير والوداع ثم النهاية، وغابت الأنغام كما تغيب طيارة بحبيب وراء الأفق. ومع أن الختام قوبل بعاصفة من التهليل والتصفيق إلا أنه سرعان ما ساد القاعة صمت دل على همود أنفس أعياها الجهد والانفعال، ومضت فترة لم يسمع فيها إلا سعلة أو نحنحة أو حكة عود ثقاب أو كلمة لا تستحق المراجعة، وقال لسان الحال للمدعوين: «تفضلوا بسلام.» فلاحت من بعضهم نظرات إلى قطع الثياب التي تخففوا منها في فورة الطرب فوضعوها وراءهم على مساند، ولكن البعض الآخر ممن تعلقت نفوسهم بحلاوة السهرة أبوا أن يغادروها حتى يرشفوا آخر قطرة متاحة من الرحيق، فصاح أحدهم: لا نبرح حتى نزف السلطانة إلى السيد أحمد.
وقوبل الاقتراح بترحاب وتأييد، على حين أغرق السيد والعالمة في الضحك غير مصدقين، وما يدريان إلا ونفر من الصحاب يحيطون بهما وينهضونهما ثم يشيرون إلى الجوقة لتشرع في النشيد السعيد.
وقفا جنبا لجنب، هي كالمحمل وهو كالجمل، عملاقين ملطفين بالحسن، ثم تأبطت في دلال ذراعه وأشارت إلى المحدقين بهما ليفسحوا الطريق. ونقرت الدفافة على الدف فانطلقت الجوقة وكثرة من المدعوين يرددون نشيد الزفة «انظر بعينك يا جميل.» ومضى العروسان في خطو وئيد يتبختران طربا وسكرا، فلم تتمالك زنوبة مع هذا المنظر إلا أن تمسك عن اللعب بأوتار العود ريثما تطلق زغرودة مجلجلة طويلة النفس لو تجسمت لبدت لسانا متعرجا من لهب يشق الفضاء كالشهاب. وتسابق الأصدقاء يزجون التهاني تباعا: بالرفاء والبنين. - ذرية صالحة من الراقصات والمغنيات.
وصاح به أحدهم محذرا: لا تؤجل عمل اليوم إلى غد.
ولم تزل الجوقة تواصل الإنشاد، والأصدقاء يلوحون بأيديهم مودعين، حتى توارى السيد والمرأة وراء الباب المفضي إلى داخل الدار.
17
كان السيد أحمد جالسا إلى مكتبه بالدكان، حين دخل ياسين على غير انتظار، ولم تكن زيارة غير منتظرة فحسب، ولكنها كانت قبل كل شيء غير مألوفة؛ إذ لم يكن من الطبيعي أن يزور الفتى أباه في دكانه على حين يتحاشاه على قدر استطاعته في بيته، وإلى هذا بدا شارد اللب ساهم النظرة ... وأقبل على أبيه مكتفيا برفع يده إلى رأسه بطريقة آلية دون أن يلتزم ما يلتزم عادة بمحضره من أدب بالغ وخضوع كأنما نسي نفسه، ثم قال بلهجة نمت عن شديد تأثره: السلام عليكم يا أبي، جئت لأحدثك في أمر هام.
ورفع السيد إليه عينيه متسائلا وقد ساوره قلق استعان على إخفائه بقوة إرادته، ثم قال بهدوء: خير إن شاء الله!
وجاء جميل الحمزاوي بكرسي وهو يرحب بمقدمه، فأمره والده بالجلوس فقرب الشاب الكرسي من مكان أبيه وجلس، وبدا لحظات كالمتردد، ثم زفر ثائرا بتردد وقال بنبرات متهدجة وفي اقتضاب مؤثر: المسألة أن أمي شارعة في الزواج!
ومع أن السيد توقع خبرا سيئا إلا أن خياله لم يجنح في جولته التشاؤمية إلى تلك الناحية التي أودعها ركنا مهجورا من ماضيه؛ لذلك لقيت منه المفاجأة صيدا غافلا، وسرعان ما قطب كما يقطب كلما عرض له عارض من ذكريات زوجه الأولى، وتولاه لذلك ضيق، ثم انزعاج لما يمس ابنه مباشرة في صميم كرامته، وكشأن السائلين الذين يلقون السؤال لا ليعرفوا جديدا ولكن ليلتمسوا منفذا للنجاة من الواقع وهم يائسون، أو ليهيئوا لأنفسهم مهلة للتروي وتمالك الأعصاب، وسأله: ومن أدراك بهذا؟ - قريبها الشيخ حمدي، زارني اليوم بمدرسة النحاسين، وألقى علي الخبر مؤكدا بأنه سيتم في ظرف شهر.
الخبر حق لا ريب فيه، وما هو بالأول من نوعه في حياتها، ولن يكون الأخير إذا اتخذ الماضي مقياسا للمستقبل، ولكن أي ذنب جناه هذا الشاب ليلقى هذا الجزاء الصارم المتجدد الأذى؟! ووجد الرجل نحو ابنه رثاء وعطفا، وعز عليه أن يقف من آلامه موقف العجز وهو الذي يقصده الناس في الملمات، وتساءل فيما بينه وبين نفسه ماذا تكون حاله لو كان هو المبتلى بهذه الأم! ... فانقبض صدره وتضاعف رثاؤه وعطفه نحو ابنه، ثم شعر برغبة تدفعه إلى السؤال عن ذلك الزوج المنتظر ولكنه لم يستسلم لها؛ إما لأنه أشفق من أن تزيد جرح ابنه عمقا واتساعا، وإما لأنه أنكرها على نفسه لما آنس بها من حب استطلاع لا يليق بالمأساة الراهنة، موجه إلى المرأة التي كانت زوجا له، بيد أن ياسين قال منفعلا من تلقاء نفسه وكأنه يجيب خاطرته: وممن تتزوج! ... من شخص يدعى يعقوب زينهم صاحب مخبز في الدراسة ... في الثلاثين من عمره!
واشتد انفعاله وتهدج صوته، وهو ينطق العبارة الأخيرة كأنما يلفظ شظية، فانتقل إحساسه إلى أبيه تقززا واشمئزازا، وجعل يردد في سره: في الثلاثين من عمره ... يا له من عمل فاضح! ... إنه فسق في ثياب زواج ... غضب الرجل لغضب ابنه، وغضب لحساب نفسه هو كما اعتاد أن يغضب كلما ترامى إليه نبأ من مباذلها، كأنما يتجدد شعوره بتبعته في اعتبارها يوما زوجا له، أو كأنما يعز عليه - ولو بعد كرور ذاك الزمن الطويل - أنها أفلتت من تأديبه والإذعان لسنته! وإنه ليذكر أيام معاشرته لها - على قصرها - كما يذكر الإنسان حمى هاضته، وربما كان مغاليا في تصوره، ولكن رجلا في مثل اعتداده بنفسه جدير بأن يرى في مجرد الرغبة عن الإذعان لمشيئته جريمة لا تغتفر وهزيمة قتالة. ثم إنها كانت - ولعلها لا تزال - جميلة مترعة أنوثة وجاذبية، فنعم بمعاشرتها أشهرا حتى بدا منها شيء من المقاومة لإرادته التي نزع إلى فرضها على المتصلين به من آله، ولم تر بأسا في الاستمتاع بالحرية ولو بالقدر الذي يتيح لها زيارة أبيها من آن لآن، فغضب السيد وحاول منعها بالزجر أولا ثم بالضرب المبرح أخيرا، فما كان من المرأة المدللة إلا أن فرت إلى والديها! وأعمى الغضب الرجل المتعجرف فظن أن خير سبيل إلى تأديبها وإرجاع عقلها إلى رأسها هو أن يطلقها إلى حين - إلى حين طبعا لأنه شديد التعلق بها - فطلقها، وتظاهر بإهمالها أياما وأسابيع وهو ينتظر آملا أن يجيئه وسيط خير من آلها، فلما لم يطرق بابه أحد داس كبرياءه وبعث هو من يجس النبض تمهيدا للصلح، فعاد الرسول يقول إنهم يرحبون به على شرط ألا يسجنها أو يضربها ! ... ولكنه كان ينتظر موافقته بلا قيد ولا شرط، فثار غضبه ثورة عاتية وأقسم فيما بينه وبين نفسه ألا يضمهما رباط إلى الأبد. هكذا ذهب كلاهما إلى حال سبيله، وهكذا قضي على ياسين أن يولد بعيدا عن أبيه، وأن يلقى من حياته في بيت أمه ما لقي من ضروب المذلة والألم.
ومع أن المرأة تزوجت أكثر من مرة، ومع أن الزواج كان - في نظر ابنها - أشرف سقطاتها، إلا أن هذا الزواج الجديد المتوقع بدا أفظع من سوابقه وأمعن في الإيلام؛ لأن المرأة استوت على الأربعين من ناحية، ولأن ياسين اكتمل شابا مدركا بوسعه إذا شاء أن يدفع عن كرامته الإساءة والهوان من ناحية أخرى، فقد جاوز إذن موقفه القديم الذي ألزمته إياه حداثة سنه، حين كان يتلقى الأنباء المثيرة عن أمه بالدهش والانزعاج والبكاء إلى موقف جديد بدا فيه أمام نفسه رجلا مسئولا، لا يصح له أن يلقى الإساءة مكتوف اليدين. دارت هذه الخواطر بذهن السيد، وقدر خطورتها بقلق، ولكنه صمم على التهوين من شأنها ما وسعته الحيلة ابتعادا بابنه الأكبر عن المتاعب، فهز منكبيه العريضين متظاهرا بالاستهانة، وقال: ألم نتعاهد على اعتبارها كشيء لم يكن؟!
فقال ياسين في حزن وقنوط: ولكنها شيء كائن يا أبي! ... ومهما يكن من أمر تعاهدنا فلن تزال أمي إلى ما شاء الله، سواء في نظري أم في نظر الناس جميعا ... لا مفر ولا خلاص.
ونفخ الشاب من الأعماق، ورنا إلى أبيه بعينيه السوداوين الجميلتين - اللتين ورثهما عنها - في استغاثة صارخة وكأنه يقول له: «إنك أبي الجبار القادر فمد لي يدك.» فبلغ التأثر بالسيد غايته ولكنه واصل تظاهره بالهدوء المقرون بالاستهانة قائلا: لا أنكر عليك تألمك، ولكني أنكر عليك أن تغالي فيه، كذلك يطيب لي أن أعذرك على غضبك ولكن قليلا من العقل حري بأن يردك بلا عناء، سائل نفسك في هدوء ماذا عليك من زواجها؟ ... امرأة تتزوج، كما تتزوج النساء كل يوم وكل ساعة، وليست هي بالتي تحاسب على مثل هذا الزواج لما سلف من سلوكها، بل لعلها خليقة بأن تشكر عليه، وكما قلت لك مرارا لن يرتاح لك بال حتى تسقطها من حسابك كأنها لم تكن، فافعل بالله وأرح نفسك، وتعز - مهما يكن من أمر القيل والقال - بأن الزواج علاقة مشروعة ... شريفة.
قال السيد هذا بلسانه فحسب - إذ كان يناقض كل المناقضة ما طبع عليه من غيرة متطرفة فيما يتصل بالآداب المطلقة للأسرة - ولكنه قاله بحرارة كالصدق، منشؤها ما مارسه من لباقة أهلته لأن يكون الحكم الحكيم ووسيط الخير الذي لا يعجزه فض نزاع بين الناس، ومع أن كلامه لم يضع هباء - حيث إنه من المستحيل أن يضيع كلام للسيد هباء حيال أحد من أبنائه - إلا أن غضب الفتى كان أعمق من أن يتبخر بنفخة واحدة، فوقع منه موقع قدح بارد من إبريق بالماء المغلي، وما لبث أن خاطب أباه قائلا: هو علاقة مشروعة حقا يا أبي، ولكنها تبدو أحيانا أبعد ما تكون عن الشرع، إني أسائل نفسي عما يدفع هذا الرجل إلى الزواج منها؟!
وبالرغم من خطورة الحال قال السيد لنفسه في شيء من السخرية «أولى بك أن تسأل عما يدفعها هي!» وقبل أن يحاور ابنه واصل ياسين حديثه قائلا: إنه الطمع ... ولا شيء غيره! - أو لعلها رغبة صادقة في الزواج منها.
ولكن الشاب هاج ثائره وهتف في حنق وألم معا: بل الطمع وحده.
وبالرغم من خطورة الموقف لم تخف على السيد حدة اللهجة التي خاطبه بها ابنه، بل لم يخل الرجل من ضيق إلى تقديره لحاله وحزنه أن يعود إلى توكيد قوله السابق، فلما لم يفعل استطرد قائلا في هدوء نسبي: إن ما يدفعه إلى الزواج من امرأة تكبره بعشرة أعوام هو الطمع في مالها وعقارها.
وجد السيد في تحول النقاش إلى هذه النقطة فائدة لم تغب عن ألمعيته؛ فهو ينزع الفتى من تركيز تفكيره في أمور أشد حساسية وأبعث للألم، وبحسبه أنه يصرفه عن النظر فيما يدفع أمه إلى الزواج إلى ما يدفع الرجل، وإلى هذا كله لم يخف عليه ما في رأي ابنه من وجاهة فيما يتعلق بالزوج، فسرعان ما اقتنع به، وشاركه مخاوفه فيه. أجل إن هنية - أم ياسين - غنية لدرجة لا بأس بها، وقد سلمت لها ثروتها من العقار على ما خاضت من تجاريب الزواج والهوى، بيد أنها كانت فيما مضى شابة حسناء ذات سحر وسلطان، يخاف منها ولا يخاف عليها، أما الآن فبعيد عن الاحتمال أن تملك نفسها - فضلا عن أنفس الآخرين - ما ملكت، وإذن فثروتها خليقة بأن تبدد في معركة الغرام التي لم تعد من رماتها، وإنه لحرام وأي حرام أن يخرج ياسين من جحيم هذه المأساة جريح الكرامة وصفر اليدين. وقال السيد يخاطب ابنه وكأنه يحاور نفسه ويستلهمها الرأي: أراك على حق يا بني فيما تقول، إن امرأة في سنها صيد يسير خليق بأن يغري الطماعين من البشر، فما عسى أن نفعل؟ أنتلمس سبيلا إلى ذاك الرجل لنحمله على العدول عن مغامراته؟! ... إن الحملة عليه بالوعيد والتهديد سلوك لا ترتضيه آدابنا وما عرفنا به بين الناس، كذلك التوسل إليه بالرجاء والاقتناع مهانة لا تهضمها كرامتنا ... فلم يبق أمامنا إلا المرأة نفسها! ... ولست أجهل ما حفرت بينك وبينها من قطيعة كانت بها - ولا تزال - خليقة، بل الحق أني لا أرتاح إلى أن تصل ما انقطع بينك وبينها لولا ما استجد من أعذار قهرية، فللضرورة أحكام، ومهما يشق عليك الرجوع فهو رجوع إلى أمك، ومن يدري فلعل ظهورك المفاجئ في أفقها يردها إلى شيء من الصواب.
وبدا ياسين أمام أبيه كالوسيط أمام المنوم المغناطيسي في اللحظات التي تسبق ما يوحي به إليه، ذاهلا صامتا، فوشى حاله بنفاذ تأثير الرجل إلى نفسه، أو لعله دل على أنه لم يفاجأ بهذا الاقتراح، وأنه يحتمل أن يكون مما دار بنفسه قبل مجيئه، بيد أنه تمتم قائلا: أليس ثمة حل أوفق؟
فقال السيد بقوة ووضوح: أراه أوفق الحلول.
فقال ياسين وكأنه يحادث نفسه: كيف أرجع إليها؟! ... كيف أزج بنفسي في ماض فررت منه، وليس أحب إلي من أن يبتر من حياتي بترا! ... لا أم لي ... لا أم لي.
ولكن بالرغم من ظاهر قوله شعر السيد بأنه وفق إلى جذبه إلى رأيه فقال بلباقة: هذا حق، ولكن لا أظن أن ظهورك أمامها فجأة بعد ذاك الغياب الطويل يمضي بلا أثر، لعلها إذا رأتك بين يديها شابا ناضجا أن تتحرك أمومتها فتجفل مما عساه يسيء إلى كرامتك وتعدل عن سيرتها ... من يدري؟!
فطامن ياسين رأسه غارقا في أفكاره، غير مبال بما دل عليه من ضيق ويأس، كان يرتعد خوفا من وقوع الفضيحة، ولعل هذا كان أفظع ما يكربه، ولكن خوفه على ضياع الثروة التي ينتظر أن يرثها يوما لم يكن دون ذلك، وما عسى أن يفعل؟! ... مهما يقلب أوجه الرأي فلن يجد حلا أوفق مما ارتأى أبوه، بل إن صدور الرأي عن أبيه ألبسه في نظره - على تقلقل حاله - وجاهة وأعفاه هو من هموم كثيرة، ليكن ... هكذا قال في نفسه، ثم قال مخاطبا أباه: كما ترى يا أبي.
18
لما بلغت به قدماه طريق الجمالية انقبض صدره حتى شعر بأنه يختنق. لقد غاب عنه أحد عشر عاما، أحد عشر عاما تصرمت فلم ينازعه القلب إليه مرة واحدة، أو ترف عليه ذكرى من ذكرياته إلا في هالة قاتمة مقبضة نسج وشيها من مادة الكابوس، والحق أنه لم يكن غادره ولكن واتته فرصة ففر منه فرارا، ثم ولاه ظهره غاضبا يائسا، ثم تجنبه بكل قوة نفسه فلم يعرفه بعد ذلك كغاية في نفسه أو معبرا إلى سواه من الأحياء، بيد أنه هو الحي كما عهده في طفولته وصباه، لم يتغير منه شيء، ما زال ضيقا تكاد تسده عربة يد إذا اعترضت سبيله، وها هي بيوته تكاد تتماس مشربياتها، ودكاكينه الصغيرة في تلاصقها وزحمتها والطنين الصادر عنها كخلايا النحل، وأرضه التربة بفجواتها المفعمة وحلا، وغلمانه الذين يغشون جوانبه ويطبعون على أديمه آثار أقدامهم الحافية، وسابلته الذين لا ينقطع لهم تيار، ومقلى عم حسن ومطعم عم سليمان، كل أولئك باق كما عهده فتكاد ترف على شفتيه ابتسامة حنان يريد ثغر طفولته أن يفتر عنها لولا مرارة الماضي وسقم الحاضر.
وتراءت لعينيه عطفة قصر الشوق فخفق قلبه بقوة حتى كاد يصم أذنيه، ثم لاحت على رأس منعطفها الأيمن سلال البرتقال والتفاح منضدة على الطوار أمام دكان الفاكهة، فعض على شفتيه وغض طرفه في خزي. الماضي ملطخ بالعار، مدفون الرأس في الطين من الخجل، دائم الجأر بالشكوى من الخزي والألم، ولكنه كله في كفة وهذا الدكان في كفة وحده، بل إنه يرجح به؛ إذ إنه رمزه الحي الباقي على الزمن. جمعت في صاحبه وسلاله وفاكهته وموقعه وذكرياته الخزي متبجحا والألم ناطقا بالهزيمة مولولة. وإذا كان الماضي أحداثا وذكريات هي بطبعها عرضة للتخلخل أو النسيان، فهذا الدكان يقوم شاهدا مجسما يكشف مخلخله ويستحضر منسيه. وكان كلما تقدم من المنعطف خطوة تقهقر عن الحاضر خطوات طاويا الزمن على رغم إرادته، وكأنه يرى في الدكان «غلاما» يرفع رأسه إلى صاحبها، ويقول: «نينة تطلب منك أن تحضر الليلة.» أو كأنه يراه وهو عائد بقرطاس الفاكهة ضاحك الأسارير، أو وهو يلفت نظر أمه في الطريق إلى الرجل، فتجذبه من ذراعه بعيدا أن يلفت إليهما الأنظار، أو وهو ينشج باكيا أمام منظر الافتراس الوحشي الذي يخلقه خلقا جديدا - كلما ورد على ذهنه - على ضوء تجاربه الراهنة فينقلب البشاعة نفسها، طفقت الصور الملتهبة تطارده وهو يجد في الفرار منها، ولكنه ما إن يتملص من قبضة إحداها حتى يقع في قبضة الأخرى، مطاردة عنيفة وحشية أثارت في أعماقه بركان الحنق والحقد، فواصل السير إلى غايته وهو على أسوأ حال «كيف أمرق إلى العطفة وعلى رأسها هذا الدكان ... وهذا الرجل؟ ... أتراه بموقفه القديم منه؟ ... لن ألتفت نحوه، أي قوة ماكرة تغريني بالنظر، أيعرفني إذا التقت عينانا؟! ... إذا بدا منه أنه عرفني قتلته، ولكن كيف له أن يعرفني؟ ... لا هو ولا أحد من الحي، أحد عشر عاما، تركته غلاما وأعود إليه ثورا ذا قرنين! ثم لا تواتينا القوة على إبادة الحشرات السامة التي لا تنفك تلدغنا ...»
ومال إلى العطفة مسرعا بعض الشيء، متخيلا القوم وهم يستطلعونه بأنظارهم متسائلين: «أين ومتى رأينا هذا الوجه؟!» ورقي في الطريق المتصاعد في غير استواء، جامعا عزمه على نفض الغبار الخانق عن وجهه ورأسه ولو إلى حين، وتشجيعا لعزمه فر بنفسه بعيدا وراح يتأمل ما حوله ويحدث نفسه قائلا: «لا تضق بالطريق المتعب فكم كنت تفرح به صغيرا وأنت تتزحلق على منحدره فوق لوح من الخشب!» بيد أنه عاد يقول حين تراءى له جدار البيت: «إلى أين أسير؟! ... إلى أمي! ... يا للعجب! لا أصدق، كيف ألقاها وكيف تلقاني! ... وددت لو ...» ومال يمينا إلى عطفة مسدودة، ثم اتجه إلى أول باب في جانبها الأيسر، هو البيت القديم بلا أدنى شك، قطع الطريق إليه كما كان يقطعه وهو صغير، بلا تردد أو تساؤل وكأنه ما تركه إلا أمس القريب، ولكنه اقتحم بابه هذه المرة باضطراب غير معهود، ورقي في الدرج بخطوات ثقيلة بطيئة، وبالرغم من قلقه وجد نفسه يتفحصه باهتمام مطابقا بينه وبين صورته المحفوظة في خياله، فألفاه أضيق قليلا مما في ذاكرته وقد تآكلت بعض جوانبه، وتهدمت أجزاء صغيرة من أطراف درجاته المطلة على بئر السلم، وسرعان ما حجبت الذكريات الحاضر كله. ومر وهو على تلك الحال بالدورين المأجورين حتى انتهى إلى الدور الأخير، ووقف لحظات يتنصت وصدره يعلو وينخفض، ثم هز منكبيه كالمستهين ونقر على الباب، وبعد دقيقة أو نحوها فتح الباب عن وجه خادم متوسطة العمر ما إن تبينت فيه رجلا غريبا، حتى توارت وراء الباب وهي تسأله في أدب عما يريد. وثارت أعصابه فجأة وبلا داع معقول لما بدا من الخادم من جهل بشخصه، فدخل بأقدام ثابتة واتجه نحو حجرة الاستقبال وهو يقول بلهجة آمرة: قولي لستك ياسين هنا. «ترى ماذا تظن الخادم بي؟» ... والتفت وراءه فوجدها مسرعة إلى الداخل؛ إما لأن لهجته الآمرة غلبتها على أمرها، وإما ... وعض على شفتيه وهو يمرق إلى داخل الحجرة، إنها حجرة الضيوف كما قدر بلا وعي في لهوجته وحدته، ولكن ذاكرته كانت تعرف أركان البيت بلا دليل، ولو وجد في ظرف غير الظرف لطاف مسترجعا ذكرياته من الحمام الذي كان يحمل إليه وهو يبكي إلى المشربية التي كان ينظر من وراء ثقوبها إلى موكب الزفة مساء بعد مساء. ترى أأثاث الحجرة الراهن هو أثاث الماضي البعيد؟ إنه لا يذكر من الأثاث القديم إلا مرآة طويلة ثبتت في حوض مذهب تنبثق من ثغرات في سطحه ورود صناعية مختلفة الألوان، وتركز في زاويتيه المتباعدتين فنايير تتدلى من أعناقها أهلة بلورية طالما ولع بالعبث بها والنظر خلالها إلى المكان، فيلوح في حلل غريبة يذكر إغراءها وإن غاب عنه منظرها، ولكن لا داعي للتساؤل فأثاث اليوم غير أثاث الأمس، لا لجدته فحسب، ولكن لأن حجرة امرأة مزواج خليقة بأن تتغير أو تتجدد، كما تغير أبوه، وتاجر الفحم، والباشجاويش. وركبه توتر وضيق فأدرك أنه لم يطرق باب البيت القديم فحسب، ولكنه نكأ جرحا متورما وغاص في قيحه. ولم يطل انتظاره، ولعله جاء أقصر مما يتصور؛ إذ ابتدر أذنيه وقع أقدام متتابعة متدافعة، وصوت يتردد محاورا نفسه بكلام علا جرسه ولم يستبن ألفاظه، ثم أحس بها - وهو لم يزل مولي الباب ظهره - وضلفة الباب المغلقة تطقطق تحت صدمة منكبها، ثم جاءه هتافها وهي تقول بأنفاس مبهورة: ياسين! ... ابني! ... كيف أصدق عيني؟! ... ربي ... صار رجلا!
وتدافع الدم إلى وجهه المكتنز، واستدار نحوها في ارتباك وهو لا يدري كيف يلقاها ولا كيف يكون اللقاء، ولكن المرأة أعفته من تدبير أمره فهرعت إليه واحتوته بذراعيها، وضمته إليها بشدة عصبية وراحت تقبل صدره - وهو غاية ما وسع شفتاها أن تبلغاه من جسمه المنتصب - ثم اختنقت نبراتها واغرورقت عيناها، فدفنت وجهها في صدره مستسلمة مليا ريثما تسترد أنفاسها. لم يكن حتى تلك اللحظة قد أتى حركة أو نطق بكلمة، ومع أنه شعر شعورا عميقا أليما بأن جموده أشد من أن يحتمل إلا أنه لم يبدر منه ما ينم عن حياة، أي حياة، فلازم جموده وخرسه، بيد أنه كان متأثرا غاية التأثر وإن لم يتضح له نوع التأثر بادئ الأمر بحال يطمئن إليها، ولكنه على حرارة استقبالها لم يجد رغبة للارتماء في حضنها أو تقبيلها، لعله لم يستطع أن ينزع الذكريات المحزنة الناشبة في نفسه كمرض مزمن رافقه منذ الصبا، ومع أنه وجه إرادته بعزم وتصميم إلى إخلاء المسرح من الماضي في اللحظة الراهنة ليملك فكره وحكمته، إلا أن الماضي المطرود انعكس على صفحة قلبه ظلالا قاتمة كذبابة نشت عن الفم بعد أن خلفت وراءها جرثومة تسري، فأدرك في ذاك الموقف الرهيب أكثر مما أدرك في ماضيه كله، الحقيقة المحزنة التي طالما أدمت فؤاده، وهي أن أمه قد اقتلعت من صدره. ورفعت المرأة رأسها إليه كأنها تدعوه إلى تقريب وجهه فلم يستطع الإباء وأدنى وجهه منها، فقبلته في خديه وجبينه، التقت أثناء العناق عيناهما، فلثم جبينها تأثرا بارتباكه وحيائه لا لعاطفة أخرى، ثم سمعها تغمغم: قالت لي ياسين هنا، قلت ياسين! من يكون هذا؟! ولكن من يكون غيره؟ ليس لي إلا ياسين واحد، ذاك الذي حرم بيتي على نفسه وحرم نفسه علي، فماذا حدث؟ وكيف استجيب الدعاء آخر الدهر؟! وجئت عدوا كالمجنونة لا أصدق أذني، وها أنت، أنت دون غيرك والحمد لله، تركتني غلاما وعدت إلي رجلا، كم قتلني الشوق إليك وأنت لا تحس لي وجودا!
وأخذته من ذراعه إلى الكنبة فمضى معها وهو يسائل نفسه: متى تنحسر هذه الموجة الطاغية من الاستقبال الحار حتى يتبين الطريق إلى هدفه؟ وجعل يسترق إليها النظر في استطلاع مقرون بالدهشة والقلق ... كأنها لم تتغير إلا أن يكون جسمها قد زاد امتلاء، ولكنه لا يزال محافظا على حسن تقطيعه، أما الوجه القمحي المستدير والعينان السوداوان المكحولتان فعلى سابق عهدهما تقريبا من القسامة البارعة. ولم يرتح إلى ما رآه على صفحة الوجه والعنق من زواق كأنه كان ينتظر أن تغير أعوام القطيعة من دأبها القديم على العناية بنفسها، وولعها بالتبرج لداع ولغير ما داع أي حتى في تلك الأوقات التي تخلو فيها إلى نفسها. وجلسا جنبا إلى جنب وهي تحدق إلى وجهه بحنان تارة وتقيس طوله وعرضه بعينين معجبتين تارة أخرى، ثم تمتمت بصوت متهدج: آه يا ربي لا أكاد أصدق عيني، أنا في حلم، هذا ياسين! أي عمر ذهب هباء، كم دعوتك ورجوتك، وبعثت إليك الرسول تلو الرسول، ماذا أقول؟ ... دعني أسألك كيف قسا قلبك علي لهذا الحد؟ ... كيف أعرضت عن دعواتي الحارة؟ كيف تصاممت عن نداء قلبي المكروب؟ ... كيف ... كيف؟ ... كيف نسيت أن لك أما منزوية هنا؟
ووقف انتباهه عند الجملة الأخيرة فوجدها غريبة تدعو إلى السخرية والرثاء معا، وكأنها أفلتت منها في ذهول الانفعال، أجل يوجد شيء وأشياء تذكره صباح مساء بأن له أما، ولكن أي شيء وأي أشياء؟!
ورفع إليها عينيه في حيرة دون أن ينبس، فالتقت عيناهما لحظة، وابتدرته المرأة قائلة في لهفة: لماذا لا تتكلم؟
فخرج ياسين من حيرته بتنهدة مسموعة ثم قال وكأنه لم يجد بدا مما قال: ذكرتك كثيرا، ولكن آلامي كانت أفظع من أن تطاق.
وقبل أن يتم كلامه كان النور الذي ينبعث من نظرتها قد خمد، واحتلت الحدقتين غمامة خيبة وفتور ساقتها رياح تهب من جوف الماضي الأسيف، فلم تعد تطيق التحديق في عينيه وخفضت جفنيها وهي تقول بلهجة حزينة: ظننتك برئت من أحزان الماضي، وإنها، علم الله، لا تستحق بعض ما أوليتها من غضب حملك على هجري أحد عشر عاما.
وعجب لعتابها عجبا أحنقه، واستنكره استنكارا ذر على غضبه المكتوم فلفلا، فانفعل انفعالا لولا القصد الذي جاء من أجله لثار بركانه، أتعني المرأة حقا ما تقول؟ أهان عليها ما فعلت لهذا الحد؟ أم تظن به الجهل بما كان؟! بيد أنه ضبط أعصابه بقوة إرادته التي لم تغفل عن هدفها، وقال: تقولين إنها لا تستحق غضبي؟ ... أراها تستحق الغضب كل الغضب وأكثر.
فتركت ظهرها يسقط على مسند الكنبة كشيء تهدم، ورمته بنظرة بين العتاب والاستعطاف قائلة: ما وجه العيب في أن تتزوج امرأة بعد طلاقها؟
فشعر بنيران الغضب تتأجج في عروقه، وإن لم تبد منها آثار إلا في انطباق شفتيه ثم التصاقهما، لا زالت تتكلم ببساطة كأنها مقتنعة على يقين ببراءتها! ... وتتساءل عن وجه العيب في أن تتزوج «امرأة» بعد طلاقها، حسن، لا عيب في أن تتزوج «امرأة» بعد طلاقها، أما أن تكون المرأة أمه فهذا شيء آخر، شيء آخر جدا، وأي زواج الذي تعنيه؟! ... إنه زواج وطلاق، ثم زواج وطلاق، ثم زواج وطلاق؟ ... هناك ما هو أدهى وأمر، ذلك «الفكهاني»! ... أيذكرها به؟ ... أيصفعها بما في نفسه من مر ذكرياته؟ أيصارحها بأنه لم يعد جاهلا كما تظن؟ وأرغمته حدة الذكريات على الخروج عن اعتداله هذه المرة، فقال بامتعاض شديد: زواج وطلاق، زواج وطلاق، هذه أمور شائنة لم تكن لتليق بك، ولشد ما مزقت نياط قلبي بلا رحمة.
فشبكت ذراعيها على صدرها في استسلام اليائس وقالت بإشفاق حزين: إنه سوء الحظ ولا شيء غيره، إني سيئة الحظ، هذا كل ما هنالك.
فبادرها قائلا، وقد تقلصت أساريره وانتفخ لغده، فلفظ الكلمات كأنما يلفظ مستخبثا تعافه النفس: لا تحاولي أن تبرئي ساحتك فما يزيدني هذا إلا ألما على ألم، من الخير أن نسدل على آلامنا ستارا يخفيها ما دمنا لا نستطيع أن نمحوها من الوجود محوا.
ولاذت بالصمت على كره والقلب يشفق إشفاقا شديدا من هائج الذكريات على طيب اللقاء، وما بعثه في نفسها من آمال، وجعلت تلحظه بقلق كأنما تستخبره عما يطوي عليه صدره، فلما ثقل عليها صمته قالت متشكية: لا تلح في تعذيبي وأنت وحيدي.
ووقع الكلام من نفسه موقعا غريبا كأنما يكشف له لأول مرة، بيد أنه وجد فيه باعثا جديدا للهياج والتوتر، إنه ابنها حقا، وإنها أمه الوحيدة كذلك، ولكن كم رجلا! ... وأشاح عنها بوجهه ليخفي ما ارتسم على صفحته من آي التقزز والغضب، ثم أغمض عينيه فرارا من ذكريات مناظر بشعة، عند ذاك سمعها تقول برقة وتوسل: دعني أعتقد بأن سعادتي الراهنة حقيقة لا وهم، أجل حقيقة لا وهم، وبأنك جئتني منفضا عن قلبك أحزان الماضي كله إلى الأبد.
فنظر إليها نظرة طويلة مركزة وشت بخطورة أفكاره إلى حين، ولم يكن شيء في تلك اللحظة يستطيع أن يعدل به عن النفاذ إلى غرضه ولو بتأجيله، فقال بصوت يدل على أن ألفاظه التي يتفوه بها أقل بكثير من المعاني التي يوحي بها: هذا يتوقف عليك أنت، فإن شئت كان لك ما تحبين.
فتجلت في عيني المرأة نظرة قلق نمت عما تعاني من إيحاء الخوف وقالت: إني أرغب في مودتك من أعماق قلبي، وطالما تمنيتها، وكم سعيت إليها فرددتني بلا رحمة.
ولكنه كان مشغولا عن كلامها الحار بما يضطرب في ذهنه، فقال: بيدك ما تتمنين، بيدك أنت وحدك، إذا جعلت من الحكمة رائدك.
فتساءلت المرأة في انزعاج: ماذا تعني؟
فأحنقه تجاهلها وقال بتذمر: مضمون كلامي واضح، هو أن تعدلي عما لو صح ما بلغني عنه لكان فيه الضربة القاضية علي!
فاتسعت عيناها وتجهم وجهها في يأس غير خاف، وتمتمت وهي لا تدري: ماذا تعني؟
بيد أنه ظنها تصر على التجاهل فقال بغيظ: أعني أن تلغي مشروع الزواج الجديد، وألا تسمحي لنفسك بمعاودة التفكير في شيء من هذا القبيل، لم أعد طفلا، وليس بصبري متسع لطعنة جديدة.
أطرقت في حزن بالغ، ولازمت الإطراق كأنما أخذتها سنة من النوم، ثم رفعت رأسها في بطء فلاح الحزن في وجهها أعمق مما قدر، ثم قالت بصوت ضعيف وكأنها تخاطب نفسها: إذن جئت من أجل هذا!
ودون تفكير فيما يقول قال: نعم!
فوقع جوابه كطلقة نارية فإذا بكل شيء حوله يتغير ويتبدل سريعا، ويكفهر الجو. وقد استرجع فيما بعد - وهو خال إلى نفسه - ما دار من حديث بينه وبين أمه في هذه المقابلة، فأقر أقواله جميعا حتى بلغ هذا الجواب الأخير، فتردد حياله لا يدري أأخطأ أم أصاب، وظل على تردده طويلا. أما المرأة فقد غمغمت وهي تنظر فيما أمامها: لشد ما أتمنى أن أكذب أذني.
وأدرك أنه تعجل بعد فوات الفرصة، وسخط على نفسه حانقا، ثم صب سخطه على ما حوله، فاندفع قائلا بلا وعي مداريا خطأه بما هو أمعن في الخطأ: إنك تفعلين ما تشائين دون تقدير للعواقب، وكنت أنا دائما الضحية التي تتلقى الإساءة بلا ذنب جنته، وقد ظننت العمر رادك إلى شيء من العقل، فما أعجب إلا لقائل يقول إنك شارعة في الزواج من جديد! ... يا لها من فضيحة تتجدد كل بضعة أعوام كأن لا نهاية لها!
من شدة اليأس راحت تصغي إليه فيما يشبه اللامبالاة، ثم قالت بأسى: أنت ضحية، وأنا ضحية، كلانا ضحية لما يوسوس به إليك أبوك وتلك المرأة التي تعيش في كنفها!
وعجب لهذا الانحراف في مجرى الحديث الذي بدا له مضحكا، بيد أنه لم يضحك، ولعله ازداد غضبا وهو يقول: ما دخل أبي وزوجه في هذا الشأن! ... لا تتملصي من فعالك بإلقاء التهم في وجوه الأبرياء.
فهتفت بصوت يشبه الأنين: ما رأيت ابنا أقسى منك! ... أهذا خطابك لي بعد فراق أحد عشر عاما!
فلوح بيده في احتجاج غاضب وقال بحدة وسخط: الأم الخاطئة خليقة بأن تلد ابنا قاسيا. - لست خاطئة ... لست خاطئة ... ولكنك قاس غليظ القلب كأبيك.
فنفخ في ملل وصاح بها: رجعنا إلى أبي! ... حسبنا ما نحن فيه ... اتقي الله وتراجعي عن الفضيحة الجديدة ... أريد أن أمنع هذه الفضيحة بأي ثمن.
ومن شدة اليأس والحزن خرج صوتها متلفعا بالبرودة وهي تقول: وماذا يهمك منها؟
فصاح في دهش: كيف لا تهمني فضيحة أمي؟!
فقالت في حزن مشوب بما تيسر من التهكم: أنت في الحق لا تعدني أما لك. - ماذا تعنين؟
فغمغمت في يأس متجاهلة تساؤله: ما دمت قد خلعتني من نفسك فيجدر بك أن تدعني وشأني.
فهتف غاضبا: حسبي ما كان، لن أسمح لك بتلويث سمعتي من جديد.
فقالت وهي تزدرد مرارة ريقها: لا شيء هنالك مما يلوث السمعة، والله شهيد.
فسألها مستنكرا: أتصرين على هذا الزواج؟!
فصمتت مليا، مطرقة محزونة غارقة في اليأس، ثم ندت عنها تنهدة عميقة، ثم قالت بصوت لا يكاد يسمع: قضي الأمر، وكتب العقد، ولم يعد بوسعي منعه!
فانتفض ياسين قائما وقد تصلب جسمه البدين، وعلت وجهه صفرة وركز بصره في رأسها المطرق وهو يغلي غضبا، ثم صاح بها بصوت كالزئير: يا لك من امرأة ... مجرمة!
فغمغمت بصوت مغموس يدل على الاستسلام المطلق: سامحك الله.
عند ذاك خطر له أن يلطمها بما يعرف - مما تظن أنه يجهله - من ماضي سيرتها، بحديث «الفكهاني» الأسود، قذيفة يصبها على رأسها بغتة فتنثره إربا ويثأر بها أفظع الثأر، وتوهج في عينيه بريق مخيف تطاير من تحت جبهة عابسة مكفهرة تجمعت في أخاديدها نذر الشر والوعيد، وفغر فاه ليطلق قذيفته، ولكن لسانه لم يتحرك، التصق بسقف حلقه كأنما جذبه إليه مخه الذي لم يعمه العناء عن البلاء، ومرت اللحظة الرهيبة في سرعة الزلزال الخاطف الذي يشعر فيه الإنسان بأنفاس الموت تتردد على وجهه لحظات، ثم يعود كل شيء إلى مستقره، وزفر وهو كظيم، وتراجع غير آسف وجبينه يسح عرقا باردا. وقد ذكر موقفه هذا - فيما بعد - فيما ذكر من مواقف هذه المقابلة الغريبة فارتاح لتراجعه كل الارتياح، وإن عجب له أشد العجب، وكان أعجب ما عجبه شعوره بأنه إنما تراجع رحمة بنفسه لا رحمة بها، وكأنه تستر على كرامته لا على كرامتها، وإن لم يكن ثمة ما يجهله من الأمر!
وأفرغ غضبه في كفيه فجعل يضرب واحدة على الأخرى ويقول: مجرمة! ... فضيحة مجسمة! ... كم سأضحك من غبائي كلما أذكر أنني أملت خيرا من هذه الزيارة! ... (ثم بلهجة تهكمية) إني أعجب كيف طمعت بعد هذا في مودتي؟!
فجاءه صوتها وهو يقول في انكسار وحسرة: منتني نفسي أن نعيش على مودة رغم كل شيء! ... وبعثت زيارتك المفاجئة في قلبي آمالا حارة خيل إلي معها أني أستطيع أن أهبك أسمى ما في قلبي من حب ... بلا كدر.
وابتعد عنها متقهقرا كأنما يفر من لين كلامها الذي لم يعد شيء يؤرث غضبه مثلما يؤرثه. وشعر حانقا يائسا بأنه لم تعد ثمة فائدة من بقائه في هذا الجو الكريه، فقال وهو يستدير ليأخذ سمته إلى الخارج: وددت لو أستطيع قتلك.
فغضت بصرها وقالت في حزن بالغ: لو فعلت لأرحتني من حياتي.
وبلغ به الضيق النهاية فألقى عليها نظرة أخيرة مظلمة بالمقت، ثم غادر المكان وأرض الحجرة ترتج تحت وقع قدميه. وعندما انتهى إلى الطريق، وأخذ يثوب إلى نفسه، ذكر لأول مرة أنه نسي حديث العقار والمال فلم يطرقه بكلمة واحدة، أنسيه كأنما لم يكن هو الباعث الأول لهذه الزيارة!
19
فتحت الست أمينة الباب وأدخلت رأسها وهي تقول برقتها المعهودة: أفي حاجة إلى خدمة يا سيدي الصغير؟
فجاءها صوت فهمي قائلا: تعالي يا نينة، خمس دقائق فقط.
فدخلت المرأة مسرورة بتلبية الدعوة، فرأته واقفا أمام مكتبه يلوح في وجهه الجد والاهتمام، فأخذها من يدها إلى كنبة غير بعيدة من الباب وأجلسها، ثم جلس إلى جانبها وهو يتساءل: ناموا جميعا؟
وأدركت المرأة أنها لم تدع لتقديم خدمة عابرة، وإلا ما كان هذا الاهتمام وهذه الخلوة، فانتقل الاهتمام بسرعة إلى نفسها المطواعة للإيحاء، وقالت تجيبه: ذهبت خديجة وعائشة إلى حجرتهما في ميعاد كل ليلة، أما كمال فقد تركته الآن في فراشه.
كان فهمي يترقب هذه اللحظة منذ آوى إلى حجرة المذاكرة عند أول المساء، فلم يستطع كعادته تركيز انتباهه في الكتاب الذي بين يديه، وجعل يتابع بين آونة وأخرى، أحاديث أمه وشقيقتيه في جزع لا يدري متى ينتهين، ثم إلى أمه وكمال وهما يحفظان معا جملة من سورة عم. حتى ساد الصمت ثم جاءت أمه لتحييه تحية المساء، فدعاها إليه وقد تناهى به توتر الانتظار. ومع أن أمه بدت كالحمامة الوديعة، ومع أنه لم يشعر حيالها قط بتحفظ أو خوف، إلا أنه وجد عسرا في التعبير عما يريد الإفصاح عنه، فعلاه ارتباك الحياء، ومضت فترة صمت ليست بالقصيرة قبل أن يقول مختلج الجفنين: دعوتك يا نينة لأشاورك في أمر يهمني جدا.
واشتد الاهتمام بالمرأة حتى تمثله قلبها الرقيق خوفا أو شبيها بالخوف وقالت: إني مصغية إليك يا بني.
فتنفس تنفسا عميقا ليخفف عن أعصابه وقال: ما رأيك فيما لو ... أعني أليس من الممكن أن ...
وتوقف مترددا، ثم غير لهجته قائلا برقة وتردد وارتباك: ليس لي من أفضي إليه بدخيلة نفسي إلا أنت. - طبعا طبعا يا بني.
فقال متشجعا عما قبل: ما رأيك إذا اقترحت عليك أن تخطبي لي مريم بنت جارنا السيد محمد رضوان؟
وتلقت أمينة كلماته بدهشة أولا، فأجابته أول ما أجابت بابتسامة تدل على الحيرة أكثر من الفرح، ثم انقشع الخوف الذي قبص صدرها حينا وهي تترقب إفصاحه عما يريد، ثم اتسعت ابتسامتها وأشرقت معلنة عن سرور صاف، وترددت لحظات لا تدري ماذا تقول، ثم اندفعت قائلة: أهذه رغبتك حقا؟ ... سأقول لك رأيي صراحة ... إن يوما أمضي فيه لأخطب لك بنت الحلال لهو أسعد أيام حياتي.
فتورد وجه الشاب وقال بامتنان: شكرا لك يا أماه.
ورنت الأم إليه ببسمة لطيفة، وقالت برجاء: يا له من يوم سعيد! لقد تعبت كثيرا وصبرت كثيرا، وليس بالكثير على الله أن يجزيني على تعبي وصبري بمثل هذا اليوم المرجى، بل بأيام مثله كثيرة ليقر عيني بك وبأختيك خديجة وعائشة ...
وغابت عيناها في رؤى الأحلام السعيدة، حتى بدا لها ما أيقظها فجأة فتراجع رأسها في قلق كقطة أقبل نحوها كلب، وتمتمت في إشفاق: ولكن ... أبوك؟!
وابتسم فهمي ممتعضا وقال: من أجل هذا دعوتك للمشاورة.
ففكرت المرأة قليلا ثم قالت وكأنها تخاطب نفسها: لا أدري ماذا يكون موقفه من هذا الرجاء؟ أبوك شخص غريب، غير الناس جميعا، وقد يرى جريمة فيما يراه الغير شيئا عاديا.
فقطب فهمي قائلا: ليس في الأمر ما يدعو إلى الغضب أو الاعتراض. - هذا رأيي! - وغني عن البيان أن الزواج سيؤجل حتى أتم دراستي وأجد لنفسي عملا. - طبعا ... طبعا. - فيم يكون الاعتراض إذن؟!
فنظرت إليه نظرة كأنما تقول له: «ومن ذا يحاسب أباك إذا أراد أن ينبذ المنطق جانبا؟» هي التي لم تعرف حياله إلا الطاعة العمياء أصاب أم أخطأ، عدل أم ظلم، بيد أنها قالت: أرجو أن يبارك رجاءك بالقبول.
فقال الشاب بحماس: لقد تزوج أبي وهو في سني هذه، ولست أقصد شيئا من هذا، ولكني سأنتظر حتى يكون الزواج طبيعيا لا اعتراض عليه من أي ناحية. - ربنا يحقق رجاءنا.
وسكنا إلى الصمت مليا وهما يتبادلان النظرات، مجتمعين في فكرة واحدة وهما عن بداهة يدريان إذ كان كلاهما يفهم صاحبه خير فهم، ويقرأ ما يدور بخاطره في غير ما عسر، ثم قال فهمي مفصحا عما يشغلهما معا: بقي أن نفكر فيمن يفاتحه بالموضوع!
وابتسمت المرأة ابتسامة أفقدها التفكير والقلق روحها، وأدركت أن ابنها الأريب يذكرها بالواجب الذي لا يستطيع أن يؤديه أحد سواها بالأسرة، ولم تعترض على هذا لأنه لا سبيل غيره، إلا أنها قبلته على كره كما تقبل أمورا كثيرة وهي تسأل الله حسن العاقبة، وقالت برقة وعطف: ومن غيري يفاتحه؟ ... ربنا معنا. - إني آسف ... لو كان بوسعي أن أحدثه لفعلت. - سأحدثه، وسيوافق بإذن الله، مريم فتاة جميلة، مؤدبة، من أسرة كريمة.
وسكتت لحظة ثم استدركت متسائلة كأنما خطر لها الخاطر لأول مرة: ولكن أليست هي في مثل سنك أو تزيد؟!
فقال الفتى جزعا: لا يهمني هذا بتاتا!
فقالت مبتسمة: على بركة الله، ربنا معنا ... (ثم وهي تنهض) أدعك الآن لعناية المولى، وإلى الغد ... ومالت نحوه فقبلته، ثم غادرت الحجرة وأغلقت الباب وراءها، ولكن كم أدهشها أن ترى كمال جالسا على الكنبة مكبا على كراسة بين يديه فهتفت به: ما الذي عاد بك إلى هنا؟
فنهض الغلام مبتسما في ارتباك وقال: تذكرت أني نسيت كراسة الإنجليزي فعدت لآخذها، ثم بدا لي أن أستعيد الكلمات مرة أخيرة.
وذهبت معه مرة أخرى إلى حجرة النوم، ولم تتركه حتى تمدد تحت الغطاء، ولكنه لم ينم. وكان النوم أعجز من أن يغلب اليقظة الماكرة التي تنبعث في شعوره، فلم يلبث أن وثب من السرير، ومضى إلى سمعه وقع أقدام أمه، وهي ترقى السلم إلى الدور الأعلى، ثم فتح الباب وجرى إلى حجرة شقيقتيه، ودفع بابها ودخل دون أن يغلقه ليوسع للمصباح المعلق بالصالة منفذا يضيء منه جانبا من الظلمة الغاشية في الداخل، وهرع إلى الفراش وهو يهمس: «أبلة خديجة!» فجلست الفتاة في الفراش دهشة، فوثب إلى جانبها وهو يلهث من الانفعال، وكأنه لم يقنع بمستمعة واحدة ليستودعها السر الذي أطار النوم من عينيه، فمد يده إلى جسم عائشة وهزه، ولكن الفتاة كانت قد تنبهت إلى القادم، وأزاحت عنها الغطاء ثم رفعت رأسها بين الاستطلاع والاحتجاج متسائلة: ماذا جاء بك الآن؟
لم يأبه للهجة الاحتجاج؛ لأنه كان على يقين من أن كلمة واحدة يشير بها إلى سره خليقة بأن تقلبهما رأسا على عقب، وقفز لهذا قلبه بهجة وسرورا، ثم قال هامسا كأنه يحاذر أن يسمعه رابع: عندي سر غريب.
فسألته خديجة: أي سر هذا؟! ... هات ما عندك وأرنا شطارتك.
ولم يعد باستطاعته الكتمان، فقال: أخي فهمي يريد أن يخطب مريم.
عند ذاك جلست عائشة في الفراش بدورها في حركة آلية سريعة، كأنما التصريح رشة ماء بارد ألقيت في وجه وسنان، وتقاربت الأشباح الثلاثة في شكل هرمي كما بدا على الضوء الخافت النافذ إلى الحجرة والمنعكس على أرضها فيما يلي الباب المفتوح على هيئة متوازي الأضلاع، مذبذب الأطراف تبعا لذبذبة ذبالة المصباح الذي تعرض - بترك الباب مفتوحا - إلى تيار وإن نسم من خصاص النافذة إلى الصالة في لطف همسات تذيع سرا، ثم تساءلت خديجة في اهتمام: كيف عرفت هذا؟ - تركت فراشي لأحضر كراسة الإنجليزي، وعند باب أخي جاءني صوته وهو يتكلم فلبدت في الكنبة ... ثم أعاد على مسمعيهما ما تسرب إليه من وراء الباب الموارب، وهما تنصتان إليه في اهتمام ملك عليهما الأنفاس حتى فرغ من حديثه، وهنا تساءلت عائشة كأن بها حاجة إلى المزيد من الاقتناع: أتصدقين هذا؟
فقالت خديجة بصوت كأنه ينبعث من تليفون بمدينة بعيدة: أتتصورين أن يخترع هذا (مشيرة إلى كمال) حكاية طويلة عريضة كهذه؟ - لك حق (ثم ضاحكة لتخفف من حدة اهتمامها) اختلاق موت غلام في الطريق شيء، أما هذه الحكاية فشيء آخر.
فتساءلت خديجة دون أن تلقي بالا إلى احتجاج كمال الذي اعترض على التعريض به: كيف وقع هذا يا ترى؟!
فضحكت عائشة قائلة: ألم أقل لك مرة إني أشك في أن اللبلاب هو الذي يدعو فهمي إلى السطح كل يوم؟! - إنه اللبلاب الآخر الذي التف حول ساقه هو.
فترنمت عائشة بصوت خفيض: لا ملام عليك يا عيوني في حبه.
فنهرتها خديجة قائلة: هس ... ليس هذا وقت الغناء ... مريم في العشرين وفهمي في الثامنة عشرة ... كيف توافق نينة على هذا؟! - نينة؟! ... نينة حمامة وديعة لا تدري كيف تقول لا، ولكن صبرا، أليس من الحق أن أقول إن مريم جميلة وطيبة؟ ... ثم إن بيتنا هو البيت الوحيد في الحي الذي لم يعرف الأفراح بعد.
كانت خديجة - كعائشة - تحب مريم، ولكن الحب لم يستطع أبدا أن يخفي عن عينيها مواضع الانتقاد في المحبوب أيا كان شأنه، فلم يكن يعجزها - عند الضرورة - الوقوف عند مواضع الانتقاد فحسب، ولما كانت سيرة الزواج تثير مخاوفها الكامنة، وغيرتها، فقد انقلبت على صديقتها دون مشقة، وأبى قلبها أن يقبلها زوجة لأخيها، ومضت تقول: مجنونة أنت؟! ... مريم جميلة ولكنها دون فهمي بمراحل بعيدة ... فهمي يا حمارة طالب بالعالي، وسيكون قاضيا يوما ما، فهل تتصورين مريم زوجا لقاض كبير المقام؟! ... إنها مثلنا على أكثر تقدير، بل هي دوننا في أكثر من ناحية ولن تتزوج إحدانا بقاض!
وتساءلت عائشة في نفسها: «من قال القاضي أحسن من الضابط!» ثم سألتها محتجة: لم لا؟!
فواصلت الأخرى حديثها دون اهتمام باعتراضها: يستطيع فهمي أن يتزوج بفتاة أجمل من مريم مائة مرة، وفي نفس الوقت تكون متعلمة وغنية وبنت بك أو حتى باشا، فلماذا يتسرع بخطبة مريم؟! ... ما هي إلا أمية طويلة اللسان، أنت لا تعرفينها كما أعرفها.
وأدركت عائشة أن مريم انقلبت في نظر خديجة إلى جملة من العيوب والنقائص، بيد أنها لم تتمالك نفسها - حيال وصفها بطول اللسان تلك الصفة التي لخديجة منها أكبر نصيب - من أن تبتسم مستترة بالظلمة، وتحاشت إثارتها فقالت بتسليم: لندع الأمر لله.
فقالت خديجة بثقة وإيمان: الأمر لله في السماء ولأبي في الأرض، وسوف نرى ماذا يكون رأيه غدا ... (ثم موجهة الخطاب إلى كمال) آن لك أن تعود إلى سريرك بسلام.
عاد كمال إلى حجرته وهو يقول لنفسه: «لم يبق إلا ياسين، وسأخبره غدا.»
20
جلست خديجة وعائشة القرفصاء متواجهتين لصق الضلفة المغلقة من باب حجرة الوالدين بالدور الأعلى وهما تكتمان أنفاسهما في حذر وتمدان آذانهما إلى الداخل في اهتمام وتلقف. كان الوقت قبيل العصر بقليل، وكان السيد قد نهض من قيلولته فتوضأ وجلس كعادته يحتسي القهوة منتظرا الأذان ليصلي قبل عودته إلى الدكان، فتوقعت الأختان أن تفاتح الأم أباهما في الأمر الذي أنبأهما عنه كمال؛ إذ لم يكن أنسب لذلك الغرض من هذا الوقت. وتناهى إليهما من الداخل صوت أبيهما الجهوري، وهو يتحدث عن أمور البيت العادية، فأنصتتا في جزع وترقب وهما تتبادلان النظر متسائلتين حتى سمعتا أخيرا الأم وهي تقول في أدب بالغ ولهجة خاشعة: سيدي، إذا أذنت لي حدثتك عن شأن رجاني فهمي أن أبلغك إياه.
عند ذاك أومأت عائشة بذقنها إلى الداخل، كأنها تقول: «هذا هو الحديث» على حين راحت خديجة تتخيل حال أمها، وهي تتهيأ للكلام الخطير فرق قلبها لها وعضت على شفتها في إشفاق شديد، ثم جاءهما صوت السيد وهو يتساءل: ماذا يريد؟
وساد الصمت قليلا، أو طويلا بالقياس إلى اللتين تسترقان السمع، ثم قالت المرأة برقة: فهمي يا سيدي شاب طيب، حاز رضاك بجده وتفوقه وأدبه، حماه الله من شر الأعين، ولعله بلغني رجاءه إدلالا بمنزلته عند والده ...
فقال الأب بلهجة تخيلتاه معها راضيا: ماذا يريد؟ ... تكلمي.
ومال رأساهما نحو الباب وكل منهما تحملق في الأخرى، ولا تكاد تراها، فجاءهما الصوت المتهافت وهو يقول: سيدي يعرف جارنا الطيب السيد محمد رضوان؟ - طبعا. - رجل فاضل مثل سيدي وأسرة كريمة وجيران ولا كل الجيران. - نعم.
واستطردت بعد تردد: فهمي يسأل يا سيدي هل يجيز له والده أن ... يخطب مريم كريمة جارنا الطيب لتبقى على ذمته حتى يصير أهلا للزواج؟
وهنا علا صوت السيد وقد غلظت نبراته بالغضب والاستنكار: يخطب؟! ... ماذا تقولين يا ولية؟ ... هذا الغلام! ... ما شاء الله ... أعيدي على سمعي ما قلت.
فقالت الأم بصوت متهدج وقد تخيلتها خديجة وهي تنكمش في ذعر: ليس إلا أنه يتساءل، مجرد تساؤل يا سيدي والأمر لك.
فقال الصوت المتفجر بالغضب: لا عهد لي ولا له بهذا التدلل المائع، ولا أدري ما الذي أتلف تلميذا حتى يتمادى في مطالبه إلى هذا الحد؟ ... ولكن أما مثلك خليقة بأن تفسد أبناءها، فلو كنت أما كما ينبغي لما جسر على مفاتحتك بمثل هذا الهذر الوقح.
ركب الفتاتين خوف ووجوم خالطهما في قلب خديجة ارتياح، ثم سمعا صوت الأم المتهدج المستخذي وهي تقول: لا تجشم نفسك مشقة الغضب يا سيدي، كل شيء يهون إلا غضبك، ما قصدت من ناحيتي إساءة قط، ولا تخيلها ابني وهو يحملني رغبته ببراءة، ولكنه رجاني بحسن نية فرأيت أن أعرض الأمر عليك، وما دام هذا هو رأيك فسأبلغه إياه، وسيذعن له بكل خضوع كما يذعن لأمرك دائما. - سيذعن أراد أم لم يرد، ولكني أريد أن أقول لك إنك أم ضعيفة لا يرجى منها خير. - إني أتعهدهم بما توصي به. - خبريني عما دعاه إلى التفكير في هذا الرجاء؟
وأرهفت الفتاتان السمع في اهتمام وانزعاج، وقد فاجأهما هذا السؤال الذي لم تتوقعاه، ولكنهما لم تسمعا لأمهما جوابا وتصورتاها وهي ترمش في ارتباك وخوف، فعطف قلباهما في إشفاق شديد: ماذا أخرسك؟ ... خبريني هل رآها؟ - كلا يا سيدي، إن ابني لا يرفع عينيه إلى جارة ولا إلى غيرها. - كيف رغب في خطبتها دون أن يراها؟ ... ما كنت أحسب أن لي أبناء يسترقون النظر إلى حرمات الجيران! - معاذ الله يا سيدي معاذ الله ... إن ابني إذا سار في الطريق لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وهو في البيت لا يكاد يغادر حجرته إلا لضرورة. - ما الذي دعاه إلى طلابها إذن؟ - لعله يا سيدي سمع شقيقتيه وهما تتحدثان عنها.
وسرت في بدن الفتاتين رعدة شديدة ففغرتا ثغريهما في فزع وهما تنصتان. - ومتى كانت شقيقتاه خاطبتين! ... يا سبحان الله أينبغي أن أهجر دكاني وعملي وأقبع في البيت لأضبطه وأدفع عنه الفساد!
فهتفت الأم في نبرات باكية: بيتك أشرف البيوت، بالله يا سيدي إلا ما هونت عليك الغضب، انتهى الأمر وكأن ما كان لم يكن.
فصاح الرجل بصوت ملؤه الوعيد: قولي له أن يتأدب ويستحي ويلزم حدوده، وإن من الخير أن يتفرغ لدروسه.
وسمعت الفتاتان حركة في الداخل فقامتا في حذر وابتعدتا عن الباب على أطراف أصابعهما.
رأت الست أمينة أن تغادر الحجرة كشأنها إذا ند عنها عفوا ما يثير غضبه، فلا تعود إليها بعد ذلك إلا إذا دعاها، إذ علمتها التجربة أن مكثها بين يديه حال الغضب ثم سعيها إلى تسكينه برقيق الكلام لا يزيد النار إلا استعارا. ووجد السيد نفسه وحيدا فزايلته آثار الغضب المحسوسة التي تثور عادة في عينيه وبشرة وجهه وحركات يديه وكلامه، ولكن بقي الغضب في أعماق صدره كالعكارة في قعر القدر.
من المحقق أنه كان يغضب في البيت لأتفه الأسباب لا اتباعا لخطته الموضوعة في سياسة بيته فحسب، ولكن مدفوعا كذلك بحدة طبعه التي لا تشكمها بين آله فرملة الكياسة التي يتقن استعمالها خارج البيت، وربما ترويحا عما يعاني بين الناس كثيرا من ضبط النفس والتسامح واللطف، ومراعاة الخاطر، واكتساب القلوب بأي ثمن، وليس بالنادر أن يتضح له أنه استسلم للغضب في غير موجب، ولكنه حتى في تلك الحال لا يندم على ما فرط منه لاعتقاده بأن غضبته للتافه من الأمر عسية بأن تمنع وقوع الخطير منه مما يستحق الغضب عن جدارة، بيد أنه لم يعد ما بلغه عن فهمي ذلك اليوم هفوة تافهة، بل رأى فيها نزوة قبيحة لا يجوز أن تعتلج في نفس تلميذ من آل بيته، وما كان يتصور أن تتسرب «العواطف» إلى بنيان البيت الذي يحرص على أن يشب في جو من النقاء الصارم والطهارة المنقشعة. ثم جاءت صلاة العصر فرصة طيبة لرياضة النفس خرج منها أهدأ قلبا وأروح بالا، فوسعه أن يتربع على سجادة الصلاة ويبسط راحتيه ويسأل الله أن يبارك له في ذريته وماله، وأن يدعو خاصة لفخر أبنائه بالهدى والرشاد والتوفيق. فلما أن غادر البيت كان تجهمه مظاهرة يراد بها التخويف لا أكثر. وفي الدكان التقى ببعض الأصدقاء فقص عليهم «نادرة اليوم» لا كفاجعة؛ لأنه يكره أن يلقى أحدا بالفاجعات، ولكن كدعابة سخيفة، فعلقوا عليها بما حلا لهم من المزاح، فلم يلبث أن شاركهم مزاحهم، فغادروه وهو يقهقه في غير تحفظ ... بدت له «النادرة» في الدكان على غير ما بدت في حجرته بالبيت، وأمكنه أن يضحك منها، بل وأن يعطف عليها، حتى قال لنفسه أخيرا باسما راضيا: «من شابه أباه فما ظلم.»
21
حين مرق كمال من باب البيت كان المساء يزحف في خطوات حاسمة غاشيا الطرقات والأزقة والمآذن والقباب، ولعله لم يعدل بسروره بهذه الخرجة المفاجئة التي قل أن تتاح له في مثل ذاك الوقت المتأخر إلا زهوه بالرسالة الشفوية التي حمله إياها فهمي، فلم يغب عنه أنه عهد بها إليه وحده دون غيره، في جو من السرية والتكتم الأمر الذي أضفى عليها - وعليه بالتالي - أهمية خاصة أحسها قلبه الصغير ورقص لها طربا وفخارا. وتساءل في عجب عما زلزل فهمي حتى ركبته حال من القلق والحزن بدا في لباسها القاتم شخصا غريبا لم يره ولم يسمعه من قبل، هو مثال وحده، إن أباه يثور كالبركان لأتفه الأسباب، وإن ياسين على حلاوة حديثه قابل للالتهاب، حتى خديجة وعائشة لا تخلوان من نوبات عفرتة، هو مثال وحده، ضحكه ابتسام وغضبه تقطيب، وهدوءه عميق على صدق عواطفه وأصالة حماسه، فلم يذكر أنه رآه على الحال التي رآه عليها اليوم. لن ينسى كيف خلا إليه في حجرة المذاكرة، بصر زائغ ونفس مضطرب، وصوت متهدج، ولا كيف خاطبه لأول مرة في حياته بلهجة توسل حارة عجب لها أشد العجب، حتى استوجب حفظ الرسالة التي حملها أن تكرر عليه مرات ومرات، وقد أدرك من فحوى الرسالة نفسها أن للأمر صلة وثيقة بالحديث الغريب الذي استرق السمع إليه من وراء الباب، والذي نقله إلى شقيقتيه فأثار بينهما جدلا ونزاعا، وبالجملة أنه يتعلق بمريم، تلك الفتاة التي كثيرا ما تعابثه ويعابثها، ويأنس إليها حينا ويضجر منها حينا آخر، دون أن يعرف لها هذه الخطورة التي أحاطت بهدوء أخيه وسلامته، مريم؟! ... لماذا استطاعت دون سائر البشر أن تفعل هذا كله بأخيه العزيز الرائع! ووجد في الجو غموضا، كذاك الغموض الذي يكتنف حياة الأرواح والأشباح، والذي طالما استثار حب استطلاعه وخوفه، فتوثب قلبه للنفاذ إلى مكنون سره في تطلع وحيرة، ولكن حيرته لم تصرفه عن تسميع الرسالة لنفسه، كما سمعها لأخيه من قبل، حتى يضمن ألا يضيع منه حرف واحد من مضمونها، فمر تحت بيت آل رضوان وهو يستعيدها، ثم مال إلى أول عطفة تليه حيث يوجد باب البيت. لم يكن البيت بالغريب عنه، فطالما تسلل إلى فنائه الصغير حيث تنزوي في ركن منه عربة يد مندثرة العجلات كان يركبها مستعينا بخياله على إصلاح عجلاتها وتحريكها حيث شاء، وطالما تردد بين حجراته بغير استئذان، فقوبل بالترحيب والمداعبة من ربة البيت وابنتها اللتين يعدهما «على حداثة سنه» صديقتين قديمتين، فكان يألف البيت بحجراته الثلاث التي تتوسطها صالة صغيرة وضعت بها ماكينة خياطة وراء النافذة التي تطل على حمام السلطان مباشرة، كما يألف بيته بحجراته الواسعة، وبصالته الكبيرة حيث يجتمع مجلس القهوة مساء بعد مساء. وإلى هذا خلفت بعض متعلقات البيت أثرا في نفسه استجابت له عهدا طويلا من صباه، كعش يمامة في أعلى المشربية المتصلة بحجرة مريم الذي تبدو حافته فوق ركن المشربية الملتصق بالجدار كقطع من محيط دائرة يشتبك حوله القش والريش، ويلوح منه أحيانا ذيل اليمامة الأم أو منقارها كيفما اتفق وضعها فيتطلع إليه تتنازعه رغبتان؛ إحداهما - وهي المنبعثة من نفسه - تدعوه إلى العبث به واختطاف الصغار، والأخرى - وهي المكتسبة عن أمه - توقفه عند حد التطلع والعطف والمشاركة الخيالية في حياة اليمامة وأسرتها، وكصورة للسفيرة عزيزة معلقة بحجرة مريم أيضا زاهية الألوان، رقراقة البشرة، وسيمة القسمات، فاقت بجمالها الحسناء التي تطالعه صورتها عصر كل يوم بدكان ماتوسيان، فكان يديم النظر إليها متسائلا عن «حكايتها»، فتقص عليه مريم من أنبائها ما تعلم وما لا تعلم بزلاقة لسان تستهويه وتستأثره، لم يكن البيت بالغريب عليه إذن، فشق سبيله إلى الصالة دون أن يشعر به أحد، وألقى على أولى الحجرات نظرة عابرة فلمح السيد محمد رضوان راقدا في فراشه كما اعتاد أن يراه منذ سنوات. كان يعلم أن الشيخ مريض، وقد سمع عنه كثيرا أنه مشلول، حتى سأل أمه مرة عن معنى الشلل ... فجزعت وراحت تستعيذ بالله من شر الاسم الذي نطق به فانكمش متراجعا، ومنذ ذاك اليوم والسيد يستثير رثاءه واستطلاعه المقرون بالخوف، ثم مر بالحجرة التالية فرأى أم مريم واقفة أمام المرآة، وبيدها ما يشبه العجين تمطه فوق خدها وعنقها وتجذبه جذبات سريعة متتابعة، ثم تتحسس موضعه من بشرتها بأناملها لتعرف مسه، وتطمئن إلى نعومته. ومع أنها كانت فوق الأربعين إلا أنها كانت بارعة الحسن كابنتها، شغوفة بالضحك والدعابة، فما تلقاه حتى تقبل عليه في مرح فتقبله ثم تسأله فيما يشبه نفاد الصبر: «متى تبلغ رشدك لأتزوجك؟» فيعلوه الحياء والارتباك وإن استلذ مداعباتها وود الإكثار منها. وكم أثارت فضوله هذه العملية التي تعكف عليها من حين لآخر أمام المرآة، وقد سأل أمه عنها مرة فنهرته - والنهر أقصى ما تمارس من ضروب التأديب - مؤنبة إياه على سؤاله عما لا يعنيه، بيد أن أم مريم أكبر سماحة ورقة فلما لحظته مرة يرمقها بدهشة أوقفته على مقعد أمامها، ولزقت بأنامله ما حسبه أول الأمر عجينة وبسطت له صفحة وجهها، وقالت ضاحكة: «اشتغل وأرني شطارتك.» فمضى يقلد حركاتها حتى أثبت لها شطارته بخفة غبطته عليها، ولكنه لم يقنع بلذة التجربة فسألها: «لماذا تفعلين هذا؟» فقهقهت: «هلا انتظرت عشرة أعوام أخرى حتى تعرف بنفسك؟! ولكن لا داعي للانتظار أليست البشرة الناعمة أحسن من الخشنة؟ ... هذه هي؟ ...» وقد مر ببابها بخفة حتى لا يشعرها بنفسه؛ لأن رسالته كانت أخطر من أن تسمح له بمقابلة أحد إلا مريم وحدها في الحجرة الأخيرة متربعة على فراشها تقزقز لبا وبين يديها طبق فنجان قد امتلأ بالقشر، فلما رأته قالت بدهشة: كمال! ... (كادت تسأله عما جاء به في هذه الساعة، ولكنها عدلت عما همت به أن تخيفه أو تخجله) شرفت البيت ... تعال اجلس إلى جانبي.
فمد لها يده بالسلام، ثم فك أزرار حذائه ذي الرقبة الطويلة وخلعه، ووثب إلى الفراش في جلباب مقلم وطاقية زرقاء منمنمة بخطوط حمراء، وضحكت مريم ضحكاتها الرقيقة ودست في يده شوية لب وهي تقول: قزقز يا عصفور وحرك أسنانك اللؤلئية ... أتذكر يوم عضضت معصمي وأنا أدغدغك ... هكذا ... ومدت يدها صوب إبطه ولكنه - بحركة عكسية - شبك ذراعيه على صدره ليحمي إبطيه، وندت عنه ضحكة عصبية كما لو كانت أناملها دغدغته بالفعل، ثم هتف بها: في عرضك يا أبلة مريم.
فأمسكت عنه وهي تتعجب من خوفه قائلة: لماذا يقشعر بدنك من الدغدغة؟! انظر كيف لا أبالي بها.
وراحت تدغدغ نفسها باستهانة وهي ترميه بنظرة ازدراء، فلم يملك أن قال لها متحديا: دعيني أدغدغك أنا وسنرى!
فما كان منها إلا أن رفعت ذراعيها فوق رأسها، فغرس أصابعه تحت إبطيها، وراح يدغدغهما بما وسعه من خفة وسرعة، مثبتا عينيه في عينيها السوداوين الجميلتين ليتلقف أول بادرة تضعضع عنها، حتى اضطر أن يسترد يديه متنهدا في يأس وخجل، فشيعته بضحكة رقيقة ساخرة وقالت: أرأيت أيها الرجل الصغير العاجز! ... لا تزعم أنك رجل بعد اليوم (ثم بلهجة من تذكر أمرا هاما بغتة) ... يا داهيتي! ... نسيت أن تقبلني! ... ألم أنبه عليك مرارا بأن تكون تحية لقائنا قبلة؟! وأدنت وجهها منه فمد شفتيه ولثم خدها، ثم رأى فتاتا من اللب المتسرب من زاوية فيه قد التصق بخدها، فأزاله بأنامله في حياء، أما مريم فتناولت ذقنه بأنامل يمناها وقبلت شفتيه مرة ومرة، ثم سألته فيما يشبه الإعجاب: كيف استطعت أن تفلت من بين أيديهم في هذه الساعة؟! ... لعل تيزة تبحث عنك الآن في كل حجرات البيت.
آه .. لقد استنام إلى الحديث واللعب، حتى أوشك أن ينسى الرسالة التي جاء من أجلها، ولكن تساؤلها ذكره بمهمته فرنا إليها بعين أخرى، العين التي تود أن تنقب في ذاتها عن السر الذي زلزل أخاه الرزين الطيب، إلا أن تشوفه تهافت حيال شعوره بأنه يحمل أنباء غير سارة، فقال بوجوم: فهمي الذي أرسلني.
ارتسمت في عينيها نظرة جديدة تفيض جدا، وتفرست في وجهه باهتمام لترى ما وراءه فشعر بأن الجو قد تغير كأنما انتقل من فصل إلى فصل، ثم سمعها تسأل بصوت خافت: لمه؟!
فقال لها بصراحة دلت على أنه لم يقدر خطورة الأنباء التي يحملها رغم شعوره الفطري بخطورتها: قال لي بلغها تحياتي وقل لها إنه استأذن والده في خطبتها، ولكنه لم يوافق على أن يعلن خطبته وهو تلميذ، وطلب إليه أن ينتظر حتى يتم دراسته.
كانت تحدق إلى وجهه باهتمام شديد، فلما بلغ السكوت خفضت عينيها دون أن تنبس بكلمة، فغشيت الجلسة صمتة واجمة ضاق بها قلبه الصغير، وتلهف على كشفها مهما كلفه الأمر، فقال: إنه يؤكد لك أن الرفض جاء على رغمه، وأنه يتعجل السنين حتى يحقق ما يتمنى.
ولما لم يجد لكلامه أثرا في إخراجها من غشاوة الصمت ازداد تلهفه على إعادتها إلى ما كانت عليه من بهجة ومرح، فقال بإغراء: هل أحدثك عما دار بين فهمي وبين نينة من حديث عنك؟
فتساءلت بلهجة بين الاكتراث وعدمه: ماذا قال وماذا قالت؟
فانشرح صدره بهذا النجاح الجزئي، وقص عليها ما ترامى إليه من حديث من وراء الباب حتى أتى عليه، فخيل إليه أنها تتنهد ثم قالت بتبرم: إن والدك رجل شديد مخيف، الكل يعرفه هكذا.
فقال وهو لا يدري: نعم ... أبي كذلك.
ورفع رأسه إليها في خوف وحذر، ولكنه وجدها كالغائبة فسألها متذكرا ما وصاه به أخوه: ماذا أقول له؟
فضحكت من أنفها وهي تهز كتفيها، وهمت بالكلام، ولكنها أمسكت متفكرة مليا، ثم قالت وقد التمعت في عينيها نظرة ماكرة: قل له إنها لا تدري ماذا تفعل لو تقدم لها خاطب في أثناء هذه المدة الطويلة من الانتظار!
وعني كمال بحفظ الرسالة الجديدة أكثر مما عني بفهمها، وسرعان ما شعر بأن مهمته قد انتهت فأودع بقية اللب جيب جلبابه ومد لها يده بالسلام، ثم انزلق إلى أرض الحجرة، ومضى خارجا.
22
بدت عائشة وهي تنظر في المرآة شديدة الإعجاب بنفسها، دون الأسرة اللامعة، بل أي فتاة في الحي كله تتحلى بمثل هذه الخصلات الذهبية وهاتين العينين الزرقاوين؟! إن ياسين يتغزل بها جهارا، وفهمي لا يخلو إذا تحدث إليها لأمر أو لآخر من نظرات تنم عن الإعجاب، حتى كمال الصغير لا يحلو له الشراب من قلة إلا من الموضع المبتل بريقها، وهذه أمها تدللها فتدعوها «قمر» وإن لم تخف قلقها نحو نحافتها ورقتها الأمر الذي جعلها تحث أم حنفي على تركيب وصفة لتسمينها. أما عائشة نفسها فلعلها كانت أعرف الجميع بحسنها البارع كما تدل عليه عنايتها الشديدة به واستئناسها إليه، على أن هذه العناية المفرطة لم تمر بخديجة دون تعليق، بل مؤاخذة وتقريع، لا لأنها تستنيم إلى الإهمال فالحق أن خديجة هي الوريثة الأولى لأمها في الواقع بالنظافة والأناقة، ولكن لأنها رأت الفتاة تستقبل النهار عادة بتمشيط شعرها وإصلاح هندامها، حتى قبل القيام بواجبات المنزل كأنها لا تطيق أن يبقى جمالها ساعة من العمر غير محاط بالعناية والرعاية، ولكن لم تكن العناية بالجمال وحدها هي الباعث على هذا التجمل الباكر، فعند ذهاب الرجال - كل إلى عمله - تأوي إلى حجرة الاستقبال وتفرج بين ضلفتي الشباك المطل على بين القصرين زيقا رقيقا، فتقف وراءه مادة بصرها إلى الطريق يعلوها قلق الانتظار واضطراب الخوف. هكذا وقفت ذاك الصباح فظل طرفها حائرا ما بين حمام السلطان وسبيل بين القصرين، وفؤادها الفتي يواصل خفقاته حتى تراءى عن بعد «المنتظر» وهو ينعطف قادما من الخرنفش خاطرا في بدلته العسكرية والنجمتان تلمعان على كتفه، وجعل كلما اقترب من البيت يرفع في حذر عينيه دون رأسه، حتى تدانى من البيت فهفت في أساريره ابتسامة خفيفة آية في الخفة - تدرك بالقلب أكثر مما تدرك بالحواس - كأنها الهلال في ليلته الأولى، ثم اختفى تحت المشربية فاستدارت في عجلة لتتابع مشاهدته من النافذة الأخرى المطلة على النحاسين، فما راعها إلا أن ترى خديجة منتصبة على الكنبة بين النافذتين ملقية بنظرها إلى الطريق من فوق رأسها! فرت منها آهة، واتسعت عيناها في رعب فاضح، فتسمرت في موقفها ... متى وكيف جاءت! كيف علت الكنبة دون أن تشعر بها؟! ... وماذا رأت؟! ... متى وكيف وماذا؟ أما خديجة فقد ثبتت بصرها عليها، وهي تضيق عينيها رويدا صامتة، مطيلة الصمت كأنما لتطيل تعذيبها، ثم تمالكت عائشة بعض نفسها فخفضت عينيها في جهد شديد ومالت نحو الفراش متظاهرة - عبثا - بضبط الأعصاب وهي تغمغم: أرعبتني يا شيخة!
لم تبد خديجة اكتراثا، ظلت بموقفها على الكنبة وعيناها إلى الطريق خلل الزيق ... ثم تمتمت ساخرة: أرعبتك؟! ... اسم الله عليك! ... أصلي بعبع!
وعضت عائشة على نواجذها في غيظ وحنق ويأس بعد أن تراجعت قليلا إلى مأمن من عينيها، إلا أنها قالت بصوت هادئ: رأيتك فجأة فوق رأسي دون أن أشعر بدخولك، لماذا تسترقين الخطو؟
فوثبت خديجة إلى الأرض، ثم جلست على الكنبة في استرخاء ساخر وهي تقول: آسفة يا أختي، في المرة القادمة سأعلق جرسا في عنقي مثل عربة المطافئ لتنتبهي إلى حضوري فلا ترتعبي.
فقالت عائشة في ضيق والرعب لم يفارقها: لا لزوم لتعليق الجرس، حسبك أن تسيري كالناس الذين خلقهم ربنا.
فقالت الأخرى بنفس اللهجة الساخرة، وهي ترميها بنظرة ذات معنى: ربنا يعلم أني أسير كالناس الذين خلقهم، ولكن الظاهر أنك إذا وقفت وراء النافذة - أقصد وراء هذا الزيق - استغرقت فيما أمامك، بحيث تفقدين الوعي بما حولك فلا تبقين كالناس الذين خلقهم ربنا.
فنفخت عائشة مغمغمة: هكذا أنت دائما.
وعادت خديجة إلى الصمت قليلا، ثم حولت عينيها عن فريستها ورفعت حاجبيها كأنما تفكر في مشكل عسير، ثم تظاهرت بالسرور كأنما اهتدت للحل الموفق، وقالت مخاطبة نفسها هذه المرة دون أن تنظر إلى الأخرى: إذن لهذا فهي تغني كثيرا «يا بو الشريط الأحمر ياللي أسرتني ترحم ذلي!» .. وكم حسبته بسلامة نيتي غناء بريئا لمجرد التسلية!
وخفق قلب الفتاة خفقة قاسية، وقع المحذور ولم يعد ينفع التعلق بأوهام الأماني الكاذبة، وركبها اضطراب زلزل أركان نفسها ، فكادت تشرق بالبكاء، إلا أن اليأس نفسه دفعها إلى الاستماتة في الذود عن نفسها، فهتفت بصوت طمس اضطراب نبراته معانيه: ما هذا الكلام غير المفهوم؟!
ولكن لم يبد على خديجة أنها سمعت كلامها، فواصلت مخاطبة نفسها قائلة: ولهذا أيضا تتزين في الصباح الباكر! طالما ساءلت نفسي أيعقل أن تتبرج بنت قبل الكنس والتنفيض؟! ولكن أي كنس وأي تنفيض يا خديجة يا مسكينة، يا من ستعيشين بلهاء، وتموتين بلهاء، اكنسي أنت ونفضي أنت، ولا تتزيني لا قبل العمل ولا حتى بعده، ولماذا تتزينين يا تعيسة؟! انظري من زيق الشباك من اليوم إلى الغد، فإن اعتنى بك عسكري دورية أقطع ذراعي!
فهتفت عائشة في اضطراب وعصبية: حرام عليك ... حرام. - لها حق يا خديجة، هذه فنون لا تستطيعين فهمها بعقلك المظلم، عيون زرق، وشعر من سبائك الذهب، شريط أحمر ونجمة لامعة، شيء مفهوم ومعقول. - خديجة، أنت مخطئة، كنت أنظر إلى الطريق فحسب، لا لأرى أحدا ولا ليراني أحد. فالتفتت خديجة إليها كأنما تنتبه إلى اعتراضها لأول مرة، وتساءلت كالمعتذرة: هل تخاطبينني يا شوشو؟! لا مؤاخذة إني أفكر في بعض الأمور الهامة، فأجلي حديثك إلى حين ... وعادت تهز رأسها في تفكير وتخاطب نفسها قائلة: شيء مفهوم ومعقول، ولكن ما ذنبك أنت يا سيد أحمد عبد الجواد؟ أسفي عليك يا سيد يا شريف يا كريم، تعال شوف حريمك يا سيدي وتاج راسي!
وقف شعر الفتاة عند سماع اسم أبيها، فدار رأسها، ورد على ذهنها قول السيد لأمها وهو يحمل على رغبة فهمي في خطبة مريم: «أخبريني هل رآها؟!» ... «ما كنت أحسب أن لي أبناء يسترقون النظر إلى حرمات الجيران.» هذا رأيه في الابن فكيف يكون في البنت! وهتفت بصوت مخنوق النبرات: خديجة ... لا يليق هذا ... أنت مخطئة ... أنت مخطئة.
ولكن خديجة تابعت حديثها دون التفات إليها: ترى أهذا هو الحب؟! يمكن! ألم يقولوا عنه: «الحب كبش في قلبي ... قربت أروح منه طوكر.»
ترى أين طوكر هذه؟! لعلها في النحاسين، بل لعلها في بيت السيد أحمد عبد الجواد. - لم أعد أحتمل كلامك، ارحميني من لسانك، رباه ... لماذا لا تصدقينني؟! - تدبري أمرك يا خديجة ليس ما نحن فيه لعبا، وأنت الأخت الكبرى، والواجب هو الواجب مهما بدا مرا، يجب أن يعلم أولو الشأن، هل تفضين بالسر إلى والدك؟! الحق أني لا أدري كيف أخاطبه في مثل هذا السر الخطير، ياسين؟! ولكنه كعدمه وغاية ما يرجى منه أن يترنم بكلام غير مفهوم، فهمي؟ ولكنه يعطف بدوره على الشعر الذهبي أصل البلوى كلها، أظن من الأفضل أن أخبر نينة، وأترك لها التصرف بما ترى.
وندت عنها حركة كأنها تهم بالقيام، فهرعت عائشة إليها كدجاجة مذبوحة، وأمسكت بكتفيها صائحة بصدر يعلو وينخفض: ماذا تريدين؟
فتساءلت خديجة: أتهددينني؟!
همت عائشة بالكلام فخنقتها العبرات بغتة، وهينمت بكلام مزقه البكاء شر ممزق، وجعلت خديجة تحدق إليها صامتة متفكرة، ثم زايل أساريرها عبث السخرية حتى تجهم وجهها وهي تصغي في غير ارتياح إلى نشيج الفتاة، ثم قالت بلهجة جدية لأول مرة: لقد أخطأت يا عائشة.
وأمسكت ووجهها يشتد تجهمه، وكأن أنفها ازداد بروزا، وبدا عليها التأثر واضحا فاستطردت قائلة: يجب أن تقري بخطئك، خبريني كيف سولت لك نفسك هذا العبث يا مجنونة؟
فغمغمت عائشة وهي تجفف عينيها: أنت تسيئين الظن بي.
فنفخت خديجة مقطبة كأنما ضاقت بهذه المكابرة الضائعة، بيد أنها عدلت نهائيا عن نية الاعتداء أو حتى المعابثة، إنها تعرف دائما أين ومتى تقف فلا تجاوز الحد، وقد أشبعت السخرية ميولها العدوانية القاسية، فقنعت بها كما تقنع بها عادة، ولكن بقيت لديها ميول من نوع آخر - أبعد ما تكون عن العدوان والقسوة - لم تشبع بعد، ميول تنبعث من عاطفة الأخت الكبرى، بل من عاطفة أمومة لا يخطئها فيها أحد من الأسرة مهما اشتدت حملتها عليه، أو حملته عليها، وتحت تأثير الرغبة في إشباع هذه الميول الودية قالت: لا تكابري، لقد رأيت كل شيء بعيني، لست الآن أهزل ولكني أريد أن أصارحك بأنك أخطأت خطأ كبيرا، هذا عبث لم يعرفه هذا البيت في الماضي ، ولا يود أن يعرفه في حاضره أو مستقبله، إنه الطيش وحده الذي أوقعك فيه، أصغي إلي واعقلي نصيحتي، لا تعودي إلى هذا أبدا، لا يخفى شيء وإن طال كتمانه، فتصوري ماذا يكون من أمرنا جميعا لو لمحك أحد في الطريق، أو أحد من الجيران، وأنت أدرى بألسنة الناس، تصوري ماذا يكون لو نمى الخبر إلى أبي والعياذ بالله!
فنكست عائشة رأسها تاركة الصمت يعبر عن اعترافها، وقد تضرج وجهها بحمرة الخجل، ذلك الدم الذي ينزفه الضمير في الداخل إذا جرحته خطيئة، وعند ذاك تنهدت خديجة قائلة: حذار، حذار، فاهمة؟ ... (ثم نسمت عليها نسمة سخرية، فغيرت لهجتها شيئا ما) ألم يرك؟ فماذا يقعده عن أن يتقدم لك مثل الرجال الشرفاء؟ وقتها نقول لك مع ألف سلامة، بل في ستين داهية يا ستي.
استردت عائشة أنفاسها، فافتر ثغرها عن ابتسامة لاحت كلمعة اليقظة الأولى في العين عقب غيبوبة طويلة، وكأن خديجة عز عليها - برؤية هذه الابتسامة - أن تفلت الفتاة من قبضتها بعد أن نعمت بامتلاكها فترة طويلة، فصاحت بها: لا تظني أنك بلغت بر الأمان، إن لساني لا يسكت إذا لم تحسني مشاغلته.
فتساءلت الأخرى في ارتياح: ماذا تعنين؟ - لا تتركيه وحده حتى لا تعاوده نزعة الشر، ألهيه بشيء من الحلوى ليشغل بها عنك، علبة ملبس مثلا من شنجرلي. - لك ما تشتهين وأكثر.
وساد الصمت فشغلت كلتاهما بأفكارها. على أن قلب خديجة كان - كما كان من بادئ الأمر - مرتعا لضروب من المشاعر متباينة ... غيرة وحنق وإشفاق وحنان.
23
كانت ست أمينة مشغولة بإعداد أدوات القهوة استعدادا لجلسة العصر التقليدية، فجاءتها أم حنفي مهرولة، يبشر لمعان عينيها بأنباء سارة، ثم قالت بلهجة موحية: ستي ثلاث سيدات غريبات يرغبن في زيارتك.
أخلت الأم يديها من كل شيء، وانتصبت قامتها في عجلة دلت على تأثير الخبر في نفسها، وحدجت الخادم بنظرة اهتمام شديدة، كأنه من المحتمل أن تكون الزائرات من البيت المالك أو من السماء نفسها، ثم تمتمت استزادة من التوكيد: غريبات؟!
فقالت أم حنفي بلهجة تنم عن فرحة الظفر: نعم يا ستي، طرقن الباب ففتحت لهن، فقلن لي: «أليس هذا بيت السيد أحمد عبد الجواد؟» فقلت لهن: «بلى.» فقلن: «الهوانم فوق؟» فقلت: «نعم.» فقلن: «نريد أن نتشرف بالزيارة.» فسألتهن: «أقول من الزائرات؟» فقالت لي إحداهن ضاحكة: «دعي هذا لنا، وما على الرسول إلا البلاغ.» فجئتك يا ستي طائرة وأنا أقول لنفسي: «يا رب حقق لنا الأحلام.»
فقالت الأم بعجلة دون أن يزايل الاهتمام عينيها: ادعيهن إلى حجرة الاستقبال ... أسرعي.
ولبثت دون حراك ثواني مستغرقة في خواطرها الجديدة، في الحلم السعيد الذي تفتحت لها دنياه الغناء فجأة، وإن بدا شغلها الشاغل طول الأعوام الأخيرة، ثم أفاقت إلى نفسها فنادت خديجة بلهجة لا تحتمل التأجيل، فجاءت الفتاة على الأثر، وما إن التقت عيناهما حتى غلبها الابتسام، وقالت وهي لا تملك نفسها من الفرح: ثلاث سيدات غريبات في حجرة الاستقبال ... ارتدي خير ملابسك ... واستعدي. ولما تورد وجه خديجة تورد وجهها أيضا كأنما انتقلت إليه عدوى الحياء، ثم غادرت الصالة إلى حجرتها في الدور الأعلى لتستعد بدورها لاستقبال الزائرات، وجعلت خديجة تنظر إلى الباب حيث اختفت أمها، غائبة الطرف، وقلبها يخفق لحد الألم متسائلة: «ما وراء هذه الزيارة؟» ثم نزعت نفسها من موقفها، وسرعان ما استرد عقلها نشاطه الفائق، فنادت كمال الذي جاءها من حجرة فهمي فبادرته قائلة: اذهب إلى أبلة مريم وقل لها إن خديجة تقرئك السلام، وترجوك أن ترسلي لها معي علبة البودرة والكحل والأحمر.
وتلقف الغلام الأمر وهو يعدو إلى الخارج، أما خديجة فأسرعت إلى حجرتها، ومضت تخلع جلبابها وهي تقول لعائشة التي لحظتها بعين متسائلة: اختاري لي أحسن فستان ... أحسن فستان بلا استثناء.
فتساءلت عائشة: ما الداعي إلى هذا الاهتمام؟ ... زائرة؟! من؟!
فقالت خديجة بصوت خافت: ثلاث سيدات ... (ثم وهي تضغط على مخارج اللفظ) غريبات.
فتراجع رأس عائشة في دهش، ثم اتسعت عيناها الجميلتان سرورا، وهتفت: آه ... هل يفهم من هذا أن ... يا له من خبر! - لا تتسرعي في الحكم .. فمن يدري عما هناك.
فاتجهت عائشة نحو صوان الملابس لتنتقي الفستان المناسب وهي تقول ضاحكة: في الجو شيء ... إن الفرح يشم كالروائح الزكية.
فضحكت خديجة لتخفي اضطرابها، واقتربت من المرآة ونظرت إلى صورتها بإمعان، ثم أخفت أنفها براحتها وقالت بتهكم: لا بأس بوجهي الآن، وجه مقبول (ثم رافعة راحتها) ... أما على هذه الحال فربنا وحده المنجي!
فقالت عائشة ضاحكة وهي تساعدها في نفس الوقت على ارتداء فستان أبيض موشى بأزهار بنفسجية: لا تغمطي نفسك ... ألا يسلم شيء من لسانك! ... ليست العروس أنفا فحسب، هناك العينان والشعر الطويل، والدم الخفيف!
فلوت خديجة بوزها قائلة: الناس لا ترى إلا العيوب. - هذا صحيح بالقياس إلى من على شاكلتك من الناس، ولكن ليس كل الناس على شاكلتك والحمد لله. - سوف أجيبك حين أفرغ لك!
فربتت الأخرى على خاصرتها وهي تسوي الفستان قائلة: ولا تنسي هذا الجسم البض الممتلئ ... يا له من جسم!
فضحكت خديجة في سرور وقالت: لو كان العريس أعمى ما عملت حسابا لشيء ... وإني أرضى به في تلك الحال، ولو كان شيخا من شيوخ الأزهر. - وماذا يعيب شيوخ الأزهر! ... أليس منهم من خيراته كالبحر؟!
ولما فرغتا من الفستان ندت عن عائشة نغمة تأفف فسألتها خديجة: ماذا بك؟
فقالت بتذمر: ليس في بيتنا كله نقطة بودرة أو كحل أو أحمر كأن ليس به نساء! - من الأفضل أن تبلغي هذا الاحتجاج لوالدنا. - أليست نينة سيدة ومن حقها أن تتزين؟ - إنها جميلة هكذا بلا زينة! - وحضرتك؟ هل تلقين الزائرات هكذا؟
فقالت خديجة ضاحكة: أرسلت كمال إلى مريم ليعود بالبودرة والكحل والأحمر، وهل وجهي وجه أقابل به الخاطبات عاطلا؟!
ولما كان الوقت لا يحتمل تبديد دقيقة بلا عمل، فقد نزعت خديجة منديل رأسها وأخذت تحل ضفيرتيها الغليظتين الطويلتين، على حين جاءت عائشة بالمشط وراحت تمشط شعرها المسترسل وهي تقول: يا له من شعر سبط طويل ... ما رأيك؟ سأجدله في ضفيرة واحدة، ألا يكون ذلك أروع؟ - بل ضفيرتين ... ولكن خبريني هل أبقي الجراب في قدمي أو أدخل عليهن عارية الساقين؟ - إن الوقت شتاء يستوجب لبس الجراب، ولكني أخشى إذا أبقيته أن يحسبن بساقك أو قدميك عيبا تتعمدين إخفاءه! - صدقت، إن المحكمة أرحم من الحجرة التي تنتظرني الآن. - قوي قلبك، ربنا يوعدنا.
وهنا دخل الحجرة كمال مسرعا وهو يلهث، فقدم إلى أخته أدوات الزينة وهو يقول: قطعت السلم والطريق جريا.
فقالت له خديجة باسمة: عفارم، عفارم ... ماذا قالت لك مريم؟ - سألتني هل عندنا ضيوف؟ ... ومن هن؟ فأجبتها بأني لا أدري ... فتجلت في عيني خديجة نظرة اهتمام وهي تسأله: وهل قنعت بهذه الإجابة؟ - حلفتني بالحسين أن أصرح لها بما عندي، فحلفت لها بأنه ليس عندي غير ما قلت.
فضحكت عائشة قائلة ويداها لا تكفان عن العمل: ستخمن ما هنالك.
فقالت خديجة وهي تذر البودرة على وجهها: إنها بنت هرمة، وهيهات أن يفوتها شيء، وأراهنك على أنها سوف تزورنا غدا على الأكثر لإجراء تحقيق شامل.
ولم يشأ كمال أن يغادر الحجرة كما كان المنتظر، أو لعله لم يستطع مغادرتها تحت إغراء المشهد الذي يمثل أمام عينيه، والذي يراه لأول مرة في حياته فلم يسبق له أن رأى وجه أخته وهو يلقى هذا التغير الذي استحال معه وجها جديدا، البشرة تبيض والوجنتان تتوردان والعينان تصطبغ أشفارهما بسواد لطيف يرسم لهما حدودا جذابة، ويضفي على حدقتيهما صفاء بهيجا، وجه جديد هش له قلبه فطرب هاتفا: أنت يا أبلة الآن كالعروس التي يشتريها بابا في مولد النبي.
فضحكت الفتاتان وسألته خديجة: هل أعجبك الآن؟
فاقترب منها مسرعا ومد يده صوب أرنبة أنفها وهو يقول: لو تزول هذه!
فتفادت من يده، ثم قالت لأختها: أخرجي هذا النمام.
فقبضت عائشة على يده وجذبته إلى الخارج رغم مقاومته حتى أخرجته وأغلقت الباب، ثم عادت إلى استئناف عملها الجميل، فواصلتا نشاطهما في صمت وجد. ومع أنه كان من المتفق عليه في الأسرة أن تقتصر مقابلة الخاطبات على خديجة وحدها، إلا أن الفتاة قالت لعائشة على سبيل المكر: ينبغي أن تتأهبي أنت أيضا لاستقبال الزائرات.
فقالت عائشة بمثل مكر أختها: لن يكون هذا قبل أن تزفي إلى عريسك!
ثم استدركت قائلة قبل أن تتكلم خديجة: أما الآن فكيف للنجوم أن تطلع مع القمر؟!
فرمتها أختها بنظرة مستريبة وتساءلت: من يكون القمر؟
فقالت عائشة ضاحكة: طبعا أنا!
فلكزتها بكوعها، ثم تنهدت قائلة: لو تعيرينني أنفك كما أعارتني مريم علبة بودرتها! - تناسي أنفك ولو الليلة على الأقل، إن الأنف - كالدمل - يضخم بالدأب على التفكير فيه!
أوشكتا عند ذاك على الفراغ من عملية التجميل، فتراخى انتباه خديجة عن التركيز في مظهرها، واتجه في رهبة إلى موقف الامتحان الذي ينتظرها، فشعرت بخوف لم تشعر بمثله من قبل، لا بالقياس إلى جدته فحسب، ولكن - قبل كل شيء - بالقياس إلى خطورة عواقبه، وما لبثت أن قالت متشكية: أية جلسة هذه التي قضي علي بها! ... تصوري نفسك في مكاني، بين نسوة غريبات لا تدرين أي خلق خلقهن، ولا أي أصل أصلهن، وهل جئن بنية صادقة أو لمجرد الفرجة والتسلية، وماذا يكون من أمري لو كن عيابات شتامات (ثم ضاحكة ضحكة مقتضبة) مثلي مثلا ... هه؟ وماذا بوسعي إلا أن أجلس بينهن في أدب واستسلام أتلقى نظراتهن من اليمين والشمال، ومن الأمام والخلف، وأصدع بأمرهن بلا أدنى تردد، إذا طلبن قياما قمت، أو مشيا مشيت أو كلاما تكلمت، حتى لا يفوتهن شيء من جلوسي وقيامي وصمتي وكلامي وأعضائي وقسماتي، وعلينا بعد هذه «البهدلة» كلها أن نتودد إليهن ونطري لطفهن، وكرمهن، ثم لا ندري بعد ذلك أنفوز بالرضا أو نفوز بالغضب، أف ... أف ... ملعون الذي أرسلهن!
فعاجلتها عائشة قائلة بلهجة ذات معنى: بعد الشر عنه!
فقالت خديجة ضاحكة أيضا: لا تدعي له حتى نتأكد أنه من نصيبنا ... آه يا ربي كم أن قلبي يدق!
فتراجعت عائشة خطوة عن مرمى كوعها وقالت: صبرك ... ستجدين في المستقبل فرصا كثيرة للانتقام من مجلس اليوم الرهيب، فكم سيصلين من نار لسانك وأنت ست البيت ... ولعلهن يذكرن امتحان اليوم وهن يقلن لأنفسهن يا ليت الذي جرى ما كان!
وقنعت خديجة بالابتسام. لم يكن في الوقت متسع لرد الهجوم ، ولم تجد في الهجوم - الذي تجد فيه عادة سرورا شافيا - لذة على الإطلاق لغلبة الرهبة على نفسها وحيرتها بين الخوف والرجاء، ولما فرغتا من مهمتهما وقفت تلقي على صورتها نظرة شاملة، وعائشة - إلى الوراء خطوتين - تردد نظرها بعناية بين الصورة والأصل، وجعلت خديجة تتمتم: أحسنت يداك، منظر حسن أليس كذلك؟ ... هذه خديجة حقا ... لا بأس بأنفي الآن ... جلت حكمتك يا رب، بقليل من الجهد صار كل شيء مقبولا، فلماذا (ثم مستدركة بسرعة) أستغفر الله العظيم، لك في كل شيء حكمة.
وتراجعت خطوات وهي تفحص صورتها بعناية، ثم قرأت الفاتحة في سرها، والتفتت نحو عائشة قائلة: ادعي لي يا بنت.
وغادرت الحجرة.
24
اكتسب مجلس القهوة بحلول الشتاء ميزة جديدة تمثلت في المدفأة الكبيرة التي توسطت الصالة فتكأكأت حولها الأسرة، الذكور في معاطفهم والنساء ملتفات بخماراتهن، فهيأ لهم المجلس إلى لذة الشراب وحلو السمر متعة الدفء. وقد بدا فهمي - على حزنه الصامت الطويل في الأيام الأخيرة - كمن يتحفز لمواجهة أهله بخبر هام، ولم يكن تردده وطول تفكيره إلا دليلا على خطورة الخبر وأهميته، بيد أنه انتهى من تفكيره وتردده إلى التصميم على إبلاغه ملقيا عبئه بعد ذلك على والديه والأقدار؛ فلذلك قال: عندي خبر هام لكم فاسمعوا ...
فتطلعت إليه الأعين باهتمام لم يشذ عنه أحد؛ لأن ما عرف به الشاب من اتزان، جعل الجميع ينتظرون خبرا هاما حقا كما قال، أما فهمي فاستطرد قائلا: الخبر هو أن حسن أفندي إبراهيم ضابط قسم الجمالية - وهو من معارفي كما تعلمون - قابلني ورجاني أن أبلغ والدي رغبته في خطبة عائشة!
وأحدث الخبر - كما قدر فهمي من قبل ما دعاه إلى التردد وطول التفكير - آثارا جد متباينة، فتطلعت الأم إليه باهتمام شديد، على حين صفر ياسين وهو يرمق عائشة بنظرة مداعبة ويهز رأسه، وخفضت الفتاة الصغيرة رأسها حياء ولتخفي وجهها من الأعين أن تفضحها أساريرها، فتعلن للناظرين ما يضطرب في قلبها الخافق، أما خديجة فقد تلقت الخبر بدهشة بادئ الأمر لم تلبث أن انقلبت خوفا وتشاؤما لم تدر لهما سببا واضحا، ولكنها كانت كتلميذ يتوقع بين آونة وأخرى ظهور نتيجة الامتحان، إذا تناهى إليه نجاح زميل له بلغته النتيجة من مصدر خاص، وتساءلت الأم في ارتباك لا يتناسب ومناسبة الفرح الراهنة: أهذا كل ما قال؟
فقال فهمي وهو يتحاشى النظر ناحية خديجة: بدأني بقوله إنه يود أن يتشرف بطلب يد شقيقتي الصغرى. - وماذا قلت له؟ - شكرت له حسن ظنه بطبيعة الحال.
لم تطرح عليه السؤال تلو السؤال في رغبة استطلاع شيء تود معرفته، ولكن لتداري ارتباكها، وتنتزع من المفاجأة مهلة للتروي، ثم راحت تتساءل ترى هل لهذا الطلب علاقة بالزائرات اللاتي جئنها منذ أيام؟! وذكرت عند ذاك كيف قالت إحداهن - قبل ظهور خديجة - وهي بمعرض الحديث عن أسرة السيد أحمد إنهن سمعن أن للسيد كريمتين، فأدركت وقتها أنهن جئن لرؤية الفتاتين، ولكنها تصامت عن الإشارة، وقد انتسبت الزائرات إلى أسرة تاجر بالدرب الأحمر - غير والد الضابط الذي قال فهمي عنه مرة إنه موظف بوزارة الأشغال - ولكن هذا لا ينفي نفيا قاطعا العلاقة بين الأسرتين؛ لأنه المألوف أن تبعث الأسر بخاطبات من بعض فروعها دون الأصل على سبيل الحرص، وكم ودت أن تسأل فهمي عن هذه النقطة بالذات، وكأنها أشفقت من أن يجيء الجواب مصداقا لمخاوفها فيقضي على آمال ابنتها الكبرى، ويسيمها خيبة جديدة، بيد أن خديجة نابت عن أمها - اتفاقا - بطرح ما يعتلج في صدرها خارجا حين دارت هبوطها بضحكة فاترة وقالت متسائلة: لعله هو الذي بعث بالزائرات اللاتي زرننا منذ أيام.
ولكن فهمي بادر قائلا: كلا، فقد قال لي إنه سيرسل أمه إلينا في حالة الموافقة على طلبه.
ولكنه بخلاف لهجته الموحية بالصدق، لم يكن صادقا فيما قال، فقد فهم من حديث الضابط أن السيدات اللاتي زرن والدته قريباته، بيد أنه أشفق من إيلام شقيقته الكبرى التي كان - على حبه عائشة واقتناعه بجدارة صديقة الضابط - يعطف عليها عطفا أخويا، ويألم أشد الألم لسوء حظها، ولعله كان لما مني به هو من خيبة أثر قوي في البلوغ بهذا العطف ذروته. وضحك ياسين ضحكة غليظة وقال بجذل صبياني: يبدو أننا سنجمع قريبا بين فرحتين.
فهتفت الأم في فرح صادق: ربنا يسمع منك. - هل تخاطبين أبي نيابة عني؟
ند عنه السؤال وهو مشغول بمسألة الخطبة عما عداها، ولكنه - عقب النطق به - وقع من أذنيه موقعا غريبا، فكأنه ألقي عليه من حافظة ذكرياته لا من طرف لسانه، أو كأنه حين ألقي على سمعه لم يقف عند أذنيه، ولكنه غاص إلى أعماقه ثم طفا عالقا به ما علق من ذكرياته، وللحال ذكر سؤالا مماثلا لهذا السؤال توجه به إلى أمه في ظروف مشابهة فانقبض قلبه، وهاجت آلامه، وعاوده إحساسه بالظلم الذي وأد أمله، وجعل يقول لنفسه كما قال لها مرارا في الأيام الأخيرة؛ كم كان يكون سعيدا بيومه مستبشرا بغده راضيا عن الحياة كلها، لولا إرادة أبيه القاسية، وانتزعته الذكرى من الاهتمام بشئون غيره، فاستسلم للحزن الذي يقرض شغاف قلبه، أما الأم ففكرت مليا ثم تساءلت: ألا يحسن بنا أن نفكر فيما عسى أن أجيب أباك إذا سألني عما دعا الضابط إلى طلب عائشة بالذات، ولماذا لم يطلب يد خديجة، ما دام لم ير هذه ولا تلك؟
وانتبهت الفتاتان إلى ملاحظة أمهما معا، ولعلهما ذكرتا موقفهما وراء النافذة في وقت واحد، بيد أن خديجة تلقت الذكرى بامتعاض ضاعف من امتعاضها الراهن، واحتج قلبها على الحظ الأعمى الذي يأبى إلا أن يجزي النزق والاستهتار بالإحسان، أما عائشة فقد اعترضت تيار سرورها ملاحظة أمها، كما تعترض الحلق - وهو نشوان بازدراد أكلة لذيذة شهية - شوكة حادة مدسوسة في الطعام، وسرعان ما امتص الخوف حرارة الفرح التي كان ينتفض بها روحها. فهمي وحده الذي ثار على قول أمه، لا دفاعا كما بدا عن عائشة - فإنه ما كان يجيز الدفاع عن عائشة تحت سمع خديجة في هذه النقطة الحساسة بالذات - ولكن غضبا لحزنه الكظيم الذي لم يسعه الجهر بالدفاع عنه حيال أبيه، فقال محتدا يخاطب أباه في شخص أمه، وهو لا يدري: هذا تعسف ظالم لا مبرر له من عقل أو حكمة، ألا يعرف الرجال أشياء كثيرة عن نساء مخدرات عن طريق الفضليات من قريباتهم اللاتي لا يقصدن بحديثهن إلا الجمع بين رجل وامرأة في الحلال.
ولكن الأم لم تقصد باعتراضها إلا تواريا وراء أبيه، حتى تجد مخرجا من المأزق الذي وجدت فيه نفسها بين عائشة وخديجة. فلما صارحها فهمي باحتجاجه لم تجد بدا من مصارحته بما يدور: ألا ترى أنه من الأفضل أن ننتظر حتى يأتينا نبأ الزائرات؟!
ولم تعد خديجة تطيق الصمت مدفوعة بكبريائها التي أبت عليها إلا أن تعلن عدم المبالاة بالأمر كله، بالرغم مما يصطرع داخلها من القلق والتشاؤم فقالت: هذا شيء وذاك شيء آخر، وليس ثمة داع لتأجيل هذا من أجل ذاك.
فقالت الأم بهدوء مؤثر: كلنا متفقون على تأجيل زواج عائشة حتى تتزوج خديجة.
ولم يسع عائشة إلا أن تقول برقة وتسليم: هذا أمر مفروغ منه.
امتلأ صدر خديجة حنقا لدى سماع النبرات الرقيقة التي تتكلم، ولعل رقتها نفسها كانت أشد ما أحنقها، ربما لأنها أوحت بعطف أبته كل الإباء، أو لأنها ودت لو تعلن الفتاة معارضتها صريحة لتتيح لها فرصة لمهاجمتها بما يشفي حنقها على حين قام ذاك العطف الكاذب البغيض درعا يدفع عنها الأذى، ويضاعف من حنق المتربص المتحفز، وأخيرا لم يسعها إلا أن تقول بلهجة لم تخل من حدة: لا أوافق على أن هذا أمر مفروغ منه، فليس من العدل أن يحملكم حظ عاثر على كسر حظ سعيد!
وتنبه فهمي إلى ما ينطوي عليه كلام خديجة من حزن غاضب بالرغم من ظاهره الموحي بالإيثار، فانتزع نفسه من قبضة أحزانه الشخصية نادما على ما صدر منه من قول في غضبته مما قد تحسبه خديجة ميلا صريحا منه إلى قضية أختها، فقال موجها خطابه إليها: إن مفاتحة بابا عن رغبة حسن أفندي لا تعني التسليم بتقديم زواج عائشة على زواجك، وما علينا من بأس إذا نلنا موافقته على الخطبة، أن نؤجل إعلانها للوقت المناسب!
ولم يكن ياسين مقتنعا بوجاهة الرأي الذي يحتم تقديم زواج على زواج، ولكنه لم يجد الشجاعة الكافية للإفصاح عن رأيه، إلا أنه روح عنه بكلام يفهم منه من يشاء ما يشاء، فقال: الزواج مصير كل حي، ومن لم تتزوج اليوم فستتزوج غدا.
وهنا انطلق صوت كمال الرفيع - الذي كان يتابع الحديث باهتمام - متسائلا على غير انتظار: نينة ... لماذا كان الزواج مصير كل حي؟
ولكنها لم تعن بالالتفات إليه، فلم يحدث تساؤله من أثر إلا عند ياسين الذي قعقع بضحكة غليظة دون أن ينبس بكلمة، على حين قالت الأم: أعلم أن كل فتاة ستتزوج اليوم أو غدا، ولكن هناك اعتبارات لا ينبغي إغفالها.
وعاد كمال يسألها: وهل ستتزوجين أنت أيضا يا نينة؟
وضج الجميع ضحكا فخفف هذا من حدة التوتر، وانتهز ياسين هذه الفرصة السانحة فتشجع قائلا: اعرضي الأمر على أبي؛ فالكلمة كلمته على أي حال.
وقالت خديجة بإصرار غريب: لا بد من هذا ... لا بد من هذا.
كانت تعني ما تقول؛ لأنها من ناحية تعلم باستحالة إخفاء مثل هذا الأمر عن أبيها، ولأنها من ناحية أخرى تعتقد بأن والدها لا يمكن أن يقبل تقديم زواج عائشة عليها، ولأنها - إلى هذا وذاك - ما زالت تصر على التظاهر باللامبالاة، ومع أنها لم تكن تعلم بما بين الضابط والزائرات من سبب ... إلا أن القلق والتشاؤم اللذين شعرت بهما من بادئ الأمر لم يتخليا عنها لحظة واحدة.
25
مع أن السيدة أمينة جربت في حياتها أكثر من سبب من الأسباب التي تكدر الصفو، إلا أنها لم تكن قديمة عهد بنوع طارئ من هذه الأسباب، امتاز بطابع خاص به، إذ بدا في ذاته - على خلاف سوابقه - مما يجمع الناس على اعتباره من أسس السعادة الجوهرية في الدنيا، ومع هذا انقلب في بيتها، بل في قلبها خاصة، باعثا هاما من بواعث القلق والكدر، وكم كانت صادقة وهي تسائل نفسها: من كان يظن أن مقدم عريس، الأمر الذي تتلهف النفوس على استقباله، يجر علينا هذا التعب كله! ... ولكن هكذا جرى الحال، فتنازع قلبها أكثر من رأي دون أن تطمئن إلى واحد منها، رأت حينا أن الموافقة على زواج عائشة قبل خديجة كفيلة أن تقضي على مستقبل ابنتها الكبرى، ورأت حينا آخر أن الإلحاح في معارضة الأقدار موقف شديد الخطورة قد يعود على الفتاتين بأوخم العواقب، وإلى هذا وذاك شق عليها كثيرا أن توصد الباب في وجه عريس رائع كالضابط الشاب ليس من اليسير أن يجود الحظ بمثله مرة أخرى، ولكن ما عسى أن يكون حال خديجة إذا تمت الموافقة، وما عسى أن يكون حظها ومستقبلها؟! ... لم تدر لنفسها مستقرا، خاصة وأن ما طبعت عليه من سلبية شاملة جعلها أعجز من أن تجد حلا موفقا لمشكل من المشاكل؛ ولهذا وجدت راحة وهي تتحفز لإلقاء العبء كله على عاتق السيد، بل وجدت هذه الراحة بالرغم مما يخامرها من خوف كلما أقدمت على مفاتحته بأمر ترتاب في حسن تقبله له، وقد انتظرت حتى فرغ من احتساء قهوته، ثم قالت بصوتها المهموس الناطق بالأدب والخضوع: سيدي ... حدثني فهمي قال إن صديقا له رجاه أن يعرض عليك رغبته في خطبة عائشة.
سددت العينان الزرقاوان نظرة اهتمام ودهشة من فوق الكنبة إلى حيث تجلس المرأة على شلتة غير بعيدة من قدميه، كأنما يقول لها: «كيف تحدثينني عن عائشة وأنا في انتظار أخبار عن خديجة بعد ما كان من نبأ الزائرات الثلاث؟» ... ثم تساءل ليستوثق مما سمع: عائشة؟ - نعم يا سيدي.
ونظر السيد أمامه في ضيق، ثم قال وكأنه يحدث نفسه: قررت من زمن بعيد أن هذا سابق لأوانه.
فقالت المرأة في عجلة أن يظن بها معارضة لرأيه: إني أعلم رأيك يا سيدي، ولكن يجب علي أن أطلعك على كل شيء يدور بيننا.
تفحصها الرجل ببصر حاد كأنه يسبر ما في قولها من صدق وإخلاص، ولكن لمعت عيناه بخاطر طارئ حال بينه وبين تفحصها، فتساءل في اهتمام وقلق: ترى ألهذا علاقة بالسيدات اللاتي زرنك؟
أجل، علمت بهذه العلاقة وهي منفردة بفهمي، وقد اقترح عليها الشاب أن تخفي أمرها عن والده عند مفاتحته بالخبر، فوعدته بالتفكير في المسألة طويلا، وترددت بين قبولها ورفضها، ثم مالت أخيرا إلى كتمانهما كما اقترح فهمي، ولكنها حين جوبهت بسؤال السيد وهي تشعر بنظرة عينيه كضوء الشمس الوهاج تشتتت عزيمتها، وتبدد رأيها، فقالت بلا تردد: نعم يا سيدي، علم فهمي أنهن قريبات صديقه.
فعبس السيد غاضبا، وكعهده إذا غضب امتلأت صفحة وجهه البيضاء بالدم، وتطاير الشرر من عينيه، من يستهن بخديجة فكأنما استهان بشخصه، ومن يمس كرامتها فكأنما طعنه في صميم كرامته، ولكنه لم يدر كيف يعلن غضبه إلا عن طريق صوته الذي علا وغلظ، وهو يتساءل بحنق وازدراء: من هو هذا الصديق؟
فقالت وهي تجد للنطق بالاسم قلقا لا تدري له من سبب: حسن إبراهيم ضابط قسم الجمالية.
فقال السيد متسائلا في انفعال: قلت إنك أدخلت خديجة وحدها على السيدات؟! - نعم يا سيدي. - هل زرنك مرة أخرى؟ - كلا يا سيدي، وإلا كنت أخبرتك.
فسألها منتهرا كأنما هي المسئولة عن هذه الغرابة: أرسل قريباته فرأين خديجة، وإذا به يطلب عائشة! ... ما معنى هذا؟!
فازدردت الأم ريقها الذي جف بين الأخذ والرد، وتمتمت: في مثل هذا الحال لا تدخل الخاطبات البيت المقصود، إلا بعد أن يزرن كثيرا من بيوت الجيران متحريات عما يهمهن، وبالفعل قد أشرن في حديثهن معي إلى أنهن سمعن بأن للسيد كريمتين، ولعل تقديم واحدة دون الأخرى ...
أرادت أن تقول: «لعل تقديم واحدة دون الأخرى وكد لديهن ما سمعن عن جمال الصغرى.» ولكنها أمسكت خوفا من مضاعفة غضبه من ناحية، وإشفاقا من الجهر بهذه الحقيقة التي ترتبط في ذهنها بألوان قاتمة من القلق والأسى من ناحية أخرى، فأمسكت مكتفية بإتمام الحديث بإشارة من يدها كأنما تقول: «إلخ إلخ.»
وحدج السيد إليها بنظر حاد حتى غضت الطرف استخذاء، وانقلب إلى حال من الامتعاض والحزن كثفت الغضب في صدره، فمضى يقرع أضلعه يروم متنفسا أو ينشد صحبة، ثم صاح بصوت عاصف: عرفنا كل شيء، ها هو ذا عريس يتقدم طالبا يد ابنتك، فأسمعيني رأيك؟
شعرت بسؤاله يستدرجها إلى حفرة لا قرار لها، فقالت بلا تردد وهي تبسط راحتيها في تسليم: رأيي رأيك يا سيدي ولا رأي لي غيره.
فصاح في زمجرة: لو كان الأمر كما تقولين ما فاتحتني في الأمر.
فقالت في لهجة ملهوجة وإشفاق: ما حدثتك يا سيدي إلا لأخبرك عما جد في الأمر؛ لأن واجبي يقضي علي بأن أطلعك على كل ما يتصل ببيتك من قريب أو بعيد ...
فهز رأسه في حنق قائلا: من يدري. إي والله من يدري ... ما أنت إلا امرأة، وكل امرأة ناقصة عقل، والزواج خاصة يفتنكن عن الرشاد، فلعلك ...
فقاطعته بصوت متهدج: سيدي أعوذ بالله مما تظن بي، إن خديجة ابنتي ومن لحمي ودمي كما هي ابنتك ... وإن حظها ليفتت كبدي، أما عائشة فما تزال في أول ربيعها ولن يضيرها أن تنتظر حتى يأخذ الله بيد شقيقتها.
فراح يمسح براحته على شاربه الغليظ بحركة عصبية حتى توقف فجأة، كأنما تذكر أمرا وتساءل: هل علمت خديجة؟ - نعم يا سيدي.
فلوح بيده غاضبا وهو يصيح: كيف يطلب هذا الضابط يد عائشة بالرغم من أن أحدا لم يرها؟!
فقالت بحرارة وقلبها يرتجف: قلت يا سيدي لعلهن سمعن عنها. - ولكنه يعمل في قسم الجمالية أي في حينا، وكأنه من أهله.
فقالت الأم في تأثر شديد: إن عين رجل لم تقع على إحدى ابنتي منذ انقطاعهما عن المدرسة في سن الطفولة.
فضرب كفا بكف وصاح بها: مهلا ... مهلا ... هل حسبتني أشك في هذا يا ولية؟! لو شككت فيه ما أشبعني القتل!
إنما أتحدث عما يجري في عقول بعض الناس ممن لا يعرفوننا، «إن عين رجل لم تقع على إحدى ابنتي» ... ما شاء الله، وهل كنت تريدين أن تقع عين رجل عليهما؟! ... يا لك من مجنونة مهذارة، إني أردد ما قد تشيع به ألسنة السفهاء من الناس، أجل ... إنه ضابط الحي، يسير في شوارعنا صباح مساء، فلا يبعد أن يقوم عند البعض ظن احتمال رؤيته لإحدى الفتاتين إذا علموا بزواجه منها ... لا أحب، لا أريد أن أعطي ابنتي لأحد ليثير الشبهات حول سمعتي، بل لن تنتقل ابنتي إلى بيت رجل إلا إذا ثبت لدي أن دافعه الأول إلى الزواج منها هو رغبته الخالصة في مصاهرتي أنا ... أنا ... أنا ... «لم تقع عين رجل على إحدى ابنتي» ... مبارك ... مبارك يا ست أمينة.
وأصغت الأم دون أن تنبس بكلمة، فساد الصمت الحجرة، ثم نهض الرجل فآذنها نهوضه بأنه سيشرع في ارتداء ملابسه استعدادا للعودة إلى الدكان فبادرت بالقيام، ونزع السيد ذراعيه من الجلباب ورفعه ليخلعه، ولكنه توقف قبل أن تجاوز طاقة الجلباب ذقنه، وقال والجلباب مكوم فوق منكبه كلبدة الأسد: ألم يقدر سي فهمي خطورة الطلب الذي تقدم به صديقه؟ ... (ثم محركا رأسه في أسف) يحسدني الناس على إنجاب ثلاثة ذكور، والحق أني لم أنجب إلا إناثا ... خمس إناث.
26
على أثر مغادرة السيد للبيت ذاع رأيه في خطبة عائشة، ومع أنه قوبل بتسليم عام - تسليم من لا حيلة لهم سوى التسليم - إلا أنه كان متباين الصدى في النفوس، أسف فهمي للخبر، وساءه أن تفقد عائشة زوجا صالحا مثل صديقه حسن إبراهيم، أجل كان قبل أن يبت أبوه في الأمر مترددا بين التحمس للعريس المتقدم وبين العطف على موقف خديجة الدقيق، فلما أن قضي الأمر واستراح جانبه المشفق على خديجة أسف جانبه الآخر الراغب في سعادة عائشة، وأمكنه أن يجهر برأيه فقال: لا شك أن مستقبل خديجة يهمنا جميعا، ولكنني لا أوافق على الإصرار على حرمان عائشة من الفرص الحسنة التي تتاح لها، الحظ غيب لا يعلمه إلا الله، ولعل الله يدخر للمتأخر حظا أوفر من المتقدم.
ولعل خديجة كانت أشد الجميع شعورا بالحرج لوقوفها للمرة الثانية عثرة في سبيل أختها، لم تكن تفكر في الحرج وهي تحت المطرقة، ولكن حين نما إليها رأي أبيها الحاسم، وتقهقر الخطر الذي يتهددها، زايلها الحنق والألم وحل محلهما شعور أليم بالخجل والحرج، ومع أن حديث فهمي لم يترك في نفسها أثرا حسنا؛ لأنها طمعت في أعماقها أن تجد من الجميع حماسا لرأي أبيها وأن تبقى هي الوحيدة المعارضة له، إلا أنها قالت معلقة عليه: صدق فهمي فيما قال، وكان هذا رأيي دائما.
فعاد ياسين يؤكد رأيه السابق قائلا: الزواج مصير كل حي ... لا تخافوا ... ولا تجزعوا.
قنع هذه المرة بالكلام العام على ولعه بعائشة وشدة استيائه لما حاق بها من ظلم، ولكنه خاف أن يعلن رأيه صراحة أن تسيء خديجة فهمه أو تظن أن ثمة علاقة بين هذا الرأي وبين ما ينشب بينهما كثيرا من نقار بريء، وإلى هذا وذاك كان إحساسه الباطني بأنه نصف أخ فقط يقعده عند مواجهة الخطير من شئون الأسرة الحساسة عن إبداء الرأي الخليق بجرح أحد من أفرادها ... ولم تكن عائشة قد نبست بكلمة فقسرت نفسها على الكلام قسرا أن يشي صمتها بآلامها التي صممت على إخفائها، والتظاهر بعدم الاكتراث لها مهما سامها ذلك من عذاب وتوتر، بل أجمعت على إعلان الارتياح مجاراة لجو البيت الذي لا يعترف للعواطف بحق من حقوقها ... والذي تدارى فيه أهواء القلوب بأقنعة الزهد والرياء، فقالت: لا يصح أن أتزوج قبل خديجة، والخير كل الخير فيما يرى أبي (ثم مبتسمة) ... لماذا تتعجلون الزواج؟ ... ومن أدراكم بأننا سنحظى في بيوت الأزواج بحياة سعيدة كالتي نحظى بها في بيت أبينا؟!
ولما تواصل الحديث كشأنه كل مساء حول المدفأة لم تمسك عن الاشتراك فيه بما وسعها قوله بالرغم من شرود ذهنها وتشتت نفسها، وكم في الواقع شابهت الدجاجة المذبوحة التي تندفع مبسوطة الجناحين - كأنما تنتفض حيوية ونشاطا - على حين يتدفق الدم من عنقها مستصفيا آخر قطرات الحياة.
على أنها توقعت هذه النتيجة قبل عرض الأمر على أبيها، أن لا ثمة غامض داعب أحلامها كما يداعبنا الأمل في كسب النمرة الأولى في اليانصيب الكبير ... وقد تطوعت أول الأمر للمعارضة في زواجها مدفوعة بأريحية الظفر والسعادة، وبالعطف على شقيقتها السيئة الحظ، الآن خمدت الأريحية ونضب العطف، فلم يبق إلا الامتعاض والسخط واليأس، ليس لها من الأمر شيء. هذه إرادة الأب ولا معقب لها، وما عليها إلا الإذعان والاستسلام، بل عليها أكثر من هذا الرضا والارتياح؛ لأن محض الوجوم ذنب لا يغتفر، أما الاحتجاج فإثم لا يطيقه أدبها وحياؤها. أفاقت من سكرة السعادة الغامرة التي انتشت بها يوما وليلة على يأس مظلم، ما أكثف الظلمة تجيء عقب النور الباهر، في تلك الحال لا يقتصر الألم على الظلمة الراهنة، ولكنه يضاعف مرات ومرات بالحسرة على النور الذاهب، وتسائل نفسها إذا كان ثمة نور أمكن أن يضيء مليا فلماذا لم يواصل الضياء، لماذا لا يخبو، لماذا خبا، فتكون حسرة جديدة تنضم إلى بقية الحسرات التي ينسجها الحزن حول قلبها منتزعا إياها من ذكريات الماضي وواقع الحال وأحلام المستقبل، وعلى إغراقها في التفكير في هذا كله وحضوره - تبعا لذلك - في شعورها، فإنها تعود تتساءل وكأنها تتساءل لأول مرة، وكأن الحقيقة المرة ترتطم بشعورها للمرة الأولى: هل حقا خبا النور؟!
هل تمزقت الأسباب بينها وبين الشاب الذي ملأ قلبها وخيالها؟!
سؤال جديد رغم تكراره، وصدمة جديدة رغم نفاذها إلى العظام، ذلك أن الحسرة الكاوية لا تنفك يتنازعها اليأس المستقر في الأعماق والآمال المتطايرة في الهواء كلما تطاير منها شعاع الأمل المتطاير، ثم تعود فتستقر في الأعماق، ثم تطفو مرة أخرى، وثالثة، حتى تأوي إلى مستقرها - وقد ودعت النفس آخر آمالها - فلا تغادره إلى الأبد، انتهى كأنه لم يكن، لا سبيل إليه أبدا، ما أهون الأمر عليهم، عالجوه كما يعالجون أمور يومهم العادية مثل ماذا نأكل غدا، أو حلمت ليلة أمس حلما غريبا، أو رائحة الياسمين تملأ جو السطح، كلمة من هنا ... كلمة من هناك ... واقتراح يعلن ورأي يبسط في هدوء وحلم غريبين، ثم تعزية باسمة، وتشجيع كأنه الدعابة، ثم تغير الحديث وتشعب، انتهى كل شيء، وأدرج في التاريخ الذي تنزل عليه الأسرة النسيان. أين قلبها من هذا كله؟! ... لا قلب لها، لا يتصور وجوده أحد، لا وجود له في الواقع، ما أشد غربتها! ضائعة مفقودة، ليسوا منها وليست منهم، وحيدة منبوذة مقطوعة الصلات، ولكن كيف تنسى أن كلمة واحدة لو جاد بها لسان أبيها، كانت تكفي لتغيير وجه الدنيا وخلقها خلقا جديدا؟! ... كلمة واحدة لا أكثر، لا تزيد عن لفظة «نعم» ثم تحدث المعجزة، لم تكن لتكلفه إلا عشر ما تكلف من جهد في المناقشة الطويلة التي انتهت إلى الرفض، ولكن لم تجر بذاك مشيئته، وارتضى لها هذا العذاب كله. ومع أنها كانت متألمة حانقة ساخطة إلا أن ألمها وحنقها وسخطها وقفت عند شخص أبيها وارتدت عنه خائبة ارتداد الوحش الهائج إذا اعترضه مروضه الذي يحبه ويخافه، لم يسعها أن تحمل عليه، ولو في أعماق سريرتها، وظل قلبها على ولائه وحبه فلم تضمر له إلا الإخلاص والوفاء كأنه إله لا يجوز أن تقابل قضاءه إلا بالتسليم والحب والوفاء.
شدت الصغيرة ذاك المساء حبل اليأس حول عنقها الرقيق، فآمن قلبها المتفتح بأنه نضب وأجدب إلى الأبد، وضاعف من توتر أعصابها الدور الذي صممت على أن تمثله بينهم، دور البشر واللامبالاة وما سامته نفسها من المشاركة في سمرهم، حتى ناءت هامتها الذهبية بحمله، وانقلبت الأصوات في أذنيها وقرا، فما جاء وقت الانسحاب إلى حجرة النوم، حتى مضت في إعياء كالمرضى، وهناك في أمن من ظلمة الحجرة تجهم وجهها لأول مرة، وعكس صورة صادقة من قلبها.
بيد أنه لحق بها رقيب - خديجة - أيقنت من بادئ الأمر أن تصنعها لن يجدي معها شيئا، وقد تحامت في المجلس نظراتها، أما الآن - إذ جلست إليها - فلا مهرب منها ولا مفر. وتوقعت أن تهجم الفتاة على الموضوع بعنادها المعروف، وانتظرت تسلل صوتها إلى أذنيها بين لحظة وأخرى، ورحب قلبها بالحديث، لا لأنه سيبعث رجاء جديدا، ولكن لأنها أملت وراء الاعتذار والحرج اللذين ستعلنهما الفتاة صادقة حتما شيئا من العزاء. ولم يطل الانتظار فما لبث أن جاءها الصوت يشق الظلمة قائلا: عائشة، إن حزينة آسفة، ولكن علم الله لا حيلة لي، وكم وددت لو تواتيني الشجاعة فأرجو أبي أن يعدل عن رأيه.
وتساءلت عما وراء هذا الكلام من صدق أو رياء منفعلة بثورة حنق، ثارت بها لدى سماع النبرات الأسيفة مباشرة، ولكنها اضطرت إلى العودة إلى استعارة النبرات التي ظلت تتحدث بها في مجلس أمها، فقالت: فيم الحزن والأسف، ما أخطأ أبي وما ظلم ولا داعي للعجلة! - هذه ثاني مرة يؤجل زواجك بسببي. - لست آسفة مطلقا.
فقالت خديجة بلهجة ذات مغزى: ولكن هذه المرة غير المرة الأولى.
أدركت الفتاة ما وراء هذه الكلمات بسرعة البرق، فخفق قلبها خفقان اللوعة والحسرة، وبكى وجدا وحبا، ذلك الحب الكامن يثار بالإشارة تجيئه من الخارج عفوا أو قصدا كما يثار الجرح أو الدمل باللمس والشك، وهمت بالكلام ولكنها أمسكت مضطرة؛ لأن أنفاسها لم تسعفها فخافت أن تفضحها نبراتها، وعند ذاك تنهدت خديجة قائلة: لهذا تجدينني في غاية الحزن والأسف، ولكن ربنا كريم، وما شدة إلا وبعدها الفرج، فعسى أن ينتظر ويصبر ويكون من نصيبك بالرغم مما بدا.
وهتفت جوارحها: «يا ليت.»
أما لسانها فقال: سيان عندي، الأمر أبسط مما تظنين. - أرجو أن يكون كذلك ... إني جد حزينة وآسفة يا عائشة.
وفتح الباب فجأة وبدا شبح كمال في الشعاع الخافت الذي تسلل من فرجة الباب، فصاحت به خديجة في ضيق: لماذا جئت؟ وماذا تريد؟
فقال الغلام بصوت يشي باحتجاجه على سوء مقابلتها له: لا تنهريني ... وأفسحي لي.
ووثب إلى الفراش وركع بينهما، ثم دس يدا إلى واحدة ويدا إلى الأخرى، وراح يدغدغهما ليهيئ لحديثه جوا طيبا غير الجو الذي أنذرت به نهرة خديجة، ولكنهما نترتا يديه وقالتا بصوتين متتابعتين: آن لك أن تنام، فاذهب ونم.
ولكنه هتف في غيظ: لن أذهب حتى أعرف ما جئت أسأل عنه! - عم تسأل في هذه الساعة من الليل؟
فقال مغيرا لهجته حتى يستجيبا له: أريد أن أعرف هل تتركان بيتنا إذا تزوجتما؟
فصاحت به خديجة: انتظر حتى يجيء الزواج!
فتساءل في عناد: ولكن ما هو الزواج؟ - كيف أجيبك وأنا لم أتزوج ... اذهب ونم الله لا يسيئك. - لن أذهب حتى أعرف. - يا حبيبي توكل على الله وفارقنا.
قال بصوت حزين: أريد أن أعرف هل تغادران البيت إذا تزوجتما؟
فقالت في ضجر: نعم يا سيدي ... ماذا تريد أيضا؟
فقال في جزع: إذن لا تتزوجا ... هذا ما أريد. - سمعا وطاعة.
فعاد يقول في احتجاج ثائر: أنا لا أطيق أن تذهبا بعيدا عنا، وسأدعو الله ألا يزوجكما.
فهتفت: من فمك لباب السما ... عال ... عال ... ربنا يكرمك. تفضل فارقنا مع السلامة.
27
سرى في البيت شعور بأنه يستقبل من حياته المرهقة بالتزمت يوم راحة يستطيع - إذا شاء - أن يستروح فيه نسمة من الحرية البريئة في أمن من الرقيب. فظن كمال أنه غدا في حل من أن يقطع اليوم كله في اللعب داخل البيت أو خارجه، وتساءلت خديجة وعائشة ألا يمكن أن تنسلا مساء إلى بيت مريم لقضاء ساعة في لهو ومرح؟ لم تجئ هذه الراحة نتيجة لانقضاء شهور الشتاء الكالح، وحلول بشائر الربيع ملوحة بالدفء والبشاشة؛ إذ ليس من شأن الربيع أن يهب هذه الأسرة حرية يحرمها إياها الشتاء، ولكنها جاءت نتيجة طبيعية لسفر السيد أحمد إلى بورسعيد في مهمة تجارية تدعوه كل عدة أعوام إلى السفر يوما أو بعض يوم، واتفق أن سافر الرجل صباح الجمعة فجمعت العطلة الرسمية بين أفراد الأسرة ... وتجاوبت رغباتهم الظمأى إلى الحرية في الجو الطليق الآمن الذي خلقه على غير انتظار رحيل الأب عن القاهرة كلها، بيد أن الأم وقفت من رغبة الفتاتين وجماح الغلام وقفة المتردد؛ لأنها كانت تحرص على أن تواظب الأسرة على سيرتها المألوفة، وأن تلتزم - في غياب الأب - الحدود التي تلتزمها في حضوره خوفا من مخالفته أكثر منها اقتناعا بوجاهة شدته وصرامته، ولكنها ما تدري إلا وياسين يقول لها: لا تعارضي بالله ... إننا نحيا حياة لا يحياها أحد من الناس، بل أريد أن أقول شيئا جديدا ... لماذا لا تروحين عن نفسك أنت؟! ... ما رأيكم في هذا الاقتراح؟!
وتطلعت إليه الأعين في دهشة ولكن أحدا لم ينبس بكلمة، ولعلهم - كأمهم التي رمته بنظرة تأنيب - لم يحملوا قوله محمل الجد، إلا أنه استطرد قائلا: لماذا تنظرين إلي هكذا؟! ... لم أخطئ في البخاري، وليس ثمة جريمة والحمد لله ، ما هو إلا مشوار قصير ترجعين منه وقد ألقيت نظرة على جزء صغير من الحي الذي عشت فيه أربعين عاما دون أن تري منه شيئا.
فتنهدت المرأة متمتمة: سامحك الله.
فقهقه الشاب قائلا: علام يسامحني؟ ... هل اقترفت ذنبا لا يغتفر؟ والله لو كنت مكانك لمضيت من توي إلى سيدنا الحسين .. سيدنا الحسين ألا تسمعين؟ حبيبك الذي تهيمين به على البعد وهو قريب، قومي إنه يدعوك إليه.
وخفق قلبها خفقانا لاحت آثاره في احمرار وجهها، فخفضت رأسها لتخفي تأثرها الشديد، انجذب قلبها إلى الدعاء بقوة تفجرت في نفسها فجأة على غير انتظار لا منها ولا من أحد ممن حولها حتى ياسين نفسه، كأنها زلزال قد وقع بأرض لم تعرف الزلازل، فلم تدر كيف استجاب قلبها للنداء، ولا كيف تطلع بصرها إلى ما وراء الحدود المحرمة، ولا كيف تراءت المغامرة ممكنة، بل مغرية، بل طاغية، أجل بدت زيارة الحسين عذرا قويا - له صفة القداسة - للطفرة اليسارية التي نزعت إليها إرادتها، ولكنها لم تكن وحدها التي تمخضت عنها نفسها إذ لبت دعاءها في الأعماق تيارات حبيسة متلهفة على الانطلاق كما تلبي الغرائز المتعطشة للقتال نداء الدعاء إلى الحرب بحجة الدفاع عن الحرية والسلام. ولم تدر كيف تعلن استسلامها الخطير، ولكنها نظرت إلى ياسين وسألته بصوت متهدج: زيارة الحسين منية قلبي وحياتي ... ولكن ... أبوك؟
فضحك ياسين قائلا: أبي في طريقه إلى بورسعيد، ولن يعود قبل ضحى الغد، وبوسعك - زيادة في الحيطة - أن تستعيري ملاءة أم حنفي اللف، حتى إذا اتفق أن رآك أحد وأنت تغادرين البيت أو وأنت تعودين إليه ظنك زائرة.
ورددت عينيها بين الأبناء في خجل وتهيب كأنها تنشد المزيد من التشجيع، فتحمست خديجة وعائشة للاقتراح، وكأنهما تعبران بحماسهما عن رغبتهما الحبيسة في الانطلاق، وفرحتهما بزيارة مريم التي باتت - بعد هذا الانقلاب - في حكم المقرر، وهتف كمال من أعماق قلبه: سأذهب معك يا نينة لأدلك على الطريق.
وحدجها فهمي بنظرة عطف أثاره في نفسه ما طالعه في وجهها البريء من سرور حائر كسرور الطفل إذا مني بلعبة جديدة، فقال لها في تشجيع واستهانة: ألقي نظرة على الدنيا، لا عليك من هذا، فإني أخاف أن تنسي المشي من طول لزومك للبيت!
وفي فورة الحماس جرت خديجة إلى أم حنفي ثم عادت بملاءتها، وتزاحمت الأصوات بالضحك والتعليق، فغدا اليوم عيدا سعيدا لا عهد لأحد به، واشترك الجميع - وهم لا يدرون - في الثورة على إرادة الأب الغائب. والتفت الست أمينة في الملاءة وأسدلت البرقع الأسود على وجهها، ثم نظرت في المرآة فلم تتمالك من أن تضحك طويلا حتى اهتز جذعها، وارتدى كمال بدلته وطربوشه وسبقها إلى فناء البيت، ولكنها لم تتبعه، ركبها شعور الرهبة الذي يلازم المواقف الفاصلة، فرفعت عينيها إلى فهمي وتساءلت: ما رأيكم، هل أذهب حقا؟
فصاح بها ياسين: توكلي على الله.
وتقدمت منها خديجة ووضعت يدها على منكبها، ودفعتها برفق وهي تقول: الفاتحة أمانة.
ولم تزل تدفعها حتى أوصلتها إلى السلم، ثم رفعت يدها فنزلت المرأة والجميع في أعقابها ... ووجدت أم حنفي في انتظارها، فألقت الخادم على سيدتها - أو بالحري على الملاءة الملتفة بها - نظرة فاحصة، ثم هزت رأسها هزة انتقادية، وتقدمت منها وأعادت لف الملاءة حول جسمها وعلمتها كيف تمسك بطرفها في الوضع المناسب، فانقادت لها سيدتها التي كانت ترتدي الملاءة اللف لأول مرة، وعند ذاك ارتسمت ملامح قامتها وقدها في تفصيل وسيم، تخفيه عادة جلابيبها الفضفاضة، فألقت خديجة عليها نظرة إعجاب باسمة، وغمزت بعينها لعائشة وأغرقتا في الضحك.
ولاقت وهي تعبر عتبة الباب الخارجي إلى الطريق لحظة دقيقة جف لها ريقها، فضاع السرور في نوبة القلق ووطأة الإحساس بالذنب، وتحركت في بطء وهي قابضة على يد كمال بحال عصبية، وبدت مشيتها مضطربة مخلخلة كأنها عاجزة عن مبادئ المشي الأولية، إلى ما اعتراها من حياء شديد، وهي تتعرض لأعين الناس الذين عرفتهم من عهد بعيد من وراء خصاص المشربية - عم حسنين الحلاق ودرويش بائع الفول والفولي اللبان، وبيومي الشربتلي وأبو سريع صاحب المقلى - حتى توهمت أنهم سيعرفونها كما تعرفهم - أو لأنها تعرفهم - ووجدت مشقة في تثبيت حقيقة بديهية في رأسها، وهي أن عينا منهم لم تقع عليها مدى الحياة، وعلى تلك الحال عبرا الطريق إلى درب قرمز؛ لأنه وإن يكن أقصر الطرق إلى جامع الحسين إلا أنه كان لا يمر - كطريق النحاسين - بدكان السيد فضلا عن خلوه من الدكاكين وانقطاع المارة عنه إلا فيما ندر، وتوقفت لحظة قبل أن توغل فيه، والتفتت صوب المشربية فرأت شبحي ابنتيها وراء ضلفة منها، بينما رفعت ضلفة أخرى عن وجهي ياسين وفهمي الباسمين، فاستمدت من منظرهما شجاعة استعانت بها على ارتباكها، ثم جدت في السير - هي وغلامها - يقطعان الدرب المقفر في شيء من الطمأنينة، لم يغب عنها القلق ولا الإحساس بالذنب، ولكنهما تراجعا إلى حاشية الشعور الذي احتلت مركزه عاطفة استطلاع حماسية نحو الدنيا التي يتراءى لها درب من دروبها، وميدان من ميادينها وغرائب من مبانيها وعديد من أناسها، ووجدت سرورا ساذجا لمشاركة الأحياء في الحركة والانطلاق، سرور من قضت ربع قرن سجينة الجدران ما عدا زيارات معدودات لأمها في الخرنفش - بضع مرات في العام - تقوم بها داخل حنطور بصحبة السيد فلا تسعفها الشجاعة حتى لاستراق النظر إلى الطريق ... وجعلت تسأل كمال عما يصادفهما في طريقهما من مشاهد وأبنية وأماكن، والغلام يحدثها في إسهاب مزهوا بدور المرشد الذي يقوم به، فهذا قبو قرمز المشهور الذي يجب - قبل الدخول فيه - تلاوة الفاتحة، وقاية من العفاريت التي تسكنه، وهذا ميدان بيت القاضي بأشجاره الباسقة، وكان يسميه ميدان «ذقن الباشا» مطلقا عليه اسم الزهر الذي يعلو أشجاره، أو يسميه أحيانا أخرى «ميدان شنجرلي» ساحبا عليه اسم بائع الشوكولاتة التركي، أما هذا البناء الكبير فهو قسم الجمالية، ومع أن الغلام لم يجد به ما يستحق اهتمامه سوى السيف المدلى من وسط الديدبان إلا أن الأم ألقت عليه نظرة مليئة بحب الاستطلاع الخليق بمكان يقيم به الرجل الذي سعى إلى طلب يد عائشة، حتى بلغا مدرسة خان جعفر الأولية، التي قضى بها عاما قبل التحاقه بمدرسة خليل أغا الابتدائية، فأشار إلى شرفتها الأثرية وهو يقول: «في هذه الشرفة كان الشيخ مهدي يلصق وجوهنا بالجدار لأقل هفوة، ويركلنا بحذائه خمسا أو ستا أو عشرا كما يحلو له.» ثم أومأ إلى دكان يقع تحت الشرفة مباشرة، وقال بلهجة لم يغب عنها مغزاها وهو يتوقف عن السير: «وهذا عم صادق بائع الحلوى.» ثم لم يقبل التزحزح عن موضعه حتى أخذ قرشا وابتاع به ملبنا أحمر، انعطفا بعد ذلك إلى طريق خان جعفر فلاح لهما عن بعد جانب من المنظر الخارجي لجامع الحسين، يتوسطه شباك عظيم الرقعة محلى بالزخارف العربية، وتعلوه فوق سور السطح شرفات متراصة كأسنة الرماح، فتساءلت والبشر يسجع في صدرها: «سيدنا الحسين؟» ولما أجابها بالإيجاب مضت تقارن بين المنظر الذي تقترب منه - وقد حثت خطاها لأول مرة مذ غادرت البيت - وبين الصورة التي خلقها خيالها له مستعينا في خلقه بنماذج من الجوامع التي في متناول بصرها كجامع قلاوون وبرقوق، فوجدت الحقيقة دون الخيال؛ لأنها كانت تنفخ في الصورة طولا وعرضا على قدر يناسب منزلة صاحب الجامع من نفسها، بيد أن هذا الاختلاف بين الحقيقة والخيال لم يكن ليؤثر شيئا في فرحة اللقاء التي ثملت بها جوانحها. ودارا حول الجامع حتى الباب الأخضر ودخلا في زحمة الداخلات. ولما وطئت قدما المرأة أرض المسجد شعرت بأن بدنها يذوب رقة وعطفا وحنانا، وأنها تستحيل روحا طائرا يرفرف بجناحيه في سماء يسطع بجنباتها عرف النبوة والوحي، فاغرورقت عيناها بالدمع الذي أسعفها للترويح عن جيشان صدرها وحرارة حبها وإيمانها وأريحية امتنانها وفرحها، وراحت تلتهم المكان بأعين شيقة مستطلعة جدرانه وسقفه وعمده وأبسطته ونجفه ومنبره ومحاريبه، وإلى جانبها كان كمال ينظر إلى هذه الأشياء من ناحية أخرى خاصة به ترى أن الجامع يكون مزارا للناس في النهار والهزيع الأول من الليل، وبيتا من بعد ذلك لصاحبه الشهيد يذهب فيه ويجيء مستعملا ما فيه من أثاث على نحو ما يستعمل المالك ملكه، فيطوف بأرجائه، ويصلي في المحراب ويرتقي المنبر، ويعلو النوافذ ليشرف على حيه المحيط، وكم تمنى حالما لو ينسونه في الجامع بعد أن يغلق أبوابه، فيمكنه أن يلقى الحسين وجها لوجه، وأن يمضي في حضرته ليلة كاملة حتى الصباح، وتخيل ما يخلق به أن يقدمه له عند اللقاء من آي الحب والخضوع، وما يجدر به أن يلقيه عند قدميه من أمانيه ورغباته، وما يرجوه بعد ذلك عنده من العطف والبركة، تخيل نفسه وهو يقترب منه خافض الرأس، فيسأله الشهيد برقة: «من أنت؟» فيجيبه وهو يقبل يده: «كمال أحمد عبد الجواد.» ويسأله عن عمله، فيقول له: «تلميذ - ولن ينسى التنويه بتفوقه - بمدرسة خليل أغا.» ويسأله عما جاء به في هذه الساعة من الليل، فيجيبه بأنه حب آل البيت عامة والحسين خاصة، فيبسم إليه عطفا، ويدعوه إلى مرافقته في تجواله الليلي، وعند ذاك يبوح له بأمانيه جملة قائلا: «اضمن لي أن ألعب كما أشاء داخل البيت وخارجه، وأن تبقى عائشة وخديجة في بيتنا إلى الأبد، وأن تغير طبع أبي، وأن تمد في عمر أمي إلى ما لا نهاية، وأن آخذ من المصروف قدر كفايتي، وأن ندخل الجنة جميعا بغير حساب» ... هذا وتيار الزائرات الزاحف في بطء يدفعهما رويدا حتى وجدا نفسيهما في مثوى الضريح، طالما تلهفت أشواقها على زيارة هذا المثوى كما تتلهف على حلم يستحيل تحقيقه في هذه الدنيا، ها هي تقف بين أركانه، بل ها هي لصق جدران الضريح نفسه، تشرف نفسها عليه خلال الدموع، وتود لو تتريث لتتملى مذاق السعادة لولا شدة ضغط الزحام، ومدت يدها إلى الجدران الخشبية، واقتدى كمال بها، ثم قرآ الفاتحة، ومسحت بالجدران وقبلتها ولسانها لا يني عن الدعاء والتوسل، ودت لو تقف طويلا أو تجلس في ركن من الأركان لتعيد النظر والتأمل ثم لتعيد الطواف، ولكن خادم المسجد وقف للجميع بالمرصاد، لا يسمح لواحدة بالتلكؤ ويحث المتباطئات، ويلوح منذرا بعصاه الطويلة، وهو يدعو الجميع إلى إتمام الزيارة قبل حلول ميعاد صلاة الجمعة، ارتوت من المنهل العذب ولكنها لم تطفئ ظمأها، وهيهات أن يروى لها ظمأ، لقد هاج الطواف حنينها، فتفجرت عيونه وسال وزخر ولن يزال ينشد المزيد من القرب والابتهاج، ولما وجدت نفسها مرغمة على مغادرة المسجد انتزعت نفسها منه انتزاعا، وأودعته قلبها وهي توليه ظهرها، ثم مضت حسرى يعذبها شعورها بأنها تودعه الوداع الأخير، بيد أن ما طبعت عليه من قناعة واستسلام آخذها على ما استسلمت له من الحزن، فردها إلى تملي ما ظفرت به من سعادة طارت بها هواجس الفراق، ودعاها كمال إلى مشاهدة مدرسته، فمضيا إليها في نهاية شارع الحسين، ووقفا عندها مليا، ولما أرادت الرجوع من حيث أتت أنذره ذكر العودة بانتهاء الرحلة السعيدة مع أمه، التي لم يحلم بمثلها من قبل، فأبى التفريط فيها واستمات في الدفاع عنها، فاقترح عليها أن يسيرا في السكة الجديدة حتى الغورية، ولكي يقضي على المقاومة التي بدت في صورة تقطيبة باسمة من وراء البرقع حلفها بالحسين فتنهدت، واستسلمت ليده الصغيرة، ومضيا يشقان طريقهما في زحمة شديدة وبين تيارات متلاطمة من السائرين في جميع الجهات مما لم تجد عشر معشاره في الطريق الهادئ الذي جاءت منه فعلاها الارتباك، وأخذت تفقد نفسها في اضطراب شامل، ولم تلبث أن شكت إليه ما تلقى من عناء وإعياء، ولكن تهالكه على إتمام الرحلة السعيدة جعله يصم أذنيه عن شكاتها، ويشجعها على مواصلة السير ويلهيها عن متاعبها بلفت نظرها إلى الدكاكين والعربات والمارة، وهما يقتربان في بطء شديد صوب منعطف الغورية، وعند ذاك المنعطف لاح لناظريه دكان فطائر فسال لعابه وثبتت عيناه عليها لا تتحولان، وراح يفكر في وسيلة لإقناع أمه بالدخول إلى الدكان وابتياع فطيرة، وبلغا الدكان وهو لا يزال يفكر، ولكنه ما يدري إلا وأمه تفلت من يده فالتفت نحوها متسائلا، فرآها وهي تسقط على وجهها وقد ندت عنها آهة عميقة، واتسعت عيناه في ذهول ورعب دون أن يبدي حراكا، ولكنه على ذهوله ورعبه رأى بجانب عينه - في نفس الوقت تقريبا - سيارة تفرمل محدثة صوتا عنيفا، ومرسلة وراءها ذيلا من الدخان والغبار، فكادت تدوس الملقاة لولا أن انحرفت عنها مقدار شبر، وتعالى صياح وحدثت ضجة وهرع الناس إلى المكان من جميع نواحي الطريق كما تهرع الصبية إلى صفارة الحاوي، فضربوا حولها حلقة غليظة بدت أعينا مستطلعة ورءوسا مشرئبة وألسنة تهتف بكلام اختلطت أسئلته بأجوبته، وأفاق كمال من الصدمة بعض الشيء فراح يردد عينيه بين أمه الملقاة عند قدميه وبين الناس في حال ناطقة بالخوف والاستغاثة، ثم ارتمى على ركبتيه إلى جانبها ووضع كفه على منكبها، وناداها بصوت تفتتت نبراته بحرارة الرجاء ولكنها لم تستجب له، فرفع رأسه مقلبا عينيه في وجوه الناس، ثم صرخ باكيا في نحيب حار علا على الضجة التي تكتنفه، حتى كاد يسكتها وتطوع البعض لمواساته بكلمات لا معنى لها، وانحنى آخرون فوق أمه مستطلعين بنظرات كمنت وراءها رغبتان؛ تنشد إحداهما السلامة للضحية، وتنزع الأخرى - في حال اليأس من السلامة - إلى أن ترى الموت - ذلك الحتم المؤجل - وهو يطرق بابا غير بابهم، وينتزع روحا غير روحهم كأنهم يودون أن يقوموا بشبه بروفا آمنة لأخطر دور قضي عليهم جميعا أن يختموا الحياة بلعبه، وصاح أحدهم قائلا: «صدمها باب السيارة الأيسر في ظهرها.» وقال السائق الذي غادر السيارة ووقف مختنقا بجو الاتهام الذي يطبق عليه: «لقد انحرفت عن الطوار بغتة، فلم أستطع أن أتفادى من صدمها، ولكني فرملت بسرعة فجاءت الصدمة خفيفة، ولولا رعاية الله لدستها» ... وجاء صوت من المحدقين إليها قائلا: «ما زالت تتنفس ... أغمي عليها فقط.» وعاد السائق يقول وقد لمح الشرطي قادما يترنح سيفه بجنبه الأيسر: «إنها صدمة خفيفة ... لم تتمكن منها أبدا. إنها بخير ... بخير يا جماعة والله ...» ثم انتصبت قامة أول رجل تقدم لفحصها وقال كأنما يلقي خطبة: «ابتعدوا لا تمنعوا الهواء ... فتحت عينيها ... بخير ... بخير والحمد لله! ...» كان يتكلم بابتهاج لا يخلو من زهو كأنه هو الذي رد إليها الحياة، ثم تحول إلى كمال الذي غلبه بكاء عصبي، فاسترسل فيه في انفعال لم تجد معه مواساة المواسين، تحول إليه وربت على خده بحنان وقال له: «حسبك يا بني ... أمك بخير ... انتظر ... هلم ساعدني على إقامتها» ... ولكن كمال لم يمسك عن البكاء حتى رأى أمه تتحرك، فمال نحوها ووضع يسراها على كتفه، وعاون الرجل على إقامتها حتى أمكن بجهد شديد أن تقف بينهما في إعياء وخور، وقد سقطت عنها الملاءة التي امتدت بعض الأيدي لتعيدها إلى موضعها - بقدر الإمكان - حول كتفيها، ثم قدم لها الفطائري الذي وقعت الحادثة أمام دكانه مقعدا فأقعدوها عليه وجاءها بقدح من الماء، فتجرعت جرعة سال نصفها على عنقها وصدرها، فمسحت بيدها على صدرها بحركة عكسية وهي تزفر زفرة عميقة. وجعلت تردد أنفاسا مضطربة بصعوبة وتنظر في وجوه المحدقين بها في ذهول وهي تتساءل: «ماذا جرى؟ ... ماذا جرى؟ ... رباه، لماذا تبكي يا كمال؟!» وعند ذاك اقترب الشرطي منها وسألها: «هل بك سوء يا سيدتي؟ وهل تستطيعين السير إلى القسم؟» فصدم اسم «القسم» عقلها فرجها من الأعماق، وهتفت بفزع: «لماذا أذهب إلى القسم؟ ... لا أذهب إلى القسم أبدا.» فقال لها الشرطي: «لقد صدمتك السيارة فأوقعتك، فإذا كان بك سوء وجب أن تذهبي أنت وهذا السائق إلى القسم لتحرير المحضر.» ولكنها قالت وهي تلهث: «كلا ... كلا ... لن أذهب ... أنا بخير.» فقال لها الشرطي: «توكدي مما تقولين، انهضي وامشي لنرى إن كان أصابك سوء.» ولم تتردد عن النهوض - مدفوعة بالفزع الذي أثاره ذكر القسم - فنهضت وأصلحت ملاءتها، ثم سارت تحت الأعين المستطلعة، وكمال إلى جانبها ينفض عن الملاءة ما علق بها من تراب، ثم قالت للشرطي وهي ترجو أن تنتهي هذه الحال المؤلمة بأي ثمن: «إني بخير (ثم مشيرة إلى السائق) ... دعوه ... لا شيء بي.» لم تعد تشعر بخور فيما ركبها من خوف، هالها منظر الناس المحدقين بها، خاصة الشرطي الذي يتقدمهم، وارتعدت تحت وقع النظرات المصوبة نحوها من كل مكان متحدية باستهانة بالغة تاريخا طويلا من التستر والتخفي، فتخايلت لعينيها فوق هذا الجمع صورة السيد وكأنها تتفرس في وجهها بعينين باردتين متحجرتين منذرتين بما لا تطيق تصوره من الشر، فلم تأل أن قبضت على يد الغلام واتجهت به صوب الصاغة، فلم يعترض سبيلها أحد وما غيبهما منعطف الطريق، حتى شهقت من الأعماق وخاطبت كمال، وكأنما تخاطب نفسها: «يا ربي ماذا حدث؟ ماذا رأيت يا كمال؟ كأنه حلم مفزع، خيل إلي أني أهوي من عل إلى هاوية مظلمة، وأن الأرض تدور تحت قدمي، ثم غبت عن كل شيء حتى فتحت عيني على ذاك المنظر المخيف، رباه ... هل أراد حقا أن يذهب بي إلى القسم؟! يا لطيف يا رب ... يا منجي يا رب، متى نبلغ بيتنا؟! بكيت كثيرا يا كمال لا عدمت عينيك أبدا ... جفف عينيك بهذا المنديل حتى تغسل وجهك في البيت ... آه.»
وتوقفت عن السير بعد أن أوشكا أن يطويا طريق الصاغة، واعتمدت بيدها على منكب الغلام وقد تقلص وجهها، فرفع كمال وجهه إليها منزعجا وسألها: ماذا بك؟
فأغمضت عينيها وهي تقول بصوت ضعيف: إني تعبة، تعبة جدا، لا تكاد تحملني قدماي، ادع أول عربة تصادفك يا كمال.
ونظر كمال فيما حوله فلم ير إلا عربة كارو واقفة عند باب مستشفى قلاوون فنادى الحوذي الذي بادر إلى سوق العربة، حتى وقف بها أمامهما، واقتربت الأم منها متكئة على كتف كمال ثم صعدت إلى سطحها بمعاونته، واعتمادا على منكب الحوذي الذي وطأه لها، حتى تربعت وهي تتنهد في إعياء شديد، وجلس كمال إلى جانبها ثم وثب الحوذي إلى المقدمة، ونخس الحمار بقبضة سوطه فمشى مشيته الوئيدة والعربة تترنح وراءه مطقطقة ... وتأوهت المرأة متمتمة: «ما أشد ألمي، عظام كتفي تتفكك.» هذا وكمال يرمقها في جزع وقلق ... ومرت العربة في طريقها بدكان السيد دون أن يعيراها التفاتا، ومضى كمال يتطلع إلى الأمام حتى لاحت لعينيه مشربيات البيت ... لم يعد يذكر من الرحلة السعيدة إلا نهايتها المحزنة.
28
فتحت أم حنفي الباب فأذهلها أن ترى سيدتها متربعة على عربة كارو، وقد ظنت لأول وهلة أنه ربما يكون قد خطر لها أن تختم رحلتها بجولة في العربة على سبيل اللهو، فلاحت على وجهها ابتسامة ولكن إلى لحظة قصيرة؛ إذ ما لبثت أن رأت عيني كمال المحمرتين من البكاء فارتدت عيناها إلى سيدتها في انزعاج، واستطاعت هذه المرة أن تلمس ما تعاني من إعياء وألم، فندت عنها آهة وهرعت إلى العربة هاتفة: «ستي ما لك، بعد الشر عنك.» فقال الحوذي: «تعب بسيط إن شاء الله، عاونيني على إنزالها.» وتلقتها المرأة بين ذراعيها، وسارت بها إلى الداخل وتبعهما كمال واجما محزونا، وكانت خديجة وعائشة قد غادرتا المطبخ وانتظرتا في الفناء، وكلتاهما تفكر في دعابة تلقى بها القادمين فما راعهما إلا أن تطلع عليهما أم حنفي من الدهليز الخارجي، وهي تكاد تحمل الأم حملا فندت عنهما صرخة، وهرعتا إليها فزعتين وهما تهتفان: نينة ... نينة ... ما لك!
وتعاونوا جميعا على حملها، ولم تكف خديجة في أثناء ذلك عن أن تسأل كمال عما حدث، حتى اضطر الغلام إلى أن يغمغم في خوف بالغ: سيارة! - سيارة!
هكذا هتفت الفتاتان معا مرددتين الاسم الذي وقع من نفسيهما موقعا مفزعا فاق الاحتمال. فولولت خديجة هاتفة: «يا خبر أسود ... بعد الشر عنك يا نينة.» أما عائشة فانعقد لسانها وأفحمت في البكاء، ولم تكن الأم غائبة عن الوجود، وإن كانت من الإعياء في نهاية فهمست على إعيائها رغبة في تسكين اضطرابهما: إني بخير، لم يحدث سوء، ما بي إلا تعب.
وتناهت الضجة إلى ياسين وفهمي، فخرجا إلى رأس السلم وأطلا من فوق الدرابزين، وما لبثا أن نزلا مهرولين منزعجين وهما يتساءلان عما حدث، ولم تملك خديجة إلا أن تشير إلى كمال ليجيب بنفسه مشفقة من ترديد الاسم الرهيب، فاتجه الشابان إلى الغلام الذي عاد يغمغم بحزن وارتباك: سيارة!
ثم انتحب باكيا وتحول الشابان عنه مؤجلين ما يلح عليهما من أسئلة إلى حين، وحملا الأم إلى حجرة الفتاتين وأجلساها على الكنبة، ثم سألها فهمي قلقا معذبا: خبريني عما بك يا نينة، أريد أن أعرف كل شيء.
ولكنها مالت برأسها إلى الوراء ولم تنبس بكلمة ريثما تسترد أنفاسها على حين علا بكاء خديجة وعائشة وأم حنفي وكمال، حتى فقد فهمي أعصابه فثار بهن ونهرهن حتى أمسكن، ثم جذب كمال إليه ليستجوبه عما يريد، كيف وقع الحادث؟ وماذا فعل الناس بالسائق؟ وهل أخذوكما إلى القسم؟ وكيف كان حال الأم في أثناء ذلك كله؟ هذا وكمال يجيبه على أسئلته بلا تردد وفي إسهاب، وعن أكثر التفاصيل، وكانت الأم تتابع الحديث بالرغم من وهنها، فلما سكت الغلام استجمعت قواها وقالت: إني بخير يا فهمي، لا تزعج نفسك، كانوا يريدون أن أذهب إلى القسم فرفضت، ثم واصلت السير حتى نهاية الصاغة، وهناك خارت قواي فجأة، لا تنزعج، سأسترد قواي بعد راحة قصيرة.
إلا أن ياسين عانى - إلى انزعاجه للحادث - حرجا شديدا؛ لأنه كان المسئول الأول عن الرحلة المشئومة - بهذا وصفت بعد الحادث - فاقترح عليهم أن يستدعوا طبيبا، وغادر الحجرة لتنفيذ اقتراحه دون انتظار لمعرفة رأي الآخرين، وارتعدت الأم لذكر الطبيب كما ارتعدت من قبل لذكر القسم، فرجت فهمي أن يلحق بأخيه، وأن يثنيه عن عزمه مؤكدة له بأنها ستبرأ دون حاجة إلى طبيب، ولكن الشاب رفض الإذعان لرجائها مبينا لها أوجه الفائدة المنوطة بمجيئه، وفي أثناء ذلك تعاونت الفتاتان على نزع الملاءة عنها، وجاءتها أم حنفي بقدح ماء، ثم أحاطوا بها جميعا، وهم يتفحصون بقلق وجهها الذي علاه الشحوب، ويسألونها مرارا وتكرارا عما تجد، وهي تحاول ما استطاعت أن تتظاهر بالهدوء أو تقنع بأن تقول إذا ألح عليها الألم: «ثمة ألم خفيف في كتفي اليمنى»، ثم تستدرك قائلة: «ولكن لم يكن من داع لاستدعاء طبيب.» والحق أنها لم ترتح لاستدعائه أبدا؛ لأنها من ناحية لم تلق طبيبا قط - لا لحصانة صحتها فحسب - ولكن لأنها نجحت دائما في مداواة ما يلم بها من توعك أو انحراف بطبها الخاص، فلم تؤمن بالطب الرسمي، إلى أنه اقترن في ذهنها بالحوادث الخطيرة والخطوب الفادحة، ومن ناحية أخرى فقد شعرت بأن استدعاء الطبيب من شأنه أن يهول الأمر الذي تود له الستر والطي قبل عودة السيد ... ولم تأل أن أفصحت لأبنائها من مخاوفها، ولكنهم لم يهتموا في تلك اللحظة الدقيقة إلا بشيء واحد، هو سلامتها.
ولم يغب ياسين أكثر من ربع ساعة؛ لأن عيادة الطبيب كانت في ميدان بيت القاضي، ثم عاد يتقدم الرجل الذي أدخل إلى الأم حال حضوره، وأخليت الغرفة فلم يبق بها معه إلا ياسين وفهمي، وسأل الطبيب الأم عما تشكو فأشارت إلى كتفها اليمنى، وقالت وهي تزدرد ريقها الذي جف من الخوف: أشعر هنا بألم.
وعلى هدي إشارتها، إلى ما حدثه به ياسين في الطريق عن الحادث جملة، تقدم لفحصها، وطال وقت الفحص في شعور الشابين المنتظرين في الداخل، وشعور المنتظرات وراء الباب مرهفات السمع خافقات القلب، وتحول الطبيب عن المصابة إلى ياسين قائلا: كسر في الترقوة اليمنى، هذا كل ما هنالك.
وأحدثت «لفظة» الكسر ارتياعا في الداخل والخارج، وعجب الجميع لقوله «هذا كل ما هنالك» كأن وراء الكسر شيئا يتسع له احتمالهم، على أنهم وجدوا في ذات التعبير، واللهجة التي ألقى بها ما يغري بالطمأنينة، فتساءل فهمي وهو بين الخوف والأمل: وهل هو شيء خطير؟ - كلا البتة، سأعيد العظم إلى سابق موضعه وأشده، ولكن عليها أن تنام بضع ليال وهي قاعدة مسندة الظهر إلى وسادة؛ لأنه سيتعذر عليها أن تنام على الظهر أو الجنبين، وسوف يجبر الكسر وتعود إلى ما كانت عليه في ظرف أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، لا داعي للخوف مطلقا ... والآن دعوني أعمل.
ومهما يكن من أمر فقد استروحوا نسمة سلام بعد أن جفت منهم الحناجر، وبدا هذا الأثر واضحا بين الجماعة خارج الحجرة فتمتمت خديجة: فلتحل بها بركة سيدنا الحسين الذي ما خرجت إلا لزيارته.
وكأنما تذكر كمال بقولها أمرا هاما أنسيه طويلا، فقال بدهشة: كيف أمكن أن يقع لها هذا الحادث بعد تبركها بزيارة سيدنا الحسين؟
ولكن أم حنفي قالت ببساطة: ومن أدرانا بما كان يحدث لها - والعياذ بالله - لو لم تتبرك بزيارة سيدها وسيدنا؟
ولم تكن عائشة قد أفاقت من أثر الصدمة، فضاق صدرها بالحديث، وهتفت برجاء حار: آه يا ربي متى ينتهي كل شيء كأنه لم يكن!
وعادت خديجة تقول بأسف وحسرة: ما الذي ذهب بها إلى الغورية؟! لو رجعت بعد الزيارة إلى البيت مباشرة لما حدث لها الذي حدث!
فدق قلب كمال خوفا وانزعاجا، وتجسم ذنبه لعينيه جريمة نكراء، ولكنه حاول التملص من الشبهات، فقال بلهجة تنم عن لوم: أرادت أن تتمشى في الطريق وعبثا حاولت أن أثنيها عن إرادتها.
فحدجته خديجة بنظرة اتهام وهمت بالرد عليه، ولكنها أمسكت إشفاقا وعطفا على وجهه الذي علاه الاصفرار، ثم قالت لنفسها: «حسبنا ما نحن فيه الآن.»
وفتح الباب وغادر الطبيب الحجرة، وهو يقول للشابين اللذين تبعاه: ينبغي أن أعودها يوما بعد يوم حتى يجبر الكسر، وكما قلت لكما لا داعي للخوف مطلقا.
واقتحم الجميع الحجرة فرأوا أمهم قاعدة في الفراش، مسندة الظهر إلى وسادة مكسورة وراءها، ولم يكن ثمة تغيير إلا ارتفاع في كتف الفستان فوق منكبها الأيمن وشى بالرباط الذي تحته، فهرعوا إليها وهتفوا: الحمد لله.
وكم اشتد بها الألم والطبيب يعالج الكسر، فأنت أنينا متواصلا، ولولا ما طبعت عليه من حياء لصرخت عاليا، ولكن زايلها الآن الألم، أو هكذا بدا، وشعرت براحة نسبية وسكينة، بيد أن زوال حدة الألم مكنت لعقلها من استئناف نشاطه، فاستطاعت أن تفكر في الموقف من مختلف نواحيه، وما لبث أن ركبها الخوف، فقالت متسائلة وهي تردد بينهم بصرا زائغا: ما عسى أن أقول لأبيكم إذا رجع؟
اعترض هذا السؤال - ساخرا متحديا - نسمات الطمأنينة التي سكنوا إليها كما تعترض الصخور الناتئة سبيل سفينة آمنة، على أنه لم يجئ مفاجأة لوعيهم، بل لعله اندس في زحمة المشاعر الأليمة التي ورت بها قلوبهم لدى ارتطامها بالخبر، ولكنه ضاع في زحمتها، فتأجل حسابه إلى حين، الآن قد عاد ليحتل الصدارة من نفوسهم، فلم يجدوا مهربا من مواجهته، ورأوا بحق أن أشد عليهم وعلى أمهم من الإصابة التي خرجت منها وشيكة الشفاء. وشعرت الأم - للصمت الذي قوبل به سؤالها - بعزلة المذنب إذا تخلى عنه رفاقه حين انكشاف تهمته، فتمتمت بنبرات شاكية: سيعلم حتما بالحادث، وسيعلم أكثر من هذا بخروجي الذي أدى إليه.
ومع أن أم حنفي لم تكن دون أفراد الأسرة قلقا ولا أقل إدراكا لخطورة الموقف، إلا أنها أرادت أن تقول كلمة طيبة، تلطيفا للجو من ناحية، ولأنها كانت تشعر من ناحية أخرى بأن الواجب يقضي عليها - كخادم الأسرة القديمة الأمينة - بألا تلوذ عند الشدائد بالصمت أن يظن بها عدم اكتراث، فقالت وهي أدرى ببعد قولها عن الواقع: إذا علم سيدي بما وقع لك فلن يسعه إلا أن يتناسى هفوتك حامدا الله على نجاتك.
وقوبل قولها بالإهمال الذي يستحقه عند قوم لا تخفى عليهم من حقيقة الموقف خافية، إلا أن كمال آمن به، وقال متحمسا وكأنه يتم كلام أم حنفي: خصوصا إذا قلنا له إن خروجنا كان لزيارة سيدنا الحسين.
ورددت المرأة عينيها الخابيتين بين ياسين وفهمي وتساءلت: ما عسى أن أقول له؟
فقال ياسين الذي هاضته شدة مسئوليته: أي شيطان أضلني حين نصحت لك بالخروج، كلمة جرت على لساني وليتها ما جرت، ولكن هكذا شاءت الأقدار لترمي بنا في هذا المأزق الأليم، على أنني أقول لك بأننا سنجد ما نقوله، وأيا كان الأمر فلا ينبغي أن تشغلي فكرك بما سيكون. دعي الأمر لله، وحسبك ما قاسيت في يومك من آلام ومخاوف.
تكلم ياسين بحماس وعطف معا، فصب سخطه على نفسه، وعطف على الأم عطف المتألم لحالها، ومع أن كلامه لم يقدم ولم يؤخر، إلا أنه روح عن شعوره الضيق بالحرج، وأفصح به في نفس الوقت عما عساه يدور في عقول بعض - أو كل - من يقفون إلى جانبه، فأغناهم عن الإفصاح عنه بأنفسهم؛ إذ إن التجربة علمته بأنه أحيانا ما يكون السبيل خير السبيل للدفاع عن النفس هو في الهجوم عليها، وأن الاعتراف بالذنب يغري بالصفح بقدر ما يغري الدفاع عنه بالغضب، وكان أخوف ما يخاف أن تنتهز خديجة الفرصة السانحة لتحمله جهارا مسئولية ما أدت إليه مشورته، وتتخذها سبيلا إلى مهاجمته، فسبقها إلى غرضها قاطعا عليها الطريق، ولم يكذب ظنه فالحق أن خديجة كانت على وشك أن تطالبه - بصفته المسئول الأول عما وقع - بأن يجد لهم مخرجا، فلما ألقى خطابه استحيت من مهاجمته خاصة وأنها لا تهاجمه عادة إلا على سبيل النقار لا الكراهة، بذلك تحسن موقفه بعض الشيء ولكن الموقف العام بقي على سوئه، وظل كذلك حتى خرجت خديجة من صمتها قائلة: لماذا لا ندعي أنها سقطت على السلم؟
فتطلعت إليها أمها بوجه يتلهف على النجاة من أي سبيل، وقلبته بين فهمي وياسين وقد لاحت بعينيها لمعة أمل، بيد أن فهمي تساءل في حيرة: والطبيب؟ ... سيعودها يوما بعد يوم، وسيقابل أبي بالضرورة.
ولكن ياسين أبى أن يغلق الباب الذي تسللت منه نسمة أمل حرية بأن تستنقذه من آلامه ومخاوفه، فقال: نتفق مع الطبيب على ما ينبغي أن يقال لأبي؟
وتبودلت النظرات بين التصديق والتكذيب، ثم شاع في الوجوه البشر للإحساس المشترك بالنجاة، وتغير الجو القاتم إلى جو بهيج كما تبدو وسط السحاب المكفهر فجوة زرقاء على غير انتظار فتنداح بمعجزة عجيبة، حتى تشمل القبة السماوية في دقائق معدودات ثم تضيء الشمس، قال ياسين وهو يتنهد: نجونا والحمد لله.
فقالت خديجة بعد أن استعادت في الجو الجديد نشاطها المألوف: بل نجوت أنت يا صاحب المشورة.
فقهقه ياسين حتى اهتز جسمه الضخم وقال: أجل نجوت من عقرب لسانك، طالما توقعت أن تمتد إلي بين حين وآخر لتلسعني. - ولكنها هي التي أنقذتك، ومن أجل الورد يسقى العليق.
كادوا ينسون في فرحة النجاة أن أمهم طريحة الفراش مكسورة الترقوة، ولكنها هي نفسها كادت أن تنسى.
29
فتحت عينيها فوقع بصرها على خديجة وعائشة جالستين على الفراش عند قدميها رانيتين إليها بعينين يتنازعهما الخوف والرجاء، فتنهدت ثم التفتت صوب النافذة، فرأت خصاصها ينضح بضوء الضحى فتمتمت كالمستغربة: نمت طويلا.
فقالت عائشة: ساعات معدودة بعد أن طلع عليك الفجر دون أن يغمض لك جفن ... يا لها من ليلة لن أنساها مهما امتد بي العمر.
وعاودتها ذكريات الليلة الماضية من الأرق والألم، فنطقت عيناها بالرثاء - لنفسها وللفتاتين اللتين سهرتا إلى جانبها طول الليل يبادلانها الألم والأرق - وتحركت شفتاها، وهي تستعيذ بالله بصوت غير مسموع ثم همست قائلة فيما يشبه الحياء: شد ما أتعبتكما!
فقالت خديجة بلهجة توحي بالدعابة: تعبك راحة، ولكن إياك وأن تعودي إلى إرعابنا ... (ثم بنبرات غلبها التأثر) كيف هاجمك ذاك الألم المخيف؟! ... لقد حسبتك استغرقت في النوم، وأنت على أحسن حال، واستلقيت لأنام بدوري، وإذا بي أستيقظ على أنينك، ثم لم تمسكي عن آه ... آه حتى مطلع الفجر.
وتهلل وجه عائشة بالتفاؤل وهي تقول: على أي حال أبشري، لقد أخبرت فهمي عن حالك حين سألني عن صحتك في الصباح، فقال لي إن الألم الذي انتابك دليل على أن العظم المكسور كان آخذا في الالتئام.
وجذبها اسم فهمي من لجة أفكارها فتساءلت: ذهبوا بسلامة الله؟
فقالت خديجة: طبعا، كانوا يودون محادثتك ليطمئنوا عليك بأنفسهم، ولكني لم أسمح لأحد بأن يوقظك من النوم الذي لم تدخليه حتى شيبتنا.
فتنهدت الأم في استسلام: الحمد لله على كل حال، ربنا يجعل العواقب سليمة ... في أي وقت نحن الآن؟
فقالت خديجة: كلها ساعة ويؤذن الظهر.
ودعاها تأخر الوقت إلى أن تخفض عينيها متفكرة، ثم رفعتهما فإذا بهما تعكسان نظرة قلق، وتمتمت: لعله الآن في الطريق إلى البيت.
وأدركتا من تعني، ومع أنهما شعرتا بدبيب الخوف في قلبيهما، إلا أن عائشة قالت بثقة: أهلا به وسهلا، لا داعي للقلق، اتفقنا على ما ينبغي أن يقال وانتهى الأمر.
ولكن اقتراب عودته أشاع في نفسها المهزولة القلق فتساءلت: ترى هل يمكن التستر على ما وقع؟
فقالت خديجة بصوت ارتفعت حدته بنسبة قلقها المتزايد: ولم لا؟ ... سنخبره بما تم الاتفاق عليه فيمر الأمر بسلام.
تمنت في تلك الساعة لو بقي ياسين وفهمي إلى جانبها ليشجعاها، تقول خديجة «سنخبره بما تم الاتفاق عليه فيمر الأمر بسلام» ولكن هل يظل ما وقع سرا مغلقا إلى الأبد ... ألا تجد الحقيقة فرجة تنفذ منها إلى الرجل؟ ... كم تخاف الكذب بقدر ما تخاف الحقيقة، ولا تدري أي مصير يتربص بها، ورددت عينيها بعطف بين الفتاتين وفتحت فاها لتتكلم حين دخلت أم حنفي مهرولة، وهي تقول بصوت مهموس كأنها تخاف أن يسمع خارج الحجرة: سيدي جاء يا ستي.
وخفقت قلوبهن في اضطراب، وجلت الفتاتان عن الفراش في وثبة واحدة، ثم وقفتا حيال أمهما يتبادلن جميعا النظر صامتات، حتى غمغمت الأم: لا تتكلما أنتما؛ فإني أخاف عليكما مغبة مخادعته، اتركا لي القول والله المستعان.
وساد صمت مشحون بالتوتر كالصمت الذي يركب أطفالا في الظلام إذا قرع آذانهم وقع أقدام من يظنونهم عفاريت يجوسون في الخارج، حتى ترامى إليهن وقع أقدام السيد على السلم، وهي تقترب فأزاحت الأم كابوس الصمت بمشقة وغمغمت: إذا تركناه صعد إلى حجرته لم يجد أحدا؟!
ثم التفتت صوب أم حنفي قائلة: أخبريه بأنني هنا، مريضة، ولا تزيدي.
وازدردت ريقها الجاف، أما الفتاتان فمرقتا من الحجرة مستبقتين وغادرتاها وحيدة، ووجدت نفسها وكأنها في عزلة عن العالم كله فاستسلمت للمقادير، وكثيرا ما يبدو هذا الاستسلام في سلوكها - الأعزل من كل سلاح - كأسلوب من أساليب الشجاعة السلبية، واستجمعت فكرها لتتذكر ما يجب قوله بيد أن الشك في سلامة تدبيرها لم يزايلها قط، وكمن في أعماق شعورها معلنا عن ذاته بحال من القلق والتوتر وتبدد الثقة وجاءها وقع طرف عصاه على أرض الصالة، فغمغمت: «رحمتك يا رب وعونك»، ثم تطلع بصرها إلى الباب حتى اعترضه جسمه الطويل العريض، ورأته وهو يدخل مقتربا ملقيا عليها نظرة متفحصة من عينيه الواسعتين حتى وقف في منتصف الحجرة، وهو يتساءل بصوت خالته رقيقا على غير عادته: ما لك؟
فقالت وهي تغض بصرها: حمدا لله على سلامتك يا سيدي، بخير ما دمت بخير. - لكن أم حنفي قالت لي إنك مريضة.
فأشارت بيسراها إلى كتفها اليمنى، وقالت: أصيب كتفي يا سيدي لا أراك الله سوءا.
فتساءل الرجل وهو يتفرس في كتفها باهتمام وقلق: ماذا أصابه؟
حم الأمر، وجاءت الدقيقة الفاصلة، ما عليها إلا أن تتكلم، أن تنطق بكذبة النجاة، فتمر الأزمة بسلام وتستزيد من العطف المتاح، ورفعت عينيها وهي تتوثب، فالتقت عيناها بعينيه، أو بالأحرى عيناها في عينيه، فاشتد وجيب قلبها، وتتابع بلا رحمة ، هناك تبخر ما جمعته في رأسها من رأي، وانتثر ما كتلته في إرادتها من عزم، ورمشت عيناها في اضطراب وذهول، ثم رنت إليه بطرف حائر دون أن تنبس بكلمة، وعجب السيد لاضطرابها فتعجلها متسائلا: ماذا حدث يا أمينة؟!
لا تدري ماذا تقول، كأنه ليس لديها ما تقوله ولكن بات في حكم اليقين أنه لم يعد بوسعها أن تكذب، أفلتت الفرصة دون أن تدري كيف، ولو أنها أعادت المحاولة لخرجت من صدرها مبتورة مكشوفة، كانت كمن يسير وهو منوم تنويما مغناطيسيا على حبل إذا دعي إلى إعادة مخاطرته وهو صاح، وكلما مرت الثواني غاصت في الارتباك والهزيمة حتى أشفت على اليأس. - لماذا لا تتكلمين؟
ها هي لهجته بدأت تنم عن نفاد صبر، ولا يبعد أن تقعقع قريبا بالغضب، رباه لشد ما هي في حاجة إلى العون، أي شيطان أغواها بتلك الخرجة المشئومة. - عجبا ألا تريدين أن تتكلمي؟!
وبات السكوت فوق طاقتها فتمتمت بصوت متهدج مدفوعة باليأس والقهر: أخطأت خطأ كبيرا يا سيدي ... صدمتني سيارة.
واتسعت عينا السيد دهشة، ولاح فيهما انزعاج مقرون بالإنكار ... وكأنه بات يشك في صحة قواها العقلية، ولم تعد المرأة تحتمل التردد وصممت على أن تبوح باعترافها كاملا مهما تكن العواقب، كمن يقدم - مغامرا بحياته - على إجراء عملية جراحية خطيرة ليتخلص من آلام داء لا قبل له به، وتضاعف عند ذاك شعورها بفداحة الذنب وخطورة الاعتراف، فدمعت عيناها وقالت بصوت لم تعن بإخفاء نبراته الباكية إما لأنه غلبها على صوتها، أو لأنها أرادت أن تبذل محاولة يائسة لاستدرار العطف: ظننت أن سيدنا الحسين يدعوني إلى زيارته فلبيت ... ذهبت للزيارة ... وفي طريق العودة صدمتني سيارة ... قضاء الله يا سيدي ... ولقد نهضت من سقطتي دون معاونة أحد (قالت العبارة الأخيرة بوضوح) ولم أشعر بادئ الأمر بأي ألم فحسبتني بخير وواصلت السير، حتى عدت إلى البيت، وهنا تحرك الألم فأحضروا لي الطبيب، ففحص كتفي وقرر أن به كسرا، ووعد بأن يعودني يوما بعد يوم حتى يجبر الكسر، لقد أخطأت خطأ كبيرا يا سيدي، وجوزيت عليه بما أستحق ... والله غفور رحيم.
أنصت السيد إليها صامتا جامدا، لم تتحول عنها عيناه، ولم يبد في وجهه أثر مما يعتلج في صدره على حين نكست هي رأسها في تخشع بحال من ينتظر النطق بالحكم، وطال الصمت واشتد، وشاعت في جوه المنقبض نذر الخوف والوعيد، وتحيرت من أمره لا تدري عن أي قضاء يتمخض، ولا إلى أي مصير يقذف بها، حتى جاءها صوته وهو يقول في هدوء غريب: وماذا قال الطبيب؟ ... هل ثمة خطر على الكسر؟
فالتفت رأسها صوبه بذهول ... أجل توقعت كل شيء إلا أن يجود بهذا القول اللطيف، ولولا رهبة الموقف لاستعادته لتتوكد من صحة ما سمعت، وغلبها التأثر فطفرت من عينيها دمعتان غزيرتان، فشدت على شفتيها أن تفحم في البكاء، ثم غمغمت في ذل وانكسار: قال الطبيب إنه لا داعي للخوف مطلقا، نجاك الله من كل سوء يا سيدي.
ووقف الرجل بعض الوقت وهو يقاوم رغبة تدعوه إلى المزيد من السؤال حتى تغلب عليها، فتحول عن موقفه ليغادر الحجرة وهو يقول: الزمي فراشك، حتى يأخذ الله بيدك.
30
هرعت خديجة وعائشة إلى الحجرة بعد ذهاب والدهما، ووقفتا حيال أمهما تنظران إليها بعينين مستطلعتين تنطق نظراتهما بالاهتمام والقلق، ثم لاحظتا احمرار عينيها من أثر البكاء، فوجمتا وتساءلت خديجة وقد استشعر قلبها الخوف والتشاؤم: خير إن شاء الله؟
فلم تعد الأم أن قالت باقتضاب وهي ترمش بعينيها ارتباكا: اعترفت له بالحقيقة. - الحقيقة!
فقالت باستسلام: لم يسعني إلا الاعتراف، فما كان من الممكن أن يخفى الأمر عليه إلى الأبد، وحسنا فعلت.
فدقت خديجة صدرها بيدها وهتفت: يا نهارنا الأسود.
على حين بهتت عائشة فحملقت في وجه أمها دون أن تنبس بكلمة، ولكن الأم ابتسمت فيما يشبه الزهو المقرون بالحياء، وتورد وجهها الشاحب وهي تستعيد ذكرى العطف الذي شملها به حين لم تكن تتوقع منه إلا غضبا كاسحا يعصف بها وبمستقبلها ... أجل شعرت بزهو وحياء وهي تتهيأ للحديث عن عطف السيد عليها في محنتها، وكيف نسي غضبه فيما اعتراه من تأثر وإشفاق، ثم غمغمت بصوت لا يكاد يسمع: كان بي رحيما أطال الله عمره، أنصت إلى قصتي صامتا، ثم سألني عن رأي الطبيب في خطورة الكسر، وغادرني وهو يشير علي أن ألزم الفراش حتى يأخذ الله بيدي.
وتبادلت الفتاتان النظرات في دهشة وعدم تصديق، ولكن زايلهما الخوف سريعا فتنهدتا في ارتياح عميق وأضاء وجهاهما بالبشر، وهتفت خديجة: أرأيت بركة الحسين؟
وقالت عائشة بخيلاء: لكل شيء حدود حتى غضب بابا، ما كان يسعه أن يغضب وهو يراها على هذه الحال، الآن عرفنا قيمتها عنده ... (ثم مخاطبة أمها في دعابة) يا لك من أم محظوظة، هنيئا لك التكريم والعطف!
فعاود وجه الأم التورد وقالت بتلعثم وحياء: أطال الله عمره ... (ثم متنهدة) والحمد لله على النجاة!
وتذكرت أمرا فالتفتت إلى خديجة وقالت باهتمام: يجب أن تلحقي به؛ لأنه سيحتاج إلى خدمتك حتما.
وشعرت الفتاة - لما يركبها في محضر أبيها من الارتباك والاضطراب - كأنها وقعت في شرك فقالت محتدة: ولماذا لا تذهب عائشة؟!
ولكن الأم قالت في عتاب: أنت أقدر على خدمته، لا تتلكئي يا شابة؛ إذ ربما يكون في حاجة إليك الآن.
وكانت تعلم أن احتجاجها لن يغني عنها شيئا، كما لا يغني عنها عادة كلما دعيت إلى أداء واجب ترى الأم أنها أقدر عليه من أختها، ولكنها أصرت على إعلانه كما تصر عادة على إعلانه في أمثاله من المواقف، مدفوعة بأعصابها السريعة الالتهاب، وجريا مع نزعتها العدوانية التي تجد من لسانها أطوع أداة وأحدها، ثم لتحمل أمها على إعادة القول بأنها «أقدر على كيت وكيت من عائشة» كإقرار من أمها وإنذار لشقيقتها وعزاء لها هي نفسها، والحق أنه لو حدث أن عهدت بواجب من هذه الواجبات «الخطيرة» لعائشة دونها لثارت ثورة أشد ولحالت بينها وبينه، ما دامت تجد - في أعماق قلبها - أن القيام بهذه الواجبات حق من حقوقها وامتياز لها كامرأة جديرة بالمكانة التالية لأمها في البيت، ولكنها أبت في الوقت نفسه أن تعترف جهارا بأنها تمارس - بالقيام بها - حقا من حقوقها، ولكن واجبا ثقيلا تقبله مضطرة، حتى تدعى إليه - إذا دعيت - في حرج من الداعي، ولتحتج عليه - إذا احتجت - في غضب يروح عن نفسها، ولتسمع بالمناسبة التعليق الذي تود، ثم ليحسب لها بعد ذلك كله جميلا تستحق من أجله الشكر! ... ولذلك غادرت الحجرة، وهي تقول: في كل مأزق تنادين خديجة، كأنه لا يوجد أمامك غير خديجة، ماذا تصنعين لو لم أكن موجودة!
ولكن خيلاءها تخلى عنها بمجرد مغادرتها للحجرة، وحلت محله رهبة واضطراب، فعجبت كيف يتأتى لها أن تمثل بين يدي الرجل، وكيف تقوم على خدمته، وماذا تلقى منه إذا تلجلجت أو أبطأت أو أخطأت؟! على أن السيد كان قد خلع ملابسه وارتدى جلبابه بنفسه، ولما وقفت بالباب تسأله عما هو في حاجة إليه أمرها بأن تصنع له فنجان قهوة، فبادرت تعدها ثم قدمتها له خافضة العينين خفيفة الخطى من الخوف والحياء ... ورجعت إلى الصالة فمكثت بها لتكون رهن إشارته إذا دعاها، فلم يفارقها إحساس الرهبة حتى تساءلت كيف يا ترى يمكنها أن تواصل خدمته طوال الساعات التي يقضيها في البيت يوما بعد يوم حتى تنقضي الأسابيع الثلاثة؟! ... وبدا لها الأمر شاقا حقا وأدركت لأول مرة خطورة الفراغ الذي تسده أمها في البيت فدعت لها بالشفاء؛ حبا فيها من ناحية ورحمة بنفسها من ناحية أخرى.
ومن سوء حظها أن السيد شعر برغبة في الراحة عقب تعب السفر، فلم يذهب إلى الدكان كما كانت تأمل، واضطرت تبعا لذلك أن تبقى في الصالة كالسجينة، وفي أثناء ذلك صعدت عائشة إلى الدور الأعلى، وتسللت إلى الصالة حيث تجلس أختها دون أن تحدث صوتا لتريها نفسها وتغمز لها بعينها على سبيل التنديد بحالها، ثم تعود إلى أمها تاركة إياها وهي تغلي من الغيظ إذ كان مما يحنقها أشد الحنق أن يعابثها أحد بالمزاح، وإن لذ لها هي أن تعابث الجميع، ولم تسترد حريتها - إلى حين طبعا - إلا عندما أسلم السيد جنبه للنوم، فطارت إلى أمها، وأنشأت تحدثها عما قدمت لأبيها من خدمات حقيقية ووهمية، وتصف لها ما قرأت في عينيه من آي العطف والتقدير لخدماتها! ... ولم تنس أن تعرج على عائشة، فتنهال عليها بالزجر والتوبيخ على ما بدا منها من تصرف صبياني، ثم عادت إلى الأب بعد استيقاظه فقدمت له الغداء، ولما فرغ الرجل من غدائه جلس يراجع بعض الأوراق وقتا غير قصير، ثم دعاها إليه وطلب إليها أن تبعث له بياسين وفهمي بمجرد رجوعهما إلى البيت.
وقلقت الأم للطلب وخافت أن يكون قد حز في نفس الرجل غضب مكظوم، وأنه يروم الآن - في الشابين - متنفسا عن غضبه، ولما جاء ياسين وفهمي وعلما بما كان، ثم بلغا أمر أبيهما بمقابلته دار بخاطرهما ما دار بخاطر المرأة من قبل، وذهبا إلى حجرته وهما يتوجسان خيفة، ولكن الرجل خيب ظنونهما فقد لاقاهما بهدوء غير معهود، وسألهما عن الحادث وظروفه وتقرير الطبيب، فحدثاه طويلا بما يعلمان وهو يصغي إليهما باهتمام، وفي النهاية سألهما: أكنتما في البيت حين خروجها؟
ومع أن هذا السؤال كان متوقعا من بادئ الأمر إلا أنه وقع من نفسيهما - بعد الهدوء العجيب غير المنتظر - موقع الانزعاج، فخافا أن يكون مقدمة لتغيير طبقة النغمة التي ارتاحا إليها ارتياح النجاة، ولم يسعهما الكلام فلاذا بالصمت ... بيد أن السيد لم يلحف في السؤال، وكأنه لم يعبأ بسماع الجواب الذي استنتجه مقدما، أو لعله أراد أن يسجل عليهما الخطأ بلا اكتراث بإقرارهما به ... ولم يزد بعد ذلك على أن يشير إلى باب الحجرة آذنا لهما بالانصراف، وعندما مضيا إلى الخارج سمعاه يقول مخاطبا نفسه: ما دام الله لم يرزقني رجالا فليهبني الصبر.
ومع أن الظواهر دلت على أن الحادث قد هز نفس السيد حتى غير المألوف من سلوكه تغيرا دهش له الجميع، إلا أنه لم يستطع أن يثني إرادته عن قضاء سهرته الليلية التقليدية! ... فما جاء المساء حتى ارتدى ملابسه وغادر حجرته ناشرا بين يديه شذا طيبا، إلا أنه مر في طريقه إلى الخارج بحجرة الأم وسأل عنها فدعت له طويلا ممتنة شاكرة ... لم تر في ذهابه إلى سهرته - وهي طريحة الفراش - تجافيا للعطف، ولعلها وجدت في مروره بها وسؤاله عنها تكريما فاق ما كانت تنتظر، بل أليس مجرد امتناعه عن صب غضبه عليها منة لم تكن تحلم بها؟ ... وكان الإخوة - قبل مبارحته حجرته - قد تساءلوا: «ترى هل يعدل الليلة عن سهرته؟» ولكن الأم أجابت قائلة: «ولماذا يبقى بعد أن علم أن الحال مطمئنة؟!» ولعلها تمنت فيما بينها وبين نفسها لو يتم نعمته عليها فيعدل عن سهرته، كما يليق بزوج أصيبت زوجه بما أصيبت هي به، ولكنها كانت أدرى بطبعه فسبقته بانتحال العذر له حتى إذا انطلق إلى سهرته كما تتوقع أمكنها - مداراة لموقفها - أن تسوغ انطلاقه بالعذر الذي انتحلت لا بقلة الاكتراث، ولكن خديجة قالت: «كيف يطيق السهر وهو يراك على هذه الحال؟» فأجابها ياسين: «لا عليه إذا فعل ما دام قد اطمأن عليها، حزن الرجال غير حزن النساء، وذهاب الرجل إلى سهرته لا يتنافى مع حزنه، بل لعل التفريج عن نفسه واجب عليه ليتسنى له مواصلة حياته الشاقة.» ولم يكن ياسين يدافع عن أبيه بقدر ما كان يدافع عن رغبته في الانطلاق التي بدأت تتحرك في أعماقه، إلا أن مكره لم يجز على خديجة فسألته: «هل تطيق أنت مثلا أن تسهر في قهوتك الليلة؟» فبادرها قائلا وهو يلعنها في سره: «طبعا لا، ولكن أنا شيء وبابا شيء آخر!»
ولما فارق السيد الحجرة عاودها الشعور بالراحة الذي يعقب النجاة من خطر محقق، فتألق محياها بابتسامة وقالت: لعله رأى أن جزائي كفاف ذنبي فعفا عني، عفا الله عنه وعنا جميعا.
فضرب ياسين كفا بكف وهو يقول محتجا: إن رجالا غيورين مثله، منهم أصدقاء له، لا يرون بأسا في السماح لنسائهم بالخروج كلما دعت ضرورة أو مجاملة، فما باله يقيم لكن من البيت سجنا مؤبدا؟
فلحظته خديجة بهزء وسألته: لم لم تلق بدفاعك هذا وأنت بين يديه؟!
فانقلب الشاب مقهقها حتى ارتجت كرشه ثم أجابها قائلا: يلزمني مثل أنفك أولا كي أدافع به عن نفسي عند الضرورة.
وتتابعت أيام الرقاد، فلم يعاودها الألم الذي هصرها أول ليلة، وإن تهدد جذعها وكتفها الوجع لأقل حركة تأتيها، ثم تقدمت نحو الشفاء بخطوات سريعة بفضل بنيتها القوية وحيويتها الدافقة التي تكره بطبعها السكون والقعود مما جعل الإذعان لأوامر الطبيب مهمة شاقة غطى عذابها على آلام الكسر إبان احتدامها، ولعلها لولا تشدد الأبناء في مراقبتها لخرقت وصايا الطبيب ونهضت عجلى لأمورها ... على أن رقادها لم يمنعها من نشر الرقابة على شئون البيت من فراشها، ومراجعة الفتاتين بدقة متعبة فيما يعهد إليهما به ... خاصة عن دقائق الواجبات التي تخاف عليها الإهمال أو النسيان، فتسأل وتلح في السؤال: «هل نفضت أعلى الستائر؟ ... وخصاص الشبابيك؟ ... هل بخرت الحمام لأبيك؟ .. هل سقيت اللبلاب والياسمين؟» الأمر الذي أحنق خديجة مرة فقالت لها: «اعلمي أنك إذا كنت تعنين بالبيت قيراطا، فإني أعنى به أربعة وعشرين» ... وإلى هذا كله أورثها تخليها الإجباري عن مركزها المرموق شعورا معقدا عانت منه كثيرا، فربما تساءلت ترى ألم يفقد البيت - أو أحد من أهله - بتخليها عنه شيئا من نظامه أو راحته؟! وأيهما يا ترى أحب إليها، أن يبقى كل شيء كما كان بفضل فتاتيها - غرس يديها - أم أن يختل شيء من توازنه يكون خليقا أن يذكر الجميع بالفراغ الذي خلفته وراءها؟! وهب السيد بالذات استشعر هذا الفراغ، فهل يكون ذاك مدعاة لتقديره لأهميتها أو لسخطه على ذنبها الذي جر هذا كله؟! تحيرت المرأة طويلا بين عاطفتها المستحيية نحو نفسها وعاطفتها الصريحة نحو فتاتيها، ولكن المحقق أنه لو اختل شيء من النظام لأحدث لها كربا شديدا، كما أنه لو حافظ على كماله كأن لم يطرأ نقص لما خلت من ضيق.
أما الواقع فهو أن فراغها لم يسده أحد، وأثبت البيت أنه أكبر من الفتاتين على نشاطهما وإخلاصهما ... ولم تسر الأم لهذا لا في الظاهر ولا في الباطن، توارى شعورها نحو ذاتها، ودافعت عن خديجة وعائشة دفاعا حارا صادقا، ثم ركبها الجزع والألم فلم تعد تطيق صبرا على انزوائها.
31
وفي فجر اليوم الموعود الذي انتظرته طويلا هبت من الفراش في خفة صبيانية من الفرح كأنها ملك يعود إلى عرشه بعد نفي ... ونزلت إلى حجرة الفرن متداركة عادتها التي انقطعت عنها ثلاثة أسابيع، فنادت أم حنفي، واستيقظت المرأة وهي لا تصدق أذنيها، ثم نهضت إلى سيدتها فعانقتها ودعت لها، ثم باشرتا عمل الصباح في سرور لا يوصف، وعند شروق أول شعاع للشمس صعدت إلى الدور الأول، فتلقاها الأبناء بالتهاني والقبل، ثم مضت إلى حيث ينام كمال فأيقظته، وما فتح الغلام عينيه حتى بهت دهشة وفرحا، ثم تعلق بعنقها ولكنها بادرت إلى التخلص من ذراعيه برقة وهي تقول: ألا تخاف أن ترد كتفي إلى ما كانت عليه؟
فأمطرها قبلا ثم ضحك متسائلا في خبث: متى يا عزيزتي نخرج معا مرة أخرى؟!
فأجابته بلهجة لا تخلو من عتاب باسم: عندما يهديك الله فلا تسوقني رغم إرادتي إلى الطريق الذي كدت أهلك فيه!
وأدرك أنها تشير إلى عناده الذي كان السبب المباشر فيما وقع لها، فضحك ملء فيه ضحك مذنب واتته النجاة بعد أن ظل ذنبه معلقا فوق رأسه ثلاثة أسابيع، أجل لشد ما خاف أن يجر التحقيق الذي باشره إخوته إلى معرفة الجاني المستتر، وقد أوشكت الريبة التي سلطتها عليه خديجة حينا وياسين حينا آخر تكشفه في الركن المنزوي فيه لولا صمود أمه في الدفاع عنه، وتصديها لتحمل مسئولية الحادث وحدها، فلما انتقل التحقيق إلى يدي والده تناهى به الخوف، وتوقع بين لحظة وأخرى أن يدعى إلى مقابلته، هذا إلى عذابه - طوال الأسابيع الثلاثة - وهو يرى أمه المحبوبة طريحة الفراش، شديدة العناء، عاجزة عن الاستلقاء والنهوض معا ... الآن مضى الحادث، ومضت في أثره عقابيله، وانتهى التحقيق، وعادت أمه توقظه في الصباح، وسوف تنيمه في المساء، رجع كل شيء إلى أصله، ونشر الأمان ألويته، فحق له أن يضحك ملء فيه، وأن يهنئ ضميره على الراحة المتاحة.
وغادرت الأم الحجرة فصعدت إلى الدور الأعلى، ولما تدانت من باب حجرة السيد ترامى إليها صوته وهو يردد في صلاته: «سبحان ربي العظيم » فخفق قلبها، ووقفت على قيد خطوة من الباب كالمترددة، ثم وجدت نفسها تتساءل: «أتدخل لتصبح أو الأجدر أن تعد مائدة الفطور أولا؟» لا على سبيل التساؤل حقا ولكن فرارا مما شاع في نفسها من الخوف والخجل، أو كليهما معا، كما يقع للإنسان أحيانا أن يخلق مشكلة وهمية يلوذ بها من مشكلة راهنة يشق عليه فضها ... ومضت إلى حجرة المائدة فأقبلت على العمل بعناية مضاعفة، إلا أن قلقها تزايد، فلم تنتفع بمهلة التأجيل التي اقتنصتها، ولم تجدها راحة كما أملت ولكن محنة انتظار أشد عناء من الموقف الذي نكصت عن مواجهته ... وعجبت كيف جفلت من دخول «حجرتها» كأنها كانت تهم بدخولها لأول مرة، خاصة وأن السيد لم ينقطع عن زيارتها يوما بعد يوم في أثناء رقادها، ولكن الحق أن برءها رفع عنها الحماية التي ضربها حولها المرض، فشعرت بأنها ستلقاه بمفردها لأول مرة مذ كشفت خطيئتها ... ولما جاء الأبناء تباعا خفت وحشتها قليلا، وما لبث أن دخل السيد الحجرة في جلبابه الفضفاض، ولكن لم يبد في وجهه أثر لدى رؤيتها، وقال بهدوء وهو يتجه إلى مكانه في المائدة: جئت؟ (ثم مخاطبا الأبناء وهو يتخذ مجلسه) ... اجلسوا.
وأخذوا في تناول فطورهم على حين وقفت هي بمكانها المعتاد، ومع أن الخوف تناهى بها حال دخوله إلا أنها مضت تسترد أنفاسها بعد ذلك، أي بعد أن تم أول لقاء بعد الشفاء ومر بسلام، وشعرت عند ذاك بأنها لن تجد مشقة في الانفراد به في حجرته عما قليل ... وانفضت المائدة فعاد السيد إلى حجرته، ولحقت به بعد دقائق حاملة صينية القهوة التي وضعتها على الخوان، وتنحت جانبا في انتظار فراغه من احتسائها لتساعده على ارتداء ملابسه. وحسا السيد قهوته في صمت عميق، لا ذاك الصمت الذي يقع عفوا أو كالراحة عقب التعب أو كغطاء لصدر فارغ من شئون الحديث، ولكنه صمت صامت مسربل بالتعمد، ولم تكن تعدم أملا - ولو ضعيفا - في أن يتعطف عليها بكلمة رقيقة، أو في الأقل أن يلم بشأن من شئون حديثه المعتاد في مثل هذه الساعة من الصباح، فحيرها صمته المتعمد وعادت تسائل نفسها: ترى ألا يزال بنفسه شيء؟ وأخذ القلق ينشب إبره في قلبها مرة أخرى، على أن الصمت الغليظ لم يمتد طويلا ... كان الرجل يفكر في سرعة وتركيز لم يذق معهما طعما، لا ذاك التفكير الذي ينبعث من وحي الساعة، ولكن آخر عنيدا قديما لم يزايل نفسه طوال الأيام المنقضية ... وأخيرا تساءل دون أن يرفع رأسه عن فنجان القهوة الفارغ: استرددت صحتك؟
فقالت أمينة بصوت خفيض: الحمد لله يا سيدي.
فاستطرد الرجل قائلا بمرارة: إني أعجب - وهيهات أن ينتهي لي عجب - كيف أقدمت على فعلتك!
فدق قلبها بعنف وأطرقت في وجوم ... لم تكن تطيق غضبه وهي تدافع عن خطأ ارتكبه غيرها، فكيف بها الآن وهي المذنبة! ... وعقل الخوف لسانها ولكنه بانتظار الجواب، فواصل حديثه متسائلا في استنكار: أكنت مخدوعا بك طوال هذه السنين وأنا لا أدري؟!
عند ذاك بسطت راحتيها في جزع وألم وهمست بأنفاس مضطربة: أعوذ بالله يا سيدي، إن خطئي كبير حقا ولكني لا أستحق هذا القول.
ولكن الرجل واصل حديثه بهدوئه الرهيب الذي يهون إلى جانبه الزعيق قائلا: كيف اقترفت هذا الخطأ الكبير! ... ألأني ابتعدت عن البلد يوما واحدا؟!
فقالت بصوت متهدج وشت نبراته بالرجفة التي ملكت جسمها: أخطأت يا سيدي، وعندك العفو، كانت نفسي تتوق إلى زيارة سيدنا الحسين، وحسبت أن زيارته المباركة تشفع لي في الخروج، ولو مرة واحدة.
فهز رأسه في شيء من الحدة كأنما يقول: «لا فائدة ترجى من الجدال» ثم رفع إليها عينيه متجهما ساخطا وقال بلهجة لا تقبل المراجعة: ليس عندي إلا كلمة واحدة! غادري بيتي بلا توان.
هوى أمره على رأسها كالضربة القاضية، فبهتت لا تنبس بكلمة ولا تستطيع حراكا، طالما توقعت في أشد أوقات محنتها - وهي تنتظر عودته من رحلة بورسعيد - ألوانا من المخاوف، كأن يصب عليها غضبه أو يصمها بزعيقه وسبابه، حتى الضرب لم تستبعده، أما الطرد من البيت فلم يزعج لها خاطرا، لا لشيء إلا أنها سكنت إلى معاشرته خمسة وعشرين عاما، فلم تتصور أن ثمة سببا يمكن أن يفرق بينهما أو ينتزعها من البيت الذي صارت جزءا منه لا يتجزأ ... أما السيد فقد تخلص - بكلمته الأخيرة - من عب فكر دوخ دماغه طوال الأسابيع الثلاثة المنقضية .. وقد بدأ الصراع في اللحظة التي اعترفت فيها المرأة بخطئها باكية وهي طريحة الفراش، لم يصدق أذنيه لأول وهلة، ثم أخذ يفيق إلى نفسه وإلى الحقيقة البغيضة التي تطالعه متحدية كبرياءه وصلفه، بيد أنه أجل حنقه ريثما يرى ما أصابها، أو أنه - وهو الأصدق - لم يسعه أن يفكر فيما تحدى كبرياءه وصلفه لما اعتراه من قلق عميق بلغ حد الخوف والجزع على المرأة التي يألفها، ويعجب بمزاياها فعطف عليها عطفا أنساه خطأها، وسأل الله لها السلامة، انكمش جبروته حيال الخطر المحدق بها، واستيقظ ما تنطوي عليه نفسه من حنان موفور، فعاد - يومذاك - إلى حجرته محزونا مكتئبا وإن لم يفصح وجهه .. إلا أنه مضى يستعيد طمأنينته وهو يراها تتماثل للشفاء بخطى سريعة ثابتة، ومضى بالتالي يعيد النظر إلى الحادث كله - أسبابه ونتائجه - بعين جديدة، أو بالأحرى بالعين القديمة التي اعتاد أن ينظر بها في بيته، فكان من سوء حظ - حظ الأم طبعا - أن يعيد النظر في هدوء وهو خال إلى نفسه، وأن يقتنع بأنه إذا غلب العفو ولبى نداء العطف - وهو ما نزعت إليه نفسه - فقد أضاع هيبته وكرامته وتاريخه وتقاليده جميعا، فأفلت منه الزمام وانتثر عقد الأسرة التي يأبى إلا أن يسوسها بالحزم والصرامة، وبالجملة لن يكون في تلك الحال أحمد عبد الجواد ولكن شخصا آخر لن يرتضي أن يكونه أبدا ... أجل كان من سوء الحظ أن يعيد النظر في هدوء وهو خال إلى نفسه؛ إذ لو أتيح له أن ينفس عن غضبه حين اعترافها لانفثأ حنقه، ومر الحادث دون أن يسحب وراءه عواقب خطيرة، ولكنه لم يسعه الغضب في وقته كما لم يكن مما يرضي كبرياءه أن يعلن غضبه عقب شفائها - بعد هدوء دام ثلاثة أسابيع - إذ إن هذا الغضب يكون أقرب إلى الزجر المتعمد منه إلى الغضب الحقيقي، ولما كانت حساسيته الغضبية تستعر عادة من طبع وتعمد معا، ولما كان الجانب الطبيعي منها لم يجد متنفسا في حينه، فقد وجب على الجانب المتعمد - وقد أتيحت له فرصة من الهدوء لمعاودة التفكير - أن يجد وسيلة فعالة لتحقيق ذاته على صورة تتناسب وخطورة الذنب، وهكذا انقلب الخطر الذي تهدد حياتها حينا، والذي أمنها من غضبه بما أثار من عطفه أداة عقاب بعيدة المدى بما أتاح له من وقت للتدبير والتفكير ... ونهض مقطبا فولاها ظهره مستقبلا ملابسه على الكنبة ثم قال بجفاء: سأرتدي ملابسي بنفسي.
كانت لم تزل متسمرة في مكانها ذاهلة عما حولها فأفاقت على صوته، وسرعان ما أدركت من قوله ووقفته أنه يأمرها بالانصراف، فاتجهت نحو الباب في خطى لا وقع لها، وقبل أن تجاوزه أدركها صوته وهو يقول: لا أحب أن أجدك هنا إذا عدت ظهرا.
32
خارت قواها في الصالة فارتمت على طرف كنبة وكلماته القاسية الحاسمة تتردد في باطنها، ليس الرجل هازلا، ومتى كان هازلا؟! ولم تستطع مبارحة مكانها - على رغبتها في الفرار - أن يثير نزولها قبل مغادرته البيت على خلاف المألوف ريبة الأبناء الذين لا تحب لهم أن يستقبلوا يومهم، أو يذهبوا إلى أعمالهم متجرعين خبر طردها، وثمة إحساس آخر - لعله الحياء - أقعدها عن أن تلقاهم في ذل المطرود، وقررت أن تبقى حيث هي حتى يغادر البيت، أو أن تأوي إلى حجرة المائدة وهو الأفضل حتى لا تقع عليها عيناه إذا مضى إلى الخارج، فتسللت إلى الحجرة كسيرة الفؤاد، وقعدت على شلتة ساهمة واجمة. ترى ماذا يعني؟ أيطردها إلى حين أم إلى الأبد؟ إنها لا تصدق أنه ينوي تطليقها، هو أكرم من هذا وأنبل، أجل إنه غضوب جبار ولكن من الإسراف في التشاؤم أن تغيب عنها آي شهامته ومروءته ورحمته. وهل تنسى كيف حزن لحالها حين الرقاد؟ ... وكيف عادها يوما بعد يوم مستفسرا عن صحتها؟ ... مثل هذا الرجل لا يهون عليه أن يخرب بيتا، أو يكسر قلبا، أو ينزع أما من بين أبنائها. وجعلت تدير هذه الأفكار في رأسها كأنما لتدخل بها بعض الطمأنينة إلى نفسها المزعزعة، وألحت في هذا إلحاحا إن دل على شيء فعلى أن الطمأنينة لا تريد أن تستقر بنفسها كبعض المرضى الذين يزيدون تغنيا بقوتهم كلما زادوا إحساسا بضعفهم؛ إذ كانت لا تدري ماذا تصنع بحياتها، أو ماذا يمكن أن تغني الحياة لها لو خاب الرجاء ونفذ المحذور. وترامى إلى أذنيها وقع عصاه على أرض الصالة، وهو يمضي خارجا فأطار أفكارها وأنصتت باهتمام تتابعه حتى غاب، وشعرت عند ذاك بألم جارح لحالها، وسخط على الإرادة المتحجرة التي لم ترع لضعفها حقا، ثم نهضت فيما يشبه الإعياء وغادرت الحجرة لتنزل إلى الدور الأول فجاءتها عند رأس السلم أصوات الأبناء وهم ينزلون تباعا، فمدت رأسها من فوق الدرابزين، فلمحت فهمي وكمال وهما يتبعان ياسين إلى الباب المفضي إلى الفناء، هنالك غمزت خطرة من الحنان قلبها فأذهلته، وعجبت لنفسها كيف تركتهما يذهبان دون أن تودعهما، أليست قد تحرم عليها رؤيتهما ... أياما أو أسابيع؟ وربما لا تراهما مدى العمر إلا لماما كالغرباء؟ ... وعاودها غمز الحنان متتابعا وهي بموقفها من السلم لا تريم، بيد أن قلبها - على امتلائه - كبر عليه أن يصدق أن يكون هذا المصير الأسود نصيبها المقدور؛ لإيمانها اللانهائي بالله الذي حفظها في وحدتها الغابرة من العفاريت نفسها، ولثقتها برجلها التي تأبى أن تنهار، ولأنها لم يصبها في حياتها الماضية شر خطير خليق بأن يسلبها الطمأنينة إلى الحياة الوادعة، فمالت نفسها إلى اعتبار محنتها تجربة قاسية ستمر بها دون أن تنشب فيها، ووجدت خديجة وعائشة مشتبكتين في جدال كعادتهما، ولكنهما نزعتا عما كانتا فيه حين رأتا وجومها، ونظرة عينيها الخابية، ولعلهما خافتا أن تكون قد برحت الفراش قبل أن تسترد كامل صحتها، فسألتها خديجة في قلق: ماذا بك يا نينة؟ - لا أدري والله ماذا أقول ... إني ذاهبة.
ومع أن العبارة الأخيرة جاءت مقتضبة غير محدودة الهدف، إلا أنها اكتسبت من نظرتها اليائسة ونبراتها الشاكية معنى حالكا ريعتا له فهتفتا معا: إلى أين؟!
فقالت بانكسار وهي تشفق سلفا من وقع كلامها من أذنيهما بل ومن أذنيها هي نفسها: إلى أمي.
فهرعتا إليها مذعورتين وهما تقولان: ماذا تقولين؟ ... لا تعيدي هذا القول ... ماذا جرى؟!
وجدت في فزع فتاتيها عزاء ولكنه كشأنه في مثل هذا الموقف فجر أشجانها، فقالت بصوت متهدج وهي تمانع دموعها: لم ينس شيئا ولم يعف (رددت هذا بأسى دل على عمق حزنها) ... كان يضمر لي الغضب ويؤجله ريثما أبرأ، ثم قال لي غادري بيتي بلا توان ... وقال لي أيضا: لا أحب أن أجدك هنا إذا عدت ظهرا (ثم بلهجة تنم عن عتاب أسيف وخيبة أمل) سمعا وطاعة ... سمعا وطاعة.
فصاحت خديجة بحال عصبية: لا أصدق، لا أصدق، قولي قولا آخر ... ماذا جرى للدنيا؟!
وصاحت عائشة بصوت متهدج: لن يكون هذا أبدا، أهانت عليه سعادتنا جميعا لهذا الحد؟!
وعادت خديجة تتساءل في حدة وحنق: ماذا يقصد ... ماذا يقصد يا نينة؟! - لا أدري، هذا قوله بلا زيادة ولا نقصان.
اكتفت أول وهلة بهذا القول، ولعلها رغبت بالاقتصار عليه أن تستزيد من عطفهما وتتعزى بجزعهما، ولكن غلبها الإشفاق من ناحية والرغبة في طمأنة نفسها من ناحية أخرى، فاستطردت قائلة: لا أظنه يقصد أكثر من إبعادي عنكم أياما عقابا لي على ما فرط مني.
فتساءلت عائشة محتجة: أما كفاه ما وقع لك؟!
فتنهدت الأم محزونة وغمغمت قائلة: الأمر لله ... يجب الآن أن أذهب.
ولكن خديجة اعترضت سبيلها وهي تقول بصوت مختنق بالبكاء: لن ندعك تذهبين، لا تتركي بيتك، فلا أظنه يصر على غضبه إذا عاد ووجدك بيننا.
وقالت عائشة برجاء: انتظري حتى يعود فهمي وياسين، ولن يرضى أبي أن ينتزعك من بيننا جميعا.
ولكنها قالت فيما يشبه التحذير: ليس من الحكمة في شيء أن نتحدى غضبه، فمثله من يلين بالطاعة ويشتد بالعصيان.
وهمتا بالاعتراض مرة أخرى ولكنها أسكتتهما بإشارة من يدها، واستطردت قائلة: لا جدوى من الكلام، لا بد من الذهاب، سأجمع ثيابي وأرحل، لا تجزعا، لن يطول افتراقنا، وسنجتمع مرة أخرى إن شاء الله.
وانتقلت المرأة إلى حجرتها بالدور الثاني والفتاتان في أعقابها وهما تبكيان كالأطفال، وأخذت تخرج ملابسها من الصوان، حتى أمسكت خديجة بيدها وسألتها بانفعال: ماذا تفعلين؟
وشعرت الأم بدموعها تغالبها فامتنعت عن الكلام أن تفضحها نبراتها، أو تستسلم للبكاء الذي صممت على مقاومته ما دامت بمرأى من ابنتيها، فأشارت بيدها كأنها تقول: «الحال يوجب أن أجمع ملابسي.»
ولكن خديجة قالت بحدة: لن تأخذي معك إلا تغييرة واحدة ... واحدة فقط.
فندت عنها تنهدة، ودت تلك اللحظة لو يكون الأمر كله حلما مزعجا، ثم قالت: أخاف أن تثور ثائرته إذا رأى ملابسي بمكانها! - سنحفظها عندنا.
وجمعت عائشة الثياب إلا تغييرة واحدة كما اقترحت أختها، فأذعنت الأم لهما في ارتياح عميق كأن بقاء ملابسها في البيت مما يثبت لها حقا في العودة إليه، ثم جاءت ببقجة وصرت فيها الملابس التي سمح لها بها، وجلست على الكنبة لتلبس جوربها وحذاءها والفتاتان حيالها تنظران في حزن ذاهل، حتى رق قلبها لهما فقالت متكلفة الهدوء: سيعود كل شيء إلى أصله، تشجعا حتى لا تستفزا غضبه، إني أعهد إليكما بالبيت وآله، ولي كل الثقة في كفاءتكما، ولا شك عندي في أنك ستجدين من عائشة كل معاونة، قما بما كنا نقوم به معا كما لو كنت معكما، كلتاكما شابة خليقة بأن تفتح بيتا وتعمره.
ونهضت إلى ملاءتها فارتدتها، وأسدلت على وجهها البرقع الأبيض في تمهل متعمد لتؤجل، ما استطاعت، اللحظة الأخيرة المعذبة المحيرة، ووقفن حيال بعض لا يدرين كيف تكون الخطوة التالية. لم يسعفها صوتها على النطق بكلمة الوداع، ولم توات إحداهما الشجاعة على الارتماء في حضنها كما تود، ومرت الثواني محملة بالعذاب والقلق، بيد أن المرأة المتجلدة خافت أن يخونها تجلدها، فخطت خطوة نحوهما ومالت إليهما، فقبلتهما بالتتابع وهي تهمس: تشجعا، ربنا معنا جميعا.
هنالك تعلقتا بها وأفحمتا في البكاء.
وقد غادرت الأم البيت بعينين ذارفتين تراءى الطريق خلال دمعهما وهو يتميع.
33
طرقت باب البيت القديم وهي تفكر - بألم وحياء معا - فيما سيحدثه مجيئها مغضوبا عليها من الانزعاج والكدر، وكان الباب يفتح على عطفة مسدودة متفرعة من شارع الخرنفش تنتهي بزاوية أقيمت بها الصلاة عهدا طويلا، ثم هجرت من أعوام لقدمها ولكن بقيت آثارها المتهدمة لتذكرها - كلما زارت أمها - بطفولتها حين كانت تنتظر ببابها أباها حتى يفرغ من صلاته ويعود إليها، وحين تمد رأسها داخلها في أويقات الصلاة لتلهو بمنظر الركع السجود، أو حين تتفرج على بعض أهل الطرق الذين كانوا يجتمعون فيما يليها من العطفة، فيضيئون المصابيح ويفرشون الحصر وينشدون الأذكار. ولما فتح الباب أطل منه رأس جارية سوداء في العقد الخامس، ما إن رأت القادمة حتى تهلل وجهها وهتفت مرحبة بها، ثم تنحت جانبا لتوسع لها فدخلت أمينة، ولبثت الخادم بموقفها كأنها تنتظر دخول قادم آخر، فأدركت أمينة ما تعنيه وقفتها، فهمست بامتعاض: أغلقي الباب يا صديقة.
فتساءلت الجارية بدهشة: ألم يأت السيد معك؟
فهزت رأسها بالنفي متجاهلة دهشتها ومضت - عابرة فناء البيت الذي تتصدره حجرة الفرن وتقع البئر في ركنه الأيسر - إلى سلم ضيق فرقيته إلى الدور الأول والأخير. ثم اجتازت دهليزا إلى حجرة أمها ودخلت، رأت أمها متربعة على كنبة في صدر الحجرة الصغيرة قابضة بكلتا راحتيها على مسبحة طويلة متدلية في حجرها، متجهة العينين صوب الباب في تطلع أثاره بلا ريب طرق الباب ثم وقع القدمين المقتربتين، ولما تدانت أمينة منها تساءلت: من؟
وافتر ثغرها وهي تتساءل عن ابتسامة خفيفة تنم عن البشر والترحاب، كأنما حدست هوية القادم، فأجابتها أمينة قائلة بصوت منخفض من الانقباض والحزن: أنا أمينة يا أمي.
فألقت العجوز بساقيها إلى الأرض وتحسست بقدميها موضع الشبشب، حتى عثرت عليه فدستهما فيه، ووقفت باسطة ذراعيها منتظرة في شوق، فرمت أمينة بالبقجة إلى طرف الكنبة، وانطوت بين ذراعي أمها وهي تقبل جبينها وخديها والأخرى تلثم ما يتفق وقوع شفتيها عليه من الرأس والخد والعنق، ولما انتهى العناق ربتت العجوز على ظهرها بحنان، ثم لبثت بموقفها متطلعة صوب الباب، وعلى شفتيها ابتسامة تعلن عن ترحيب جديد ، كما فعلت صديقة من قبل، فأدركت أمينة للمرة الثانية ما تعنيه هذه الوقفة، وقالت بامتعاض واستسلام: جئت وحدي يا أمي.
فتحول الرأس إليها كالمتسائل، وتمتمت المرأة: وحدك؟! ... (ثم مبتسمة ابتسامة متكلفة لتطرد ما انتابها من قلق) سبحان الذي لا يتغير!
وتراجعت إلى الكنبة فجلست وهي تتساءل بلهجة أفصحت هذه المرة عن قلقها: كيف الحال؟ ... لماذا لم يحضر معك كعادته؟
فجلست أمينة إلى جانبها وهي تقول بلهجة التلميذ الذي يعترف برداءة إجاباته في الامتحان: إنه غاضب علي يا أمي.
ورمشت الأم واجمة، ثم تمتمت بنبرات حزينة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قلبي لا يكذبني أبدا، وقد انقبض وأنت تقولين لي: «جئت وحدي يا أمي» ترى ماذا هيج غضبه على ملاك كريم مثلك لم يحظ رجل به قبله؟! ... خبريني يا بنتي.
فقالت أمينة متنهدة: زرت سيدنا الحسين في أثناء سفره إلى بورسعيد.
فتفكرت الأم في حزن وكآبة ثم تساءلت: وكيف علم بأمر الزيارة؟
حرصت أمينة من بادئ الأمر على ألا تشير إلى حادث السيارة رحمة بالعجوز من ناحية، وتخففا من المسئولية من ناحية أخرى؛ ولهذا أجابتها بما أعدته سلفا لهذا السؤال قائلة: لعل أحدا رآني فوشى بي عنده.
فقالت العجوز بحدة: لا يعرفك أحد من البشر إلا من اختلط بك داخل بيتك، ألم تشكي في أحد؟ ... هذه المرأة أم حنفي؟! أو ابنه من المرأة الأخرى؟
فبادرتها أمينة قائلة بثقة ويقين: لعل جارة رأتني فأخبرت زوجها بحسن نية، فأعاد الرجل الخبر على مسمع السيد غير مقدر لخطورة عواقبه، ظني ما تشائين إلا الشك في أحد من أهل بيتي.
فهزت العجوز رأسها في حيرة وشك وأنشأت تقول: طول عمرك سليمة الطوية، الله وحده هو المطلع وهو الكفيل برد كيد الكائد، ولكن زوجك؟ ... الرجل العاقل ... الداخل على الخمسين ... ألم يجد وسيلة لإعلان غضبه إلا طرد عشيرة العمر من بين أولاده؟! ... سبحانك يا رب ... الناس تكبر تعقل ونحن نكبر نتهور، هل من الكفر أن تزور امرأة فاضلة سيدنا الحسين! ألا يسمح أصدقاؤه، وهم لا يقلون عنه غيرة ورجولة، لزوجاتهم بالخروج لمختلف الأغراض؟! ... أبوك نفسه الذي كان شيخا من حملة كتاب الله كان يأذن لي في الذهاب إلى بيوت الجيران للتفرج على المحمل.
وغلب الصمت والكآبة مليا، حتى التفتت العجوز ناحية ابنتها وعلى شفتيها ابتسامة عتاب حائرة، ثم تساءلت: أي شيء أغراك بعصيانه بعد ذاك العمر الطويل من الطاعة العمياء؟! ... لشد ما يحيرني هذا ... إذ مهما يكن من حمية طبعه، فهو زوجك ومن السلامة الحرص على طاعته من أجل راحتك وسعادة الأولاد، أليس كذلك يا ابنتي؟ ... أعجب شيء أنني لم أجدك يوما في حاجة إلى نصح ناصح!
فندت عن أمينة ابتسامة ارتسمت على زاوية ثغرها على صورة انحراف خفيف من الارتباك والحياء، وغمغمت: تحكم الشيطان! - عليه لعنة الله، أيزل اللعين قدميك بعد خمسة وعشرين عاما من الوئام والسلام! ... ولكنه هو الذي أخرج أبانا آدم وأمنا حواء من الجنة! .. لشد ما يحزنني يا ابنتي، ولكنها سحابة صيف ثم تنقشع ويعود كل شيء إلى أصله ... (ثم وهي كأنها تحادث نفسها) ماذا كان عليه لو استوصى بالحلم؟! ... ولكنه رجل، ولن يخلو رجل من عيوب تخفي عين الشمس ... (ثم بلهجة ترحيب وسرور متكلفة) اخلعي ملابسك واستريحي، لا تجزعي، ماذا يضيرك من قضاء عطلة قصيرة مع أمك في الحجرة التي ولدت فيها؟!
فجرى بصرها في غير اكتراث على الفراش القديم الذي حال لون عمده، والسجادة البالية التي انجرد وبرها ونسلت أطرافها، وإن بقيت رسوم ورودها حافظة لحمرتها وخضرتها، ولكن صدرها - لما ران عليه من فرقة الأحباب - لم يكن مهيأ لتلقي موجات الذكريات، فلم تهج دعوة أمها في قلبها الحنان الذي تهيجه عادة ذكريات متباعدة لهذه الحجرة، وهي قريرة العين، ولم يسعها إلا أن تتنهد قائلة: ما بي إلا قلق على الأولاد يا أمي. - إنهم في رعاية الله، ولن يطول بعدك عنهم بإذن الرحمن الرحيم.
وقامت أمينة لتخلع ملاءتها على حين انسحبت صديقة - حزينة أسيفة لما سمعت - من موقفها عند مدخل الحجرة الذي لزمته أثناء الحديث، ثم عادت المرأة إلى مجلسها جنب أمها ، وما لبثتا أن قلبتا الحديث ظهرا لبطن وهما تبدآن وتعيدان، وكأن في تقابلهما جنبا لجنب ما يدعو إلى تأمل قوانين الوراثة العجيبة وقانون الزمن الصارم، كأنهما شخص واحد وصورته المنعكسة في مرآة المستقبل، أو نفس الشخص وصورته المنعكسة في مرآة الماضي وبين الأصل والصورة على الحالين ما يشير إلى الصراع الرهيب الناشب بين قوانين الوراثة التي تعمل على التشابه والبقاء من ناحية وبين قانون الزمن الذي يدفع إلى التغير والنهاية من ناحية أخرى، ذاك الصراع الذي ينجلي عادة عن سلسلة من الهزائم تلحق تباعا بقوانين الوراثة حتى يغدو قصاراها أن تؤدي وظيفة متواضعة في نطاق قانون الزمن الصارم. في نطاق ذاك القانون استحالت الأم العجوز جسما نحيلا، ووجها ذابلا وعينين لا تبصران إلى تطورات باطنية لا تنالها الحواس، حتى لم يبق لها من بهجة الحياة إلا ما يدعونه بجمال الشيخوخة أي السمت الهادئ والوقار المكتسب الحزين والرأس المرصع بالبياض، بيد أنها كنت تنحدر من جيل معمر عرف بصلابة المقاومة، فلم يكن طعنها فيما بعد الخامسة والسبعين بمقعدها عن أن تنهض في الصباح كعادتها منذ نصف قرن فتتحسس سبيلها - بدون إرشاد الجارية - إلى الحمام فتتوضأ، ثم تعود إلى حجرتها فتصلي، أما بقية النهار فتقطعها في التسبيح والتأمل الصامت الذي لا يدري به أحد طالما كانت الجارية مشغولة بأعمال البيت، أو مستأنسة إلى حديث المرأة إذا فرغت لمجالستها، حتى الصفات التي تلازم عادة وفرة النشاط للعمل وحدة الحماس للحياة لم تزايلها بحال، مثال هذا شدة محاسبتها للجارية على كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بالمصروفات، وتنظيف البيت وترتيبه وتلكؤها إذا تلكأت في مهمة، وتأخرها إذا تأخرت في مشوار، ولم يكن بالنادر أن تحلفها على المصحف لتطمئن إلى صحة تقاريرها عن غسل الحمام والأواني وتنفيض النوافذ، دقة بالوسوسة أشبه، ومن الجائز أن تكون مثابرتها عليها استمرارا لعادة تأصلت في صدر الشباب، كما أنه من الجائز أن تكون نكسة مما يعتري الشيخوخة، ويلحق بطباعها المتطرفة استمساكها بالبقاء في بيتها في شبه وحدة كاملة بعد وفاة بعلها، ثم إصرارها على البقاء فيه حتى بعد فقدانها لبصرها، متصامتة عن دعوات السيد المتكررة لها بالانتقال إلى بيته لتعيش في رعاية ابنتها وأحفادها، مما عرضها لتهمة الخرف وجعل السيد يعرض عن دعوتها نهائيا، ولكن الحق أنها كرهت هجر بيتها لتعلقها الشديد به، ولتحاميها ما عسى أن تلقى في البيت الجديد من إهمال غير مقصود أو ما يستوجبه وجودها من إلقاء أعباء جديدة على عاتق ابنتها المثقل بالواجبات، ولنفورها من الزج بنفسها في بيت اشتهر صاحبه بين آله بالشراسة والغضب أن تنزلق وهي لا تدري إلى ملاحظاته الأمر الذي تشفق من عواقبه على سعادة ابنتها، وأخيرا لما تنطوي عليه في قرارة نفسها من حياء وكبرياء حببا إليها الحياة في البيت الذي تملك معتمدة - بعد الله - على المعاش الذي تركه لها زوجها الراحل، على أن ثمة أسبابا أخرى لإصرارها على البقاء في بيتها لا يمكن تبريرها برهافة الحساسية أو سداد البصيرة، كخوفها - إذا أخلت البيت - من أن تجد نفسها مضطرة إلى اختيار أمر من اثنين؛ فإما أن تسمح للغرباء بأن يسكنوه، وهو أعز شيء لديها بعد ابنتها وأحفادها، وإما أن تتركه مهجورا فتتخذه العفاريت ملعبا بعد أن ظل طوال عمره مقاما لشيخ من حملة كتاب الله هو زوجها، إلا أن انتقالها إلى بيت السيد كان خليقا بأن يخلق لها مشاكل معقدة لا تفض في نظرها بميسور الحلول؛ لأنها ما انفكت تسائل نفسها وقتذاك أتقبل ضيافته بدون مقابل، وهو ما لا ترتاح إليه بحال، أم تنزل له عن معاشها لقاء إقامتها في بيته وهو ما يقلق غريزتها في الامتلاك التي أضحت - مع الكبر - عنصرا جوهريا من عناصر «وسوستها» العامة؟!
بل قد توهمت أحيانا عند إلحاحه عليها في الانتقال إلى بيته أنه يضمر نية استغلالية نحو معاشها وبيتها الذي سيخلو بعد انتقالها، ففزعت إلى الرفض لحد العناد الأعمى، ولما نزل السيد عند إرادتها قالت له بارتياح: «لا تؤاخذني بإصراري يا ابني، ربنا يكرمك بما أوليتني من عطف، ألا ترى أنه لا يسعني أن أهجر بيتي؟ ... وما أجدرك أن تجاري عجوزا مثلي على علاتها بيد أني أستحلفك بالله إلا ما سمحت لأمينة والأولاد بزيارتي الحين بعد الحين بعد أن أمسى خروجي من البيت متعذرا.» وهكذا بقيت في بيتها كما أرادت متمتعة بسيادتها وحريتها، وكثير من عادات الماضي العزيز. وإذا كان بعض هذه العادات، كالمغالاة الشاذة في الاهتمام بشئون البيت والمال، مما يتنافر مع هدوء الشيخوخة الحكيمة وتسامحها، وبالتالي مما يبدو كعارض من أعراض الهرم الانتكاسية، فثمة عادة أخرى مما حافظت عليه جديرة بأن تزين الشباب، وبأن تضفي على الشيخوخة جلالا، تلك هي العبادة. كانت ولم تزل مطمح حياتها ومشرق آمالها وسعادتها، رضعتها صغيرة في كنف أب شيخ من شيوخ الدين، وتغلغلت في أعماقها بزواجها من شيخ آخر لم يكن دون أبيها ورعا وتقوى. وظلت تمارس بحب وإخلاص غير مفرقة في إخلاصها بين ما هو دين حقا وما هو خرافة خالصة، حتى عرفت بين جاراتها بالشيخة المباركة. صديقة الجارية وحدها التي عرفتها بخيرها وشرها، فربما قالت لها على أثر مشادة مما ينشب بينهما: «يا ستي أليست العبادة أولى بوقتك من الشجار والنقار على التافه من الأمور؟!» فتجيبها محتدة: «يا لئيمة إنك لا توصيني بالعبادة حبا فيها، ولكن كي يخلو لك مجال العبث والإهمال والقذارة والسلب والنهب، إن الله يأمر بالنظافة والأمانة، فمراقبتك ومحاسبتك عبادة وثواب!» ولأن الدين قد شغل من حياتها تلك المكانة العالية، فقد سما أبوها ومن بعده زوجها إلى مكانة رفيعة من نفسها فوق ما كان لهما بحكم القرابة، وطالما غبطتهما على ما شرفا به من حيازة كلمات الله ورسوله في صدريهما، ولعلها ذكرت هذا حين خاطبت أمينة مواسية ومشجعة فقالت: ما أراد السيد بإخراجك من بيتك إلا إعلان غضبه على مخالفتك لأمره، ولكنه لن يجاوز حدود التأديب، أجل لن يحيق سوء بمن كان لها أب كأبيك أو جد كجدك.
وابتل صدر أمينة بذكر أبيها وجدها كما يبتل صدر المنقطع به الطريق في الظلمات، إذا ترامى إليه صوت الغفير وهو يهتف: «هوه» فآمن قلبها بقول أمها لا لتلهفها على الطمأنينة فحسب، ولكن لإيمانها قبل كل شيء ببركة الشيخين الراحلين، فلم تكن إلا صورة من أمها في جسمها وإيمانها وجل طباعها. وانثالت على وجدانها في تلك اللحظة ذكريات أبيها الذي أفعم قلبها وليدة بالحب والإيمان، فدعت الله أن ينتشلها من ورطتها إكراما لبركته. وعادت العجوز إلى مواساتها، فقالت وعلى شفتيها الجافتين ابتسامة رقيقة: إن الله يرعاك دائما برحمته، اذكري عهد الوباء لا أرجعه الله، وكيف نجاك الله من شره فقضى أخواتك ولم يمسك سوء!
غلبها الابتسام على كآبتها فابتسمت، وتفرست في غبش من الماضي كاد يمحوه النسيان فوضحت - بعض الوضوح - من خليط الذكريات صورة أحيت في نفسها أصداء من عهد الرعب، وهي صبية تحجل خارج أبواب غلقت على أخوات مستلقيات على أسرة المرض والموت، وهي وراء النافذة تنظر إلى سيل من النعوش لا ينقطع والناس تفر من طريقها، أو وهي تسمع إلى جماهير من الشعب التقت في ذعرها ويأسها برجل من رجال الدين - كما كان يتفق لأبيها - وراحت تجأر بالشكوى، وترسل الدعوات إلى رب السماء، وعلى رغم استفحال الشر وهلاك أخواتها جميعا، فقد أفلتت من براثن الوباء سالمة آمنة، لم يكدر صفوها إلا عصير الليمون والبصل الذي كانت تجبر على تجرعه مرة أو مرتين في اليوم. واستطردت الأم بصوت نمت رقته وحنانه على الاسترسال في الأحلام كأنما قد ردها التذكر إلى العهد الخالي، فاستعادت حياته وذكرياته - العزيزة الغالية لاقترانها بالشباب - خالصة من شوائب الألم المنسي، فقالت: ولم يقنع حظك السعيد بإنقاذك من الوباء، لكنه أبقاك وحيدة الأسرة، وكل ما لها في الدنيا من أمل وعزاء وسعادة، فترعرعت في صميم قلوبنا.
لم تعد أمينة ترى الحجرة - بعد هذا الخطاب - كما كانت تراها قبله، بعثت جدة الشباب في كل شيء، في الجدران والسجادة والسرير، في أمها وفيها هي نفسها، ورد أبوها إلى الحياة واتخذ مجلسه المعهود، وعادت تصغي إلى مناغاة الحب والتدليل، وتحلم بقصص الأنبياء والمعجزات، وتستعيد نوادر السابقين من الصحابة والكفار إلى عرابي باشا والإنجليز ، بعثت الحياة الماضية بأحلامها السحرية وآمالها الواعدة، وسعادتها المرجوة، ثم قالت العجوز بلهجة من يقرر النتيجة النهائية لما مهد به من مقدمات منطقية: أليس الله حافظك وراعيك؟!
بيد أن القول نفسه تضمن عزاء موحيا ذكرها بحالها الراهنة، فاستيقظت من حلم الماضي السعيد عائدة إلى كآبتها، كما يعود السالي إلى اجترار أحزانه بكلمة مواساة تلقى إليه بحسن نية، ولبثت إلى جانب أمها في حال من الفراغ الصارم لم تعهدها إلا حين مرضها، فأنكرتها وضاقت بها، ولم يشغل حديثها المتواصل مع أمها إلا نصف انتباهها على حين بقي النصف الآخر مرعى للضيق والقلق، ولما جاءت صديقة ظهرا بصينية الغداء، قالت لها العجوز بقصد تسلية ابنتها أولا: «جاءك رقيب ليكشف عن سرقاتك؟» ولكن أمينة لم يكن يهمها وقتذاك أن تسرق المرأة أو تلتزم الأمانة، ولم ترد الجارية على سيدتها إكراما للضيفة من ناحية ولأنها من ناحية أخرى ألفت مرارة سيدتها وحلاوتها، فلم يعد لها غناء عن الاثنتين. وباستدارة النهار اشتد تعلق فكرها ببيتها وتهالك عليه؛ لأنه في ذلك الوقت يعود السيد إلى البيت للغداء والقيلولة، ثم يرجع الأبناء تباعا عقب خروج الرجل إلى الدكان، فرأت، بخيالها الذي استمد من الألم والحنين قوة خارقة، البيت وآله كأنهم شهود. رأت السيد وهو يخلع جبته وقفطانه دون مساعدتها التي تخاف أن يكون قد ألف الاستغناء عنها منذ رقادها الطويل، وحاولت أن تقرأ ما يدور وراء جبينه من أفكار ونوايا، هل يستشعر الفراغ الذي خلفته وراءها، وكيف كان إحساسه حين لم يجد لها من أثر في البيت، ألم يرد لها ذكر على لسانه لسبب أو لآخر؟ ... وها هم الأبناء عائدون وها هم يهرعون إلى الصالة بعد طول اشتياق إلى مجلس القهوة، فيلقون مجلسها شاغرا، ويسألون عنها فتجيبهم نظرات أختيهم المتجهمة الدامعة، ترى كيف يتلقى فهمي الخبر، وهل يدرك كمال - وهنا خفق قلبها خفقة جارحة - معنى غيابها؟ أيتشاورون طويلا؟ ... ماذا ينتظرون؟ ... لعلهم في الطريق يستبقون إليها ... يجب أن يكونوا في الطريق، أم يكون قد أصدر أمرا بعدم زيارتها ؟ يجب أن يكونوا في الخرنفش ... سترى عما قليل. - أتحدثينني يا أمينة؟
بهذا السؤال قاطعت العجوز خيالها، فانتبهت إليها في دهشة ممزوجة بالحياء؛ إذ فطنت إلى أن كلمات - من حديثها الباطن مع نفسها - قد تسللت في غفلة منها إلى طرف لسانها محدثة الحس الذي التقطته أذن أمها المرهفة، فلم تر بدا من أن تجيبها قائلة: إني أتساءل يا أمي ألا يجيء الأولاد لزيارتي؟ - أظنهم جاءوا!
قالت العجوز وهي ترهف السمع مادة رأسها إلى الأمام، فأنصتت أمينة صامتة، فترامى إليها صوت مطرقة الباب، وهي ترسل ضربات سريعة متلاحقة كأنها صوت يبعث في لهفة بصرخات استغاثة حارة، فعرفت وراء هذه الضربات العصبية قبضة كمال الصغيرة كما كانت تعرفها وهي تدق عليها باب حجرة الفرن، وسرعان ما هرعت إلى رأس السلم، وهي تنادي صديقة لتفتح الباب، ثم أطلت من فوق الدرابزين، فرأت الغلام وهو يثب فوق درجات السلم، وفي أثره فهمي وياسين، وتعلق كمال بعنقها فعاقها قليلا عن عناق الآخرين، ثم دخلوا الحجرة وهم، من جيشان النفس وتبلبل الخاطر، يتكلمون في وقت واحد لا يبالي أحدهم ما يقول الآخرون، ولما رأوا الجدة واقفة مبسوطة الذراعين مشرقة الوجه بابتسامة ترحاب مفعمة بالحب أمسكوا عن الكلام إلى حين، وأقبلوا عليها تباعا فساد صمت نسبي تخللته همسات القبل المتبادلة، وأخيرا هتف ياسين بصوت ينم عن الاحتجاج والحزن: نحن الآن لا بيت لنا، ولن يكون لنا بيت حتى تعودي إليه.
وآوى كمال إلى حجرها كالهارب، وهو يقول مفصحا لأول مرة عن نيته التي طوى صدره عليها في البيت وفي الطريق: سأبقى هنا مع نينة ... ولن أعود معكما.
أما فهمي فقد رنا إليها طويلا صامتا، كشأنه إذا أراد أن يحدثها بالنظر، فوجدت في نظرته الصامتة خير معبر عما يعتلج في صدريهما معا. هذا الحبيب الذي لا يفوق حبه لها إلا حبها له، والذي يندر أن يشير في أحاديثه معها إلى عواطفه، ولكن تشي به خطرات نفسه وكلماته وفعاله، وقد قرأ الفتى في عينيها نظرة تدل على الألم والخجل، فاشتد تأثره وقال بحزن وتألم: نحن الذين اقترحنا عليك الخروج، وشجعناك عليه، ولكن ها أنت وحدك تتلقين العقاب.
فابتسمت الأم في ارتباك وقالت: لست طفلة يا فهمي، وما كان ينبغي لي أن أفعل.
فتأثر ياسين لهذا الحوار المتبادل، واشتد كربه لفرط إحساسه بالحرج بصفته صاحب الاقتراح المشئوم، وتردد طويلا بين معاودة الاعتذار عن اقتراحه، على مسمع من الجدة أن تعاتبه أو تضمر له حنقا، وبين السكوت على ما به من رغبة في التنفيس عن تحرجه، ثم خرج من تردده بأن ترجم كلام فهمي إلى لغة أخرى قائلا: أجل، نحن المذنبون وأنت المتهمة (ثم ضاغطا على مخارج الكلمات كأنما يضغط على عناد أبيه وصلابته) ولكنك ستعودين وسوف تنقشع السحابة التي تظلنا جميعا.
ولفت كمال وجهها إليه من ذقنها، وانهال عليها بسيل من الأسئلة، عن معنى مغادرتها البيت، وكم تطول إقامتها في بيت جدته. وعما يحدث لو عادت معهم، وغير ذلك من الأسئلة التي لم يسمع عنها جوابا واحدا حقيقا بأن يسكن خاطره الذي لم ينفع في تسكينه عزمه على أن يبقى مع أمه حيث هي، ذلك العزم الذي كان أول من يرتاب في قدرته على تحقيقه، وتغيرت وجهة الحديث بعد أن فرغ كل منهم من التعبير عن عواطفه، فأخذوا يعالجون الموقف معالجة جدية؛ لأنه - كما قال فهمي - «لا يجدي التكلم فيما كان، ولكن ينبغي أن نتساءل عما سيكون.» وقد أجابه ياسين على تساؤله قائلا: «إن رجلا كأبينا لا يرضى بأن يمر بحادث كخروج أمنا مرا كريما، فلم يكن بد من أن يعلن غضبه بطريقة لا يسهل نسيانها، ولكنه لن يجاوز حدود ما فعل.» بدا هذا الرأي مقنعا لما صادف من ارتياح النفوس إليه، فقال فهمي مفصحا عن اقتناعه ومرجوه معا: «والدليل على صحة رأيك أنه لم يقدم على فعل شيء آخر، ومثله لا يؤجل عزمه لو صحت نيته عليه.» وتكلموا كثيرا عن «قلب» أبيهم، فاتفقت كلمتهم على أنه قلب خير رغم ثورته وحدته، وأن أبعد شيء عن تصورهم هو أن يقدم على عمل من شأنه أن يسيء إلى السمعة أو يؤذي أحدا، وعند ذاك قالت الجدة على سبيل الدعابة وهي تعلم باستحالة ما تدعو إليه: لو كنتم رجالا حقا لالتمستم الوسيلة إلى قلب أبيكم ليتحول عن عناده.
فتبادل ياسين وفهمي نظرات ساخرة من هذه «الرجولة» المزعومة التي تذوب لدى ذكر أبيهم، وخافت الأم من ناحيتها أن يتطور الحديث بين الشابين والجدة إلى ذكر حادث السيارة، فأفهمتهما بالإشارة - وهي تردد يدها بين كتفها وأمها - أنها أخفت عنها الأمر، ثم قالت تخاطب أمها وكأنها تنبري للدفاع عن رجولة الشابين: لا أحب أن يتعرض أحدهما لغضبه، فلنتركه لنفسه حتى يعفو.
وهنا تساءل كمال: ومتى يعفو؟
فأشارت الأم بسبابتها إلى فوق وهي تغمغم: «ربنا عنده العفو.» وكالمألوف في مثل هذه الحال دار الحديث حول نفسه، فأعاد كل ما سبق له قوله بنفس الألفاظ أو بألفاظ جديدة من إيثار متواصل للظنون الوردية، فطال الحديث دون أن يستجد به جديد، حتى خيم الظلام ووجب الرحيل. وحين وجب الرحيل وغشيت كآبته القلوب كالضباب شغل به الفكر عن الكلام فساد سكون كالسكون الذي يسبق العاصفة، اللهم إلا كلمات لا يراد بها إلا التخفيف من وطأة الصمت، أو التهرب من الاعتراف بجثوم الوداع، وكأن كلا منهم يلقي تبعة إعلانه على عاتق غيره رحمة بالجانب الآخر، هنالك حدس قلب العجوز ما تضطرم به النفوس حولها، فرمشت عيناها المظلمتان ولعبت أصابعها بحبات السبحة في عجلة ولهوجة، ومضت بها دقائق بدت على قصرها كاتمة للأنفاس كاللحظات التي يترقب فيها الحالم في كابوس سقطة من علو شاهق، حتى جاءها صوت ياسين، وهو يقول: «أظن آن لنا أن نذهب، وسنعود لنأخذك معنا قريبا إن شاء الله.» وتسمعت العجوز لترى كيف تتهدج نبرات ابنتها عند الكلام، ولكنها لم تسمع كلاما بل سمعت حركة دالة على نهوض الجلوس، وأصوات قبل وهمهمة توديع، واحتجاج كمال على انتزاعه بالقوة فبكاءه، ثم جاء دورها في التسليم في جو مشبع بالحزن والفتور، وأخيرا أخذت الأقدام تبتعد تاركة إياها في وحدة وشجن.
وعادت قدما أمينة الخفيفتان فمضت العجوز تتنصت في قلق، حتى هتفت بها: أتبكين؟! يا لك من عبيطة! كأنك لا تطيقين أن تبيتي ليلتين في حضن أمك!
34
بدت خديجة وعائشة أضيق الجميع بغياب الأم، فإلى حزنهما الذي يشاركهما فيه الإخوة تحملتا وحدهما أعباء البيت وخدمة الأب، بيد أن أعباء البيت لم تكن لتنوء بهما، أما خدمة الأب فهي التي عملتا لها ألف حساب ونزعت عائشة إلى الهرب من منطقة أبيها معتلة بأن خديجة سبق لها أن تدربت على خدمته في أثناء رقاد الأم، فوجدت خديجة نفسها مرغمة على العودة إلى تلك المواقف الدقيقة الرهيبة التي تكابدها وهي على كثب من السيد، أو وهي تقضي له حاجة من حاجاته. ومنذ الساعة الأولى لذهاب الأم قالت خديجة: «ينبغي ألا تطول هذه الحال، إن الحياة بدونها في هذا البيت عناء لا يطاق.» فأمنت عائشة على قولها، ولكنها لم تجد من حيلة في وسعها غير الدموع فذرفتها، وانتظرت عودة إخوتها من بيت الجدة حتى جاءوا وقبل أن تلفظ كلمة مما يدور في نفسها، راحوا يحدثون عن حال أمهم في «منفاها» فوقع الحديث من نفسها موقع الغرابة والاستنكار؛ لأنها كانت تسمع عن قوم غرباء لا يتاح لها لقاؤهم، فغلبها الانفعال وقالت بحدة: إذا قنع كل منا بالسكوت والانتظار، فربما تلاحقت الأيام والأسابيع وهي مبتعدة عن بيتها حتى يضنيها الحزن، أجل إن مخاطبة بابا في هذا الشأن مهمة شاقة، ولكنها ليست أشق من السكوت الذي لا يليق بنا، ينبغي أن نجد طريقة ... ينبغي أن نتكلم.
ومع أن صيغة «نتكلم» التي ختمت بها جملتها جاءت شاملة لجميع الحاضرين، إلا أنه قصد بها - كما فهم بالبداهة - شخص أو شخصان شعر كلاهما لدى سماعها بارتباك لم تخف بواعثه على أحد، بيد أن خديجة واصلت حديثها قائلة: لم تكن مهمة مخاطبته فيما يعرض من أمور بأيسر على نينة مما هي علينا، ومع ذلك لم تكن تتردد عن مخاطبته إكراما لأي واحد منا، فمن الإنصاف أن نتحمل نفس التضحية من أجل خاطرها.
تبادل ياسين وفهمي نظرة فضحت إحساسهما بالخناق الذي أخذ يضيق حولهما سريعا، ولكن واحدا منهما لم يجرؤ على فتح فيه أن ينتهي به الكلام إلى أن يقع عليه الاختيار ليكون كبش الفداء، فاستسلما لانتظار ما يجيء به النقاش كما يستسلم الفأر للهرة. وتركت خديجة التعميم إلى التخصيص، فالتفتت إلى ياسين قائلة: أنت أخونا الأكبر، وإلى هذا فأنت موظف، أي رجل كامل، فأنت أجدرنا بالقيام بهذا الواجب.
ملأ ياسين صدره بالهواء، ثم نفخ وهو يعبث بأنامله في ارتباك ظاهر وتمتم قائلا: والدنا رجل ناري الغضب لا يقبل مراجعة لرأيه، وأنا من ناحيتي لم أعد غلاما، بل صرت رجلا وموظفا كما تقولين، وأخوف ما أخاف أن ينفجر في غاضبا، فيفلت مني زمام نفسي ويثور غضبي بدوره!
وغلبهم الابتسام على أعصابهم المتوترة وأنفسهم المحزونة فابتسموا، وأوشكت عائشة أن تضحك فأخفت وجهها في كفيها، ولعل حالهم المتوترة نفسها مما هيأهم لقبول الابتسام كمسكن وقتي للتوتر والألم كما يحدث للنفوس أحيانا عند اشتداد الحزن من الاستسلام للطرب لأتفه الأسباب على سبيل التخفيف عن حال بأضدادها، ذلك أنهم عدوا قوله نوعا من الدعابة الجديرة بالضحك والسخرية، وكان هو أول من يعلم بعجزه التام عن مجرد التفكير في الغضب أو المقاومة حيال والده، وأول من يعلم أنه قال ما قال فرارا من مواجهة أبيه واتقاء لسخطه، فلما رأى هزءهم لم يسعه إلا أن يبتسم بدوره وهو يهز منكبيه كأنما يقول لهم «دعوني وشأني.» فهمي وحده بدا متحفظا في ابتسامه لشعوره بأن القرعة ستصيبه قبل أن تغيب ابتسامته، وصدق شعوره إذ أعرضت خديجة عن ياسين في ازدراء ويأس، وخاطبته قائلة برجاء وإشفاق: فهمي ... أنت رجلنا!
فرفع حاجبيه في ارتباك متطلعا إليها بنظرة كأنما يقول لها: «أنت أدرى بالعواقب!» حقا كان يتمتع بمزايا لا يتمتع ببعضها أحد في الأسرة؛ فهو طالب بمدرسة الحقوق، وهو أكبرهم عقلا وأنفذهم رأيا، وله من ضبط النفس في المواقف الحرجة ما يدل على الشجاعة والرجولة، ولكنه سرعان ما يفقد جملة مزاياه إذا مثل بين يدي أبيه، فلا يعرف غير الطاعة العمياء. وبدا وكأنه لا يدري ماذا يقول فحثته على الكلام بإيماءة من رأسها فقال متحيرا: هل ترينه يقبل رجائي؟ ... كلا ... ولكنه سينهرني قائلا: «لا تتدخل فيما لا يعنيك.» هذا إذا لم يثر غضبه، فيوجه إلي كلاما أشد وأقسى!
وارتاح ياسين إلى هذا الكلام «الحكيم» الذي وجد فيه دفاعا عن موقفه أيضا، فقال وكأنه يكمل رأي أخيه: وربما جر تدخلنا إلى محاسبتنا من جديد على موقفنا يوم خروجها، فنفتح على أنفسنا فتحة لا ندري كيف نسدها!
فالتفتت الفتاة نحوه مغيظة محنقة وقالت بمرارة وسخرية: لا منك ولا كفاية شرك!
فقال فهمي الذي استمد من غريزة «حب البقاء» قوة جديدة للدفاع عن نفسه: فلنفكر في الأمر بعناية شاملة ... لا أظنه يقبل لي أو لياسين رجاء ما دام يعتبرنا شريكين في الخطأ، وعليه فالقضية خاسرة إذا تقدم أحدنا للدفاع عنها، أما إذا حدثته واحدة منكما فلعلها تنجح في استعطافه أو لعلها تجد - على أسوأ الظنون - إعراضا هادئا لا يبلغ حد العنف، فلماذا لا تحدثه إحداكما؟ ... أنت مثلا يا خديجة؟!
فانقبض قلب الفتاة التي وقعت في الشرك، وحدجت ياسين لا فهمي بنظرة غيظ وهي تقول: ظننت هذه المهمة أخلق بالرجال!
فقال فهمي مواصلا هجومه السلمي: العكس هو الصحيح ما دمنا نتوخى نجاح المسعى، ولا تنسي أنكما لم تتعرضا لغضبه طول حياتكما، إلا في النادر الذي لا يقاس عليه، فهو يألف الرفق بكما كما يألف البطش بنا!
فأطرقت خديجة متفكرة في قلق غير خاف، وكأنها خافت إن طال صمتها أن تشتد عليها الحملة، فتستقر المهمة الخطيرة في قرعتها، فرفعت رأسها قائلة: إذا كان الأمر كما تقول، فعائشة أخلق مني بالكلام! - أنا! ... لمه؟!
نطقت بها عائشة في فزع من وجد نفسه في مرمى الخطر بعد أن اطمأن طويلا إلى موقف المتفرج الذي ليس له من الأمر شيء، خاصة وأنها - لحداثة سنها وغلبة إحساس الطفولة المدللة عليها - لم تكن تندب لشيء هام فضلا عن أخطر مهمة يمكن أن تعرض لأحد منهم، إلا أن خديجة نفسها لم تجد فكرة واضحة لتبرير اقتراحها بيد أنها أصرت عليه في عناد مشبع بالمرارة والتهكم، فقالت تجيب شقيقتها: لأنه ينبغي الانتفاع بصفرة شعرك وزرقة عينيك في إنجاح مسعانا! - وما دخل شعري وعيني في مواجهة أبي؟!
لم تكن خديجة تهتم في تلك اللحظة بالإقناع بقدر ما تهالكت على إيجاد مخرج لها، ولو بتحويل الأذهان إلى أمور هي بالمعابثة أشبه تمهيدا للتقهقر، فالفرار من أسلم السبل الممكنة كمن يقع في مأزق حرج، وتعوزه الحجة في الدفاع عنه، فيلجأ إلى المزاح ليمهد لنفسه مفرا في ضجة من السرور بدلا من الشماتة والازدراء؛ لذلك قالت: أعرف لهما تأثيرا ساحرا في كل من يتصل بك، ياسين ... فهمي ... حتى كمال، فلماذا لا يكون لهما نفس التأثير عند أبي؟
فتورد وجه عائشة وقالت بانزعاج: كيف أخاطبه في هذا الشأن، وأنا لا تقع علي عيناه حتى يطير ما في رأسي؟!
عند ذاك - وبعد أن تهربوا تباعا من المهمة الخطيرة - لم يعد يشعر أحد منهم بتهديد مباشر، ولكن النجاة لم تعفهم من إحساس بالذنب، بل لعلها كانت أول دافع إليه، حيث إن الإنسان يركز تفكيره في النجاة عند الخطر، حتى إذا ظفر بالنجاة عاد ضميره يناوشه، كالجسم الذي يستنفد حيويته كلها في العضو المريض، حتى إذا ما استرد صحته توزعت حيويته بالتساوي على الأعضاء التي أهملت إلى حين، وكأن خديجة أرادت أن تتخفف من هذا الإحساس، فقالت: ما دمنا نعجز جميعا عن مخاطبة بابا فلنستعن بجارتنا ست أم مريم.
وما إن نطقت باسم «مريم» حتى لحظت فهمي بحركة عكسية، فالتقت عيناهما لحظة قصيرة في نظرة لم يرتح الشاب لإيحائها، فأشاح عنها بوجهه متظاهرا بعدم الاكتراث، ذلك أن اسم مريم لم يجر على لسان أمام فهمي منذ نبذت فكرة خطبتها، إما مراعاة لعواطفه، وإما لأن مريم اكتسبت معنى جديدا بعد اعترافه بحبها سلكها في زمرة المحرمات التي لا تتسامح تقاليد البيت بلوكها علانية حيال صاحب الشأن، وبالرغم من أن مريم نفسها لم تنقطع عن زيارة الأسرة متظاهرة بجهل ما دار بشأنها وراء الأبواب ... ولم تفت ياسين لحظة الارتباك المتبادل بين فهمي وخديجة، فأراد أن يغطي على أثرها المحتمل بتوجيه الانتباه إلى وجهة جديدة، فوضع يده على كتف كمال، وقال بلهجة بين التهكم والتحريض: هذا رجلنا الحق، هو وحده الذي يستطيع أن يرجو والده ليعيد إليه أمه!
لم يحمل كلامه محمل الجد أحد، وأولهم كمال نفسه، بيد أن قول ياسين وثب إلى ذاكرته في اليوم التالي، وهو يقطع ميدان بيت القاضي عائدا من المدرسة، بعد نهار مضى أكثره في التفكير في أمه المنفية، فتوقف عن السير صوب درب قرمز، والتفت إلى طريق النحاسين مترددا وقلبه المحزون يتابع خفقاته في كآبة وتألم، ثم غير طريقه متجها نحو النحاسين في خطوات متباطئة، دون أن يجمع عزمه على رأي، يسوقه العذاب الذي يعاني لفقد أمه، ويرجعه الخوف الذي يركبه لمجرد ذكر أبيه، فضلا عن مخاطبته أو التوسل إليه، لم يكن يتصور أنه يستطيع أن يقف بين يديه محدثا في هذا الأمر، ولم تغب عن شعوره المخاوف العسية بأن تحيق به لو فعل. ولم يصمم على شيء إلا أنه رغم هذا كله واصل السير البطيء، حتى لاح لعينيه باب الدكان كأنما ينزع إلى إرضاء قلبه المعذب، ولو إرضاء عميقا - كالحدأة التي تحوم حول خاطف صغارها دون أن تجد الشجاعة على مهاجمته - وتدانى من الباب حتى وقف على بعد أمتار منه، وطال الوقوف وهو لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يستقر على رأي، وفجأة خرج من الدكان رجل وهو يقهقه عاليا، وإذا بأبيه يتبعه حتى عتبة الباب مودعا، وهو يغرق في الضحك كذلك، فأذهلته المفاجأة، فتسمر في مكانه مستشرفا وجه أبيه الضاحك الطليق في إنكار ودهشة لا توصفان، لم يصدق عينيه، وخيل إليه أن شخصية جديدة قد حلت في جسم أبيه، أو أن هذا الرجل الضاحك - على ما به من شبه بأبيه - شخص آخر يراه لأول مرة، شخص يضحك، ويغرق في الضحك، وينطلق البشر من وجهه كما ينطلق الضوء من الشمس، واستدار السيد ليدخل فوقع بصره على الغلام المتطلع إليه بذهول، فأخذته الدهشة لموقفه وهيئته على حين استردت أساريره بسرعة مظهر الجد والرزانة، ثم سأله وهو يتفرس في وجهه: ماذا جاء بك؟!
وللحال دبت في أعماق الغلام غريزة الدفاع عن النفس - رغم ذهوله - فتقدم من أبيه، ومد يده الصغيرة إلى يده، وتطامن عليها حتى لثمها في أدب وخشوع دون أن ينبس بكلمة، فسأله السيد مرة أخرى: أتريد شيئا؟!
فازدرد كمال ريقه وهو لا يجد ما يتلفظ به إلا أن يقول مؤثرا السلامة «إنه لا يريد شيئا وإنه كان في طريقه إلى البيت» ولكن السيد استبطأه فلاح في وجهه الضيق وقال بخشونة: لا تقف كالصنم وقل ماذا تريد.
ونفذت خشونة الصوت إلى قلبه فارتعد، وانعقد لسانه فكأن الكلام قد التزق بسقف حلقه، فازداد الأب ضيقا وهتف بحدة: تكلم ... هل فقدت النطق؟!
وتجمعت قوته كلها في إرادة واحدة، وهي أن يخرج من صمته بأي ثمن اتقاء لغضب أبيه، ففتح فاه قائلا كيفما اتفق له: كنت عائدا من المدرسة إلى البيت ... - وماذا أوقفك هنا كالمعتوه؟! - رأيت ... رأيت حضرتك فأردت أن أقبل يدك!
فتجلت في عيني السيد نظرة استرابة، وقال بجفاء وتهكم: أهذا كل ما هنالك! ... أوحشتك لهذا الحد! ألم تستطع أن تنتظر إلى الصباح لتقبل يدي إذا أردت؟! اسمع ... إياك وأن تكون قد عملت عملة في المدرسة ... سأعرف كل شيء ... فقال كمال بسرعة واضطراب: لم أعمل شيئا وحياة ربنا.
فقال الرجل بنفاد صبر: إذن تفضل ... ضيعت وقتي بلا مناسبة ... غر من وجهي.
فغادر كمال موقفه لا يكاد يرى موضع قدمه من الاضطراب، وتحرك السيد عن مكانه ليدخل، ولكن عاودت الغلام الحياة بمجرد تحول عيني أبيه عن عينيه، وصاح بلا شعور قبل أن يغيب الرجل وتضيع الفرصة: رجع نينة الله يخليك.
وأطلق ساقيه للريح.
35
كان السيد يحتسي قهوة العصر في حجرته حين دخلت خديجة، وقالت بصوت كاد من التخشع لا يسمع: جارتنا ست أم مريم تريد مقابلة حضرتك.
فتساءل السيد متعجبا: حرم السيد محمد رضوان؟ ماذا تريد؟
فقالت خديجة: لا أعرف يا بابا.
فأمرها بإدخالها وهو يمسك عن التعجب. ومع أن مجيء بعض الفضليات من الجارات لمقابلته، لشأن يتعلق بتجارته أو لصلح يسعى به بينهن وبين أزواجهن من أصدقائه، لم يكن مع ندرته بالجديد عليه إلا أنه استبعد أن يكون ما دعا هذه السيدة إلى مقابلته واحد من هذه الأسباب. وخطرت على ذهنه، وهو يتساءل، مريم وما دار عن خطبتها بينه وبين زوجه، ولكن أي علاقة ثمة بين هذا السر الذي لا يمكن أن يتعدى دائرة أسرته وبين هذه الزيارة؟! ثم ذكر السيد محمد رضوان لاحتمال أن تكون الزيارة لسبب يمت إليه بيد أنه كان ولم يزل مجرد جار، لا تربطه به إلا صلة الجيرة التي لم ترتفع يوما لمرتبة الصداقة، فاقتصر تزاورهما قديما على المناسبات الضرورية، حتى شل الرجل فعاده مرات، ثم لم يعد يطرق بابه إلا في الأعياد. على أن ست أم مريم ليست بالغريبة عليه، فإنه ليذكر أنها قصدت دكانه مرة لابتياع بعض الحوائج، وهناك عرفته بنفسها استرعاء لاهتمامه، فبذل لها من كرمه ما رآه جديرا بحسن الجوار، ومرة أخرى التقى بها عند باب بيته إذ صادف خروجه قدومها للزيارة مصطحبة كريمتها، وعند ذاك أدهشته بجسارتها حين حيته قائلة: «مساء الخير يا سي السيد.» أجل علمه اختلاطه بالأصدقاء أن بينهم من يتسامح فيما يتشدد هو فيه متطرفا من التزام الآداب المتوارثة للأسرة، فلا يرون بأسا من أن تخرج نساؤهم للزيارة أو للاستبضاع، ولا يجدون حرجا في توجيه تحية بريئة كالتي وجهتها أم مريم إليه، ولم يكن - رغم حنبليته - بالذي يطعن فيما يرتضون لأنفسهم ولنسائهم، بل لم يكن يسيء الظن حتى ببعض الأعيان من أصدقائه الذين يصطحبون زوجاتهم وبناتهم في العربات للتنزه في الخلوات أو لغشيان الملاهي البريئة مكتفيا في مثل هذه الحال بترديد قوله: «لكم دينكم ولي دين.» أي إنه لا ينزع إلى تطبيق آرائه على الناس تطبيقا أعمى، إلى أنه يحسن التمييز حقا بين ما هو خير وما هو شر، إلا أنه لا يفتح صدره لكل «ما هو خير» ضالعا في ذلك مع طبيعته التقليدية الصارمة، حتى إنه عد زيارة زوجه للحسين جريمة قضى فيها بأقسى عقوبة أصدرها في حياته الزوجية الثانية؛ ولهذا كله لاقت تحية أم مريم له من نفسه دهشة مقرونة بما يشبه الانزعاج دون أن يسيء بأخلاقها الظن. وسمع خارج باب الحجرة نحنحة فأدرك أن القادمة تنذره بالدخول، ثم دخلت ملتفة في ملاءتها، مستورة الوجه ببرقع أسود تتوسط عروسه الذهبية عينين مكحولتين دعجاوين وتدانت منه بجسم جسيم لحيم مترنح الأرداف، فنهض السيد لاستقبالها وهو يمد يده قائلا: أهلا وسهلا، شرفت البيت وأهله.
فمدت له يدها بعد أن لفتها في طرف الملاءة أن تنقض وضوءه، وقالت: ربنا يشرف قدرك يا سي السيد.
ودعاها للجلوس فجلست، ثم جلس وهو يسألها مجاملة: كيف حال السيد محمد؟
فقالت متنهدة بصوت مسموع كأن السؤال حرك أشجانها: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ربنا يلطف بنا جميعا.
فهز السيد رأسه كالآسف وتمتم: ربنا يأخذ بيده ويمنحه الصبر والعافية.
وأعقب حديث المجاملات صمت قصير، فأخذت السيدة تتهيأ للحديث الجدي الذي جاءت من أجله كما يتهيأ المطرب للغناء بعد الفراغ من عزف المقدمة الموسيقية على حين غض السيد بصره تحشما تاركا على شفتيه ابتسامة لتعلن ترحيبه بالحديث المنتظر: يا سيد أحمد، أنت في المروءة مثل يضرب في الحي كله، فلن يخيب رجاء لمن يقصدك مستشفعا مروءتك.
فتمتم السيد بصوت حيي وهو يتساءل في نفسه: «ترى ما وراء هذا كله؟!»: أستغفر الله. - المسألة أنني جئت الساعة لأزور أختي ست أم فهمي، فما هالني إلا أن أعلم بأنها ليست موجودة في بيتها وأنك غاضب عليها!
وأمسكت المرأة لتسبر أثر كلامها ولتسمع رأي السيد فيه، ولكنه لاذ بالصمت كأنه لا يجد ما يقوله، ومع أنه شعر بعدم ارتياح إلى فتح هذا الموضوع، إلا أن ابتسامة الترحيب ظلت معلقة بشفتيه. - هل توجد ست أكمل من ست أم فهمي؟! ست العقل والحياء، جارة عشرين عاما وأكثر، لم نسمع خلالها منها إلا ما يسر الخاطر، فما عسى يمكن أن تجني مما تستحق عليه غضب رجل عادل مثلك؟!
فثابر السيد على صمته متجاهلا تساؤلها، ثم دارت برأسه خواطر زادت من عدم ارتياحه ... ترى أجاءت زيارة المرأة للبيت اتفاقا أم أنها استدعيت بتدبير مدبر؟! خديجة؟ عائشة؟ أمينة نفسها؟ إنهم لا يملون الدفاع عن أمهم، هل ينسى كيف تجرأ كمال على الصراخ في وجهه مطالبا بعودة أمه، الأمر الذي عرضه فيما بعد لعلقة ساخنة تطاير بخارها من يافوخه؟! - يا لها من سيدة طيبة لا تستأهل عقابا ... ويا لك من سيد كريم لا يليق به العنف، ولكنه الشيطان اللعين أخزاه الله وما أجدر نبلك بإفساد كيده.
وشعر عند ذاك بأن الصمت غدا أثقل من أن يحتمل مجاملة للزائرة، فتمتم قائلا باقتضاب متعمد: ربنا يصلح الحال.
فقالت أم مريم بحماس متشجعة بما أصابت من نجاح في استدراجه إلى الكلام: لشد ما يعز علي أن تترك جارتنا الطيبة بيتها بعد ذاك العمر الطويل من الستر والكرامة. - ستعود المياه إلى مجاريها، ولكن لكل شيء ميعاد. - أنت أخي، بل أعز من الأخ، ولن أزيد على هذا كلمة واحدة!
جد جديد من الأمر لم يغب عن وعيه اليقظ، فسجله كما يسجل المرصد الزلزال البعيد مهما تدق حركته. خيل إليه وهي تقول: «أنت أخي» أن صوتها رق وعذب، فلما قالت: «بل أعز من الأخ» جهر الصوت بحنان دافئ نشر في الجو المحتشم نفحة طيبة، فتعجب وتساءل، ولم يعد يطيق غض بصره على الشك، فرفعه مستأنيا .. واسترق إلى وجهها النظر - فوجدها - على غير ما توقع - تتطلع إليه بعينيها الدعجاوين، فجاش صدره وخفض بصره مستعجلا بين الدهشة والحرج، ثم قال مواصلا الحديث كي يغطي على تأثره: أشكرك على ما أوليتني من أخوة.
وعاد يتساءل ترى أكانت تتطلع إليه هكذا طوال الحديث أم صادف رفع بصره إليها تطلعها إليه؟ وما القول في أنها لم تغض بصرها عند التقاء العينين؟ ولكنه سرعان ما هزأ بأفكاره قائلا لنفسه إن ولعه بالنساء وخبرته بمعاشرتهن أرهفا حاسة سوء الظن بهن عنده، وإن الحقيقة بلا ريب أبعد ما تكون عن تصوره، أو لعل المرأة من النساء اللاتي يفضن الحنان طبعا وسجية فيظنه من لا يعرفهن غزلا وما هو بالغزل، ولكي يتحقق من صدق رأيه - لأنه لم تزل ثمة حاجة إلى التحقيق - رفع بصره مرة أخرى، فما هاله إلا أن يراها رانية إليه، فتشجع هذه المرة وثبت عليها عينيه قليلا، فلم تزل ترنو إليه باستسلام جسور حتى غض بصره في حيرة شاملة، وعند ذاك لاحقه صوتها الناعم وهو يقول: سأرى بعد هذا الرجاء ما إذا كنت حقا أثيرة عندك.
أثيرة؟! لو قيلت هذه الكلمة في غير هذا الجو المشبع بالحساسية المكهرب بالشك والحيرة، لمرت دون أن تترك أثرا، أما الآن؟! وعاود النظر في غير قليل من الحرج، فقرأ في عينيها بعض المعاني التي عابثت ظنونه، هل صدق إحساسه؟ وهل يمكن هذا حال استشفاعها لزوجه؟ ولكن كيف يعجب من كان في مثل خبرته بالنساء؟ سيدة لعوب ذات بعل مشلول. وسرت في وجدانه وثبات بهيجة ملأته حرارة وزهوا، ولكن متى نشأت هذه العاطفة؟ أهي قديمة وكانت تتحين الفرص؟ ألم تزر دكانه مرة فلم يند عنها ما يريب ... ولكن الدكان ليس بالمكان الذي تطمئن مثلها إليه في بث هوى مكتم غير مسبوق بتمهيد، كما فعلت زبيدة العالمة، أم هي عاطفة بنت ساعتها وجدت مع الفرصة السانحة في الغرفة الخالية؟ لو صح هذا فهي «زبيدة» أخرى في لباس سيدة مصونة، وليس غريبا أن يجهل أمرها - وهو العليم ببنات الهوى - ما دام يحرص الحرص كله على احترام الجيران احتراما مثاليا، وأيا كان الأمر فكيف يجيبها؟ «أنت آثر عندي مما تظنين؟» قول جميل ولكنها حرية بأن ترى فيه تحية استجابة لدعائها، كلا إنه لا يريد هذا، إنه يأباه كل الإباء، لا لأنه لم يشبع بعد من زبيدة، ولكن لأنه لا يقبل بحال أن يحيد عن مبادئه في تقديس الأعراض عامة، وما يمس الأصدقاء والجيران منها خاصة. لهذا لم تسود صفحته نقطة واحدة يمكن أن يخزى بها أمام صديق أو جار أو أحد من الأطهار على إفراطه في العشق والصبوات، ولم يزل دأبه أن يخاف الله في لهوه كما يخافه في جده فلا يبيح لنفسه إلا ما يراه مباحا أو في حدود الهفوات. لا يعني هذا أنه أوتي إرادة خارقة تعصمه من الأهواء، ولكنه لهج بالهوى المبذول، وصان طرفه عن الحرمات، حتى إنه لم يتعمد النظر إلى وجه امرأة من حيه طوال عمره، على أنه مما يذكر له أنه صد مرة عن هوى متاح رحمة بأحد معارفه؛ إذ جاءه يوما رسول يدعوه إلى لقاء أخت ذاك الرجل - أرملة نصف - في ليلة سماها، فتلقى السيد الدعوة صامتا، وصرف الرسول متلطفا كعادته ثم قاطع الطريق الذي يوجد به البيت أعواما متواصلة. ولعل أم مريم كانت أول تجربة - عرضت لمبادئه - يكابدها بعينيه، ومع أنها أعجبته إلا أنه لم يستجب لنوازع الهوى، وغلب صوت الحكمة والوقار، صائنا سمعته التي يتحدث بها الناس عن موطن المؤاخذة، كأن هذه السمعة الطيبة آثر عنده من اقتناص لذة مواتية، متعزيا في نفس الوقت بما يتاح له من حين لآخر من غراميات مأمونة العواقب. وهذه الروح الراعية للعهد المخلصة للإخوان، لا تزايله حتى في مغاني اللهو والشهوات، فلم يؤخذ عليه أبدا أنه سطا على محظية صاحب أو طمح بطرف إلى خليلة صديق، مؤثرا الصداقة على الأهواء؛ لأنه كما اعتاد أن يقول: «الصديق ود دائم والعشيقة هوى عابر.» ولهذا قنع بانتقاء خليلاته ممن يجدهن بلا خليل، أو ينتظر حتى تنقطع علاقة فينهض لانتهاز فرصته، وأحيانا يستأذن الخليل القديم قبل أن يتودد إلى من كانت خليلته، مواصلا العشق في سرور لا يشوبه الندم، ولا تكدر صفوه إحن النفوس. بمعنى آخر أنه نجح في التوفيق بين «الحيوان» المتهالك على اللذات وبين «الإنسان» المتطلع إلى المبادئ العالية توفيقا ائتلافيا يجمعهما في وحدة منسجمة لا يطغى أحد طرفيها على الآخر، ويستقل كل منهما بحياته الخاصة في يسر وارتياح، كما وفق من قبل في الجمع بين التدين والغواية في وحدة خالية من الإحساس بالذنب والكبت معا، غير أنه لم يكن يصدر في وفائه عن إخلاص مجرد للأخلاق، ولكن - إلى هذا أو قبل هذا - عن رغبته التليدة في أن يظل حائزا للحب متمتعا بالسمعة العطرة، إلى أن غزواته المظفرة في العشق هونت عليه الإعراض عن الحب الموسوم بالخيانة أو النذالة، وفضلا عن هذا وذاك، فإنه لم يعرف الحب الحقيقي الذي كان خليقا بأن يدفعه إلى إحدى اثنتين؛ فإما الإذعان للعاطفة القوية دون مبالاة بالمبادئ، وإما الوقوع في أزمة عاطفية خلقية حادة لم يقدر عليه الاكتواء بنارها. فلم يكن يرى في أم مريم إلا صنفا لذيذا من الطعام لن يضيره - إذا هدده تناوله بسوء الهضم - أن يعدل عنه إلى غيره من الأصناف المأمونة الشهية التي تحفل بها المائدة؛ لذلك أجابها برقة قائلا: شفاعتك مقبولة إن شاء الله وستسمعين ما يسرك عما قريب.
فقامت المرأة وهي تقول: ربنا يكرمك يا سي السيد.
ومدت له يدا بضة فمد لها يده وهو يغض بصره، فخيل إليه - وهي تسلم - أنها ضغطت قليلا على يده، وجعل يتساءل أهذه طريقتها المعتادة في التسليم أم أنها تعمدت الضغط على يده، وحاول أن يتذكر كيفية تسليمها عند استقبالها، ولكن الذاكرة لم تسعفه، وقضى أكثر الوقت الذي سبق عودته إلى الدكان، وهو يفكر في المرأة؛ حديثها، ولينها، وتسليمها.
36 - تيزة حرم المرحوم شوكت تريد مقابلة حضرتك.
رمى السيد خديجة بنظرة حمراء، وصاح بها: لماذا؟!
ولكن أعلنت نبراته الغاضبة ونظراته الثائرة على أنه لم يقصد الوقوف عند مدلول «لماذا»، وكأنه أراد أن يقول لها: «لم أكد أفرغ من وسيط الأمس، حتى جئتني بوسيط جديد اليوم، من قال لك إن هذه الحيل تجوز علي؟ ... كيف تجسرين أنت وإخوتك على المكر بي؟»
واصفر وجه خديجة وهي تقول بصوت متهدج: لا أدري والله.
فحرك رأسه حركة كأنها تقول لها: «بل تدرين وأدري أنا أيضا، ولن يجرك مكرك إلا إلى أوخم العواقب» ثم قال ساخطا: خليها تتفضل، لن أشرب قهوتي براحة بال بعد الآن، أصل حجرتي محكمة وقضاة وشهود، وهذه هي الراحة التي أجدها في بيتي، لعنة الله عليكم أجمعين!
اختفت خديجة قبل أن يتم كلامه كما يختفي الفأر إذا قرعت سمعه قرقعة، وظل السيد لحظات متجهما حانقا، حتى خطرت على ذهنه صورة خديجة، وهي تنسحب خائفة، فعثرت قدمها بقبقابه وكاد رأسها يصطدم بالباب، فارتسمت على شفتيه ابتسامة إشفاق مسحت غضبته المتعسفة، وقطرت على صدره عطفا، يا لهم من أطفال يأبون أن ينسوا أمهم ولو دقيقة واحدة، واتجه بصره إلى الباب وهو يتهيأ لاستقبال الزائرة بوجه انبسطت أساريره كأنه لم يصب غضبه منذ ثوان على فكرة زيارتها، ولكن لم يكن له حيلة فيما يركبه من غضب - وهو في بيته - لأتفه الأسباب، أو بلا سبب على الإطلاق، وفضلا عن هذا كله كان للقادمة منزلة خاصة، لا يرتقي إليها أحد من النساء اللاتي يترددن على البيت من حين لآخر، حرم المرحوم شوكت، والمرحوم شوكت من قبل، أسرة ارتبطت مع أسرته بآصرة الود الخالص من عهد الجدود، كان للراحل منزلة الأب من نفسه، ولم تزل أرملته عنده - وعند أسرته بالتبعية - بمنزلة الأم، هي التي خطبت له أمينة بنفسها، وتلقت أبناءه بيديها وهم يستقبلون نور الدنيا، وإلى هذا كله فآل شوكت أناس صداقتهم شرف، لا لأصلهم التركي فحسب، ولكن لمرتبتهم الاجتماعية وعقاراتهم الكثيرة ما بين الحمزاوي وبين الصورين، فإذا كان السيد من أوساط الطبقة الوسطى فهم من أهل القمة فيها بلا جدال. ولعل الأمومة التي تشعر بها المرأة له، ويشعر بها لها هي التي جعلته يقف من شفاعتها المنتظرة موقف التهيب والحرج، فليست هي بالتي تلتزم الاحترام في مخاطبته، ولا بالتي تتعب في استعطافه، فضلا عما عرفت به من صراحة جارحة لها مبرراتها من شيخوختها ومكانتها معا، أجل ليست هي ...
وأمسك عن أفكاره لدى سماعه وقع خطواتها، ثم نهض وهو يقول بترحيب: أهلا وسهلا، زارنا النبي.
اقتربت منه سيدة طاعنة في السن، تدب على مظلة وهي ترفع إليه وجها ناصع البياض، كثير التجاعيد، لم يكد يحجب منه شيئا برقعها الأبيض الشفاف، وتلقت تحيته بابتسامة جلت عن أسنانها الذهبية، وسلمت، ثم اتخذت مجلسها إلى جانبه بلا كلفة وهي تقول: من يعش ير، حتى أنت يا زين الرجال! ... وحتى هذا البيت تحدث فيه هذه الأمور التي لا يطيب التحدث عنها! ... شخت ورب الحسين وبادرك الخرف ...
واسترسلت في الكلام مطلقة العنان للسانها يقول ويعيد غير تاركة للسيد من فرصة لمقاطعتها أو التعقيب عليها، حدثته كيف جاءت للزيارة، وكيف اكتشفت غياب زوجه: «ظننت بادئ الأمر أنها خرجت في زيارة، فدققت صدري بيدي دهشة وقلت ماذا حدث للدنيا؟! ... وكيف سمح لها السيد بالخروج مستهينا بالشرائع الإلهية والقوانين البشرية والفرمانات العثمانية! ...» بيد أنها سرعان ما عرفت الحقيقة كلها: «فثبت إلى رشدي، وقلت الحمد لله الدنيا بخير، هذا حقا هو السيد، وهذا أقل ما ينتظر منه.» ثم غيرت لهجتها الساخرة وراحت تؤنبه على قسوته، ولم تقتصد في الرثاء لزوجه التي تعدها آخر امرأة تستحق عقابا، وجعلت كلما هم بمقاطعتها تصيح به: «هس، ولا كلمة ... دع حديثك الحلو الذي تحسن تنميقه فلن أخدع به، إني أريد عملا صالحا لا مزوقا.» وصارحته بأنه يغالي في المحافظة على أسرته مغالاة خرقت المألوف، وأنه يجمل به أن يأخذ نفسه بشيء من الهوادة والرفق، استمع السيد إليها طويلا، ولما سمحت له بالكلام - بعد أن أعياها الكلام - شرح لها وجهة نظره المعروفة ولم يمنعه دفاعها الحار ولا مكانتها عنده من أن يؤكد لها بأن سياسته مع أسرته عقيدة لا يتحول عنها، وإن وعدها في النهاية - كما وعد أم مريم من قبل - خيرا، وظن أن آن للجلسة أن تنفض ولكنه ما يدري إلا وهي تقول: غياب أمينة هانم مفاجأة غير سارة لي؛ لأني كنت أريدها لأمر هام جدا، ولأن الخروج لم يعد بالمهمة اليسيرة على صحتي، ولا أدري الآن إن كان يحسن بي أن أتكلم فيما أردت الكلام فيه أم أنتظر عودتها!
فقال السيد مبتسما: كلنا تحت أمرك. - وددت لو كانت هي أول من يسمعني، وإن كنت لم تترك لها من الأمر شيئا، ولكن لئن فاتني هذا فعزائي أني أهيئ لها فرصة سعيدة للعودة.
فاحتار السيد في فهم حديثها، وحدج إليها متسائلا: ما وراء هذا؟
فقالت وهي تنكت السجادة بسن مظلتها: لا أطيل عليك، لقد وقع اختياري على عائشة لتكون زوجا لخليل ابني.
ودهش السيد دهش من أخذ على غرة من حيث لم يتوقع فركبه الارتباك، بل الانزعاج، لبواعث غير خافية، أدرك من أول وهلة أن تصميمه القديم على ألا يزوج الصغرى حتى تتزوج الكبرى، سيرتطم هذه المرة برغبة عزيزة لا يسعه إهمالها ... رغبة عالنته بها من لا تجهل تصميمه ذاك مما دل على أنها ترفضه سلفا، وتأبى أن تنزل عند حكمه. - ما لك صامتا كأنك لم تسمعني؟!
وابتسم السيد ارتباكا وحياء، ثم قال على سبيل الملاحظة والمجاملة ريثما يقلب الأمر على وجوهه: هذا شرف عظيم لنا.
فرمته السيدة بنظرة كأنما تقول له: «ابحث لك عن طريقة أخرى غير معسول الكلام» وقالت بلهجة هجومية: لا حاجة بي إلى الضحك علي بأجوف الكلام، لن أرضى بغير الموافقة التامة، لقد ندبني خليل لاختيار زوجة له، فقلت له عندي عروس هي خير ما يمكن أن تظفر به، فسر لاختياري ولم يعدل بمصاهرتك شيئا ... فهل جاء زمن تقابل فيه مثل هذه الرغبة، مني أنا، بالصمت والتهرب؟! الله ... الله.
إلام يقع في هذه المشكلة المعقدة التي لا يمكن أن يخرج منها دون أن يصيب إحدى ابنتيه بصدمة قاسية؟! ... ونظر إليها كما يستجدي عطفها على موقفه، وغمغم: ليس الأمر كما تتصورين، رغبتك فوق العين والرأس، ولكن ... - آه من لكن! ... لا تقل إنك قررت ألا تزوج الصغرى حتى تتزوج الكبرى، من أنت حتى تقرر هذا أو ذاك؟ ... دع ما لله لله وهو أرحم الراحمين. إن شئت ضربت لك عشرات الأمثال عن أخوات صغار تزوجن قبل الكبار، فلم يحل زواجهن دون زواج أخواتهن بأحسن الأزواج، وخديجة شابة ممتازة ولن تعدم زوجا صالحا عندما يشاء الله ... إلام تقف حائلا بين عائشة وبين حظها؟ ... أليست هي الأخرى جديرة بعطفك ورحمتك؟!
قال لنفسه: إذا كانت خديجة شابة ممتازة، فلماذا لا تختارينها؟! ... وهم بإحراجها كما أحرجته ولكنه خاف أن ترميه بإجابة تتضمن إساءة - ولو بحسن نية - لخديجة وبالتالي له هو، وقال بصوت ملؤه الجد والاهتمام: ليس إلا أنني أشفق على خديجة.
فقالت بحدة كأنما هي المطالبة لا هو: كل يوم تقع أمور كهذه دون أن تربك أحدا، إن الله يكره من عبده العناد والمكابرة، اقبل رجائي وتوكل على الله، لا ترفض يدي، فإني ما مددتها إلى أحد قبلك.
فدارى السيد انفعاله بابتسامة وقال: هذا شرف عظيم كما قلت لك منذ لحظة ... فقط أمهليني قليلا ريثما أراجع نفسي وأرتب أموري، وستجدين رأيي عند حسن ظنك إن شاء الله.
فقالت بلهجة من يجهز على الحديث: لا يجوز أن آخذ من وقتك أكثر مما أخذت، ثم إنه كلما طال الأخذ والرد خيل إلي أنك لا تتقبل رغبتي بقبول حسن، ومثلي من تطمع إذا قالت لك أريد أن تبادرها بنعم دون لت وعجن، فلن أزيد عما قلت إلا كلمة واحدة: خليل ابني وابنك وعائشة بنتك وبنتي.
وقامت فقام السيد ليودعها، لم يكن يتوقع إلا كلمة توديع وتحية، ولكنها أبت إلا أن تذكره بوصاياها جملة. كأنما خافت أن يفوته شيء منها فأعادتها تفصيلا، وما يدري - أو تدري - إلا وهي ترجع لتأييد بعض آرائها وتوكيد البعض الآخر، ثم غلبها تداعي الأفكار فاسترسلت فيه بلا ممانعة، حتى أعادت على مسمعه جل ما قالت عن الخطبة، وإلى هذا كله لم تشأ أن تنهي ذاك الحديث دون أن تودع حديث الأم المبعدة بكلمة أو كلمتين أو ثلاث، وإذا بتداعي الأفكار يغلبها مرة أخرى فتسترسل فيه، حتى كاد الرجل يفقد أعصابه، ثم أوشك أن يضحك في النهاية وهي تقول له: «لا يجوز أن آخذ منك أكثر مما أخذت.» وأوصلها إلى الباب مشفقا في كل خطوة من أن تتوقف عن المسير وتشتبك في الكلام كرة أخرى، ثم عاد أخيرا إلى مجلسه وهو يتنفس من الأعماق. عاد مغتما مكتئبا، قلب رقيق، أرق مما يظن الكثيرون، بل أرق مما ينبغي، فكيف يصدق هذا من لا يرونه إلا مكشرا أو صاخبا أو ضاحكا ساخرا! ... إن مسة حزن تلذع فلذة من كبده خليقة بأن تنغص العيش كله، وتطين وجه الحياة في عينيه، ولكم يسعده أن يجود بكل غال في سبيل إسعاد فتاتيه، سواء هذه التي يرى في وجهها الجميل وجه أمه، أو تلك التي لم تصب من الحسن إلا لونا شاحبا، كلتاهما من نبض قلبه وعصارة روحه، بيد أن الزوج الذي تقدمه حرم المرحوم شوكت لقية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فتى في الخامسة والعشرين، ذو دخل شهري لا يقل عن الثلاثين جنيها، حقا أنه ككثير من الأعيان لا عمل له، وحقا أن حظه من التعليم ضئيل لا يتعدى معرفة القراءة والكتابة، ولكنه يتصف بجملة من خلال أبيه في الطيبة وكرم الأخلاق، ما عسى أن يفعل؟ ... يجب أن يحسم أمره؛ لأنه لم يألف التردد ولا الشورى، ولا يقبل أن يبدو أمام أهله - ولو لحظة قصيرة - كمن لا رأي قاطعا له، ألا يشاور خاصته المقربين؟ إنه لا يرى غضاضة في مشاورتهم كلما جد أمر، والواقع أن سمرهم يبدأ عادة بمناقشة الهموم والمشاكل قبل أن تطير بهم الخمر إلى الدنيا التي لا تعترف بالهموم والمشاكل، ولكنه قدر ما يستبد في باطنه برأيه فلا يحيد عنه؛ فهو من الذين يلتمسون في الشورى ما يؤيد رأيهم لا ما يعدل بهم عنه، ولكنها حتى في هذه الحال عزاء ومتنفس، ولما ضاق الرجل بأفكاره هتف قائلا: من يصدق أن ما بي من هم لا يحتمل ما هو إلا نتيجة لخير أكرمني به الله؟!
37
لم يكن لأمينة من عمل في أيام منفاها إلا الجلوس إلى جانب أمها والاسترسال في الحديث، في كل ما يخطر على البال من أحاديث تجاذبها الماضي البعيد والماضي القريب والحاضر، ما بين الذكريات العزيزة والمأساة الراهنة، ولولا عذاب الفراق وشبح الطلاق لاطمأنت إلى حياتها الجديدة كعطلة للاستجمام من عناء الواجبات أو كرحلة خيالية في عالم الذكريات. بيد أن مرور الأيام دون وقوع الشيء الذي تخاف وما بلغها من شفاعة أم مريم وحرم المرحوم شوكت لدى السيد، كل أولئك ثبت قلبها وروح عن نفسها، إلا أن زيارات الأبناء المسائية التي لم تنقطع يوما واحدا طلت جوى صدرها بنفحات أمل متجددة. ومع أن الزمن الذي يتغيبونه عنها في البيت الجديد لم يزد كثيرا عن نظيره في البيت القديم - في كلتا الحالتين لم تكن تجتمع بهم إلا حين فراغهم في جلسة المساء - إلا أنها باتت تشتاق إليهم اشتياق المغترب في بلد بعيد إلى أحباب فرق الدهر بينه وبينهم، اشتياق من حرم عليه تنفس جوهم والعيش بين ذكرياتهم، والإشراف على مواطن جدهم ولهوهم، كأن الجسم كلما قطع في طريق الفراق قيراطا كابده القلب أميالا، ودأبت العجوز على أن تقول لها كلما وجدت منها صمتا أو آنست في حديثها الشرود: الصبر يا أمينة، إني أرثي لحالك، الأم غريبة ما ابتعدت عن أبنائها، غريبة ولو حلت في البيت الذي ولدت فيه.
أجل إنها غريبة، كأنه ليس البيت الذي لم تعرف حياتها الأولى سواه موطنا، وكأنها ليست الأم التي لم تكن تطيق البعد عنها لحظة واحدة، لم يعد «بيتها» ما هو إلا منفى تنتظر بين جدرانه على لهف العفو من السماء. وجاء العفو بعد طول انتظار، حمله الأبناء ذات مساء، دخلوا عليها وفي أعينهم لمعة كسنا البرق خفق لها فؤادها خفقة اهتز لها الصدر كله، حتى أشفقت من أن تكون ذهبت في تأويلها إلى أبعد مما تحتمل، ولكن كمال جرى نحوها وتعلق بعنقها، ثم هتف بها وهو لا يتمالك نفسه من الفرح: البسي ملاءتك وهيا بنا.
وقهقه ياسين قائلا: جاء الفرج (ثم هو وفهمي معا) دعانا أبي وقال لنا: اذهبا، فعودا بأمكما.
وغضت بصرها لتداري فرحتها الغامرة. ما أعجزها عن كتمان ما يضطرب في نفسها من شتى العواطف، كأن وجهها مرآة شديدة الحساسية لا تترك كبيرة ولا صغيرة مما في أعماقها إلا سجلته، لشد ما ودت أن تتلقى النبأ السعيد بهدوء خليق بأمومتها، ولكن الفرح استخفها فضحكت أساريرها ونطقت بابتهاج صبياني، وفي نفس الوقت تولاها حياء لم تدر له سببا، وطال جمودها في مكانها، فنفد صبر كمال فشدها من يدها راميا بثقله إلى الوراء، حتى طاوعته ناهضة، ووقفت قليلا في ارتباك غريب، وما تدري إلا وهي تلتفت إلى أمها متسائلة: أذهب يا أمي؟
بدا السؤال الذي ند عنها - في نغمة الارتباك والحياء - غريبا، فابتسم فهمي وياسين، ودهش كمال وحده فيما يشبه الانزعاج، وراح يؤكد لها نبأ العفو الذي جاءوا به، أما الجدة فقد شعرت بشعورها كله، وحدست باطنها فرق قلبها، وتحاشت أن تظهر الإنكار لسؤالها ولو بابتسامة خفيفة، وقالت بلهجة جدية: إلى بيتك مصحوبة بسلامة الله.
فذهبت أمينة لترتدي ملاءتها وتصر ثيابها وكمال في أعقابها، وهنا خاطبت الجدة الشابين متسائلة بلهجة انتقادية خففتها بابتسامة رقيقة: أما كان الأخلق بأبيكما أن يأتي بنفسه؟!
فأجابها فهمي كالمعتذر قائلا: أنت أدرى يا جدتي بطبع أبينا.
على حين قال ياسين ضاحكا: فلنحمد الله على ما كان!
فهمهمت الجدة بأصوات غير مفهومة ثم تنهدت قائلة كأنما ترد على همهمتها: على أي حال السيد أحمد رجل ولا كل الرجال.
وغادروا البيت ودعاء الجدة لهم بالبركة يتردد في آذانهم، وقطعوا الطريق لأول مرة في حياتهم، حتى بدا المنظر في أعينهم بالغا في غرابته، فتبادل فهمي وياسين نظرات باسمة. وتذكر كمال يوم سار - كما يسير الآن - ممسكا بيد أمه يقودها من عطفة إلى عطفة، ثم ما تلا ذلك من آلام ومخاوف لا يحيط بها الكابوس نفسه، فتعجب طويلا، بيد أنه تناسى سريعا أحزان الماضي في فرحة الساعة، ووجد من نفسه ميلا للدعابة، فقال لأمه ضاحكا: تعالي نخطف أرجلنا إلى سيدنا الحسين!
فضحك ياسين بلهجة ذات معنى: رضي الله عنه، إنه شهيد يحب الشهداء.
ولاحت لهم المشربية وشبحان يتحركان وراء خصاصها فهفا قلب الأم إليهما في حنو واشتياق، ثم وجدت وراء الباب أم حنفي في استقبالها، فغمرت يدي سيدتها بالقبل، والتقت في فناء الدار بخديجة وعائشة اللتين تعلقتا بها كالأطفال، ورقوا السلم في مظاهرة صاخبة، ونشوة من الفرح مطربة، حتى استقروا جميعا في حجرتها، فتبادروا إلى نزع ملابسها - رمز الفراق البغيض - وهم يضجون بالضحك، فلما جلست بينهم كانت تلهث من الانفعال والتأثر، وأراد كمال أن يعبر عن فرحه بها، فلم يجد خيرا من أن يقول لها: هذا اليوم أعز عندي من المحمل نفسه!
واجتمع شمل الأسرة لأول مرة منذ زمن غير يسير في مجلس القهوة، فعادوا إلى السمر في جو من المسرة ضاعف من بهجته ما سبقه من أيام فراق وكآبة تزداد لذة اليوم الدفيء يجيء في أعقاب أسبوع من الزمهرير، ولم تنس الأم - التي استيقظت غرائزها رغم فرحة اللقيا - أن تسأل الفتاتين عن شئون البيت متدرجة من حجرة الفرن حتى اللبلاب والياسمين، كما سألت كثيرا عن الأب، وكم سرها أن تعلم أنه لم يسمح لأحد بمعاونته عند خلع ملابسه أو عند ارتدائها، فمهما يكن من أمر الراحة التي تهيأت له في غيابها، فثمة تغيير قد طرأ على نظام حياته حمله بلا ريب عناء سيزول بعودتها، عودتها التي تكفل له - وحدها - الحياة التي يألفها ويرتاح إليها! الشيء الوحيد الذي لم يخطر لأمينة على بال أن تكون بعض القلوب السعيدة بعودتها قد وجدت في هذه العودة بالذات مبررا لاجترار الحزن والأسى! ولكن هكذا كان، فهذه القلوب التي شغلت بحزن الأم عن أحزانها عادت إلى التفكير في أشجانها بعد أن اطمأنت على سلامة الأم كالمغص الشديد الطارئ ننسى به رمدا مزمنا حتى إذا ذهب عادتنا آلام الجفون، عاد فهمي يقول لنفسه: «لكل حزن - فيما يبدو - نهاية، هذه أمي قد رفع عنها الهم، ولكن حزني يبدو كأن لا نهاية له.» ورجعت عائشة إلى أفكارها التي لا يطلع على سرها أحد، تتراءى لها الأحلام وتلم بها الذكريات، وإن عدت بالقياس إلى أخيها أهدأ حالا، وأسرع إلى النسيان خطوة، ولكن أمينة لم تكن تقرأ الأفكار فلم ينغص عليها صفوها منغص، ولما آوت إلى حجرتها ليلا تبين لها أن النوم لا يجد متسعا في نفسها التي أفعمها الفرح فلم تذقه إلا لماما، حتى انتصف الليل، فغادرت الفراش إلى المشربية تنتظر كعهدها مسرحة البصر من خصاص النوافذ إلى الطريق الساهر، حتى جاءت العربة تتهادى حاملة بعلها إلى بيته، خفق قلبها بشدة، وتورد وجهها حياء وارتباكا، كأنها ستلقاه لأول مرة، وكأنها لم تفكر طويلا في هذه اللحظة ... لحظة اللقاء المنتظر، كيف تقابله؟ كيف يعاملها بعد هذه الغيبة الطويلة؟ ... ما عسى أن تقول له أو يقول لها؟ لو يسعها أن تتصنع النوم! ولكنها لا تجيد التمثيل قط، ولا تطيق أن يدخل عليها وهي مستلقية، بل لا يسعها أن تهمل واجب الخروج إلى السلم بالمصباح لتضيء له، وأكثر من هذا كله أنها بعد ظفرها بالعودة، وزوال السخط عنها - شاعت أريحية الرضا في قلبها، فعفت عما سلف، بل وحملت نفسها الذنب كله، حتى رأت بعلها - بالرغم من أنه لم يعن بالذهاب إلى بيت أمها لمصالحتها - حقيقا بالاسترضاء، فتناولت المصباح ومضت إلى السلم، ومدت ذراعها من فوق الدرابزين، ووقفت تتابع وقع القدمين المقتربتين بفؤاد خافق حتى صعد إليها، لقيته برأس مطأطأ فلم تر وجهه عند اللقاء، ولم تدر أي تغير طرأ عليه حين مرآها، حتى سمعته يقول لها بلهجة طبيعية لا أثر فيها من الماضي القريب الأسيف: مساء الخير.
فغمغمت: مساء الخير يا سيدي.
وذهب إلى الحجرة وهي في أثره رافعة يدها بالمصباح، وبدأ يخلع ملابسه صامتا، فتقدمت منه لمعاونته، وباشرت عملها وقلبها يردد أنفاس الراحة. ومع أنها ذكرت صباح القطيعة المشئوم حين نهض لارتداء ملابسه، وقال لها بجفاء: «سأرتدي ملابسي بنفسي.» إلا أن ذكراه خطرت عارية عن أحاسيس الألم واليأس التي غشيتها وقتذاك، وشعرت وهي تتعهده بهذه الخدمة التي لم يسمح بها لسواها بأنها تسترد أعز ما تملك في الوجود. واتخذ مجلسه على الكنبة فتربعت على الشلتة عند قدميه دون أن ينبس أحدهما بكلمة، وكانت تتوقع أن يشيع «الماضي الأسيف» بكلمة، نصيحة أو تحذير أو ما شابه ذلك، وعملت لذلك ألف حساب، ولكنه سألها ببساطة: كيف حال أمك؟
فأجابته وهي تتنهد بارتياح: بخير يا سيدي وتهديك التحية والدعاء.
ومضت فترة صمت أخرى قبل أن يقول فيما يشبه عدم الاكتراث: حرم المرحوم شوكت فاتحتني برغبتها في اختيار عائشة زوجا لخليل.
فرفعت إليه أمينة عينيها في دهشة ناطقة بأثر المفاجأة، ولكنه هز كتفيه استهانة، وكأنما خاف أن تدلي برأي يتفق أن يكون موافقا لقراره الذي لم يعلم به أحد، فتقوم عندها شبهة ظن بأنه أخذ برأيها فسبق قائلا: فكرت في الأمر طويلا، فانتهى بي التفكير إلى الموافقة، لا أريد أن أعترض حظ البنت أكثر مما فعلت، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
38
تلقت عائشة البشرى بفرح جدير بفتاة تستشرف حلم الزواج منذ الصبا الباكر لا يشغلها عنه شاغل، وكادت لا تصدق أذنيها حين زف إليها الخبر، هل حقا وافق أبوها؟ هل بات الزواج حقيقة قريبة لا حلما ذا دعابات قاسية؟ ... لم يكن قد فات على الخيبة التي منيت بها إلا قرابة أشهر ثلاثة، ومع أن وقعها في نفسها كان شديدا قاسيا، إلا أنه مضى يخف ويهون مع الأيام، حتى أمسى ذكرى شاحبة تستثير - إذا استثيرت - حزنا رقيقا غير ذي خطورة، كل شيء في هذا البيت يخضع خضوعا أعمى لإرادة عليا ذات سيطرة لا حد لها هي بالسيطرة الدينية أشبه، حتى الحب نفسه - بين جدرانه - يسترق خطاه إلى القلوب في حياء وتردد وعدم ثقة بالنفس، فلا يتمتع بما يتمتع به عادة من سطوة واستبداد، إذ لا استبداد هنا إلا لتلك الإرادة العليا؛ ولذلك فعندما قال الأب: «لا» استقر قوله في أعماق نفسها، وآمنت الفتاة إيمانا راسخا أن كل شيء قد انتهى حقا، لا مهرب ولا مراجعة ولا رجاء بنافع، كأن «لا» هذه حركة كونية كاختلاف الليل والنهار، غير مجد أي اعتراض عليها، ولا محيد عن اتخاذ موقف موافق لها، وعمل هذا الإيمان من ناحيته - بشعور وبغير شعور منها - على إنهاء كل شيء فانتهى. على أنها تساءلت فيما بينها وبين نفسها: إذا كانت الموافقة على زواجها قد تمت، ولما ينقض على الرفض السابق ثلاثة أشهر، فلم تكن من نصيب الشاب الذي هفا الفؤاد إليه؟ ... ألا ينطوي حظها السعيد نفسه - تبعا لذلك - على معاكسة غير مفهومة؟ بيد أنه تساؤل ظل في طي الكتمان، لم يطلع عليه أحد ولا أمها نفسها؛ لأن إعلان الفرح بالعريس - كشخصية معنوية فحسب - عد استهتارا يجافي الحياء، فما بالك بإظهار الرغبة في رجل بالذات! ولكن بالرغم من هذا كله، وبالرغم من أن العريس الجديد كان مجهولا لديها إلا فيما حدثت عنه أمه في جملة حديثها عن أسرتها، فقد سعدت بالبشرى أيما سعادة، ووجدت عواطفها الظامئة قطبا تنجذب إليه في هيمانها، كأن حبها نوع من «القابلية» أكثر منه تعلقا برجل بالذات، فإذا استبعد رجل وحل محله آخر ظفرت قابليتها بما يشبعها، ومضى كل شيء في سبيله، وقد يكون رجل آثر عندها من آخر، ولكن ليس إلى الحد الذي يفسد معه طعم الحياة، أو يدفع إلى التمرد والعصيان، ولما طابت نفسا ورف قلبها رفيف الغبطة انبعث منها نحو أختها - كشأنها في مثل هذه الحال - عطف ورحمة غير مشوبين، فودت لو أنها سبقتها إلى الزواج، وقالت لها بين الاعتذار والتشجيع: وددت لو تقدمتني إلى بيت الزوجية! ... ولكنها القسمة والنصيب، وكل آت قريب.
ولكن خديجة - التي تضيق عند الهزيمة بعزاء العطف - تلقت قولها بامتعاض شديد لم يخف عليها. وقبل ذلك اعتذرت لها أمها قائلة برقتها وحيائها المعهودين: تمنينا جميعا أن يكون دورك السابق، وعملنا على هذا أكثر من مرة، ولكن لعل عنادنا فيما ليس لنا فيه من حيلة هو الذي عاق حظك إلى اليوم، فلندع الأمور تسير كما يشاء الله، وكل تأخيرة فيها خيرة.
ووجدت من ياسين وفهمي نفس العطف يبديانه تارة بالكلام المباشر، ويصدران عنه تارة أخرى فيما يحيطانها به من مجاملة حلت - ولو إلى حين - محل المزاح القارص الذي كان مألوفا بينها وبينهما أو بينها وبين ياسين خاصة، الحق أنه لم يعدل حزنها على سوء حظها إلا نرفزتها من العطف الشائع في جوها لا لنفور من العطف مركب في طبعها، ولكن لأن مثلها مثل المصاب بالأنفلونزا يضار بالتعرض للهواء الطلق الذي ينعشه عادة وهو صحيح، فما كانت تأبه لعطف تعلم أنه بديل غير مجد لأمل ضائع، ولعلها ارتابت - إلى هذا كله - في البواعث التي تدفعهم إلى إغداق العطف عليها، ألم تكن أمها الواسطة دائما بين الخاطبات وبين أبيها؟ فمن يدريها أنها كانت تقوم بالوساطة أداء لواجب ربة البيت، لا سعيا وراء رغبة خفية في تزويج عائشة؟! أوليس فهمي هو الذي حمل رسالة ضابط قسم الجمالية؟ ... ألم يكن بوسعه أن يعدل به عن رأيه من وراء وراء؟!
أوليس ياسين ... ولكن بأي وجه تلوم ياسين وقد خانها من هو أقرب منه إليها؟ ... فأي عطف هذا؟! بل أي رياء وأي كذب! لذلك برمت بالعطف، وذكرت به الإساءة لا الإحسان، فامتلأت حنقا وامتعاضا ولكنها طوتهما في الأعماق أن تظهر بمظهر الكاره لسعادة أختها، أو تعرض نفسها - هكذا صور لها سوء ظنها - لشماتة الشامتين، على أنه لم يكن لها محيد عن كتمان عواطفها؛ لأن الكتمان في هذه الأسرة - خاصة فيما يتعلق بالعواطف - عادة متأصلة وضرورة أخلاقية طبعت عليه في ظل الإرهاب الأبوي، وبين الحنق والامتعاض من ناحية، والكتمان والتظاهر بالرضا من ناحية أخرى لاقت من حياتها عذابا متصلا وجهدا مطردا. وأبوها؟! ماذا عدل به عن رأيه القديم؟! أهانت عليه بعد إعزاز؟! هل نفد صبره في انتظار زواجها فقرر التضحية بها وتركها للأقدار؟! لشد ما تعجب لتخليهم عنها كأنها شيء لا يكون، نسيت في ثورتها مواقفهم السابقة في الدفاع عنها، فلم تذكر إلا «خيانتهم» الأخيرة، على أن غضبتها العامة هذه لم تكن شيئا بالقياس إلى ما تجمع في صدرها نحو عائشة من مشاعر الغيرة والحنق! كرهت سعادتها، وكرهت أكثر مداراتها لهذه السعادة، وكرهت جمالها الذي بدا في عينيها أداة تنكيل وتعذيب كما يبدو البدر الساطع في عين المطارد، ثم كرهت الحياة التي لم تعد تدخر لها إلا اليأس، وتتابعت الأيام لتزيدها حزنا على حزن بما حملت إلى البيت من هدايا العريس ونفحاته، وبما نشرت في الجو كله من بواعث الغبطة والفرح، فوجدت نفسها في غربة موحشة تتوالد فيها الأشجان كما تتوالد الحشرات في البركة الآسنة، ثم شرع السيد في تجهيز العروس فاستأثر حديث الجهاز بجلسات الأسرة المسائية، تعرض عليها أنواع من الأثاث والثياب فتطري شيئا وتعرض عن شيء، توازن بين لون ولون، في اهتمام نسوا فيه الشقيقة الكبرى، وما يجب لها من عزاء ومجاملة، وحتى هي نفسها اضطرت - مجاراة لما تتظاهر به من رضا - إلى المشاركة في نشاطهم وحماسهم ومناقشاتهم التي لا تنتهي، بيد أن هذا الموقف العاطفي المعقد، الذي يبدو لعين الغريب عن الأسرة كنذير شر لا تحمد عواقبه، تغير فجأة حين اتجه التفكير إلى تفصيل ثياب العروس؛ وبالتالي حين تعلقت الأبصار بخديجة، وتركز فيها الاهتمام كله والأمل كله. وقد توقعت هذا الواجب كأمر لا مفر منه، يحنقها قبوله أشد الحنق ولا يسعها رفضه وإلا فضحت خبيئتها، ولكنها حين تطلعت إليها الأبصار، فأوصتها أمها بأختها خيرا، ورنت إليها شقيقتها بعين ملؤها الحياء والرجاء، وقال فهمي لعائشة على مسمع منها: «لن تكوني عروسا حقا حتى تحيك لك خديجة ثياب العرس.» وقال ياسين معلقا على قوله: «صدقت ... هذه الحقيقة فوق الجدل.» حين حدث هذا كله فتر حنقها وعقل ثورتها الحياء، فطفت عواطفها الطيبة المطمورة، كما يستخرج الماء العذب الأخضر من البذور الكامنة تحت الطين، ولم ترتب في بواعث هذا الاهتمام كما ارتابت من قبل في بواعث العطف «الزائف» لشعورها بصدقه من ناحية، ولأنه اتجه إلى براعتها التي لا شك فيها من ناحية أخرى. فكأنه اعتراف جامع بأهميتها وخطورة شأنها، وبأن هذه السعادة - التي أبت أن تكون من نصيبها - لن تستكمل عناصرها حتى تسهم هي فيها، فاستقبلت العمل الجديد بنفس تخففت إلى أقصى حد ممكن من انفعالاتها السوداء، إن الانفعالات السوداء تلم بأنفس هذه الأسرة كما تلم بغالبية البشر، ولكنها لا تظفر منها بقلب أسود فترسب فيه وتستقر. منهم من قابليته للغضب كقابلية الكحول للاشتعال، ولكن سرعان ما يسكت عنهم الغضب فتصفو نفوسهم وتعفو قلوبهم كأيام من شتاء مصر يطلخم سحابها حتى تمطر رذاذا، وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى تنقشع السحب عن زرقة صافية وشمس ضاحكة. لا يعني هذا أن خديجة نسيت أحزانها ولكن السماحة صفتها من الضغينة والحقد، ويوما فيوما لم تعد تعتب على عائشة، ولا على أحد من أهلها بقدر ما عتبت على بختها، حتى نصبته في النهاية هدفا لامتعاضها وتذمرها، ذلك البخت الذي قتر عليها في الحسن وأجل زواجها حتى جاوزت العشرين، وكدر غدها بالقلق والمخاوف، واستسلمت أخيرا - كأمها - للمقادير. عجز جانبها الحامي الموروث عن أبيها، كما عجز جانبها المعقد المكتسب من موقفها حيال بيئتها، عن معالجة حظها العاثر، فوجدت السلامة في أن تلوذ بالجانب السلمي الموروث عن أمها فاستسلمت للمقادير؛ كالقائد الذي تعييه الحيل عن بلوغ الهدف فيختار موقعا ذا حصانة طبيعية ليثبت فيه فلوله، أو يدعو إلى الصلح والسلام. وراحت تشكو بثها في الصلاة ومناجاة الرحمن، والحق أنها كانت - منذ صباها - تجاري أمها في تدينها ومحافظتها على الفرائض بمثابرة دلت على يقظة عاطفتها الدينية، لا كعائشة التي تلم بالعبادة في نوبات حماسية متباعدة، ولا تطيق المداومة عليها، وطالما تعجبت خديجة - وهي بمعرض المقارنة بين حظها وبين حظ أختها - من سوء الجزاء الذي تثاب على إخلاصها، وحسن الجزاء الذي تثاب به الأخرى على تهاونها ... «إني أحافظ على الصلاة أما هي فلم تطق المحافظة عليها يومين متتاليين، وإني أصوم رمضان كله وأما هي فتصوم يوما أو يومين، ثم تتظاهر بالصوم على حين تنسل خفية إلى المخزن، فتملأ بطنها بالنقل حتى إذا أطلق مدفع الإفطار هرعت إلى المائدة قبل الصائمين!» ... وحتى من ناحية الجمال لم تسلم لعائشة بدون قيد ولا شرط، نعم إنها لم تجهر برأيها لأحد، بل لعلها تؤثر كثيرا أن تهاجم نفسها بنفسها لتقطع الطريق على المتحفزين، ولكنها كانت تطيل النظر إلى وجهها في المرآة، وتناجي نفسها قائلة: «عائشة جميلة بلا شك ولكنها نحيلة، السمانة نصف الجمال، أنا سمينة، واكتناز وجهي يكاد يغطي على كبر أنفي، لم يبق إلا أن يشد بختي حيله.» على أنها فقدت ثقتها بنفسها في الأزمة الأخيرة، ومع أنها عاودت كثيرا تلك المناجاة عن الجمال والسمانة والبخت، إلا أنها عاودتها هذه المرة لتذري - أمام نفسها - إحساسها المقلق بعدم الثقة كما نلجأ أحيانا إلى المنطق؛ لنستمد منه الطمأنينة على أمور - كالصحة والمرض والسعادة والشقاء والحب والكراهية - لا تمت إلى المنطق بسبب.
ولم تنس أمينة - رغم كثرة مشاغلها كأم العروس - خديجة، أو أن فرحها للعروس كان يذكرها بحزنها على أختها، كما تذكرنا الراحة التي نحظى بها بفعل مخدر بالألم الذي سيعاودنا بعد حين، وكأن زواج عائشة قد أثار مخاوفها القديمة عن خديجة، فأرسلت - التماسا للطمأنينة من أي سبيل - أم حنفي إلى الشيخ رءوف بالباب الأخضر حاملة منديل خديجة ليقرأ طالعها. وعادت المرأة بنوع من البشرى فقالت لسيدتها إن الشيخ قال لها: «ستحملين إلي رطلين من السكر عما قريب.» ومع أنها لم تكن أول بشرى من هذا النوع تزف إليها عن خديجة، إلا أنها أملتها خيرا، ورحبت بها كمسكن للقلق الذي لا يزايلها.
39 «ألم يئن الأوان يا بنت المركوب؟! ذبت يا مسلمين، ذبت كالصابونة ولم يبق منها إلا رغوة، هي تعلم بهذا ولا تريد أن تفتح النافذة، تدللي ... تدللي يا بنت المركوب، ألم نتفق على هذا الميعاد؟ ولكن لك حق ... فردة ثدي من صدرك تكفي لخراب مالطة ... وفردة تالية تطير مخ هندنبرج، عندك كنز، ربنا يلطف بي، ربنا يلطف بي وبكل مسكين مثلي يؤرقه الثدي الناهد والعجيزة المدملجة والعين المكحولة، العين المكحولة في الآخر، إذ رب ضريرة ريا الروادف كاعب الثديين خير ألف مرة من عجفاء مسحاء مكحولة العينين، يا بنت العالمة وجارة التربيعة ... تلك لقنتك أصول الدلال وهذه تمدك بأسرار الجمال؛ لهذا ينهد ثدياك من كثرة من عبث بهما من العشاق، اتفقنا على الميعاد لست أحلم، افتحي النافذة، افتحي يا بنت المركوب، افتحي يا أجمل من اقشعرت لها سرتي، ومص الشفة ورضع الحلمة، لأنتظرن حتى مطلع الفجر، ستجدينني طوع بنانك، إن أردت أن أكون مؤخر عربة الكارو التي تتأرجحين عليه أكنه، إن أردت أن أكون الحمار الذي يجر العربة أكنه، يا وقعتك يا ياسين، يا خراب بيتك يا بن عبد الجواد، يا شماتة الأستراليين فيك ... يا أنا يا طريد الأزبكية وحبيس الجمالية، الحرب يا هوه، شنها غليوم في أوروبا، ورحت ضحيتها أنا في النحاسين، افتحي النافذة يا روح أمك، افتحي يا روحي أنا ...» هكذا جعل ياسين يحادث نفسه وهو جالس على الأريكة بقهوة سي علي، وعيناه تتطلعان إلى بيت زبيدة العالمة خلل الكوة المطلة على الغورية، كلما شكه الجزع غرق في أحلامه وخواطره، فترفه جزعه وتهيج أشواقه معا، كبعض المنومات الطبية التي تعالج الأرق وتتعب القلب، كان قد تقدم خطوة موفقة في مغازلة زنوبة العوادة مغازلة خرج بها من دور التحضير - ملازمة قهوة سي علي مساء، والنظر والسير وراء عربة الكارو والابتسام وفتل الشارب وتلعيب الحاجب - إلى دور المفاوضة والتأهب للعمل. حدث ذلك في عطفة التربيعة الطويلة الضيقة المسقوفة بالخيش الملتوية ذات الدكاكين الصغيرة المتلاصقة على الجانبين كخلايا النحل. ولم تكن التربيعة بالجديدة عليه، كيف وهي سوق النسوان من جميع الطبقات يتقاطرن عليها لابتياع ما خف حمله وجلت فوائده من مختلف صنوف العطارة ذوات البهجة والجمال والنفع، فهي هدفه كلما خلا طريقه من هدف يجذبه إليه، وهي مراحه صباح الجمعة يقطعها متمهلا - بحكم الزحمة والرغبة معا - من طرف إلى طرف كأنما يستعرض الدكاكين لانتقاء حاجة، وهو في الحقيقة يتصفح الوجوه والأجسام وما تنحسر عنه البراقع وما تضيق به الملاءات، ما يرى جملة وما يرى تفصيلا، ما يسطع هنا وهناك من روائح زكية، ما يند من حين لآخر من أصوات أو يوسوس من ضحكات، ملتزما عادة حدود الأدب لغلبة العناصر الطيبة على الزائرات، قانعا بالمشاهدة والموازنة والنقد، لاقطا من المرئيات صورا ممتازة يزين بها متحف ذاكرته، فلا يفوق سعادته إذا ظفر بلون بشرة صاف لم يره من قبل، أو بلحظ عين لم يتعرض لمثله، أو لثدي عجيب في نهوده، أو لعجيزة خرقت المألوف في ضخامتها أو حسن تكوينها، فيرجع مرة وهو يقول: «فاز بالسبق اليوم نهد الست التي كانت واقفة أمام الدكان الفلاني.» أو «هذا يوم الكفل الرابي رقم 5» أو «يا لها من حقيبة ويا لها من حقيبة ... هذا يوم الحقائب المشرقة.» إذ تأدى به مزاجه إلى التهالك على جسم المرأة متجاهلا شخصيتها، ثم إلى تركيز العناية في أجزاء من الجسم متجاهلا جملته، وكأنه في هذا كله ينعش آماله ويجددها أبدا كرجل لا يقدم على النسوان غاية في دنياه عند الفرص المحتملة المدخرة ليوم أو لغد، إلى ما يسنح له في هذه الجولات الجنسية من صيد طيب في أحوال نادرة، ففي ذات أصيل - وهو بمجلسه تحت الكوة بقهوة سي علي - رأى العوادة تغادر البيت بمفردها، فنهض من توه وتبعها، ومالت إلى عطفة التربيعة فمال وراءها، ثم وقفت أمام دكان فوقف إلى جانبها، وانتظرت حتى يفرغ العطار من بعض الزبائن، فانتظر ولم تلتفت ناحيته، فاستدل بذاك «التجاهل» على أنها فطنت لوجوده - كما لا بد أن تكون حدست متابعته لها من بادئ الأمر - فهمس قريبا من أذنها «مساء الخير»، فواصلت النظر إلى الأمام إلا أنه لمح بجانب فيها انحراف ابتسامة ردا لتحيته، أو مكافأة له على طول متابعته لها مساء بعد مساء، فتنهد تنهد الراحة والظفر مطمئنا إلى جني ثمرة صبره، فسال لعاب شهوته كما يتحلب ريق الجائع النهم إذا تطايرت إلى أنفه رائحة الشواء الذي يهيأ له. ورأى عن حكمة أن يتظاهر بأنهما جاءا معا، فأدى ثمن مشترياتها من الحناء والمغات عن طيب خاطر خليق برجل يؤمن بأنه - بأداء هذا الواجب اللذيذ - يكتسب حقا ألذ وأمتع، غير مكترث لما بدا منها من الميل إلى الإكثار من المشتريات حين اطمأنت إلى أنه سيدفع الثمن. وفي طريق العودة قال لها بعجلة من يخاف وشك انتهاء الطريق: «يا ست الحسن والجمال قضيت العمر كما تشهدين وراءك، وجزاء المحب اللقاء فقط؟» فلحظته بنظرة شيطنة متسائلة في تهكم «اللقاء فقط؟» فكاد يضحك بروحه وجسمه كحاله إذا أخذته نشوة فرح، ولكنه بادر إلى إحكام إغلاق فيه أن يحدث ضجة تلفت الأنظار، وأجابها هامسا: «اللقاء ولوازمه!» فقالت بلهجة انتقادية: «الواحد منكم يطلب بكل بساطة «اللقاء » ... كلمة صغيرة ... ولكنه يعني بها عملا ضخما لا ينال عند بعض الناس إلا بالسؤال والشفاعة وقراءة الفاتحة والمهر والجهاز والمأذون، أليس كذلك يا حضرة الأفندي الذي يضاهي الجمل طولا وعرضا؟!» فتورد وجهه فيما يشبه الارتباك، وقال: «يا له من تأديب مهما يكن من قسوته فإنه من شفتيك كالشهد، أليس هكذا العشق يا ست الحسن مذ خلق الله الأرض ومن عليها؟» فقالت وهي ترفع حاجبيها حتى حاذيا طرف عروس البرقع، فبدت كيعسوب باسط جناحيه «ومن أدراني بالعشق يا جملي؟ ... لست إلا عوادة، ترى هل للعشق لوازم أيضا؟» فقال وهو يغالب الضحك: «هي ولوازم اللقاء شيء واحد.» «بلا زيادة ولا نقصان؟» «بلا زيادة ولا نقصان.» «لا واحدة طالعة ولا واحدة نازلة؟!» «لا واحدة طالعة ولا واحدة نازلة.» «لعلها التي يسمونها الزنا؟!» «بلحمه وعظمه!» فندت عنها ضحكة قالت: «اتفقنا ... انتظر حيث تنتظر كل مساء بقهوة سي علي، وعندما أفتح النافذة قم إلى البيت.» انتظر مساء ومساء ومساء، مساء خرجت مع الجوقة على الكارو، ومساء ذهبت مع العالمة في حنطور، ومساء لم يبد على البيت أثر للحياة، وها هو ينتظر وقد أعيا أعصاب رأسه طول النظر إلى الشباك. ومر موهن من الليل، فأغلقت الدكاكين وأقفر الطريق وشمل الغورية ظلام، ووجد - كما يقع له كثيرا - في إقفار الطريق وإظلامه مثارا غريبا لمكمن الشهوة في جسده، فازداد جزعا على جزع. بيد أنه لكل شيء نهاية حتى الانتظار الذي يبدو وكأن لا نهاية له، فترامى إليه من ناحية الشباك الغارق في الظلمة طقطقة نفخت في حواسه روح أمل جديد، كما تنبعث روح الأمل في نفس التائه في القطب إذا ترامى إلى سمعه أزيز الطيارة التي يحدس أنها جاءت للبحث عنه بين الثلوج، ولاحت فرجة يشع منها ضوء، ثم تنور شبح العوادة وسط الفرجة، فقام من فوره وغادر القهوة عابرا الطريق إلى بيت العالمة، ودفع الباب دون أن يطرقه، فانفتح كأن يدا رفعت مزلاجه، فمرق إلى الداخل ليجد نفسه في ظلمة دامسة لم يهتد معها إلى موقع السلم ، فلزم موقفه ليأمن الاصطدام أو العثار ووثب إلى رأسه سؤال لا يخلو من قلق: ترى أدعته زنوبة على غير علم من العالمة؟ وهل تبيح لها العالمة الاجتماع بعشاقها في بيتها؟ ولكنه أبرز لسانه استهانة؛ لأن رادعا لم يكن ليثنيه عن مغامرة، ولأن ضبط عاشق في بيت تقوم جدرانه على مهج العاشقين ليس مما تحاذر عواقبه. وانقطع عن التفكير حين لاح لعينيه ضوء شاحب يهبط من أعلى، ثم لمحه يترنح على الجدران التي وضحت رويدا، فتبين موقفه على بعد ذراع من أولى درجات السلم عن يمينه، وما عتم أن رأى زنوبة قادمة وبيدها مصباح، فمضى نحوها في سكرة من الشوق، وضغط في حنان على ساعدها امتنانا ورغبة، حتى ضحكت ضحكة رقيقة أوحت على رقتها بأنها لا تحاذر، وتساءلت بمكر: طال انتظارك؟
فمس سوالفه بأنامله وهو يقول بصوت شاك: شاب شعري الله يسامحك (ثم بصوت خافت) الست هنا؟
فحاكت صوته الخافت على سبيل المزاح، وقالت: نعم ... في خلوة مع رفيق قد الدنيا. - ألا تغضب إذا علمت بحضوري في هذه الساعة؟
فاستدارت وهي تهز منكبيها استهانة ورقيت الدرج وهي تقول: وهل أنسب من هذه الساعة لحضور عاشق مثلك؟ - إذن لا ترى بأسا في اجتماعنا ببيتها؟
فحركت رأسها حركة راقصة وقالت: لعلها ترى كل البأس في عدم اجتماعنا! - عاشت ... عاشت.
فاستطردت في لهجة تنم عن الفخر قائلة: لست عوادة فحسب، أنا بنت أختها، وهي لا تضن علي بغال ... تقدم بسلام.
ولما بلغا الدهليز جاءهما من الداخل صوت غناء لطيف يصاحبه عود ودف، فأنصت ياسين قليلا ثم تساءل: خلوة أم حفلة؟
فهمست في أذنه: خلوة وحفلة معا، عشيق السلطانة رجل صاحب طرب ومزاح، لا يطيق أن يخلو مجلسه ساعة من العود والدف والكأس والضحك ... وعقبى لك.
ومالت إلى باب ففتحته ودخلت وهو وراءها، ووضعت المصباح على كنصول، ثم وقفت أمام المرآة لتلقي نظرة فاحصة على صورتها، فتناسى ياسين زبيدة وعشيقها الطروب، وسدد عينيه المنهومتين إلى الجسم المشتهى، الذي بدا لناظريه متجردا عن الملاءة لأول مرة ، سددهما بقوة وتركيز وحركهما في أناة وتلذذ من فوق لتحت ومن تحت لفوق، ولكنه قبل أن ينفذ نية من عشرات النوايا التي اعتلجت في صدره، قالت زنوبة كأنما تصل ما انقطع من حديثها: رجل لا نظير له في لطفه وطربه، أما كرمه فحدث عنه من اليوم إلى الغد ... هكذا يكون العشاق وإلا فلا.
لم يغب عنه ما في إشارتها إلى «كرم» عشيق العالمة من معان، ومع أنه سلم من بادئ الأمر بأن غرامه الجديد سيفرض عليه ضرائب باهظة إلا أن تلميحها - الذي بدا له مبتذلا - ضايقه، فلم يسعه إلا أن يقول مدفوعا بغريزة الدفاع عن النفس: لعله رجل واسع الثراء!
فقالت وكأنها تجيبه على مناورته: الثراء شيء والكرم شيء آخر ... رب ثري بخيل.
فتساءل لا عن رغبة في المعرفة، ولكن تفاديا من الصمت الذي خاف أن يفضح استياءه: ترى من يكون هذا الرجل الكريم؟
فقالت وهي تدير عجلة المصباح لترفع فتيلته: إنه من حينا ولا بد أنك تسمع عنه ... السيد أحمد عبد الجواد ... - من؟!
فالتفتت نحوه دهشة لترى ما أفزعه، فألفته متصلب القامة جاحظ العينين، فسألته مستنكرة: ما لك؟
كان تلقي الاسم الذي نطقت به كأنه مطرقة هوت بعنف على يافوخه، فند عنه التساؤل في نبرات صارخة من الفزع وهو لا يدري، وغاب عما حوله لحظات مليئة بالذهول، ثم تراءى له وجه زنوبة في حالة من الدهشة والإنكار، فخاف افتضاح أمره وركز إرادته كلها في الدفاع عن موقفه، فعمد إلى التمثيل يداري به فزعه، فضرب كفا بكف كأنما لا يصدق ما قيل عن الرجل لظنه الوقار به، وتمتم مستغربا: السيد أحمد عبد الجواد! ... صاحب دكان النحاسين؟
فحدجته بنظرة انتقاد مر لإزعاجها بلا سبب، وسألته مستهزئة: نعم هو ... فلماذا استصرخك كأنك عذراء تفض بكارتها؟
فضحك ضحكة آلية، وقال كالداهش وهو يحمد الله في سره على أنه لم يذكر لها اسمه كاملا يوم التعارف: من يصدق عن هذا الرجل الوقور الورع؟!
فرمته بنظرة ارتياب، ثم قالت ساخرة: أهذا ما أفزعك حقا؟ ... ولا شيء غيره؟! أظننته من المعصومين؟ ... وماذا عليه من هذا؟ ... هل يكمل الرجل إلا بالعشق؟!
وقال بلهجة المعتذر: صدقت ... لا شيء يستحق الدهش في هذه الدنيا (ثم ضاحكا في عصبية) تصوري هذا الرجل الوقور وهو يطارح السلطانة الغرام ويشرب الخمر ويطرب للغناء!
فقالت وكأنها تكمل حديثه بنفس لهجتها الساخرة: ويلعب بالدف بيد ولا يد عيوشة الدفافة، وينثر النكات كالدرر فيقتل من حوله ضحكا، وليس عجبا - بعد هذا كله - أن يرى في دكانه مثالا للجد والوقار ... فالجد جد واللهو لهو، وساعة لربك وساعة لقلبك.
يلعب بالدف بيد ولا يد عيوشة الدفافة! ... ينثر النكات فيقتل من حوله ضحكا! ... من عسى أن يكون هذا الرجل؟!
أبوه السيد أحمد عبد الجواد؟! الصارم الجبار الرهيب التقي الورع؟! الذي يقتل من حوله رعبا؟!
كيف يصدق ما سمعت أذناه؟! كيف، كيف؟! ... ألا يكون ثمة تشابه في الأسماء وأن لا علاقة بين أبيه وبين هذا العاشق الدفاف؟! ولكن زنوبة وافقت على أنه صاحب دكان «النحاسين»، وليس في النحاسين من دكان تحمل هذا الاسم إلا دكان أبيه! ... رباه هل ما سمعه حقيقة أو أنه يهذي؟! لشد ما يود أن يطلع على الحقيقة بنفسه، أن يرى بعينيه دون وسيط، رغبة تملكته لحظتئذ فبدا تحقيقها كأخطر شيء في الحياة ولم يستطع لها مقاومة، فابتسم إلى الفتاة وهو يهز رأسه هزة حكيم كأنما يقول: «يا لها من أيام كلها عجائب!» ثم سألها بلهجة من يدفعه حب الاستطلاع وحده: ألا أستطيع أن أراه من حيث لا يراني؟
فقالت معترضة: أمرك عجيب، وما الداعي إلى هذا التجسس؟!
فقال برجاء: منظر يستحق المشاهدة فلا حرمتني منه!
فضحكت باستهانة وقالت: عقل طفل في جسم جمل، أليس كذلك يا جملي؟ ... ولكن لا عاش من خيب لك رجاء ... انزو في الدهليز وسأدخل عليهما بطبق من الفاكهة تاركة الباب مفتوحا حتى أرجع.
وغادرت الحجرة، فتبعها على الأثر بفؤاد خافق وانزوى في ركن من الدهليز المظلم على حين تابعت العوادة سيرها إلى المطبخ، وبعد قليل عادت حاملة طبقا من العنب، فاتجهت إلى الباب الذي ينبعث منه الغناء فنقرت عليه، وانتظرت دقيقة ثم دفعته ودخلت دون أن تغلقه وراءها، هناك بدا مجلس الطرب في صدر الحجرة تتوسطه زبيدة محتضنة العود، وهي تلعب بالأوتار بأناملها وتغني: «يا مسلمين يا أهل الله» وعلى كثب منها جلس «أبوه» دون غيره - وقد اشتد خفقان قلبه لدى رؤيته - متجردا من جبته مشمرا عن ساعديه، راعشا الدف بين يديه، متطلعا إلى العالمة بوجه يقطر بشاشة وبشرا. لم يلبث الباب مفتوحا إلا ريثما رجعت زنوبة، دقيقة أو دقيقتين، ولكنه رأى فيهما منظرا عجبا، حياة غامضة، قصة طويلة عريضة، استيقظ في أعقابها كالذي يستيقظ من نوم طويل عميق على قلقلة زلزال عنيف، رأى في دقيقتين عمرا كاملا ملخصا في صورة، كمن يرى في حلم هنيهة صورة جامعة لأحداث شتى يستغرق وقوعها في عالم الحقيقة أعواما طويلة، رأى أباه حقا، أباه دون غيره من البشر، ولكن لا كما تعود أن يراه، فلم يسبق له أن رآه متجردا من جبته في جلسة مريحة منسابة مع سجيتها، ولا رأى شعره الفاحم ثائر الأطراف، كأنما جاء يعدو حاسر الرأس، ولا رأى ساقه العارية كما لاحت على حافة الديوان تحت ذيل القفطان المنحسر، ولا رأى - إي والله - الدف بين يديه يرعش باعثا شخشخته الراقصة المتقطع بالنقر الرشيق، ولا رأى - ولعله أعجب ما رأى - هذا الوجه الضاحك المتألق الريان بالود والصفاء الذي أذهله كما ذهل كمال من قبل حين رآه يضحك أمام الدكان يوم قصده مدفوعا برغبته في الإفراج عن أمه، رأى هذا كله في دقيقتين، ولما أغلقت زنوبة الباب وعادت إلى حجرتها، لبث بموقفه يستمع إلى الغناء وشخشخة الدف برأس دائر، نفس الصوت الذي استمع إليه حال دخوله البيت، ولكن أي تغير اعتور الأثر الذي ينطبع منه على نفسه، أي معان وصور جديدة ينقلها الآن إلى وجدانه كرنين جرس المدرسة يهش له الطفل إذا سمعه وهو غريب عنها، وينقلب في أذنيه نذيرا لمتاعب جمة إذا سمعه وهو ضمن تلاميذها، ونقرت زنوبة على الحجرة كأنما تدعوه ليلحق بها، فأفاق من غيبوبته ومضى إليها وهو يحاول أن يتمالك نفسه كي لا يبدو أمامها مضطربا أو ذاهلا، فدخل وعلى شفتيه ابتسامة عريضة. - هل أنساك نفسك ما رأيت؟
فقال بلهجة تشي بالرضا والارتياح: منظر نادر، وغناء بديع. - أتحب أن نفعل مثلهما؟ - في ليلتنا الأولى؟! ... كلا ... لا أحب أن أخلط بك شيئا آخر ولو كان الغناء نفسه!
ولئن تكلف بادئ الأمر الحديث ليبدو أمامها - وأمام نفسه على السواء - هادئا طبيعيا، فقد انتهى إلى الانهماك فيه بلا تكلف، ثم إلى استرداد حاله الطبيعية بأسرع مما قدر، كالذي يتصنع هيئة الباكي في مأتم فينخرط في البكاء. على أنه ربما عاودته الدهشة فجأة فيقول لنفسه: «أعجب بها من حال لم تخطر لي على بال من قبل، أنا هنا مع زنوبة وأبي في الحجرة القريبة مع زبيدة، كلانا في بيت واحد!» ولكنه سرعان ما يهز كتفيه، ويستطرد في حديثه مع نفسه «كيف أحمل نفسي مشقة العجب لوقوع شيء باعتباره بعيدا عن التصديق ما دمت ألمسه واقعا! إنه هناك فمن السخف أن أتساءل ذاهلا: هل يمكن تصديق هذا؟ فلأصدق ولا أتعجب ... وماذا عليه من هذا!» ولم يشعر إلى تفكيره بارتياح فحسب، ولكنه فرح فرحة فاقت كل تقدير، لا لأنه كان بحاجة إلى مشجع ليواصل حياته الشهوية، ولكن لأنه - كأكثرية الغارقين في الشهوات المحرمة - يستأنس إلى الشبيه، فكيف إن وجده في شخص أبيه - القدوة التقليدية - الذي طالما أزعجه، بشعور وبلا شعور منه، أن يجد نفسه وإياه على طرفي نقيض تناسى كل شيء إلا فرحته، كأنها أعز ما ظفر به في حياته، وشعر نحو أبيه بحب وإعجاب جديدين - غير الحب والإعجاب اللذين اكتسبهما قديما تحت ستار كثيف من الإجلال والخوف. حب وإعجاب ينبعان من أعماق النفس ويختلطان بجذورها الأولى، بل كأنهما وحب الذات والإعجاب بها شيء واحد، لم يعد الرجل بعيدا عزيز المنال مغلق الأبواب ولكن دانيا قريبا، قطعة من نفسه وقلبه، أبا وابنا، روحا واحدا، ليس الرجل الذي يرعش الدف في الداخل السيد أحمد عبد الجواد ، ولكنه ياسين نفسه، كما يكون وكما يجب أن يكون، وكما ينبغي أن يكون، لا يفرق بينهما إلا اعتبارات ثانوية من العمر والتجربة: «هنيئا لك يا والدي، اليوم اكتشفتك، اليوم عيد ميلادك في نفسي، يا له من يوم ويا لك من أب! لم أكن قبل الليلة إلا يتيما، اشرب واطرب والعب بالدف لعبا، ولا يد عيوشة الدفافة، إني فخور بك، هل تغني أيضا يا ترى؟» - ألا يغني السيد عبد الجواد أحيانا؟ - ألا زال فكرك مشغولا به؟! يا ويل الناس من الناس! ... بل يغني أحيانا يا جملي ... يشترك في الهنك إذا سكر. - وكيف صوته؟ - غليظ جميل كعنقه. «إلى هذا الأصل ترجع الأصوات التي تغني في بيتنا، الجميع يغنون، أسرة عريقة في الطرب، ليتني أسمعك ولو مرة، لا أحفظ لك في ذاكرتي إلا الزعق والنهر، غنوتك الوحيدة المشهورة بيننا «يا ولد - يا ثور - يا بن الكلب» أريد أن أسمع منك «الوداد في الملاح صدف» أو «حبيت يا جميل» كيف تسكر يا أبي؟ كيف تعربد؟ ينبغي أن أعرف لأحتذي مثالك وأحيي تقاليدك، كيف تعشق؟ كيف تعانق؟»
وانتبه إلى زنوبة فرآها أمام المرآة وهي تسوي أهداب شعرها بأناملها، وقد لاح إبطها من فرجة الفستان أملس ناصعا، يتصل منحدره بأصل نهد كقرصة العجين، فسرت في بدنه سكرة الهياج وانقض عليها كأنه فيل ينقض على غزال.
40
وقفت ثلاث سيارات تطوع بتقديمها بعض الأصدقاء أمام بيت السيد أحمد في انتظار العروس وحاشيتها لحملهن إلى بيت آل شوكت بالسكرية، كان الوقت أصيلا، وقد انحسرت أشعة شمس الصيف المائلة عن الطريق، واستقرت على البيوت المواجهة لبيت العروس. ولم تكن ثمة مظاهر تدل على عرس، اللهم إلا الورود التي ازينت بها أولى السيارات الثلاث، فلفتت أنظار أصحاب الدكاكين القريبة وكثير من المارة، ومن قبل ذلك اليوم تمت الخطبة ووردت الهدايا، ونقل الجهاز وعقد القران، فلم تنطلق من البيت زغرودة أو تعلق ببابه زينة، أو تشي بما يدور داخله علامة من علامات الأفراح المألوفة التي تفاخر الأسر بإعلانها في أمثال هذه المناسبات ، وتتعلل بسوانحها لتفصح عن مكنون حنينها للمسرة بالغناء والرقص والزغاريد، تم كل شيء في صمت وهدوء فلم يدر به إلا الأقارب والأصدقاء وخاصة الجيران، وأبى السيد أن يتزحزح عن تزمته، أو أن يسمح لأحد من آل بيته بأن يتزحزح عنه ولو ساعة واحدة، وفي ظل هذا الجو الصامت غادرت العروس والمدعوات البيت رغم احتجاج أم حنفي على الخرجة الصامتة، فمرقت عائشة إلى السيارة في سرعة خاطفة كأنما تخاف أن يشتعل فستان العرس أو قناعه الحرير الأبيض الموشى بالفل والياسمين تحت نظرات المتطلعين، وتبعتها خديجة ومريم وبعض الفتيات، واستقلت الأم وبعض النسوة من الأهل والجارات السيارتين الأخريين، على حين اتخذ كمال مجلسه إلى جانب سائق سيارة العروس. ورغبت الأم في أن يمضي الركب إلى السكرية عن طريق الحسين لتلقي نظرة جديدة على مقامه الذي كلفها الشوق إليه قبل ذلك غاليا، ولتستوهب صاحب المقام البركة لعروسها الحسناء، فاخترقت السيارات الطرق التي قطعتها هي ذلك اليوم مع كمال، ثم مالت إلى الغورية عند المنعطف الذي كادت تلقى فيه حتفها، حتى وقفت بهن عند بوابة المتولي أمام مدخل السكرية الذي يضيق عن دخول السيارات، وترجلن جميعا ودخلن العطفة فطالعتهن معالم الزينات، وهرع إليهن غلمان الحارة هاتفين، وتعالت الزغاريد من بيت آل شوكت، أول بيت إلى يمين الداخل - حيث ازدحمت نوافذه برءوس المطلات المزغردات، ووقف عند مدخله العريس خليل شوكت وشقيقه إبراهيم شوكت وياسين وفهمي، وتقدم خليل مبتسما من العروس، ومنحها ساعده فارتبكت ولم تبد حراكا حتى بادرت مريم إلى يدها فشبكتها بساعده، ثم سار بها إلى الداخل مارا بحذاء الفناء المزدحم والورد والملبس ينهال على أقدامها، وعلى أقدام من تبعنها من حاشية العروس، حتى واراهن باب الحريم، ومع أن قران عائشة بخليل تم قبل ذلك اليوم بشهر أو أكثر، إلا أن منظر اشتباكهما وسيرهما معا لاقى من ياسين وفهمي - والأخير خاصة - دهشة مقرونة بالحياء، وشعورا بالإنكار أشبه، كأن جو أسرتهما لا يهضم حتى طقوس حفلات الزفاف المشروعة، وبدا هذا الأثر بصورة أوضح عند كمال الذي جعل يجذب أمه من يدها في انزعاج وهو يشير إلى العروسين اللذين يتقدمان الجميع على السلم، كأنه يستعديها على دفع شر فظيع، وخطر للشابين أن يسترقا النظر إلى وجه أبيهما ليريا أي أثر تركه ذاك المنظر الفريد، فشملا المكان بنظرة سريعة ولكنهما لم يقفا له على أثر، لم يوجد عند المدخل، ولا فيما يلي هذا من فناء البيت الذي اصطفت به الأرائك والمقاعد وأقيمت في صدره منصة الغناء. والواقع أن السيد خلا إلى نفر من خاصة أصدقائه بمنظرة الفناء، فلم يفارقها مذ حل بالبيت مصمما على ألا يفارقها حتى ختام الليلة مبتعدا بنفسه عن «الجمهور» الصاخب خارجها، لم يكن أشد إحراجا لنفسه من الظهور بين آله في ليلة زفاف؛ إذ لا يرضى أن ينشر فوقهم رقابته في يوم خالص السرور، ولا يطيق من ناحية أخرى أن يشهد عن كثب انطلاقهم مع دواعي الفرح، وفضلا عن هذا وذاك لم يكن أكره لديه من أن يرى - بينهم - على غير ما عهدوا من وقار صارم، ولو كان الأمر بيده لتم الزفاف في صمت شامل ولكن حرم المرحوم شوكت وقفت من اقتراحه في هذا الشأن موقف معارض لا تلين صلابته، وأبت إلا أن تحييها ليلة حافلة، فاتفقت على إحيائها مع العالمة جليلة والمغني صابر، وبدا كمال لفرط ابتهاجه بما أتيح له من حرية وسرور كأنه عريس الليلة، وكان أحد أفراد قلائل أبيح لهم التنقل كيفما شاءوا بين الحريم في الداخل وبين مجلس الطرب في فناء الدار، لبث طويلا مع أمه بين النساء منقلا طرفه بين زيناتهن وحليهن مصغيا إلى دعاباتهن وأحاديثهن التي يستأثر الزواج بخلاصتها، أو منصتا معهن إلى العالمة جليلة التي تصدرت البهو كالمحمل ضخامة وزينة، وراحت تنشد الطقاطيق وتعاقر الشراب جهارا، فاستأنس إلى الجو الضاحك لغرابته وجاذبيته - والأهم من هذا كله - لوجود عائشة على حال من التبرج لم يحلم بها من قبل، وشجعته أمه على البقاء ليظل تحت رعايتها، بيد أنها عدلت عن موقفها بعد حين، واضطرت إلى أن تحثه همسا على الانتقال إلى مجلس أخويه لأمور لم تتوقع حدوثها. من ذلك ما بدا من اهتمامه بعائشة، بفستانها حينا وبزواقها حينا آخر، فخيف منه على هندامها، أو ما بدر منه من ملاحظات صبيانية صريحة نحو بعض السيدات، كما هتف بأمه مرة وهو يشير إلى امرأة من آل العريس قائلا: «انظري يا نينة إلى أنف هذه الست ... أليس أكبر من أنف أبلة خديجة؟» أو ما فاجأ به الجميع وجليلة تغني من الاشتراك مع التخت في ترديد «يمامة حلوة ... ومنين أجيبها» حتى دعته العالمة إلى الجلوس بين أفراد تختها، وبهذا وغيره جذب الأنظار إليه، فأخذت المدعوات في مداعبته، ولكن أمه لم ترتح إلى الضجة التي أثارها، وآثرت على كره منها - إشفاقا على البعض من عبثه وإشفاقا عليه من أعين المعجبات - أن تحمله على مغادرة المكان، انضم إلى مجلس الرجال، وتردد بين الصفوف، ثم وقف بين فهمي وياسين حتى ختم صابر دور «بس ليه تعشق يا جميل»، واستأنف تجواله حتى مر بالمنظرة، فأغراه حب الاستطلاع بالنظر إلى داخلها، فمد رأسه وما يدري إلا وعيناه تلتقيان بعيني والده، فتسمر في مكانه وعجز عن استردادهما، ورآه أحد أصدقاء أبيه - السيد محمد عفت - فناداه فلم يجد بدا من تلبية النداء ليتفادى من إغضاب أبيه، فتدانى من الرجل على كره وخوف، حتى وقف أمامه منتصب القامة مضموم الذراعين إلى جانبيه كأنه عسكري في طابور، وصافحه الرجل قائلا: ما شاء الله ... في أي سنة يا عم؟ - سنة ثالثة رابع. - عال ... عال ... سمعت صابر؟
ومع أنه كان يجيب على أسئلة محمد عفت، إلا أنه راعى من بادئ الأمر أن تكون إجاباته بحيث ترضي أباه ... فلم يدر كيف يجيب على السؤال الأخير، أو أنه تردد قبل أن يعد الإجابة ولكن الرجل بادره متلطفا: ألا تحب الغناء؟
فقال الغلام بتوكيد: كلا.
وبدا من بعض الحاضرين ما يدل على أنهم سيعلقون على هذه الإجابة - آخر ما ينتظر من شخص ينتمي إلى عبد الجواد - مازحين، ولكن السيد حذرهم بعينيه فأمسكوا، أما السيد محمد عفت فعاد يسأله: ألا تحب أن تسمع شيئا؟
فقال كمال وهو يلحظ أباه: القرآن الشريف.
فتعالت أصوات الاستحسان وسمح للغلام بالانصراف، فلم يتأت له أن يسمع ما قيل عنه وراء ظهره حين قهقه السيد الفار قائلا: إن صح هذا فالغلام ابن زنا.
فضحك السيد أحمد عبد الجواد، وقال وهو يشير إلى حيث كان يقف كمال: هل رأيتم أمكر من ابن الكلب يدعي التقوى أمامي! ... رجعت مرة إلى البيت فترامى صوته وهو يغني: «يا طير يا للي على الشجر.»
فقال السيد علي: آه لو رأيته وهو ينصت بين أخويه إلى صابر وشفتاه تتحركان مع الغناء في انسجام تام ولا انسجام أحمد عبد الجواد نفسه.
على حين خاطب محمد عفت السيد أحمد متسائلا: المهم أن تخبرنا هل أعجبك صوته في دور «يا طير يا للي على الشجر»؟
فضحك السيد قائلا وهو يشير إلى نفسه: ذاك الشبل من هذا الأسد.
فهتف الفار قائلا: الله يرحم اللبؤة الكبيرة التي أنجبتكم.
غادر كمال المنظرة إلى الحارة وكأنه يفيق من كابوس، ووقف بين الغلمان الذين ازدحم بهم الطريق، وما لبث أن استعاد ارتياحه، فتمشى مزهوا بملابسه الجديدة، مغتبطا بحريته التي جعلت من المكان كله - فيما عدا المنظرة المخيفة - مجالا مباحا لقدميه دون معترض أو رقيب، فأي ليلة هذه في الزمان! شيء واحد جعل ينغص عليه صفوه كلما خطر على فؤاده هو انتقال عائشة إلى هذا البيت الذي باتوا يدعونه ب «بيتها» هذا الانتقال الذي نفذ على رغمه دون أن يستطيع أحد إقناعه بوجاهته أو فائدته، تساءل طويلا كيف سمح أبوه به وهو الذي لا يسمح لظل امرأة من آله بأن يلوح وراء خصاص النافذة، فتلقى الجواب ضحكا عاليا، وساءل أمه في عتاب كيف تفرط في عائشة لحد النزول عنها للغير، فأجابته بأنه سيكبر يوما ويأخذ مثلها من بيت أبيها فتشيع إليه بالزغاريد، وسأل عائشة هل يسرها حقا أن تهجرهم، فأجابت أن لا، ولكن الجهاز حمل إلى بيت الرجل الغريب ولحقت به عائشة التي لا يطيب له الري إلا من موقع شفتيها، حقا أن الفرح الراهن ينسي أشياء ما كان يتصور أنه ينساها لحظة، ولكن خاطرة الأسى تغشى فؤاده الجذل، كما تغشى السحابة الصغيرة وجه القمر في ليلة صافية السماء، ومن عجب أن سروره بالغناء في تلك الليلة فاق أي سرور عداه، كاللعب مع الغلمان أو مشاهدة النساء والرجال في مرحهم المطلق، أو حتى عيش السراي والألمظية على مائدة العشاء، ولئن أدهش اهتمامه الجدي بسماع جليلة وصابر - الذي لا يتفق مع سنه - كل من لاحظه من النساء والرجال، فلم يدهش أحدا من أسرته التي تعرف سوابقه في الغناء مع معلمته عائشة كما تعرف حسن صوته الذي تعده أحسن أصواتها بعد عائشة، وإن كان صوت الأب - الذي لا يسمعونه إلا مزمجرا - أحسنها جميعا، وقد استمع كمال طويلا إلى جليلة وصابر ولكنه على غير المنتظر وجد غناء الرجل وعزف تخته أحب إلى قلبه وآخذ لنفسه، فرسخت منه في ذاكرته جمل غنائية مثل «تعشق ليه ... علشان كده» جمل يرددها بعد ليلة الزفاف طويلا في سقيفة اللبلاب والياسمين فوق سطح بيتهم، وشاركت أمينة وخديجة كمال في بعض ما أتيح له من أسباب السرور والحرية، فلم يسبق لهما - مثله - أن شهدتا ليلة كتلك الليلة، بما حفلت من أنس وطرب ومرح، وأبهج أمينة خاصة ما لاقت من الرعاية والمجاملة بصفتها أم العروس، هي التي لم تنعم في حياتها برعاية أو مجاملة، حتى خديجة اختفى همها في أنوار الفرح كما تختفي الظلمة عند إشراق الصباح، نسيت أحزانها بين الضحكات الناعمة والأنغام العذبة والأحاديث الطلية، وازدادت لها نسيانا بفضل حزن جديد خالص الطوية منشؤه شعورها بفراق عائشة الوشيك، شعور أثمر حبا وعطفا خالصين، فتوارت الأحزان القديمة أمام الحزن الجديد كما تتوارى الأحقاد أمام الأريحية، أو كما يقع لشخص حيال آخر يحب منه جانبا، ويكره جانبا أن تتوارى - ساعة الفراق مثلا - الكراهية لجانب أمام الحزن على الجانب الآخر، هذا إلى ما شاع في نفسها من ثقة حين تبدت في زينة أضفت على جسمها ووجهها سواء لفت إليها أنظار بعض النساء فلهجن بالثناء عليها ثناء ملأها أملا وأحلاما عاشت بها زمنا رغدا.
وجلس ياسين وفهمي جنبا لجنب يراوحان بين السمر والسماع، وجلس خليل شوكت - العريس - ينضم إليهما بين ساعة وأخرى كلما وجد فرجة بين أشغال ليلته الشاقة الممتعة، وبالرغم من الجو المشبع بالبهجة والطرب انطوى ياسين على قلق، فارتسمت في عينيه نظرة شرود مزمنة، وراح يسائل نفسه بين حين وآخر ترى هل يتاح له أن يروي ظمأه ولو بكأس أو بكأسين؟ لذلك مال مرة على أذن خليل شوكت، وكان صديقا للأخوين وهمس قائلا: أدركني قبل أن تضيع الليلة.
فقال له الشاب وهو يغمز له بعينه مطمئنا: أفردت مائدة في حجرة خاصة لأمثالك من الأصدقاء.
عند ذاك اطمأن باله وعاودته حيويته للسمر والدعابة والسماع، لم يكن في نيته أن يسكر، ففي مثل هذا المكان الحافل بالأهل والمعارف يعد القليل من الخمر فوزا كبيرا، خاصة وأن والده وإن انزوى في المنظرة - غير بعيد - فلم يكن وقوفه على أسرار حياته يزحزحه عن مكانته التقليدية من نفسه، لم يزل قائما بحصنه الحصين من المهابة والإجلال، ولم يزل هو بموقف الطاعة والعبودية، حتى السر الذي اطلع عليه خفية لم يفكر في البوح به لإنسان ولا لفهمي نفسه أقرب المقربين إليه، لهذا كله قنع من بادئ الأمر بكأس أو بكأسين يتملق بهما رغبته الجامحة، ويتهيأ بهما لتذوق المرح والسمر والطرب، وغيرها من المسرات التي لم يعد لها عنده طعم بغير شراب. فهمي - بخلاف ياسين - لم يجد، أو لم يطمئن إلى أنه سيجد ريا لظمئه، ثار شجنه من حيث لا ينتظر عند مجيء العروس، ذهب مع العريس وياسين لاستقبالها بقلب خلي فوقع بصره على مريم وهي تسير وراء العروس مباشرة ومتألقة الثغر بابتسامة تحية للمكان كله، لاهية بالزغاريد والورود عنه، وقد شف قناعها الحريري عن ديباجة وجهها الصافي، فأتبعها نظره بقلب خافق حتى واراها باب الحريم، ثم عاد إلى مجلسه مزلزل النفس كأنه قارب تعرض بغتة لإعصار، بيد أنه كان قبل رؤيتها هادئ النفس لاهيا بشجون السمر شأن السالي الناسي، والحق تمر به أوقات، فيجد نفسه على هذه الحال من السلو والنسيان كأن قلبه يستجم من العناء، ولكن ما إن تخطر خطرة أو تهفو ذكرى، أو يجري اسمها على لسان، أو ... أو، حتى يخفق فؤاده ألما، ويفرز الحسرة تلو الحسرة، كالضرس المسوس الملتهب تجيء عليه فترة فيسكن ألمه حتى إذا هرس لقمة أو مس جسما صلبا انفجر به الألم، وهناك يقرع الحب أضلعه من الداخل كأنما يروم متنفسا، صائحا بأعلى صوته أنه لا يزال حبيسا لم يطلق سراحه العزاء أو النسيان. طالما تمنى لو يعمى عنها الراغبون حتى يستوي على قدميه رجلا حر التصرف في تقرير مصيره. وقرب أمنيته كر الأيام والأسابيع والأشهر، دون أن يتقدم لها خاطب، ولكنه لم ينعم بالطمأنينة الحقة، ولم يزل عرضة للقلق والخوف يتناوبانه الحين بعد الحين ينغصان صفوه، ويكدران أحلامه، ويخلقان له ضروبا من الألم والغيرة إن تكن وهمية فليست دون الواقع - فيما لو تحققت - ضراوة وقساوة، حتى بات التمني نفسه وتأخر وقوع البلاء من بواعث تجدد القلق والخوف؛ وبالتالي الألم والغيرة فود كلما اشتد به العذاب أن يقع البلاء ليلقى نصيبه من الحزن دفعة واحدة، لعله بعد ذلك يبلغ باليأس ما لم يبلغ بالأماني العابثة من الراحة والسلام، ولكنه لم يستسلم للشجن في مجلس طرب تكتنفه أنظار الأصدقاء والأقرباء، إلا أنه كان تلقى من منظر مريم، وهي تسير وراء أخته «أثرا» لا يمكن أن يمضي بلا رد فعل محسوس، ولما لم يسعه أن يجتر به أحزانه وأن يجلو المستور من نفسه، فقد استهلكه - بطريقة عكسية - بالإغراق في الحديث والضحك والتظاهر بالغبطة والسعادة، على أنه كان كلما خلا إلى نفسه، ولو لحظات شعر في أعماقه بعزلة قلبية عما حوله، وأدرك مع مرور الوقت أن رؤيته مريم، وهي تخطر في معية العروس قد هيجت حبه كما تهيج ضوضاء مفاجئة مهموما ذا قابلية للأرق، وأنه لن ينعم على الأقل هذه الليلة بصدر مستقر، وإن شيئا مما يدور حوله لن يستطيع أن ينتزع من مخيلته صورتها أو الابتسامة التي حيت بها جو الاستقبال الحار المشبع بالزغاريد والورود، ابتسامة عذبة صافية وشت بقلب خلي متشوق للهدوء والسرور، ابتسامة لا يوحي رواؤها بأنه يمكن أن ترتسم على موضعها من الشفتين تقلصات الألم، فحز منظرها قلبه وكاشفه بأنه يكابد الألم منفردا ويحمل متاعبه وحده، ولكن ألا يقهقه هو الآن عاليا، يحرك رأسه مع الأنغام كالمنبسط الطروب؟ ... ألا يجوز أن يخدع الناظر بحاله ويظن به ما ظن هو بها؟ ... وجد في تفكيره شيئا من العزاء ولكن ليس أوكد من عزاء المصاب بالتيفود حين يسائل نفسه: «ألا يحتمل أن أشفى كما يشفى فلان الذي أصيب به قبلي؟» وما لبث أن ذكر رسالتها التي عاد بها كمال إليه منذ أشهر وهي: قل له إنها لا تدري ماذا تفعل لو تقدم لها خاطب أثناء هذه المدة الطويلة من الانتظار ... وتساءل كما تساءل عشرات المرات من قبل: هل ثمة عاطفة وراء هذه الكلمات؟ ... أجل لا يستطيع إنسان مهما بلغ به التعنت أن يؤاخذها على كلمة منها، بل لا يستطيع أن يتجاهل ما تتضمنه من عقل وحكمة، ولكن هذا نفسه ما أشعره بالعجز حيالها، وما أحنقه بالتالي عليها؛ إذ يندر أن يرضي العقل والحكمة طموح عاطفة لا تعرف بطبعها الحدود، وعاد إلى الحاضر، إلى مجلس الطرب، إلى الحب الهائج. ليست رؤيته لها وحدها التي رجته هذه الرجة العنيفة، فلعل ذلك لأنه رآها لأول مرة، في مكان جديد - فناء بيت آل شوكت - بعيدا عن داره التي لم يرها خارج نطاقها من قبل، كان وجودها الدائم في المقام القديم قد سلكها في آلية العادة اليومية على حين بعث ظهورها المفاجئ في المكان الجديد - ذاك الظهور الذي خلقها في عينيه خلقا جديدا - حياة جديدة في وجدانه، أيقظت الحياة الأصلية الكامنة، ثم تعاونتا معا على إحداث هذه الرجة العنيفة، ولعل ذلك أيضا لأن وجودها بعيدا عن بيته وما يقترن به من تقاليد صارمة أقامت بينه وبينها سدا من اليأس، وجودها في جو من الحرية والانطلاق ، وعلى حال لم يعهدها من التبرج والحركة، وجودها في بيئة الزفاف وما توحي به من خواطر الحب والوصال، كل أولئك أطلقها من قمقمها إلى حيث يراها القلب أملا غير عسير، وكأنما تقول له: «انظر أين تراني الآن، ما هي إلا خطوة أخرى فتجدني بين ذراعيك.» ولكن ما لبث هذا الأمل أن ارتطم بالواقع الشائك مسهما في إحداث الرجة العنيفة، ولعل ذلك أيضا لأن رؤيتها والمكان الجديد زادتها رسوخا في نفسه وتغلغلا في حياته - ونشوبها في ذكرياته، فإن الصور تتعمق في أنفسنا باندماجها في مختلف الأماكن التي تمتد إليها تجاربنا، وكما اقترنت مريم قديما بسطح البيت وبستان اللبلاب والياسمين وكمال وتسميع الكلمات الإنجليزية ومجلس القهوة وحديثه مع أمه في حجرة المذاكرة والرسالة التي عاد بها كمال، فستقترن منذ الليلة بالسكرية وفناء آل شوكت ومجلس الطرب وغناء صابر وزفاف عائشة، وغير ذلك مما ينثال على سمعه وبصره وكافة حواسه، ومثل هذه العملية ... لا يمكن أن تتم دون أن تشارك في إحداث الرجة العنيفة التي دوخته ... وحدث في فترة الاستراحة أن ترامى صوت العالمة إلى مجلس الرجال من النوافذ المطلة على الفناء وهي تغني «حبيبي غاب»، فنشط إلى السماع باهتمام شديد وجمع حواسه كلها في النغمات، لا لأن صوت جليلة أعجبه ولكن لظنه أن مريم تنصت إليها في تلك اللحظة؛ لأن الجملة الغنائية تخاطب أذنيهما في وقت واحد معا؛ لأنها ألفت بينهما على حال واحدة من الإنصات وربما من الإحساس، لأنها خلقت لهما موعدا يلتقيان فيه بروحيهما، وحمله هذا كله على احترام الصوت وحب النغمات كي يجتمع بها في إحساس واحد. وحاول طويلا أن ينفذ إلى نفسها بالرجوع إلى نفسه، أن يتلمس ذبذبات تأثرها بمتابعة ذبذبات تأثره، ليعيش في ذاتها لحظات بلا حجاب على بعد المسافة وكثافة الجدران، وحاول إلى هذا أن يستخبر الجمل الغنائية عن آثارها في النفس المحبوبة، ماذا تركت في قلبها جملة «حبيبي غاب» أو «بقى له زمان ما بعتش جواب»، ترى هل غابت في لجج الذكريات؟ ... أو لم تنحسر موجة منه عن وجهه؟ ... ألم ينقبض قلبها لشكة ألم أو لحزة حسرة؟ أم لها سادرا طوال الوقت لا يجد في النغمة إلا فرحة الطرب؟ ... وتصورها وهي تهب انتباهها للنغم سافرة متبرجة الحيوية أو وثغرها يفتر عن ابتسامة كتلك التي لمحها على شفتيها عند مجيئها، فآلمته لأنه توسم فيها رمز السلو والنسيان، أو وهي تحادث إحدى أختيه كما يحلو لها كثيرا وهو ما يحسدهما عليه على حين لا تجدان فيه الأمر الذي يدهشه لحد الانزعاج إلا حديثا عاديا كسائر الأحاديث التي تشتبكان فيها مع غيرها من فتيات الجيران، أجل طالما عجب لموقف أختيه منها، لا لأنهما لا تكترثان لها فالحق أنهما تحبانها، ولكن لأنهما تحبانها كما تحبان غيرها من فتيات الجيران كأنها مجرد «فتاة» من فتيات الجيران، وكيف تلقيانها بترحيب عادي دون أن يضطرب لهما نفس كما يلقى هو أي فتاة عابرة أو أيا من أقرانه طلبة مدرسة الحقوق، وكيف تتحدثان عنها فتقولان «مريم قالت أو مريم فعلت»، وتنطقان بالاسم كما تنطقان بأي اسم ... أم حنفي مثلا كأنه ليس الاسم الذي لم ينطق به على مسمع من غيره إلا مرة أو مرتين، وهو يعجب لموقعه من أذنه أو كأنه ليس الاسم الذي لا ينطق به في وحدته إلا كما ينطق بالأسماء المبجلة المنقوشة في خياله بتهاويل الأحلام التي لا ينطق بأحدها حتى يردف «رضي الله عنه» أو «عليه السلام» ... وكيف إذن عطل الاسم - بل الشخص نفسه - عندهما من سحره وقدسيته؟! وعندما انتهت جليلة من الأغنية تعالى الهتاف والتصفيق، فركز فيه انتباهه باهتمام لم تحظ الأغنية نفسها بمثله؛ لأن حنجرة مريم ويديها اشتركت فيه، وتمنى لو كان بوسعه أن يميز صوتها من تلك الأصوات، وأن يفرز تصفيقها من ذلك التصفيق، ولكن لم يكن ذلك بأسهل من تمييز صوت موجة بالذات من هدير الأمواج المتلاطمة على الشاطئ، على أنه وهب حبه للهتاف كله والتصفيق كله بلا تمييز كالأم التي يترامى إلى سمعها أصوات التلاميذ من المدرسة التي يتبعها ابنها، فتدعو لهم جميعا بالبركة والسلامة.
لم يكن أشبه بفهمي في عزلته الباطنية - وإن اختلفت الأسباب - من أبيه الذي لزم المنظرة بين نفر من خاصة خلانه، حتى الأصدقاء الذين لم يطيقوا التوقر، والغناء يجلجل في الخارج، انفضوا من حوله وتفرقوا بين المستمعين يطربون ويلهون، فلم يبق معه إلا النفر الذين مجلسه أحب إليهم من اللهو نفسه، فلبثوا جميعا في رزانة غير معهودة كأنما يؤدون واجبا أو يشهدون مأتما، هذا ما قدروه من قبل، حين دعاهم السيد إلى ليلة الزفاف، لما خبروه من طبيعته المزدوجة التي عرف بجانب منها بين أصدقائه، وبالجانب الآخر بين آل بيته، ولم يفتهم وجه من وجوه التناقض بين مجلسهم الوقور هذا الذي يحتفلون فيه ب «ليلة زفاف» وبين مجالسهم المسائية المعربدة التي لا يحتفلون فيها بشيء! وما عتموا أن جعلوا من توقرهم موضوعا للمزاح الخفيف الهادئ، فما إن علا صوت السيد عفت مرة وهو يضحك، حتى بادره السيد الفار واضعا سبابته على شفتيه كأنما يأمره بخفض صوته وهمس في أذنه محذرا زاجرا: نحن في فرح يا رجل! ... ومرة أخرى وكان الصمت قد غلبهم مليا، فإذا بالسيد علي يقلب عينيه في وجوههم، ثم يقول رافعا يده إلى رأسه كالشاكر: «شكر الله سعيكم.» وعند ذاك دعاهم السيد إلى اللحاق بصحبه في الخارج، ومشاركتهم لهوهم ولكن السيد عفت خاطبه بلهجة تنم عن شديد العتاب قائلا: نتركك في مثل هذه الليلة؟! وهل يعرف الصديق إلا عند الضيق؟! فما تمالك السيد أن ضحك قائلا: ما هي إلا عدة ليالي زفاف أخرى حتى يتوب الله علينا جميعا ... على أن ليلة الزفاف تضمنت في نظر السيد أحمد معاني أخرى غير التوقر الإجباري في مجلس أنس وطرب، معاني تخصه وحده كأب ذي طبيعة خرقت المألوف من الطبائع، فلم يزل يجد لفكرة زواج كريمته إحساسا غريبا لا يرتاح إليه، وإن لم يقره عقله أو دينه. لا يعني هذا أنه ود ألا تتزوج كريمتاه، فالحق أنه كسائر الآباء جميعا رجا الستر لفتاتيه، ولكن لعله تمنى كثيرا لو لم يكن الزواج الوسيلة الوحيدة لهذا «الستر»، ولعله تمنى لو كان الله قد خلق البنات على طبيعة لا تحتم الزواج، أو لعله تمنى في الأقل لو لم يكن أنجب إناثا قط، أما وتلك أمان لم تتحقق ولا سبيل إلى تحقيقها، فلم يكن بد من أن يرجو الزواج لفتاتيه، ولو كما يرجو الإنسان أحيانا - ليأسه من دوام العمر - ميتة شريفة أو ميتة مريحة! طالما أفصح عن نفوره هذا بسبل متباينة سواء عن شعور أو لا شعور، فربما حدث بعض خلصائه قائلا: «تسألني عن إنجاب الإناث؟ إنه شر لا حيلة لنا فيه، ولكن الشكر إلى الله واجب على أي حال. لا يعني هذا أني لا أحب ابنتي، فالحق أني أحبهما كما أحب ياسين وفهمي وكمال سواء بسواء، ولكن كيف يطمئن خاطري وأنا أعلم بأني سأحملهما يوما إلى رجل غريب مهما يبدو لي من مظاهر، فالله وحده المطلع على باطنه؟ ... ما حيلة البنت الضعيفة حيال رجل غريب وهي بعيدة عن رعاية أبيها؟ ... وكيف يكون مصيرها لو طلقها يوما وقد مات أبوها فلجأت إلى بيت أخيها لتعيش عيشة المنبوذين؟! لست أخاف على أحد من أبنائي؛ لأنه مهما يحدث لأيهم من أمر، فهو رجل قادر على أن يواجه الحياة، أما البنت ... اللهم احفظنا!» أو يقول فيما يشبه الصراحة: «البنت مشكلة حقا ... ألا ترى أنا لا نألو أن نؤدبها ونهذبها ونحفظها ونصونها؟ ... ولكن ألا ترى أنا بعد هذا كله نحملها بأنفسنا إلى رجل غريب ليفعل بها ما يشاء ... الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ...» وتجسم هذا الإحساس القلق الغريب في النظرة الانتقادية التي والى بها خليل شوكت «العريس» نظرة متعسفة عيابة أبت أن ترجع قبل أن تظفر بعيب يرضي تعنتها، كأنه ليس من آل شوكت الذين ألفت بينه وبينهم أسباب المودة والولاء من قديم الزمان، أو كأنه ليس الشاب الذي شهد له كل من رآه بالرجولة والجمال والوجاهة، لم يسعه أن ينكر مزية من مزاياه، ولكنه وقف طويلا عند وجهه الريان ونظرة عينيه الهادئة الثقيلة الموحية بالكسل، فطاب له أن يستدل بهما على ما تركه الفراغ في حياته من حيوانية قائلا لنفسه: «ما هو إلا ثور يعيش ليأكل وينام!» لم يكن اعترافه بمزاياه أولا ثم فحصه عن أي عيب ليلصقه به أخيرا إلا منطقا عاطفيا يعكس ما يكمن في نفسه من رغبة في تزويج الفتاة ونفوره من فكرة الزواج، فالاعتراف مهد إلى تحقيق الزواج والفحص عن العيوب نفس عن العاطفة العدائية كمدمن الأفيون الذي تستذله لذته وترعبه خطورته، فينشده بكل سبيل وهو يلعنه، بيد أنه تناسى مشاعره الغريبة وهو بين أصدقائه الحميمين يتسلى بالحديث حينا، وبالسماع من بعيد حينا آخر، ففتح صدره للرضا والغبطة ودعا لفتاته بالسعادة والحياة المطمئنة، حتى نظرته الانتقادية لخليل شوكت استحالت إحساسا ساخرا غير مشوب بالحنق.
وعندما دعي المدعوون إلى الموائد افترق فهمي وياسين لأول مرة، فقاد خليل شوكت الأخير إلى المائدة الخاصة، حيث بذل الشراب بغير حساب، ولكن ياسين بدا حذرا مقدرا للعواقب، فأعلن قناعته بكأسين وقاوم بشجاعة - أو بجبن - تيار الشراب المتدفق، حتى إذا ما لسعته النشوة الأولى فهيجت ذكرياته عن لذة النشوات، ووهنت إرادته فرغب في الاستزادة من النشوة إلى القدر الذي لا يخرجه عن حدود الأمان فتناول كأسا ثالثة، ثم فر بنفسه عن المائدة، إلا أنه - على سبيل الاحتياط، أو لأنه لم يزل عينا في الجنة وعينا في النار - أخفى زجاجة مملوءة حتى النصف في مكان خفي للرجوع إليها عند الضرورة القصوى، وعادوا إلى مجلسهم بأرواح جديدة راقصة انطلق منها إلى الجو المحيط سرور محرر من القيود.
وفي الحريم كان السكر قد بلغ بالعالمة جليلة حد السلطنة، وإذا بها تقلب عينيها في وجوه المدعوات، وتتساءل: من منكن حرم السيد أحمد عبد الجواد؟
فجذب تساؤلها الأنظار وأثار اهتماما شاملا، حتى غلب الحياء أمينة فلم تنبس بكلمة، وجعلت تحملق في وجه العالمة بحيرة وإنكار، ولما أعادت العالمة التساؤل تطوعت حرم المرحوم شوكت بالإشارة إلى أمينة، وهي تقول: ها هي حرم السيد أحمد ففيم يا ترى التساؤل؟
فتفحصتها العالمة بعينين ثاقبتين، ثم أطلقت ضحكة رنانة، وقالت بلهجة تنم عن الرضا: حسناء وحق بيت الله، إن ذوق السيد لا يجارى.
وبدت أمينة كالعذراء المتعثرة في حيائها، بيد أن الحياء لم يكن كل ما تعانيه، ساءلت نفسها في حيرة وانزعاج عما يعنيه حديث العالمة عن حرم «السيد أحمد عبد الجواد» وعن إطرائها ذوق السيد بلهجة لا يدعيها لنفسه إلا الخبير به، وشاركتها شعورها عائشة وخديجة التي رددت عينيها بين العالمة وبين بعض الفتيات من صديقاتها كأنما تسائلهن عن رأيهن في «هذه المرأة السكيرة»، ولكن جليلة لم تأبه لما أثاره كلامها من انزعاج، فحولت عينيها إلى العروس وتفحصتها كما تفحصت أمها من قبل، ثم أرعشت حاجبيها وهي تقول بإعجاب: قمر ورسول الله، أنت بنت أبيك حقا، ومن ير هاتين العينين يذكر من توه عينيه ... (ثم مقهقهة) أراكن تتساءلن من أين لهذه المرأة معرفة السيدة أحمد؟! ... إني أعرفه من قبل أن تعرفه زوجه نفسها، إنه ربيب حينا وقرين صباي، وكان والدانا صديقين، أم تحسبين العالمة لا أب لها؟ ... كان أبي شيخ كتاب من أهل البركة ... ما رأيك يا زينة الستات؟!
وجهت السؤال الأخير إلى أمينة، فدفعها الخوف وما طبعت عليه من لين وتودد إلى أن تجيبها - وهي تقاوم ما ركبها من ارتباك - قائلة: رحمه الله، كلنا أبناء حواء وآدم.
فجعلت جليلة تحرك رأسها يمنة ويسرة، وهي تضيق عينيها كأنما بلغ تأثرها بالذكرى وموعظتها نهايته، أو لعل رأسها السكران وجد في هذه الحركة رياضة التذ بها، ثم استطردت قائلة: وكان رجلا غيورا، ولكني نشأت بفطرتي لعوبا لا أبالي كأنما رضعت الغنج في المهد، كنت أضحك الضحكة في الدور الأعلى، فتضطرب لها جوانح الرجال في الشارع، فما يبلغه صوتي حتى ينهال علي ضربا ويرميني بشر الصفات، ولكن ما حيلة التأديب فيمن قدرت عليها فنون العشق والطرب والدلال؟! ... ضاع التأديب هباء، ومضى الرجل إلى الجنة ونعيمها، وقضي علي بأن أتخذ مما رماني به من شر الصفات شعارا لي في الحياة ... هي الدنيا ... ربنا يطعمكن خيرها ويكفيكن شرها ... ولا حرمنا الله جميعا من الرجال سواء في الحلال أو في الحرام.
وعزف الضحك في جنبات الحجرة، حتى غطى على تأوهات الدهش التي ندت هنا وهناك، ولعل ما استثاره قبل أي شيء آخر هو وجه التناقض بين الدعاء الإباحي الأخير وبين ما سبقه من عبارات توحي - في ظاهرها على الأقل - بالجد والتأسي، أو بين ما تقنعت به المرأة من ستار الجد والرزانة، وما جهرت به أخيرا من مزاح مكشوف، حتى أمينة نفسها - وعلى رغم ارتباكها - ما تمالكت أن ابتسمت وإن نكست وجهها لتواري ابتسامتها، على أن النساء كن يستجبن - في مثل هذا المجلس - لدعابات مهرجات العوالم، ويرحبن بمزاحهن وإن خدش الحياء أحيانا كأنما ينفسن به على طول تزمتهن، وواصلت العالمة السكرانة حديثها قائلة: وكان، جعل الله الجنة مثواه، سليم الطوية، وآي ذلك أنه جاءني يوما برجل طيب مثله، وأراد أن يزوجني منه (وكركرت ضاحكة) ... أي زواج يا عمر؟! وماذا بقي للزوج بعد ما كان مما كان! ... وقلت لنفسي: انفضحت يا جليلة وواقعتك كحل ...
وأمسكت مليا لتستزيد من التشويق، أو لتتمتع أكثر بصمت الانتباه المركز فيها الذي لا تحظى بمثله حين الغناء نفسه، ثم عادت تقول: ولكن الله سلم فأدركتني النجاة قبل الفضيحة المتوقعة بأيام؛ إذ هربت مع المرحوم حسونة البغل تاجر المنزول، وكان للمرحوم أخ عواد عند العالمة نيزك فعلمني العود، ثم طاب له صوتي فعلمني الغناء، وأخذ بيدي حتى ضمني إلى تخت نيزك التي حللت محلها بعد وفاتها، ومارست الغناء دهرا عرفت فيه من العشاق مائة و... (وقطبت وهي تتذكر بقية العدد ثم التفتت إلى الدفافة، وسألتها): وكم يا فينو؟
فبادرتها الدفافة قائلة: وخمسة في عين من لا يصلي على النبي.
وتعالى الضحك مرة أخرى، فجعلت بعض المشغوفات بالحديث يسكتن الضاحكات ليصفو الجو للعالمة، ولكنها نهضت بغتة واتجهت نحو باب الحجرة غير ملقية بالا إلى اللاتي تساءلن عن وجهتها دون أن يحظين بجواب، ولكن أحدا لم يلح عليها في السؤال لما اشتهرت به عند الناس من أنها صاحبة نزوة إذا نادتها لبت دون مراجعة، وهبطت السلم إلى باب الحريم ثم مرقت منه إلى فناء الدار، ولما جذب ظهورها المفاجئ بعض الأنظار القريبة تلبثت بمكانها لتتيح لنفسها أن ترى من الجميع، فتستمتع بما يحدثه منظرها فيهم من اهتمام طمعت في أن تتحدى به صابرا وهو في ذروة التطريب، وتحققت رغبتها إذ سرت عدوى الالتفات نحوها - كالتثاؤب - من فرد إلى فرد، وتردد اسمها على الألسن، ثم شعر صابر نفسه - رغم انهماكه في الغناء - بالفجوة الفجائية التي فصلت بينه وبين جمهوره، فمد بصره إلى الهدف الذي استشرفته الأعين، حتى استقر على العالمة وهي تنظر إليه من بعيد برأس مائل إلى الوراء من سلطنة السكر والخيلاء، فاضطر إلى الإمساك عن الغناء وأشار إلى تخته فتوقف عن العزف، ثم رفع يديه إلى رأسه تحية لها! ... كان صابر خبيرا بنزوات جليلة - وعلى خلاف الكثيرين - عالما بطيبة قلبها، ومقدرا في الوقت نفسه لخطر معاندتها، فأظهر لها التودد بلا تحفظ، ونجحت حيلته فانطلقت أسارير المرأة بالبشر، وهتفت به: «واصل غناءك يا سي صابر فما جئت إلا لسماعه.» فصفق المدعوون وعادوا إلى صابر مهللين على حين اقترب منها إبراهيم شوكت شقيق العريس الأكبر، وسألها بلطف عن حاجتها فذكرت بسؤاله السبب الحقيقي الذي دعاها إلى المجيء، وسألته بدورها بصوت ترامى إلى الكثيرين ومنهم - وهو الأهم - ياسين وفهمي: ما لي لا أرى السيد أحمد عبد الجواد؟! ... أين يختبئ الرجل؟
فأخذ إبراهيم شوكت بيدها وسار بها إلى المنظرة باسما، على حين تبادل فهمي وياسين نظرة ملئت دهشا واستغرابا، وشيعاهما بعينين متسائلتين حتى واراهما الباب، ولم يكن السيد دون ابنيه دهشا لدى رؤيتها مقبلة نحوه تخطر فحدجها بنظرة انزعاج وتساؤل، بينما تبادل صحبه نظرات باسمة ذات معان، وشملت جليلة الجميع بنظرة عابرة قائلة: مساء الأنس يا رجال.
وركزت عينيها في السيد، فما تمالكت أن أغربت في الضحك وهي تتساءل ساخرة: هل أخافك مجيئي يا سيد أحمد؟!
فأشار السيد إلى الخارج محذرا، وهو يقول لها جادا: اعقلي يا جليلة، ماذا حملك على المجيء إلى هنا تحت أنظار الناس جميعا؟!
فقالت كالمعتذرة وإن لم تزايلها بسمة ساخرة: عز علي ألا أهنئك على زواج كريمتك!
فقال السيد في ضيق: لك الشكر يا ستي، ولكن أما فكرت فيما يثيره مجيئك لدى من يشهده من ظنون؟
فضربت جليلة كفا بكف وقالت فيما يشبه العتاب: هذا أحسن ما عندك لي من استقبال! ... (ثم موجهة الخطاب إلى صحبه) أشهدكم يا رجال على الرجل الذي لم يكن يبتل صدره حتى يغرز فردة شاربه في سرتي، انظروا إليه كيف لا يطيق الآن رؤيتي.
فلوح السيد لها بيده كأنما يقول لها: «لا تزيدي الطين بلة.» وقال برجاء: علم الله ما بي استياء لرؤيتك ولكنه الحرج كما ترين.
هنا قال السيد علي كأنما ليذكرها بما لا ينبغي لها أن تنساه: لقد عشتما حبيبين وافترقتما صديقين، وليس بينكما ثأر، ولكن أهله فوق وأبناءه في الخارج.
فقالت متمادية في إغاظة السيد: لماذا تتظاهر بالتقوى بين أهلك وأنت بركة فسق!
فرماها بنظرة احتجاج قائلا: جليلة! ... لا حول ولا قوة إلا بالله. - جليلة أم زبيدة يا ولي الله؟! - حسبي الله ونعم الوكيل.
فأرعشت له حاجبيها كما أرعشتهما لعائشة من قبل، ولكن على سبيل التهكم لا الإعجاب هذه المرة، وقالت بصوت هادئ جاد كالقاضي ينطق بالحكم: سيان عندي أن تعشق زبيدة أم غيرها من النساء، ولكن يؤسفني ورأس أمي أن تتمرغ في التراب بعد أن غرقت حتى أذنيك (مشيرة إلى نفسها) في القشدة ...
عند ذاك نهض السيد محمد عفت - وكان من أقرب المقربين إليها - وقد خاف أن يتمادى بها السكر إلى ما لا تحمد عقباه، فتناول يدها وجذبها برفق صوب الباب هامسا في أذنها: حلفتك بالحسين إلا ما رجعت إلى مستمعاتك المنتظرات على نار.
فطاوعته بعد ممانعة ولكنها التفتت نحو السيد وهي تبتعد رويدا وقالت: لا تنس أن تبلغ تحياتي إلى القارحة، ونصيحتي إليك - بحق الأخوة - أن تغتسل بعدها بالكحول لأن عرقها مصاص للدماء.
شيعها السيد بنظرة ساخطة وهو يلعن الحظ الذي قضى بأن ينكشف أمام كثيرين - خاصة أهله - ممن عرفوه مثالا للجد والرزانة، أجل لم يزل ثمة أمل في ألا يبلغ الحادث أحدا من آله ولكنه أمل ضعيف، ولم يزل ثمة رجاء في ألا يفهموه إذا بلغهم - بما طبعوا عليه من براءة - على حقيقته، ولكنه رجاء غير مضمون لأكثر من سبب، بيد أنه على أسوأ الفروض لا يحق له أن يجزع؛ لأن خضوعهم له من ناحية وسيطرته عليهم من ناحية أخرى أثبت من أن يزعزعهما مزعزع، ولا هذه الفضيحة نفسها، وفضلا عن هذا فإن احتمال انكشاف أمره لدى أحد من أبنائه أو لديهم جميعا لم يكن عنده يوما بالفرض المستحيل، ولكنه لم يقلق لذاك أكثر مما ينبغي؛ لثقته بقوته ولأنه لم يعتمد في تربيتهم على القدوة والإقناع، فيخاف انحرافهم عن الجادة تبعا لما قد يظهر لهم من انحرافه عنها، ولأنه استبعد أن يطلعوا على شيء من أمره قبل أن يبلغوا أشدهم أي حين لا يهمه كثيرا أن ينكشف لهم سره، ولكن شيئا من هذا لم يستطع أن يلطف من أسفه على ما وقع. حقا لم يخل من سرور ومن تيه جنسي؛ إذ إن مجيء امرأة كجليلة بنفسها إلى مجلسه لتهنئه أو لتعابثه أو حتى لتتهكم بعشقه الجديد «حادث» له مغزاه الهام في الأوساط التي تشهد لياليه، وظاهرة لها دلالتها البعيدة لرجل مثله لا يعدل بالهوى والطرب والأنس شيئا، ولكن كم كانت تكون سعادته صافية لو وقع الحادث الجميل بعيدا عن هذه البيئة العائلية!
أما ياسين وفهمي فلم تتحول عيناهما عن باب المنظرة منذ ولجته جليلة، حتى خرجت منه مصحوبة بالسيد محمد عفت. دهش فهمي دهشة بكرا دار لها رأسه كياسين حين سمع زنوبة وهي تجيبه قائلة: «إنه من حينا ولا بد أنك تسمع عنه ... السيد أحمد عبد الجواد ...» على حين ركب ياسين حب استطلاع نهم، فأدرك - في سعادة أيقظت في قلبه نشوة الإعجاب والمشاركة الوجدانية التي شعر بها نحو أبيه في حجرة زنوبة - أن جليلة مغامرة أخرى في حياة أبيه، التي بات يؤمن بأنها سلسلة ذهبية من المغامرات، وأن الرجل فاق كل ما تصوره خياله عنه، ولبث فهمي يأمل ويرجو أن يعلم بين حين وآخر بأن العالمة إنما أرادت مقابلة والده لسبب أو لآخر يتعلق بدعوتها إلى إحياء فرح عائشة، حتى جاء خليل شوكت وأخبرهما ضاحكا بأن جليلة «تداعب السيد»، وبأنها «تتودد إليه تودد الصديق للصديق» وعند ذاك لم يطق ياسين صبرا على كتمان ما عنده من سر، ووثبت نشوة الشراب به إلى الإدلاء بمعلوماته، فانتظر حتى غادر خليل ثم مال على أذن أخيه قائلا، وهو يغالب ضحكه: «كتمت عنك أشياء تحرجت من البوح بها في حينها، أما وقد رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت، فسأبوح لك بها» ومضى يقص عليه ما سمع وما رأى في بيت زبيدة العالمة، وفهمي يقاطعه من آونة لأخرى قائلا في ذهول: «لا تقل هذا ...» «هل فقدت وعيك؟» «كيف تريدني على أن أصدقك» حتى أتى الشاب على قصته بكل تفاصيلها. لم يكن فهمي، بما نشأ عليه من عقيدة ومثالية، على استعداد لفهم - بله هضم - السيرة الخفية التي تنكشف له لأول مرة خاصة وأن والده نفسه كان من أركان عقيدته ودعائم مثاليته، ولعل ثمة وجها من التشابه بين شعوره وهو يعاني هذا الكشف لأول وهلة وبين شعور الجنين - إن صدق الخيال - وهو ينتقل من مستقر الرحم إلى مضطرب الحياة، ولعله لو كان قيل له إن جامع قلاوون انعكس وضعه فصارت المئذنة أسفل بنائه والضريح عاليه، أو كان قيل له إن محمد فريد خان رسالة مصطفى كامل وباع نفسه للإنجليز لما كان هذا أو ذاك بأدعى إلى إنكاره وانزعاجه. «أبي يذهب إلى بيت زبيدة ليشرب ويغني ويضرب الدف! ... أبي يذعن لمداعبة جليلة وتوددها! ... أبي يقترف السكر والزنا، كيف اجتمعت الثلاث! ... إذن هو غير الأب الذي عرفته في البيت مثالا للورع والقوة! ... أيهما الصحيح؟ ... كأني أسمعه الآن وهو يردد: الله أكبر ... الله أكبر، فكيف ترديده للغناء! ... حياة تمثيل ورياء! ولكنه صادق، صادق إذا رفع رأسه للدعاء، صادق إذا غضب ... أيكون أبي رذيلة أم يكون الفسق فضيلة؟! ...» - ذهلت؟! ... ذهلت أنا أيضا عندما نطقت زنوبة باسمه، ولكن سرعان ما استسخفت نفسي، وسألتها: ماذا عليه من هذا؟! ... كفر! هكذا الرجال جميعا أو هكذا يجب أن يكونوا. «هذا القول جدير بياسين حقا ... ياسين شيء وأبي شيء آخر ... ياسين! ... ما ياسين؟! ... ولكن كيف يحق لي أن أردد هذا الآن وأبي، أبي نفسه، لا يختلف عنه في شيء إن لم يفقه تدهورا ... كلا ليس تدهورا ... ثمة أمر أجهله ... أبي لا يخطئ ... غير قابل للخطأ، فوق الشبهات ... وعلى أي حال فوق الاحتقار.» - ما زلت ذاهلا؟! - لا أتصور شيئا مما قلت! - لماذا؟ ... اضحك وافهم الدنيا، يغني وماذا في الغناء من عيب؟ ويسكر وصدقني أن السكر ألذ من الأكل، ويعشق والعشق كان ملهاة الخلفاء، اقرأ ديوان الحماسة والأخبار التي بهامشه، ليس على أبينا حرج، اهتف معي ليحي السيد أحمد عبد الجواد، ليحي أبونا، سأتركك لحظة ريثما أزور - لهذه المناسبة - الزجاجة التي أخفيتها تحت الكرسي.
بعودة العالمة إلى التخت شاع في الحريم نبأ مقابلتها للسيد أحمد عبد الجواد، فانتقل من لسان إلى لسان حتى تناهى إلى الأم وخديجة وعائشة، ومع أنهن كن يسمعن شيئا كهذا لأول مرة إلا أن سيدات كثيرات - ممن بين بعولهن وبين السيد سبب من أسباب المودة - تلقين النبأ في غير ما دهش، وغمزن بأعينهن باسمات شأن الذي يعرف أكثر مما يقال، ولكن واحدة منهن لم تسول لها نفسها الخوض في الموضوع، إما لأن الخوض فيه جهارا أمر لا يجمل بهن أمام كريماتهن، وإما لأن دواعي المجاملة أملت عليهن بأن يمسكن عنه حيال أمينة وكريمتيها، غير أن حرم المرحوم شوكت قالت لأمينة مداعبة: «حذار يا أمينة هانم؛ فالظاهر أن عين جليلة زاغت إلى السيد أحمد!» فابتسمت أمينة متظاهرة بعدم الاكتراث ودم الحياء والارتباك يخضب وجهها، لأول مرة تلمس دليلا محسوسا على ما قام بنفسها قديما من شكوك، ومع أنها ألفت الصبر والتسليم بما قدر عليها، إلا أن ارتطامها بدليل محسوس حز في قلبها، فأحست عذابا لا عهد لها به، وجرحا داميا في صميم كبريائها، وأرادت امرأة أن تعلق على قول حرم المرحوم شوكت بكلمة مجاملة تليق بأم العروس، فقالت: «من يكن له وجه كوجه ست أم فهمي قسامة، فلا يحق لها أن تخشى زيغان عين زوجها إلى امرأة أخرى!» فاهتزت جوانحها للثناء وعاودتها ابتسامتها الحيية، ووجدت - على أي حال - بعض العزاء عما تعانيه من ألم صامت، إلا أنه لما بدأت جليلة أغنية جديدة فملأ صوتها مسمعيها ثار بها غضب مفاجئ، وشعرت ثواني بأن زمام نفسها سيفلت من قبضتها، ولكنها سرعان ما كظمته بقوة خليقة بامرأة لم تعترف لنفسها قط بحق الغضب. هذا على حين تلقت خديجة وعائشة النبأ بدهش فتبادلتا نظرة حائرة، وتساءلتا بعينيهما عما يعنيه الأمر كله، بيد أن دهشهما لم يقترن بانزعاج كما حدث لفهمي ولا بألم كما حدث لأمهما، ولعلهما وجدتا في قيام امرأة كجليلة من تختها وتكبدها مشقة النزول إلى مجلس أبيهما لتحيته ومحادثته شيئا مثيرا للإعجاب حقا، ثم شعرت خديجة برغبة غريزية في استطلاع وجه أمها، فاسترقت إليها النظر، ومع أنها رأتها تبتسم إلا أنها فطنت من أول وهلة إلى أنها تكابد ألما وارتباكا ينغصان عليها صفوها، وأحست بضيق وما لبثت أن حنقت على العالمة وحرم المرحوم شوكت والمجلس كله.
ولما أزفت ساعة الزفة نسي كل همه. أسابيع مضت فشهور وصورة عائشة في ثوب الزفاف لا تبرح الأذهان. •••
بدت الغورية متلفعة بالظلام والصمت حينما غادرت الأسرة بيت العروس عائدة إلى النحاسين. سار السيد أحمد في المقدمة وحده، وتبعه على بعد أمتار فهمي وياسين الذي أفرغ ما في وسعه كيما يتمالك نفسه، ويتحكم في مشيته أن يخونه وعيه الزائغ من فرط الشراب، ثم جاءت في المؤخرة أمينة وخديجة وكمال وأم حنفي، انضم كمال إلى القافلة على رغمه، فلولا الحادي الذي يتقدمها لوجد سبيلا إلى عصيان يد والدته، وانقلب راجعا إلى حيث غادروا عائشة، وجعل لهذا يتلفت بين خطوة وأخرى صوب بوابة المتولي؛ ليودع أسيفا محزونا آخر ما لاح من مظاهر الفرح، ذلك المصباح المضيء الذي رقي عامل في سلم خشبي إليه ؛ ليقتلعه من مربطه فوق مدخل السكرية، لشد ما يقطع قلبه أن ينظر إلى أسرته، فيجدها قد تخلت عن أحب أفرادها إليه بعد أمه، ورفع بصره إلى والدته وسألها هامسا: متى تعود أبلة عائشة إلينا؟
فأجابته بمثل صوته: لا تكرر هذا وادع لها بالسعادة، ستزورنا كثيرا ونزورها كثيرا.
فهمس مرة أخرى محنقا: ضحكتم علي!
فأشارت بيدها إلى الأمام، في اتجاه السيد الذي كادت تبتلعه الظلمة ومطت شفتيها هامسة «هس»، ولكنه كان مشغولا باستحضار صور مما مر به في بيت العرس إلى مخيلته، رأى أنها متناهية في غرابتها، وفيما بعثته في نفسه من حيرة، فجذب يدها إليه ليبتعد بها عن خديجة وأم حنفي، ثم همس متسائلا، وهو يشير إلى الوراء: أما علمت بما يدور هنالك؟ - ماذا تقصد؟ - نظرت من ثقب الباب.
فانقبض قلب الأم جزعا؛ لأنها حدست أي باب يعني، ولكنها سألته مكذبة نفسها: أي باب؟ - باب غرفة العروس!
فقالت المرأة بانزعاج: يا له من عيب أن ينظر الإنسان من ثقوب الأبواب!
فهمس من فوره: ما رأيته أعيب! - اخرس. - رأيت أبلة عائشة وسي خليل يجلسان على الشيزلنج ... وهو ...
فلكزته في كتفه بشدة حتى أمسك ثم همست في أذنه: يجب أن تخجل مما تقول، لو سمعك أبوك لقتلك.
ولكنه قال بإصرار وبلهجة من يشعر بأنه يكشف لها عن حقيقة لا يمكن أن تتصور هي وقوعها: كان يتناول ذقنها بيده ويقبلها.
ولكزته مرة أخرى بقسوة لم يعهدها من قبل، فأدرك أنه أخطأ حقا وهو لا يدري وسكت خائفا، ولكنه عندما كانا يقطعان فناء البيت المظلم متأخرين عن بقية الأسرة - وقد تخلفت عنهما أم حنفي لتسك الباب وتضببه وتترسه - ألح عليه ما يكابد من حيرة ورغبة في الاستطلاع، فخرج من صمته وخوفه وسألها برجاء: لماذا يقبلها يا نينة؟
فقالت له بحزم: إذا عدت إلى هذا أخبرت والدك!
41
آوى ياسين إلى حجرة النوم، وهو على حال من السكر شديدة، ما كاد يخلو إلى فهمي ويأمن الرقباء - سرعان ما غط كمال في نومه عقب وضع رأسه على المخدة مباشرة - حتى جمحت به رغبة في العربدة كرد فعل للجهد العصبي الذي بذله طوال السهرة، خاصة في طريق العودة، كيما يضبط نفسه ويسيطر على سلوكه، ولكنه وجد الحجرة أضيق من أن تتسع لعربدته فمال إلى التنفيس عن صدره بالكلام، فنظر نحو فهمي وهو ينزع ملابسه وقال ساخرا: قارن بين خيبتنا وبين براعة أبينا! ... حقا إنه لرجل.
وعلى رغم ما حرك هذا الكلام من ألم فهمي وحيرته، إلا أنه قنع بأن يقول وهو يرسم على شفتيه الممتعضتين شبه ابتسامة: البركة فيك فأنت نعم الخلف. - أيحزنك أن يكون والدنا من كبار القناصة؟ - وددت لو تمتد يد التغيير إلى صورته الماثلة في نفسي.
فقال ياسين وهو يفرك راحتيه في سرور: الصورة الحقيقية أبهى وأمتع، أعظم به من أب هو المثل الأعلى، آه لو رأيته وهو قابض على الدف والكأس بين يديه تزهر! عفارم ... عفارم يا سيد أحمد!
فتساءل فهمي في حيرة: وحزمه وتقواه؟!
فقطب ياسين ليركز فكره في المسألة، ولكنه وجد نفسه في حال الجمع بين الأضداد أروح لها من التوفيق بينها، فقال مدفوعا بالإعجاب وحده: ليس ثمة مشكلة على الإطلاق، عقلك الرعديد وحده الذي يخلق المشكلة من العدم، أبي حازم ومؤمن ويحب النسوان، شيء بسيط واضح 1 + 1 = 2، ولعلي أشبه الناس به على وجه التقريب؛ لأني مؤمن وأحب النسوان وإن قل نصيبي من الحزم، أنت نفسك مؤمن وحازم وتحب النسوان، ولكن بينا تحقق إيمانك وحزمك إذا بك تنكص عن الثالثة (ثم ضاحكا) والثالثة هي الثابتة!
لعله نسي عند آخر كلامه باعث الإعجاب الذي دفعه إلى الاسترسال فيه، فجاء قوله دفاعا عن أبيه في الظاهر فقط، أما في الحقيقة فلم يكن إلا تعبيرا عن شعور وهاج هاج به دمه المخمور، عن شهوة جامحة ركبته عقب اختفاء الرقباء الذين يحذرهم، شهوة أثارها خيال مكهرب بالشراب، فرغب جسده في الحب رغبة جنونية عجزت إرادته عن شكمها أو ملاطفتها، ولكن أين يجد مطلبه؟ هل يتسع له الوقت؟! ... زنوبة؟! ... ماذا يحول بينه وبينها؟! ... طريق قصير، ضجعة قصيرة، ثم يعود فينام نوما عميقا هادئا، هش للأخيلة المغرية هشاشة شخص لا عقل له يراجعه، فاندفع إلى تحقيقها بلا تردد، وما لبث أن قال لأخيه: الجو حار، سأصعد إلى السطح لأتنسم هواء الليل الرطيب.
وغادر الحجرة إلى الدهليز الخارجي، ومضى يهبط متلمسا طريقه في ظلمة غاشية، محاذرا غاية الحذر أن يند عنه صوت. ترى كيف يستطيع الوصول إلى زنوبة في هذه الساعة من الليل؟ هل يطرق الباب؟ ومن عسى أن يجيء لفتحه؟ وبم يجيبه إذا سأله عن مقصده؟ وإذا لم يستيقظ أحد لفتح الباب؟ أو إذا جاء الخفير ليراقبه بتطفله المعروف؟ عامت هذه الخواطر على سطح مخه كالفقاقيع، ثم انداحت غارقة في تيار الخمر الجارف فلم يتجهم لها كعوائق ينبغي تقدير عواقبها، ولكنه ابتسم لها كدعابات مما قد يؤنس وحشة مغامرته، ثم جاوزها خياله طائرا إلى حجرة زنوبة المطلة على مفرق الغورية والصنادقية، فتخيلها في قميص النوم الأبيض الشفاف، الذي يتقوس مطاوعا فوق النهدين وحول الردفين، وتنحسر حاشيته عن ساقين مدملجتين خمريتين، فجن جنونه وود لو يثب فوق الدرجات لولا الظلمة الغاشية. خرج - بخروجه إلى الفناء - إلى ظلمة أخف قليلا بما نفضته النجوم عليها من أضواء خافتة، بيد أنها بدت لعينيه اللتين كابدتا ظلمة السلم طويلا نورا أو كالنور. وعند خطا خطوتين متجها إلى الباب الخارجي في آخر الفناء جذب عينيه نور ضئيل ينبعث من سراج على وضم أمام حجرة الفرن، فألقى عليه نظرة لا تخلو من استغراب حتى عثر قريبا منه على جسم منطرح على الأرض فتنوره على ضوء السراج، فعرف أم حنفي التي بدت وكأنها استحبت النوم في الهواء الطلق فرارا من جو حجرة الفرن الخانق. وهم بمواصلة السير ولكن ثمة شيء استوقفه، فعطف رأسه مرة أخرى صوب النائمة، فأمكنه أن يتبينها من موقفه، الذي لم يفصله عنها إلا بضعة أمتار، بوضوح غير منتظر، رآها مستلقية على ظهرها ثانية ساقها اليمنى التي رسمت في الهواء بحافة الجلباب الملتصقة بالركبة هرما قائما، وكشفت في نفس الوقت عن فخذها اليسرى التي لاحت عارية فيما يلي الركبة، ثم غرقت في ظلمة الفرجة التي انحسر عنها الجلباب بين الساق القائمة والأخرى الممدودة، ومع أن إحساسه بضيق الوقت ووجوب البدار إلى غايته لم يهن، إلا أنه لم يسترد بصره عن الجسم الملقى غير بعيد منه، أو لعله لم يستطع استرداده وانساق وهو لا يدري إلى تفرسه بإمعان بدا في يقظة عينيه المحمرتين، وانفراج شفتيه الممتلئتين، فاستحالت يقظة العين - وهي تتفحص الجسم اللحيم الذي شغل فراغا كبيرا كأنه جاموسة مسمنة - رغبة مريبة، حتى استقر البصر على الفرجة المعتمة ما بين الساق القائمة والساق الممدودة، ثم تحول التيار المضطرم في شرايينه من التطلع صوب باب الخروج إلى حجرة الفرن، وكأنه يكتشف لأول مرة المرأة التي خالطها أعواما طويلة بغير مبالاة. على أن أم حنفي لم تحظ بسمة واحدة من سمات الحسن، وبدا وجهها الجهم أكبر من سنها الحقيقية التي لم تكد تجاوز الأربعين، حتى اكتنازها باللحم والدهن كان - لتنافره وسوء تنسيقه - بالانتفاخ الغليظ أشبه؛ ولذلك وربما أيضا لطول انزوائها في حجرة الفرن، وقديم معاشرته لها التي بدأت مع صباه، لم يلتفت إليها قط. بيد أنه كان وقتذاك على حال من الهيجان فقد معها أية قدرة على التمييز فأعمته الشهوة، وأي شهوة؟ شهوة مولعة بالمرأة لذاتها لا لمعانيها ولا لألوانها، تعشق الحسن ولا تعزف عن القبح، والكل عندها في «الأزمات» سواء كالكلب يلتهم بلا تردد ما يصادفه في القمامة، عند ذاك بدت له مغامرته الأولى - زنوبة - محفوفة بالمتاعب مجهولة بالعواقب، ولم يعد «الوصول إليها في هذه الساعة من الليل، وطرق الباب، وما يقول لفاتحه والخفير» دعابات يبسم لها، ولكن عوائق حقا يجدر به أن يتفادى منها. تقدم في خفة وحذر فاغرا فاه، ذاهلا عن كل شيء إلا قنطار اللحم المنطرح عند قدميه الذي بدا لعينيه النهمتين وكأنه أخذ أهبته لاستقباله، حتى توقف بين الساق القائمة والأخرى الممدودة، ثم انحنى عليها قليلا قليلا بلا وعي تقريبا، وبإغراء شديد من الداخل والخارج معا، وما يدري إلا وهو ينبطح فوقها . لعله لم يتعمد الذهاب إلى هذا الحد دفعة واحدة، ولعله هم بشيء من التمهيد كان لا ينبغي أن يسبق الحركة العنيفة الأخيرة، ولكن الجسم الذي انبطح عليه اضطرب اضطرابة فزع شديدة، وندت عنه صرخة مدوية - سبقت يده التي رامت كتمها - فمزقت السكون الشامل ولطمت مخه لطمة قوية ردت إليه وعيه، فأطبق راحته على فمها، وهو يهمس في أذنها بقلق وخوف بالغين: أنا ياسين، أنا ياسين يا أم حنفي، لا تخافي.
وطفق يكرر قوله حتى اطمأن إلى وعيها إياه فاسترد راحته، ولكن المرأة - التي لم تمسك عن المقاومة قط - تمكنت أخيرا من تنحيته عنها، فاستوت جالسة وهي تلهث من الجهد والانفعال، ثم سألته بصوت أزعجه أيما إزعاج: ماذا تريد يا سي ياسين؟
فقال لها بلهجة هامسة ملؤها الرجاء: لا ترفعي صوتك هكذا، قلت لك لا تخافي، ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف بتاتا.
فعادت تسأله بجفاء وإن خفضت من صوتها قليلا: ماذا جاء بك؟
فجعل يربت على يدها متوددا وهو يتنهد في شبه ارتياح لم يخل من عصبية كأنما رأى في خفضها لصوتها أمارة مشجعة وقال لها: ماذا أغضبك؟ لم أرد بك سوءا (مبتسما ابتسامة وشت بها نبراته) هلمي إلى حجرة الفرن.
فقالت المرأة بصوت مضطرب، ولكنه ذو دلالة حازمة: كلا يا سيدي، اذهب إلى حجرتك، اذهب، الله يلعن الشيطان.
لم تزن أم حنفي كلماتها بميزان، ولكنها ندت عنها كما اقتضى الحال. لعلها لم تعبر أصدق التعبير عن رغباتها، ولكنها عبرت تماما وبغير شعور منها عن شدة المفاجأة، مفاجأة لم تسبق يوما بتمهيد من أي نوع كان، التي انقضت عليها في نومها كما تنقض الحدأة على الفرخ، فصدت الشاب وزجرته بلا أدنى تفكير حقيقي في الصد أو الزجر، بيد أنه أساء فهمها فامتلأ حنقا وثارت برأسه الخواطر ... «ما العمل مع بنت الكلب هذه! لا يمكن أن أتراجع بعد أن كشفت نفسي، وتماديت إلى حد الفضيحة، لا بد مما أريد ولو لجأت إلى القوة.» وفكر بعجلة في أنجع وسيلة للتغلب على ما تراءى له من مقاومة، ولكنه - قبل أن يتخذ قرارا - سمع حركة غريبة، لعلها أقدام، آتية من باب السلم، فوثب قائما وهو من الفزع في نهايته، مزدردا شهوته كما يزدرد اللص فص الماس المسروق إذا بوغت في مكمنه، واستدار صوب الباب ليعاين ما هنالك، فرأى والده وهو يجتاز العتبة مادا ذراعه بالمصباح. تسمر في مكانه مختطف الدم مستسلما ذاهلا يائسا. أدرك من توه أن صرخة أم حنفي لم تضع هباء، وأن النافذة الخلفية لحجرة الأب كانت له بالمرصاد، ولكن ما جدوى الإدراك المتأخر؟ ... لقد وقع في فخ القضاء والقدر. وجعل السيد يتفرس في وجهه بقسوة صامتا، مطيلا الصمت، وهو ينتفض غضبا، ودون أن يحول عنه عينيه القاسيتين أشار بيده إلى الباب يأمره بالدخول، ومع أن الاختفاء كان أحب إليه في تلك اللحظة من الحياة نفسها، إلا أنه من الخوف والارتباك لم يستطع أن يحرك ساكنا، فضاق صدر الأب ولاحت في عبوسته بوادر الانفجار، ثم زمجر صائحا وعيناه - اللتان انعكس عليهما ضوء المصباح المرتعش بارتعاش اليد القابضة عليه - ترسلان شررا: اطلع يا مجرم يا بن الكلب.
فما ازداد إلا استمساكا بجموده حتى هجم عليه السيد، فقبض على ذراعه بيمناه وشد عليها بغلظة، ثم جذبه بشدة نحو الباب، فاندفع بقوة الجذبة الخارقة، فكاد يقع على وجهه، وتمالك توازنه وهو يلتفت وراءه فزعا، وفر بنفسه وثبا لا يبالي ظلمة.
42
علم بفضيحة ياسين شخصان - غير أبيه وأم حنفي - هما ست أمينة وفهمي، سمعا صرخة أم حنفي، فشاهدا من نافذتيهما ما دار بين الشاب وبين السيد، ثم حدسا ما هنالك دون حاجة إلى كبير ذكاء، على أن السيد كاشف زوجه بزلة ابنه، وسألها مدققا عما تعلم من أخلاق «أم حنفي»، فدافعت أمينة عن خادمتها بما علمت من طبيعتها واستقامتها، وذكرت السيد بأنه لولا «صرختها» ما درى أحد بما كان. فقضى الرجل ساعة وهو يسب ويلعن، سب ياسين، وسب نفسه؛ لأنه «ما كان ينبغي أن ينجب أطفالا ليكدروا صفوه بأهوائهم الشريرة»، واستفاض به الغضب فسب البيت وأهله جميعا! ... وظلت أمينة صامتة كما واصلت صمتها فيما بعد كأنما لم تدر شيئا، كذلك تجاهل فهمي الأمر كله، تظاهر بالاستغراق في النوم حين عاد أخوه إلى الحجرة لاهثا عقب الموقعة الخاسرة، ولم يبد منه فيما بعد ما ينم عن علمه بشيء، كره أن يعلم الآخر بوقوفه على ما نزل به من ذل ومهانة إكراما لاحترام يكنه له بصفته أخاه الأكبر، احترام لم يذهبه كل ما تكشف له من استهتاره ومجونه، أو ما تقدم هو به عليه من علم وثقافة، أو ما يبدو من ياسين نفسه من عدم مبالاة بإلزام أحد من إخوته باحترامه بما يعابثهم من مزاح ودعابة، أجل لم يزل يكن له احتراما لعل حرصه على الإبقاء عليه راجع إلى ما يأخذ به نفسه من تأدب وجد ورزانة أكسبته مظهرا أكبر من سنه، بيد أن خديجة لم يفتها أن تلاحظ - غداة الواقعة - أن ياسين لم يتناول فطوره على مائدة أبيه، فسألته باستغراب عن المانع، فأجابها بأنه لم يهضم عشاء الفرح، وشعرت الفتاة - بسوء ظنها الطبيعي المرهف - بأنه ثمة علة لتخلفه غير عسر الهضم، فساءلت أمها ولكنها لم تجد جوابا شافيا، ثم رجع كمال من حجرة الطعام وهو يتساءل أيضا، لا بدافع من حب الاستطلاع أو الأسف، ولكن أملا أن يجد في الجواب ما يبشره بفترة أخرى يخلو الميدان فيها من منافس خطير كياسين، وكاد الأمر ينسى لولا أن ياسين غادر البيت مساء من غير أن يشترك في مجلس القهوة المعهود، ومع أنه اعتذر لفهمي والأم بارتباطه بميعاد إلا أن خديجة قالت بصراحة: «في الأمر شيء، لست عبيطة ... أقطع ذراعي إن لم يكن ياسين متغيرا.» وعند ذاك اضطرت الأم أن تعلن غضب السيد على ياسين لسبب لم تعلمه ... وانقضت ساعة وهم يخمنون السبب، حتى أمينة وفهمي اشتركا مع الآخرين مداراة للواقع. وظل ياسين على تجنبه لمائدة أبيه حتى دعي ذات صباح إلى مقابلته قبل الفطور. لم تفجأه الدعوة، وإن أزعجته رغم ذلك، فكم توقعها يوما بعد يوم لاستيثاقه من أن أباه لا يمكن أن يقنع من زلته بتلك الجذبة العنيفة التي كادت أن تلقيه على وجهه، وأنه لا بد عائد إليها بطريق أو بآخر، ولعله توقع أيضا معاملة لن تليق بحال بموظف مثله مما حمله حينا على التفكير في مغادرة البيت إلى حين أو إلى الأبد. أجل لا يجمل بأبيه - أبيه كما عرفه في بيت زبيدة خاصة - أن يلقى زلته بهذا العنت كله، كما لا يجمل به هو أن يعرض نفسه لمعاملة لا تليق برجولته، فالأكرم له أن يفارقه، ولكن إلى أين؟ ... ليس إلا أن يعيش عيشة مستقلة بمفرده، ولن يعجزه هذا، بيد أنه قلب الأمر على مختلف وجوهه، قدر النفقات، وتساءل عما يبقى له بعدها لملاذه، لقهوة سي علي وحانة كستاكي وزنوبة. هنالك فتر حماسه حتى انطفأ كما تنطفئ شعلة سراج تعرضت لهبة هواء عنيفة، وراح يقول لنفسه وهو شاعر بخداعه: «لو طاوعت الشيطان وهجرت البيت لأحدثت تقليدا خبيثا لا يليق بأسرتنا، مهما يقل أبي أو يفعل فهو أبي، وهيهات أن تضام حيال تأديبه.» ثم قال بصراحته التي يصطنعها إذا غلبته روح الدعابة: «شيئا من التواضع يا ياسين بك، دعنا من الكرامة وحياة أمك، أيهما أحب إليك كرامة سيادتك أو كونياك كستاكي وسرة زنوبة!» هكذا عدل عن التفكير في مغادرة البيت ولبث ينتظر الدعوة المتوقعة حتى وقعت فجمع نفسه ومضى كارها متوجسا، دخل الحجرة خافض الرأس خفيف القدم، ووقف بعيدا عن مجلس أبيه من غير أن يجرؤ على التسليم عليه وانتظر. وألقى السيد عليه نظرة طويلة ثم هز رأسه كالمتعجب وهو يقول: ما شاء الله! ... طول وعرض، شارب وقفا، إذا رآك الرائي في الطريق قال لنفسه بإعجاب نعم الرجل ونعم الابن، فليت القائل يجيء إلى البيت ليراك على حقيقتك!
ازداد الشاب ارتباكا وحياء ولكنه لم ينبس بكلمة، ومضى السيد يتفحصه بسخط، ثم قال باقتضاب وبلهجة جافة آمرة: قررت أن تتزوج!
ودهش ياسين دهشة لم يكد يصدق معها أذنيه، كان يتوقع سبا ولعنا فحسب، ولكن لم يخطر له على بال أنه سيسمع قرارا خطيرا يغير مجرى حياته كله، فما تمالك أن رفع عينيه إلى وجه أبيه حتى إذا ما التقتا بعينيه الزرقاوين الحادتين خفضهما متورد الوجه لائذا بالصمت، وفطن السيد إلى أن ابنه بوغت بهذا القرار «السعيد» بدلا من المعاملة الفظة التي كان يتوقعها، فثار حنقه على الظروف التي أملت عليه أن يلقاه بجانب دمث خليق بتكذيب ظنه بجبروته المعروف، فبث حنقه في نبرات صوته، وهو يقول عابسا: الوقت ضيق وأريد أن أسمع جوابك.
ما دام الرجل قد قرر أن يزوجه، فهو يأبى إلا أن يسمع جوابا واحدا، ولا مانع من أن يسمعه الجواب الذي يريد، لا طاعة لأمره فحسب، ولكن تلبية لرغبته هو أيضا. أجل ما كاد والده يعلنه بقراره حتى انطلق خياله يصور له «عروسا» حسناء، امرأة تكون ملك يمينه ورهن إشارته حين يشاء، فأبهج الخيال قلبه حتى أوشك أن يفضحه صوته وهو يقول: الرأي رأيك يا بابا. - تريد أن تتزوج أم لا؟ ... انطق.
فقال الشاب بحذر من يرغب الزواج وهو غير مستعد له ماليا: ما دامت هذه هي إرادتك فإني موافق على العين والرأس.
فخفف السيد من خشونة لهجته وهو يقول: سأطلب لك كريمة صديقي السيد محمد عفت تاجر الأقمشة بالحمزاوي، لقية ظفرها برقبة ثور مثلك.
فابتسم ياسين ابتسامة خفيفة وقال مداهنا: ولكني بفضلك أصير كفئا لها.
فرمقه بنظرة حادة كأنما لينفذ بها إلى أعماق مداهنته وقال: من يسمع كلامك لا يتصور فعالك يا منافق ... اغرب عن وجهي.
وهم ياسين بالتحرك ولكنه أوقفه بإشارة من يده، ثم تساءل مستدركا كأنما عرض التساؤل له اتفاقا: أظنك حوشت المهر؟
لم يحر جوابا وعلاه الارتباك، فاغتاظ السيد وتساءل مستنكرا: ولكنك عشت رغم توظفك في كفالتي كما كنت تعيش وأنت تلميذ، فماذا صنعت بمرتبك؟
فلم يزد على أن حرك شفتيه دون أن ينبس، فحرك الأب رأسه ممتعضا، وذكر قوله له منذ عام ونصف، وهو يوصيه لمناسبة توظفه: «لو طالبتك الآن بأن تتعهد بنفقات نفسك بوصفك رجلا مسئولا ما خرقت المألوف بين الآباء والأبناء، ولكني لن أطالبك بمليم واحد كي أهيئ لك فرصة لاقتصاد مقدار من المال تجده بين يديك إذا دعت الحاجة إليه.» ودل ذلك التصرف من جانبه على ثقته بابنه، والحق أنه لم يتصور أن يجنح أحد من أبنائه - بعدما نال من تأديبه وتهذيبه الصارمين - إلى هوى من الأهواء الجامحة التي تبدد المال، لم يتصور أن ينقلب ابنه «الصغير» سكيرا ماجنا؛ فالخمر والنساء التي يراها في حياته هو لونا من اللهو لا يمس رجولة ولا يؤذي إنما تنقلب إذا «لوثت» أحدا من أبنائه جريمة لا تغتفر؛ ولذلك فإن زلة الشاب التي كشفها في فناء البيت طمأنته بقدر ما أغضبته؛ لأن أم حنفي في نظره لا يمكن أن تغري شابا إن لم يكن تحمل ما فاق طاقته من الاستقامة والعفة ... أجل لم يشك في براءة ابنه، بيد أنه ذكر ما لاحظه كثيرا من ولعه بالأناقة، وتخيره النفيس من البدل والقمصان وأربطة الرقبة، وكيف لم يرتح إلى ذلك وحذره الإسراف ولكن تحذيرا هينا، إما لأنه لم ير في الأناقة جريمة، وإما لأن تشبه ابنه به وتكراره لصورة من صور سلوكه - الذي لا يرى بأسا في أن يكرره أبناؤه - حركا في صدره العطف والتسامح، ولكن كيف كانت نتيجة ذلك التسامح؟ هي ما وضح له الآن من تبذيره نقوده في التافه من الكماليات. ونفخ الرجل مغيظا محنقا، وقال له محتدا: اغرب عن وجهي ...
غادر ياسين الحجرة مغضوبا عليه بسبب تبذيره لا بسبب زلته كما توقع وهو ذاهب إلى الحجرة، تبذيره الذي لم يكربه من قبل فسلم إليه نفسه بلا تفكير ولا تدبر، ينفق ما في جيبه حتى يفرغ غارقا في ساعته، متعاميا عما يسمونه «المستقبل» كأنه شيء لا وجود له، ومع أنه غادر الحجرة مرتبكا وجلا لنهرة أبيه، إلا أنه لم يخل من ارتياح عميق؛ إذ أدرك أن تلك النهرة لا تعني طرده فحسب، ولكن أيضا أن السيد سيتكفل بنفقات زواجه، ومضى كالطفل الذي يضيق أبوه بإلحاحه في طلب قرش، فينقده إياه ويدفعه خارجا ، فينسى شدة الدفعة في فرحة الظفر. ولبث الأب ساخطا وراح يردد: «يا له من حيوان، جسم طويل عريض ولكن بلا مخ!» أغضبه إسرافه كأنه لا يتخذ هو من الإسراف شعارا في الحياة - ولكنه لا يرى بأسا في إسرافه كسائر أهوائه - ما دام لا يفقره وينسيه واجباته أو يدهور شخصيته، ولكن كيف يضمن أن يصمد أمامه ياسين؟ ... فلم يكن يحرم عليه ما يحل لنفسه من استبداد وأنانية فحسب، ولكن شفقا عليه وإن دل شفقه هذا على ثقة بالنفس وعدم ثقة بالآخر لا يخلوان من غرور. وزايله الغضب كعادته بنفس السرعة التي ركبه بها، فصفت نفسه وانبسطت أساريره، وأخذت الأمور تتبدى له بوجه جديد لطيف مسماح ... «تريد أن تتشبه بأبيك يا تور ... إذن لا تأخذ جانبا وتهمل الجوانب الأخرى، كن أحمد عبد الجواد كله إن استطعت أو فالزم حدودك، أحسبتني حقا سخطت على تبذيرك لأني كنت أرجو أن أزوجك بنقودك؟! خسئت ... إنما رجوت أن أجدك مقتصدا كي أزوجك بنقودي على وفرة النقود لديك، هذا هو الرجاء الذي خيبت. وهل حسبتني لم أفكر في اختيار زوجة لك إلا بعد ضبطك متلبسا بالزنا، وأي زنا ... زنا حقير كحقارة ذوقك وذوق أمك؟! كلا يا بغل، إني أفكر في سعادتك منذ توظفت، كيف لا وأنت أول من جعلني أبا ... وأنت شريكي في العذاب الذي أصلتنا إياه أمك اللعينة؟! ... ثم أليس من حقي أن أفرح بك خصوصا وأنه علي أن أنتظر طويلا حتى أفرح بالثور الآخر أخيك أسير العشق، ويا ترى من يعيش؟!» في اللحظة التالية استرجع ذكرى ذات سبب وثيق بموقفه الراهن ذكر كيف قص على السيد محمد عفت «جريمة» ياسين، وما كان من زجره وجذبه تلك الجذبة التي كادت تلقيه على وجهه، وهو بصدد طلب يد كريمته للشاب - الواقع أن الموافقة على ذلك تمت بين الرجلين من قبل مفاتحة ياسين - وكيف قال له الرجل: «ألا ترى أنه يجمل بك أن تغير من معاملتك لابنك كلما قارب سن الرشد، خاصة إذا توظف وصار رجلا مسئولا (ثم ضاحكا) الظاهر أنك من الآباء الذين لا يرتدعون حتى يجهر أبناؤهم بالثورة عليهم.» وكيف أجابه بثقة قائلا: «هيهات أن تتعرض الرابطة بيني وبين أبنائي لتغير الزمن.» صدرت عنه الإجابة الأخيرة بمباهاة وثقة لا حد لها، على أنه اعترض له بعد ذلك أن معاملته تتغير في الواقع بتغير الأحوال، وإن عمل من جانبه على ألا يفطن أحد إلى نية التغيير الباطنة، ثم قال: «الحق أني لا أقبل أن أمد يدي الآن على ياسين ولا حتى على فهمي، والحق أني جذبت ياسين تلك الجذبة تحت تأثير غضب ثائر، ومن غير أن أقدر المدى الذي ذهبت إليه.» ثم استطرد قائلا وهو يكر إلى فترة من الماضي البعيد: «كان أبي رحمة الله عليه يلتزم في تربيتي شدة تهون إلى جانبها شدتي مع أبنائي، ولكنه سرعان ما غير من معاملته لي منذ أن دعاني إلى معاونته في الدكان، ثم استحالت معاملته صداقة أبوية منذ تزوجت أم ياسين، وقد بلغ بي الاعتزاز بالنفس أن عارضت في زواجه الأخير لكبره من ناحية، وحداثة سن العروس من ناحية أخرى، فلم يزد على أن قال لي: أتعارضني يا ثور ... وما دخلك في هذا الشأن؟ إني أقدر منك على إرضاء أية امرأة.» فما تمالكت أن ضحكت وطيبت خاطره معتذرا.» ذكر هذا كله فورد على ذهنه المثل القاتل «إذا كبر ابنك آخه» فشعر - ربما لأول مرة في حياته - بتعقد مهمة الأبوة كما لم يشعر به من قبل. في نفس الأسبوع أذاعت الأم خطبة ياسين في مجلس القهوة، كان فهمي قد علم بها عن طريق ياسين نفسه، أما خديجة فما تمالكت أن ربطت بين الخطبة وبين ما عرف من قبل عن غضب الأب على ياسين ظنا منها أن الغضب إنما وقع نتيجة لرغبة ياسين في الزواج قياسا على ما كان بين الأب وفهمي للسبب نفسه، فصرحت برأيها كالمتسائلة، فقال ياسين ضاحكا وهو يخطف من الأم نظرة لا تخلو من حياء وارتباك: الحق أن ثمة علاقة قوية بين الغضب وبين الخطبة.
فقالت خديجة متظاهرة بالاستنكار على سبيل السخرية والمزاح: بابا معذور في غضبه؛ لأن حضرتك لا يمكن أن تشرفه أمام صديق كبير مثل السيد محمد عفت.
فجاراها ياسين في سخريتها قائلا: وسوف يزداد موقف أبي حرجا إذا ما علم السيد الكبير المذكور بأن للعريس أختا مثل حضرتك!
عند ذاك تساءل كمال: هل سيتركنا ياسين كما تركتنا أبلة عائشة؟
فقالت له أمه باسمة: كلا، ولكن ستنضم إلى بيتنا أخت جديدة هي العروس.
ارتاح كمال إلى هذه الإجابة التي لم يكن يتوقعها، ارتاح إلى بقاء «راويته» الذي يمتعه بحكاياته ونوادره ومؤانسته، ولكنه عاد يتساءل لماذا لم تبق عائشة أيضا؟ فأجابته أمه بأن العادة قضت بأن العروس تنتقل إلى بيت العريس وليس العكس، لم يدر من سن هذه العادة، وكم تمنى لو كان العكس هو المتبع، ولو يضحي بياسين ولطائفه. بيد أنه لم يستطع أن يجهر برغبته فأفصح عنها بنظرة ناطقة رنا بها إلى أمه. فهمي وحده الذي أثار الخبر أشجانه، لا لأنه لم يشارك ياسين فرحته، ولكن لأن سيرة الزواج غدا شأنها أن توقظ عاطفته وتستثير حزنه كما تستثير سيرة النصر حزن أم فقدت ابنها في موقعة ظافرة.
43
تحرك الحنطور مقلا الأم وخديجة وكمال في طريقه إلى السكرية. أيكون زواج عائشة إيذانا بعهد جديد من الحرية؟ أيقدر لهم أخيرا أن يطلعوا على نور الدنيا من حين لآخر، وأن يتنفسوا هواءها الطليق؟! بيد أن أمينة لم تستسلم للتفاؤل أو تسبق الحوادث، فالذي حرم عليها زيارة أمها فيما ندر قادر على أن يحرم عليها زيارة ابنتها كذلك. ولم تنس أنه مضت أيام كثيرة على زواج الفتاة زارها خلالها الأب وياسين وفهمي وحتى أم حنفي دون أن يؤذن لها هي بزيارتها أو تواتيها شجاعتها على الاستئذان للزيارة، تحرزت من تذكيره بأن لها ابنة في السكرية يجب أن تراها، ولازمت الصمت وإن لم تبرح صورة الصغيرة مخيلتها، على أنه لما ضاق صدرها بآلام التصبر استجمعت إرادتها وسألته: إن شاء الله يكون سيدي عازما على زيارة عائشة قريبا لنطمئن عليها ؟
فطن السيد إلى ما وراء السؤال من رغبة خفية فحنق عليها، لا لأنه كان قرر أن يحول بينها وبين زيارة عائشة، ولكن لأنه ود - كشأنه في مثل هذه الحالة - أن يصدر السماح منه منحة غير مسبوقة بطلب أن تقوم بنفسها شبهة بأن طلبها ذو أثر في استصدار السماح، فكره أن تسعى إلى تذكيره بهذا السؤال الماكر، ومن قبل فكر في الأمر بضيق، فأحنقه أن يجده ضرورة لا محيص منها، ولذلك هتف بها حانقا: عائشة في بيت زوجها ولا حاجة بها إلى أحد منا، على أنني زرتها كما زارها أخواها، فماذا يقلقك عليها؟!
غاص قلبها في صدرها وجف ريقها يأسا وقهرا، أما السيد فقد تعمد أن يلزم الصمت كأنه انتهى من الأمر كله معاقبة لها على ما عده مكرا منها لا يغتفر، ثم أهملها طوال الوقت وهو يختلس النظر إلى ما غشي أساريرها من كمد، حتى حان وقت انصرافه إلى عمله، فقال لها بجفاء واقتضاب: اذهبي غدا إلى زيارتها!
تدافع دم الانشراح إلى الوجه الذي لا تخفى بصفحته خافية، فبدت في سرور الطفل فما عتم أن عاوده حنقه، فصاح بها: لن تريها بعد ذلك إلا إذا سمح لها زوجها بزيارتنا!
فلم تعلق على قوله بكلمة، ولكنها لم تنس عهدا حملته وهي تشاور خديجة في مفاتحته، فقالت بعد تردد وإشفاق: هل يسمح سيدي بأن آخذ معي خديجة؟
فهز رأسه كأنما يقول: «ما شاء الله ... ما شاء الله»، ثم قال لها محتدا: طبعا ... طبعا! ... ما دمت قد قبلت أن أزوج ابنتي، فيجب أن تنضم أسرتي إلى أبناء الشوارع! ... خذيها، ربنا يأخذكم جميعا.
تم لها فوق ما تطمع من السرور فلم تلق بالا إلى الدعاء الأخير الذي ألفت سماعه ... وأكثر - في أوقات غضبه أو تظاهره بالغضب على السواء - كانت تعلم بأنه من طرف لسانه وأنه أبعد ما يكون من قلبه، مثله كمثل القطة تبدو حين تحمل صغارها، وكأنها تلتهمها. تحقق الرجاء وانطلقت العربة بهم في طريقها إلى السكرية. بدا كمال، لزيارة عائشة وخروجه بصحبة أمه وأخته وركوبه الحنطور، أوفر الثلاثة سرورا، وكأنه لم يستطع كتمان فرحه، أو أنه رغب في إعلانه على الملأ، أو لعله أراد لفت الأنظار إلى شخصه وهو يتخذ مجلسه في الحنطور بين أمه وأخته، فما اقتربت العربة من دكان عم حسنين الحلاق حتى وقف بغتة هاتفا: «يا عم حسنين ... انظر!» فنظر الرجل إليه، ولما لم يجده وحده غض بصره في عجلة مبتسما، فذابت الأم خجلا وارتباكا، وجذبته من طرف جاكتته أن يعيد الكرة أمام الدكاكين التالية، وراحت تؤنبه على فعلته «الجنونية». بدا بيت السكرية - وليس كذلك بدا في حلة الأنوار ليلة الفرح - عتيقا هرما ولكن دل عتقه نفسه فضلا عن ضخامة بنيانه ونفاسة أثاثه على السؤدد والجاه، فآل شوكت أسرة «قديمة»، وإن لم يبق لهم من عزة القدم - خاصة بعد توزيع الثروة بالتوارث والاستكبار على التعليم - إلا الاسم، وقد أقامت العروس بالدور الثاني على حين نزلت حرم المرحوم شوكت - ومعها ابنها الأكبر إبراهيم - الدور الأول لعجزها مع الكبر عن ارتقاء السلم، فبقي دور ثالث شاغرا لم يسعهم أن يشغلوه وأبوا أن يسكنوه. ولما أدخلوا شقة عائشة هم كمال، منطلقا مع سجيته كما لو كان في بيته، يجوس خلالها كي يعثر بنفسه على أخته مستمتعا بلذة المفاجأة التي تخيلها، وهو يرقى في السلم ولكن أمه لم تدعه يفلت من يدها رغم مقاومته، وما يدري إلا والخادم تقودهم إلى حجرة الاستقبال، ثم تتركهم وحدهم! شعر بأنهم يعاملون معاملة «الغرباء» أو «الضيوف» فانقبض صدره، وانكسرت نفسه وجعل يردد في جزع: «أين عائشة؟ ... لماذا نبقى هنا؟» فلا يسمع إلا كلمة «هس» وتحذيرا من منعه من الزيارة مرة أخرى إذا علا صوته! ... ولكنه سرعان ما زايله الألم حين جاءت عائشة مهرولة مشرقة الوجه بابتسامة غطى سناها على أضواء حلتها الزاهية وزينتها الباهرة، فجرى نحوها وتعلق بعنقها، فتبودل التسليم بينها وبين أمها وأختها وهو على ذلك الوضع! بدت عائشة سعيدة كل السعادة بنفسها، وبحياتها الجديدة، وبزيارة أهلها، حدثتهم عن زيارات أبيها وياسين وفهمي، وكيف غلبها الشوق إليهم على خوفها من أبيها فواتتها الجرأة على أن ترجوه السماح لهم بزيارتها! ... قالت: «لا أدري كيف طاوعني لساني حتى تكلمت! لعل مظهره الجديد الذي لم يتراء لي به من قبل هو الذي شجعني، بدا لطيفا وديعا باسما، إي والله باسما، على أنني ترددت رغم ذلك طويلا، خفت أن ينقلب فجأة فينتهرني، ثم توكلت على الله ونطقت!» فسألتها أمها عن رده كيف كان، فقالت: «قال لي باقتضاب: إن شاء الله، ثم استطرد مسرعا بلهجة جدية تنم عن تحذير: ولكن لا تظني المسألة لعبا فكل شيء بحساب. فخفق قلبي، ورحت أدعو له طويلا توددا واسترضاء!» ثم رجعت إلى الوراء قليلا، فوصفت حالها عندما قيل لها: «السيد الكبير في حجرة الاستقبال.» قالت: «ركضت إلى الحمام فغسلت وجهي لأزيل كل أثر للمساحيق، حتى تساءل سي خليل عما يدعو إلى ذلك كله، ولكني قلت له: أدركني، لا أستطيع أن ألقاه بفستان صيفي يكشف عن ذراعي! ولم أبرح موضعي حتى تلفعت بشال كشميري!» ثم قالت: «ولما علمت نينة ... (ضاحكة) أعني نينة الجديدة ... لما قص عليها سي خليل ما جرى ضحكت وقالت له: إني أعرف السيد أحمد تمام المعرفة ... هو هذا وأكثر (ثم ملتفتة إلي) ولكن اعلمي يا شوشو أنك لم تعودي من آل عبد الجواد، أنت الآن شوكتية فلا تبالي الآخرين ...» أصاب منظرها البهيج وحديثها من نفوسهم موضع الحب والإعجاب، فحملق كمال فيها كما فعل في ليلة الزفاف، وتساءل محتجا: «لماذا لم تكوني تبدين هكذا وأنت في بيتنا؟!» فأجابته على الفور ضاحكة: «لم أكن وقت ذاك شوكتية.» حتى خديجة رمقتها بعين الحب. انقطعت بزواج الفتاة دواعي الملاحاة التي كانت تنشب بينهما بسبب الاختلاط، ومن ناحية أخرى لم يبق من الإحساس بالحنق الذي ركبها عند السماح بزواج الفتاة قبلها، إلا أثر باهت حملته «بختها» من دون الفتاة، فلم يعد ينطوي قلبها إلا على الحب والشوق، لشد ما تفتقدها كلما آنست من نفسها حاجة إلى أنيس تفضي إليه بذات نفسها. ثم تحدثت عائشة عن البيت الجديد، عن المشربية التي تطل على بوابة المتولي، والمآذن التي تنطلق عن قرب، وتيار السابلة الذي لا ينقطع. كل شيء حولها يذكرها بالبيت القديم، وما يكتنفه من سبل وأبنية، فلا اختلاف فيما عدا الأسماء وبعض المعالم الثانوية «ولكن على فكرة البوابة العظيمة لا نظير لها عندكم (ثم بشيء من الفتور) وإن كان المحمل لا يمر تحتها كما أخبرني سي خليل!» وواصلت حديثها: «تحت المشربية مباشرة مجلس يضم ثلاثة لا يفارقونه قبل جثوم الليل؛ شحاذ كسيح وبائع مراكيب وضارب رمل، أولئك جيراني الجدد، إلا أن ضارب الرمل أسعدهم حظا، لا تسألوا عن أفواج النساء والرجال الذين يجلسون القرفصاء أمامه مستخبرين عن طوالعهم، كم وددت لو كانت مشربيتي أوطأ كيما أسمع ما يقول لهم، وألذ منظر، منظر سوارس القادمة من الدرب الأحمر إذا تقابلت مع عربة حجارة قادمة من الغورية، فضاق عنهما مدخل البوابة، وركب كل سائق رأسه متحديا الآخر أن يتراجع ليفسح السبيل، يبدأ الكلام لينا بعض اللين فيحتد، ثم يخشوشن، ثم تهدر الحناجر بالسباب والشتائم، وتجيء في أثناء ذلك عربات كارو وعربات يد، فيغص بها الطريق، ولا يدري أحد كيف يعود الحال إلى ما كان عليه، هنالك أقف وراء الخصاص أكاتم الضحك، وأتأمل الوجوه والمناظر.» وما أشبه فناء البيت الجديد بفناء بيتهم، حجرة الفرن والمخزن وحماتها سيدة الفناء، والجارية سويدان «لا أجد لي عملا فلا أذكر المطبخ حتى تحمل إلي صينية الطعام.» وعند ذاك لم تتمالك خديجة نفسها من أن تضحك قائلة: «نلت ما طالما تمنيته!» لم يجد كمال في الحديث شيئا ذا بال، إلا أنه أحس في نغمته العامة بما يوحي «باستقرار» المتحدثة، فداخله الانزعاج وسألها: ألن تعودي إلينا؟
فملأ الحجرة صوت يقول: لن تعود إليكم يا سي كمال.
وإذا بخليل شوكت يدخل ضاحكا وهو يرفل بجسمه الربعة في جلباب حرير أبيض. كان ذا وجه بيضاوي ممتلئ، أبيض البشرة في عينيه جحوظ خفيف وفي شفتيه غلظة، أما رأسه الكبير فينتهي بجبين ضيق يفترق عند قمته شعر أسود كثيف يشبه في لونه وتسريحته شعر السيد، تلوح في عينيه نظرة طيبة وخمول، لعلها أثر للراحة والفراغ والرضا، انحنى على يد الأم ليقبلها، فجذبتها بسرعة في خجل وارتباك، وهي تتمتم شاكرة ثم سلم على خديجة وكمال وجلس وكأنه - على حد تعبير كمال فيما بعد - واحد منهم. وانتهز الغلام فرصة تشاغل العريس بتحديثهم، وتفرس في وجهه طويلا، ذاك الوجه الغريب أصلا الذي برز في محيط حياتهم ليحتل مكانا مرموقا يؤهله لأن يكون أقرب الأقرباء، أو بالأحرى أن يكون قرينا لوجه عائشة، كلما خطر هذا على باله جر وراءه ذاك كما يجر الأبيض الأسود. تفرس فيه طويلا وهو يردد في نفسه قوله الممتلئ ثقة: «لن تعود إليكم يا سي كمال.» فوجد نحوه إنكارا ونفورا وحقدا، وكادت تتمكن من قلبه لولا أن قام الرجل فجأة ومضى إلى الخارج، ثم عاد حاملا صينية فضية ملئت حلوى من مختلف الألوان، فقدم له باسما - وإن كشف افترار ثغره عن سنتين ركبت إحداهما الأخرى - نخبة من أشهى الأصناف، وجاءت حرم المرحوم شوكت معتمدة على ذراع رجل استدلوا بمشابهته بخليل على أنه أخوه الأكبر، ثم وكد استدلالهم تقديم الأرملة بقولها: «إبراهيم ابني ... ألم تعرفوه بعد؟!» وعندما لاحظت ارتباك أمينة وخديجة حال التسليم، قالت باسمة: «نحن كالأسرة الواحدة من قديم الزمان، ولكن بعضنا يرى البعض الآخر الساعة لأول مرة ... لا بأس!» فطنت أمينة إلى أن المرأة تشجعها وتهون عليها الأمر فابتسمت، ولكن ساورها شيء من القلق، وتساءلت: ترى هل يوافق السيد على مقابلتهما لهذا الرجل - وإن عد عضوا جديدا في الأسرة كخليل سواء بسواء - بغير نقاب؟ ... وهل تكاشفه بالمقابلة أو تتحاشى ذكرها إيثارا للسلامة؟
كان إبراهيم وخليل أشبه بالتوءمين لولا فارق السن، على أن اختلافهما بدا أقل من القليل بالقياس إلى اختلاف عمريهما، والحق أنه لولا قصر شعر إبراهيم ولولا شاربه المفتول، لما كان ثمة ما يميزه عن خليل، كأنه لم يبلغ الأربعين، أو كأن شبابه ومظهره لا يتأثران بكرور الأعوام؛ لذلك ذكرت أمينة ما حدثها به السيد مرة عن المرحوم شوكت من أنه «كان يبدو أقل من عمره الحقيقي بعشرين عاما أو يزيد.» أو قوله عنه: «إنه رغم طيبته ونبله كان كالحيوان لا يسمح لفكره أبدا بأن ينغص عليه صفوه!» أليس عجيبا أن يبدو إبراهيم في الثلاثين مع أنه تزوج في صدر شبابه وأنجب طفلين، ثم ماتت زوجه وطفلاه؟! ولكنه مرق من تجربته القاسية سالما لم يمس، ثم عاود الحياة مع أمه في خمول ودعة وفراغ، شأن آل شوكت جميعا، راق خديجة أن تسترق النظر، كلما أمنت أعين الرقباء إلى الشقيقين، إلى أوجه الشبه العجيبة بينهما، بيضاوية الوجه وامتلائه، جحوظ العينين الواسعتين، البدانة، الخمول، فحرك كل أولئك السخرية الكامنة في نفسها حتى ضحكت أفكارها، ومضت تدخر في ذاكرتها من الصور ما تعود إليه إذا ضمها مجلس القهوة، ومالت جريا على سنتها في التهكم إلى العبث والإضحاك، وإلى هذا فكرت باهتمام في اختيار اسم وصفي عياب لهما على مثال الأسماء الوصفية التي تطلقها على ضحاياها من الناس، أو بالأحرى أسوة بأمهما التي تطلق عليها «المدفع الرشاش» لتناثر ريقها عند الحديث. واسترقت مرة نظرة إلى إبراهيم فما راعها إلا أن تلتقي عيناها بعينيه الواسعتين، وهما تتفرسان في وجهها باهتمام من تحت حاجبيه الكثيفين، فغضت بصرها في حياء وارتباك، وتساءلت في خوف المريب عما عسى أن يظنه بنظرتها، ثم وجدت نفسها تفكر بقلق في منظرها، وما يمكن أن يتركه في نفسه من أثر. ترى أيسخر من أنفها كما سخرت من بدانته وخموله؟! ... واستغرقها التأمل والقلق.
سئم كمال الجلسة التي وإن تكن جمعته بعائشة، إلا أنها جمعته بها على نحو ما تجمع بين الضيوف، فلم تحقق - عدا ما منحت من حلوى - شيئا من رغابه، فانتقل إلى جوار العروس، وأبدى لها إشارة فهمت منها أنه يريد أن يخلو بها فقامت وأخذته من يده، وغادرا الحجرة، ظنته قانعا بمجالستها في الصالة، ولكنه جذبها من يدها إلى حجرة النوم، ورد الباب وراءهما حتى ارتج. انطلقت أساريره ولمعت عيناه، وتطلع إليها طويلا، ثم تصفح الحجرة ركنا ركنا وهو يتشمم رائحة الأثاث الجديد مازجها أريج زكي لعله بقية مما انتشر من أيدي المتطيبين وصدورهم، ثم رنا إلى الفراش الوثير، إلى النمرقتين الورديتين المتجاورتين على الغطاء فوق الوسائد، وسألها: «ما هما؟» فأجابته: «وسادتان صغيرتان.» فسألها: «أتتوسدينهما؟» قالت باسمة: «كلاهما للزينة فقط.» فأشار إلى الفراش متسائلا: «أين تنامين؟» فأجابت باسمة أيضا: «في الداخل.» فسألها كأنه متوكد من أنه ينام معها: «وسي خليل؟» فأجابت وهي تقرص خده برقة: «في الخارج ...» عند ذاك التفت صوب «الشيزلنج» بغرابة، وسار إليه وجلس، ودعاها إلى الجلوس جنبه فجلست، وما لبث أن غاب في الذكريات غاضا بصره ليخفي نظرة مريبة وصمها بالريبة اشتداد أمه بالحملة عليه مساء ليلة الزفاف، وهو يسر إليها بما رأى من ثقب الباب، راودته نفسه على أن يبوح لها بسره، أن يسألها عنه، تحت ضغط إغراء لا يخلو من قسوة، ولكن الخجل الناجم عن الشعور بالريبة عقله، فشكم رغبته على رغمه، ثم رفع إليها عينين صافيتين وابتسم إليها، فابتسمت إليه ومالت نحوه فقبلته، ثم نهضت قائلة وملء وجهها ابتسامة حلوة: لأملأن جيوبك بالشوكولاتة.
44
تصايح الغلمان المتجمهرون أمام باب البيت وعلى طوار سبيل بين القصرين مهللين، تميز صوت كمال وهو يهتف: «هلت سيارة العروس» ورددها ثلاثا فخرج ياسين - وهو في كامل زينته وأبهته - من بين الجماعة الواقفة عند مدخل الفناء، ومضى إلى الطريق فوقف أمام الباب متجها صوب النحاسين، فرأى موكب العروس وهو يتقدم على مهل كأنه يتبختر. في تلك الساعة الحافلة بالسعادة والرهبة، وعلى رغم الأعين المحملقة فيه من داخل البيت وخارجه ومن فوق ومن تحت، بدا ثابتا غير هياب مفعما رجولة وفحولة، لعل مما أيده في ثباته إحساسه بأنه محط الأنظار، فغالب بشجاعة ما يخفق بين جوانحه من اضطراب أن يبدو للناظرين في حال تخجل منها الرجولة، ولعله أيضا علم بأن أباه منكمش في مؤخرة الجماعة المنتظرة عند مدخل الفناء - التي تضم آل العروسين من الذكور - بحيث لا تمتد إليه عيناه، فوسعه أن يتمالك نفسه وهو يرنو إلى السيارة الموشاة بالورود التي تحمل إليه عروسه بل زوجه منذ أكثر من شهر، وإن لم تقع عيناه عليها بعد، أو الأمل الذي صاغه بأحلامه الظامئة لسعادة لا تقنع بما دون الدوام. وتوقفت السيارة أمام البيت على رأس ذيل طويل من السيارات، فأخذ أهبته للاستقبال السعيد، وقد استجدت عنده الرغبة في أن يستشف النقاب الحريري ليرى وجه عروسه لأول مرة، ثم فتح باب السيارة وترجلت جارية سوداء في الأربعين قوية البنية، لماعة البشرة نجلاء العينين، فاستدل بما يلوح على حركاتها من الثقة والإدلال على أنها الجارية التي تقرر إلحاقها بخدمة العروس في بيتها الجديد، تنحت جانبا ووقفت منتصبة القامة كالديدبان، ثم خاطبته بصوت كرنين النحاس، وهي تبتسم عن أسنان ناصعة البياض قائلة: تفضل خذ عروسك.
فتقدم ياسين من باب السيارة، ومال إلى الداخل قليلا، فرأى العروس في حلتها البيضاء بين غادتين على حين استقبله عرف طيب مفتنة للجوارح، فتاه في جو الحسن منبهرا، ومد لها ذراعه لا يكاد يرى شيئا كما يكل بصر طالع نورا ساطعا، وعقل الحياء العروس فلم تبد حراكا، فتطوعت التي إلى يمينها، فتناولت يدها وطرحتها على ذراعه هامسة بنبرة ضاحكة: تشجعي يا زينب.
دخلا جنبا لجنب وهي من الحياء تحول بينه وبينها بمروحة كبيرة من ريش النعام وارت بها رأسها وعنقها، فقطعا الفناء بين صفين من المنتظرين يتبعهما المدعوات من آلها اللواتي تعالت زغاريدهن كأنهن لا يبالين السيد أحمد وقيامه على ذراع منهن، هكذا لعلعت الزغاريد في البيت الصامت لأول مرة وعلى مسمع من سيده الجبار، فلعلها وقعت من آذان أهله موقع الدهشة، بيد أنها دهشة مزجت بالفرح، ولم تخل من شماتة بريئة مرحة روحت بها القلوب عن قرار الحظر الصارم الذي قضى بألا تكون زغاريد ولا غناء ولا لهو، وبأن تمضي ليلة زفاف الابن البكر كما تمضي غيرها من الليالي. وتبادلت أمينة وخديجة وعائشة النظرات متسائلات باسمات وتكأكأن على خصاص نافذة مطلة على الفناء؛ ليشهدن أثر الزغاريد في نفس السيد فرأينه يحادث السيد محمد عفت ضاحكا، فتمتمت أمينة قائلة: «لن يسعه الليلة إلا أن يضحك مهما يبدو مما لا يروقه!» وانتهزت أم حنفي الفرصة السانحة، فاندست بين المزغردات كالبرميل، وأطلقت زغرودة قوية مجلجلة غطت على الزغاريد كلها، وعوضت بها ما ضيعت - في ظل الإرهاب - من فرص المرح والمسرة على عهد خطبتي عائشة وياسين، وأقبلت على سيداتها الثلاث وهي تزغرد حتى استغرقن في الضحك، ثم قالت لهن: «زغردن ولو مرة في العمر ... إنه لن يدري الليلة من المزغرد!» رجع ياسين بعد إيصال العروس إلى باب الحريم، فالتقى بفهمي الذي لاحت على شفتيه ابتسامة موحية بالحرج والإشفاق لعلها أثر مما خلفته في نفسه هذه الضجة البهيجة «المحرمة»، وكان يخالس أباه النظر ثم يرده إلى وجه أخيه ضاحكا ضحكة مقتضبة مغضوضة، فما كان من ياسين إلا أن قال له بلهجة لا تخلو من استياء: أي استنكار في أن نحيي ليلة الزفاف بالفرح والزغاريد؟! ... وماذا كان عليه لو وافق على استدعاء عالمة أو مغن؟!
تلك كانت رغبة الأسرة التي لم تجد إلى الإفصاح عنها من سبيل إلا أن تحرض ياسين على الاستشفاع بالسيد محمد عفت على أبيه، ولكن السيد اعتذر وأبى إلا أن تكون ليلة زفاف صامتة، وأن تقتصر مسراتها على العشاء الفاخر. وعاد ياسين يقول آسفا: لن أجد من تزفني هذه الليلة التي لن تتكرر أبد الدهر! ... سأدخل حجرة العروس غير مشيع بالأناشيد والدفوف كأنني راقص يهز جذعه دون إيقاع.
ثم لاحت في عينيه ابتسامة مرحة ماكرة، فقال: الذي لا شك فيه أن أبانا لا يطيق «العوالم» إلا في بيوتهن!
مكث كمال في الدور الأعلى الذي أعد لجلوس المدعوات ساعة، ثم نزل باحثا عن ياسين في الدور الأول الذي هيئ لاستقبال المدعوين، ولكنه وجده في فناء البيت يتفقد المطبخ المتنقل الذي أقامه الطاهي، فأقبل نحوه مسرورا إدلالا بأداء المهمة التي عهد بها إليه، وقال له: فعلت كما أمرتني فتبعت العروس حتى حجرتها وتفحصتها بعد أن حسرت النقاب عن وجهها ...
فانتحى به جانبا وهو يسأله باسما: هه؟ ... كيف عودها؟ - في عود أبلة خديجة.
ضاحكا: في هذه الناحية لا بأس؟ ... أتعجبك كعائشة؟ - كلا ... أبلة عيشة أجمل كثيرا! - يخرب بيتك أتريد أن تقول إنها كخديجة؟ - كلا إنها أجمل من أبلة خديجة. - كثيرا؟!
فهز رأسه مفكرا فسأله الشاب بلهفة: حدثني عما أعجبك فيها؟ - أنفها صغير كأنف نينة ... وعيناها كعيني نينة أيضا. - ثم؟ - لونها أبيض، وشعرها أسود، ورائحتها حلوة جدا. - نحمده ... ربنا يبشرك بخير.
وخيل إليه أن الغلام يغالب رغبة في معاودة الكلام، فسأله في شيء من القلق: هات ما عندك ولا تخف!
فقال كمال وهو يغض بصره: رأيتها تخرج منديلا ثم تتمخط!
والتوت شفتاه تقززا كأنما كبر عليه أن تند الفعلة عن عروس في ريق فتنتها، فما تمالك ياسين أن ضحك قائلا: لحد هنا عال، ربنا يجعل العواقب سليمة!
ألقى نظرة كئيبة على الفناء الخالي إلا من الطاهي وصبيانه، وبعض الأولاد والبنات، فتخيل ما كان ينبغي أن يوجد من معالم الزينة وسرادق الطرب ومجلس المدعوين، من قضى بهذا؟ ... أبوه! ... الرجل الذي يفوح عرقه بالمجون والعربدة والطرب ... أعجب به من رجل يحل لنفسه اللهو الحرام، ويحرم على بيته اللهو الحلال، وراح يتخيل مجلس السيد كما رآه في حجرة زبيدة بين الكأس والعود، فما يدري إلا وقد وثبت إلى ذهنه فكرة غريبة لم تخطر له من قبل على شدة وضوحها فيما رأى، تلك هي التشابه بين طبيعتي أبيه وأمه! طبيعة واحدة في شهوانيتها وجريها وراء اللذة في استهتار لا يقيم وزنا للتقاليد، ولعل أمه لو كانت رجلا لما قصرت عن أبيه في اللهج بالشراب والطرب أيضا! لذلك انقطع ما بينهما - أبيه وأمه - سريعا، فما كان لمثله أن يطيق مثلها، وما كان لمثلها أن تطيق مثله، بل ما كانت الحياة الزوجية لتستقيم له لولا وقوعه على زوجته الراهنة! ثم ضاحكا ضحكة لم يتح لها روعه من هذه «الفكرة الغريبة» روحا من السرور «عرفت الآن من أكون، لست إلا ابن هذين الشهوانيين، وما كان لي أن أكون غير ما كنت!» في اللحظة التالية تساءل: ترى ألم يخطئه الصواب عند إغفال دعوة أمه إلى زفافه؟! تساءل رغم إصراره على الاعتقاد بأنه لم يتنكب عن الصواب، لعل أباه رام إراحة ضميره حينما قال له قبل ليلة الزفاف بعدة ليال: «أرى أن تبلغ أمك، ولك إن شئت أن تدعوها إلى شهود زفافك.» ذاك قوله بلسانه لا بقلبه فيما يعتقد، فما يتصور أن يرضى أبوه له بأن يذهب إلى حيث يقيم ذلك الرجل الحقير الذي اتخذته أمه زوجا لها من بعد أزواج كثيرين، وأن يتودد إليها على مرأى منه بأن يدعوها إلى شهود زفافه، لا كان الزفاف، ولا كانت أي سعادة في هذه الدنيا إن حملته يوما على أن يصل ما انقطع بينه وبين تلك المرأة ... تلك الفضيحة ... تلك الذكرى المخزية! وما كان منه إلا أن أجاب أباه وقتذاك قائلا: «لو كان لي أم حقا لكانت أول من أدعو إلى زفافي!» انتبه فجأة إلى الأولاد والبنات وهم يرنون إليه، ويتهامسون فخص البنات بنظرة وسألهن بصوت جهوري ضاحك: «هل تحلمن بالزواج من الآن يا بنات؟» واتجه نحو باب الحريم وهو يذكر قول خديجة الساخر له بالأمس: «إياك وأن تستسلم غدا للحياء بين المدعوين وإلا عرفوا الحقيقة المرة، وهي أن أباك الذي زوجك ونقد مهرك وجملة تكاليف ليلتك، ولكن تحرك بلا توقف، تنقل بين حجرات المدعوين، ضاحك هذا وكلم ذاك، اطلع وانزل، تفقد المطبخ، اهتف وازعق، لعلك توهم الناس بأنك حقا رجل الليلة وسيدها!» فمضى ضاحكا، وفي نيته أن يمتثل النصيحة الساخرة، فخطر بين المدعوين بجسمه الطويل الجسيم في أناقة بديعة ووسامة جذابة، وشباب ريق، ذهب وجاء، ونزل وطلع، وإن لم يفعل شيئا، بيد أن الحركة نفضت عن نفسه طوارئ الفكر، فصفت نفسه لمفاتن الليلة. ولما خطرت العروس على قلبه سرت في بدنه قشعريرة بهيمية، ثم ذكر آخر ليلة قضاها عند زنوبة العوادة منذ شهر، كيف أنبأها بزواجه الوشيك وهو يودعها وكيف هتفت به بلهجة اصطنعت الغيظ: «يا بن الكلب! ... كتمت الخبر حتى نلت وطرك! ... (المركب اللي تودي أحسن من اللي تجيب) ... مع ألف شبشب يا بن المركوب.» لم يعد لزنوبة من أثر في نفسه، ولا لغيرها، أسدل الستار على هذا الجانب من حياته إلى الأبد، ربما عاود الشراب فما يظن أن تموت رغبته فيه، أما النساء فلم يتصور أن تزيغ عيناه إلى امرأة عابرة وبين يديه حسناء طوع بنانه، عروسه لذة متجددة، ري للظمأ الوحشي الذي طالما قلقل كيانه، ثم راح يتمثل حياته المقبلة، الليلة، والليالي الآتيات، الشهر والعام، فالعمر كله، ووجهه يسطع بهجة ناطقة لحظها فهمي بعين مليئة بحب الاستطلاع والغبطة الهادئة وغير قليل من الأسى، وجاء كمال الذي كان يتراءى في أي مكان فجأة، وخاطب ياسين والبشر يتألق في وجهه قائلا: الطاهي قال لي إن الحلوى تزيد على حاجة المدعوين والمدعوات، وإنه سيتبقى منها مقدار وفير.
45
زاد مجلس القهوة وجها جديدا بانضمام زينب إليه، وجها زكاه بريق الشباب وفرحة العرس، وفيما عدا هذا، وفيما عدا فرش الحجرات الثلاث المجاورة لحجرة الوالدين في الدور الأعلى بجهاز العروس، فلم يحدث زواج ياسين تغييرا يذكر في النظام العام للبيت، سواء من الناحية السياسية التي ظلت خاضعة بكل معاني الكلمة لسلطان السيد وإرادته، أو من الناحية الإدارية الداخلية التي ظلت وحدة تابعة لهيمنة الأم كما كان الحال قبل الزواج. التغيير الجوهري حقا كان الذي طرأ على النفوس، ودار مع الخواطر، فدقت رؤيته على الحواس، إذ لم يكن من اليسير أن تشغل زينب مكانة الزوجة للابن البكر، وأن يجمعهما وبقية أفراد الأسرة بيت واحد من دون أن يطرأ على العواطف والمشاعر تطور ذو شأن، رمقتها الأم بنظرة امتزج فيها الرجاء بالحذر، هذه الفتاة التي قضي عليها بأن تعاشرها دهرا طويلا ربما امتد حتى نهاية العمر، أي إنسان تكون؟ ماذا تخبئ وراء ابتسامتها الرقيقة؟ بالجملة استقبلتها كما يستقبل مالك البيت ساكنا جديدا، فيؤمله ويحاذره، أما خديجة فعلى رغم المجاملات التي تبودلت بينهما، جعلت تسدد نحوها عينين نافذتين مفطورتين على السخرية وسوء الظن، منقبة عن العيوب والمآخذ بحرص ساخط لم يلق من انضمامها إلى البيت، وفوزها بالزواج من أخيها إلا ضيقا خفيا، فلما اعتكفت الفتاة في حجراتها الأيام الأولى من الزواج ساءلت خديجة أمها وهما في حجرة الفرن: «ترى هل حجرة الفرن مكان غير لائق «بها»؟» ومع أن الأم وجدت في تهجمها ترويحا عن حيرة ظنونها، إلا أنها اتخذت موقف الدفاع عن الفتاة، وأجابتها قائلة: «صبرك، لم تزل عروسا في بدء عهدها الجديد!» فتساءلت الأخرى بلهجة تشي بالاستنكار: «ومن ذا الذي قضى بأن نكون خدما للعرائس؟!» فسألتها أمها وكأنما تطرح السؤال على نفسها هي: «أتفضلين أن تستقل بمطبخها؟» فهتفت خديجة معترضة: «لو كان المال مال أبيها لا مال أبي لجاز هذا! ولكني أعني أنها يجب أن تعمل معنا.» على أنه لما قررت زينب، بعد انقضاء أسبوع على الزواج، أن تحمل بعض الأعباء في حجرة الفرن لم يرحب قلب خديجة بهذه الخطوة التعاونية، ومضت تلاحظ عمل العروس بدقة انتقادية، وتقول لأمها: «لم تجئ لتعاونك، ولكن لتمارس ما لعلها تدعيه لنفسها من حق.» أو تقول ساخرة: «طالما سمعنا عن آل عفت أنهم من الصفوة، وأنهم يأكلون ما لا يأكل الناس ... فهل وجدت في طهيها شيئا عجيبا لم نسمع به؟!» بيد أن زينب اقترحت يوما أن تصنع «الشركسية» باعتبارها الصنف الأثير على مائدة أبيها - وهي المرة الأولى لدخول الشركسية في بيت السيد - فحازت لدى تناولها إعجابا شاملا بلغ أقصاه عند ياسين، حتى إن الأم نفسها لم تبرأ من لسعة غيرة، أما خديجة فجن جنونها، وجعلت تهزأ بالصنف قائلة: «قالوا شركسية قلنا يعيش المعلم يتعلم، ولكن ماذا رأينا؟ أرزا وصلصة في هيئة بوليتيكا، طعمها لا هنا ولا هناك. كالعروس تزف إلى عريسها في حلة خلابة وحلي لألاء، حتى إذا نزعت عنها ثياب العرس بدت فتاة عادية من نفس الخلطة المعروفة من قبل أي اللحم والعظم والدم!» ثم ما كاد يمضي على الزواج أسبوعان، حتى قالت على مسمع من أمها وفهمي وكمال إن العروس وإن كانت بيضاء البشرة، وذات حظ «معتدل» من الجمال، إلا أن دمها ثقيل كالشركسية سواء بسواء، قالت هذا في نفس الوقت الذي أكبت فيه على استظهار دقائق صنع الشركسية بحذقها المعترف به! على أن ثمة أحاديث صدرت عن زينب بحسن نية - في الأقل لأن وقت سوء النية لم يئن بعد - فأثارت الخواطر وألقت عليها ظلا من الشك، إذ طاب لها كلما تهيأت مناسبة أن تنوه بأصلها التركي وإن التزمت الأدب واللطف، كما لذ لها أن تروي لهم بعض ما شاهدت من رحلات في حنطور والدها، وبصحبته إلى الملاهي البريئة والحدائق، فوقع الحديث كله من نفس الأم موقعا أدهشها إلى حد الانزعاج. عجبت لتلك الحياة التي تسمع عنها لأول مرة، وأنكرتها، واستنكرت فيما بينها وبين نفسها هذه الحرية الغريبة استنكارا جاوز كل تقدير، إلى أن المباهاة بالأصل التركي - وإن لطفت بالأدب والبراءة - ساءتها كثيرا؛ لأنها كانت - على تخشعها وانطوائها - شديدة الاعتزاز بأبيها وبعلها، فترى أنها بهما في مكانة لا تداني، إلا أنها كظمت ما قام بنفسها، فلم تلق زينب منها إلا اهتمام الإصغاء وابتسامة المجاملة، ولولا حرص الأم الشديد على السلام لانفجرت خديجة حنقا ولساءت العاقبة، على أنها نفست عن غيظها بطرق ملتوية ليس من شأنها أن تعكر صفو السلام كتعليقها على أنباء الرحلات مثلا - وهي التي لم يسعها أن تجهر فيها برأيها - بالمبالغة في إظهار الدهشة، أو بالهتاف وهي تحملق في وجه محدثتها «يا خبر!» أو بأن تضرب براحتها على صدرها وهي تقول: «ويراك السابلة وأنت تمشين في الحديقة!» أو بقولها: «ما كنت أتصور إمكان هذا يا ربي!» وغير ذلك من العبارات التي وإن لم تفصح ألفاظها عن إساءة، إلا أن لهجتها الممطوطة التمثيلية تضمنت أكثر من معنى كلهجة الزجر التي يصطنعها الأب وهو يتلو القرآن مصليا إذا ما أنس من ابنه غير البعيد عنه إخلالا بالنظام أو الأدب وعز عليه لزجره صراحة أن يخرج من الصلاة؛ لذلك لم تكن تخلو إلى ياسين حتى تبادره مروحة عن غيظها الذي عز عليها المتنفس: «يا سلام يا سلام على عروسك النزهية.» فيقول لها ضاحكا: «هذه هي الموضة التركية التي تسمو على إدراكك!» فتذكرها صفة «التركية» بالمباهاة الثقيلة على قلبها، فتقول: «على فكرة، ست الدار تباهي كثيرا بأصلها التركي، لماذا؟ ... لأن جد جد جد جد جدها تركي! ... حذار يا أخي، فإن خاتمة التركيات الجنون.» ولكنه يقول لها مجاريا سخريتها: «الجنون أحب إلي من وجه أنفه يجنن ذا الذوق السليم!» تراءى لأعين المتنبئين النقار المتوقع بين خديجة وزينب في أفق الأسرة، فنبهها فهمي إلى ضبط لسانها أن يبلغ الفتاة شيء من هذرها، وأشار محذرا إشارة خفية إلى كمال الذي دأب على التنقل بينهم وبين العروس تنقل الفراشة - حاملة اللقاح - بين الأزهار! ولكن غاب عنه - كما غاب عن الأسرة جميعا - أن القدر كان يعمل من جانبه على الحيلولة بين الفتاتين، إذ زارت البيت حرم المرحوم شوكت وعائشة زيارة لم يحلم أحد من قبل بأن تتوج بالنهاية التي توجت بها، قالت العجوز تخاطب الأم على مسمع من خديجة: يا أمينة هانم جئتك اليوم خاصة لأخطب خديجة لابني إبراهيم ...
فرحة بلا تمهيد وإن طال انتظارها حتى شق؛ فلذلك سجع صوت المرأة في أذني الأم سجعا جميلا، حتى إنها لم تذكر أن قولا - قبله - بل صدرها بندى الطمأنينة والسلام كما بله، فكاد يستخفها الفرح وهي تقول بصوت متهدج: ليس لي في خديجة أكثر مما لك، هي ابنتك ولتجدن في حماك أضعاف ما تجد في بيت أبيها من السعادة.
استرسل الحديث السعيد إلا أن خديجة جعلت تغيب عنه فيما يشبه الذهول، خفضت عينيها في حياء وارتباك، وقد زايلها روح السخرية التي طالما توهجت في حدقتيها، فشملتها وداعة غير معهودة ثم جرت مع تيار خواطرها، جاء الطلب مفاجأة، وأي مفاجأة، فكما بدا عسيرا في غيابه بدا غير مصدق في حدوثه، حتى لقد غشيت فرحتها موجة ثقيلة من الذهول ... «لأخطب خديجة لابني إبراهيم» ... ماذا دهاه؟ ... إنه على خموله الذي أثار هزءها حسن المحيا وجيه في الرجال، فماذا دهاه؟! - ومن حسن الطالع أن يجمع بين الأختين في بيت واحد.
صوت حرم المرحوم شوكت يؤكد الحقيقة ويزكي وجوهها ... ليس ثمة شك ... إبراهيم مثل خليل مالا وجاها، فأي حظ ادخرته لها الأقدار. لشد ما أسفت على أن عائشة سبقتها إلى الزواج؛ إذ لم تكن تدري أن زواج عائشة هو الذي قدر له أن يفتح لها أبواب الحظ المغلقة. - ما أجمل أن تكون السلفة هي الشقيقة، فيزول سبب جوهري من أسباب وجع الدماغ في الأسر (ثم ضاحكة) فلا تبقى إلا حماتها وأظن أمرها هينا! - إن تكن سلفتها هي شقيقتها، فحماتها هي أمها بلا نقصان.
لم تزل الأمان تتجاملان. لقد أحبت العجوز وهي تزف إليها البشرى بقدر ما أبغضتها يوم خطبت عائشة! يجب أن تعلم مريم بالخبر اليوم، لا تطيق أن تؤجله إلى الغد، لا تدري ما الدافع إلى هذه الرغبة الملحة، لعله قول مريم لها غداة خطبت عائشة: «ماذا كان عليهم لو أنهم انتظروا حتى تتم خطبتك أنت!» فأغراها وقتذاك سوء ظنها المطبوع باتهام براءته الظاهرة. ولما انصرفت أسرة شوكت قال ياسين بقصد التحرش والدعابة: الحق أني مذ رأيت إبراهيم شوكت قلت لنفسي: ما أجدر هذا الرجل الثور الذي لا يبدو أنه يفرق بين الأبيض والأسود أن يقع اختياره يوما على زوجة مثل خديجة.
فابتسمت خديجة ابتسامة خفيفة، ولم تنبس بكلمة، فهتف بدهشة: هل عرفت الأدب والحياء أخيرا!
بيد أن وجهه نطق وهو يمازحها بالرضا والغبطة، فلم يعكر صفوهم إلا حين تساءل كمال في قلق: أتتركنا خديجة أيضا؟
فقالت الأم تعزيه وتعزي نفسها: ليست السكرية بعيدة.
على أن كمال لم يستطع أن يدلي بما عنده في حرية كاملة، إلا حين انفرد بأمه ليلا، فتربع قبالتها على الكنبة، وسألها بصوت ينم عن الاحتجاج واللوم: ماذا جرى لعقلك يا نينة؟ ... أتفرطين في خديجة كما فرطت في عائشة؟
فأفهمته أنها لم تفرط فيهما، ولكنها ترضى بما يسعدهما. فقال محذرا كأنما ينبهها إلى شيء فاتها ويوشك أن يفوتها مرة أخرى: ستذهب هي الأخرى، ربما ظننت أنها ستعود كما ظننت بعائشة، ولكنها لن تعود، وستزورك إذا زارتك كالضيفة، فما إن تشرب القهوة حتى تقول لك السلام عليكم، إني أقولها في صراحة إنها لن تعود .
ثم محذرا وواعظا في آن: ستجدين نفسك وحدك بلا رفيق، من يعينك على الكنس والتنفيض؟ ... من يعينك في حجرة الفرن؟ من يجالسنا في جلسة المساء؟ ... من يضحكنا؟ ... لن تجدي إلا أم حنفي التي سيخلو لها الميدان لسرقة طعامنا كله.
فأفهمته مرة أخرى أن السعادة لن تكون بلا ثمن، فقال محتجا: ومن أدراك أن في الزواج سعادة؟! أؤكد لك أنه لا سعادة مطلقا في الزواج، كيف يحظى أحد بالسعادة بعيدا عن نينة؟
ومردفا بحماس: ثم إنها لا ترغب في الزواج كما لم ترغب فيه عائشة من قبل ... لقد صارحتني بذلك ذات ليلة في فراشها!
ولكنها قالت له إنه لا بد للفتاة من أن تتزوج، فلم يتمالك من أن يقول: من قال بأنه لا بد للفتاة من أن تذهب إلى بيوت الغرباء! ... ثم ماذا تفعلين لو أجلسها الآخر على الشيزلنج وتناول ذقنها هي الأخرى و...
عند ذاك زجرته وأمرته بألا يتكلم فيما لا يعنيه، فضرب كفا بكف وهو يقول منذرا: أنت حرة ... وسترين!
في تلك الليلة لم يغمض لأمينة من يقظة الفرح جفن كأنها السماء المقمرة لا تغشاها الظلماء، فظلت مستيقظة حتى جاء السيد بعد منتصف الليل، ثم زفت إليه البشرى، فتلقاها بغبطة أطارت عن رأسه الخمار، بالرغم مما في هذا الرأس من نظريات غريبة عن زواج البنات، إلا أنه تجهم بغتة متسائلا: هل أتيح لإبراهيم أن يراها؟!
ساءلت المرأة نفسها ألا يمكن أن يدوم ابتهاجه - ونادرا ما يعلنه - أكثر من نصف دقيقة؟ ... وتمتمت في قلق: أمه ...
فقاطعها محتدا: هل أتيح لإبراهيم أن يراها؟!
فقالت وقد ولى عنها السرور لأول مرة في تلك الليلة: دخل علينا مرة في شقة عائشة باعتباره فردا من الأسرة، فلم أر في ذلك من بأس.
فتساءل مزمجرا: ولكني لم أعلم بذلك.
كل شيء ينذر بالشر، ترى هل يهوي على مستقبل الفتاة بضربة قاضية؟ ... على رغمها اغرورقت عيناها بالدمع، وما تدري إلا وهي تقول مستهينة بغضبته المكفهرة: سيدي، حياة خديجة وديعة بين يديك، هيهات أن يبتسم لها الحظ مرتين.
فرماها بنظرة قاسية وراح يهدر مدمدما مهينما مهمهما كأنما رده الغضب إلى حالة من حالات التعبير بالأصوات التي مر بها أسلافه الأولون، ولكنه لم يزد على ذاك شيئا، لعله أضمر الموافقة من أول الأمر، ولكنه أبى أن يسلم بها قبل أن يسجل سخطه - كالسياسي الذي يهاجم خصمه وإن اقتنع بالغاية التي يستهدفها - ذودا عن مبادئه.
46
مضى شهر العسل وياسين متفرغ بكليته لحياته الزوجية الجديدة، لا يصرفه عنها عمل في النهار حيث وافق زواجه أواسط العطلة الصيفية، ولا سهر بالليل خارج البيت؛ لأنه لم يكن يغادره إلا للضرورة القصوى كابتياع زجاجة كونياك مثلا، وفيما عدا هذا لم يجد لنفسه عملا أو معنى أو صفة خارج نطاق الزوجية، فاندلق عليها بقوة وحماس وتفاؤل خليقة برجل ظن أنه ينفذ الخطوات الأولى في برنامج ضخم من المتعة الجسدية سيمتد يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، ولكنه أدرك في الثلث الأخير من الشهر أن تفاؤله لا بد أن يكون مبالغا فيه على نحو ما أو أن خللا لا يدري كنهه قد طرأ على حياته. كان يعاني في حيرة بالغة ولأول مرة في حياته ذاك المرض المتوطن في نفس الإنسان الملل. لم يعرفه من قبل عند زنوبة، ولا حتى عند بائعة الدوم؛ لأنه لم يملك هذه أو تلك كما يملك زينب الآن بيمينه، ويحوزها تحت سقف بيته، فأي فتور يتبخر من هذه «الملكية» الآمنة المطمئنة ... الملكية ذات الظاهر الخلاب المغري لدرجة الموت، والباطن الرزين الثقيل لحد اللامبالاة أو التقزز كأنها الشوكولاتة المزيفة التي تهدى في أول إبريل بقشرة من الحلو وحشو من الثوم. وأي مأساة في أن تندمج نشوة القلب والجسد في آلية العادة المنظمة العاقلة الباردة المتكررة القاتلة للشعور والجدة، كأنها رؤية روحانية رفيقة تجسدت في صلاة لفظية ترددها الذاكرة بلا وعي! ... وراح الفتى يتساءل عما دهى ثورته، عما هدى شياطينه، عن ذاك الشبع وأين جاء، عن تلك الفتنة أين ذهبت، أين ياسين وأين زينب، أين الأحلام، أهذا شأن الزواج أم شأنه هو، وكيف إذا تتابعت الشهور في أعقاب الشهور! ليس أنه لم يعد له رغبة فيها، ولكنها لم تعد رغبة الصائم في لذيذ المأكل، هاله أن يدركها الهدوء حيث انتظر لها الازدهار، وضاعف من حيرته أنه لم يبد على الفتاة عارض من عوارض رد الفعل، أو بالأحرى أنها تزيد حيوية ورغبة، فحينما يظن أن النوم بات واجبا بعد طول التعب، لا يدري إلا وساقها تطرح على ساقه، كأنما طرحت عفوا، حتى قال لنفسه: «يا عجبا ... أحلامي عن الزواج تحققت عندها هي!» إلى هذا كله وجد في عناقها نوعا من الاحتشام، وإن طاب له أول الأمر أنه جعله يهيم آخرا في وديان الذكريات التي ظن أنه ودعها إلى الأبد، طغت على رأسه من الأعماق «زنوبة» وأخريات، كما تطفو ودائع البحر عند هدوء العاصفة لا لشر يبيت، فالحق أنه مرق إلى عش الزوجية عامر القلب بالنية الحسنة، ولكن للموازنة والمقارنة والتأمل، وليقتنع أخيرا بأن «العروس» ليست المفتاح السحري لدنيا المرأة، ليس يدري كيف يخلص حقا للنوايا الحسنة التي فرش بها طريق الزواج، يبدو جانب - على الأقل - من أحلامه الساذجة عسير التحقيق، وهو ظنه بأنه سيستغني بأحضان زوجه عن العالم الخارجي، وأنه سيلبد بكنفها العمر كله، ذاك حلم من أحلام الشهوة في سذاجتها، وسيجد من الآن فصاعدا أن الانقطاع عن عالمه وعاداته مما يشق عليه وليس ثمة ضرورة تدعو إليه، وأنه ينبغي أن يتلمس وسيلة أو أخرى - الوقت بعد الوقت - ليحسن الهرب من نفسه وأفكاره وخيبته، حتى المغني المجيد إذا طال في تقاسيم الليالي، انبعث في نفس السامع الشوق إلى الدخول في الدور، ثم إنه في الانطلاق من محبسه فرصة للاختلاط بالأصحاب المتزوجين، لعله يظفر عندهم بأجوبة مسكنة للأسئلة الحيرى التي تلح عليه، ولن يتأتى له من وراء ذلك الدواء الشافي لكل داء ... وكيف يؤمن من بعد اليوم بوجود دواء شاف لكل داء؟! يحسن به من الآن ألا يرسم برامج بعيدة المدى، لا تلبث أن تنهار ساخرة من قدرته على التخييل. ليقنع من تنسيق حياته بالخطوة تلو الخطوة حتى يرى أين يرسو، وليبدأ بتنفيذ اقتراح اقترحته هي - زوجه - عليه بأن يخرجا معا.
ما تدري الأسرة ذات مساء إلا وياسين وزوجه يغادران البيت من دون أن يطلعا أحدا على مقصدهما، بالرغم من أنهما قضيا معهم سهرة المساء. بدا الخروج بالنظر إلى وقته المتأخر من ناحية، وإلى وقوعه في بيت السيد من ناحية أخرى حادثا غريبا أثار شتى الظنون، فما عتمت خديجة أن استدعت نور جارية العروس، وسألتها عما تعلم عن خروج سيدتها، فأجابت الجارية بصوتها الرنان في بساطة متناهية: ذهبا يا ستي إلى كشكش بك.
فهتفت خديجة وأمها في نفس واحد: كشكش بك!
ليس الاسم غريبا عليهم، اقتحم ذكره الدور، وتغنى بأغانيه كل من هب ودب، ولكنه على ذلك يبدو بعيدا كأبطال الخرافات، أو كزبلن إبليس السماء. أن يذهب ياسين بزوجه إليه أمر مختلف جدا ليس دونه أن يقال ذهبا إلى محكمة الجنايات. رددت الأم عينيها بين خديجة وفهمي، وتساءلت فيما يشبه الخوف: متى يعودان؟
فأجابها فهمي وابتسامة لا معنى لها تفغم على شفتيه: بعد منتصف الليل، وربما قبيل الفجر.
صرفت الأم الجارية، وانتظرت حتى غاب وقع أقدامها، ثم قالت في لهوجة وانفعال: ماذا دهى ياسين؟! كان جالسا بيننا في كامل عقله ... ألم يعد يعمل حسابا لأبيه؟
فقالت خديجة في حنق: ياسين أعقل من أن يدبر رحلة كهذه، ليست قلة العقل عيبه ولكن به خنوع لا يليق بالرجال، أقطع ذراعي إن لم تكن هي التي حرضته.
فقال فهمي مدفوعا برغبة في تلطيف الجو المتوتر، وإن نفر بطبعه الموروث من جرأة أخيه: ياسين ذو ميل قديم إلى الملاهي.
فضاعف دفاعه من حنق خديجة التي اندفعت قائلة: لسنا بصدد الحديث عن ياسين وميوله، له أن يحب الملاهي كما يحلو له، أو أن يواصل السهر في الخارج حتى مطلع الفجر كلما شاء، ولكن اصطحاب زوجه المصون معه فكرة لا يمكن أن تصدر عن ذاته، فلعلها جاءته عن إيحاء عجز عن مقاومته خصوصا وأنه يبدو مستكينا بين يديها كالقطة الأليفة، ثم إنها فيما أرى لا تتورع عن رغبة كهذه. ألم تسمعها وهي تروي قصص الرحلات التي شاهدتها بصحبة والدها؟! لولا إيحاؤها ما أخذها معه إلى كشكش بك - يا للفضيحة! - في هذه الأيام السود التي ينجحر فيها الرجال في البيوت كالفيران رعبا من الأستراليين.
لم يقف التعليق على الحادث عند حد لما أثاره في النفوس - سواء المهاجمة أو المدافعة أو المحايدة - من امتعاض، كمال وحده تابع النقاش المحتدم في صمت يقظ، من دون أن يفطن إلى السر الذي جعل من كشكش بك جريمة نكراء استوجبت ذاك النقاش كله وذاك الكرب كله، أليس كشكش هذا صاحب التمثال الصغير الذي يباع في الأسواق بجسم متوثب في دعابة ووجه ضاحك ذي لحية عريضة وجبة فضفاضة وعمامة مقلوظة؟ أليس هو من تنسب إليه الأغاني المرحة التي استظهر بعضا منها ينشده مع صديقه فؤاد بن جميل الحمزاوي وكيل أبيه؟ فبأي شر يتهمون هذه الشخصية اللطيفة التي ارتبطت في خياله بالفكاهة والمرح؟ ... لعل مصدر هذا الكدر إلى اصطحاب ياسين لزوجه لا إلى كشكش بك نفسه، فإن كان ذلك كذلك، فهو يتفق معهم في الانزعاج من جرأة ياسين، خصوصا وأن زيارة أمه للحسين، وما أعقبها من أحداث لا يمكن أن تبرح مخيلته، أجل كان الأجدر بياسين أن يذهب وحده، أو أن يأخذه «هو» إن كان يريد رفيقا، لا سيما وأنه في عطلة الصيف فضلا عن نجاحه المتفوق في المدرسة، وما يدري إلا وهو يقول متأثرا بأفكاره: ألم يكن من الأفضل أن يأخذني أنا؟!
اندس تساؤله في الحديث كما تندس نغمة غربية مقتبسة في لحن شرقي صميم، فقالت خديجة: من الآن فصاعدا يحق علينا أن نعذرك في قلة عقلك!
فندت عن فهمي ضحكة قائلا: ابن الوز عوام.
بيد أن المثل رن في أذنيه رنينا جافيا، وكد أثره السيئ تحديق أمه وخديجة في عينيه باستغراب، فانتبه إلى خطئه غير المقصود، وتداركه قائلا وقد دخله امتعاض وخجل: أخو الوز عوام! ... هذا ما قصدت أقوله.
دل الحديث في جملته على تحامل خديجة على زينب من ناحية، وخوف الأم من العواقب من ناحية أخرى، بيد أن أمينة لم تعلن ما في نفسها كله. في تلك الليلة عرفت في نفسها أمورا لم تكن تعرفها من قبل. أجل كثيرا ما وجدت نحو زينب إنكارا وضيقا، ولكنه لم يبلغ أن يكون نفورا أو كراهية، فعزته إلى خيلاء الفتاة بداع وبغير داع، ولكن هالها اليوم أن تخرق الآداب والتقاليد، وأن تحل لنفسها ما لا يحل - في نظرها هي - إلا للرجال، عابت هذا السلوك بعين امرأة قضت عمرها حبيسة وراء الجدران، امرأة دفعت صحتها وسلامتها ثمنا لزيارة بريئة لزين آل البيت لا لكشكش بك، فمازج انتقادها الصامت شعور طافح بالمرارة والغيظ، وكأن منطقها غدا يردد فيما بينها وبين نفسها «إما أن تنال الأخرى الجزاء، أو فلتذهب الحياة هباء.» هكذا تلوث بالحنق والموجدة - في الشهر الأول من معاشرته لامرأة جديدة - القلب الطاهر الورع الذي لم يعرف طوال حياته المحفوفة بالجد والصرامة والتعب إلا الطاعة والعفو والصفاء. ولما آوت إلى حجرتها لم تدر إن كانت تود - كما دعت بلسانها أمام أبنائها - أن يستر الله على «جناية» ياسين، أم أنها ترجو أن ينال أو بالأحرى أن تنال زوجه جزاءها من الزجر والتأديب؟ بدت تلك الليلة وكأنها لا يعنيها من أمر الدنيا جميعا إلا أن تصان تقاليد الأسرة من كل عبث، وأن يدفع عنها ما يتحرش بها من عدوان، بدت غيورا على الآداب إلى حد القسوة، فطمرت عواطفها الرقيقة المألوفة في الأعماق باسم الإخلاص والفضيلة والدين، متعللة بها، فرارا من ضميرها المتألم كالحلم الذي ينفس عن غرائز مكبوتة باسم الحرية، أو غيرها من المبادئ السامية. جاء السيد وهي على تلك الحال من التصميم إلا أن منظره بث الخوف في حناياها فانعقد لسانها، راحت تتابع حديثه وتجيب عن أسئلته بذهن شارد وفؤاد خافق لا تدري كيف تنفس عما احتدم بخاطرها، وكلما مر الوقت واقترب ميعاد النوم ألحت عليها رغبة عصبية في الكلام، كم ودت لو تتكشف الحقيقة بنفسها كأن يجيء ياسين وزوجه مثلا قبل إخلاد أبيه إلى النوم، فيتنبه السيد بنفسه إلى فعلته النكراء، فيجبه العروس الرعناء برأيه في سلوكها بغير تدخل منها هي - الأم - لا شك أنه يحزنها بقدر ما يريحها ... انتظرت طويلا في لهفة وقلق أن يطرق الباب الكبير، انتظرت دقيقة بعد أخرى حتى تثاءب السيد وقال لها بصوت متراخ: أطفئي المصباح.
حاقت بها الهزيمة فانحلت عقدة لسانها، فقالت بصوت خافت مضطرب كأنها تناجي نفسها: تأخر الوقت ولما يعد ياسين وزوجه!
فحملق السيد في وجهها وتساءل في عجب: وزوجه؟ ... أين ذهبا؟
ازدردت المرأة ريقها وقد ركبها الخوف، من السيد ومن نفسها معا، ولكن لم تجد بدا من أن تقول: سمعت الجارية تقول إنهما ذهبا إلى كشكش بك! - كشكش!
عزف الصوت عاليا في شراسة وتطاير الشرر من العينين اللتين ألهبهما الكحول، وراح يطرح عليها السؤال تلو السؤال مزمجرا مدمدما حتى طار النوم عن رأسه، فأبى أن يزايل مجلسه حتى يعود «الضالان»، فانتظر وهو يغلي من الحنق، ولما كان غضبه ينعكس على نفسها رعبا، فقد ارتعبت كما لو كانت هي المذنبة، ثم غصت بالندم على ما بدر منها، ندم عاجلها مبادرا عقب البوح بسرها مباشرة، كأنها لم تبح إلا كي تندم، فلم تكن لتبخل بغال مهما غلا ساعتئذ لو تستطيع أن تصلح خطأها، وقست على نفسها بلا تحفظ فاتهمتها بالوقيعة والشر، ألم يكن الأجدر بها أن تتستر عليهما على أن تنبههما إلى خطئهما غدا إن كانت تريد الإصلاح حقا لا الانتقام؟ .. ولكنها أذعنت لعاطفة شريرة، عن عمد وسوء نية، فهيأت للفتى وعروسه نكدا لم يدر لهما بخلد، وجرت على نفسها ندما بات يحرق نفسها المعذبة حرقا بلا رحمة، وراحت تدعو الله - خجلى من ذكره - أن يلطف بهم جميعا، مضى الوقت تقرع دقائقه قلبها بالألم، حتى انتبهت على صوت السيد وهو يقول متهكما بمرارة: جاء سي كشكش.
فأرهفت السمع وهي تتطلع بناظريها إلى النافذة المفتوحة المطلة على الفناء، فترامى إليها صرير الباب الكبير وهو يغلق، وقام السيد وغادر الحجرة، فقامت بطريقة آلية ولكنها تسمرت في مكانها جبنا وخزيا، وضربات قلبها تتدافع حتى سمعت صوته الجهير وهو يخاطب القادمين قائلا: «اتبعاني إلى حجرتي.» فتناهى بها الخوف فتسللت من الحجرة هاربة ... عاد السيد إلى مجلسه يتبعه على الأثر ياسين وزينب، فحدج الفتاة بنظرة عميقة متجاهلا ياسين ثم قال بحزم وإن نقى نبراته من الغلظة والجفاء: أصغي إلي يا بنية جيدا، أبوك أخي أو أوثق صلة ومودة، فأنت ابنتي كخديجة وعائشة على السواء، ما قصدت أبدا أن أكدر صفوك، ولكن ثمة أمور أعد السكوت عنها جريمة لا تغتفر، من ذلك أن تبقى فتاة مثلك خارج بيتها حتى هذه الساعة من الليل، لا تحسبي أن في وجود زوجك معك عذرا عن هذا السلوك الشاذ، فإن الزوج الذي يستهين بكرامته على هذا النحو غير خليق بأن يقيل من العثرات التي هو للأسف أول دافع إليها، ولما كنت على يقين من براءتك، أو بالأحرى من أنه لا ذنب لك إلا أنك جاريته على هواه فرجائي إليك أن تعاونيني على إصلاح أمره بألا تستسلمي إلى غواياته مرة أخرى.
وجمت الفتاة واستحوذ عليها الذهول، وعلى أنها كانت تحظى في كنف أبيها بقسط من الحرية إلا أنها لم تجد من نفسها شجاعة على مناقشة الرجل بله معارضته، كأن إقامتها في بيته شهرا أعدت شخصيتها بعدوى الخضوع لإرادته التي يفرق حيالها كل حي في البيت. احتج باطنها بأن أباها نفسه استساغ أكثر من مرة أن يصطحبها إلى السينما، وأنه لا يحق له منعها من شيء سمح به زوجها، إلى اقتناعها بأنها لم تخرق أدبا أو تهتك حرمة، قال باطنها هذا وأكثر، بيد أنها لم تستطع أن تنطق بكلمة واحدة حيال عينيه الملزمتين بالطاعة والاحترام وأنفه الكبير الذي بدا - وهو يرفع رأسه - كأنه مسدس مصوب نحوها، فانكتم حديثها الباطني تحت مظهر من الرضا والأدب، كما تنكتم الأمواج الصوتية في جهاز الاستقبال بالمذياع بإغلاق مفتاحه، ثم ما تدري إلا وهو يسألها، وكأنه يتمادى في تحديه لها: ألك اعتراض على قولي؟
فهزت رأسها بالنفي، ورسمت شفتاها حرف «لا» دون أن تنطق به، فقال لها: اتفقنا، تفضلي إلى حجرتك بسلام.
غادرت الحجرة شاحبة الوجه، فالتفت السيد صوب ياسين الذي أخفى عينيه في الأرض، ثم قال وهو يهز رأسه في أسف شديد: الأمر جد خطير ولكن ما حيلتي؟! ... لم تعد طفلا وإلا لكسرت رأسك، ولكنك وا أسفاه رجل وموظف وزوج أيضا، وإن كنت لا تتورع عن العبث برباط الزوجية، فما عسى أن أصنع بك؟ أهذه نهاية تربيتي لك؟ ... (ثم بصوت أذهب في التأسف) ماذا دهاك؟ ... أين الرجولة؟ ... أين الكرامة؟ ... يعز علي والله أن أصدق ما وقع.
لم يرفع ياسين رأسه ولم يتكلم، فظن صمته خوفا وشعورا بالخطأ - إذ لم يتصور أن يكون ما به سكر - ولكنه لم يجد في ذاك عزاء، بدا الخطأ أفظع من أن يترك بلا علاج حاسم، فإذا لم يكن من سبيل إلى العلاج القديم - العصا - فلا أقل من الحزم، وإلا انتثر سلك الأسرة جميعا، قال: ألم تعلم بأني أحرم على زوجي الخروج ولو لزيارة الحسين؟ كيف إذن سولت لك نفسك أن تأخذ زوجك إلى ملهى داعر لتسهر فيه إلى ما بعد منتصف الليل؟! ... يا أحمق أنت تدفع بنفسك وبزوجك إلى الهاوية فأي شيطان ركبك؟
وجد ياسين في الصمت آمن ملاذ أن تفضحه نبراته، أو أن يسترسل في الحديث بطلاقة مريبة تنم في النهاية على سكره، لا سيما وأن خياله أصر على التسلل - هازئا بالموقف الخطير - من الحجرة فانطلق إلى آفاق بعيدة بدت لرأسه الثمل راقصة تارة ومترنحة أخرى، ولم يستطع صوت أبيه على ما ابتعث في نفسه من الرهبة أن يسكت الأنغام التي غناها المهرجون في المسرح، فكانت تثب إلى ذهنه - على رغمه - بين لحظة وأخرى كالأشباح في ليل المرعوب هامسة:
أبيع هدومي عشان بوسة
من خدك القشدة يا ملبن
يا حلوة زي البسبوسة
يا مهلبية كمان واحسن.
تغيب تحت تأثير الخوف ثم تطفر راجعة، ولكن أباه ضاق بالصمت، فصاح به غاضبا: انطق، حدثني عن رأيك، فإني مصمم على ألا يمر الحادث بسلام !
خاف عاقبة الصمت، فخرج عنه متهيبا مضطربا، ثم قال وهو يبذل قصارى جهده ليتمالك نفسه: كان والدها يعاملها بشيء من التسامح ... (ثم متعجلا) ولكني أقر بأني أخطأت.
فصاح السيد مغضبا ومتجاهلا الجملة الأخيرة: لم تعد في بيت أبيها، عليها أن تحترم آداب الأسرة التي صارت عضوا فيها، أنت زوجها وسيدها وبيدك وحدك أن تصورها في أي صورة تشاء، خبرني عن المسئول عن ذهابها معك أنت أم هي؟
شعر على سكره بالفخ المنصوب له، ولكن الخوف دفعه إلى التواري فغمغم: لما علمت بنيتي في الخروج توسلت إلي أن أصطحبها ...
فضرب السيد كفا بكف وهو يقول: أي رجل في الرجال أنت؟ ... كان الجواب الخليق بها لطمة! ... إنه لا يفسد النساء إلا الرجال، وليس كل الرجال جديرا بالقيام على النساء ... ثم محتدا: وتذهب بها إلى مكان ترقص فيه النساء نصف عرايا؟
تخايلت لعينيه الصور التي أفسدها تعرض أبيه له على رأس السلم، وعادت الأنغام تتجاوب في رأسه «أبيع هدومي ...» ولكن ما يدري إلا والرجل يقول متوعدا: لهذا البيت قانون أنت تعرفه فوطن نفسك على احترامه ما رغبت في البقاء فيه.
47
قامت عائشة بتزيين خديجة خير قيام بهمة لا تجارى، ومهارة فائقة كأن التزيين خير مهمة تؤديها في الحياة على أكمل الوجوه، فبدت خديجة عروسا حقا تأخذ أهبتها للانتقال إلى بيت العريس، وإن ادعت - جريا على عادتها في التقليل من شأن الخدمات التي يؤديها لها الغير - أن أكبر الفضل في إظهارها بالمظهر اللائق إنما يعود إلى سمانتها هي قبل كل شيء! على أن «جمالها» لم يعد مثار وساوسها مذ طلب يدها رجل اتفق له أن رآها بعينيه، بيد أن جميع مظاهر السعادة التي أحاطت بها لم تستطع أن تمحو من نفسها خفقات الحنين الذي دب في أعماقها لوشك البين، حنين خليق بفتاة مثلها لم يخفق قلبها بحب شيء في الوجود كحبها لآلها وبيتها جميعا من الوالدين المعبودين إلى الدجاج واللبلاب والياسمين، حتى الزواج نفسه الذي طالما تحرقت في انتظاره بجزع الملهوف، لم يكن ليهون عليها مرارة الفراق، من قبل أن تطلب يدها بدت كاللاهية عن حب البيت وإعزازه، وربما غلب عليها الضجر في مضطرب الحياة فوارى عواطفها العميقة الصادقة؛ لأن الحب كالصحة، يهون في الوصال ويعز عند الفراق، فلما أن اطمأنت على مستقبلها أبى قلبها أن ينتقل من حياة إلى حياة دون جزع شديد، كأنما يكفر عن إثم أو يضن بغال، تطلع كمال إليها صامتا، لم يعد يتساءل هل تعودين، بعد أن عرف أن التي تتزوج لا تعود إلا أنه خاطب شقيقتيه مغمغما: «سوف أزوركما كثيرا عقب الخروج من المدرسة.» فرحبتا به معا، بيد أنه لم تعد تغرر به الآمال الكاذبة، كثيرا ما زار عائشة فلم يظفر بعائشته القديمة. يجد مكانها أخرى متبرجة تلقاه بتودد بالغ يشعره بالغربة، ثم لا يكاد يخلو إليها حتى يدركهما زوجها الذي لا يغادر البيت قانعا من ألوان التسلية بسجائره وغليونه وعود يعبث بأوتاره بين حين وآخر، لن تكون خديجة خيرا من عائشة، فليس من رفيق في البيت إلا زينب، وهي لا تتودد إليه كما يجب إلا بمشهد من أمه، كأنما تتودد إليها هي، فإذا غابت الأم تجاهلته كأنه لا يكون! ومع أن زينب لم تشعر بأنها ستفقد عزيزا بذهاب خديجة، إلا أنها استنكرت الجو الرزين الصامت الذي يغشى يوم الزفاف، فتعللت بذلك لتفصح عما تكنه لروح السيد المسيطرة من حنق وغيظ، فراحت تقول متهكمة: «ما رأينا بيتا يحرم فيه الحلال كبيتكم هذا ... حكم!» غير أنها لم تشأ أن تودع خديجة من غير كلمة مجاملة، فنوهت كثيرا بمقدرتها، وأنها «ست بيت» خليقة بأن يهنأ عليها بعلها، فأمنت عائشة على قولها وأردفت قائلة: لا عيب فيها إلا لسانها! ... ألم تجربيه يا زينب؟
فما تمالكت أن ضحكت قائلة: لم أجربه والحمد لله، ولكني سمعته وغيري يجربه.
وتعالى الضحك، وخديجة أولى الضاحكات، حتى رأين الأم ترهف السمع بغتة، هاتفة: «هس» فأمسكن مرة واحدة، فترامى إليهن صوات من الخارج، فصاحت خديجة من فورها منزعجة: مات السيد رضوان!
كانت مريم وأمها قد اعتذرتا من عدم شهود الزفاف؛ لاشتداد المرض على السيد محمد رضوان، فلم يكن غريبا أن تستدل خديجة بالصوات على موت الرجل، وغادرت الأم الحجرة مهرولة فغابت دقائق، ثم عادت وهي تقول بأسف شديد: مات الشيخ محمد رضوان حقا ... يا له من موقف حرج!
فقالت زينب: عذرنا واضح كالشمس، لم يعد في وسعنا تأجيل الزفاف أو منع العريس من الاحتفال بليلته في بيته وهو بحمد الله بعيد، أما أنتم فهل تطالبون بأعمق من هذا الصمت البليغ؟!
لكن خديجة شردت في خواطر أخرى انقبض لها قلبها خوفا، فتطيرت من النبأ المحزن، وغمغمت كأنها تخاطب نفسها: يا لطيف يا رب.
فقرأت الأم أفكارها فانقبض صدرها بدورها، ولكنها أبت أن تستكين لهذا الشعور الطارئ أو أن تترك ابنتها تستكين له، فقالت باستهانة متصنعة: لا شأن لنا بقضاء الله؛ فالحياة والموت بيده، والتشاؤم من عند الشيطان.
انضم ياسين وفهمي إلى المجتمعات بحجرة العروس، بعد أن فرغا من ارتداء ملابسهما، فأخبرا الأم بأن السيد ناب عن الأسرة - بالنظر إلى ضيق الوقت - في تقديم واجب العزاء إلى آل السيد رضوان، ثم حدج ياسين إلى خديجة، وقال ضاحكا: أبى السيد رضوان أن يبقى في الدنيا بعد رحيلك عن جواره.
فردت عليه بابتسامة شاحبة غاب عنه ما وراءها، فمضى يتفحصها بعناية وهو يهز رأسه متظاهرا بالرضا، ثم قال متنهدا: صدق من قال «لبس البوصة تبقى عروسة.»
فقطبت معلنة عدم استعدادها لمجاراته، ثم نهرته قائلة: اسكت، إني متطيرة من موت السيد رضوان في يوم زفافي.
فقال ضاحكا: لا أدري أيكما جنى على صاحبه؟
ثم وهو يواصل الضحك: لا خوف عليك من موت الرجل، لا تشغلي فكرك به، ولكني أخاف عليك من لسانك فهو الأحق بأن تتطيري منه، ونصيحتي التي لا أمل ترديدها أن تنقعيه في شراب مشبع بالسكر حتى يحلو، ويصلح لمخاطبة العريس.
عند ذلك قال فهمي متلطفا: مهما يكن من أمر السيد رضوان، فيوم زفافك لم يخل من بركة طال انتظار الأرض لها: ألم تعلمي بأن الهدنة قد أعلنت؟
فهتف ياسين : كدت أنسى هذا! ليس زفافك المعجزة الوحيدة في يومنا هذا، حصل ما لم يحصل منذ أعوام فانتهت الحرب وسلم غليوم.
فتساءلت الأم: هل يذهب الغلاء والأستراليون؟!
فقال ياسين ضاحكا: طبعا ... طبعا ... الغلاء والأستراليون ولسان خديجة هانم.
لاح التفكير في عيني فهمي، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: غلب الألمان! ... من كان يتصور هذا؟! ... لا أمل بعد اليوم في أن يعود عباس أو محمد فريد، كذلك آمال الخلافة قد ضاعت، لا يزال نجم الإنجليز في صعود، ونجمنا في أفول فله الأمر.
فقال ياسين: اثنان كسبا الحرب هما الإنجليز والسلطان فؤاد، فلا أولئك كانوا يحلمون بالقضاء على الألمان، ولا هذا كان يحلم بالعرش.
وسكت لحظة ثم استطرد ضاحكا: وثالث لا يقل حظه عن السابقين هو عروستنا التي ما كانت تحلم بالعريس.
فرمته خديجة بنظرة وعيد وقالت: تأبى أن أغادر البيت من غير أن ألدغك.
فتراجع وهو يقول: من الخير أن أطلب الهدنة، فلست أعظم شأنا من غليوم أو هندنبرج.
ثم نظر إلى فهمي الذي لاح في وجهه التفكير بحال لا يتفق مع المناسبة السعيدة، فقال له: اطرح السياسة وراء ظهرك، وتهيأ للطرب ولذيذ المآكل والمشارب.
ومع أن خديجة تناوبتها أفكار كثيرة، وخطرت على قلبها أحلام وأحلام، إلا أن ذكرى قريبة - من ذكريات الصباح فحسب - ألحت عليها من شدة تأثرها بها، حتى كادت تحجب غيرها من الشجون، تلك دعوة أبيها لها على انفراد لمناسبة اليوم الذي يعد مبدأ حياة جديدة في حياتها، قابلها بلطف ورحمة كانا بلسما شافيا من وعكة الحياء والرهبة التي اعترتها حتى تعثرت في مشيتها، ثم قال لها برقة وقعت من نفسها موقعا غريبا لا عهد لها به: ربنا يسدد خطاك ويهيئ لك التوفيق وراحة البال، وما من نصيحة تسدى إليك خير من أن أقول: اقتدي بأمك في كل كبيرة وصغيرة.
وأعطاها يده فقبلتها ثم غادرت الحجرة لا تكاد ترى ما بين يديها من الانفعال والتأثر، وجعلت تردد طول الوقت «كم أنه لطيف رقيق رحيم!» ثم تذكر بقلب ملؤه السعادة قوله : «اقتدي بأمك في كل كبيرة وصغيرة.» وتقول لأمها التي أصغت إليها بوجه متورد وعينين مرتعشتين: «ألا يعني هذا أنه يراك القدوة الصالحة للزوجة الصالحة؟ (ثم ضاحكة) يا لك من امرأة سعيدة الحظ! ولكن من عسى أن يصدق هذا كله؟ كأني كنت في حلم سعيد! أين كان يدخر هذا العطف الجميل؟!» ثم دعت له طويلا حتى اغرورقت عيناها بالدموع.
وجاءت أم حنفي تعلنهم بوصول السيارات.
48
خلا مجلس القهوة من وجه خديجة كما خلا من وجه عائشة من قبل، على أن خديجة تركت فراغا لم يسد فكأنها استلت روحه وسلبته حيويته، وحرمته مزايا لا يستهان بها من الفكاهة والمرح والنقار، أو كما قال ياسين لنفسه: «كانت في مجلسنا كالملح في الطعام، ليس الملح في ذاته لذيذا ولكن ما لذة الطعام من دونه؟» بيد أنه لم يجهر برأيه مجاملة لزوجه؛ إذ إنه لم يزل - على خيبة أمله في الزواج التي لم يعد لها من دواء في البيت - يشفق من جرح مشاعرها على الأقل كي لا تسيء الظن بسهره المتواصل ليلة بعد أخرى في «القهوة» كما يزعم لها. ولئن كان مزاحه يفوق جده، إن كان ثمة جد، إلا أنه فقد النديم الذي طالما طارحه الدعابة، وهيأ له دواعيها، فلم يبق له إلا أن يقنع بالقليل في هذه الجلسة التقليدية، ها هو يتربع على الكنبة، يحسو القهوة، ويمد بصره إلى الكنبة المقابلة له، فيرى الأم وزوجه وكمال مستغرقين في أحاديث لا طائل تحتها، ولعله يتعجب للمرة المائة من رزانة زينب المعتمة، فيذكر ما رمتها به خديجة من «ثقل الدم» ويسلم بوجهة نظرها! ... ثم يفتح ديوان الحماسة أو غادة كربلاء ويقرأ، أو يقص على كمال شيئا مما قرأ، ويلتفت إلى يمينه فيرى فهمي متوثبا للحديث، عن أي شيء يا ترى، محمد فريد، مصطفى كامل؟ ... لا يدري، ولكنه سيتكلم بلا ريب، بل يبدو اليوم منذ عودته من المدرسة كالسماء المنذرة بالمطر، هل ينكشه؟ ... كلا، لا حاجة به إلى ذلك، ها هو يستقبله باهتمام شديد، ويحدجه بنظرة موحية ناطقة ثم يسأله: ألم تبلغك أنباء جديدة؟
يسأله هو عن أنباء جديدة! عندي أنباء لا عد لها ... الزواج أكبر خدعة، الزوجة تنقلب بعد أشهر شربة زيت خروع، لا تحزن على ما فاتك من مريم أيها السياسي الغر، أتريد أنباء أخرى؟! لدي منها الكثير لكنها على وجه اليقين لا تهمك ألبته، ثم إن الشجاعة تخونني إذا سولت لي نفسي إذاعتها على مسمع من زوجي، وما يدري إلا وهو يستشهد - في سره طبعا - بقول الشريف:
عندي رسائل شوق لست أذكرها
لولا «الرقيب» لقد بلغتها فاك
ثم تساءل بدوره: أي أنباء جديدة تعني؟
فقال فهمي باهتمام شديد: ذاع بين الطلبة نبأ عجيب كان حديثنا اليوم كله، وهو أن وفدا مصريا مكونا من سعد زغلول باشا وعبد العزيز فهمي بك وعلي شعراوي باشا توجه أمس إلى دار الحماية، وقابل نائب الملك للمطالبة برفع الحماية وإعلان الاستقلال.
ورفع ياسين حاجبيه في اهتمام ولاحت في عينيه نظرة شك مقرونة بالدهشة. لم يكن اسم سعد زغلول بالجديد عليه، وإن لم يجد وراء الاسم في نفسه شيئا ذا بال، اللهم إلا ذكريات غامضة اقترنت بحوادث أتى عليها النسيان من زمن، دون أن تترك في قلبه - الذي لا يكاد يعبأ بالأمور العامة - أثرا عاطفيا يدل عليها ولو من بعيد، إلا أن الاسمين الآخرين كانا يقعان في أذنه لأول مرة، بيد أن غرابة الأسماء ليست شيئا يذكر إلى جانب الحركة التي قام بها أصحابها إن صح ما يقول فهمي؛ إذ كيف يتصور أن يطالب الإنجليز غداة انتصارهم على الألمان والخلافة باستقلال مصر؟! وسأله: ماذا تعرف عن هؤلاء السادة؟
فقال فهمي بلهجة لا تخلو من امتعاض خليق بمن يود لو كان هؤلاء السادة من أعضاء الحزب الوطني: سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية، وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي عضوان بها، الحق أني لا أعرف شيئا عن الأخيرين، أما سعد فأكاد أكون عنه فكرة لا بأس بها مما ترامى إلي عن كثيرين من زملائي الطلبة الوطنيين الذين يختلفون فيه كثيرا، منهم من يعده ذنبا من أذناب الإنجليز، ولا شيء أكثر من هذا، ومنهم من يقر له بمزايا عظيمة جديرة بأن ترفعه إلى مصاف رجال الحزب الوطني أنفسهم. ومهما يكن من شأن فالخطوة التي أقدم عليها مع زميليه - ويقال إنه كان الداعي إليها كذلك - عمل مجيد لعله لا يوجد الآن من ينهض به مثله بعد نفي المبرزين من الوطنيين، وعلى رأسهم زعيمهم محمد فريد.
بدا ياسين جادا أن يظن به الآخر استهانة بحماسه، وردد قائلا وكأنه يسائل نفسه: المطالبة برفع الحماية وإعلان الاستقلال! - وسمعنا أيضا أنهم طالبوا بالسفر إلى لندن للسعي إلى الاستقلال، وأنهم لهذا القصد قابلوا السير «ريجنالد ونجت» نائب الملك!
لم يستطع ياسين أن يواصل مداراة حيرته، فأعلنها بأساريره وهو يسأله بصوت مرتفع بعض الشيء: الاستقلال! ... أتعني هذا حقا؟ ... ماذا تعني؟
فقال فهمي بلهجة عصبية: أعني إخراج الإنجليز من مصر، أو الجلاء كما عبر عنه مصطفى كامل ودعا إليه.
يا له من أمل! .. لم يكن السعي إلى حديث السياسة من طبعه ولكنه يقبل دعوة فهمي كلما دعا إليه اتقاء لتكديره، وطلبا لنوع طريف من التسلية، وربما ثار اهتمامه بين الحين والحين، وإن لم يبلغ درجة الحماس، بل ربما شاركه أمانيه بطريقة سلبية هادئة، ولكنه أثبت طوال حياته أنه قليل الاكتراث بهذا الجانب من الحياة العامة، كأنه لا غاية له وراء التنعم بطيبات الحياة ولذاتها؛ لذلك لم يجد في نفسه استعدادا للأخذ بهذه الأقوال مأخذ الجد، وتساءل مرة أخرى: هل يقع هذا في حدود الإمكان حقا؟
فقال فهمي بحماس لا يخلو من لوم: لا يأس مع الحياة يا أخي!
فأثارت هذه الجملة في نفسه ما تثيره أمثالها من ميل إلى السخرية، بيد أنه تساءل متظاهرا بالجد: وكيف لنا بأن نخرجهم؟
ففكر فهمي قليلا ثم قال عابسا: لهذا طلب سعد وزميلاه السفر إلى لندن!
تابعت الأم الحديث باهتمام مركزة فيه وعيها كله كي تفهم أقصى ما يسعها فهمه منه، كدأبها كلما ثار حديث في الشئون العامة البعيدة كل البعد عن اللغو المنزلي، تلك الأمور تشوقها، وتدعي القدرة على فهمها، ولا تتردد إذا سنحت فرصة عن المشاركة فيها غير مبالية بما تحدثه آراؤها في أحايين كثيرة من الاستهانة المشربة بالعطف، ولكن لم يكن شيء ليحطم مجاديفها أو يصدها عن الاهتمام بهذه الشئون «الكبيرة» التي يبدو أنها تتبعها مدفوعة بنفس البواعث التي تدفعها إلى التعلق بدروس كمال الدينية، أو مناقشة ما يلقي عليها من معلوماته الجغرافية والتاريخية على ضوء معارفها الدينية أو الأسطورية، وقد أكسبها هذا الجد شيئا من الإلمام بما يقال عن مصطفى كامل ومحمد فريد وأفندينا المبعد، أولئك الرجال الذين ضاعف من حبها لهم إخلاصهم للخلافة الأمر الذي قربهم في نظرها - كشخص يقدر الرجال بحسب منازلهم الدينية - من مراتب الأولياء الذين تهيم بهم، ولما أن ذكر فهمي أن سعدا وزميليه يطلبان السفر إلى «لندن» خرجت عن صمتها فجأة متسائلة: أي بلاد الله لندن هذه؟
فبادرها كمال باللهجة المنغومة التي يسمع بها التلاميذ دروسهم: لندن عاصمة بريطانيا العظمى، وباريس عاصمة فرنسا، والكاب وعاصمتها الكاب.
ثم مال على أذنها هامسا «لندن بلاد الإنجليز»، فتولت الأم الدهشة وقالت مخاطبة فهمي: يذهبون إلى بلاد الإنجليز ليطالبوهم بأن يخرجوا من مصر؟! ... ليس هذا من الذوق في شيء ... كيف تزورني في بيتي وأنت تضمر طردي من بيتك؟!
أضجرت مقاطعتها الشاب، فنظر إليها باسما معاتبا في آن، ولكنها ظنت أنها بسبيل إقناعه، فأردفت قائلة: وكيف يطلبون إخراجهم من ديارنا بعد إقامة طالت هذا الدهر كله؟! لقد ولدنا وولدتم وهم في بلادنا فهل من «الإنسانية» أن نتصدى لهم بعد ذاك العمر الطويل من العشرة والجيرة لنقول لهم بصريح العبارة - وفي بلادهم أيضا - اخرجوا؟!
ابتسم فهمي كاليائس على حين قهقه ياسين، أما زينب فقالت جادة: كيف تواتيهم الجرأة على أن يقولوا لهم هذا في بلادهم! ... هب الإنجليز قتلوهم هناك، فمن ذا يدري بهم؟ ... ألم يجعل جنودهم المشي في الشوارع البعيدة من المخاطرات غير المأمونة؟ ... فكيف بمن تحدثه نفسه باقتحام ديارهم؟!
ود ياسين لو يسترسل مع المرأتين في حديثهما الساذج إرواء لعواطفه الظامئة إلى المزاح، ولكنه لمس ضجر فهمي فأشفق من إغضابه، فتحول إليه مواصلا ما انقطع من الحديث وهو يقول: في كلامهما حق لم تحسنا التعبير عنه، خبرني يا أخي ما عسى أن يصنع سعد حيال دولة تعد الآن سيدة العالم بلا منازع؟
فوافقت الأم على قوله بإيماءة من رأسها كأن الحديث كان موجها إليها، وراحت تقول: كان عرابي باشا أعظم الرجال وأشجعهم، لا يقاس به سعد ولا غيره، وكان فارسا وكان مقاتلا، فماذا لقي من الإنجليز يا ولداه؟ أسروه ثم نفوه إلى بلاد وراء الشمس ...
فلم يتمالك فهمي من أن يقول لها بلهجة جمعت بين الرجاء والضيق: نينة! ... هلا تركتنا نتحدث؟!
فابتسمت فيما يشبه الحياء مشفقة كل الإشفاق من إغضابه، فغيرت لهجتها الحماسية كأنما هي بتغيير لهجتها تعلن تغير رأيها كله، ثم قالت برقة واعتذار: يا سيدي لكل مجتهد نصيب، فليذهبوا في رعاية الله، وعسى أن يحظوا بعطف الملكة الكبيرة ...
فما يدري الشاب إلا وهو يسألها في غرابة: أي ملكة تقصدين؟ - الملكة فيكتوريا يا بني، أليس هذا اسمها؟ ... طالما سمعت أبي وهو يتحدث عنها، هي التي أمرت بنفي عرابي، ولكنها أعجبت بشجاعته كثيرا فيما قيل.
فقال ياسين ساخرا: إذا كانت قد نفت عرابي الفارس، فهي أجدر أن تنفي سعدا العجوز!
فقالت الأم: مهما يكن من أمرها فهي لم تزل امرأة يحمل صدرها ولا شك قلبا رقيقا، فإذا أحسنوا مخاطبتها وعرفوا كيف يتوددون إليها جبرت بخاطرهم.
وجد ياسين سرورا كبيرا في منطق الأم التي جعلت تتحدث عن الملكة التاريخية كما لو كانت تتحدث عن أم مريم أو غيرها من الجارات، ولم يعد يرغب في مجاراة فهمي، فسألها بإغراء: خبرينا عما يحسن أن يقولوه لها؟
فاعتدلت المرأة في جلستها مسرورة بهذا السؤال الذي أقر لها بالجدارة «السياسية»، ومضت تفكر باهتمام لاح في تقارب حاجبيها في صيغة مناسبة لأول «مفاوضة»، بيد أن فهمي لم يمهلها حتى تتم تفكيرها، فقال لها باقتضاب واستياء: الملكة فيكتوريا ماتت من زمن بعيد، لا تتعبي نفسك بلا طائل!
انتبه ياسين عند ذاك إلى غاشية المساء الزاحفة من خلال خصاص النوافذ، فأدرك أنه آن له أن يودع المجلس ليمضي إلى سهرته، ولما كان يعلم حق العلم بأن ظمأ فهمي إلى الحديث لم يرو بعد، فقد رغب في أن يقدم له اعتذاره عن ذهابه في صورة تأييد من نوع ما للنبأ الذي أخذ بلبه، فقال له وهو ينهض: إنهم رجال يدركون بلا شك خطورة ما أقدموا عليه، فعلهم أعدوا له الوسيلة الناجحة، فلندع لهم بالتوفيق.
وغادر المجلس وهو يشير إلى زينب لتلحق به فتجهز له ملابسه، فشيعه فهمي بنظرة لا تخلو من غضب، غضب من لم يظفر بمشاركة وجدانية تتجاوب مع نفسه المتأججة، لشد ما تثير أحاديث الوطنية أكبر الأحلام في نفسه، في دنياها الساحرة تتراءى لعينيه دنيا جديدة، ووطن جديد وبيت جديد، وأهل جدد، ينتفضون جميعا حيوية وحماسة، ولكن ما إن يفيق على هذا الجو الخانق من الفتور والسذاجة وعدم المبالاة، حتى تشب بين أضلعه نار الحسرة والألم، فتروم في قهرها متنفسا - أيا ما كان - تنطلق منه إلى السماء، ود في تلك اللحظة بكل قوته لو ينطوي الليل في غمضة عين؛ ليجد نفسه مرة أخرى في مجمع الطلاب من إخوانه، فيروي ظمأه إلى الحماس والحرية، ويسمو في وقدة حماسهم إلى ذلك العالم الكبير من الأحلام والمجد، لقد تساءل ياسين عن ماذا يصنع سعد حيال بلد تعد اليوم بحق سيدة العالم، وهو نفسه لا يدري على وجه التحقيق ماذا سيصنع سعد، ولا يدري ماذا يمكن أن يصنع، ولكنه يشعر بكل ما في قلبه من قوة بأن ثمة ما يجب عمله، ربما لم يجده ماثلا في عالم الواقع، ولكنه يشعر به كامنا في قلبه ودمه، فما أجدره أن يبرز إلى ضوء الحياة والواقع، أو فلتمض الحياة عبثا من العبث وباطلا من الأباطيل.
49
بدا الطريق أمام دكان السيد أحمد - كعادته - مكتظا بالسابلة والمركبات، ورواد الدكاكين المتراصة على الجانبين، إلا أن هامته ازدانت بشفافية مقطرة من جو نوفمبر اللطيف الذي حجبت شمسه وراء سحائب رقاق لاحت رقاعها ناصعة البياض فوق مآذن قلاوون وبرقوق، كأنها بحيرات من نور، لم يكن شيء في السماء ولا في الأرض قد خرق المألوف مما اعتاد السيد أن يراه كل يوم، ولكن نفس الرجل، والأنفس الموصولة بنفسه، وربما أنفس الناس جميعا تعرضت لموجة عاتية من الانفعال والشعور خرجت بها عن طورها أو كادت، حتى قال السيد إنه لم تمر به أيام كهذه الأيام، اجتمع الناس فيها حول نبأ واحد، وخفقت قلوبهم بإحساس واحد. فهمي الذي يلوذ بالصمت بين يديه ما لم يبدأه هو بالحديث نقل إليه في إسهاب ما اتصل بعلمه عن مقابلة سعد لنائب الملك، وفي مساء اليوم نفسه، وفي مجلس الطرب، أكد نفر من الصحاب أن الخبر حقيقة لا يرتقي إليها الشك، وفي دكانه حدث أكثر من مرة أن خاض زبائن لا تربط بينهم صلة تعارف سابق في حديث المقابلة، بل ما يدري هذا الصباح إلا والشيخ متولي عبد الصمد يقتحم عليه الدكان بعد غيبة طويلة، فلم يقنع بتلاوة الآيات وأخذ نصيبه من السكر والصابون، وأبى إلا أن يعلن نبأ الزيارة بلهجة من يزف البشرى لأول مرة، ولما سأله السيد - مداعبا - عما يظن أن تكون نتيجة الزيارة، أجاب الشيخ: «محال! ... محال أن يخرج الإنجليز من مصر، أتحسبهم مجانين كي يجلوا عن البلد بلا قتال! ... لا بد من قتال، ولا قتال لنا، فلا سبيل إلى إخراجهم، فلعل رجالنا يوفقون ولو إلى إبعاد الأستراليين حتى يعود الأمن إلى سابق عهده، والسلام!» أيام أنباء ومشاعر فياضة صادفت في السيد رجلا ذا قابلية شديدة لعدوى الأشواق الوطنية والسياسية، فبات على حال من الانتظار والتوقع، جعلته يقبل بانفعال على قراءة الجرائد التي بدت في الأغلب وكأنها تصدر في بلد غريب لا انفعال فيه ولا توثب، واستقبال الأصدقاء بنظرة استطلاع تتلهف عما وراءهم من جديد، وعلى تلك الحال استقبل السيد محمد عفت حين دخل الدكان مهرولا، لم تكن نظرة القادم الحادة ولا حركته النشيطة مما يوحي بأنه مجرد زائر قد عرج إلى الدكان لاحتساء قهوة أو رواية ملحة، فوجد السيد في مظهره ما تجاوب مع نفسه القلقة المشوقة، فبادره قائلا والآخر يشق طريقه بين الزبائن الذين قام جميل الحمزاوي على قضاء حوائجهم: صباحنا ناد، ماذا وراءك يا سبع؟
اتخذ السيد محمد عفت مجلسه لصق المكتب، وهو يبتسم ابتسامة وشت بالعجب كأن قول السيد «ماذا وراءك»، وهو نفس السؤال الذي يتكرر كلما لاقى أحدا من صحبه، إقرار بأهميته في هذه الأيام البالغة في أهميتها بالنظر لما يربطه ببعض الشخصيات المصرية الهامة من صلات القربى. كان السيد عفت دائما همزة الوصل بين جماعته الأصلية المكونة من تجار وبين من انضم إليها بمضي الزمن من موظفين ممتازين ومحامين، وإن تفرد السيد أحمد بمنزلة الإعزاز الأولى بفضل شخصيته وسجاياه، غير أن صلة القربى هذه التي لم تفقد شيئا من خطورتها قط لدى أصدقائه التجار الذين يتطلعون إلى الموظفين وذوي الألقاب بنظرة ملؤها الإكبار، صلة القربى هذه قد زادت خطورة في هذه الأيام التي بات فيها «الخبر الجديد» أهم من الماء والغذاء! ... بسط السيد عفت صحيفة كانت مطوية بيمينه ثم قال: خطوة جديدة ... لم أعد ناقل أنباء فحسب، ولكني بت رسولا أحمل إليك وإلى غيرك من الأكرمين هذا التوكيل السعيد.
وأعطاه الصحيفة وهو يغمغم مبتسما: «اقرأ» فتناولها السيد وقرأ:
نحن الموقعين على هذا قد أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي علوبة بك وعبد اللطيف المكباتي ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارون، في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلا في استقلال مصر استقلالا تاما.
فتهلل وجه السيد وهو يتلو أسماء أعضاء الوفد المصري الذين سمع بهم فيما سمع من أنباء الحياة الوطنية التي ترددها الألسن، وتساءل: ماذا تعني هذه الورقة؟
فقال الرجل بحماس: ألا ترى هذه الإمضاءات؟ ... وقع تحتها بإمضائك، وادع جميل الحمزاوي ليوقع بإمضائه أيضا. هذا توكيل من التوكيلات التي طبعها الوفد ليوقعها الشعب، فيتخذ بها صفة الوكالة عن الأمة المصرية ... أمسك السيد بالقلم ووقع بإمضائه في سرور تجلى في تألق عينيه الزرقاوين، وهو يبتسم ابتسامة رقيقة نمت عن شعوره بالسعادة والخيلاء؛ إذ يوكل عن نفسه سعدا وزملاءه، أولئك الرجال الذين ملكوا النفوس على حداثة شهرتهم، حيث حركوا منها أهواء عميقة مكبوتة كالدواء الجديد يستأثر بأفكار المرضى بداء قديم استعصى علاجه، بالرغم من استعماله لأول مرة، ودعا الحمزاوي فوقع بإمضائه كذلك، ثم التفت إلى صاحبه وهو يقول باهتمام شديد: المسألة جد فيما يبدو!
فضرب الرجل حافة المكتب بقبضة يده، ثم قال: غاية الجد، كل شيء يسير بقوة وتصميم، أما علمت بما دعا إلى طبع هذه التوكيلات؟ قيل إن «الرجل» الإنجليزي تساءل عن الصفة التي كلمه بها سعد وزميلاه في صباح 13 نوفمبر الماضي، فما كان من الوفد إلا أن عمد إلى هذه التوكيلات ليثبت أنه يتكلم باسم الأمة.
فقال السيد بتأثر: لو كان محمد فريد بيننا ما عدا هذا. - لقد انضم إلى الوفد من رجال الحزب الوطني محمد علي علوبة بك، وعبد اللطيف المكباتي.
ثم هز منكبيه لينفض عنهما الماضي كله، ثم قال: كلنا نذكر سعدا بما كان يثير من ضجة عظيمة على عهد توليه لنظارة المعارف ثم الحقانية، ما زلت أذكر ترحيب اللواء به منذ ترشيحه للوزارة، وإن لم أنس حملاته عليه بعد ذلك، بل لا أنكر أنني ملت مع انتقاد المنتقدين له؛ لشدة تعلقي بالمغفور له مصطفى كامل، ولكن سعد أثبت دائما أنه جدير بإعجاب المعجبين، أما حركته الأخيرة فهي خليقة بأن تحله من القلوب في أعز مكان. - صدقت ... حركة مباركة، لندع الله أن يتولاها بتوفيقه.
ثم باهتمام: ترى أيؤذن لهم في السفر؟ ... وماذا تراهم فاعلين إذا سافروا؟
طوى السيد محمد عفت التوكيل، ثم نهض وهو يقول: ما الغد ببعيد.
في طريقهما إلى باب الدكان غلبت روح الدعابة السيد، فهمس في أذن صاحبه: كأني لشدة سروري بهذا التوكيل الوطني ثمل يعل الكأس الثامنة بين فخذي زبيدة!
فحرك محمد عفت رأسه في تأثر كأن الصورة التي جسمها خياله عند ذكر الكأس وزبيدة قد أسكرته، وغمغم: ياما بكرة نسمع.
ثم غادر الدكان والسيد في أعقابه مبتسما: وبعده نشوف!
ثم عاد إلى مكتبه وأثر المزاح منبسط في أساريره، وانفعال الحماس في قلبه لا يخمد، شأنه في كل ما يعرض له من مهام الحياة بعيدا عن داره، فهو يجد الجد كله كلما دعا الداعي إلى الجد، ولكنه لا يتردد عن تلطيف جوه بالمزاح والدعابة كلما لاحت له صادرا في ذاك عن طبع لا يملك معه حيلة، وإن بدا ذا قدرة عجيبة على التوفيق بينهما، فلا جده بقاهر مزاحه، ولا مزاحه بمفسد جده، ولما كانت دعابته ليست ترفا مما يدور على هامش الحياة، ولكن ضرورة تتوزعها كالجد سواء بسواء، فلم يسعه يوما الاقتصار على الجد الخالص أو تركيز همته فيه، وبالتالي قنع دائما من «وطنيته» بالعاطفة والمشاركة الوجدانية دون الإقدام على عمل يغير وجه الحياة الذي آنس إليه، فلا يرضى عنه بديلا؛ لذلك لم يدر له بخلد أن ينضم إلى لجنة من لجان الحزب الوطني على شدة تعلقه بمبادئه، ولا حتى أن يجشم نفسه شهود اجتماع من اجتماعاته، أليس في ذلك إهدار لوقته «الثمين»؟ ليس الوطن في حاجة إليه على حين يتلهف هو على كل دقيقة منه لينفقها في أسرته أو تجارته، أو على الخصوص في لهوه بين الأحباب والخلان؟! ليكن إذن وقته خالصا لحياته، وللوطن ما يشاء من قلبه وعواطفه، بل ماله كلما تيسر، إذ لم يكن يضن به إذا وجب التبرع لغرض من الأغراض، وإلى ذلك فلم يشعر مطلقا بأنه مقصر في واجبه على نحو ما، وعلى العكس عرف بين صحبه بالوطنية، إما لأن قلوبهم لم تسخ بعواطفها كما سخا قلبه، وإما لأن الذين سخت قلوبهم لم يذهبوا إلى حد التبرع بالمال مثله، فتميز بوطنيته، وعرف هو ذلك فأضافه إلى بقية مزاياه التي يباهي بها سرا في أعماق قلبه، ولم يتصور أن الوطنية يمكن أن تطالبه بأكثر مما يجود به، ذاك القلب المولع بالغرام والطرب والمزاح لم يضق - على ازدحامه - بالعاطفة القومية، وهي وإن قنعت بالقلب مجالا لحيويتها، إلا أنها كانت قوية عميقة تشغل النفس وتهمها، لم تجئه عرضا ولكن نشأت مع صباه فيما تلقته أذناه من أحاديث البطولة التي رواها السلف عن عرابي، ثم اتقدت جذوتها بمقالات اللواء وخطبه، وكم كان منظرا فريدا - أهاج التأثر والضحك معا - يوم رئي وهو يبكي كالأطفال عند وفاة مصطفى كامل، تأثر صحبه لأن أحدا منهم لم يسلم من وعكة حزن، ثم أغرقوا في الضحك في مجلس الطرب الليلي حين تذكروا المنظر؛ إذ لم يكن من اليسير أن يرى «رب الضحك» وهو يجهش بالبكاء! اليوم، بعد سني الحرب الخامدة، بعد موت الزعيم الشاب ونفي خليفته، بعد انقطاع الأمل من عودة أفندينا، بعد هزيمة تركيا، وانتصار الإنجليز، بعد هذا كله، أو بالرغم من هذا كله، تسري أنباء عجيبة حاملة حقائق كالأساطير ... مواجهة الرجل الإنجليزي بمطالب الاستقلال، إمضاء التوكيلات الوطنية، التساؤل عن الخطوة التالية، قلوب تنفض عن جوهرها الغبار، أنفس تشرق بالآمال، ماذا وراء هذا كله؟! ... إن خياله السلمي الذي ألف الاستكانة يتساءل دون جدوى، وإنه يتعجل الليل ليهرع إلى مجلس الطرب، حيث باتت الأحاديث السياسية «مزة» الشراب والطرب، فائتلفت مع جملة المغريات التي تجذب حنانه إلى سهرته كزبيدة، وحب الإخوان والشراب والطرب، وإنه لتبدو في ذلك الجو الخلاب عذبة الروح، لطيفة التناول، تغني القلوب بشتى عواطف الحماس والحب من دون أن تستأديه ما لا طاقة له به! ... وإنه ليفكر في هذا كله إذ اقترب منه جميل الحمزاوي وهو يقول: أما سمعت عن الاسم الجديد الذي أطلق على بيت سعد باشا؟ ... إنهم يدعونه «بيت الأمة».
ومال الرجل نحوه ليفضي إليه كيف نما إليه الخبر.
50
في نفس الوقت الذي شغل فيه الوطن بالمطالبة بحريته كان ياسين دائبا بحزم وعزم على الاستئثار بحريته هو كذلك، فإن انطلاقه إلى سهراته الليلية - بعد امتناع موسوم بالاستقامة فيما أعقب الزواج من أسابيع - لم يفز به بلا نضال، ثمة حقيقة كثيرا ما رددها لنفسه كاعتذار عن سلوكه الجديد، هي أنه لم يكن يتصور - وهو في سكرة حلم الزواج - أنه سيرتد إلى حياة التسكع بين القهوة وحانة كستاكي، اعتقد مخلصا أنه ودع ذاك إلى الأبد مضمرا لحياته الزوجية أحسن النيات، حتى دهمته الخيبة المستعصية في الزواج كله، فجزعت أعصابه عن تحمل الملل أو الحياة الفارغة كما دعاها، وفزع بكل قوة نفسه المدللة الحساسة إلى الترفيه والتسلية والنسيان، إلى القهوة والحانة، لا كحياة لهو عابرة كما ظنها في الماضي والزواج أمل مدخر، ولكن كحياة هي كل ما تبقى له من متعة بعد أن غدا الزواج خيبة مريرة، كالذي تشرده الآمال عن وطنه فيرده الإخفاق إليه تائبا، بيد أن زينب التي عهدت عنده التودد الحار والتملق النهم، بل الإعزاز الذي بلغ به يوما أن ذهب بها إلى مسرح كشكش بك مستهينا بالسياج المسلح من التقاليد الصارمة الذي يضربه أبوه حول الأسرة ... زينب هذه كابدت من انصرافه عنها إلى منتصف الليل ليلة بعد أخرى، وعودته ثملا يترنح، صدمة عز عليها احتمالها، فما تمالكت أن كاشفته بأحزانها، وكان يعلم بداهة أن طفرة مفاجئة في حياته الزوجية لا يمكن أن تمر بسلام، فتوقع من بادئ الأمر المعارضة على أي لون جاءت، عتابا أو خصاما وأعد العدة المناسبة ليحسم موقفه بقول أبيه له ليلة ضبطه راجعا من كشكش بك «إنه لا يفسد النساء إلا الرجال، وليس كل الرجال جديرا بالقيام على النساء.» فما تشكت حتى قال لها: «لا داعي للحزن يا عزيزة، منذ القدم والبيوت للنساء والدنيا للرجال، هكذا الرجال جميعا، والزوج المخلص يحافظ على أمانته وهو بعيد عن زوجته كما يحافظ عليها وهو بين يديها، ثم إنني أتزود من السهرة ترويحا عن النفس وبهجة يجعلان من حياتنا متعة كاملة.» ولما عرضت بسكره محتجة بأنها «تخاف على صحته»، ضحك وقال بنفس اللهجة الجامعة بين الرقة والحزم: «كل الرجال يسكرون، إن صحتي تتحسن بالسكر (ثم ضاحكا مرة أخرى) سلي أبي أو أباك!» إلا أنها همت بالاسترسال في مناقشته جريا وراء أمل كاذب، فشد حبل الحزم متشجعا بملله الذي هون عليه ما لم يكن يهون من إغضابها، فراح ينوه بما للرجال من حق مطلق في أن يفعلوا ما يشاءون، وما على النساء من واجب الطاعة والتزام الحدود «انظري إلى امرأة أبي، هل رأيتها اعترضت يوما على تصرف لأبي؟ ... على ذاك فهما زوجان سعيدان وأسرة مطمئنة، ينبغي ألا نعود إلى هذا الموضوع.» لعله لو كان ترك إلى شعوره وحده ما اصطنع في خطابها ما اصطنع من سياسة، فإن خيبته في الزواج جعلته يجد نحوها أحيانا ما يشبه الرغبة في الانتقام، وأحيانا أخرى نوعا من الكراهية المتقطعة، وإن لم يكف عن الرغبة فيها بين هذا وذاك، ولكنه راعى عواطفها إكراما - أو خوفا - من أبيه الذي علم بعظيم تعلقه بأبيها السيد محمد عفت. والحق لم يكن يكربه شيء كإشفاقه من أن تشكوه إلى أبيها، فيشكوه هذا بدوره إلى أبيه، حتى لقد صمم جادا، إذا وقع شيء مما يحاذر، أن يستقل بمسكن مهما تكن العواقب، ولكن مخاوفه لم تتحقق، أثبتت الفتاة رغم حزنها أنها امرأة «عاقلة» كأنها من طراز امرأة أبيه نفسها، قدرت موضعها حق قدره ونزلت عند حكم الواقع، مطمئنة - لبعلها - بما يردده دائما من إخلاصه وبراءة سهراته، قانعة من الألم والحزن ببثها في دائرة الأسرة الضيقة - مجلس القهوة - من دون أن تظفر بتأييد جدي، وكيف لها بذاك في بيئة ترى الخضوع للرجال دينا وعقيدة، بل لعل الست أمينة استنكرت شكواها، وسخطت على ما تطمح إليه من استئثار غريب ببعلها؛ لأنها لم يكن يسعها أن تتصور النساء إلا على مثالها هي، ولا الرجال إلا على مثال زوجها، فلم تر في استمتاع ياسين بحريته عجبا، ولكن شكوى زوجه بدت هي العجب. فهمي وحده قدر أحزانها فتطوع لترديدها على مسمع من ياسين، ولو أنه أيقن من بادئ الأمر أنه يدافع عن قضية خاسرة، ولعل ما شجعه على ذاك كان كثرة تلاقيهما في قهوة أحمد عبده بخان الخليلي، تلك القهوة التي تقع تحت سطح الأرض، كأنها كهف منحوت في جوف جبل، مسقوفة بربوع الحي العتيق، منعزلة عن العالم بحجراتها الضيقة المتقابلة، وباحتها التي تتوسطها نافورة صامتة، ومصابيحها التي توقد ليل نهار، وجوها الهادئ الحالم الرطيب. كان ياسين قد مال إلى هذه القهوة لدنوها من حانة كستاكي من ناحية، ولاضطراره إلى هجر قهوة سي علي بالغورية بعد قطع زنوبة من ناحية أخرى، ثم لما خصت به القهوة الجديدة من طابع أثري صادف هوى من نفسه الميالة للشعر، أما فهمي فلم يعرف طريق المقاهي لخلل طرأ على سلوكه كطالب مجتهد، ولكن تلبية لنداء تلك الأيام الذي دعا الطلبة وغيرهم إلى التجمع والتشاور، فاختار ونفر من زملائه قهوة أحمد عبده - لنفس ميزاتها الأثرية التي جعلتها بمأمن من العيون - للاجتماع مساء بعد مساء للحديث والتشاور والتنبؤ وانتظار الحوادث، كثيرا ما التقى الأخوان في حجرة من الحجرات الصغيرة، ولو لحين قليل أي حتى يصل زملاء فهمي أو يأزف ميعاد ياسين للانتقال إلى حانة كستاكي، وفي مرة من هذه المرات أشار فهمي إلى كدر زينب مبديا دهشته لسلوك أخيه الذي لا يتفق مع حياة زوجية ناشئة. ضحك ياسين ضحكة رجل يرى لنفسه الحق، كل الحق، في أن يضحك من سذاجة الآخر الذي ارتضى أن يخاطبه بلسان الناصح فيما يجهله، بيد أنه لم يشأ أن يبرر سلوكه مباشرة مؤثرا أن ينفس عن صدره بما يعن له من قول، قال مخاطبا الشاب: رغبت يوما في الزواج من مريم، ولست أشك في أنك حزنت جد الحزن لموقف أبيك الذي منع تلك الرغبة من أن تتحقق ... أقول لك، وأنا أدرى بما أقول، إنك لو علمت وقتذاك بما يخفي الزواج وراء سطحه لحمدت الله على الفشل.
دهش فهمي لحد الانزعاج؛ لأنه لم يتوقع أن يباغت في أول جملة يخاطب بها بألفاظ تجمع بين «مريم» و«الزواج» و«الرغبة»، أفكار لعبت على مسرح صدره أدوارا لا تنسى ولا تمحى آثارها، فلعله بالغ في إظهار دهشته ليخفي ما أثارت الذكريات في نفسه من الشجن والتأثر، ولعله لذلك لم يستطع أن ينبس بكلمة، فتابع ياسين حديثه وهو يلوح بيده سأما ومللا قائلا: ما كنت أتصور أن ينجلي الزواج عن هذا الخواء، إنه في الحق لا يعدو أن يكون حلما كاذبا، وقاسيا ككل شيء خبيث الخداع!
بدا له قوله عسير الهضم، مثيرا للريب كما يخلق بشاب تتدفق ينابيع حياته الوجدانية نحو هدف واحد لا يتمثل له إلا في صورة «زوجة» وتحت مقولة «الزواج»، فعز عليه أن يتناول أخوه المستهتر مقولته المقدسة بهذه المرارة الساخرة، وتمتم في دهشة بالغة: ولكن زوجك سيدة ... كاملة!
فهتف ياسين ساخرا: سيدة كاملة! هو ذاك، أليست كريمة رجل فاضل؟ ... وربيبة أسرة كريمة؟ ... جميلة ... مهذبة ... ولكن لا أدري أي شيطان موكل بالحياة الزوجية يجعل من جميع المزايا السالفة أعراضا تافهة لا يلقى إليها ببال تحت ضغط الملل المسقم، كأنها بعض ما نغدق على الفقر من صفات النبل والسعادة كلما تراءى لنا أن نعزي فقيرا عن فقره.
فقال فهمي ببساطة وصدق: لا أفهم حرفا مما تقول. - انتظر حتى تعرف بنفسك. - لماذا إذن يصر الناس على الزواج منذ بدء الخليقة؟ - لأن الزواج - كالموت - لا ينفع معه التحذير ولا الحذر.
ثم مستطردا وكأنه يخاطب نفسه: لشد ما عبث بي الخيال فسما بي إلى عوالم تفوق مباهجها الأحلام، وطالما ساءلت نفسي: هل يجمعني حقا بيت واحد بغادة حسناء إلى الأبد؟ يا له من حلم! ... ولكني أؤكد بأنه ليست ثمة مصيبة أفدح من أن يجمعك بيت واحد بحسناء إلى الأبد.
وغمغم فهمي في حيرة رجل يعز عليه - فيما يكابد من أشواق الشباب - تصور الملل: لعله بدت لعينك أشياء وراء الظاهر الذي لا يعاب!
فقال ياسين وهو يضحك بمرارة: لا أشكو إلا الظاهر الذي لا يعاب! ... شكواي في الحق منصبة على الجمال نفسه! ... هو ... هو الذي مللت لحد السقم، كاللفظ الجديد يبهرك معناه لأول مرة ثم لا تزال تردده وتستعمله حتى يستوي عندك وألفاظ مثل «الكلب» و«الدودة» و«الدرس» وسائر الأشياء المبتذلة، يفقد جدته وحلاوته، وربما نسيت معناه نفسه، فغدا مجرد لفظ غريب لا معنى له ولا وجه لاستعماله، ولعله لو عثر عليه الغير في إنشائك أخذهم العجب لبراعتك على حين يأخذك العجب لغفلتهم، ولا تسل عما في ملل الجمال من فجيعة؛ إذ إنه يبدو مللا بلا عذر مقبول، وبالتالي قضاء محتوما ... فيتعذر التفادي من يأس ليس له من قرار، لا تعجب لقولي، إني عاذرك لأنك تنظر من بعيد، والجمال كالسراب لا يرى إلا من بعيد.
على مرارة اللهجة شك فهمي في حقيقة بواعثها، إذ إنه مال من بادئ الأمر إلى اتهام أخيه - لا الطبيعة البشرية - لما عرفه عنه من انحراف السلوك، ألا يجوز أن ترد شكواه في الحق إلى ما لهج به من مجون في حياته السابقة على الزواج؟! ... أصر على هذا الظن إصرار رجل يأبى أن يفجع في أعز آماله، ولما كان ياسين لا يهتم بآراء أخيه بقدر ما يهتم بالإفصاح عما في صدره هو، فقد واصل حديثه وهو يبتسم لأول مرة ابتسامة وضيئة: أصبحت أدرك موقف أبي حق الإدراك! ... وأفهم ما جعل منه ذاك الرجل العربيد الراكض وراء العشق أبدا! ... كيف كان يتأتى له أن يصبر على طعام واحد ربع قرن من الزمان، وقد قتلني الملل بعد خمسة أشهر؟!
فقال فهمي وقد قلق لإقحام أبيه في الحديث: حتى على افتراض أن شكواك صادرة عن تعاسة مركبة في الطبيعة البشرية، فالحل الذي تبشر به ... (هم بأن يقول: بعيد عن الطبيعة السوية، ثم عدل عنه ليكون أكثر منطقية، فقال) بعيد عن الدين.
فقال ياسين الذي كان يقنع من الدين بالإيمان، دون اكتراث جدي لأوامره ونواهيه: الدين يؤيد رأيي، وآي ذلك أنه سمح بالزواج من أربع غير الجواري اللاتي كانت تكتظ بهن قصور الخلفاء والأغنياء؛ فقد فطن إذن إلى أن الجمال نفسه - إذا ابتذلته العادة والألفة - مل وأسقم وقتل.
فقال فهمي باسما: كان لنا جد يمسي مع زوجة ويصبح مع أخرى، فلعلك أن تكون وريثه ...
فتمتم ياسين متنهدا: لعلي ...
على أن ياسين - حتى ذاك الوقت - لم يكن أقدم على تحقيق حلم من أحلامه المتمردة، حتى إنه رجع إلى القهوة فالحانة، ولكنه تردد قبل أن يخطو الخطوة الأخيرة ، قبل أن ينزلق إلى زنوبة أو إلى غيرها. وما الذي جعله يفكر ويتردد؟ ... ربما لم يخل من إحساس بالمسئولية حيال الحياة الزوجية، وربما لم ينج من تهيب لرأي الدين في «الزوج الفاسق»، الذي توكد لديه أنه غير رأيه في «الشاب الفاسق»، وربما أيضا أن خيبة أقوى أمل تردد في جوانبه صدت نفسه عن لذات الدنيا حتى يفيق، على أن واحدة من أولاء لم تكن لتقيم في سبيله عائقا جديا خليقا بأن يقف مجرى حياته، إلا أنه وجد إغراء لا يصمت في سيرة أبيه التي استحوذت عليه، وما بدا من زوجه من «حكمة» قرنتها في ذهنه بامرأة أبيه، فينشط خياله إلى رسم تخطيط لحياتها المستقبلة معه على مثال حياة الست أمينة مع أبيه، أجل تمنى كثيرا لو تطمئن زينب إلى الحياة التي تقدر عليها، كما تطمئن امرأة أبيه إلى حياتها، فيثب هو مثل وثبات أبيه الموفقة ليعود آخر الليل فيحظى ببيت هادئ وزوجة مستنيمة. بذاك - وبذاك وحده - تراءت له الحياة الزوجية محتملة، بل أثيرة ذات مزايا تفتقد. «فيم تطمح أية امرأة وراء البيت الزوجي والارتواء الجنسي؟! ... لا شيء! ... إنهن حيوانات أليفة كالحيوانات الأليفة ينبغي أن يعاملن، أجل لا يجوز للحيوانات الأليفة أن تتطفل على حياتنا الخاصة، وإنما عليها أن تنتظر في البيت حتى نفرغ لمداعبتها، أن أكون زوجا خالصا للحياة الزوجية هو الموت، منظر واحد وصوت واحد وطعم واحد لا تزال تتكرر وتتكرر ... حتى تنقلب الحركة والجمود سيين، والصوت والصمت توءمين، كلا كلا، ما لهذا تزوجت ... إن قيل إنها بيضاء، ألست ذا مآرب في السمراء، بل والسوداء ... وإن قيل إنها مدملجة فما عزائي عن النحيلة والجسيمة، أو إنها مهذبة سليلة نبل وكرم، فهل عطلت من المزايا ربيبة العربات الكارو؟! ... إلى الأمام ... إلى الأمام ...
51
كان السيد مكبا على دفاتره حين طرقت عتبة الدكان حذاء ذات كعب عال، فرفع عينيه باهتمام غريزي، فرأى امرأة تشتمل الملاءة اللف منها على جسم لحيم، وتنحسر حافة البرقع الأسود عن جبين ناصع وعينين مكحولتين، فابتسمت أساريره في ترحاب طال تشوقه إليه، وعرف من توه الست أم مريم، أو حرم المرحوم رضوان كما صارت تدعى أخيرا، ولما كان جميل الحمزاوي مشغولا ببعض الزبائن، فقد دعاها للجلوس على كثب من مكتبه، فأقبلت المرأة تخطر وجلست على المقعد الصغير الذي فاضت عنه أعطافها وهي تلقي إليه بتحية الصباح، ومع أن التحية من ناحيتها والترحاب من ناحيته جريا على النحو المعهود الذي يتكرر كلما جاءته «زبونة» تستحق التكريم، فإن الجو الذي غشي ركن الدكان من حول المكتب شحن بكهرباء تعوزها البراءة، لاحت أمارات لها في الجفنين المسبلين حياء حول عروس البرقع من ناحية، والنظرة المتربصة فوق سفحي الأنف العظيم من ناحية أخرى، كهرباء خفية صامتة إلا أن نورها الكامن كان متحفزا في انتظار لمسة كي يسطع ويشعشع ويستعر نارا ... كأنه كان ينتظر هذه الزيارة التي انجابت عن آمال مهموسة وأحلام مكبوتة، ولكن لأن وفاة السيد محمد رضوان أثارت منه فكرا وهيجت رغبات كما يهيج انطواء الشتاء شتى آمال الشباب في الطبيعة والأحياء، زال بموته الشجا الذي اعترض إحساسه بالمروءة، فأمكنه أن يذكر نفسه بأن المرحوم لم يكن إلا جارا - لا صديقا - ورحل، كما أمكن شعوره بجمال هذه المرأة الذي أعرض عنه قديما حفاظا على كرامته أن يعبر عن ذاته ويطالب بنصيبه من المتعة والحياة، إلا أن عاطفته نحو زبيدة، كان أدركها العطب كالفاكهة في نهاية موسمها، فلاقت المرأة منه - على خلاف الزيارة السابقة - ذكرا متوثبا وعاشقا متحررا ... على أن خاطرة ثقيلة - أن تكون الزيارة بريئة - مرت به، ولكنه نفاها عن نفسه بقوة، مستشهدا بما بدا منها في الزيارة القديمة من رقيق الإشارات وبديع الريب، مؤكدا ظنونه بهذه الزيارة نفسها التي ليس ثمة ما يوجبها إن لم يكن مثل ما يدور بنفسه، ثم صمم أخيرا على أن يتلمس سبيله كخبير قديم ... فقال لها برقة باسما: خطوة عزيزة!
فقالت في شيء من الارتباك: الله يكرمك، كنت راجعة إلى البيت فمررت بالدكان فتراءى لي أن آخذ لوازم الشهر بنفسي.
فطن إلى «اعتذارها» عن المجيء ولكنه أبى أن يصدقه، فأن يتراءى لها أن تأخذ لوازم الشهر بنفسها ليس شيئا إن لم يكن وراءه دافع، لا سيما وأنها تدري بالبداهة والغريزة أن مجيئها بعد «مقدمات» الزيارة القديمة خليق بأن يثير في نفسه الريب، وأن يبدو لعينيه «تمحكا» غير خافي الدلالة، فزادته مبادرتها إلى الاعتذار ثقة وقال: فرصة طيبة لأحييك ولأكون في خدمتك.
فشكرته في اقتضاب أصغى إليه بنصف انتباه؛ إذ شغل بالتفكير في الكلمة التالية، لعله كان من الطبيعي أن يعرج على ذكر الزوج الراحل مترحما، ولكنه تحاشى هذا الخاطر أن يفسد عليه الجو كله، ثم تساءل: هل يهاجم أو يمسك حتى يستدرجها إلى الهجوم؟ لكل طريقة لذاتها ... بيد أنه لم يشأ أن ينسى أن مجيئها وحده خطوة كبيرة من جانبها تستحق حسن الاستقبال من جانبه، فاستطرد قائلا، وكأنه يتمم حديثه الأول: بل فرصة طيبة كي أراك!
تحرك الجفنان والحاجبان حركة، ربما دلت على الحياء أو الارتباك أو كليهما معا، ولكنها فضحت قبل كل شيء فطنتها إلى ما وراء مجاملته الظاهرة من معان خفية، على أنه رأى في حيائها استجابة لشعورها الباطني الذي دفعها إلى زيارته أكثر منه استجابة لقوله، فازداد اطمئنانا إلى تخمينه الأول، وراح يؤكد ما عناه في نغمة رقيقة قائلا: أجل فرصة طيبة كي أراك.
عند ذاك قالت بلهجة تنم عن عتاب حبيس: لا أظن أنك تعد رؤيتي فرصة طيبة!
فوقعت لهجة العتاب من صدره موقع الرضا والسرور، لكنه قال كالمحتج: صدق من قال إن بعض الظن إثم.
فهزت رأسها هزة كأنما تقول له: «هيهات أن يؤثر في مثل هذا الكلام.» وقالت: ليس ظنا فحسب، إني أعني ما أقول، إنك رجل لا يعوزك الفهم، وأنا كذلك وإن توهمت غيره ... فلا يجوز لأحدنا أن يحاول خدع صاحبه.
ومع أن صدور هذا الكلام عن امرأة لم يمض على وفاة زوجها شهران أثار في نفسه شعورا بالسخرية والمرارة، فإنه تطوع لانتحال الأعذار لها - الأمر الذي لم يكن ليفكر فيه في ظروف أخرى - قائلا لنفسه: ما أحرى صبرها على مرضه الطويل بأن يشفع لها. ثم تخلص من شعوره الطارئ بقوة، وقال متصنعا الأسى: غاضبة علي؟! يا له من حظ سيئ لا أستحقه!
فقالت في شيء من الاندفاع ربما كان الباعث عليه ضيق المكان والزمان عن ملاعبات الأخذ والرد: قلت لنفسي وأنا في الطريق إليك: «ما ينبغي أن تذهبي» .. فلا يحق لي الآن أن ألوم إلا نفسي! - بعض هذا الغضب يا ست! ... إني أسائل نفسي عما جنيت؟!
فتساءلت بلهجة ذات معنى: ما عسى أن تصنع إذا حييت إنسانا بتحية فلم يرد بمثلها ولا حتى بأسوأ منها؟!
فأدرك من توه أنها تشير إلى ما بدا منها في الزيارة القديمة من تودد قابله بالصمت، ولكنه تجاهل الإشارة ... وقال مجاراة لأسلوبها الرمزي: لعلها لم تبلغ سمعه لسبب أو لآخر. - إنه قوي السمع والحواس جميعا.
فجرت على فمه ابتسامة عجب لم يتمالكها، قال بلهجة المذنب إذا أنشأ يعترف: لعله لم يردها حياء أو تقوى.
فقالت بصراحة أعجبته وهزت فؤاده: أما الحياء فلا حياء له، وأما سائر الأعذار فمن أين للقلوب الصادقة أن تباليها؟!
فندت عنه ضحكة ما لبث أن اختزلها وهو يسترق النظر إلى جميل الحمزاوي الذي بدا منهمكا في العمل بين نفر من الزبائن، ثم قال: لا أحب أن أعود إلى الملابسات التي قست علي وقتذاك، على أنه لا يجوز لي أن أيئس ما دام ثمة ندم وتوبة وعفو!
فتساءلت في إنكار: من يدرينا بالندم؟
فقال بلهجة حارة برع في تجويدها عاما بعد عام: تجرعته طويلا والله شهيد! - والتوبة؟
فقال وهو يثقبها بنظرة متوهجة: أن ترد التحية بعشر أمثالها؟!
فتساءلت في دلال: ومن أدراك بأن ثمة عفوا؟
فقال بلباقة: أليس العفو من شيم الكرام؟
ثم في نشوة مسكرة: العفو كثيرا ما يكون كلمة السر لولوج الجنة.
ثم وهو يرنو إلى ابتسامة عذبة لاحت في عينيها: الجنة التي أعنيها تقع عند ملتقى بين القصرين بالنحاسين، ومن جميل التوفيق أن بابها يفتح على عطفة جانبية بعيدا عن أعين الرقباء، وأن لا حارس لها !
وفطن إلى أن حارس الجنة السماوية سمي «المرحوم» الذي كان حارسا للجنة الأرضية التي يتلمس طريقه إليها، فشاب خاطره ضيق وخاف أن تكون المرأة قد فطنت إلى نفس الحقيقة الساخرة، ولكنه وجدها مهومة فيما يشبه الحلم، فتنهد وهو يستغفر الله في سره. وكان جميل الحمزاوي قد فرغ من زبائنه، فأقبل على السيدة ليقضي حوائجها، فسنحت للسيد فرصة للتأمل، فراح يذكر كيف رغب ابنه فهمي يوما في خطبة مريم ابنة هذه المرأة، ثم كيف ألهمه الله الرفض، وقد اعتقد وقتذاك أنه إنما ينفذ مشيئة حرمه فحسب، فلم يدر له بخلد أنه جنب ابنه شر مأساة ينكب بها زوج، وهل يمكن أن تنهج فتاة إلا على مثال أمها؟ ... وأي أم؟ ... امرأة خطيرة! ... قد تكون جوهرة ثمينة عند أمثاله من الصيادين، ولكنها في البيوت مأساة دامية، ترى أي طريق سلكت طوال الأعوام التي عاشها زوجها ميتا حيا؟ ... كل القرائن تشير إلى طريق واحد، ولعل كثيرين من الجيران يعرفون، بل لعله لو كان في بيته من يحسن ملاحظة هذه الأمور لما خفي عليه شيء، ولما بقيت زوجه على الولاء لها والإيمان بها حتى هذه الساعة، وعاودته رغبة - استحوذت عليه أول مرة عقب الزيارة المريبة القديمة، ولم يجد عندئذ سبيلا آمنا إلى تحقيقها دون إثارة الريب - وهي أن يحول بين المرأة المستهترة وبين بيته الطاهر، الآن يرى الظرف مهيأ - لاتصاله المنتظر بها - لتحقيق رغبته، وذلك بأن يوحي لها بقطع أسبابها بزوجه رويدا منتحلا ما يعن له من أعذار حقيقة ببلوغ الهدف دون مساس بكرامتها، هذه المرأة التي باتت أقرب ما تكون إلى فؤاده وأبعد ما تكون عن احترامه في لحظة واحدة! ولما انتهى الحمزاوي من إعداد حوائجها نهضت مادة يدها إلى السيد، فسلم باسما وهو يقول بصوت خافت: إلى اللقاء.
فغمغمت وهي تهم بالانصراف: نحن في الانتظار.
غادرته أوفر سعادة، نشوان بالظفر والعجب، ولكنها خلقت له أيضا هما لم يكن، هما جديرا بأن يحتل مكانا بارزا من مشاغله اليومية، سوف يتساءل من الآن فصاعدا عن آمن السبل للانسحاب من بيت زبيدة بنفس الاهتمام الذي يتساءل به عما فعلت السلطة العسكرية، وعما يبيت الإنجليز، وعما ينوي سعد، أجل جد جديد من السعادة يجر وراءه - كالعادة - ذيلا من الفكر. لولا حرصه الشديد على حب الناس له، ذلك الحب الذي يحظى منه بأسعد سعاداته، لهان عليه هجر العالمة بعد أن بلي حبه وذوت أزاهره وأغرقه الشبع في مستنقع آسن، ولكنه يشفق دائما من أن يترك وراءه قلبا حانقا أو نفسا حاقدة، وكم يود كلما ضيق الملل أنفاسه لو يبدؤه الحبيب بالهجر من ناحيته، فيكون مهجورا بدل أن يكون هاجرا، وكم يود أن تنتهي علاقته بزبيدة كما انتهت أخوات لها من قبل، بكدر عابر تغسله هدايا الوداع المنتقاة، ثم يستحيل إلى صداقة وطيدة، فهل تتقبل زبيدة - التي يظن أنها ليست دونه شبعا - اعتذاره بقبول حسن؟ وهل يطمع في أن تغفر له هداياه ما اعتزم من هجر؟ ... هل تثبت أنها امرأة كبيرة القلب سخية النفس كزميلتها جليلة مثلا؟ هذا ما ينبغي أن يفكر فيه طويلا، وأن يهيئ له أنجع الذرائع. وتنهد تنهدة طويلة كأنما يشكو ما جعل الحب فانيا لا يدوم ليكفي القلب متاعب الأهواء، ثم شرد به الخيال طاويا النهار، فتراءى له وهو يدب في الظلماء متلمسا سبيله إلى البيت الموعود، والمرأة تنتظر بيدها سراج.
52 «أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها دون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية، فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا، بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها ...»
كان فهمي يملي الكلمات، كلمة كلمة، في أناة وبصوت واضح النبرات والأم وياسين وزينب يتابعون باهتمام درس الإملاء الجديد الذي انكب كمال على كتابته، مركزا وعيه في ألفاظه من دون أن يفقه معنى كلمة مما كتب صوابا أو خطأ. لم يكن غريبا أن يلقي فهمي على شقيقه الصغير درسا في الإملاء أو غيرها في جلسة القهوة، ولكن موضوع الإملاء بدا جديدا حتى للأم وزينب، أما ياسين فنظر إلى أخيه مبتسما، وقال: أرى هذه المعاني قد ملكت عليك نفسك ... فلم يفتح الله عليك بإملاء لهذا الغلام المسكين إلا خطبة سياسية وطنية ينفتح لها المغلق من أبواب السجون.
فبادر فهمي إلى تصحيح رأي أخيه قائلا: هي من خطبة سعد أمام سلاطين الاحتلال في جمعية الاقتصاد والتشريع.
فتساءل ياسين باهتمام ودهشة: وكيف كان ردهم عليه؟
فقال فهمي بانفعال: لم يجئ ردهم بعد، والكل يتساءل عنه في حيرة وقلق، إنها غضبة مزمجرة في وجه أسد لم يؤثر عنه الحلم أو العدل.
ثم وهو يتنهد مغيظا محنقا: كان لا بد من غضبة بعد أن منع الوفد من السفر، وبعد أن استقال رشدي باشا من الوزارة، فخيب السلطان المأمول بقبول استقالته.
ثم مضى إلى حجرته مسرعا، وعاد وهو يبسط ورقة مطوية وقدمها إلى أخيه وهو يقول: ليست الخطبة كل ما عندي، اقرأ هذا المنشور الذي يوزع سرا متضمنا رسالة الوفد إلى السلطان.
فتناول ياسين المنشور وراح يقرأ:
يا صاحب العظمة ...
يتشرف الموقعون على هذا أعضاء الوفد المصري أن يرفعوا إلى مقام عظمتكم بالنيابة عن الأمة ما يلي:
لما اتفق المحاربون على أن يجعلوا مبادئ الحرية والعدل أساسا للصلح، وأعلنوا أن الشعوب التي غيرت الحرب مركزها يؤخذ رأيها في حكم نفسها أخذنا على عاتقنا السعي في استقلال بلادنا والدفاع عن قضيتها أمام مؤتمر السلام ما دام أن الحق للأقوى قد زال من ميدان السياسة، وما دامت بلادنا قد أصبحت بزوال السيادة التركية حرة من كل حق عليها؛ لأن الحماية التي أعلنها الإنجليز بلا اتفاق بينهم وبين الأمة المصرية باطلة، ولم تكن في الواقع إلا ضرورة حربية تزول بزوال الحرب، اعتمادا على هذه الظروف، وعلى أن مصر غرمت كل ما قدرت عليه من المغارم في صف القائلين بحق حرية الأمم الصغرى، لا يكون لدى مؤتمر السلام ما يمنع من الاعتراف بحريتنا السياسية جريا على المبادئ التي أسس عليها.
عرضنا رغبتنا في السفر على رئيس وزرائكم صاحب الدولة حسين رشدي باشا، فوعد بمساعدتنا على السفر وثوقا منه بأننا إنما نعبر عن رأي الأمة كافة ... فلما لم يسمح لنا بالسفر وحبسنا داخل حدود بلادنا بقوة الاستبداد لا بقوة القانون، وحيل بيننا وبين الدفاع عن قضية هذه الأمة الأسيفة، ولما لم يستطع دولته أن يحتمل مسئولية البقاء في منصبه، في حين أن الشعب يصادر في مشيئته، استقال هو وزميله صاحب المعالي عدلي يكن باشا استقالة نهائية قوبلت من الشعب بتكريم شخصيهما والاعتراف بصدق وطنيتهما.
ولقد كان الناس يظنون أنه كان لهما في وقفتهما الشريفة دفاعا عن الحرية عضد قوي من نفحات عظمتكم؛ لذلك لم يكن ليتوقع أحد في مصر أن يكون آخر حل لمسألة سفر الوفد قبول استقالة الوزيرين؛ لأن في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا وتمكينا للعقبة التي ألقيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمة إلى المؤتمر، وإيذانا بالرضا بحكم الأجنبي علينا إلى الأبد.
قد نعلم أن عظمتكم ربما كنتم مضطرين لاعتبارات عائلية أن تقبلوا عرش أبيكم العظيم الذي خلا بانتقال أخيكم المغفور له السلطان حسين، ولكن الأمة من جهة أخرى كانت تعتقد أن قبولكم لهذا العرش في زمن الحماية الوقتية الباطلة رعاية لتلك الظروف العائلية، ليس من شأنه أن يصرفكم عن العمل لاستقلال بلادكم، غير أن حل المسألة بقبول استقالة الوزيرين اللذين أظهرا احترامهما لإرادة الأمة لا يمكن أن يتفق مع ما جبلتم عليه من حب الخير لبلادكم، والاعتداد بمشيئة شعبكم؛ لذلك عجب الناس من مستشاريكم كيف أنهم لم يلتفتوا إلى الأمة في هذا الظرف العصيب، وهي إنما تطلب منكم - يا أرشد أبناء محررها الكبير محمد علي - أن تكونوا لها العون الأول على نيل استقلالها، مهما كلفكم ذلك، فإن همتكم أرفع من أن تحددها الظروف. كيف فات مستشاريكم أن عبارة استقالة رشدي باشا لا تسمح لرجل مصري ذي كرامة وطنية أن يخلفه في مركزه؟! ... كيف فاتهم أن وزارة تؤلف على برنامج مضاد لمشيئة الشعب مقضي عليها بالفشل؟!
عفوا مولانا قد تكون مداخلتنا في هذا الأمر وفي غير هذا الظرف غير لائقة ... ولكن الأمر قد جل الآن عن أن يراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن الذي أنت خادمه الأمين. إن لمولانا أكبر مقام في البلاد فعليه أكبر مسئولية عنها، وفيه أكبر رجاء لها، وإننا لا نكذبه النصيحة إذا تضرعنا إليه أن يتعرف رأي أمته قبل أن يتخذ قرارا نهائيا في أمر الأزمة الحالية، فإننا نؤكد لسدته العلية أنه لم يبق أحد في رعاياه من أقصى البلاد إلى أقصاها إلا وهو يطلب الاستقلال، فالحيلولة بين الأمة وبين طلبتها مسئولية لم يتحر مستشارو مولانا أمرها بالدقة الواجبة؛ لذلك دفعنا واجب خدمة بلادنا وإخلاصنا لمولانا أن نرفع لسدته شعور أمته التي هي الآن أشد ما تكون رجاء في استقلالها، وأخوف ما تكون من أن تلعب به أيدي حزب الاستعمار، والتي تطلب إليه بحقها عليه أن يغضب لغضبها، ويقف في صفها، فتنال بذلك غرضها ... وإنه على ذلك قدير ...
رفع ياسين رأسه عن المنشور وفي عينيه ذهول، وفي قلبه نبض جديد من التأثر، بيد أنه هز رأسه قائلا: يا له من خطاب! ... لا أحسبني أستطيع أن أوجه مثله إلى ناظر مدرستي دون أن ينالني العقاب الرادع!
فرفع فهمي منكبيه استهانة، وقال: الأمر قد جل الآن عن أن يراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن!
ردد العبارة عن ظهر قلب كما وردت في المنشور، فلم يتمالك ياسين أن يقول ضاحكا: أحفظت المنشور! ... ولكني لا أعجب لهذا، كأنك كنت تترصد طول حياتك لمثل هذه الحركة كي تلقي إليها بكل قلبك، ولعلي لا أخلو من مثل شعورك وآمالك، ولكني لا أقرك على الاحتفاظ بهذا المنشور ... خصوصا بعد استقالة الوزارة، وتحرش الأحكام العرفية!
فقال فهمي في فخار: إني لا أحتفظ بها فحسب، ولكني أقوم بتوزيعها ما سمح الجهد!
فاتسعت عينا ياسين في قلق وهم بالكلام ... ولكن الأم كانت أسبق إليه منه، فقالت بانزعاج: لا أكاد أصدق أذني، كيف تعرض نفسك للشر وأنت سيد العقلاء؟!
لم يدر فهمي كيف يجيبها، ولكنه شعر بما جره عليه تهوره من حرج، لم يكن أشفق عليه من محادثتها في هذا الأمر، كانت السماء أقرب إليه من إقناعها بأن تعريض نفسه للخطر في سبيل الوطن واجب ما دام الوطن كله لا يساوي في نظرها قلامة ظفر، بل قد بدا له أن إخراج الإنجليز من مصر أيسر من حملها على الاقتناع بوجوب إخراجهم، أو إغرائها ببغضهم، فما إن يدور الحديث حول ذلك حتى تقول ببساطة: «لماذا تكرههم يا بني! ... أليسوا أناسا مثلنا لهم أبناء وأمهات؟!» فيقول لها بحدة: «ولكنهم يحتلون بلادنا!» ... وتحس بحدة الغضب في نبراته فتلوذ بالصمت وهي تداري نظرة إشفاق لو نطقت لقالت له: «لا عليك من هذا» ... ومرة قال لها وقد ضاق بمنطقها: «لا حياة لقوم إذا حكمهم أجنبي.» فقالت له في استغراب: «ولكنا لا نزال أحياء رغم أنهم يحكموننا من زمن بعيد، وقد أنجبتكم جميعا في ظل حكمهم! ... إنهم يا بني لا يقتلون ولا يتعرضون للمساجد، ولا تزال أمة محمد بخير!» فقال الشاب يائسا: «لو كان سيدنا محمد حيا ما رضي أن يحكمه الإنجليز.» فقالت بلهجة الحكيم: «هذا حق، ولكن أين نحن من الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ... كان الله يعينه بملائكته ...» فهتف بها حانقا: «سيعمل سعد زغلول ما كانت الملائكة تعمله.» ولكنها هتفت وهي ترفع ذراعيها كأنما تدفع بلاء لا دافع له: «لا تقل هذا يا بني، استغفر ربك، اللهم رحمتك وغفرانك!» ... هذه هي، فكيف يجيبها الآن وقد استشعرت في توزيع المنشور خطرا يتهدده؟ ... لم يسعه إلا أن يركن إلى الكذب، فقال متصنعا الاستهانة: ما أردت إلا المزاح فلا تنزعجي للاشيء.
فعادت المرأة تقول بنبرات تنم عن ضراعة: هذا ما أومن به يا بني، هيهات أن يخيب ظني في أرشد الراشدين، ما لنا نحن وهذه الأمور! إذا رأى باشواتنا أن يخرج الإنجليز من مصر، فليخرجوهم بأنفسهم.
بدا كمال طوال الحديث وكأنه يحاول أن يتذكر أمرا ذا بال، فما بلغ الحديث تلك النقطة حتى صاح: مدرس العربي قال لنا بالأمس إن الأمم تستقل بعزائم أبنائها!
فهتفت الأم ساخطة: لعله قصد بخطابه كبار التلاميذ، ألم تحدثني يوما بأن عندكم تلاميذ قد طرت شواربهم؟
فتساءل كمال بسذاجة: وأخي فهمي أليس تلميذا كبيرا؟
فقالت الأم بحدة على غير مألوفها: كلا ليس أخوك كبيرا، إني أعجب لذلك المدرس كيف سولت له نفسه أن يتحدث إليكم في غير الدرس! ... إذا شاء أن يكون وطنيا فليوجه هذا الكلام إلى أبنائه في البيت لا إلى أبناء الناس!
كاد الحديث يحمس ويستمر، لولا أن سنحت كلمة عابرة فغيرت مجراه، أرادت زينب أن تتودد إلى الأم بتأييدها في دفاعها، فحملت على مدرس العربي ونعتته بأنه «مجاور حقير عملت الحكومة منه رجلا ذا شأن في غفلة من الزمان» ... ولكن ما إن سمعت الأم هذه الإهانة توجه إلى «المجاور»، حتى أفاقت من انفعالها، وأبت أن تسكت عنها رغم أنها قيلت تأييدا لها، مدفوعة بكل ما تنطوي عليه نفسها من إجلال لذكرى أبيها، فتحولت إلى زينب وقالت بهدوء: أنت يا ابنتي تحقرين أشرف ما فيه، الشيوخ خلفاء الرسل، إنما يلام الرجل على خروجه عن حدود وظيفته الشريفة، ألا ليته قنع بأن يكون مجاورا وشيخا!
ولم يفت ياسين سر تحول الأم المفاجئ، فبادر بالتدخل ليمحو الأثر الذي تركه دفاع زوجته البريء.
53 - انظر إلى الطريق، انظر إلى الناس، من يقول بعد هذا إن الكارثة لم تقع؟!
ولكن السيد أحمد لم يكن في حاجة إلى مزيد من النظر، الناس يتساءلون، ويرجفون، وأصحابه يخوضون في الحديث خوضا حارا تجاوبت فيه الحسرة مع الحزن مع الغضب، إلى أن الخبر قد تردد على ألسنة كافة من مر به من الأصدقاء والزبائن، أجمع الكل على أن سعد زغلول وصفوة أصحابه قد اعتقلوا وسيقوا إلى مكان مجهول في القاهرة أو خارجها، قال السيد محمد عفت وهو محتقن الوجه بدم الحنق: لا تشكوا في صحة الخبر، فإن لأخبار السوء رائحة تزكم الأنوف ... ألم يكن هذا متوقعا بعد خطاب الوفد للسلطان؟ ... أو بعد رده على الإنذار البريطاني بذلك الخطاب الجبار إلى الوزارة الإنجليزية؟!
فقال السيد بوجوم شديد: يعتقلون الباشوات الكبار! ... يا له من حدث مخيف، ترى ما عسى أن يصنعوا بهم؟ - الله وحده يعلم، البلد يختنق في ظل الحكم العرفي.
ودخل عليهم السيد إبراهيم الفار تاجر النحاس مهرولا وهو يهتف لاهثا: أما سمعتم بآخر الأنباء؟! ... مالطة!
وضرب يدا بيد وراح يقول: النفي إلى مالطة، لم يعد أحد منهم بيننا، نفوا سعدا وأصحابه إلى جزيرة مالطة.
وهتف الجميع في نفس واحد: نفوهم!
أثار «النفي» في نفوسهم ما خامرهم منذ الصبا من ذكريات قديمة أسيفة عن عرابي باشا ونهايته، فتساءلوا وهم لا يملكون قلوبهم من الجزع: أيجري نفس المصير على سعد زغلول وصحبه؟ ... أينقطع حقا ما بينهم وبين الوطن إلى الأبد؟ ... أتموت هذه الآمال الكبار وهي لا تزال في مهد الإزهار؟ ... وشعر السيد بحزن لم يشعر بمثله من قبل، حزن ثقيل غليظ شاع في صدره كما يشيع الغثيان، فعانى تحت وطأته خمودا وهمودا واختناقا، وجعلوا يتبادلون نظرات ساهمة واجمة، ناطقة بغير لسان، صارخة بلا صوت، ثائرة بلا صخب، وفي الريق مرارة واحدة، ثم جاء في أثر الفار صاحب وثان وثالث مرددين نفس النبأ، آملين في أن يجدوا عند الآخرين مسكنا لما يستعر في نفوسهم، فلا يظفرون إلا بالحزن الصامت والوجوم الكئيب والثوران الكظيم. - هل تضيع الآمال اليوم كما ضاعت بالأمس؟
فلم يحر أحد جوابا، ولبث المتسائل يقلب عينيه في الوجوه دون جدوى، لا جواب تأوي إليه النفس من مضطربها، وإن أبت أن تسلم جهارا بما يميتها خوفا، نفي سعد ... هذا حق، ولكن هل يعود سعد ولو بعد حين؟ ... وكيف يعود سعد؟ ... أية قوة تعيده؟ لن يعود سعد، فأين تذهب هذه الآمال العراض؟ لقد انبثقت من الأمل الجديد حياة حارة عميقة يأبى استحواذها عليهم أن يسلمهم لليأس، ولكنهم لا يدرون كيف يعللون النفس ببعثها من جديد. - ولكن أليس ثمة أمل في أن يكون الخبر شائعة كاذبة؟
لم يعر أحد القائل التفاتا في حين لم يحفل هو بهذا التجاهل؛ لأنه لم يقصد بقوله في الحق إلا تلمس مهرب - ولو وهميا - من اليأس الخانق. - أسره الإنجليز ... ومن ذا يغالب الإنجليز! - رجل ولا كل الرجال، بعث لحظة من الحياة باهرة، ومضى. - كالحلم ... وسوف ينسى فلا يبقى منه إلا ما يبقى من حلم عند الضحى.
وهتف هاتف بصوت أبحه الألم: الله موجود.
فهتفوا بصوت واحد: نعم ... وهو أرحم الراحمين.
ذكر اسم الله فكان كالقطب الممغطس، جذب إليه شواردهم وجمع أفكارهم التي شتتها اليأس. وفي مساء ذلك اليوم - ولأول مرة منذ ربع قرن أو يزيد - بدا مجلس الإخوان مجافيا للهو والطرب يغشاه الوجوم، وتتجه أحاديثه جميعا إلى الزعيم المنفي. قهرهم الحزن، وإن يكن وجد بينهم من تنازعه الحزن والرغبة في الشراب مثلا، فقد غلب الأولى على الثانية احتراما للشعور العام ومجاراة للموقف، بيد أنه لما طال بهم مطال الحديث حتى استنفدوا أغراضه لاذوا بما يشبه الصمت، وما لبث أن ركبهم قلق خفي وشى بحكة الإدمان التي تئن في أعماقهم، فبدوا وكأنهم ينتظرون إشارة الجسور الذي يتقدم الصفوف، ولكن السيد محمد عفت قال فجأة: آن لنا أن نعود إلى بيوتنا.
لم يكن يعني ما يقول، ولكن كأنما أراد أن ينذرهم بأنهم إذا تركوا الوقت يمضي كما مضى، فلن يبقى أمامهم إلا أن يعودوا إلى بيوتهم، وكانت المعاشرة الطويلة لقنتهم دقيق التفاهم بالإشارة، فتشجع علي عبد الرحيم بائع الدقيق بهذا الإنذار الخفي، وقال: أنعود إلى البيت دون كأس تخفف من بلوى هذا اليوم!
فأحدث قوله في النفوس ما يحدثه الجراح في أهل المريض إذا خرج عليهم من حجرة الجراحة وهو يقول: «الحمد لله ... نجحت العملية»، إلا أن الذي تنازعه الحزن والرغبة في الشراب قال فيما يشبه الاحتجاج متسترا على ما أثلج صدره من ارتياح: نشرب في مثل هذا اليوم؟!
فحدجه السيد أحمد بنظرة ذات معنى، ثم قال متهكما: دعهم يشربون وحدهم، وهلم بنا إلى الخارج يا بن ... الكلب.
ندت عنهم ضحكات لأول مرة، ثم جاءوا بالقوارير، وكأنما أراد السيد أن يعتذر عن السلوك فقال: إن اللهو لا يغير ما بقلوب الرجال!
فأمنوا على قوله، كانت أول ليلة يترددون طويلا قبل الاستجابة إلى نداء الصبوات، وما لبث السيد أن قال متأثرا بمنظر القوارير: إنما ثار سعد لإسعاد المصريين لا لتعذيبهم، فلا تخجلوا عند الحزن عليه من معاقرة الشراب.
لم يكن الحزن يمنعه من المزاح، بيد أن الليلة لم تهنأ بصفاء خال من الكدر، حتى وصفها السيد فيما بعد بأنها «ليلة مريضة تداووا فيها بجرعات من الخمر!»
استقبلت الأسرة مجلسها التقليدي في جو من الوجوم لم تعهده من قبل، انطلق فهمي في حديث ثوري طويل والدموع في عينيه، واستمع ياسين آسفا حزينا، وودت الأم أن تبدد الكآبة أو تخفف البلوى، ولكنها أشفقت من انقلاب غرضها عليها، ثم ما لبثت عدوى الحزن أن انتقلت إليها فرق قلبها للشيخ العجوز الذي انتزعوه من بيته وزوجته إلى منفى بعيد، قال ياسين: أمر محزن، رجالنا جميعا، عباس ومحمد فريد وسعد زغلول ... مشردون بعيدا عن الوطن.
فقال فهمي بانفعال شديد: يا لهم من أوغاد هؤلاء الإنجليز! ... نخاطبهم باللغة التي كانوا يستعطفون بها الناس في محنتهم، فيجيبون بالإنذارات العسكرية والنفي والتشريد.
لم تطق الأم أن ترى ابنها منفعلا على تلك الحال، فنسيت مأساة الزعيم، وقالت برقة واستعطاف: ارحم نفسك يا بني، ربنا يلطف بنا!
ولكن هذه اللهجة الرقيقة زادته هياجا، فصاح دون أن يلتفت إليها: إذا لم نقابل الإرهاب بالغضب الذي يستحقه، فلا عاش الوطن بعد اليوم، لا يجوز أن تنعم البلاد بالسلام وزعيمها الذي قدم نفسه فدية لها يعاني عذاب الأسر!
فقال ياسين متفكرا: من حسن الحظ أن الباسل باشا بين المنفيين، إنه شيخ قبيلة مرهوبة الجانب، ولا أظن رجاله يسكتون على نفيه.
فقال فهمي بحدة: والآخرون؟ أليس وراءهم رجال أيضا؟ ... إنها ليست قضية قبيلة ولكنها قضية الأمة كلها.
جرى الحديث بلا توقف، وما يزداد إلا حدة وعنفا، ولكن المرأتين لاذتا بالصمت إشفاقا ورهبة، لم تستطع زينب أن تدرك بواعث هذه الثورة العاطفية فلم تفهم لها معنى، نفي سعد ورجاله معه، ومن المؤكد أنهم لو عاشوا كما يعيش «عباد الله» ما فكر أحد في نفيهم، ولكنهم لم يريدوا ذلك، أرادوا أمورا خطيرة مرادها وخيم العواقب، دون ثمة ضرورة تدعو إليها، ومهما يكن من أمرهم، فماذا يبعث فهمي على هذا الغضب الجنوني كأن سعدا أبوه أو أخوه؟! بل ماذا بعث ياسين - وهو الرجل الذي لا يأوي إلى فراشه إلا مترنحا من السكر - على هذا الأسف؟! أيحزن حقا من كان مثله على نفي سعد أو غيره من الناس؟! كأن حياتها في حاجة إلى مزيد من التنغيص، حتى يعكر فهمي عليها صفو الجلسة القصيرة بهذه الثورة التي لا معنى لها. جعلت تفكر في هذا كله وهي تلحظ زوجها من آن لآخر متعجبة ساخطة، ولسان حالها يقول له: «إن كنت صادقا حقا في حزنك فلا تذهب هذا المساء - هذا المساء فقط إلى الحانة!» ولكنها لم تنبس بكلمة، كانت أحكم من أن تلقي بأفكارها الباردة في هذا التيار الناري، في هذه الناحية الأخيرة شابهتها الأم التي سريعا ما تفقد شجاعتها حيال الغضب وإن هان؛ لذلك لاذت بالصمت وانطوت على ضيق شديد وهي تتابع مشفقة الحديث الثائر الهائج، ولكنها كانت أعظم من زوج ياسين إدراكا لبواعث هذه العواصف، فإن رأسها لم يخل من ذكرى عرابي كما أن قلبها لم يخل من أسف على أفندينا، أجل لم تكن كلمة «المنفى» عاطلة من المعاني في نفسها، بل لعلها خلت من الأمل الجدير بأن يداعب شخصا كفهمي، فقد اقترنت في ذهنها - كما اقترنت في ذهن زوجها وأصحابه - باليأس من العودة، وإلا فأين أفندينا؟ ... ومن أجدر منه بالعودة إلى وطنه؟ ... ولكن أيظل فهمي على حزنه ما امتد النفي بسعد. ترى أي نحس في هذه الأيام يأبى إلا أن يبيتهم بنبأ ويصبحهم بنبأ، حتى زلزل أمنهم وكدر صفوهم؟! كم تتمنى أن يعود السلام إلى ربوعه، وأن تطيب هذه الجلسة كما طابت العمر كله، وأن تنبسط أسارير فهمي ويلذ الحديث، كم تتمنى ... - مالطة! ... هذه هي مالطة!
هكذا صاح كمال فجأة وهو يرفع رأسه عن خريطة البحر الأبيض، وقد ثبت أصبعه على رسم الجزيرة، ونظر إلى أخيه بظفر وسرور كأنما عثر على سعد زغلول نفسه، ولكنه وجد منه وجها متجهما كالحا، لا استجاب إلى ندائه ولا أعاره أدنى اهتمام، فباخ الغلام وأعاد بصره إلى رسم الجزيرة في ارتباك وحياء، ومضى يتأمله طويلا وهو يقيس ببصره المسافة بينه وبين الإسكندرية، وبينه وبين القاهرة، ويتخيل صورة مالطة الحقيقية ما شاء له الخيال، ومنظر أولئك الرجال الذين يتحدثون عنهم وهم مسوقون إليها. ولما كان قد سمع فهمي وهو يقول عن سعد إن الإنجليز انتزعوه على أسنة الرماح، فإنه لم يسعه أن يتصوره إلا محمولا على أسنة الرماح، لا متألما أو صارخا كما يتوقع في مثل تلك الحال، ولكن «ثابتا كالطود» كما وصفه أخوه أيضا في مرحلة أخرى من الحديث، وكم ود لو يستطيع أن يسائل أخاه عن كنه ذلك الرجل الساحر العجيب الذي يثبت على أسنة الرماح كالطود، ولكنه حيال ثورة الغضب التي التهمت سلام المجلس كله أجل تحقيق رغبته إلى فرصة أنسب، وأخيرا ضاق فهمي بمجلسه بعد أن أيقن أن ما بصدره من عاطفة أكبر من أن تروح عنها محادثة أخيه في هذا المكان الذي يقف من شعوره موقف المتفرج إن لم يكن موقف الإنكار، نازعته نفسه إلى الاجتماع بإخوانه في قهوة أحمد عبده، حيث يظفر بقلوب تستجيب لقلبه، ونفوس تسابقه إلى الإعراب عما يضطرم في قراراتها من الإحساس والرأي، هناك يسمع أصداء الغضب المتقد في قلبه، ويستأنس بإيحاءاته الجسورة الملتهبة في جو باهر من التعطش إلى الحرية الكاملة، مال إلى أذن ياسين وهمس: إلى قهوة أحمد عبده.
فتنفس ياسين من الأعماق؛ لأنه كان بدأ يتساءل - وهو من الحرج في غايته - عن وسيلة لبقة ينسحب بها من المجلس، ليمضي إلى سهرته، دون أن يزيد من غضب فهمي اشتعالا، لم يكن ما به من أسف تصنعا، أو لم يكن تصنعا كله، هز النبأ الخطير قلبه، ولكنه لو ترك إلى نفسه لتناساه بغير جهد كبير، ولما فرض على أعصابه ما فرض من تكلف مجاراة لفهمي، ومجاملة له، واحتراما لغضبه الذي لم يسبق له أن رآه على مثله من قبل، غادر الحجرة وهو يقول لنفسه: «حسبي اليوم ما بذلت من جهد في سبيل الحركة الوطنية، فإن لبدني علي حقا.»
54
على ضربات العجن المتصاعدة من حجرة الفرن فتح فهمي عينيه، كانت الحجرة مغلقة النوافذ، في شبه ظلام إلا ما لاح من نور باهت وراء خصاص النوافذ، ترامى إلى أذنيه همس أنفاس كمال المترددة، فعطف رأسه إلى فراشه القريب، ثم انثالت عليه ذكريات الحياة، هذا صباح جديد، إنه يستيقظ من نوم عميق سلمه إلى تعب شمل النفس والجسم، وإنه لا يدري إن كان يستيقظ صباح الغد بهذا الفراش أم لا يستيقظ أبدا، لا يدري ولا أحد يدري، فالموت يجوب شوارع القاهرة طولا وعرضا، ويرقص في أركانها، يا للعجب، ها هي أمه تعجن كعهدها منذ قديم، وها هو كمال يغط في نومه ويتقلب في أحلامه، وذاك ياسين يدل وقع قدميه فوق سقف الحجرة، على أنه انتزع نفسه من الفراش، أما أبوه فلعله الآن منتصب القامة تحت ماء الدش البارد، وها هو نور الصباح ذو البهاء والحياء تستأذن طلائعه في رقة بالغة، كل شيء يواصل حياته المعهودة كأن شيئا لم يحدث، كأن مصر لم تنقلب رأسا على عقب، كأن الرصاص لا يعزف باحثا عن الصدور والرءوس ... كأن الدم الزكي لا يخضب الأرض والجدران. وأغمض الشاب عينيه وهو يتنهد مبتسما إلى تيار مشاعره الزاخر بما يحمل في موجاته المتلاحقة من حماس وأمل وحزن وإيمان. حقا لقد حيي في الأيام الأربعة المنطوية حياة عريضة لم يكن له بها عهد من قبل، أو أنه لم يعرفها إلا أطيافا في أحلام اليقظة، حياة طاهرة رفيعة، حياة تجود بنفسها عن طيب خاطر في سبيل شيء باهر أثمن منها وأجل، تتعرض للموت بلا مبالاة، وتستقبله بعناد، وتهجم عليه باستهانة، وإذا أفلتت مخالبه مرة عادت إليه كرة أخرى متنكبة عن ذكر العواقب جانبا، شاخصة طوال الوقت إلى نور رائع عنه لا تحيد، مدفوعة بقوة لا قبل لها بها، مسلمة مصيرها لله وهي تشعر به محيطا بها كالهواء يغمرها من كل جانب. هانت الحياة كوسيلة حتى لم تعد تزن ذرة، وجلت كغاية حتى وسعت السموات والأرض، تآخى الموت والحياة فكانا يدا واحدة في خدمة أمل واحد، هذه تؤيده بالجهاد وذاك يؤيده بالفداء، لو أن الانفجار الرهيب لم يقع لمات غما وكمدا، فما كان يحتمل أن تواصل الحياة سيرها الهادئ الوئيد على أطلال الرجال والآمال، كان لا بد من انفجار ينفس عن صدر الوطن وصدره كالزلزال الذي ينفس عن أبخرة باطن الأرض المتجمعة، فلما وقعت الواقعة وجدته على ميعاد، فألقى بنفسه في خضمها ... متى حدث هذا؟ ... وكيف حدث؟ ... كان راكبا ترام الجيزة في طريقه إلى مدرسة الحقوق، فوجد نفسه بين شرذمة من الطلاب يتناقشون ملوحين بقبضاتهم: نفي سعد وهو يعبر عن قلوبنا، فإما أن يعود سعد ليواصل جهاده، وإما أن ننفى معه، وانضم الراكبون من الأهالي إليهم في الحديث والوعيد حتى الكمساري أهمل عمله ووقف ينصت ويتكلم، يا لها من ساعة! ... فيها أشرق بنفسه الأمل من جديد بعد ليلة من الحزن واليأس قاتمة، فأيقن أن هذه النار المتقدة لن تبرد، ولما أقبلوا على فناء المدرسة وجدوه مكتظا صاخبا مرعدا فسبقتهم قلوبهم إليه، ثم هرعوا إلى زملائهم تحدثهم نفوسهم بحدث وشيك، وما لبث أن انبرى أحدهم مناديا بالإضراب! ... شيء جديد لم يسمع من قبل، بيد أنهم هتفوا بالإضراب، وهم يتأبطون كتب القانون، وجاءهم ناظرهم المستر والتون في لطف غير معهود، ونصحهم بالدخول إلى الفصول، فكان الجواب أن صعد شاب منهم إلى أعلى السلم المفضي إلى حجرة السكرتير، وراح يخطب بحماسة فائقة، فلم يسع الناظر إلا الانسحاب. وأنصت إلى الخطيب بمجامع روحه وعيناه شاخصتان إلى عينيه، وقلبه يتابع دقاته في سرعة ونشاط، ثم ود لو يصعد إلى موقفه فيفيض من معين قلبه المستعر، ولكنه لم يكن ذا استعداد قوي للخطابة، فقنع بأن يردد غيره هواتف نفسه، وتابع الخطيب بانتباه حماسي حتى وقف عند مقطع من خطابه، فصاح مع زملائه جميعا في نفس واحد: «يحيا الاستقلال» ثم تابع الإنصات باهتمام بث الهتاف فيه حيوية جديدة، حتى انتهى الخطيب إلى مقطع ثان، فهتف مع الهاتفين: «لتسقط الحماية»، ووالى الإصغاء بجسم متصلب من الانفعال ، وهو يعض على أسنانه ليحبس الدمع الذي زفره جيشان نفسه، حتى إذا بلغ الخطيب المقطع الثالث هتف مع الهاتفين: «يحيا سعد»، هتاف جديد، وكل شيء جديدا بدا ذلك اليوم، بيد أنه هتاف مطرب رجعه قلبه من الأعماق، وظل يردده مع دقاته المتتابعة، كأنه صدى للسانه، بل هتاف لسانه كان صدى لقلبه، فإنه ليذكر كيف ردد قلبه هذا الهتاف في صمت مكظوم طوال الليلة السابقة للانفجار التي باتها مغموما محسورا، كانت عواطفه المكبوتة، حبه وحماسه وطموحه وتطلعه إلى المثل الأعلى، وأحلامه تائهة مبعثرة حتى انطلق صوت سعد مدويا، فانجذبت طائرة إليه كما ينجذب الحمام السابح في الفضاء إلى صفير صاحبه، ثم ما يدرون إلا والمستر إيموس نائب المستشار القضائي البريطاني لوزارة الحقانية يشق طريقه بين جموعهم، فقابلوه بهتاف واحد: «لتسقط الحماية ... لتسقط الحماية.» فتلقاهم الرجل ببرود لم يخرق به حد اللطف، ونصحهم بالعودة إلى دروسهم داعيا إياهم إلى ترك السياسة لآبائهم، هناك تصدى له أحدهم قائلا: إن آباءنا قد سجنوا، ولن ندرس القانون في بلد يداس فيه القانون.
وتعالى الهتاف من أعماق القلوب كهزيم الرعد، فانسحب الرجل مسرعا. ود الشاب مرة ثانية لو كان هو القائل، لشد ما تنثال المعاني على روحه، ولكن يسبقه السابقون إلى إعلانها، فيشتد حماسه، ويتعزى بأن فيما ينتظره عوضا عما يفوته، وجرت الأمور سراعا، دعا الداعي إلى الخروج، فخرجوا متظاهرين، وتوجهوا إلى مدرسة المهندسخانة، فسرعان ما انضمت إليهم، ثم إلى الزراعة، فهرع طلبتها إليهم هاتفين كأنهم على ميعاد، ثم إلى الطب فالتجارة، وما بلغوا ميدان السيدة زينب، حتى انتظمتهم مظاهرة كبيرة انضمت إليها جموع الأهالي، وتعالى الهتاف لمصر والاستقلال وسعد، وكلما تقدموا خطوة ازدادوا حماسة وثقة وإيمانا بما يلقون في كل مكان من مشاركة تلقائية واستجابة بديهية، وما يصادفون من نفوس متحفزة تصدعت بالغضب حتى وجدت في مظاهرتهم المتنفس. تساءل - ودهشته لحدوث المظاهرة تكاد تغلب انفعاله بالتظاهر نفسه - «كيف حدث هذا كله؟!» لم تكن مضت إلا بضع ساعات على الصباح الذي شهد قنوطه وانهزامه، ها هو الآن، قبيل الظهر، يشترك في مظاهرة ثائرة يكاشفه فيها كل قلب بأنه صدى لقلبه، ويردد هتافه، ويناشده بإيمان لا يتزعزع أن يسير إلى النهاية، فأي سرور سروره، وأي حماس حماسه! ... لقد انطلقت روحه في سماء من الأمل لا تحدها الآفاق، نادمة على ما اعتورها من قنوط، خجلة بما رمت به الأبرياء من ظنون، وفي ميدان السيدة زينب بدا له منظر جديد من مناظر ذاك اليوم العجيب. رأى مع الرائين جماعات من فرسان البوليس، وعلى رأسها مفتش إنجليزي تتقدم ساحبة وراءها ذيولا من الغبار، والأرض تضطرب تحت وقع السنابك، إنه ليذكر كيف مد بصره نحوهم في ذهول من لم يسبق له أن وجد نفسه عرضة لمثل ذلك الخطر الداهم، وتلفت فيما حوله فرأى وجوها يلمع في محاجرها الحماس والغضب، فتنهد في عصبية ولوح بيده هاتفا، أحاط الفرسان بجموعهم ولم يعد يرى من الخضم الهائل الذي يضطرب فيه إلا رقعة محدودة يغرق بين رءوسها المشرئبة، ثم ترامى إليهم أن البوليس اعتقل طلابا كثيرين ممن تصدوا لمخالفته، أو كانوا على رأس المظاهرة، فللمرة الثالثة ذلك اليوم تمنى، وكان تمنيه أن يكون بين المعتقلين، ولكن من دون أن يخرج من الدائرة التي يتحرك فيها بجهد جهيد.
على أن ذاك اليوم كان يوم سلام بالقياس إلى اليوم الذي تلاه، بدا يوم الاثنين منذ مطلع الصباح يوم إضراب شامل اشتركت فيه جميع المدارس بأعلامها، وحشود من الأهالي لا يحيط بها الحصر، بعثت مصر بلدا جديدا يبكر إلى الاحتشاد في الميادين للحرب بغضب طال كتمانه، وألقى هو بنفسه بين الجموع في نشوة فرح وحماس كأنه تائه ضال عثر على أهله بعد فراق طويل، وسارت المظاهرة مسيرا مشهودا مارة بدور المعتمدين السياسيين، معلنة احتجاجها بمختلف اللغات، حتى بلغت شارع الدواوين، وهناك سرت بين الجموع موجة اضطراب عنيفة، وصاح صائحهم: «الإنجليز!» وما لبث أن فرقع الرصاص مغطيا على أصوات الهاتفين، فسقط أول القتلى، وواصل قوم تقدمهم في حماس جنوني، وتسمر آخرون، وتفرق كثيرون يلوذون بالبيوت والمقاهي، وكان هو ضمن الآخرين، اندس وراء باب وقلبه يبعث ضربات فزعة، متناسيا كل شيء إلا حياته، ولبث على ذلك زمنا لا يدريه، حتى شمل السكون الدنيا جميعها فمد رأسه، ثم قدمه، ومضى إلى حال سبيله غير مصدق بالنجاة، وعاد إلى بيته فيما يشبه الذهول، وفي وحدته الحزينة تمنى لو كان من الذاهبين أو في الأقل من الثابتين، وفي وقدة الحساب العسير وعد ضميره الفظ بالتكفير، ومن حسن الحظ أن بدا ميدان التكفير متسعا وقريبا.
وجاء الثلاثاء والأربعاء فكانا كالأحد والاثنين، أيام متشابهات في أفراحها وأحزانها، مظاهرات فهتاف فرصاص فضحايا، ألقى بنفسه في خضمها جميعا يندفع بحماس، ويسمو إلى آفاق بعيدة من الإحساس النبيل، ويضطرب بالحياة ويعضه ندم على النجاة! ثم ضاعف من حماسه وأمله انتشار روح الغضب والثورة، فما لبث أن أضرب عمال الترام وسائقو السيارات والكناسون، فبدت العاصمة حزينة غاضبة موحشة. وترامت الأخبار حاملة البشرى بقرب إضراب المحامين والموظفين. إن قلب البلاد يخفق حيا ثائرا ولن تذهب الدماء هدرا، ولن ينسى المنفيون في منفاهم، لقد زلزلت اليقظة الواعية أرض وادي النيل.
تقلب الفتى في فراشه فاسترد وعيه من لجة الذكريات، وجعل يتابع دقات العجن مرة أخرى مقلبا ناظريه في أركان الحجرة التي أخذت تستبين على النور المشرق رويدا وراء النوافذ المغلقة. أمه تعجن! ولن تزال تعجن صباحا بعد صباح، هيهات أن يشغلها حدث عن التفكير في إعداد الموائد وغسل الثياب وتنظيف الأثاث، إن كبار الحادثات لا يعطل صغار الأعمال، وسيتسع صدر المجتمع دائما للجليل والتافه من الأمور، فيرحب بها جنبا إلى جنب، ولكن مهلا، ليست أم على هامش الحياة هي التي أنجبته والأبناء وقود الثورة، وهي التي تغذيه والغذاء وقود الأبناء، الحق أن ليس ثمة شيء تافه في الحياة ... ولكن ألا يجيء يوم يهز فيه الحادث الكبير المصريين جميعا، فلا تتفرق عنده القلوب كما تفرقت في مجلس القهوة منذ خمسة أيام؟ ألا ما أبعد هذا اليوم! ثم جرت على شفتيه ابتسامة إذ وثب إلى ذهنه هذا السؤال: «ما عسى أن يصنع والده إذا علم ب «جهاده» المتواصل يوما بعد يوم؟ ماذا يصنع أبوه الجبار المستبد، وماذا تصنع أمه الرقيقة الحنون؟» ابتسم في حيرة وهو يعلم أن المتاعب التي قد تعترضه في تلك الحال ليست دون المتاعب التي قد تعترضه إذا نمى سره إلى السلطة العسكرية نفسها. ثم أزاح الغطاء عن صدره وجلس في الفراش وهو يغمغم: «سيان أن أحيا أو أن أموت، الإيمان أقوى من الموت، والموت أشرف من الذل، فهنيئا لنا الأمل الذي هانت إلى جانبه الحياة، أهلا بصباح جديد من الحرية، وليقض الله بما هو قاض.»
55
لم يعد أحد يستطيع الادعاء بأن الثورة لم تغير ولو وجها من وجوه حياته، حتى كمال نفسه عرض لحريته التي تمتع بها طويلا في ذهابه إلى المدرسة وإيابه منها طارئ ثقيل ضاق به كل الضيق، وإن لم يستطع له دفعا، ذلك أن الأم أمرت أم حنفي بأن تتبعه في ذهابه إلى المدرسة وعند إيابه منها، وألا تتخلى عنه بحال كي تعود به إلى البيت إذا صادفتها مظاهرة دون أن تدع له فرصة للتلكؤ، أو مطاوعة نزوات الطيش، دار رأس الأم بأنباء المظاهرات والاضطرابات، وارتج قلبها لحوادث الاعتداء الوحشي على الطلبة، فعانت من ذاك الزمن أياما كالحات ملأتها هلعا وجزعا، فودت لو تستبقي ابنيها إلى جانبها حتى تثوب الأمور إلى مستقرها، ولكنها لم تجد إلى تحقيق مرادها من سبيل خصوصا بعد أن وعد فهمي - وهو من ثقتها في «عقله» لا تتزعزع - أنه لا يشترك في الإضراب بتاتا، وبعد أن رفض الأب فكرة استبقاء كمال في البيت لعلمه بأن المدرسة تحول بين صغار التلاميذ وبين الاشتراك في الإضراب. سلمت الأم بذهاب الأخوين إلى المدرسة على كره منها، ولكنها فرضت على كمال رقابة أم حنفي وهي تقول له: «لو كان بوسعي أن أخرج كما أشاء لتبعتك بنفسي.» وقد عارضها كمال بما وسعه من قوة لأنه أدرك بالبداهة أن هذه الرقابة التي لن تخفي عن أمه خافية من شئونه؛ ستقضي قضاء مبرما على كل ما يتمتع به في الطريق من ألوان العبث والشطارة، وأنها ستلحق هذه الفترة القصيرة السعيدة من يومه بالسجنين اللذين يتردد بينهما؛ البيت والمدرسة، إلى هذا امتعضت نفسه أشد الامتعاض من السير في الطريق مصطحبا هذه المرأة التي ستلفت الأنظار حتما ببدانتها المفرطة ومشيتها المتهالكة، ولكنه لم يسعه إلا أن يذعن لرقابتها سيما بعد أن أمره أبوه بقبولها، قصارى ما استطاعه تنفيسا عن صدره أنه كان ينتهرها كلما تدانت منه، وأنه حتم عليها أن تتأخر عنه مسيرة أمتار. على تلك الحال مضيا إلى مدرسة خليل أغا صباح الخميس وهو خامس أيام المظاهرات في القاهرة، ولما بلغا باب المدرسة اقتربت أم حنفي من البواب، وسألته تنفيذا للأمر اليومي الذي تلقته في البيت: هل يوجد تلاميذ في المدرسة؟
فأجابها الرجل بغير اكتراث: منهم من يدخل، ومنهم من يذهب، والناظر لا يتعرض لأحد!
كانت هذه الإجابة مفاجأة سيئة لكمال، كان مهيأ النفس لسماع الإجابة التي باتت مألوفة منذ يوم الاثنين وهي «التلاميذ مضربون»، فيعودان إلى البيت حيث يمضي سحابة النهار في حرية حببت إلى قلبه الثورة من بعيد، ونازعته نفسه إلى الهرب تفاديا من عواقب الإجابة الجديدة، فخاطب البواب قائلا: أنا ممن يذهبون.
وابتعد عن المدرسة والمرأة في أثره، بيد أنها سألته: لماذا لا يدخل مع الداخلين؟ فرجاها مترددا لأول مرة في حياته أن تقول لأمه إن التلاميذ مضربون، وزيادة في الرجاء والتودد دعا لها - وهما يمران بجامع الحسين - بطول العمر والسعادة، إلا أن أم حنفي لم تستطع إلا أن تصارح الأم بالحقيقة كما سمعتها فأنبته الأم على كسله، وأمرت المرأة بأن تعود به إلى المدرسة، فغادرا البيت وهو يسلقها بلسان حاد راميا إياها بالخيانة والغدر، لم يجد في المدرسة إلا لداته ... ذوي الأسنان الصغيرة، أما من عداهم، وهم الأغلبية الساحقة، فكانوا مضربين، وألفى في فصله، الذي كان يتوافر له من صغار التلاميذ ما لم يتوافر لغيره من الفصول، نحوا من ثلث التلاميذ، بيد أن المدرس أمرهم أن يراجعوا دروسهم السابقة، وانكب هو على تصحيح بعض الكراسات، فتركهم في شبه إضراب في الواقع. فتح كمال كتابا متظاهرا بالقراءة دون أن يعيره أدنى انتباه؛ فقد ساءه البقاء في المدرسة بلا عمل؛ فلا هو مع المضربين ولا هو في البيت يتمتع بالفراغ الذي جادت به هذه الأيام العجيبة بلا حسبان. ضاق بالمدرسة كما لم يضق من قبل، وهفا خياله إلى أولئك المضربين في الخارج بدهشة واستطلاع، كثيرا ما تساءل عن حقيقة أمرهم، أهم كما تدعي أمه «متهورون» لا يرحمون أنفسهم ولا أهليهم، ملقين بأرواحهم إلى التهلكة، أم هم، كما يصفهم فهمي، أبطال فدائيون يجاهدون عدو الله وعدوهم؟! وكثيرا ما مال إلى رأي أمه لحنقه على التلاميذ الكبار - فئة المضربين - الذين خلفوا في نفسه ونفوس أضرابه من التلاميذ الصغار أسوأ الآثار بما ينالهم على أيديهم من غلظة واستكبار، وهم يتحدونهم في فناء المدرسة بضخامة أجسامهم وقحة شواربهم، بيد أنه لن يستسلم إلى هذا الرأي كل الاستسلام، طالما كان لقول فهمي من الإقناع في نفسه ما لا قبل له بالاستهانة به، لن يسعه أن يسلبهم ما يضفيه عليهم من ضروب البطولة، حتى ود لو يطلع من مكان آمن على معاركهم الدامية، قامت قيامة الدنيا ما في ذلك من شك، أو فلماذا يضرب المصريون وينطلقون جماعات إلى الاشتباك بالجنود؟! وأي جنود؟! الإنجليز؟ الإنجليز الذين كان يكفي ذكر اسمهم لإخلاء الطرقات! ... ماذا حدث للدنيا وللناس؟! ... ذاك صراع عجيب قضى عنفه بأن تنقش عناصره الجوهرية في نفس الغلام بلا وعي أو قصد، فتغدو أسماء: سعد زغلول، الإنجليز، الطلبة، الشهداء، المنشورات، المظاهرات، من القوى المؤثرة الموحية في أعماقه، وإن وقف من معانيها موقف المستطلع الحائر. وضاعف من حيرته أن آله استجابوا للحوادث استجابة متباينة وأحيانا متناقضة، فبينا يجد فهمي ثائرا يحمل على الإنجليز بحنق قاتل، ويحن إلى سعد حنينا يفجر الدمع، إذا بياسين يناقش الأخبار في اهتمام رصين مشوب بأسف هادئ لا يمنعه من مواصلة حياته المعتادة بين السمر والضحك وتلاوة الأشعار والقصص، ثم السهر حتى منتصف الليل، أما أمه فلا تكف عن دعاء الله أن ينشر السلام ويعيد الأمان، ويصفي قلوب المصريين والإنجليز جميعا، والأدهى من كل أولئك زينب زوجة أخيه التي أفزعتها الأحداث، فلم تجد من تصب عليه غضبها إلا سعد زغلول نفسه متهمة إياه بأنه سبب هذا الشر كله، وأنه «لو عاش كما يعيش عباد الله في دعة وسلام ما تعرض له أحد بسوء، ولا اشتعلت تلك النيران.» لذلك كان حماس الغلام يستعر لفكرة الصراع نفسه، وحزنه يفيض بفكرة الموت في ذاته، دون أن يكون لنفسه معنى واضحا لما يدور حوله من بعيد أو قريب، وكم أسف يوم دعا تلاميذ خليل أغا إلى الإضراب - لأول مرة - فسنحت له فرصة ليشهد مظاهرة عن كثب، أو يشترك فيها، ولو في فناء المدرسة، ولكن الناظر بادر إلى حجز صغار التلاميذ في فصولهم، فأفلتت الفرصة ووجد نفسه وراء الجدران ينصت إلى الهتافات العالية في دهشة ممزوجة بسرور خفي، لعل مبعثه الفوضى التي نشبت في كل شيء فعصفت بالروتين اليومي الثقيل بلا رحمة. أفلتت ذلك اليوم فرصة الاشتراك في مظاهرة كما ضاعت اليوم فرصة الاستمتاع بالفراغ في البيت، وسيبقى مغلولا في هذه الجلسة المملة ينظر في الكتاب بعينين لا تريان شيئا، ويسترق لمسات مع رفيقه على القمطر في حذر وخوف حتى يدرك نهاية النهار الطويل، ولكن ثمة شيء استرعى انتباهه فجأة، قد يكون صوتا غريبا بعيدا أو وشا في الأذن، ولكي يستوثق من حاسته نظر فيما حوله، فرأى رءوس التلاميذ مرفوعة، وأعينهم تتبادل النظرات، ثم تتجه معا صوب النوافذ المطلة على الطريق، إنه حقيقة وليس وهما ما استرعى انتباههم، إنها أصوات مندمجة في صوت ضخم غير متمايز تسمع لبعدها كهدير الأمواج من بعيد، الآن وقد أخذت تشتد يمكن أن تسمى ضوضاء، بل ضوضاء تقترب، وسرت في الفصل حركة وتعالى الهمس، ثم ارتفع صوت قائلا: «مظاهرة!» فخفق قلب الغلام، وعلت عينيه لمعة تجمع بين السرور والاضطراب، وجعلت الضوضاء تقترب وتقترب، حتى وضحت هتافا يرعد ويزمجر في جميع الجهات المحيطة بالمدرسة، وعادت تقرع أذنيه الأسماء التي ملأت ذهنه طوال الأيام الماضية؛ سعد ... الاستقلال ... الحماية، وتدانى الهتاف وعلا حتى أطبق على فناء المدرسة نفسها، فوجمت قلوب التلاميذ، وأيقنوا أن الطوفان لا بد مغرقهم، ولكنهم قابلوا ذلك بسرور صبياني تنكب عن تقدير العواقب في حمية نزوعه إلى الفوضى والانطلاق، ثم ترامى إليهم وقع أقدام مقبلة في سرعة وصخب، ثم فتح الباب على مصراعيه تحت وقع صدمة عنيفة، واندفعت إلى الحجرة جماعات من الطلبة والأزهريين كما تندفع المياه من فوهة الخزان وهم يصيحون: «إضراب ... إضراب ... لا ينبغي أن يبقى أحد.» وفي لحظات وجد نفسه غائصا في موج مصطخب يدفعه أمامه دفعا يعطل كل مقاومة وهو من الاضطراب في غاية، تحرك في بطء شديد تحرك حبوب البن في فوهة الطاحونة، لا يدري أين تقع عيناه، ولا يرى من الدنيا إلا أجساما متلاصقة في ضجة تصك الآذان، حتى استدل بظهور السماء فوق رأسه على بلوغ الطريق، واشتد الضغط عليه حتى كادت تكتم أنفاسه فصرخ صراخا حادا عاليا متواصلا من شدة الفزع، وما يدري إلا ويد تقبض على ذراعه وتجذبه بقوة وهي تشق بين الناس طريقا حتى ألصقته بجدار على الطوار، فراح يلهث ويتلمس فيما حوله منجى حتى عثر على دكان حمدان بائع البسبوسة، وقد أنزل بابها الحديدي إلى ما فوق العتبة بقليل، فهرع إليه ودخل زحفا على ركبتيه، ولما قام في الداخل رأى عم حمدان الذي كان يعرفه حق المعرفة وامرأتين، وبعض صغار التلاميذ، فأسند ظهره إلى جدار القائمة التي تحمل الصواني وصدره يعلو وينخفض بلا توان. وسمع عم حمدان وهو يقول: أزهريون، طلبة، عمال، أهال ... جميع الطرقات المؤدية إلى الحسين مكتظة بالبشر ... ما كنت أحسب قبل اليوم أن الأرض تستطيع أن تحمل كل هؤلاء البشر.
إحدى المرأتين بدهشة: كيف يصرون على التظاهر بعد ما كان من إطلاق النار عليهم؟
المرأة الأخرى بحسرة: ربنا الهادي، كلهم أبناء ناس يا ولداه.
فقال عم حمدان: لم نر شيئا كهذا من قبل، ربنا يحميهم.
تفجر الهتاف في الحناجر يزلزل الجو زلزالا، حينا عن قرب كأنه يدوي في الدكان ، وحينا عن بعد في ضوضاء شديدة غير متمايز كهزيم الريح، وتواصل بلا انقطاع، في حركة بطيئة مستمرة دل عليها تفاوت درجات الشدة والارتفاع بين الأمواج القادمة والذاهبة، وكلما ظن أنه انقطع جاء غيره، حتى بدا وكأن لا نهاية له. تركزت حياة كمال في أذنيه وهو يرهف السمع في اضطراب وقلق، بيد أنه لما تتابع الوقت دون وقوع مكروه استرد أنفاسه، ومضى يعاوده الشعور بالطمأنينة، ثم وسعه أخيرا أن يفكر فيما يدور حوله كطارئ لا يلبث أن يزول، فتساءل متى يجد نفسه في البيت ليروي لأمه ما وقع له؟ «اقتحمت علينا الفصول مظاهرة لا أول لها ولا آخر، وما أدري إلا وتيارها الزاخر يحيط بي ويجرفني إلى الشارع، وهتفت مع من هتف: ليحي سعد، لتسقط الحماية، ليحي الاستقلال. وما زلت أنتقل من طريق إلى طريق حتى هجم الإنجليز علينا، وأطلقوا الرصاص.» ستفزع عند ذاك لحد البكاء ولا تكاد تصدق أنه حي يرزق، وستتلو آيات كثيرة وهي ترتجف. «ومرت رصاصة جنب رأسي ما زال عزيفها يطن في أذني، وتخبط الناس كالمجانين، وكدت أهلك مع الهالكين لولا أن جذبني رجل إلى دكان ...»
انقطع حبل أحلامه على صياح عال غير منتظم، ووقع أقدام متدافعة في اضطراب، فخفق قلبه ونظر في وجوه من حوله، فرآهم محملقين في الباب كمن يتوقع ضربة على أم رأسه، واقترب عم حمدان من الباب، وانحنى حتى نظر من الفرجة في أسفله، ثم تراجع وأنزله حتى ألصقه بالأرض بسرعة وهو يتمتم في اضطراب: الإنجليز!
وصاح كثيرون في الخارج: «الإنجليز ... الإنجليز» ونادى آخرون: «الثبات ... الثبات» وهتف غيرهم: «نموت ويحيا الوطن» ... ثم سمع الغلام لأول مرة في حياته الصغيرة طلقات الرصاص عن بعد قريب فعرفها بالبداهة وارتعدت أوصاله، وما إن ندت عن المرأتين صرخة، حتى أفحم في البكاء، وجعل عم حمدان يقول بصوت متهدج: «وحدوا الله ... وحدوا الله» ولكن الغلام شعر بالخوف، باردا كالموت، يزحف على جسمه كله من قدميه إلى رأسه. وتوالت الطلقات، وصكت الآذان صلصلة عجلات وصهيل خيل، تتابعت الأصوات والحركات في سرعة فائقة تلاحقها زمجرات وصراخ وأنين، فترة اعتراك خاطفة بدت للقابعين وراء الباب دهرا في حضرة الموت ... ثم حل صمت مخيف كالإغماء الذي يعقب تبريح الألم، تساءل كمال بصوت متهدج مبحوح: ذهبوا؟!
فوضع عم حمدان سبابته على فيه وهو يغمغم: «هس» ... وتلا آية الكرسي، فتلا كمال في سره - إذ خانته قدرته على الكلام - «قل هو الله أحد» لعلها تطرد الإنجليز كما تطرد العفاريت في الظلام. على أن الباب لم يفتح إلا عند الظهر، فانطلق الغلام إلى الطريق المقفر ثم أطلق للريح ساقيه، وفيما هو يمر بالسلم الهابط إلى قهوة أحمد عبده لمح شخصا صاعدا عرف فيه أخاه فهمي، فهرع إليه كغريق عثرت يده على أداة النجاة، وقبض على ذراعه، فالتفت الشاب نحوه فزعا، ولما عرفه هتف به: كمال؟! أين كنت في أثناء الضرب؟
ولاحظ الغلام أن صوت أخيه مبحوح مطموس المخارج، بيد أنه أجابه بقوله: كنت في دكان عم حمدان، وسمعت الرصاص وكل شيء.
فقال له بعجلته ولهوجته: اذهب إلى البيت ولا تقل لأحد إنك قابلتني ... سامع؟
فسأله الغلام بارتباك: ألا تعود معي؟!
فقال باللهجة نفسها: كلا ... ليس الآن ... سأعود في موعدي المعتاد، لا تنس أنك لم تقابلني قط.
ودفعه حتى لا يدع له فرصة للمناقشة، فاندفع الغلام راكضا، حتى بلغ منعطف خان جعفر، فرأى شبحا واقفا وسط الطريق يشير إلى الأرض، ويخاطب نفرا من الرجال، فنظر حيث يشير فرأى بقعا حمراء ملبسة بالتراب، وسمعه يقول بلهجة رثائية: هذا الدم الزكي يستصرخنا إلى مواصلة الجهاد، وقد شاء الله أن يسفك في رحاب سيد الشهداء لنصل في الاستشهاد حاضرنا بماضينا، والله معنا.
وأحس فزعا يركبه، فاسترد بصره من الأرض الدامية وانطلق يعدو كالمجنون.
56
كانت أمينة تتلمس طريقها إلى باب الحجرة خلال ظلمة السحر، في حذر وتمهل أن توقظ السيد، حين ترامى إلى أذنيها لغط غريب صاعدا من الطريق يطن طنين النحل. لم يكن يطرق أذنيها في هذه الساعة التي اعتادت أن تستيقظ فيها إلا صلصلة عجلات عربات الدبش، وسعال العمال المبكرين، وهتاف رجل يحلو له عند مرجعه من صلاة الفجر أن يردد في الصمت الشامل صائحا بين حين وآخر: «وحدوه»، أما هذا اللغط الغريب فلم تسمعه من قبل، وحارت في تفسيره فتطلعت إلى معرفة مصدره، فمضت بخطواتها الخفيفة إلى نافذة بالصالة مطلة على الطريق، ثم رفعت خصاصها، وأخرجت رأسها، فوجدت في الخارج ظلمة مختلطة عند الأفق ببشائر ضياء، ولكن ليس إلى الحد الذي تستطيع معه رؤية ما يجري تحتها، بيد أن اللغط ازداد ارتفاعا، وازداد في الوقت نفسه غموضا، حتى تبينت فيه أصواتا آدمية مجهولة النسب. دارت عيناها في الظلام الذي أخذت تألفه شيئا ما فرأت تحت سبيل بين القصرين وما يليه من تقاطع النحاسين مع درب قرمز أشباحا آدمية غير واضحة المعالم، وأشياء على هيئة أهرام صغيرات، وأخرى كأنها الأشجار القصار، فارتدت في حيرة ونزلت قاصدة حجرة فهمي وكمال، ثم ترددت، أتوقظه ليرى ما هنالك ويحل لها تلك الألغاز أم تؤجل ذلك إلى حين استيقاظه؟! ثم أبت أن تزعجه طاوية رغبتها، حتى موعد استيقاظه عند مطلع الشمس الوشيك، ثم صلت، ثم عادت مدفوعة بحب الاستطلاع إلى النافذة، فأطلت منها. بدأ وشي الشروق ناشبا في غلالة السحر، وأضواء الصباح تسيل من ذرى المآذن والقباب، فأمكنها أن ترى الطريق في كثير من الوضوح، وفتشت عيناها عن الأشباح التي راعتها في الظلام، فتبينت حقيقتها وندت عنها آهة فزع، وارتدت مهرولة إلى حجرة فهمي، فأيقظته بلا احتراس فانتفض الشاب جالسا في فراشه وهو يتساءل منزعجا: ما لك يا أماه؟
فقالت وهي تلهث: الإنجليز يملئون الطريق تحت بيتنا.
هب الشاب من فراشه واثبا إلى النافذة، ورمى ببصره فرأى تحت سبيل بين القصرين معسكرا صغيرا يشرف على رءوس الطرق التي تتفرع عنده، يتكون من عدد من الخيام، وثلاثة لوريات وشراذم متفرقة من الجند، وفيما يلي الخيام أقيمت البنادق أربعا أربعا، كل مجموعة تتساند رءوسها وتفترق قواعدها على هيئة هرم، وقد وقف الحراس كالتماثيل أمام الخيام، وتبعثر الآخرون وهم يتراطنون ويتضاحكون، ورمى الشاب ببصره ناحية النحاسين ، فرأى معسكرا ثانيا عند تقاطع النحاسين بالصاغة، كما رأى في الناحية الأخرى من بين القصرين معسكرا ثالثا عند منعطف الخرنفش، ابتدره خاطر أهوج لأول وهلة أن هؤلاء الجنود قد جاءوا للقبض عليه! ... ولكنه ما لبث أن استسخفه معتذرا عنه بقومته المزعجة من النوم الذي لم يكد يفيق منه، وبهذا الإحساس بالمطاردة الذي لم يفارقه مذ شبت الثورة، ثم وضحت له الحقيقة رويدا، وهي أن الحي الذي أتعب السلطة المحتلة بمظاهراته المتواصلة قد احتل احتلالا عسكريا. لبث ينظر خلال الخصاص متفحصا الجنود والخيام والبنادق واللوريات، وقلبه يخفق في رهبة وحزن وحنق، حتى تحول عن النافذة شاحب اللون وهو يتمتم مخاطبا أمه: إنهم الإنجليز كما تقولين، جاءوا للإرهاب ومنع المظاهرات في منابتها.
وجعل يقطع الحجرة ذهابا وإيابا وهو يقول في سره حانقا: «هيهات ... هيهات» حتى سمع أمه تقول: سأوقظ والدك لأخبره بالأمر.
قالتها المرأة كآخر ما عندها من حيلة، كأن السيد - الذي يحل لها جميع مشكلات حياتها - كفيل أيضا بأن يجد حلا لهذا المشكل يبلغ به بر الأمان، ولكن الشاب قال لها بأسى: دعيه حتى يستيقظ في وقته.
فتساءلت المرأة في رهبة: ماذا نفعل يا بني وهم مرابطون أمام مدخل بيتنا؟
فهز فهمي رأسه في حيرة قائلا: ماذا نفعل؟! (ثم بلهجة أكثر ثقة) لا داعي للخوف، ليس إلا أنهم يرهبون المتظاهرين.
قالت وهي تزدرد ريقا جافا: أخاف أن يعتدوا على الآمنين في بيوتهم.
ففكر قليلا في قولها ثم تمتم: كلا لو كان الاعتداء على البيوت مقصدهم ما وقفوا ساكنين حتى الآن.
لم يكن مطمئنا إلى قوله كل الاطمئنان، ولكنه وجده أوفق ما يقال، وعادت أمه تسائله: وحتى متى يقيمون بيننا؟!
بطرف شارد أجابها: من يدري؟! ... إنهم ناصبون الخيام فلن يرحلوا سريعا.
تنبه إلى أنها تسأله كما لو كان قائد القوات العسكرية، فنظر إليها في عطف وهو يداري بسمة ساخرة فرجت ما بين شفتيه الممتقعتين، وفكر لحظة في مداعبتها ولكن كآبة الموقف صدت نفسه، فعاوده الجد كما يقع له أحيانا إذا روى ياسين له «نادرة» من نوادر والده تدعوه بطبيعتها إلى الضحك، ولكن يصده عنه القلق الذي يعتريه كلما اطلع على جانب من شخصية أبيه الخفية، وسمعا وقع أقدام تهرول نحوهما، ثم اقتحم الحجرة ياسين تتبعه زينب على الأثر، وصاح الشاب الذي بدا منتفخ العينين مشعث الشعر: أرأيتم الإنجليز؟
وهتفت زينب: أنا التي سمعتهم ثم أطللت من النافذة فرأيتهم وأيقظت سي ياسين.
وواصل ياسين الحديث قائلا: لقد نقرت على باب والدي حتى استيقظ وأخبرته، ولما رآهم بنفسه أمر بألا يغادر البيت أحد وألا يرفع مزلاج البيت، ولكن ماذا هم فاعلون؟ ... وما عسى أن نصنع؟ ... ألا توجد في البلد حكومة تحمينا؟
فقال له فهمي: لا أظنهم يتعرضون لغير المتظاهرين. - ولكن حتى متى نظل محبوسين في بيوتنا؟! ... إن البيوت ملأى بالنساء والأطفال، فكيف يعسكرون تحتها؟
فغمغم فهمي في ضيق: سيجري علينا ما يجري على غيرنا، فلنصبر ولننتظر.
وهتفت زينب في عصبية ظاهرة: لم نعد نسمع أو نرى إلا الرعب والحزن، ربنا على أولاد الحرام.
عند ذاك فتح كمال عينيه فرددهما دهشا في المجتمعين في حجرته على غير انتظار، ثم جلس في فراشه وتطلع إلى أمه بعينين متسائلتين، فاقتربت من فراشه وربتت بيدها الباردة على رأسه الكبير، ثم قرأت بصوت مهموس وعقل شارد الفاتحة، فسألها الغلام: ماذا جاء بكم إلى هنا؟
رأت أن تبلغه الخبر في أحسن صورة ممكنة، فقالت برقة: لن تذهب اليوم إلى المدرسة.
فتساءل بابتهاج: بسبب المظاهرات؟
فقال فهمي في شيء من الحدة: الإنجليز يسدون الطريق!
شعر كمال بأنه أدرك سر تجمعهم، فقلب عينيه في الوجوه مذهولا، ثم وثب إلى النافذة ونظر من خصاصها طويلا، ثم عاد وهو يقول باضطراب: البنادق أربع أربع.
ونظر إلى فهمي كالمستغيث، وتمتم في خوف: سيقتلوننا؟ - لن يقتلوا أحدا، جاءوا لمطاردة المتظاهرين.
ومضت فترة صمت قصيرة، وإذا بالغلام يقول وكأنه يخاطب نفسه: ما أجمل وجوههم!
فسأله فهمي ساخرا: هل أعجبوك حقا؟
فقال كمال بسذاجة: جدا، كنت أتخيلهم كالشياطين.
فقال فهمي بمرارة: من يدري، لعلك لو رأيت الشياطين أعجبك منظرهم!
لم يرفع مزلاج الباب في ذلك اليوم، ولم تفتح نافذة من النوافذ المطلة على الطريق، ولو لتغيير الهواء وإدخال الشمس، ولأول مرة تبسط السيد أحمد في الحديث على مائدة الإفطار، فقال بلهجة العليم الخبير إن الإنجليز يتشددون في منع المظاهرات، وإنهم لهذا احتلوا الأحياء التي تكثر بها المظاهرات، وإنه رأى أن يمكثوا يومهم في البيت حتى تتضح الأمور. استطاع الرجل أن يتكلم بثقة وأن يحافظ على مظهره المعهود من الجلال، وألا يدع منفذا لأحد يتسرب منه إلى القلق الذي تفشى في باطنه مذ هب من فراشه على نقر ياسين، ولأول مرة كذلك جسر فهمي على مناقشة رأي أبيه، فقال بأدب: ولكن يا والدي قد تظنني المدرسة إذا مكثت في البيت من المضربين!
لم يكن السيد يعلم شيئا طبعا عن اشتراك ابنه في المظاهرات فقال: للضرورة أحكام، أخوك موظف وموقفه أدق من موقفك، ولكن العذر واضح.
لم تواته شجاعته على مراجعة أبيه خشية أن يغضبه من ناحية، ولأنه - من ناحية أخرى - وجد في أمره بمنع مغادرة البيت عذرا يبرر به أمام ضميره امتناعه عن الخروج إلى الطريق المحتل بالجنود المتعطشين إلى دماء أمثاله من الطلبة. انفضت المائدة فأوى السيد إلى حجرته، وما لبثت الأم وزينب أن اشتغلتا بواجباتهما اليومية، ولما كان اليوم مشمسا، وهو يوم من أيام مارس الأخيرة التي تكتنز في أعطافها نسائم دافئة من أنفاس الربيع، فقد صعد الإخوة الثلاثة إلى السطح، وجلسوا تحت عرش اللبلاب والياسمين. ووجد كمال في خص الدجاج تسلية وأي تسلية، فانتقل إليها، وراح يبذر للدجاج الحب، ويطاردها مسرورا بدجدجتها، ويلتقط ما يعثر عليه من البيض في حين راح الأخوان يتحدثان بالأنباء المثيرة التي تناقلتها الألسنة عن الثورة المستعرة في جنبات الوادي من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. تكلم فهمي عما يعلم من قطع السكك الحديد والتلغرافات والتليفونات، وقيام المظاهرات في شتى المديريات والمعارك التي تنشب بين الإنجليز والثوار والمذابح والشهداء والجنازات الوطنية التي تشيع فيها النعوش بالعشرات، والعاصمة المضربة طلبتها وعمالها ومحاموها، والتي لم يعد بها من وسيلة للمواصلات إلا العربات الكارو، ثم قال الشاب بحرارة: هذه الثورة حقا ... فليقتلوا ما شاءت لهم وحشيتهم فلن يزيدنا الموت إلا حياة.
فقال ياسين وهو يهز رأسه عجبا: ما كنت أتصور أن في شعبنا هذه الروح المكافحة.
فقال فهمي وكأنه نسي كيف أشفى على اليأس قبيل نشوب الثورة، حتى فاجأته بزلزالها وبهرته بنورها: بل إنه ممتلئ بروح الكفاح الخالد التي تشتعل في جسده الممتد من أسوان إلى البحر الأبيض، استثارها الإنجليز حتى ثارت، ولن تخمد إلى الأبد.
فقال ياسين وعلى شفتيه ابتسامة: حتى النساء خرجن في مظاهرة.
فتمثل فهمي أبياتا من قصيدة حافظ في مظاهرة السيدات:
خرج الغواني يحتجج
ن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من
سود الثياب شعارهنه
فطلعن مثل كواكب
يسطعن في وسط الدجنة
وأخذن يجتزن الطريق
ودار سعد قصدهنه.
فاهتزت نفس ياسين وقال ضاحكا: ما كان أجدرني أنا بحفظها.
وفكر فهمي في خاطر طارئ، ثم تساءل بحزن: ترى أترامت أنباء ثورتنا إلى سعد في منفاه؟ ... أعلم الشيخ الكبير بأن تضحيته لم تذهب هباء أم تراه غارقا في يأس المنفى؟
57
لبثوا على السطح حتى الضحى، وراق للأخوين أن يراقبا المعسكر البريطاني الصغير، فرأيا نفرا من الجنود قد أقاموا مطبخا وراحوا يعدون الغداء، وتفرق كثيرون ما بين مدخل درب قرمز والنحاسين وبين القصرين في خلاء من المارة، وبين حين وآخر كان يتجمع كثيرون في طابور على نداء النفير، ثم يأخذون بنادقهم ويركبون أحد اللوريات الذي ينطلق بهم صوب بيت القاضي مما دل على قيام مظاهرات في الأحياء القريبة، وكان فهمي يراقب تجمعهم وذهابهم بقلب خافق وخيال متقد.
وأخيرا غادر الأخوان السطح تاركين كمال يلهو كيف شاء وحده، وأويا إلى حجرة المذاكرة، فأقبل فهمي على كتبه يراجع ما فاته في الأيام المنقضية، وتناول ياسين «ديوان الحماسة» و«غادة كربلاء»، وخرج إلى الصالة يستعين بهما على قتل الوقت الذي توافر وراء جدران سجنه كما يتوافر الماء وراء السدود، كانت الروايات - بوليسية وغيرها - أشد استحواذا على قلبه من الشعر، ولكنه أحب الشعر كذلك، وعرفه من أيسر سبله، يفهم ما يسهل فهمه، ويقنع من الصعب بموسيقاه، فندر أن يلجأ إلى الهامش المشحون بالشروح، وربما حفظ البيت وترنم به، وهو لا يفقه من معناه إلا أقله، أو يتصور له معنى لا يمت إلى حقيقته بسبب، أو لا يدرك له معنى على الإطلاق، ولكن رغم هذا كله رسب في عقله من صوره وألفاظه ما يعد ثروة يتيه بها مثله، حتى دأب على استغلالها لمناسبة ولغير مناسبة وهو الأكثر، فإذا عرض له يوما أن يكتب رسالة تهيأ لها تهيؤ الكتاب، وأقحم عليها من الألفاظ الرنانة ما يعلق بحافظته، وضمنها ما فتح الله به عليه من مأثور الشعر حتى عرف بين معارفه بالبلاغة، لا لأنه كان بليغا حقا، ولكن لقصورهم عن مجاراته وارتياعهم حيال غريب محفوظاته. قبل اليوم لم يعهد مثل هذا الفراغ الطويل الذي قضي عليه بأن يكابده ساعة فساعة محروما من أسباب الحركة والتسلية، وربما كانت القراءة خليقة بأن تسعفه على تحمله لو كان به صبر عليها، ولكنه اعتاد أن يلم بها في رفق، وفي الأوقات القصيرة التي تسبق خروجه إلى سهرته اليومية دون غيرها، وحتى في تلك الأوقات لم يكن يجد بأسا في أن يقطع القراءة بالمشاركة في أحاديث مجلس القهوة، أو يطالع قليلا، ثم يدعو كمال ليروي له ما قرأ مستلذا بإقبال الغلام على الإصغاء بذاك الشغف المأثور عن الأطفال والغلمان. إذن لم يكن الشعر ولا الرواية بالتي تستطيع أن تؤنس وحشته يوما كيومه هذا، وقد قرأ أبياتا من الشعر، وفصولا من «غادة كربلاء»، ومضى يتجرع الملل قطرة فقطرة، لاعنا الإنجليز من أعماق قلبه، ضجرا برما ضيق الصدر، حتى حان وقت الغداء، جمعتهم المائدة مرة أخرى، وقدمت لهم الأم حساء ودجاجات محمرة وأرزا، وأتمت أطباقها - التي حرمت من الخضر بسبب الحصار المضروب حول البيت - بجبن وزيتون ومش، وأحضرت عسلا أسود بدلا من الحلوى، ولكن لم يأكل بشهوة إلا كمال، أما السيد والأخوان فلم يسعدوا بقابلية قوية للطعام لقبوعهم يومهم بلا عمل ولا حركة، بيد أن الطعام هيأ لهم فرصة للهروب من الفراغ بالنوم، وعلى الخصوص السيد وياسين اللذان كان يسعهما الظفر بالنوم وقتما شاءا وكيفما أحبا. وغادر ياسين فراشه قبيل المغرب، فنزل إلى الدور التحتاني لشهود جلسة القهوة، ولكنها كانت جلسة قصيرة إذ إن الأم لم يسعها أن تترك السيد وحده طويلا، فودعتهم وطلعت إليه، ولبث ياسين وزينب وفهمي وكمال يتسامرون في جو يغلب عليه الفتور، حتى استأذن فهمي ومضى إلى حجرة المذاكرة، ثم دعا إليه كمال فغودر الزوجان منفردين. «ما عسى أن أصنع من الآن إلى ما بعد منتصف الليل؟» ... أزعجه هذا السؤال الذي ألح عليه طويلا، وبدا له اليوم كئيبا ذميما منتزعا بالقوة الغشوم من مجرى الزمان الذي يتدفق في الخارج حافلا بالمسرات، كما ينتزع الغصن من الشجرة فيستحيل حطبا. لولا الحصار العسكري لكان الآن بمجلسه المحبوب بقهوة أحمد عبده، يحسو الشاي الأخضر، ويسامر معارفه من روادها، ويمتع النفس بجوها العتيق الذي يستهوي شعوره بمقدمه، ويستأثر خياله بحجراته المطمورة تحت أنقاض التاريخ. قهوة أحمد عبده أحب المقاهي إلى قلبه، ولولا الغرض - والغرض مرض كما يقولون - ما اختار غيرها، ولكنه الغرض الذي جذبه فيما مضى إلى الكلوب المصري لقربه من مقام بائعة الدوم، وهو نفسه الذي أغراه بالانتقال بعد ذلك إلى قهوة سي علي بالغورية لوقوعها أمام بيت زنوبة العوادة؛ فهو يبدل المقاهي تبعا لغرضه، بل إنه يبدل من تعرض له صداقتهم فيها تبعا له، ففيما وراء الغرض لا مقهى ولا أصدقاء له، أين الكلوب المصري وأصحابه؟ ... أين قهوة سي علي ومعارفها؟ ... من حياته ذهبوا، ولعله لو صادفه أحدهم تجاهله أو تهرب منه، والدور الآن على قهوة أحمد عبده وسمارها، والله وحده يعلم ما يخبئه الغد من مقاه وأصدقاء. على أنه لم يكن يمكث بقهوة أحمد عبده طويلا، فسرعان ما يسترق الخطى إلى بقالة كستاكي، أو بالأحرى إلى حانته السرية ليحظى بالقارورة الحمراء، أو «العادة» كما يحلو له أن يدعوها ... أين منه «العادة» هذا المساء الكالح؟! وسرت في بدنه، لتذكر حانة كستاكي، رعدة شهوة، ثم ما لبث أن لاحت في عينيه نظرة سأم عميقة، وتململ تململ السجين. بدا البقاء في البيت حسرة طويلة زاد من حدة ألمها ما طاف بمخيلته من صور الهناء وذكريات النشوة المقترنة بالحانة والقارورة، فعذبته الأحلام وضاعفت من وجده، وقد جرت حنينه الملهوف على موسيقى الخمر الباطنية، ولعبها بالرأس ذلك اللعب المدغدغ الحار السار السائل بهجة وأفراحا، فلم يدرك قبل ذاك المساء أنه أعجز من أن يصبر على هجر الشراب يوما واحدا، ولم يحزن لما بدا له من ضعفه وعبوديته، ولا لام نفسه على إسرافها الذي جر عليه التعاسة لأهون الأسباب، كان أبعد ما يكون عن لوم نفسه أو السخط عليها، ولم يذكر من بواعث ألمه إلا الحصار الذي شنه الإنجليز حول البيت، وأنه يحترق ظمأ ومورد النشوات غير بعيد، ثم لاحت منه التفاتة إلى زينب، فوجدها تتفرس في وجهه بنظرة كأنما تقول له حانقة: «ما لك شاردا، ما لك واجما، أليس لوجودي أي أثر في التسرية عنك!» ... أدرك معناها كله في لحظة خاطفة التقت فيها عيناهما، ولكنه لم يستجب لعتابها الحانق الحزين، وبالعكس لعله أحنقه وأثار ثائرته، أجل لم يحقد على شيء كما حقد على اضطراره للبقاء معها طوال الليل، بلا رغبة، ولا مسرة، وحتى محروما من النشوة التي يستعين بها على تحمل حياته الزوجية. جعل يسترق إليها النظر، ويتساءل في غرابة: أليست هي هي! ... أليست هي التي خلبت لبي ليلة الزفاف؟! ... أليست هي التي شغفتني هياما ليالي وأسابيع؟! فما لها لا تحرك في ساكنا! ... أي شيء طرأ عليها! ما لي أتململ برما وسأما، فلا أجد من حسنها وأدبها ما يغريني عن سكرة تأجلت! ومال - كما فعل مرات من قبل - إلى رميها بالنقص فيما برعت فيه زنوبة ومثيلاتها من ضروب الخدمة والشطارة، والحق أن زينب كانت أولى تجاربه في المعاشرة الدائمة. فلم تطل به معاشرة العوادة ولا بائعة الدوم، ولم يكن تعلقه بإحداهما بمانعه من التنقل إذا سنحت دواعيه، وقد ذكر لحظات حيرته هذه وأفكاره عنها بعد كرور أعوام طوال، فعرف من نفسه ومن الحياة عامة ما لم يجر له في خاطر. وانتبه على تساؤلها: لعلك غير مرتاح إلى البقاء في البيت؟!
لم يكن على حال يطيق معها حتى العتاب، فوقع تساؤلها التهكمي من نفسه موقع الضربة الطائشة من الدمل، فاندفع قائلا بصراحة مؤلمة وإصرار: بلى.
ومع أنها تحامت النقار من بادئ الأمر إلا أن لهجته آذتها أشد إيذاء، فقالت بحدة: لا ذنب لي في هذا، أليس عجيبا ألا تطيق التخلف عن سهرتك ولو ليلة واحدة. فقال متسخطا: دليني على شيء واحد يجعل البيت محتملا.
فقامت غاضبة وهي تقول في نبرات منذرة بالبكاء: سأخلي لك المكان لعله يطيب لك!
وولت كالهاربة وهو يتبعها بصرا جامدا، ثم قال لنفسه: «يا لها من حمقاء لا تدري أن القدرة الإلهية وحدها هي التي تبقي عليها في بيتي.» ومع أن الشجار نفس عن حنقه قليلا، إلا أنه كان يفضل ألا يقع حتى لا يضاعف من كآبة فراغه، ولم يكن يعجز عن استرضائها لو أراده، ولكن عقله الفتور الذي ران على مشاعره جميعا. غير أنه لم تمض دقائق حتى شمله هدوء نسبي فرن صدى عباراته القاسية التي وجهها إليها في أذنيه فأقر بقسوتها، وبأنه لم يكن ثمة ما يدعو إليها، وداخله شبه ندم، لا لعثوره فجأة على ثمالة حب لها في زوايا قلبه، ولكن لحرصه على ألا يشذ في معاملتها عن حد الأدب - ربما إكراما لأبيها أو خوفا من أبيه - حتى في فترة الانتقال العصيبة التي أخذ على نفسه فيها إخضاعها لسياسته بالصلابة والحزم، واعتذر عن إسرافها بالغضب، ولم يكن الغضب بالانفعال المستغرب في هذه الأسرة، فما يركبهم الحلم إلا حين قيام الأب بينهم مستأثرا لنفسه من دونهم بكافة حقوق الغضب.
بيد أن غضبهم كالبرق سريع الاشتعال سريع الانطفاء، ثم يردون إلى ألوان من الأسف والندم. إلى هذا كله خص ياسين بالمكابرة، فلم يدفعه أسفه إلى مصالحة زوجه، بل قال لنفسه: «هي التي استثارت غضبي ... ألم يكن بوسعها أن تخاطبني بلهجة أرق!» إنه يحب دائما أن تتحلى بالصبر والحلم والعفو كيما ينطلق على هواه مطمئنا إلى خطوطه الخلفية. اشتد ضيقه بسجنه بعد غضبها وانسحابها، فغادر المكان إلى السطح. وجد الجو لطيفا والليل ساجيا والظلمة شاملة، إلا أنها كثيفة تحت عرش اللبلاب والياسمين، رقيقة في نصف السطح الآخر المسقوف بقبة السماء المرصعة بلآلئ النجوم. وراح يقطع السطح ذهابا وجيئة ما بين السور المطل على بيت مريم، ونهاية حديقة اللبلاب المشرفة على قلاوون، مستسلما لخيالات شتى، وفيما هو يسير الهوينا عند مدخل السقيفة تسلل إلى أذنيه حفيف، أو لعله همس، بل أنفاس تتردد بين لحظة وأخرى، فحملق في الظلام متعجبا وهتف متسائلا: من هنا؟
فجاءه صوت يعرفه حق المعرفة، وهو يقول في نبرات نحاسية: أنا نور يا سيدي.
تذكر من توه أن نور جارية زوجه تأوي ليلا إلى حجرة خشبية لصق خص الدجاج تحوي بعض الكراكيب، نظر صوب السطح حتى ميز شبحها القائم على بعد خطوة منه كأنه قطعة من الليل تكاثفت وتجمدت، ثم تراءى له بياض عينيها الناصع كدائرتين مرسومتين بالطباشير على صورة حالكة السواد، واصل سيره دون أن ينبس وصورتها ترتسم في مخيلته بطريقة تلقائية، سوداء في الأربعين متينة البنيان، غليظة الأطراف، ناهضة الصدر، عبلة الأرداف، ذات وجه لامع، وعينين براقتين، وشفتين ممتلئتين. فيها قوة وخشونة وغرابة، أو هكذا بدت له مذ طرأت على بيته. وفجأة، وعلى حين غرة، تفجرت في صدره نية الاعتداء كما تنفجر بعض المفرقعات بلا سابق إنذار، ولكن قوية مسيطرة كأنما تركز فيها هدف حياته، فملكته كما ملكته على عتبة باب الفناء حيال أم حنفي ليلة زفاف عائشة، انبعثت في وجدانه الخامد حياة فوارة، وانتشر القلق في دمه حتى تكهرب، وحل محل الملل والسأم اهتمام حار ثائر جنوني، كل أولئك في لمح البصر، ودب النشاط في مشيته وفكره وخياله، وكف وهو لا يدري عن قطع السطح من أوله إلى آخره مقصرا خط ذهابه وإيابه إلى الثلثين، ثم إلى النصف، وكلما مر بها اضطرب جسمه برغبة عارمة. جارية سوداء؟ ... خادم؟ ... وإن كانت، له سوابق غير منكورة، ليس حتما أن تقع بغيته على طراز زنوبة، ميزة حسن واحدة تغني كما أغنت عينا بائعة الدوم المكحولتان بحارة الوطاويط اللتان شفعتا لنتن إبطيها وتلبد الطين على ساقيها. بل الدمامة نفسها - ما دامت قد ركبت على امرأة - اعتذار مقبول عند شهوته العمياء، كما تطلع إليها عند أم حنفي أو عند ضاربة رمل عوراء خلا بها وراء بوابة النصر، نور على أية حال ذات جسم مكتنز صلب، يوحى - لا شك - ملمسه بالفتوة والصراع، إلى أنها جارية سوداء تعد بطرافة في الوصال، وجدة في التجربة، وتحقيق للمأثور عن بنات جنسها من بعث الحرارة والدفء. وبدا الجو من حوله مهيئا آمنا مظلما، فاستحرت رغبته، وتوثبت أعصابه، واسترسل قلبه في دقات متتابعة، فرمى بنظرة ثاقبة موضعها، ومال في سيره إليها بحيث «يتفق» له أن يحتك بها على نحو ما حين مروره بها مؤجلا الجهر برغبته، حتى يتاح له جس النبض في جو من الحذر أن تكون - كأم حنفي - بلهاء، فتتجاوب أركان البيت بفضيحة جديدة، تقدم في خطوات وئيدة محملقا صوبها، يود بكل ما اضطرم في صدره من شهوة لو تنفذ كلمات عينيه - رغم الظلمة الفاشية - إلى نفسها، حتى اقترب منها فاختلطت دقات قلبه، ثم حاذاها فمس كوعه أعلى جسمها، ولكنه واصل سيره كأن ما وقع كان عفوا، غير أن رعدة سرت في بدنه عند لمس الموضع الذي لم يتحقق من هويته في الغيبوبة التي تاه فيها عالمه، فلم يبق منه عند الإفاقة النسبية في نهاية السطح إلا مس طري غزير الحنان، وما ند عن صاحبته من تراجع بريء أيد ما رجحه من عدم ارتيابها في أمره، فاستدار مصمما على إعادة الكرة. أعاد نحوها ثانية ذراعه، حتى مس كوعه إحدى ثدييها - لم يخطئه إحساسه هذه المرة - ثم لم يسحبه كما كان ينتظر من شخص يدعي أنه ضل السبيل، بل تركه يصافح الثدي الأخرى مصافحة رقيقة لا تبالي دفع الريب، ومضى وهو يقول لنفسه ستدرك غايتي بلا شك، بل لعلها أدركتها فند عنها ما يوحي بأنها أرادت أن تنتحي جانبا ولكنها أبطأت، أو بوغتت فذهلت، على أي حال لم تتقيني باليد، ولم تحرك ساكنا. فلن تصرخ فجأة كما فعلت بنت المركوب، لنجرب مرة ثالثة. عاد هذه المرة متعجلا جزعا، فتثاقل حيالها، ثم مد كوعه إلى الصدر الناهد كقربة صغيرة منتفخة، ثم حرك ذراعه حركة ناطقة بالتردد والريبة معا، وهم بمواصلة السير مدفوعا برغبة في الفرار، لولا أن وجد منها استسلاما أو بلادة أغرقت ثمالة وعيه في تيار من الجنون، فتوقف متسائلا بصوت خرج من بخار الشهوة منصهرا متهدجا: أهذه أنت يا نور؟!
فقالت الجارية وهي تتقهقر وهو يتبعها كي لا تفلت منه، حتى التصق ظهرها بالحائط وأوشك هو أن يلتصق بها: نعم يا سيدي.
أراد أن يقول أي كلام يعن له، حتى يتمكن من الجهر بما يضطرب في أعماقه كالملاكم الذي يلوح بقبضته في الهواء متحينا الفرصة ليضرب ضربته القاضية، فسألها وأنفاسه تترامى على جبينها: لم لم تذهبي إلى حجرتك؟
فقالت الجارية التي تعثرت في نطاق حصاره: كنت أشم الهواء قليلا.
وكأنما غلب النهم تردده، فمد راحته إلى خاصرتها، ثم جذبها برفق إلى صدره وهي تبدي ممانعة تحول بينه وبين ما يريد، ثم همس في أذنها وهو يلصق خده بخدها: هلمي إلى الحجرة.
فتمتمت في ارتباك: عيب يا سيدي.
رنت نبراتها النحاسية في الصمت رنينا أزعجه، لم تكن تعمدت أن ترفع صوتها، ولكنها - فيما بدا - لا يتأتى لها الهمس أو أن من طبع همسها الرنين، ولو في أخفض درجاته، على أنه سرعان ما زايله الانزعاج لتوقد شهوته من ناحية، ولخلو لهجتها من الاحتجاج الذي يستوحيه مدلول عبارتها، فجذبها بيده وهو يغمغم: تعالي يا حلوة.
فسلست ليده، ربما عن رضا وربما عن طاعة، وهو يغمر خدها وصفحة عنقها بقبلاته مترنحا من شدة الانفعال، وفي نشوة السرور جعل يقول: ماذا غيبك عني طول هذه الأشهر!
فأجابته بلهجتها العادية الخالية من أي احتجاج: عيب يا سيدي.
فقال وهو يبتسم: ما أرق ممانعتك، زيديني منها!
ولكنها أبدت شيئا من المقاومة عند مدخل الحجرة قائلة: عيب يا سيدي ... (ثم كالمحذرة) الحجرة ملأى بالبق.
فدفعها وهو يهمس في قفاها: أنام على العقارب من أجلك يا نور.
جارية، هكذا بدت بأدق ما تحمل هذه الكلمة من معان، وقفت مستسلمة بين يديه في الظلام، فوضع شفتيه على شفتيها، وقبلها بحرقة وتشوق وهي ساكنة مستسلمة كأنها تشاهد منظرا لا دور لها فيه، حتى قال لها بانفعال: «قبليني»، ثم أعاد لصق شفتيه بشفتيها وقبل فقبلته! ثم طلب إليها أن تجلس فرددت قولها: «عيب يا سيدي» الذي بدا مضحكا من ابتذاله على وتيرة واحدة، فأجلسها بنفسه فاستجابت بلا ممانعة، وما لبث أن وجد لذة جديدة في ترددها بين السلبية والإذعان، فجد في طلب المزيد منه، وتتابعت الممانعة اللفظية والإذعان الفعلي فنسي الزمن، ثم خيل إليه أن الظلام من حوله يتحرك، أو أن مخلوقات غريبة في طياته تتراقص، ربما الجهد أصابه من طول ما لبث إن كان طال لبثه، فإنه على وجه اليقين لا يدري كم لبث، أو لعلها التيارات المتوقدة المتلاطمة في رأسه تولد من ارتطامها في بصره أنوار وهمية، ولكن مهلا، إن جدران الحجرة تتماوج، ناضحة بضوء خافت ذابت فيه الظلمة الداجنة ذوبانا يهتك الأسرار، ورفع رأسه محملقا، فرأى نورا خافتا يتسلل من شقوق الجدار الخشبي مقتحما عليه خلوته، ثم ارتفع صوت زوجه في الخارج وهي تنادي الجارية قائلة: نمت يا نور؟! ... نور ... ألم تري سي ياسين؟
فانتفض قلبه فزعا ووثب قائما، واندفع على عجل ولهفة يتخطف ثيابه ويرتديها وهو يتفحص الحجرة ببصر زائغ لعله يجد مخبأ بين كراكيبها، ولكن نظرة واحدة آيسته من الاختفاء على حين صك أذنيه وقع شبشب يقترب، فلم تتمالك الجارية من أن تقول بصوت باك: أنت السبب يا سيدي، ماذا أفعل الآن؟!
فلكزها في كتفها بقسوة حتى أمسكت، وحدق في الباب بفزع ويأس وهو يتقهقر - بدافع لا شعوري - إلى الركن البعيد عن المدخل حتى التصق بالجدار، وتجمد في موقفه يترقب. تتابع النداء ولا مجيب، ثم انفتح الباب ولاحت ذراع زينب يتقدمها مصباح وهي تهتف: نور ... نور.
فلم يسع الجارية إلا أن تخرج من صمتها مغمغمة بصوت شاحب حزين: نعم يا ستي.
فقالت زينب بصوت ينم عن الحنق والتعنيف: ما أسرع أن تنامي يا شيخة! ألم تري سي ياسين؟ ... سيدي الكبير أرسل في طلبه، فبحثت عنه في الدور التحتاني والفناء، وها أنا لا أجده فوق السطح، هل رأيته؟
وما أتمت كلامها حتى كان رأسها قد برز داخل الحجرة، وهو يطل على الجارية المرتبكة في جلستها باستغراب، ثم بحركة غريزية التفتت إلى يمينها، فوقع بصرها على زوجها الملتصق بالحائط بجسم ضخم كأنما ترهل وتخاذل من الخزي والهوان، التقت عيناهما لحظة قبل أن يغض بصره، ومرت لحظة أخرى في صمت قاتل، ثم ندت عن الفتاة صرخة كالعواء، وتراجعت وهي تهتف ضاربة صدرها بيسراها: يا فضيحتك السوداء! ... أنت! ... أنت!
وجعلت ترتجف كما بدا من ارتجاف المصباح بيدها، وارتعاش ضوئه المنعكس على الجدار المواجه للباب، ثم ولت هاربة وعويلها يمزق الصمت. قال ياسين لنفسه وهو يزدرد ريقه: «انفضحت وما كان كان.» ولبث بموقفه ذاهلا عما حوله حتى انتبه إلى نفسه، فغادر الحجرة إلى السطح دون أن يخطر له أن يتجاوزه. لم يدر ماذا يصنع ولا إلى أي مدى تذاع الفضيحة، أتنحصر في شقته أم تنتقل إلى الشقة الأخرى؟ ... ثم راح يوبخ نفسه على ذهوله وضعفه اللذين منعاه من أن يلحق بها كي يحصر الفضيحة في أضيق حدود، ثم تساءل وهو في أشد حالات الضيق كيف يتلقى هذه الفضيحة؟ هل يسعفه الحزم هنا أيضا؟ ربما لو لم يتسرب نبؤها إلى أبيه. وسمع حركة آتية من ناحية الحجرة المشئومة، فالتفت نحوها فرأى شبح الجارية يغادرها وبيده لفة كبيرة، ثم هرولت نحو باب السطح ومرقت منه، هز كتفيه استهانة، وفيما هو يتحسس صدره بيده أدرك أنه نسي أن يرتدي الفانلة، فعاد إلى الحجرة مسرعا.
58
في الصباح الباكر طرق الباب، وكان الطارق شيخ الحارة، فقابل السيد أحمد وأخبره بأنه مكلف من لدن السلطات بإبلاغ سكان الأحياء المحتلة بأن الإنجليز لن يتعرضوا إلا للمتظاهرين، وأن عليه أن يفتح دكانه، وعلى التلميذ أن يذهب إلى مدرسته، والموظف إلى وظيفته، وحذره من حجز التلاميذ أن يظنوا من المضربين لافتا نظره إلى الأوامر المشددة بمنع المظاهرات والإضراب، بذلك استرد البيت نشاطه الذي يستقبل به الصباح. وتنفس رجاله الصعداء لإطلاق سراحهم بعد حبس البارحة، واستروحت النفوس شيئا من الطمأنينة والسلام. قال ياسين لنفسه تعقيبا على زورة شيخ الحارة: «الأحوال خارج البيت تتحسن، أما داخله فهي طين ووحل.» أجل قضت أكثرية أهل البيت ليلة نكراء أحاطت بها الفضيحة، ومزق أوصالها النكد، زينب لم يستطع الصبر الذي تغلق به صدرها على حزنها وتذمرها أن يصمد للمنظر المروع الذي رأته عيناها في حجرة جاريتها، فتفجر صدرها قاذفا بشواظه كل سبيل، تعمدت تعمدا أن يقرع عويلها آذان السيد، فجاءها مهرولا متسائلا ... وكانت الفضيحة ... قصت عليه كل شيء متشجعة بانفعالها الجنوني الذي لعلها لولاه ما واتتها شجاعتها على مواجهته بما قصت لما باتت تجد نحوه من تهيب لم تجد مثله حيال أحد من الناس، انتقمت بذاك لكرامتها الذبيحة، وللصبر الذي تجرعته حينا مختارة، وحملت عليه في أكثر الأحايين: «جارية! خادمة! في سن أمه! وفي بيتي! ماذا عساه أن يفعل في الخارج إذن؟» لم تكن تبكي غيرة، أو لعل الغيرة توارت إلى حين وراء حجب كثيفة من التقزز والغضب، كما تتوارى النار وراء سحب الدخان، وكأنما غدت تؤثر الموت على أن تبقى معه تحت سقف واحد، ولو يوما واحدا بعد ما كان، أجل هجرت مخدعها فقضت الليل في حجرة الاستقبال يقظى أكثره تهذي هذيان المحمومين، ونائمة أقله نوما ثقيلا مريضا مزعجا. أصبحت وهي مصممة على هجر البيت. لعل هذا التصميم وحده الذي وجدت فيه مسكنا لأوجاعها. ماذا بوسع حميها نفسه أن يفعل؟ ... لن يستطيع أن يمنع المنكر بعد أن وقع، ولن يسعه مهما يكن جبروته أن ينزل بزوجها العقاب الذي يستحقه حتى يستشفي صدرها، أقصى ما يراه أن يزجره ، أن يصب عليه غضبه، وسينصت - الفاسق - خافض الرأس كي يواصل فيما بعد سيرته الخبيثة! ... هيهات. لقد رجاها السيد أن تدع الأمر بين يديه، ونصحها طويلا بأن تعرض عن زلته مستوصية بصبر الفضليات من مثيلاتها، ولكنها لم تعد تحتمل الصبر أو العفو. جارية سوداء فوق الأربعين! ... كلا، ستهجره هذه المرة بلا تردد، ستفضي إلى أبيها ببثها كله، وستبقى في كنفه حتى يثوب إلى رشده، فإذا جاءها بعد ذلك نادما، وغير من سلوكه أو فلتذهب هذه الحياة كلها - بخيرها وشرها - إلى الشيطان، أخطأ ياسين حين ظنها قد طوت صدرها على كربها عقلا وحكمة، الحق أنه غلبها الجزع من بادئ الأمر، فبثت همها إلى أمها، ولكن الأم أثبتت أنها امرأة حكيمة، فلم تدع الشكوى تتسرب إلى الأب، وأوصت ابنتها بالصبر قائلة: إن الرجال يسهرون - كوالدها مثلا - وإنهم أيضا يشربون، وإنه حسبها أن بيتها عامر بالخير، وأن زوجها يعود إليها مهما سهر ومهما سكر. أصغت الفتاة إلى النصيحة على مضض، وجاهدت نفسها أيما جهاد متجملة بالصبر، ولم تأل أن تحمل نفسها على الرضا بالواقع والقناعة من أحلامها العريضة بما سمحت به الحقيقة، خصوصا وقد دب الجنين في بطنها مبشرا بالأمومة المرموقة. ربما كمن التذمر في أعماقها بيد أنها راضت نفسها على التسليم متأسية بأمها تارة، وطورا بامرأة سيدها الكبير، ثم لم يخل الحال من ريبة تختلج في صدرها بين حين وآخر عما يمكن أن يفعل زوجها في سهراته الخمرية، وحدث أن أفضت إلى أمها بمخاوفها، بل لم تخف عنها ما لحق بالرجل من فتور في عواطفه، ولكن الأم الحكيمة أفهمتها أن ذاك الفتور ليس حتما نتيجة لما يقع في خاطرها، إنه «شيء طبيعي» وإن الرجال جميعا لديه سواء، وأنها سوف تقتنع به بنفسها كلما تقدمت بها تجارب العمر .. على أنه لو صدقت وساوسها فماذا تراها فاعلة؟ ... هل ترضى بهجر بيتها؛ لأن زوجها يلم بغيرها من النساء؟ ... كلا، وألف مرة كلا، لو تخلت امرأة عن مكانها لسبب كهذا لأقفرت البيوت من الفضليات، والرجل قد يطمح طرفه إلى امرأة أو أخرى، ولكنه يعود دائما إلى بيته ما دامت زوجه خليقة بأن تبقى عنده المرجع الأخير والمأوى الثابت، والعاقبة للصابرات. ومضت تذكرها بالمطلقات بلا ذنب واللائي يشركهن في أزواجهن أخريات، أليس طيش زوجها - إن صح - خطبا أخف من سلوك أولئك؟! ثم إنه لم يجاوز الثانية والعشرين من عمره، ومصيره يعقل فيثوب إلى بيته، ويشغل بذريته عن الدنيا جميعا، ومعنى هذا أنه ينبغي لها الصبر، حتى لو صدقت وساوسها فما بالها والوساوس لم تصدق؟! رددت المرأة هذا، وغيره مما يجري مجراه، حتى سلس جماح الفتاة، وآمنت بالصبر، وراضت نفسها عليه. بيد أن واقعة السطح قضت على كل ما وطنت النفس عليه بضربة قاضية، فانهار البنيان جميعا كأن لم يكن.
ومع أن السيد لم يفطن إلى هذه الحقيقة المؤسفة، فظن الفتاة قد امتثلت لنصيحته، إلا أن غضبته كانت أشد من أن تمر بسلام، وقد أحسنت الجارية صنعا بفرارها، أما ياسين فلم يبرح السطح، لبث يفكر منزعجا في العاصفة التي تتربص به، حتى ترامى إلى أذنيه صوت أبيه وهو يناديه بنبرات كفرقعة السياط فدق قلبه، ولكنه لم يجب ولم يستجب، وتسمر يائسا في مكانه، وما يدري إلا والرجل يقتحم عليه السطح، ثم يقف مدمدما لحظات، وهو يتفحص المكان حتى يعثر على شبحه، فيتجه إليه ويقف على كثب منه شابكا ذراعيه على صدره مصوبا نحوه رأسا متصلبا متعجرفا، ملتزما الصمت ومطيله كي يطيل له به العذاب والإرهاب، كأنما أراد بصمته أن يعبر له عما يجد نحوه مما يعيي الألفاظ حمله، أو أنه أراد أن يرمز به إلى ما كان يود أن يؤدبه به من مبرح الركل واللكم، فمنعه منه استواؤه رجلا وزوجا، ثم لم يعد يستطيع مع الصمت صبرا، فانهال عليه سبا وتعنيفا وهو ينتفض غضبا وهياجا: «أنت تتحداني تحت سمعي وبصري! ... فلتذهب أنت وخزيك إلى جهنم ... دنست بيتي يا وغد، هيهات أن يتطهر هذا البيت ما دمت فيه ... كان لك قبل الزواج عذر واه، فأي عذر لك الآن؟!» ... «لو أصاب كلامي حيوانا لأدبه، ولكنه ينصب على حجر .. إن بيتا يضمك خليق بأن تستنزل عليه اللعنات» ... نفس عن صدره المستعر بكلمات كالرصاص المنصهر، وياسين بين يديه ساكن صامت خافض الرأس كأنه يوشك أن يذوب في الظلام، حتى أجهد الرجل الزعق فولاه ظهره وغادر المكان وهو يلعنه ويلعن أباه وأمه، ومضى إلى حجرته يفور بالغضب فورا. في ثورة الغضب رأى زلة ياسين جريمة تستحق الإبادة، وفي ثورة الغضب لم يعد يذكر أن ماضيه كله صورة مطولة متكررة من زلة ياسين، وأنه لا يزال دائبا على سلوكه، وقد انتصف به العقد الخامس وشب أبناؤه، فصار منهم الأزواج والزوجات. لا لأنه في ثورة الغضب ينسى حقا، ولكن لأنه يحل لنفسه ما لا يحل لأحد من ذويه، له أن يفعل ما يشاء، وعليهم التزام الحدود التي يريدهم على أن يلتزموها، فلعل غضبه على ما في ذنب ياسين من «تحد» لإرادته، و«استهانة» بوجوده، و«تشويه» للصورة التي يحب أن يتصوره بها أبناؤه، كان أضعاف غضبه على الذنب نفسه، على أن غضبه - كما هي عادته - لم يستمر طويلا، ما لبث أن خبا لظاه وخمد توقده، فعاوده الهدوء رويدا وإن شاب مظهره - مظهره فقط - الوجوم والأسى، عند ذاك أمكنه أن ينظر إلى «جريمة» ياسين من أكثر من زاوية واحدة، أمكنه أن يتأملها بعقل مستقر، فانجلى له قتامها عن مواضع شتى ساخرة تسلى بها عن وحدته الاضطرارية. أول ما ابتدر ذهنه أن يلتمس للمذنب عذرا، لا حبا في التسامح؛ فإنه يكره التسامح في بيته، ولكن ليتخذ من ذاك العذر المرجى «مبررا» لخروجه عن إرادته، كأنما يقول لنفسه: «إن ابني لم يشق عصا الطاعة ... هيهات، ولكن عذره كيت وكيت» ... ولكن هل يلتمس له العذر عند شبابه باعتباره عهد طيش ونزق؟ ... كلا، إن الشباب عذر عن الذنب، وليس عذرا عن خروجه على إرادته، وإلا لجاز لفهمي بل لكمال أن يتماديا في الاستهانة بتعاليمه، ليلتمس العذر إذن عند رجولته، هذه الرجولة التي تحل له أن يستقل بنفسه عن إرادته، ولو شيئا ما، وتعفيه هو - السيد - من تحمل مسئولية فعاله، كأنما يقول لنفسه: «إنه لم يخرج على إرادتي، هيهات، ولكنه بلغ السن التي لا يعد فيها ذنبه خروجا على إرادتي» ... وغني عن القول أنه يأبى أن يعترف أمامه بهذا الحق، ولن يعفو عنه ولو تجاسر على المطالبة به، بل إنه لا يعترف له به فيما بينه وبين نفسه إلا في حال الوقوع في معصية تستوجب مبررا للخروج على إرادته، ولم ينس حتى في تلك الحال أن يذكر نفسه - التماسا للمزيد من الطمأنينة - بأنه أدبه تأديبا غليظا نادرا قل من يستبيحه من الآباء، فقوبل بخضوع كامل قليل من يتحمله من الأبناء ... وعرج خاطره إلى زينب متفكرا ولكنه لم يجد نحوها أي عطف، لقد واساها إكراما لأبيها العزيز الحبيب، ولكنه لا يظن أن الفتاة جديرة بأبيها حقا. ما كان يخلق بزوجة كريمة أن تفضح زوجها - مهما تكن الظروف - على النحو الذي فضحت به ياسين! ... لشد ما أعولت! ... لشد ما صرخت! ... ماذا كان يصنع هو - السيد - لو أن أمينة فجأته يوما بمثل هذا التصرف؟! ... ولكن أين هي من أمينة؟! ... ثم كيف قصت عليه ما رأت دون حياء! ... أف! ... أف! لو لم تكن هذه الفتاة كريمة محمد عفت لحق لياسين أن يؤدبها، بل لما رضي هو أن تمر هذه الواقعة دون عقاب زاجر، لقد أخطأ ياسين ولكنها أخطأت خطأ أكبر. ثم عاد إلى ياسين سريعا فراح يفكر - بباطن مبتسم - في الطبيعة الواحدة التي تجمع بينهما، تلك الطبيعة الموروثة عن الجد بلا ريب، ومن يدري لعلها تضطرم الآن في صدر فهمي تحت قناع التهذيب والاستقامة، بل ألا يذكر كيف عاد يوما إلى البيت على غير انتظار، فترامى إلى سمعه صوت كمال وهو يغني «يا طير يا للي على الشجر»؟! ... تأخر لحظتذاك وراء الباب - لا ليتظاهر بأنه وصل بعد انتهاء الغناء فحسب - ولكن ليتابع الصوت متذوقا معدنه، سابرا طول نفسه، حتى إذا ما ختم الغلام النغمة صفق الباب بقوة وهو يسعل، ومضى إلى الداخل طاويا صدره على ابتهاج لم يفطن إليه أحد، كم يلذه أن يرى نفسه مترعرعة من جديد في حياة أبنائه على الأقل في ساعات الهدوء والصفاء، ولكن رويدا ... إن لياسين طبيعة خاصة به لا يشركه هو فيها، أو أنه لا تجمع بينهما طبيعة واحدة إذا روعي المعنى الدقيق لهذه الكلمة، ياسين حيوان أعمى ... ينقض مرة على أم حنفي، ويضبط أخرى مع نور، يتمرغ في التراب دون مبالاة، وما هكذا هو! أجل إنه يدرك مقدار الضيق الذي ألم بياسين لاضطراره إلى قضاء الليلة في شبه سجن، يدرك لأنه كابده هو أيضا كئيبا محزونا كمن فقد عزيزا، ولكن هبه كان يتنزه في بستان السطح - كما فعل الفتى - فصادف جارية - ولنفترض أنها تكون ملبية لذوقه - أكان يقدم على المغامرة؟ ... كلا. مؤكد كلا، ولكن أي وازع كان يشكمه؟ ... لعله المكان؟ الأسرة! ولعله العمر الرشيد. آه، لقد تضايق عند ورود الوازع الأخير على ذهنه، وخيل إليه أنه يغبط ياسين على ريق شبابه وجنون زلته معا! ... مهما يكن من أمر فالطبيعتان مختلفتان، لم يكن السيد - كابنه - مغرما بالمرأة بلا قيد ولا شرط، امتازت شهوته دائما بالرفاهية وحداها الانتخاب الرفيع، بل أثرت في ميزاتها ميزات اجتماعية ضمت إلى الميزات الطبيعية المألوفة، كان مغرما بالجمال الأنثوي في لحمه وتبختره وأناقته، فلم تخل جليلة أو زبيدة أو أم مريم وعشرات غيرهن من ميزة أو أكثر من هذه الميزات، وفضلا عن هذا كله فلم يكن مزاجه ليصفو ويطيب إلا بالمنظر البهيج، وبالمجلس الأنيس، وما يتبعهما من شراب وسمر وغناء، فلا يكاد يمضي طويل وقت على عشيقة جديدة حتى تفطن إلى هواه، فتهيئ له ما تهفو إليه نفسه من جو عذب يعبق فيه الورود والبخور والمسك، وكما كان يعشق الجمال مجردا كان يعشقه كذلك في هالاته الاجتماعية اللألاءة. تجذبه المكانة المرموقة والصيت البعيد، ويلذ له أن ينوه خاصته بعشقه ومعشوقاته، إلا فيما ندر من أحوال توجب التستر والكتمان كحال أم مريم، على أن هذا الحب «الاجتماعي» لم يكن ليفرض عليه تضحية بالجمال؛ فالجمال والصيت - في هذا المجال - يسيران جنبا لجنب كالشيء وظله، وغالبا ما يكون الجمال اليد الساحرة التي تشق السبيل إلى الصيت والمكانة المرموقة، وقد عشق أشهر عوالم عصره، فلم تخيب إحداهن نزوعه إلى الجمال وولعه بالحسن. هذا ما جعله يذكر نزوات ياسين بازدراء وهو يردد مستنكرا: «أم حنفي! نور! ... يا له من حيوان.» إنه بريء من هذا الشذوذ، بيد أنه ليس في حاجة إلى أن يتساءل طويلا عن مصدره، فإنه لم ينس بعد ذلك المرأة التي أنجبت ياسين، فأودعته طبيعتها المولعة بالقذارة، إنه مسئول عن قوة شهوته، أما هي فمسئولة عن نوع هذه الشهوة النزاعة إلى الحضيض. وقد عاوده في الصباح التفكير «الجدي» في المسألة، فكاد يدعو الزوجين إليه كي يصفي ما بينهما - وما بينه وبين كليهما - من حساب، ولكن أرجأ ذلك إلى متسع من الوقت أنسب من الصباح، ولما ساءل فهمي ياسين عما دعاه إلى التخلف عن المائدة، أجابه مقتضبا: «شيء تافه سوف أحدثك عنه فيما بعد.» وظل فهمي جاهلا سر غضب أبيه على أخيه، حتى علم باختفاء الجارية نور، فحدس الأمر كله. شهد الصباح الأسرة على غير مألوفها، فقد غادر ياسين البيت مبكرا، ولزمت زينب حجرتها، ثم غادر الرجال البيت واجفين متحاشين أن يرفعوا بصرا صوب الجنود، والأم من وراء خصاص المشربية تدعو الله أن يقيهم من كل سوء. ولم تشأ أمينة أن تقحم نفسها في «واقعة» السطح، فنزلت إلى حجرة الفرن وانتظرت بين حين وآخر أن تلحق بها زينب كالعادة. لم تكن تقرها على غضبتها لكرامتها، فعدتها تدليلا أثار استياءها، وجعلت تتساءل: «كيف تدعي لنفسها من الحقوق ما لم تدعه امرأة قط؟»
لا ريب أن ياسين قد أخطأ، فدنس البيت الطاهر، ولكنه أخطأ في حق أبيه وحرمته لا في حقها هي ... ألست ملاكا بالقياس إلى هذه الفتاة؟! ... ولكن لما طال بها الانتظار لم تعد تستطيع تجاهلها، وأقنعت نفسها بوجوب الذهاب إليها مواسية، فصعدت إلى شقتها ونادتها، ثم دخلت الحجرة فلم تعثر لها على أثر، ومضت من حجرة إلى حجرة وهي تنادي حتى فتشت البيت ركنا ركنا، ثم ضربت كفا بكف وهي تقول: «رباه ... هل ارتضت زينب أن تهجر بيتها؟!»
59
لم تنج أمينة سحابة النهار من قلق، فإن احتمال تعرض الجنود لأحد من رجالها في ذهابه أو إيابه لم يكد يفارق رأسها. وكان فهمي أول العائدين، فتخففت لدى رؤيته من بعض آثار قلقها، ولكنها رأته متجهما، فسألته: ماذا بك يا بني؟
فهتف فهمي متأففا: أكره أن أرى هؤلاء الجنود.
فقالت المرأة بإشفاق: لا تبد لهم الكراهية، إن كنت تحبني لا تفعل.
ولكنه لم يفعل بغير استعطافها، لم يتجاسر على أن يتحداهم ولو بالنظر وهو يتلمس سبيله تحت رحمتهم، تحاشى أن ينحرف بصره إلى أحدهم، ومضى إلى البيت متسائلا في سخرية عما كانوا يفعلونه لو أنهم علموا بأنه راجع من مظاهرة اشتبكت مع جنودهم في شبه معركة، أو أنه وزع في مطلع اليوم عشرات المنشورات التي تحرض على قتالهم. جلس يستعرض ما لاقاه في يومه مستحضرا أقله كما وقع، وأكثره كما كان يتمنى أن يكون. هكذا كان رأيه أن يعمل نهارا، وأن يحلم مساء. تحدوه في الحالين أسمى العواطف وأفظعها، حب قومه من ناحية والرغبة في التقتيل والإبادة من ناحية أخرى، أحلام يسكر بها وقتا يطول أو يقصر، ثم يفيق منها على حسرة لاستحالتها وفتور لسخافة تصوراتها، أحلام تنسج لحمتها وسداها من معارك يتقدم صفوفها كجان دارك، واستيلاء على سلاح العدو، ثم الهجوم عليه، هزيمة الإنجليز، خطبة خالدة في ميدان الأوبرا، اضطرار الإنجليز إلى إعلان استقلال مصر، عودة سعد من المنفى ظافرا، لقاء بينه وبين الزعيم وكلمة الزعيم، مريم بين شهود الافتتاح التاريخي. أجل كانت أحلامه تتوج دائما بصورة مريم رغم انزوائها - طوال تلك الأيام - في ركن قصي من قلبه الذي شغلته الشواغل كما ينزوي القمر وراء السحب إبان العاصفة. وما يدري إلا وأمه تقول له وهي تشد المنديل حول رأسها في ارتباك: ذهبت زينب إلى بيت أبيها غضبانة.
آه ... كاد ينسى ما ألم بأخيه وأسرته في الصباح، الآن تأكد إليه ما حدسه حين علم باختفاء الجارية نور، وتحاشى عيني أمه حياء أن تقرأ ما يدور بخلده، خصوصا وأنه أيقن باطلاعها على جلية الأمر، ولم يستبعد أن تفطن إلى إدراكه له، أو في الأقل أن ترجحه، فلم يدر ما يقول لا سيما أنه لم يعتد في محادثتها أن يبدي خلاف ما يبطن، ولم يكن أبغض لديه من أن يقوم المكر مقام الصراحة بينهما، فقنع بأن يتمتم قائلا: ربنا يصلح الحال.
لم تنبس أمينة بكلمة كأن اختفاء زينب من التفاهة بحيث تكفي جملة إخبارية وأخرى دعائية في معالجته، وما لبث فهمي أن دارى ابتسامة كادت تفضح تحفظه؛ إذ أدرك أن أمه تكابد مثل شعوره وأنها تعاني ارتباكا لعجزها الفطري عن التمثيل، لم تكن تحسن الكذب، وحتى إذا اضطرت إليه أحيانا كشفتها طبيعة لا تستقر على بساطتها الأقنعة، على أن ارتباكهما لم يطل، فما هي إلا دقائق حتى رأيا ياسين مقبلا نحوهما. خيل إليهما أنه يطالعهما بوجه لا يقدر المتاعب التي تترصد في البيت، وإن لم يعلم بعد بمدى ما بلغته، ولم يدهش فهمي لذلك كثيرا لما يعلمه من استهانته بالمتاعب التي تنوء بغيره من الناس، ولكن الحقيقة أن ياسين غلبه شعور باهر بأنه اجتاز مغامرة ظافرة أنسته إلى حين جل متاعبه. كان في طريقه إلى باب البيت حين اعترض سبيله جندي، كأنما انشقت عنه الأرض، فارتعدت مفاصله وتوقع شرا لا قبل له به، أو في الأقل إهانة جارحة على مرأى من أصحاب الحوانيت والمارة، ولكنه لم يتردد في الدفاع عن نفسه، فقال برقة وتودد مخاطبا الجندي كأنما يستأذنه في المرور: من فضلك يا سيدي.
ولكن الجندي طلب عود ثقاب وهو يبتسم - أجل يبتسم - فذهل ياسين لابتسامته، حتى استعصى عليه أن يفهم مراده حتى أعاده، لم يكن يتصور أن جنديا إنجليزيا يبتسم على هذا النحو، أو - إذا كان الجنود الإنجليز يبتسمون كسائر البشر - أن يبتسم له أحدهم فيما يشبه الأدب، فاستخفه سرور أربكه، حتى لبث جامدا لحظات لا يحير جوابا، ولا يبدي حراكا، ثم توثب بكل ما فيه من قوة لأداء هذه الخدمة البسيطة لذاك الجندي العظيم المبتسم، ولما كان غير مدخن فلا يحمل ثقابا، فقد بادر إلى الحاج درويش بائع الفول وابتاع علبة ثقاب، وهرع إلى الجندي مادا له يده بها، فتناولها الجندي وهو يقول: أشكرك.
لم يكن أفاق من أثر الابتسامة السحرية، فجاء الشكر كقدح البيرة الذي يعل به من استوفى طاقته من الوسكي، ملأه الامتنان والزهو، تورد وجهه المكتنز، وضحكت أساريره وكأن عبارة «ثانك يو»، نيشان سام تقلده على الملأ، إلا أنها ضمنت له أن يذهب ويجيء أمام المعسكر آمنا، وما كاد الرجل يبدي أول حركة للذهاب، حتى قال له متوددا من أعماق فؤاده: حظ سعيد يا سيدي.
ومضى إلى البيت كالمترنح من الفرح. أي حظ سعيد ظفر به هو! ... إنجليزي - لا أسترالي ولا هندي - وابتسم له وشكره! ... إنجليزي أي رجل يتمثل في خياله كأنموذج لكمال الجنس البشري، ربما أبغضه كما يبغضه المصريون جميعا، ولكنه في قرارة نفسه يحترمه ويجله، حتى ليخيل إليه كثيرا أنه من طينة غير طينة البشر، هذا الرجل ابتسم له وشكره! .. وقد أجابه إجابات صحيحة مقلدا ما وسعته مرونة شدقيه طريقة النطق الإنجليزية، فنجح نجاحا باهرا استحق عليه الشكر ... كيف يصدق ما ينسب إليهم من الأعمال الوحشية؟! لماذا نفوا سعد زغلول إذا كانوا على هذا الظرف كله؟! غير أن حماسه فتر بمجرد أن وقع بصره على الست أمينة وفهمي، واستطاع أن يقرأ نظرتهما، وسرعان ما اتصل ما كان انقطع من حين من حبل همومه، انتبه إلى أنه يواجه مرة أخرى المشكلة التي هرب منها مع الصباح الباكر. تساءل وهو يشير بأصبعه إلى فوق: لماذا لا تجلس معكما؟ ألا تزال غضبانة؟
فتبادلت أمينة مع فهمي نظرة، ثم تمتمت بارتباك: ذهبت إلى أبيها.
فرفع حاجبيه دهشة أو انزعاجا، ثم سألها: لماذا تركتها تذهب؟
فقالت أمينة وهي تتنهد: تسللت دون أن يشعر بها أحد.
شعر بأنه يجب أن يقول قولا يرضي كرامته أمام أخيه وأمه، فقال باستهانة: إلى حيث ...
وقرر فهمي أن يقاوم رغبته في اللواذ بالصمت كي يوهم أخاه بأنه لم يطلع على سره؛ وبالتالي أن ينفي شبهة إذاعته هذا السر عن أمه، فسأله ببساطة: ما الذي دعا إلى هذا النكد؟!
فحدجه ياسين بنظرة متفحصة، ثم لوح بيده الغليظة وهو يمط بوزه كأنما يقول له: «ليس ثمة ما يدعو إلى النكد.» ثم قال: بنات اليوم لم تعد بهن طاقة على حسن المعاشرة.
ثم ناظرا إلى ست أمينة: أين هن ستات الأمس؟!
نكست أمينة رأسها حياء في الظاهر، وفي الحق لتداري ابتسامة لم تستطع مغالبتها حينما ربط ذهنها بين الصورة التي يتخذها ياسين الآن، صورة المتأمل الواعظ المجني عليه، والصورة التي ضبط بها مساء أمس فوق السطح. على أن انزعاج ياسين كان أعظم بكثير من القدر الذي سمح له الموقف بأن يتظاهر به، فإنه على فداحة الخيبة التي مني بها في حياته الزوجية لم يفكر لحظة في قطع هذه الحياة، وجد فيها ملاذا مستقرا ورعاية إلى ما بشرت به من أبوة وشيكة رحب بها أيما ترحيب، تمنى دائما أن تبقى وراء ظهره ليعود إليها من شتى جولاته، كما يعود الرحالة في نهاية العام إلى وطنه، ولم يغب عنه ما سيجره عليه ذهاب زوجته من نزاع جديد بينه وبين أبيه وبين السيد عفت، إلى ما يلابس هذا كله من فضيحة ستفوح رائحتها حتى تزكم الأنوف ... بنت الكلب! ... لشد ما كان مصمما على أن يستدرجها إلى الاعتراف بأنها أخطأت خطأ أكبر من خطئه، بل لعله اقتنع بذلك لدرجة تقرب من اليقين، فأقسم ليحملنها على الاعتذار وليأخذن نفسه بتأديبها بمختلف الوسائل، ولكنها ذهبت ... قلبت خططه رأسا على عقب ... وضعته في مأزق غير يسير. بنت الكلب! ... وانتزع من تيار أفكاره على صوت صراخ يمزق الصمت المحيط بالبيت، فالتفت صوب فهمي وأمه، فوجدهما يرهفان السمع باهتمام وقلق، وتواصل الصراخ فأدركوا بسهولة أنه صادر عن امرأة، ولكن تساءلت أعينهم عن الناحية التي يترامى منها، وعن سببه: أنعي ميت أم عراك أم استغاثة؟ وراحت أمينة تستعيذ بالله من الشرور جميعا، حتى قال فهمي: إنه قريب ... لعله في طريق بيتنا.
ونهض فجأة مقطبا جبينه وهو يتساءل: ألا يكون الإنجليز قد هاجموا امرأة مارة بالطريق؟
وهرع إلى المشربية والآخران في أثره، بيد أن الصراخ انقطع غير تارك وراءه دليلا على الناحية التي ترامى منها، فرمى ثلاثتهم بأنظارهم خلال الخصاص يتفحصون الطريق، فاستقرت على امرأة لفتت الأنظار بوقفتها الغريبة وسط الطريق، وبمن أحاط بها من المارة وأصحاب الحوانيت، على أنهم عرفوها لأول وهلة وهتفوا معا: أم حنفي.
وتساءلت أمينة التي كانت أرسلتها لتعود بكمال من المدرسة: ما لي لا أرى كمال معها؟! وماذا يوقفها هكذا كالجماد! كمال ... رباه ... أين كمال؟
ثم مدفوعة بشعور غريزي: هي التي كانت تصرخ ... عرفت الآن صوتها ... أين كمال؟ ... أغيثوني.
لم ينبس فهمي ولا ياسين بكلمة. استغرقهما فحص الطريق عامة والمعسكر الإنجليزي خاصة، حيث رأوا أنظار المتجمعين - وفي مقدمتهم أم حنفي - تتجه، لم يكن ثمة شك لديهما في أن أم حنفي هي التي صرخت، حتى جمعت الناس حولها، بل شعرا بالبداهة أنها كانت تستغيث؛ لأن ثمة خطرا تهدد كمال، ثم تركزت مخاوفها في الإنجليز، ولكن أي خطر هو؟ ... وأين كمال؟ ... ماذا حدث للغلام؟ إن الأم لا تكف عن الاستغاثة بدورها، وهما لا يدريان كيف يسكنان خاطرها، لعلهما في حاجة إلى من يسكن خاطرهما ... أين كمال؟ ... إن الجنود ما بين جالس وواقف وماض لطيته، كل مشغول بشأنه كأن شيئا لم يقع، وكأن أحدا من الناس لم يتجمع. وهتف ياسين بغتة وهو يلكز فهمي في كتفه: ألا ترى هؤلاء الجنود الواقفين على هيئة دائرة تحت سبيل بين القصرين؟ ... إن كمال يقف بينهم ... انظر.
فلم تملك الأم أن صرخت قائلة: كمال بين الجنود ... ها هو يا ربي ... رباه ... أغيثوني.
أربعة جنود عمالقة وقفوا على هيئة دائرة متشابكي الأذرع، وقد مرت عينا فهمي أكثر من مرة دون أن تعثرا على ضالتهما. في هذه المرة لمح كمال واقفا وسط الدائرة كما لاح من فرجة انشقت عنها ساقا الجندي الذي يوليهم ظهره، خيل إليه أنهم سيتقاذفونه بأرجلهم كالكرة حتى يقضوا عليه، أنساه خوفه على أخيه نفسه، فاستدار قائلا بنبرات مضطربة: سأذهب إليه مهما تكن العواقب.
ولكن يد ياسين قبضت على منكبه وهو يقول بصوت حازم «قف» ... ثم خاطب الأم بصوت هادئ باسم قائلا: لا تخافي ... لو أنهم أرادوا أن يصيبوه بسوء ما ترددوا ... انظري إليه ألا يبدو منهمكا في حديث طويل؟! ثم ما هذا الشيء الأحمر الذي بيده؟! أراهن على أنها قطعة من الشوكولاتة! ... هدئي روعك ... إنهم يتسلون به (ومتنهدا) شد ما أفزعنا على لا شيء.
سكن روع ياسين، وما لبث أن تذكر مغامرته السعيدة مع الجندي، فلم يستبعد أن يوجد له من زملائه نظائر في لطفه ورقته، ثم رأى أن يدعم قوله ويثبته في فؤاد الأم الملتاع، فأشار إلى أم حنفي التي لم تزل في موقفها قائلا: ألا تريان أن أم حنفي لم تكف عن الصراخ إلا حين لم تجد داعيا له. ها هم الناس ينفضون من حولها تعلوهم الطمأنينة.
فغمغمت أمينة بصوت مرتعش: لن يطمئن قلبي حتى يعود إلي.
وتركزت أعينهم في الغلام، أو فيما يلوح منه بين آونة وأخرى، غير أن الجنود استردوا أذرعهم المتشابكة، وضموا سيقانهم المنفرجة كأنما اطمأنوا إلى عدول كمال عن التفكير في الهرب، فبدا الغلام بكامل هيئته، بدا باسما يتكلم كما استدلوا عليه من حركة شفتيه، وإشارات يديه التي استعان بها على الإفصاح عن أفكاره، فدل التفاهم بينه وبينهم على أنهم يستطيعون إلى حد ما استعمال اللغة المصرية، ولكن ماذا يقول لهم أو ماذا يقولون له؟ ... هذا ما لم يستطع أحد أن يخمنه، بيد أنهم ثابوا إلى رشدهم، حتى الأم نفسها استطاعت أخيرا أن تشاهد المنظر العجيب الذي يمثل تحت ناظريها بدهشة ممزوجة بقلق صامت دون عويل أو استغاثة، على حين جعل ياسين يضحك قائلا: الظاهر أننا غالينا في التشاؤم حينما ظننا أن احتلال هؤلاء الجنود لحينا سيكون مصدر متاعب لنا لا تنتهي.
ومع أن فهمي بدا ممتنا لسلوك الجنود مع كمال، إلا أنه لم يرتح إلى ملاحظة ياسين، فقال دون أن تتحول عيناه عن الغلام: ربما اختلفت معاملتهم للرجال أو النساء عن معاملتهم للأطفال. لا تغل في تفاؤلك.
وكاد ياسين يندفع متحدثا عن مغامرته السعيدة، ولكنه أدرك لسانه في اللحظة المناسبة، فأمسك تفاديا من إثارة أخيه، ثم قال على سبيل الملاطفة والتودد: ربنا يخلصنا منهم على خير.
وتساءلت أمينة في لهفة: ألم يئن لهم أن يدعوه مشكورين؟
ولكن بدا على دائرة كمال أن ثمة جديدا ينتظر، فقد تراجع أحد الجنود الأربعة إلى خيمة قريبة، ثم عاد بعد قليل بكرسي خشبي فوضعه أمام كمال، وما لبث الغلام أن وثب إلى الكرسي فوقف منتصب القامة مشدود الذراعين إلى أسفل، كأنما ينتظمه طابور القسم المخصوص، وقد انحدر طربوشه إلى قذاله - دون شعور منه في الغالب - كاشفا عن مقدم رأسه الكبير البارز. ما خطبه؟ ماذا وراء هذه الوقفة؟ لم يطل بأحد التساؤل إذ سرعان ما علا صوته الرفيع وهو ينشد:
يا عزيز عيني
بدي أروح بلدي
يا عزيز عيني
السلطة خدت ولدي
غناها مقطعا مقطعا بصوته اللطيف والجنود يتطلعون إليه، فاغري الأفواه ضاحكي الأسارير تلاحق أكفهم ترديده بالتصفيق، وكان أحدهم قد تأثر بما أدركه من بعض معاني الأغنية، فراح يهتف: «أروح بلدي ... أروح بلدي» ... فتشجع كمال بما حظي من سرور سامعيه وأقبل يجود من إنشاده، ويحسن من ترنمه، ويعلي من صوته، حتى ختمت الأغنية بين التصفيق والاستحسان الذي شاركت فيه الأسرة من وراء الخصاص بقلوب ملؤها السرور والإشفاق. أجل شاركت الأسرة في الاستحسان بعد أن شاركت - بقلوبها أيضا - في الغناء، تتبعوه بإشفاق وقلق، دعوا له بالسلامة والإجادة، خافوا عليه الزلل أو النشاز كأنما يغني بالإنابة عنهم جميعا، أو كأنما هم الذين يغنون من حنجرته، وكأن كرامتهم - أفرادا ومجموعة - أمست متعلقة بنجاح الغناء، نسيت أمينة في لجة هذا الشعور مخاوفها، حتى فهمي لم يكن يفكر في أثناء ذلك إلا في الغناء، وما يرجو له من نجاح، فلما انتهى بخير تنهدوا من الأعماق، وودوا أن يبادر كمال إلى العودة قبل أن يطرأ طارئ يفسد عليهم مسك هذا الختام. والظاهر أن الحفلة آذنت بانتهاء فقد قفز كمال إلى الأرض، فسلم على الجنود فردا فردا، ورفع يده محييا، ثم انطلق يعدو صوب البيت، فهرولت الأسرة من المشربية إلى الصالة لتكون في استقباله. أقبل عليها لاهثا مورد الوجه، مبتل الجبين، تنطق عيناه وأساريره وحركات أعضائه المرسلة بلا اتزان أو غاية بالفرح والفوز. أترع قلبه الصغير سعادة غامرة، ما كان بوسعه إلا أن يعلن عنها بكل سبيل، ويدعو الآخرين إلى الاشتراك فيها كالفيضان الزاخر يضيق عنه النهر، فيغمر الحقول والوديان، وكانت نظرة واحدة تلقى بروية كافية لأن تريه مغامرته معكوسة على صفحات الوجوه ... ولكن الفرح أعماه فهتف بهم: عندي خبر لن تصدقوه ولن تتصوروه.
فقهقه ياسين متسائلا في سخرية: أي خبر يا عزيز عيني؟!
كشفت هذه الجملة الغشاوة عن عينيه كأنها نور شعشع فجأة في الظلام، فرأى الوجوه على ضوئها مفصحة ناطقة، بيد أن علمه برؤيتهم لمغامرته عوضه عما ضاع من فرصة إدهاشهم بحديثه العجيب، فأغرق في الضحك وهو يضرب ركبتيه بكفيه، ثم قال وهو يغالب الضحك: أرأيتموني حقا؟!
عند ذاك جاء صوت أم حنفي وهي تقول بنبرات متشكية: كان الأفضل أن يروا تعاستي! ... علام هذا الفرح كله بعد أن سيبت مفاصلي؟ ... حادثة أخرى كهذه والله يرحمني.
لم تكن خلعت ملاءتها كزكيبة فحم منتفخة، يعلو وجهها الشحوب والإعياء، وتلوح في عينيها نظرة استسلام غريبة، فسألتها أمينة: ماذا حدث؟ ... ماذا دعاك إلى الصراخ؟ ... لقد لطف الله بنا فلم نشهد شيئا مفزعا.
فأسندت أم حنفي ظهرها إلى ضلفة الباب، وأخذت تقول: حدث ما لن أنساه يا ستي ... كنا عائدين وإذا بشيطان من هؤلاء الجنود يقفز أمامنا، ويشير إلى سيدي كمال ليذهب إليه، ففزع سيدي وجرى إلى درب قرمز، ولكن جنديا آخر اعترض سبيله، فانحرف إلى بين القصرين وهو يصرخ، فغاص قلبي من الخوف، وجعلت أستغيث بأعلى صوتي، وعيناي لا تفارقانه وهو يجري من جندي إلى جندي حتى أحاطوا به ... كدت أموت من شدة الخوف وزاغ بصري، فلم أعد أرى شيئا، وما أدري إلا والناس قد اجتمعوا حولي، ولكني لم أكف عن الصراخ، حتى قال لي عم حسنين الحلاق: «ربنا يكفيه شر أولاد الحرام. وحدي الله .. إنهم يلاطفونه ...» آه يا ستي لقد حضرنا سيدنا الحسين ودفع عنا الشر.
فقال كمال معترضا: لم أصرخ أبدا.
فضربت أم حنفي صدرها بكفها قائلة: لقد ثقب صراخك أذني حتى جننتني.
فقال بصوت منخفض كالمعتذر: ظننتهم يريدون قتلي، ولكن أحدهم جعل يصفر لي ويربت كتفي، ثم أعطاني (وهنا جس جيبه) شوكولاتة، فذهب عني الخوف ...
زايل أمينة السرور، لعله كان سرورا زائفا متعجلا، الحقيقة التي يجب ألا تغيب عنها هي أن الفزع ركب كمال دقائق، وأنه يجب أن تدعو ربها طويلا كي ينجيه من عواقبه، لم تكن ترى في الفزع مجرد شعور عابر، كلا ... إنه شعور شاذ تكتنفه هالة غامضة تأوي إليها العفاريت، كما تأوي الخفافيش إلى الظلام، فإذا أحاط بشخص - خصوصا الصغار - مسه بضر سيئ العاقبة؛ لذلك فهو يستوجب في نظرها مزيدا من العناية والحيطة، تلاوة من القرآن كانت أم بخورا أم حجابا، قالت بحزن: أفزعوك! قاتلهم الله.
وقرأ ياسين ما يدور في خاطرها ... فقال مداعبا: الشوكولاتة رقية ناجعة للفزع ... (ومخاطبا كمال) هل دار الحديث بالعربي؟
رحب كمال بالسؤال؛ لأنه فتح له مرة أخرى أبواب الخيال والمغامرة، منتشلا إياه من مضايقات الواقع، فقال وقد استعادت أساريره انبساطها: كلموني بعربي غريب! ... ليتك سمعته بنفسك.
وراح يحاكي طريقتهم في الكلام حتى ضحك الجميع، حتى أمه ابتسمت ... فعاد ياسين يسأله وكان يغبطه: ماذا قالوا لك؟ - كلاما كثيرا! ... ما اسمك؟ أين بيتك؟ أتحب الإنجليز؟!
فهمي ساخرا: وبم أجبتهم على هذا السؤال الفريد؟!
فرمق أخاه كالمتردد ... ولكن ياسين أجاب عنه قائلا: طبعا قال إنه يحبهم ... ماذا كنت تريد أن يقول؟
على أن كمال استطرد يقول متحمسا: ولكني قلت لهم أيضا أن يعيدوا سعد باشا.
فلم يتمالك فهمي أن ضحك عاليا ... وسأله: حقا! وماذا قالوا لك؟
فقال كمال مستردا ارتياحه بضحك أخيه: أمسك أحدهم بأذني، وقال لي: «سعد باشا نو ...»
فعاد ياسين يتساءل: وماذا قالوا أيضا؟
فقال كمال ببراءة: سألوني ... ألا يوجد بنات في بيتنا؟
فتبودلت نظرة جدية بينهم لأول مرة منذ قدم كمال، ثم سأله فهمي باهتمام: وماذا قلت لهم؟ - قلت لهم إن أبلة عائشة وأبلة خديجة تزوجتا، ولكنهم لم يفهموا كلامي، فقلت ليس في البيت إلا نينة، فسألوني عن معنى نينة، فقلت!
رمى فهمي أخاه ياسين بنظرة كأنما يقول: «أرأيت كيف أن سوء ظني في محله!» ثم ساخرا: لم يعطوه الشوكولاتة لوجه الله.
فابتسم ياسين ابتسامة باهتة، وغمغم قائلا: ليس ثمة ما يدعو إلى القلق.
وأبى أن يترك هذه السحابة تغشى مجلسهم، فسأل كمال: وكيف دعوك إلى الغناء؟
فقال كمال ضاحكا: في أثناء الحديث انطلق أحدهم يغني بصوت منخفض، فاستأذنتهم في أن أسمعهم صوتي ...
فقهقه ياسين قائلا: يا لك من فتى جريء! ... ألم يعاودك الخوف وأنت بين أرجلهم؟
فقال كمال في مباهاة: أبدا ... (ثم بتأثر) ما أجملهم! ... لم أر أجمل منهم من قبل. عيون زرق ... وشعر من ذهب ... وبشرة ناصعة البياض ... كأنهم أبلة عائشة!
وجرى فجأة إلى حجرة المذاكرة ورفع رأسه إلى صورة لسعد زغلول ثبتت في الجدار إلى جانب صورة الخديو ومصطفى كامل ومحمد فريد ... ثم عاد وهو يقول: إنهم أجمل من سعد باشا كثيرا.
فهز فهمي رأسه كالآسف وقال: يا لك من خائن ...! اشتروك بقطعة من الشوكولاتة ... لست صغيرا ليغفر لك هذا القول، من مدرستك من يستشهد كل يوم، خيبة الله عليك.
وكانت أم حنفي قد أحضرت الموقد والكنجة والفناجين وعلبة البن ... وأخذت أمينة تهيئ القهوة للجلسة التقليدية، عاد كل شيء إلى أصله إلا ياسين فقد عاود التفكير في زوجه الغاضبة، على حين انتحى كمال جانبا وأخرج الشوكولاتة من جيبه، وراح ينزع عنها الغلاف المورد اللامع، بدا أن تعنيف فهمي ضاع في الهواء؛ إذ لم يكن في قلبه وقتذاك إلا الرضا والحب.
60
تعقدت مشكلة ياسين الزوجية، فبلغت درجة من الخطورة لم يتوقعها أحد، وما يدري السيد أحمد إلا ومحمد عفت قادم عليه في الدكان في اليوم التالي لالتجاء زينب إلى بيته. ثم قال قبل أن يسترد يده التي شد عليها السيد بالسلام: يا سيد أحمد ... جئتك برجاء ... يجب أن تطلق زينب اليوم قبل الغد إن أمكن.
بهت السيد، أجل قد ساءه سلوك ياسين أكبر إساءة، ولكنه لم يتصور أن يبعث رجلا فاضلا كالسيد محمد عفت إلى المطالبة بالطلاق، لم يتصور أن تدعو هذه «الهفوات» إلى الطلاق مطلقا، بل لم يجر له على بال أن تجيء المطالبة بالطلاق من ناحية الزوجة أبدا، فخيل إليه أن الدنيا انقلبت رأسا على عقب، وأبى أن يصدق أن محدثه جاد في طلبه، فقال بلهجته اللطيفة التي طالما استأسرت قلوب أصدقائه: ليت الإخوان كانوا معنا ليشهدوا عليك وأنت تقذفني بهذه اللهجة القاسية! ... أصغ إلي ... باسم صداقتنا أمنعك من أن تجري للطلاق ذكرا على لسانك.
ثم تفرس في وجهه ليسبر أثر كلامه فيه، ولكنه وجده متجهما كالحا ينذر بالشر والتصميم، فبدأ يستشعر الخطورة والتشاؤم ... دعاه إلى الجلوس فجلس، وما تزداد صورته إلا ظلاما، وإنه يعرفه حق المعرفة، عنيد شديد المراس إذا ركبه الغضب كفر بالمودة والمجاملة، فتمزقت على سنان حدته أسباب القربى والعطف جميعا، قال السيد: وحد الله ... ولنتحدث في هدوء.
فقال محمد عفت وكأنه يقبس لهجته من نار الغضب الذي توهج به خداه: صداقتنا في حرز، فلندعها جانبا ... ابنك ياسين لا يعاشر، تحققت من هذا بعد أن عرفت كل شيء، كم تصبرت المسكينة! ... حضنت همومها طويلا، أخفت عني كل شيء، ثم بثتها جملة حين تصدع صدرها ... يسهر طول الليل ويعود مع الفجر وهو يتلاطم مع الجدران سكرا، أهانها ولفظها، ثم ماذا كانت عقبى صبرها الطويل؟! أن تضبطه في بيتها مع خادمتها! (وبصق على الأرض) ... جارية سوداء! ... بنتي لم تخلق لهذا ... كلا ورب السموات، أنت أعرف الناس بمنزلتها عندي، كلا ... ورب السموات، لا كنت محمد عفت إذا سكت على هذا.
قصة معادة، ولكن ثمة جديدا صدمه حتى زلزله هو قوله إن ياسين «يعود مع الفجر وهو يتلاطم مع الجدران سكرا!» ... أعرف طريق الحانة أيضا؟! ... متى؟ ... كيف! ... آه ليس في الوقت متسع للتفكير أو الانزعاج، ليخفف انفعاله كله. الساعة تتطلب هدوءا وضبطا للنفس، يجب أن يملك الموقف ليتفادى استفحال الشر ... قال بنبرات أسيفة: إن ما يحزنك يحزنني أضعافا، ومن سوء الحظ أن سوءة من السوءات التي حدثتني عنها لم تتصل لي بعلم أو تجر لي على بال، اللهم إلا الحادثة الأخيرة وقد أدبته عليها تأديبا لا يستبيحه لنفسه أب غيري، ما عسى أن أصنع؟ ... لقد أخذته بالتأديب العنيف منذ كان صبيا، ولكن وراء إرادتنا دنيا وشياطين تهزأ من تصميمنا، وتفسد علينا نوايانا الطيبة.
قال محمد عفت وهو يتحاشى عيني السيد بالنظر إلى المكتب: لم أجئ لأوجه إليك لوما أو أحملك تقصيرا، أنت كأب مثال يحتذى ولا يجارى ... ولكن هذا لن يغير من الحقيقة المحزنة، وهي أن ياسين كان غير ما أردت له أن يكون، وأنه بحالته الراهنة لا يصلح للحياة الزوجية.
فقال السيد في عتاب: رويدك يا سيد محمد!
فقال الرجل مستدركا ولكن مصمما على رأيه: على أي حال لن يصلح زوجا لابنتي، سيجد من تقبله على علاته ولكن غيرها، لم تخلق ابنتي لهذا ... أنت أدرى الناس بمنزلتها عندي.
أدنى السيد رأسه من رأس الرجل، وقال بصوت منخفض ... وكأنما يداري ابتسامة: ليس ياسين بين الأزواج بنادرة، فكم منهم من يسكر ويعربد ويعمل البدع!
فقطب محمد عفت لينفي عن نفسه شبهة الاستجابة لهذا الكلام الموحي بالدعابة ... وقال بجفاء: إن كنت تشير إلى جماعتنا أو إلي أنا خاصة، فالحق أني أسكر وأعربد، وأعشق، ولكني ... بل نحن جميعا، لا نوحل في القاذورات! ... جارية سوداء! ... أهذه التي قضي على ابنتي بأن تتخذها ضرة؟! ... كلا ... كلا ورب السموات ... لن تكون له ولن يكون لها.
أدرك السيد أحمد أن محمد عفت - ربما كابنته سواء بسواء - مستعد لأن يعفو عن أمور كثيرة، إلا أن يخلط ياسين بين كريمته وبين جاريتها السوداء، إنه يعرفه تركيا في عناد البغل، ثم ورد على ذهنه قول صديقه إبراهيم الفار يوم كاشفه بنيته في خطبة زينب لابنه ياسين، فقد قال له: «أصيلة بنت أصيل، محمد أخونا وحبيبنا، ابنته ابنتنا، ولكن هل فكرت رويدا في منزلة الفتاة من نفس أبيها ... هل فكرت في أن محمد عفت لا يتسامح من ذرة غبار إذا مست لها ظفرا؟!» ... لكنه رغم هذا كله تعذر عليه أن يقيس الأمور بغير مقياسه، وكان يفاخر دائما بأن محمد عفت على فظاعة غضبه إذا غضب، لم يحتد عليه ولو مرة واحدة طوال معاشرتهما المديدة! ... قال متسائلا: رويدك، ألا ترى أن مبادئنا واحدة وإن اختلفت التفاصيل؟ جارية سوداء أو عالمة ... أليست كلتاهما امرأة؟!
فانتفخت أوداج محمد عفت وضرب حافة المكتب بقبضته ... وانفجر قائلا: أنت لا تعني ما تقول! الخادمة خادمة والسيدة سيدة، لماذا لا تعشق الخادمات إذن؟! لم يشابه ياسين أباه، إني آسف لكون ابنتي حبلى، كم أكره أن يكون لي حفيد تجري في دمه القذارة!
وخزته الجملة الأخيرة فغضب، ولكنه استطاع أن يغلق قلبه على غضبه بقوة حلمه الذي يحبو به أصدقاءه وأحبابه، حلم بين الأصدقاء لا يعادله في قوته إلا غضبه بين آله ... ثم قال بهدوء: أقترح عليك أن تؤجل الحديث إلى وقت آخر.
فقال محمد عفت محتدا: أرجو أن تحقق رجائي الساعة!
آه ... لقد بلغ به الامتعاض حدا لم يكن الطلاق نفسه معه بالحل المستكره، ولكنه كان يشفق على صداقة العمر من ناحية، وتعز عليه الهزيمة من ناحية أخرى، أليس هو الرجل الذي يتشفع به الناس ليفض الخصومات وليصل ما انقطع من المودات والزيجات؟! ... فكيف تحل به الهزيمة وهو يدافع عن ابنه فيرضى بحكم الطلاق؟! ... أين حلمه؟ ... أين كياسته؟ ... أين لباقته؟ - لقد أصهرت إليك لأوثق أسباب الصداقة بيننا ... فكيف أقبل أن أعرضها للوهن؟
فقال الرجل بإنكار: صداقتنا في حرز! ... لسنا أطفالا، ولكن كرامتي لا يمكن أن تمس.
فقال السيد برقة: ماذا عسى أن يقول الناس عن زيجة انقطعت ولما تتم عامها الأول؟
فقال محمد عفت بعجرفة: لن يرجع عاقل العيب إلى ابنتي.
آه ... مرة أخرى! ... ولكنه تلقاها بنفس الحلم، بدا وكأن استياءه لعجزه عن التوفيق قد غطى استياءه من تهور الرجل الغاضب، فلم يهتم بالرصاص المنطلق عليه اهتمامه بتبرير إخفاقه ... راح يعزي نفسه بأن الطلاق بيده هو وحده، إذا شاء منحه وإذا شاء منعه، محمد عفت يعلم ذلك حق العلم؛ لذلك جاء يستوهبه إياه باسم الصداقة التي لا شفيع له غيرها، فإذا قال لا فلا راد لكلمته، وسترجع الفتاة إلى ابنه طوعا أو كرها ... ولكن تمسي الصداقة القديمة في خبر كان، أما إذا قال نعم فسيقع الطلاق، ولكن تصان الصداقة ويعترف له بالجميل، وليس من العسير أن يتذرع بكل أولئك في المستقبل لوصل ما انقطع، وإذن فالطلاق وإن يكن هزيمة إلا أنه هزيمة مؤقتة تتضمن تسامحا ونبلا غير منكورين، وقد تنقلب فوزا بعد حين. وما إن اطمأن إلى سلامة موقفه ولو بعض الشيء، حتى شعر بالرغبة في معاتبته على ما فرط في حقه ... فقال بلهجة ذات معنى: لن يكون الطلاق إلا بموافقتي ... أليس كذلك؟ ... بيد أنني لن أنبذ رجاءك ما دمت مصرا عليه، إكراما لك، إكراما للصداقة التي لم ترع لها حقا في مخاطبتي.
فتنهد محمد عفت ... إما ارتياحا للنهاية المنشودة أو احتجاجا على عتاب صديقه أو للاثنين معا، ثم قال بلهجة قاطعة خلت من حدة الغضب لأول مرة: قلت ألف مرة إن صداقتنا في حرز! ... إنك لم تسئ إلي قط، على العكس من ذلك فإنك تكرمني بتحقيق رجائي وإن كرهته.
فردد السيد قوله محزونا: نعم ... وإن كرهته.
ثار حنقه حالما غاب الرجل عن ناظريه. انفجر الغيظ المكبوت، فالتهم نفسه ومحمد عفت وياسين، ياسين خاصة، ثم تساءل: ترى هل يمكن أن تبقى الصداقة في حرز حقا فلا يصيبها رشاش الحوادث المتوقعة؟ ... آه، لم يكن ليضن بنفيس في سبيل صون حياته عن مثل هذه الهزة القاسية ... لكنه العناد التركي، لكنه الشيطان، بل لكنه ياسين، أجل ياسين دون غيره ... قال له بغضب وازدراء: كدرت صفو ود لم تكن الأيام لتكدره ولو اجتمعت له.
ثم قال له بعد أن أعاد على مسمعيه حديث محمد عفت : خيبت أملي فيك فحسبي الله ونعم الوكيل، ربيتك وأدبتك ورعيتك ... ثم انجلى تعبي كله عن ماذا؟ ... سكير صعلوك تسول له نفسه الاعتداء على أحقر الخادمات في بيت الزوجية، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما كنت أتصور أن يخرج من حضانتي ابن على هذه الصورة، فالأمر لله من قبل ومن بعد، ما عسى أن أصنع بك؟ ... لو كنت قاصرا لكسرت دماغك، ولكن لتكسرنها الأيام، ها أنت تنال جزاءك الحق، فتتبرأ منك الأسرة الكريمة وتبيعك بأبخس الأثمان!
لعله وجد نحوه بعض الرثاء، بيد أن سخطه غلب، ثم استحال شعوره كله ازدراء، لم يعد يملأ عينيه رغم فتوته وجماله وضخامته، يوحل في القذارة كما قال محمد عفت قاتله الله، ويعجز عن كبح جماح امرأة، ما أصغره، سرعان ما لحقت به الهزيمة التي لم ينج هو نفسه من هوانها من جراء طيشه. ما أحقره، ليسكر ويعربد وليعشق تحت شرط أن يظل السيد المطاع، أما أن ينهزم على تلك الصورة المخزية فما أحقره، لم يشابه أباه كما قال أيضا محمد عفت قاتله الله، إني أفعل ما أشاء ولكني أظل السيد أحمد وكفى، حكمة رائعة تلك التي ألهمتني أن أنشئ الأولاد على مثال فريد للاستقامة والطهارة، فإنه لمما يشق أن ينهجوا نهجي ويحظوا في نفس الوقت بالكرامة والاستقرار، ولكن وا أسفاه ضاع جهدي هباء مع ابن هنية! - وهل وافقت يا أبي؟
تردد صوت ياسين كالحشرجة ... فأجابه بخشونة قائلا: نعم، إبقاء على صداقة قديمة، ولأنه أوفق حل في الوقت الحاضر على الأقل.
جعلت يد ياسين تنقبض وتنبسط في حركة آلية عصبية، كأنما كانت تشفط الدم من وجهه حتى انقلب شديد الشحوب، شعر بهوان لم يشعر بمثله إلا فيما كابد من سلوك أمه، حموه يطالب بالطلاق! ... أو بمعنى آخر زينب تطالب بالطلاق، أو على الأقل توافق عليه! ... أيهما الرجل وأيتهما المرأة؟! ليس عجيبا أن ينبذ الإنسان حذاء أما أن ينبذ حذاء صاحبه! كيف رضي أبوه له بهذا الخزي الذي لم يسمع بمثله من قبل؟! ... حدج أباه بنظرة حادة وإن عكست ما يعتلج في صدره من أنات الاستغاثة، ثم قال بلهجة حرص الحرص كله على أن ينقيها من أي أثر للاحتجاج أو الاعتراض، كأنما يريد بها أن يذكره بما عسى أن يكون أنسب: ثمة طريقة لمعالجة الزوج الناشز.
شعر السيد بشعور ابنه فأدركه التأثر؛ ولذلك لم يبخل عليه ببعض ما يدور في نفسه ... فقال له: أعلم ذلك ... ولكني اخترت أن نكون من الكرماء. محمد عفت عقل تركي حجري، ولكن قلبه من ذهب، هذه الخطوة ليست الأخيرة، ليست النهاية، لم أغفل مصلحتك وإن كنت لا تستأهل خيرا، دعني أتصرف كما أشاء.
كما تشاء! ... من ذا يرد لك مشيئة؟! تزوجني وتطلقني ... تحييني وتميتني، لست هنا، خديجة عائشة فهمي ياسين ... الكل واحد، الكل لا شيء، أنت كل شيء ... كلا ... لكل شيء حد، لم أعد طفلا، رجلا مثلك سواء بسواء، أنا الذي أقرر مصيري، أطلق أو أودعها بيت الطاعة، تراب حذائي بمحمد عفت وزينب وصداقتكما. - ما لك لا تتكلم؟
فقال دون تردد: أمرك يا أبي ...
أي عيشة وأي بيت وأي أب، زجر وتأديب ونصائح، ازجر نفسك ... أدب نفسك ... انصح نفسك، أنسيت زبيدة؟ ... وجليلة؟ ... والغناء والشراب؟ ثم تطالعنا بعمامة شيخ الإسلام وسيف أمير المؤمنين، لم أعد طفلا، اعتن بالقصر ودعني وشأني، تزوج ... أمرك يا افندم ... طلق ... أمرك يا افندم ... ملعون أبوك.
61
خفت حدة المظاهرات شيئا ما في حي الحسين بعد احتلال الجنود الإنجليز له، فأمكن للسيد أحمد أن يستأنف ممارسة عادة قديمة انقطع عنها مضطرا إلى حين، أمكنه أن يصطحب أبناءه إلى مسجد الحسين لتأدية صلاة الجمعة ... عادة قديمة دأب عليها منذ عهد بعيد ... كان يدعو ابنه إليها حالما يبلغ صباه؛ ليوجه قلبه إلى العبادة مبكرا، مستوهبا من ورائها البركة لنفسه ولأبنائه وللأسرة جميعا. ربما كانت أمينة وحدها التي لا ترتاح إلى تحرك القافلة في نهاية كل أسبوع حاملة رجالها، ثلاثة رجال كالجمال طولا وعرضا إلى فتوتهم وإشراقهم، كانت تتبعهم ناظريها من خصاص المشربية، فيخيل إليها أنهم ملتقى الأنظار، فتجزع وتدعو الله أن يقيهم شر العين، وما ملكت يوما أن أفضت بمخاوفها إلى السيد، فبدا وكأنه تأثر لتحذيرها حينا، بيد أنه لم يستسلم للخوف طويلا وقال لها: «إن بركة الفريضة التي نذهب لتأديتها حقيقة بأن تحفظنا من كل شر.»
وكان فهمي يلبي دعوة الجمعة ببشاشة قلب أولع بتأدية الفرائض منذ الصغر، مطيعا في ذلك - قبل إرادة أبيه - عاطفة دينية صادقة. تمتاز إلى صدقها بقدر من الاستنارة لا بأس به، استمده مما اطلع عليه من آراء محمد عبده وتلاميذه ... لذلك كان الوحيد في الأسرة الذي يقف من إيمانها بالتعاويذ والرقى والأحجبة وكرامات الأولياء موقف المتشكك، وإن أبت عليه دماثة خلقه أن يجهر بتشككه أو يعلن استهانته، بل كان يتقبل حجاب الشيخ متولي عبد الصمد الذي يجيء به أبوه بين حين وآخر برضا ظاهري. أما ياسين فكان يلبي دعوة أبيه؛ لأنه لم يكن من تلبيتها بد، لعله لو ترك لشأنه ما فكر يوما في أن يدس جسمه الضخم في زحمة المصلين، لا عن تزعزع في العقيدة، ولكن استهانة وتكاسلا ... لذا كان ليوم الجمعة عنده هم يكابده مع مطلع الصباح، فإن حان وقت الذهاب إلى الجامع ارتدى بدلته في شيء من التذمر، ثم يسير وراء أبيه كالأسير، ولكن كلما اقترب من الجامع خطوة تخفف من تذمره رويدا، حتى يدخل الجامع منشرح الصدر، فيؤدي الصلاة ويدعو الله أن يغفر له ويعفو عن ذنوبه، دون أن يسأله التوبة كأنما يشفق في أعماقه أن يستجاب دعاؤه، فينقلب زاهدا في اللذات التي يحبها حبا لا يرى للحياة بدونه معنى. كان يعلم علم اليقين أن التوبة واجبة، وأن مغفرة لن تكتب له بدونها، ولكنه كان يرجو أن تجيء في الوقت «المناسب» حتى لا يخسر الدارين؛ ولذا كان على تكاسله وتذمره يحمد في النهاية الظروف التي تدفعه إلى تأدية فريضة هامة كفريضة الجمعة يمكن - عند الحساب - أن تمحو بعضا من سيئاته وتخفف من أوزاره، خصوصا وأنه لا يكاد يؤدي غيرها فريضة.
أما كمال فلم توجه إليه الدعوة إلا حديثا، مذ جاوز العاشرة ، فنهض إلى تلبيتها في زهو وخيلاء وفرح، شعر شعورا غامضا بأنها تتضمن اعترافا بشخصه، وأنها تمنحه مساواة من نوع ما مع فهمي وياسين وأبيه نفسه، ثم سره على وجه الخصوص أن يسير في ركاب أبيه آمنا أي دون أن يتوقع من ناحيته شرا، وأن يقف في الجامع إلى جانبه على قدم المساواة مؤتمين جميعا بإمام واحد. بيد أنه كان يستغرق في صلاته اليومية - في البيت - استغراقا لا يظفر بمثله في صلاة الجمعة بالنظر إلى ما يعتريه من ارتباك لقيامه وسط خلق لا يحيط بهم حصر، ولإشفاقه من أن تند عنه هفوة فتلتقطها إحدى حواس أبيه، إلى أن شدة شعوره بالحسين - الذي يحبه أكثر من نفسه - وهو في مسجده كانت تحول بينه وبين التوجه الخالص لله كما ينبغي للمصلي.
هكذا رآهم طريق النحاسين مرة أخرى وهم يحتثون الخطى إلى بيت القاضي، السيد في المقدمة وياسين وفهمي وكمال وراءه صفا، حتى اتخذوا مجالسهم في الجامع، وراحوا ينصتون إلى خطبة الجمعة بين رءوس مشرئبة إلى المنبر في صمت شامل، لم يكن السيد على شدة إنصاته يكف عن الدعاء الباطني، وتوجه قلبه إلى ياسين خاصة، كأنما رآه بعدما لحق به من عثار الحظ أحق بالرحمة، فدعا الله طويلا أن يصلح من شأنه ويقوم ما اعوج من أمره ويعوضه عما فقد خيرا ... على أن الخطبة جبهته بمعاصيه، أخلت ما بينه وبينها، فطالعها وجها لوجه في هالة مرعدة من صوت الواعظ الجهوري الرنان الناقد، حتى خيل إليه أنه يعنيه بالذات، وأنه يشد على أذنه صارخا فيها بأعلى صوته، وأنه لا يستبعد أن يخاطبه باسمه قائلا: «يا أحمد ازدجر ... تطهر من الفسق والخمر وتب إلى الله ربك.» فألم به قلق وضيق كما ألما به يوم ناقشه الشيخ متولي عبد الصمد الحساب، وهو ما يقع له كثيرا عند سماع الخطبة، فيسترسل في طلب الغفران والعفو والرحمة، ولكنه - كابنه ياسين - لم يكن يطلب التوبة، وإن طلبها فبلسانه دون قلبه، يقول بلسانه: «اللهم التوبة» على حين يقتصر قلبه على طلب الغفران والعفو والرحمة كأنهما آلتان موسيقيتان تعزفان معا في أوركسترا واحد، فتصدر عنهما نغمتان مختلفتان؛ لأنه لم يتصور أن يرى الحياة بغير العين التي يراها بها، ولا أن تبدو له بغير الوجه الذي تبدو به، فإذا ألح عليه القلق والضيق المستوليان عليه نهض للدفاع عن نفسه ... ولكنه يلقي دفاعه في صورة دعاء واستغفار فيقول: «اللهم إنك أعلم بقلبي وإيماني وحبي، اللهم زدني استمساكا بتأدية فرائضك، وقدرة على صنع الخير، اللهم إن الحسنة بعشر أمثالها، اللهم إنك أنت الغفور الرحيم» ... وبهذا الدعاء تعاوده الطمأنينة رويدا.
لم تكن لياسين مثل هذه المقدرة على التوفيق، أو أنه لم يشعر قط بحاجة إليها، لم تكن موضع تفكيره يوما، يهيم بالحياة كما يشتهي ويؤمن بالله كما يؤمن بوجوده هو، ثم يستسلم للتيار دون مقاومة أو ممانعة. قرعت أذنيه كلمات الواعظ، فتحرك صوته الباطني سائلا الرحمة والمغفرة بطريقة آلية وفي طمأنينة شاملة، دون أن يستشعر خطورة حقيقية، إن الله أرحم من أن يحرق مسلما مثله بهفوات عابرة لا تؤذي أحدا من عباده، ثم هنالك التوبة! ... ستأتي «يوما» فتمحو ما قبلها، واسترق نظره إلى أبيه وتساءل وهو يعض على شفتيه كأنما يكتم ضحكة نافرة مما عسى أن يدور بخاطره، وهو ينصت بهذا الاهتمام البادي إلى الخطبة؟ ... أهو يعاني العذاب كل صلاة جمعة أم تراه ينافق ويخادع؟ ... كلا ... لا هذا ولا ذاك ... إنه مثله - ياسين - يؤمن برحمة الله الواسعة، لو أن الأمر بالخطورة التي يصفه بها الواعظ لاختار أبوه إحدى السبيلين، استرق إليه نظرة أخرى، فرآه كالجواد الكريم الجميل بين القاعدين المتطلعين إلى المنبر، شعر نحوه بإعجاب وحب خالصين، لم يعد للحنق أثر في نفسه، ومع أن الغضب بلغ به مداه يوم الطلاق، حتى بث همه إلى فهمي قائلا: «لقد خرب أبوك بيتي، وجعلني أضحوكة بين الناس.» إلا أنه تناسى الآن حنقه كما تناسى الطلاق والفضيحة وكل شيء، ثم هذا الواعظ نفسه ليس خيرا من أبيه ... بل هو على وجه اليقين أمعن في الضلال، حدثه عنه مرة أحد الأصحاب في قهوة أحمد عبده فقال: «إنه يؤمن بشيئين ... بالله في السماء وبالغلمان في الأرض، إنه من طراز حساس ترف عينه وهو في الحسين إذا تأوه غلام في القلعة.» بيد أنه لم يحقد عليه لذاك، وعلى العكس وجد فيه كما وجد في أبيه ما يجد الجندي في الخنادق المحفورة في الخطوط الأمامية التي على العدو أن يقتحمها قبل أن يصل إليه.
ثم دعا الداعي إلى الصلاة، فقام الرجال قومة واحدة، وقفوا صفوفا متراصة ملأت صحن الجامع الكبير، صار المسجد أجسادا ونفوسا، ذكر كمال احتشادها مشهد المحمل في النحاسين. واتصلت الأزياء في خطوط طويلة متوازية وحدتها البدل والجبب والجلاليب، ثم انقلب الجمع جسما واحدا تصدر عنه حركة واحدة مستشرفا قبلة واحدة، وترددت التلاوات الهامسة في همهمة شاملة، حتى أذن بالسلام ... عند ذاك انتثر سلك النظام، استردت الحرية أنفاسها، نهض كل لوجهته، منهم من قصد الضريح للزيارة، ومنهم من اتجه نحو الأبواب للخروج، ومنهم من تلبث للحديث أو تريث حتى يخف الزحام ... فاختلطت تياراتهم أيما انتشار، أزفت الساعة السعيدة التي مني كمال بها ... ساعة الزيارة ولثم الجدران وقراءة الفاتحة أصالة عن نفسه وإنابة عن أمه كما وعدها، بدأ يتحرك ببطء في ركاب أبيه ... وما يدري إلا وشاب أزهري يبرز من الزحمة فجأة، فيعترض سبيلهم في حركة عنيفة لافتة للأنظار، ثم بسط ذراعيه لينحي الناس جانبا، ومضى يتقهقر أمامهم وهو يتفحص ياسين بنظرات ثاقبة مريبة وقد عبس وجهه، وتطايرت نذر الغضب من صفحته المكفهرة. عجب السيد له، فجعل يردد بصره بينه وبين ياسين، على حين بدا ياسين أشد عجبا، فراح بدوره يردد بصره بينه وبين أبيه متسائلا، ثم انتبه أناس إلى المشهد فركزوا فيه أنظارهم مترقبين في دهشة واستطلاع، وعند ذاك لم يتمالك السيد أن خاطبه متسائلا في استياء: ما لك يا أخي تنظر إلينا هكذا؟!
فأشار الأزهري إلى ياسين وصاح بصوت كالرعد: جاسوس!
نفذت الكلمة إلى صدر الأسرة كالرصاص، فدار رأسها وحملقت أعينها، وجمدت في أماكنها، على حين جرت التهمة على الألسن ، فرددتها في فزع وحنق، وأخذ الناس يتجمعون حولهم وأذرعهم تشتبك في حذر لتحصرهم في دائرة ما لها من منفذ، وكان السيد أول من ثاب إلى وعيه، ومع أنه لم يفهم شيئا مما يدور حوله ... إلا أنه أدرك خطورة الصمت والانكماش، فهتف بالشاب غاضبا: ماذا تقول يا سيدنا الشيخ؟ ... أي جاسوس تعني؟!
ولكن الشاب لم يأبه للسيد، فأشار مرة أخرى إلى ياسين وصاح: حذار أيها الناس، هذا الشاب الخائن جاسوس من جواسيس الإنجليز، اندس بينكم ليتسقط الأنباء ثم ينقلها إلى سادته المجرمين.
ركب الغضب السيد، فتقدم من الشاب خطوة، وصاح به غير متمالك نفسه: أنت تهرف بما لا تعرف، فإما أن تكون مجرما أو مجنونا. هذا الشاب ابني لا خائن ولا جاسوس، كلنا وطنيون وهذا الحي يعرفنا كما نعرف أنفسنا.
فهز الشيخ منكبيه استهانة، وصاح بصوته الخطابي: جاسوس إنجليزي حقير، رأيته بعيني رأسي مرارا وهو يناجي الإنجليز عند بين القصرين، عندي شهود على ذلك، ولن يجرؤ على تكذيبي ... إني أتحداه ... ليسقط الخائن.
وتجاوبت في أركان الجامع دمدمة غاضبة، تعالى الهتاف هنا وهناك «ليسقط الجاسوس»، وصاح غيرهم «فليؤدب الخائن». ولاحت في أعين القريبين نذر الوعيد تترصد بادرة أو إشارة كي تنقض على الفريسة، لعله لم يؤخر إقدامها إلا منظر السيد المؤثر الذي وقف لصق ابنه كأنما يتلقى عنه ما يتهدده من أذى، ودموع كمال الذي أغرق في الانتحاب، أما ياسين فقد وقف بين السيد وفهمي فاقد الوعي من الاضطراب والوجل، وجعل يقول بصوت متهدج لم يسمعه أحد: لست جاسوسا ... لست جاسوسا ... الله على صدق قولي شهيد.
ولكن الغضب بلغ بالناس مداه، فتجمهروا حول الدائرة المحصورة، وهم يتدافعون بالمناكب، ويتوعدون «الجاسوس» شرا، على أن صوتا من وسط الزحام ارتفع هاتفا: تمهلوا يا سادة ... هذا ياسين أفندي كاتب مدرسة النحاسين ... فانطلقت أصوات كالهدير: مدرسة النحاسين أو الحدادين فليؤدب الخائن.
وكان رجل يشق طريقه بين الأجسام بصعوبة، ولكن بعزم لا يقهر. فما بلغ الصف الأمامي حتى رفع يديه وهو يزعق: «اسمعوا ... اسمعوا.» ولما هدأت الأصوات قليلا قال وهو يومئ إلى السيد أحمد: هذا السيد أحمد عبد الجواد من أهل النحاسين المعروفين ... ولا يمكن أن يضم بيته جاسوسا، فتريثوا حتى تنجلي الحقيقة.
ولكن الأزهري صرخ حانقا: لا شأن لي بالسيد أحمد أو السيد محمد، هذا الشاب جاسوس مهما يكن من أمر أبيه، رأيته يضاحك الجلادين الذين زحموا القبور بأبنائكم.
وما عتم أن صاح أناس لا حصر لهم: ليضرب بالأحذية.
وسرت في المتجمهرين حركة عنيفة، فأقبل متحمسون من كل صوب ملوحين بالأحذية والمراكيب، حتى شعر ياسين بالانهيار واليأس. دارت عيناه فيما حوله فلم تقعا إلا على وجه متحرش يفور بالغضب والبغضاء، والتصق السيد وفهمي بجانب ياسين بحركة غريزية كأنما ليدفعا عنه الأذى أو ليقاسماه إياه، وهما على حال من اليأس والقهر لم تكن دون ما يأخذ بخناقه، على حين انقلب انتحاب كمال صراخا كاد يغطي على أصوات الثائرين. كان الأزهري أول المهاجمين، فرمى بنفسه على ياسين قابضا على بنيقة قميصه، ثم جذبه بعنف لينتزعه من المأوى الذي لاذ به بين أبيه وأخيه، حتى لا تخطئه الأحذية، ولكن ياسين قبض على معصميه مقاوما، ودخل السيد بينهما، ورأى فهمي أباه في الموقف المثير لأول مرة في حياته ... فاستفزه غضب شديد أذهله عما يحدق بهم من خطر، دفع الأزهري في صدره دفعة قوية ردته إلى الوراء، فصاح به متوعدا: حذار أن تتقدم خطوة واحدة!
فصرخ الأزهري، وقد جن جنونه: أدبوهم جميعا.
عند ذاك علا صوت قوي يقول بلهجة آمرة: انتظر يا سيدنا الشيخ ... انتظروا جميعا.
فاتجهت الأنظار إلى الصوت، فإذا بأفندي شاب يبرز من بين الجموع إلى الدائرة المحصورة يتبعه ثلاثة في مثل سنه وزيه، تقدموا في خطوات ثابتة توحي بالثقة والعزم، حتى وقفوا بين الشيخ وبين المتهم وذويه، تهامس كثيرون متسائلين: «بوليس ... بوليس؟» بيد أن التساؤل انقطع حينما مد الأزهري يده إلى يد قائد الجماعة، وشد عليها بحرارة. ثم سأل الأفندي الأزهري بنبرات حاسمة: أين هذا الجاسوس؟
فأشار الشيخ إلى ياسين بازدراء وتقزز، فالتفت الشاب إليه، وثبت عليه عينيه متفحصا إياه بدقة وقسوة، وقبل أن ينبس بكلمة تقدم فهمي خطوة إلى الأمام كأنما ليسترعي انتباهه فلمحه الآخر ... وسرعان ما اتسعت عيناه دهشة وإنكارا، فغمغم قائلا: أنت ...
فابتسم ابتسامة شاحبة، وقال بلهجة لا تخلو من تهكم: هذا الجاسوس أخي!
فالتفت الشاب إلى الأزهري متسائلا: أأنت متأكد مما تقول؟
فبادره فهمي قائلا: ربما صدق في قوله ... إنه رآه يحادث الإنجليز ولكن أساء التفسير أيما إساءة، إن الإنجليز معسكرون أمام بيتنا، وهم يتعرضون لنا في الذهاب والإياب، فنتورط أحيانا في محادثتهم على كره .. هذا كل ما هنالك.
وهم الأزهري بالكلام، ولكن الشاب أسكته بإشارة من يده، ثم خاطب الجمع قائلا وهو يضع يده على منكب فهمي: هذا الشاب من الأصدقاء المجاهدين، كلانا يعمل في لجنة واحدة، فكلامه عندي مصدق ... أخلوا سبيلهم.
لم ينبس أحد بكلمة، انسحب الأزهري بلا تردد ومضى الناس يتفرقون، صافح الشاب فهمي، ثم ذهب يتبعه رفاقه، ربت فهمي على رأس كمال حتى كف عن البكاء، ساد الصمت فأخذ كل يضمد جراحه، انتبه السيد إلى وجوه نفر من معارفه قد أحاطوا به وراحوا يواسونه، ويعتذرون إليه عن الخطأ الكبير الذي وقع فيه الأزهري، ومن ضل به من الناس، ويؤكدون له أنهم لم يألوا جهدا في الدفاع عنه فشكرهم، وإن كان لا يدري متى جاءوا ولا كيف دافعوا عنه، وعدل عن الزيارة لما استحوذ عليه من انفعال، فاتجه صوب الباب مطبق الفم، متجهم الوجه، وتبعه الأبناء في صمت ثقيل.
62
في الطريق استرد أنفاسه، فداخله ارتياح لابتعاده عن الناس الذين شاركوا في «الحادث» ولو بمجرد الرؤية. كره وقتذاك كل شيء وراءه وقذفه باللعنات، لم يكد يرى من الطريق الذي يسير فيه شيئا، فتبادل التحية مرتين مع اثنين من معارفه على نحو مقتضب متكلف لم يعهد فيه من قبل، تركز شعوره في ذاته - ذاته الجريحة - وسرعان ما فار بالغضب ... كان أحب إلي أن تنتهي الحياة من أن أقف ذلك الموقف المزري، كالأسير بين طغمة من اللئام، وهذا المجاور المقمل مدعي الوطنية الجوعان تهجم علي بكل وقاحة. لم يرع لي حرمة سن أو مهابة، لم أخلق لهذا، ليس «أنا» الذي يهان بتلك الكيفية، وبين أبنائي ... لا تعجب ... أبناؤك هم أصل البلوى ... هذا الثور ابن المرة لن يعفيك من متاعبه أبدا. فقس الفضائح في بيتي، وأوقع بيني وبين أعز الأصدقاء، ثم توج عامنا بالطلاق ... لم يكفه هذا كله، كلا. ابن هنية لا بد أن يسامر الإنجليز جهارا كي أدفع أنا الثمن للسفلة المتهجمين، اذهب بهم إليها كي يكمل متحف عشاقها بالإنجليز والأستراليين. - يبدو لي أنني لن أخلص العمر من متاعبك؟
ندت عنه هذه الجملة بحدة، بيد أنه قاوم رغبته في تأديبه؛ لأنه رغم غضبه قدر حاله الذي يرثى لها، رآه ذاهلا شاحبا متوعكا، فلم تطاوعه نفسه في الهجوم عليه، حسبه الآن ما حاق به، ليس وحده الذي يتحفه بالمتاعب، هنالك البطل، ولكن فلنؤجل همه حتى نفيق من متاعب الثور، ثور في البيت، في الحانة ... ثور أمام أم حنفي ونور، أما في المعركة فهو رطل خرع لا فائدة منه ولا عائدة، يا أولاد الكلب! الله يقطع الأولاد والخلف والبيوت، آه ... لماذا تسوقني قدماي إلى البيت؟! ... لم لا أتناول لقمتي بعيدا عن الجو المسموم؟! ستولول هي الأخرى إذا علمت بالخبر، لست في حاجة إلى مزيد من القرف، إلى الدهان ... سأجد حتما صديقا أقص عليه رزيتي، وأشكو إليه همي ... كلا ... لدي متاعب أخرى لا تقبل التأجيل أكثر من هذا. البطل، مصيبة جديدة يجب أن نجد لها علاجا، إلى الغداء المسموم، ولولي ... ولولي ... ولولي ... ملعون أبوك أنت الأخرى.
لم يكد فهمي يغير ملابسه حتى دعي إلى مقابلة والده، فلم يملك ياسين على خموده وكربه إلا أن يغمغم قائلا: جاء دورك ...
فتساءل فهمي متجاهلا المعنى الكامن وراء ملاحظة أخيه: ماذا تعني؟
فضحك ياسين - أجل وسعه أخيرا أن يضحك - وقال: انتهى دور الخونة، وجاء دور المجاهدين!
لشد ما تمنى أن تغيب النعوت التي نعته بها صديقه في الجامع وراء ضجة الثورة وذهول الانفعال، ولكنها لم تغب، ها هو ياسين يرددها، ولا شك أن أباه يدعوه من أجل مناقشتها. تنهد فهمي من الأعماق ثم ذهب. وجد السيد متربعا على الكنبة يعبث بحبات سبحته، وفي عينيه نظرة تنم عن تفكير كئيب، فحياه بأدب جم ووقف على بعد مترين من الكنبة في خضوع وامتثال، ورد الرجل تحيته بحركة خفيفة من رأسه تدل على الضيق أكثر مما تدل على التحية، وكأنما تقول له: «إني أرد تحيتك مرغما كما تقضي اللياقة، ولكن أدبك الزائف هذا لم يعد ينطلي علي.» ثم حدجه بنظرة متجهمة ينبعث منها شعاع الارتباك كأنه مصباح كشاف يفتش عن مختبئ بالظلام، وقال بحزم: دعوتك لأعرف كل شيء، أريد أن أعرف كل شيء، ماذا قصد في لجنة واحدة؟ صارحني بكل شيء دون تردد.
ومع أن فهمي اعتاد في الأسابيع الأخيرة أن يواجه أخطارا شتى، حتى الطلقات النارية ألف أزيزها، إلا أنه لاقى تحقيق أبيه بقلب ما قبل الثورة، ركبته الرهبة وشعر بأنه لا شيء، وتركز تفكيره في تحاشي غضبه ونشدان النجاة، فقال برقة وأدب: الأمر بسيط جدا يا بابا، لعل صديقي بالغ في قوله كي ينتشلنا من ورطتنا.
فقال السيد وقد نفد صبره: الأمر بسيط جدا ... عال ... ولكن أي أمر هو؟ ... لا تخف عني أي شيء.
وكان فهمي يقلب الأمر على مختلف وجوهه في سرعة خاطفة ليختار ما يصح قوله، وتؤمن مغبته ... قال: سماها لجنة وهي لا تعدو أن تكون جماعة من الأصدقاء يتحدثون كلما اجتمعوا في الشئون الوطنية.
فهتف السيد مغيظا محنقا: ألهذا استحققت لقب المجاهد؟!
نطق صوت الرجل بالاستنكار العنيف، كأنما عز عليه أن يحاول ابنه اللعب به .. وارتسم الوعيد في تجعدات عبوسته. فسارع فهمي - دفاعا عن النفس - إلى الاعتراف بشيء ذي بال ليقنع أباه بأنه امتثل لأمره كالمتهم الذي يتطوع بالاعتراف طمعا في الرأفة ... قال فيما يشبه الحياء: يحدث أحيانا أن نقوم بتوزيع بعض النداءات الحاثة على الوطنية ...
فتساءل السيد بانزعاج: المنشورات! ... هل تعني المنشورات؟!
ولكن فهمي هز رأسه سلبا، خاف أن يعترف بهذا الاسم الذي يقرن في البلاغات الرسمية بأقصى العقوبات، وقال بعد أن وجد صيغة مقبولة تخفف من خطورة اعترافه: ليست إلا نداءات تحث على حب الوطن.
ترك الرجل السبحة تسقط من يده إلى حجره، وراح يضرب كفا على كف، ويقول وهو لا يتمالك نفسه من الانزعاج: أنت من موزعي المنشورات! ... أنت!
زاغ بصر السيد من شدة الانزعاج والغضب: موزع منشورات! ... من الأصدقاء المجاهدين! ... كلانا يعمل في لجنة واحدة! ... هل بلغ الطوفان مرقده؟! ... طالما راعه فهمي بأدبه وبره وذكائه، لولا أن الثناء في نظره مفسدة، وأن الفظاظة تهذيب وتقويم لأوسعه ثناء، كيف انجلى هذا كله عن موزع منشورات ... مجاهد ... كلانا يعمل في لجنة واحدة؟! ... إنه لا يحتقر المجاهدين، هو أبعد ما يكون عن ذلك، طالما تابع أنباءهم بحماس، ودعا لهم عقب كل صلاة بالتوفيق، طالما ملأته أخبار الإضراب والتخريب والمعارك أملا وإعجابا، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا صدر عمل من هذه الأعمال عن ابن من أبنائه، كأنهم جنس قام بذاته خارج نطاق التاريخ، هو وحده الذي يرسم لهم الحدود لا الثورة ولا الزمن ولا الناس، الثورة وأعمالها فضائل لا شك فيها ما دامت بعيدة عن بيته ... فإذا طرقت بابه، وإذا تهددت أمنه وسلامه وحياة أبنائه، تغير طعمها ولونها ومغزاها، انقلبت هوسا وجنونا وعقوقا وقلة أدب، فلتشتعل الثورة في الخارج، وليشارك فيها هو بقلبه كله، وليبذل لها ما في وسعه من مال ... وقد فعل، ولكن البيت له وحده دون شريك، ومن تحدثه نفسه - فيه - بالاشتراك في الثورة فهو ثائر عليه هو لا على الإنجليز، إنه يترحم ليل نهار على الشهداء، ويعجب كل الإعجاب بالشجاعة التي يتذرع بها آلهم فيما يروي الرواة، ولكنه لن يسمح لابن من أبنائه بأن ينضم إلى الشهداء، ولا تطيب نفسه بهذه الشجاعة التي يتذرع بها آلهم، فكيف سولت نفس فهمي له بالإقدام على هذه الخطوة الجنونية؟ ... كيف ارتضى - وهو خير أبنائه - أن يعرض نفسه إلى الهلاك المبين؟ ... انزعج الرجل انزعاجا لم يشعر بمثله من قبل، فاق انزعاجه في مأزق الجامع نفسه، فلم يتمالك أن يسأله بصرامة ووعيد كأنه أحد مفتشي البوليس الإنجليزي: ألا تعلم ما جزاء الذي يضبط وهو يوزع منشورات؟!
رغم خطورة الموقف وما يقتضيه من تركيز فكره فيه، أيقظ السؤال ذكرى قريبة اهتزت لها نفسه، ذكرى هذا السؤال نفسه بنصه ومعناه، حينما طرحه عليه الرئيس الأعلى للجنة الطلبة التنفيذية - بين جملة أسئلة أخرى - وهو بصدد اختياره عضوا فيها، ثم ذكر بالتالي كيف أجابه وقتذاك بعزم وحماس: «كلنا فداء للوطن»، وقارن بين الظرفين اللذين ألقي فيهما السؤال الواحد، فاعتراه شعور بالسخرية، بيد أنه أجاب والده برقة وبصوت يوحي بالتهوين: إني أقوم بالتوزيع بين الأصدقاء من الزملاء فقط، ولا شأن لي بالتوزيع العام ... فليس ثمة مخاطرة أو خطر ...
فهتف السيد بغلظة، وكأنه يداري خوفه على ابنه بحدة الغضب: إن الله لا يكتب السلامة لمن يعرض نفسه للهلاك، وقد أمرنا سبحانه بألا نعرض أنفسنا للتهلكة ...
ود الرجل أن يستشهد بالآية التي تترجم هذا المعنى، ولكنه لم يكن يحفظ من القرآن إلا السور القصيرة التي يتلوها في صلواته، فخاف أن يسهو عن لفظ أو يحرفه، فيحمل نفسه وزرا لا يغتفر، فاكتفى بترديد المعنى وكرره حتى بلغ مداه، ولكنه ما يدري إلا وفهمي يقول بلهجته المهذبة: ولكن الله يحث المؤمنين على الجهاد كذلك يا بابا.
ساءل فهمي نفسه فيما بعد متعجبا كيف واتته شجاعته على مجابهة السيد بهذا القول الذي فضح ما داراه من استمساك برأيه! ... لعله احتمى بالقرآن فوقف وراء معنى من معانيه مطمئنا إلى أن أباه سيحجم في تلك الحال عن مهاجمته، وقد بوغت السيد مباغتة شديدة بجرأة ابنه وحجته معا، ولكنه لم يستسلم للغضب؛ لأن الغضب ربما أسكت فهمي ولكنه لن يسكت حجته، فتناسى جرأته إلى حين ريثما يقرع حجته بحجة مثلها من القرآن نفسه، حتى تتم الهداية للابن الضال، وله بعد ذلك أن يعود إلى محاسبته كيفما شاء، وفتح الله عليه فقال: ذاك كان جهادا في سبيل الله.
اعتبر فهمي جواب أبيه قبولا للمناقشة والمحاجة، فتشجع مرة أخرى قائلا: جهادنا في سبيل الله كذلك ، كل جهاد شريف فهو في سبيل الله.
آمن السيد بقوله في قلبه، ولكن هذا الإيمان نفسه وما خلفه من شعور بالضعف أمام محدثه، هو ما جعله يرتد إلى غضبه دون إبطاء ... بيد أنه لم يكن غضبا لكبريائه فحسب، ولكن أيضا لإشفاقه من أن يتمادى الشاب في غيه حتى يودي بنفسه، فكف عن الجدل وتساءل مستنكرا: أحسبتني قد دعوتك لتناقشني!
انتبه فهمي إلى ما تنطوي عليه كلمات أبيه من نذير، فضاعت أحلامه وانعقد لسانه ... أما السيد أحمد فعاد يقول بحدة: لا جهاد في سبيل الله إلا ما أريد به وجه الله وحده - أي الجهاد الديني - لا جدال في هذا! ... والآن أريد أن أعرف ألا يزال أمري مطاعا؟
فبادره الشاب قائلا: بكل تأكيد يا بابا ... - إذن اقطع كل صلة بينك وبين الثورة ... ولو اقتصر دورك على توزيع المنشورات على خاصة أصدقائك!
إن قوة في الوجود لا يمكن أن تحول بينه وبين واجبه الوطني! لن يتراجع مطلقا ولو خطوة واحدة، انتهى زمان ذلك إلى غير رجعة، إن هذه الحياة الحارة الباهرة التي تنبعث من أعماق قلبه وتضيء جوانب نفسه لا يمكن أن تغيض، وهيهات أن يغيضها هو بيده، كل هذا حق لا شك فيه، ولكن لماذا لا يلتمس وسيلة إلى إرضاء أبيه وتحامي غضبه؟! ... إنه لا يستطيع أن يتحداه ولا أن يجهر بمخالفة أمره ... أجل استطاع أن يثور على الإنجليز، وأن يتحدى رصاصهم كل يوم تقريبا، ولكن الإنجليز عدو مخيف وبغيض معا، أما أبوه فرجل مخيف ومحبوب، وهو يعبده بقدر ما يخافه فلن يهون عليه أن يصدمه بعصيان، وثمة إحساس آخر لا سبيل إلى تجاهله هو أن وراء الثورة على الإنجليز مثالية نبيلة، أما وراء التمرد على أبيه فليس إلا الخزي والتعاسة، وماذا يدعو إلى هذا كله؟! ... لماذا لا يعده بالطاعة ثم يفعل ما يشاء؟! ... لم يكن الكذب في هذا البيت بالرذيلة المخزية، ولم يكن في وسع أحد منهم أن يتمتع بالسلامة في ظل الأب دون حماية من الكذب، وهم يجاهرون به فيما بينهم وبين أنفسهم، بل ويتفقون عليه في الموقف الحرج، وهل كان في نية الأم يوم تسللت في غيبة السيد إلى زيارة الحسين أن تعترف بفعلتها؟ وهل كان في وسع ياسين أن يسكر، وهو أن يحب مريم، وكمال أن يتعفرت بين خان جعفر والخرنفش بلا حماية من الكذب؟! ... ليس الكذب مما يتورع عنه أحد منهم، ولو أنهم التزموا الصدق مع أبيهم ما ذاقوا للحياة طعما؛ لهذا كله قال بهدوء: أمرك مطاع يا بابا.
وأعقب هذا التصريح صمت تنفس فيه كلاهما من الراحة، فظن فهمي أن استجوابه قد انتهى بسلام، وظن السيد أحمد أنه انتشل ابنه من الهاوية، وبينما كان فهمي ينتظر أن يؤذن له بالانصراف، قام الأب فجأة واتجه إلى صوان الملابس، ففتحه ودس يده فيه والشاب يراقبه بعينين لا تدركان شيئا، ثم عاد إلى مجلسه حاملا القرآن، ونظر إلى فهمي مليا، ثم مد يده بالكتاب إليه وهو يقول: أقسم لي على هذا الكتاب ...
وتراجع فهمي بحركة عكسية ندت عنه قبل أن يتدبر أمره، كأنما يفر من لسان لهب امتد إليه فجأة، وتسمر في موقفه وهو يحملق في وجه أبيه مرتبكا مذعورا يائسا، فلبث السيد مادا يده بالكتاب، وهو ينظر إليه في غرابة وإنكار، ثم احمر وجهه كأنه يلتهب وانبعث من عينيه بريق مخيف، وتساءل في ذهول وكأنه لا يصدق عينيه: ألا تريد أن تقسم؟!
ولكن لسان فهمي انعقد، فلم ينبس بكلمة ولم يبد حراكا، فتساءل الرجل بصوت هادئ تخللته رعشة متهدجة أنذرت بما يفور تحته من غضب مستعر كما ينذر البرق بقعقعة الرعد: أكنت تكذب علي؟
لم يطرأ على فهمي تغير إلا أنه غض بصره فرارا من عيني أبيه، ووضع السيد الكتاب على الكنبة، ثم انفجر صائحا بصوت مدو خاله فهمي كفوفا تهوي على خديه: أنت تكذب علي يا بن الكلب! ... أنا لا أسمح لمخلوق بأن يضحك على ذقني، ماذا تظن بي وماذا تظن بنفسك! ... أنت حشرة خبيثة مجرمة، بنت كلب خدعت بظاهرها طويلا، لن أنقلب امرأة على آخر الزمن ، سامع؟! لن أنقلب امرأة على آخر الزمن، حيرتموني يا أولاد الكلب وجعلتموني أضحوكة الناس، أنا أسلمك بنفسي إلى البوليس، فاهم؟! بنفسي يا بن الكلب، الكلمة هنا كلمتي أنا، أنا أنا أنا ... (ثم متناولا الكتاب مرة أخرى) أقسم ... آمرك بأن تقسم.
بدا فهمي وكأنه في غيبوبة، كانت عيناه مثبتتين على بعض الصور الغريبة المنقوشة على السجادة الفارسية دون أن تريا شيئا، وكأن تلك النقوش قد انطبعت بإدامة النظر على صفحة عقله، فاستحال شتيتا من الفوضى والخواء، وكلما مرت ثانية أمعن في الصمت واليأس، لم يبق له إلا أن يلوذ بهذه المقاومة السلبية اليائسة، ونهض السيد والكتاب في يده فاقترب خطوة منه، ثم زعق: أتوهمت أنك رجل؟ ... أتوهمت أنك تستطيع أن تفعل ما تشاء؟! ... لو أشاء أضربك حتى أكسر رأسك.
لم يملك فهمي عند ذاك إلا أن يبكي، لا خوفا من التهديد، فما كان يبالي في موقفه وتأثره بأي أذى يصيبه، ولكن تنفيسا عن قهره، وترويحا عن الصراع الناشب في صدره، ثم جعل يعض على شفتيه ليكتم البكاء، ثم اعتراه الخجل لما ركبه من ضعف، بيد أنه وسعه أخيرا أن يتكلم لشدة تأثره من ناحية، ومداراة لخجله من ناحية أخرى، فاسترسل قائلا في ضراعة ورجاء: سامحني يا بابا، أمرك مطاع فوق العين والرأس ولكني لا أستطيع، لا أستطيع، إننا نعمل يدا واحدة فلا أرضى ولا ترضى لي أن أنكص وأتخلف على إخواني، هيهات أن تطيب لي الحياة إن فعلت، ليس ثمة خطر وراء ما نعمل، غيرنا يقوم بأعمال أجل كالاشتراك في المظاهرات، وقد استشهد منهم كثيرون، لست خيرا منهم، إن الجنازات تشيع بالعشرات معا، ولا هتاف فيها إلا للوطن، حتى أهل الضحايا يهتفون ولا يبكون، فما حياتي؟ ... وما حياة أي إنسان؟ ... لا تغضب يا بابا وفكر فيما أقول ... وأكرر على مسمعك بأنه ليس ثمة خطر وراء عملنا السلمي الصغير!
وغلبه الانفعال فلم يعد يستطيع مواجهة أبيه، ففر من الحجرة هاربا. كاد يصطدم وراء الباب بياسين وكمال اللذين وقفا ينصتان، وقد ارتسم على وجهيهما الارتياع.
63
كان ياسين ماضيا إلى قهوة أحمد عبده حينما التقى في بيت القاضي بأحد أقرباء أمه، فأقبل الرجل نحوه باهتمام، ثم صافحه وهو يقول: كنت ذاهبا إلى البيت لمقابلتك .. حدس ياسين وراء كلامه أنباء عن أمه التي أورثته الهموم، فأحس ضيقا وتساءل بفتور: خير إن شاء الله؟
فقال الرجل باهتمام غير عادي: والدتك مريضة، مريضة جدا في الواقع، أصابها المرض منذ شهر أو أكثر، ولكني لم أعلم به إلا في هذا الأسبوع، وقد ظنوه بادئ الأمر حالة عصبية، فسكتوا عنه حتى استفحل، ثم تبين بعد فحص الأطباء أنه ملاريا شديدة.
دهش ياسين للخبر الذي لم يكن يتوقعه، كأنه يتوقع حديثا عن طلاق أو زواج أو شجار وما شاكل ذلك، أما المرض فلم يقع له في حسبان، تساءل وهو لا يكاد يتبين مشاعره من شدة اعتلاجها: وكيف حالها الآن؟
قال الرجل بصراحة لم يخف مغزاها على ياسين: حالها خطيرة! ... امتد العلاج دون أن يبشر بأدنى تقدم، وبالأحرى ازدادت الحال سوءا، وقد أرسلتني إليك كي أصارحك بأنها تشعر بدنو أجلها، وأنها ترجو أن تراك دون تأخير.
ثم بلهجة ذات معنى: يجب أن تذهب إليها بلا تردد، هذه نصيحة ورجاء، والله غفور رحيم.
لعل كلام الرجل لم يخل من مبالغة أراد بها دفعه إلى الذهاب، ولكنه ليس اختلاقا كله، فليذهب ولو بدافع الواجب وحده، ها هو يخترق مرة جديدة منحنى الطريق المفضي إلى الجمالية بين بيت المال وحارة الوطاويط، إلى يمينه عطفة التيه حيث تلبد بائعة الدوم في ذكريات الظلام المرتعشة وإلى الأمام طريق الآلام، سيرى عما قليل دكان الفاكهة، فيغض البصر ويتسلل كاللص الهارب، كلما ظن أنه لن يعود إليه عادت به تعاسته، ما من قوة كانت تستطيع أن تعيده إليها ... إلا الموت! ... الموت! ... ترى هل حمت النهاية حقا؟! ... قلبي يخفق، ألما؟ ... حزنا؟ ... لا أدري إلا أني خائف، إذا ذهبت فلن أعود إلى هذا المكان مرة أخرى ... سيغشى النسيان سالف الذكريات ... ثم ترد إلي البقية الباقية من أملاكي، ولكني خائف ... وحانق على هذه الأفكار الخبيثة، اللهم احفظنا.
حتى إذا حظيت بعيشة أرغد وبال أصفى، فلن ينجو قلبي من الآلام، حين الموت سأودع أما بقلب ابن ... أم وابن أليس كذلك؟ ... لست إلا معذبا، لا وحشا ولا حجرا، بيد أن الموت زائر جديد علي لم أشهد محضره من قبل، وددت لو كانت النهاية بغيره، سنموت جميعا ... حقا؟! يجب ألا أستسلم للخوف، إن أنباء الموت لا تنقطع عنا ليل نهار في هذه الأيام، في شارع الدواوين والمدارس والأزهر، وهنالك في أسيوط كل يوم ضحايا، حتى المسكين الفولي اللبان فقد ابنه أمس، ما عسى أن يصنع أهل الشهداء؟ ... أيقضون العمر بكاء؟ ... إنهم يبكون ثم ينسون وهذا هو الموت، أف ... يخيل إلي أنه ليس ثمة مفر من المتاعب الآن، ورائي في البيت فهمي وعناده وأمامي أمي فما أبغض الحياة! وإذا كان الأمر مكيدة ووجدتها في خير وعافية؟! ... ستدفع الثمن غاليا ... يقينا لتدفعن الثمن ... لست لعبة أو أضحوكة، لن تجد «الابن» إلا حين الموت، ترى ماذا بقي لي من ثروة؟ ... وإذا دخلت البيت ألتقي بذلك «الرجل» هنالك؟ ... لا أدري كيف أقابله ... ستلتقي عينانا في لحظة رهيبة، الويل له، أتجاهله أو أطرده هذا هو الحل، هنالك ألوان من العنف لا تخطر له ببال، ولكن ستجمعنا الجنازة حتما ... وهذا مضحك، تصور أن يسير وراء النعش أقدم الأزواج وأحدثهم وبينهما الابن دامع العينين ... حتم وقتذاك أن تدمع عيناي ... أليس كذلك؟ ... لن يكون في وسعي أن أطرده من الجنازة، فتلاحقني الفضيحة حتى اللحظة الأخيرة ... ثم تدفن، أجل تدفن وينتهي كل شيء، ولكني خائف ومتألم ومحزون، إن الله وملائكته يصلون على ... هذه هي الدكان المجرمة ... وهذا هو ... لن يعرفني، هيهات، إننا نتنكر بالعمر، يا عم ... أمي تقول لك ...
فتحت له الخادم الباب - نفس الخادم التي استقبلته منذ عام فأنكرته - فتطلعت إليه كالمتسائلة لحظة، وسرعان ما غلبت نظرة التساؤل وراء لمعة كأنما تقول له: «آه ... أنت الذي تنتظر»، ثم أفسحت له وهي تومئ إلى حجرة على يمين الداخل قائلة: تفضل يا سيدي ... لا يوجد أحد.
جذبت العبارة الأخيرة انتباهه بقوة، كأنما جاءته جوابا شافيا لبعض حيرته، فأدرك أن أمه أخلت له الطريق. اتجه إلى الحجرة، وتنحنح، ثم دخل، وقعت عيناه على عيني أمه وهما ترفعان إليه من فراش على يسار الداخل، عينين حجبت صفاءهما المعهود غشاوة باهتة، فلاحت نظرتهما الواهنة كأنما تتطلع إليه من بعيد، وبالرغم من ذبولهما وما أوحى به انطفاؤهما من عدم الاكتراث لشيء، فقد ثبتتا على وجهه ثبوت العرفان، وانفرجت شفتاها عن ابتسامة خفيفة وشت بظفر وارتياح وامتنان، لم يكن يبدو منها إلا وجهها؛ إذ اشتملت ببطانية حتى الذقن، وجه أدركه من التغير فوق ما أدرك العينين، جف بعد اكتناز واستطال بعد استدارة وشحب بعد تورد وشف جلده الرقيق عن عظام الفك والوجنتين البارزة، فبدا صورة للرثاء والفناء، وقف ذاهلا منكرا، كأنه لا يصدق أن ثمة قوة في الوجود تجرؤ على هذا العبث القاسي، فقبض قلبه فزعا كأنه يرى الموت نفسه، تخلت عنه كأنما ارتد طفلا وافتقد أباه أيما افتقاد، ثم دفعه تأثر لا يقاوم إلى الفراش، حتى انحنى فوقها مغمغما في نبرات أسيفة: لا بأس عليك ... كيف حالك؟
ملأه شعور صادق بالرحمة غابت في حرارته آلامه المزمنة كما تغيب - في أحوال نادرة - ظاهرة مرضية ميئوس منها، كالشلل، عند هجوم فزع هائل مفاجئ ... كأنه يلقى أم طفولته التي أحبها قبل أن تواريها عن قلبه الآلام، فتشبث - وعيناه مرسلتان إلى الوجه الفاني - بهذا الشعور المستجد الذي رده أعواما طويلة إلى الوراء - إلى ما وراء الألم - كما يتشبث المريض المتهالك بصحوة طارئة يخاف عليها إحساسا باطنيا بوشك الزوال، تشبث به بشدة خليقة برجل يقدر القوى المضادة التي تتهدده، وإن دل تشبثه نفسه على أن آلامه لم تزل تضطرم في أعماق الأعماق منذرة إياه بما يترصده من حزن إذا هو تهاون، فخلط بشعوره الصافي ما يفسده من مشاعر أخرى، وأخرجت المرأة من تحت الغطاء يدا ممصوصة معروقة، اكتست بشرتها الجافة بمزيج من سواد باهت وزرقة، كأنها يد محنطة منذ آلاف السنين، فتناولها بين يديه بتأثر شديد، وعند ذاك سمع صوتها الضعيف المبحوح وهو يجيبه قائلا: كما ترى، صرت خيالا.
فغمغم: ربنا يدركك برحمته، ويردك إلى خير مما كنت.
فندت عن رأسها المعصوب بخمار أبيض حركة دعائية، كأنما تقول: «ربنا يسمع منك»، وأشارت إليه أن يجلس، فجلس على الفراش، ثم استرسلت - بقوة جديدة استمدتها من محضره - تقول: في أول الأمر كانت تنتابني رعشة غريبة، فحسبتها طارئا عصبيا، نصحوني بالطواف ببيوت الله وبالتبخر فزرت الحسين والسيدة، وتبخرت بأنواع شتى من البخور الهندي والسوداني والعربي، ولكن لم تكن الحال تزداد إلا سوءا ... أحيانا كانت تملكني رجفة متواصلة لا تدعني حتى أكون قد أشفيت على الهلاك، وتمر بي أوقات أجد جسمي باردا كالثلج، وأوقات أخرى تمتد النار في جسدي، حتى أصرخ من شدة الحرارة أخيرا صمم س... (أمسكت عن النطق بالفاعل منتبهة في اللحظة الأخيرة إلى الخطأ الذي كانت ستقع فيه). أخيرا استحضرت الطبيب، ولكن لم يتقدم بي العلاج خطوة واحدة نحو الصحة إن لم يكن تأخر خطوات، لم تعد ثمة فائدة ترجى.
فقال ياسين وهو يضغط برقة على راحتها: لا تيئسي من رحمة الله، إن رحمته واسعة.
فافتر ثغرها الممتقع عن ابتسامة ضعيفة وقالت: يسرني أن أسمع هذا، يسرني أن أسمعه منك أنت قبل الناس جميعا، أنت عندي أغلى من الدنيا ومن عليها، صدقت إن رحمة الله واسعة، طالما ساءني الحظ، لا أنكر الهفوات والأخطاء، العصمة لله وحده.
آنس - جزعا - من حديثها ميلا إلى ما يشبه الاعتراف، فانقبض صدره وجفل جفولا حادا من أن تردد على مسمعيه أمورا لا يطيقها، ولو على سبيل الندم والتكفير. فتوترت أعصابه حتى أوشكت أن تبدل حالا بعد حال، قال بتوسل: لا تتعبي نفسك بالكلام.
رفعت إليه عينيها باسمة وهي تقول: مجيئك رد إلي الروح، دعني أقل لك إني لم أقصد في حياتي سوءا بإنسان، كنت أنشد كسائر الخلق راحة البال فيعاندني الحظ العاثر، لم أسئ إلى أحد ولكن كثيرين أساءوا إلي.
شعر بأن رجاءه أن تمضي الساعة بسلام سيخيب ... وأن عاطفته الصافية تعاني أزمة من التنغيص، فقال بلهجة التوسل السالفة: دعي الناس بخيرهم وشرهم، صحتك الآن أهم من أي شيء آخر ... فربتت على يده باستعطاف كأنما تسأله أن يترفق بها، ثم همست: فاتتني أشياء، لم أؤد إلى الله حقه، وددت لو طال عمري حتى أستدرك بعض ما فاتني، بيد أن قلبي كان دائما مفعما بالإيمان والله شهيد.
فقال وكأنه يدفع عن نفسه وعنها معا: القلب هو كل شيء، هو عند الله فوق الصوم والصلاة.
فشدت على يده بامتنان، ثم غيرت مجرى الحديث قائلة بترحاب: وعدت إلي أخيرا، لم أجرؤ على دعوتك حتى انتهى بي المرض إلى ما ترى، داخلني شعور بأنني أودع الحياة، فلم أطق أن أفارقها قبل أن أملأ عيني منك، فأرسلت إليك وبي من الخوف من رفضك أكثر مما بي من خوف الموت نفسه، ولكنك رحمت أمك وأقبلت تودعها، فلك الشكر ودعاء أرجو الله أن يتقبله.
اشتد التأثر ولكنه لم يدر كيف يعبر عن شعوره، تثاقلت الكلمات الحنونة في فيه متعثرة فيما يشبه الحياء أو الغرابة حالما أراد توجيهها إلى المرأة التي ألف مجافاتها ونبذها، بيد أنه وجد في يده أداة تعبير طيعة حساسة، فضغط على راحتها مغمغما: ربنا يكتب لك السلامة.
وجعلت تدور حول المعنى الذي أفصحت عنه جملتها الأخيرة، مرددة نفس الألفاظ تارة أو مستبدلة بها غيرها مما يدل على نفس معناها طورا آخر، وراحت تفصل الحديث بازدراد ريقها بجهد ملحوظ، أو بالصمت القصير ريثما تسترد أنفاسها، مما دعاه مرات إلى أن يرجوها بالكف عن الحديث، ولكنها كانت تبتسم لمقاطعته، ثم تعود إلى مواصلة الحديث، حتى توقفت وقد لاح في وجهها اهتمام طارئ كلما تذكرت شيئا ذا بال ... وقالت: تزوجت؟
فرفع حاجبيه في شيء من الضيق وتورد وجهه، ولكنها أخطأت فهمه، فبادرته كالمعتذرة: لا عتاب ... حقا كنت أود أن أرى عروسك وذريتك، ولكن بحسبي أن تكون سعيدا.
فما ملك أن قال باقتضاب: لست متزوجا، طلقت منذ شهر تقريبا.
لأول مرة لاحت آي الانتباه في عينيها، لو كان في الإمكان أن يلتمعا لالتمعا ... ولكن انبعث منهما شبه ضوء كالضوء الحالم الذي تنضح به ستارة كثيفة، وتمتمت: طلقت يا بني! ما أحزنني!
فابتدرها قائلا: لا تحزني، لست حزينا ولا آسفا (ثم باسما) أخذت الشر وراحت.
ولكنها تساءلت بنفس اللهجة: من الذي اختارها لك ... هو أم هي؟!
فقال بلهجة نمت عن رغبته في قفل باب هذا الحديث: اختارها الله، كل شيء قسمة ونصيب! - أعلم هذا، ولكن من الذي اختارها لك؟ امرأة أبيك؟ - كلا أبي الذي اختارها، ولا غبار على اختياره فهي من أسرة كريمة ... ولكنها القسمة والنصيب كما قلت.
فقالت ببرود: القسمة والنصيب واختيار أبيك ... هذه هي!
ثم بعد وقفة قصيرة: حبلى؟ - نعم.
وهي تتنهد: الله ينكد عيشة أبيك!
تعمد ألا يعقب عليها، كما يمتنع عن حك قرحة تأكله لعلها تسكن ... فشملهما صمت، وأغمضت المرأة عينيها كأنما أنهكها التعب، بيد أنها فتحتهما هنيهة، فابتسمت إليه وهي تسأله بصوت رقيق لا أثر فيه لانفعال: ترى هل يمكن أن تنسى الماضي؟
فغض بصره منتفضا وهو يشعر برغبة في الهرب لا تقاوم، ثم قال برجاء: لا تعودي إلى ذكراه، فليذهب إلى غير رجعة.
لعل قلبه لم يعن ما يقول، ولكن لسانه قال ما ينبغي أن يقال ... أو لعل ذلك القول كان تعبيرا صادقا عن شعوره لحظتذاك، تلك اللحظة التي استغرقه فيها بكليته الموقف المحيط به، ولعل قوله: «فليذهب إلى غير رجعة.» قد وقع من مسمعه - ومن قلبه - موقعا غريبا خلف وراءه قلقا، ولكنه أبى أن يجعله موضوعا لتأمله، فر من ذلك فرارا، وتشبث بعاطفته الصافية التي عقد العزم على التشبت بها من بادئ الأمر. أما أمه فعادت تسأله: وهل تحب أمك كما كنت تحبها في الزمن السعيد؟
فقال وهو يربت على راحتها: أحبها وأدعو لها بالسلامة.
سرعان ما وجد العزاء عن قلقه وجهاده الباطني فيما انطبع على وجهها الذاوي من روح السلام والارتياح العميق، ثم شعر براحتها تضغط على يده كأنما تبثه ما يكنه صدرها من امتنان، وتبادلا نظرة طويلة هادئة باسمة حالمة أشاعت في الحجرة جوا من الطمأنينة والمودة والحزن، لم يعد يبدو منها ما يدل على رغبتها في الحديث، أو لعل الجهد حال بينها وبين هذه الرغبة، ثم تراخت جفونها رويدا حتى انطبقت، جعل ينظر إليها كالمتسائل ولكن لم تند عنه حركة، ثم انفرجت شفتاها قليلا، وانبعث منهما شخير خفيف متقطع. اعتدل في جلسته وهو يتوسم وجهها، ثم أغمض عينيه قليلا ريثما يستحضر صورة الوجه الآخر الذي طالعته به منذ عام، فانقبض صدره، وعاوده شعور الخوف الذي طارده طوال الطريق، ترى هل يتاح له أن يرى ذلك الوجه مرة أخرى؟ وبأي قلب يلقاه إن عاد؟! لا يدري، لا يحب أن يتصور المضمر في علم الغيب، يود أن يقف عقله عن الحركة، وأن يتبع الحوادث لا أن يسبقها، وأحاط به شعور الخوف والقلق، عجبا! لقد ركبته رغبة في الهرب وهو ينصت إلى حديثها حتى خيل إليه أنه ارتاح إلى نومها كل الارتياح، ولكنه ما كاد ينفرد بنفسه حتى هاجمه الخوف ... خوف لم يدرك له سببا فتمنى لو تصحو من سباتها وتعود إلى الحديث، حتام ينتظر ... هبها استغرقت في النوم حتى الصباح! ... لن يسعه أن يبقى طويلا فريسة للخوف والقلق هكذا، يجب أن يضع حدا لآلامه ... غدا أو بعد غد تكون تهنئة أو تعزية ... تهنئة أو تعزية؟! أيهما أحب إلى نفسه؟! يجب أن يقف عن الحركة، تهنئة كانت أم تعزية لا ينبغي أن أسبق الحوادث، غاية ما يمكن قوله لو قدر علينا أن نفترق الآن لافترقنا صديقين، تكون خير نهاية لأسوأ حياة، أما إذا مد الله في عمرها ...
سرح طرفه وهو شارد، فوقع على مرآة الصوان - في الجهة المقابلة - التي عكست صورة الفراش، فرأى جسم أمه مطروحا تحت البطانية كما رأى نفسه يكاد يحجب نصفها الأعلى إلا يدها التي أخرجتها عند استقباله، فحملها برفق وأدخلها تحت الغطاء، ثم ثبته حول عنقها بعناية، عاد ينظر إلى المرآة، فخطر له هذا الخاطر! ربما عكست هذه المرآة غدا فراشا خاليا عاريا! ... ليست حياتها - حياة أي إنسان ... لم لا؟ - بأرسخ دواما من هذه الصور الوهمية! ... فاشتد به شعور الخوف وهمس لنفسه: «يجب أن أضع حدا لآلامي ... يجب أن أذهب.» بيد أن بصره تحرك تاركا المرآة، فالتقى بخوان وضعت عليه نارجيلة التف خرطومها حول عنقها كالثعبان، فثبت عليها في دهشة وإنكار سرعان ما حل مكانهما شعور هائج بالتقزز والغضب، ذلك الرجل! هو بلا ريب صاحب هذه النارجيلة ... تخيله متربعا على الكنبة القائمة بين الفراش والخوان، وقد اندلق على النارجيلة يشهق ويزفر متلذذا، وأمه تروح له على الجمرات ... آه ترى أين هو الآن، في مكان بالبيت أم في الخارج؟ هل رآه من حيث لم يره؟ ... لم يعد يحتمل البقاء مع النارجيلة أكثر مما بقي، فألقى نظرة على وجه أمه التي وجدها مستغرقة في النوم، ثم زايل مجلسه بخفة وسار إلى الباب، ولما التقى بالخادمة في الردهة الخارجية قال لها: ستك نامت، سأعود غدا صباحا.
والتفت إليها مرة أخرى وهو يغادر الباب الخارجي قائلا: غدا صباحا.
كأنما ينبه الرجل نفسه إلى موعد حضوره ليختفي من وجهه، مضى إلى حانة كستاكي رأسا. شرب كعادته، ولكنه لم يطب بالشراب نفسا. أعياه أن يطرد عن قلبه الخوف والقلق. ومع أن أحلام الثروة وراحة البال لم تغب عن ذهنه، إلا أنها لم تستطع أن تمحو عن مخيلته صورة المرض وخواطر الفناء. ولما عاد إلى البيت عند منتصف الليل وجد امرأة أبيه في انتظاره بالدور الأول، فنظر إليها متعجبا، ثم تساءل خافق القلب: أمي؟!
فأحنت أمينة رأسها، وقالت بصوت خافت: جاءنا رسول من قصر الشوق قبل مجيئك بساعة. العمر الطويل لك يا ابني.
64
تطورت العلاقة بين كمال والجنود البريطانيين إلى صداقة متبادلة، وقد حاولت الأسرة أن تتذرع بمأساة ياسين في جامع الحسين لتقنع الغلام بقطع علاقته مع أصدقائه، ولكنه أجابهم بأنه «صغير»، أصغر من أن يتهم بالجاسوسية، ولكي يتفادى من منعهم إياه بالقوة كان يمضي إلى المعسكر رأسا بعد عودته من المدرسة تاركا حقيبة كتبه مع أم حنفي، فلم تكن ثمة وسيلة إلى منعه إلا باستعمال القوة، الأمر الذي لم يروا له موجبا، لا سيما وأنه يمرح في المعسكر تحت أعينهم متقبلا في كل موضع بالترحيب والتكريم، حتى فهمي نفسه أغضى عنه، ولم يكن يجد بأسا في التسلي بمشاهدته وهو يتنقل بين الجنود «كقرد يلهو في غابة من الوحوش». - قولوا لسيدي الكبير.
هكذا اقترحت أم حنفي مرة وهي تشكو تجرؤ الجنود عليها - بسبب الصداقة اللعينة - ومحاكاة بعضهم لمشيتها بطريقة «يستحقون عليها قطع رقبتهم»، ولكن أحدا لم يأخذ اقتراحها مأخذ الجد، لا رحمة بالغلام فحسب، ولكن رحمة بهم هم أنفسهم، خشية أن يجر التحقيق إلى معرفة تسترهم الطويل على هذه الصداقة، فتركوا الغلام وشأنه، ولعلهم لم يخلوا من رجاء في أن يقوم الشعور الطيب المتبادل بين الغلام والجنود حائلا بينهم وبين ما يحتمل أن يتعرضوا له من عبث وأذى في الذهاب والإياب! أسعد ساعات يومه كانت تلك التي يدخل فيها المعسكر، لم يكن جميع الجنود «أصدقاء» بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة، ولكن لم يعد أحد منهم يجهل شخصه، كان يصافح الأصدقاء، ويشد على أيديهم بحرارة على حين يكتفي برفع يده، تحية للآخرين، وربما صادف مجيئه قيام أحد الأصدقاء بنوبة الحراسة، فيقبل الغلام عليه هاشا باشا، وهو يمد يده فما يروعه إلا أن يلقى منه جمودا غريبا مثيرا كأنما يتجاهله، أو كأنما تحول إلى صنم، فلا يدرك أن ليس في الأمر تجاهل أو غضب، إلا من إغراق الآخرين في الضحك. ولم يكن من النادر أن يباغت وهو بين الأصدقاء بصفير الإنذار، هنالك يهرعون إلى الخيام، ثم يعودون بعد قليل وقد ارتدوا ملابسهم وخوذاتهم وحملوا بنادقهم، ويتحرك لوري من موقفه وراء سبيل بين القصرين إلى وسط الطريق، فيمضون إليه ويقفزون إلى داخله حتى يكتظ بهم، بات يدرك من المنظر الذي أمامه أن مظاهرة قامت في جهة ما، وأن الجنود ذاهبون لتفريقها، وأن قتالا سينشب بينهم وبين المتظاهرين، ولكن لم يكن يهمه في تلك الأوقات، إلا أن يتفقد الأصدقاء ببصره، حتى يعثر عليهم في زحمة اللوري، وأن يملأ منهم عينيه كأنما يودعهم، وأن يبسط كفيه واللوري يبتعد بهم صوب النحاسين داعيا لهم بالسلامة ثم تاليا الفاتحة! ... على أنه لم يكن يقضي في المعسكر أكثر من نصف ساعة كل أصيل وهو أقصى ما وسعه أن يتغيبه عن البيت عقب عودته من المدرسة، نصف ساعة لم تكد تغفو فيها حاسة من حواسه دقيقة واحدة، يدور حول الخيام، يسير بين اللوريات مستطلعا قطعها قطعة قطعة، يقف حيال أهرام البنادق طويلا متفحصا أجزاءها جزءا جزءا، خاصة فوهة الماسورة التي يكمن فيها الموت ... يقف على بعد لا يسمح له بتجاوزه ونفسه ذاهبة حسرات على اللعب بها، أو على الأقل لمسها، ولما كانت زيارته توافق ميعاد الشاي فكان يمضي مع أصدقائه إلى المطبخ القائم عند مدخل درب قرمز، ويأخذ مكانه في نهاية طابور «الشاي» كما يدعونه، ثم يعود وراءهم حاملا قدح شاي باللبن وقطعة من الشوكولاتة، فيجلسون على سور السبيل يحتسون شرابهم، وينشد الجنود أغاني جماعية وهو ينصت لهم باهتمام منتظرا دوره في الغناء. تركت حياة المعسكر في نفسه أثرا عميقا بث في خياله وأحلامه يقظة شاملة، أثرا نقش على صفحة قلبه إلى جانب الآثار التي نقشتها حكايات أمينة عن عالم الغيب والأساطير، وقصص ياسين الذي جذب روحه إلى دنياها الساحرة، والأطياف والرؤى التي تتخايل له في أحلام اليقظة وراء أغصان الياسمين واللبلاب وأصص الزهور - فوق السطح - عن حياة النمل والعصافير والدجاج. من ثم أنشأ عند سور السطح الملاصق لسطح بيت مريم معسكرا كامل العدة والعدد، أقام خيامه بالمناديل والأقلام، وأسلحته بعيدان الخشب، ولورياته من القباقيب وجنوده من نوى التمر. وعلى كثب من المعسكر مثل المتظاهرين بالحصى. يبدأ التمثيل عادة بنشر النوى جماعات بعضها في الخيام، وعند مداخلها وبعضها حول البنادق غير أربع بينها حصاة (تمثله هو) ينتحون جانبا، يأخذ في محاكاة الغناء الإنجليزي، ثم يجيء دور الحصاة لتغني «زوروني كل سنة مرة» أو «يا عزيز عيني»، ينتقل إلى الحصى فينضده صفوفا ويهتف: «يحيا الوطن ... تسقط الحماية ... يحيا سعد.» يعود إلى المعسكر مصفرا، فتنتظم النوى صفوفا كذلك، وعلى رأس كل صف تمرة، ثم يدفع قبقابا وهو ينفخ محاكيا أزيز اللوري، ويضع النوى على سطح القبقاب، ثم يدفعه مرة أخرى صوب الحصى، فتنشب المعركة وتسقط الضحايا من الجانبين! ... ولم يكن يسمح لعواطفه الشخصية بأن تؤثر في سير المعركة، على الأقل في بدئها ووسطها، كانت تتحكم فيه رغبة واحدة، هي أن يجعلها معركة «صادقة مشوقة» يتنازعها الدفع والجذب من الجانبين، وتتعادل الإصابات، فتظل النتيجة مجهولة والاحتمال متأرجحا بين الطرفين على أن المعركة لا تلبث طويلا حتى تستوجب نهاية تنتهي إليها، هنالك يجد نفسه في موقف حائر، أي جانب ينتصر؟ ... في جانب أصدقاؤه الأربعة، وعلى رأسهم جوليون، وفى الجانب الآخر مصريون يخفق معهم قلب فهمي! ... في اللحظة الأخيرة يقرر النصر للمتظاهرين، فينسحب اللوري بقلة من الجنود بينهم الأصدقاء الأربعة، وإن كان قد ختم المعركة مرة بصلح شريف احتفل به المتحاربون من الطرفين بالغناء حول مائدة حفلت بأقداح الشاي، ومختلف ألوان الحلوى! ... وكان جوليون أعز أصدقائه، امتاز إلى جماله بدماثة الخلق، فضلا عن براعته النسبية في التكلم بالعربية، وهو الذي جعل دعوته إلى الشاي حقا ثانيا كما بدا أشد الجنود تأثرا بغنائه، حتى كان يدعوه كل يوم تقريبا إلى غناء «يا عزيز عيني» فيتابعه باهتمام ثم يغمغم في تشوق وحنين: أروح بلدي ... أروح بلدي!
وآنس كمال منه هذه الروح، فازداد له ألفة واطمئنانا، حتى قال له مرة جادا وكأنما يدله على مخرج من كربه: أرجعوا سعد باشا وعودوا إلى بلادكم!
ولكن جوليون لم يلق اقتراحه بالارتياح الذي كان ينتظر، وعلى العكس طلب إليه - كما فعل من قبل في ظرف مشابه - ألا يعود إلى ذكر سعد باشا قائلا: «سعد باشا ... نو»، وهكذا فشل - على حد تعبير ياسين - أول مفاوض مصري! ... ما يدري يوما إلا وأحد «الأصدقاء» يقدم له صورة كاريكاتورية رسمها له، فنظر كمال إليها بدهشة وانزعاج وهو يقول لنفسه «صورتي؟! ليست هذه صورتي!» ولكنه شعر في قرارة نفسه بأنها صورته دون غيره ولو على وجه ما، ثم رفع عينيه للواقفين، فألفاهم يضحكون، فأدرك أنها نوع من المزاح، وأن عليه أن يتقبله بسرور، فجاراهم في ضحكهم مداريا بالضحك خجله، ولما اطلع عليها فهمي تفرس هذا فيها بدهشة، ثم قال: رباه ... لم تترك عيبا إلا أبرزته! ... الجسم النحيف الصغير، الرقبة الطويلة الهزيلة، الأنف الكبير، الرأس الضخم، العينان الصغيرتان ... ثم ضاحكا: الشيء الوحيد الذي يبدو أن «صديقك» يضمر نحوه إعجابا هو بدلتك الأنيقة المهندمة، ولا فضل لك في ذلك، وإنما الفضل لنينة التي لا تترك شيئا في البيت إلا هندمته!
ورمى إليه بطرف شامت، ثم قال: بان السر الذي حببك إليهم! ... إنهم يتسلون بالضحك على شكلك وأناقتك المفرطة، يعني بالعربي لست إلا «قره جوز» في نظرهم ... ماذا كسبت من وراء خيانتك؟! ولكن كلام فهمي لم يحدث أثرا؛ لأن الغلام كان يدرك مدى عداوته للإنجليز، فظنها مناورة يراد بها التفرقة بينه وبينهم! ... وجاء يوما المعسكر كعادته، فرأى جوليون عند أقصى جدار السبيل يتطلع باهتمام إلى العطفة التي يفتح عليها بيت المرحوم السيد محمد رضوان، فمضى نحوه، ولكنه رآه يلوح بيده محدثا إشارات غامضة لم يفقه لها معنى، بيد أنه توقف عن التقدم ملبيا إحساسا غريزيا خفي عنه معناه، ثم أغراه حب الاستطلاع بأن يدور حول الخيام المنصوبة أمام واجهة السبيل متسللا إلى ما وراء جوليون، وأن يمد بصره إلى الهدف الذي يتطلع إليه، هنالك رأى كوة في جناح بيت آل رضوان الذي يسد العطفة القصيرة يلوح منها وجه مريم واضحا باسما مستجيبا! وقف يردد النظر بين الجندي وبين الفتاة في ذهول كأنما يأبى أن يصدق عينيه، كيف اقترفت مريم الظهور في الكوة؟! ... كيف تصدت لجوليون على هذا النحو الفاضح؟! هو يلوح بيديه وهي تبتسم! ... أجل ها هي الابتسامة لا تزال مطبوعة على شفتيها! ... وها هما عيناها يستغرقهما النظر إليه، حتى إنها لم تفطن بعد إلى وجوده هو! وندت عنه حركة لفتت إليه جوليون، فما كاد يطلع على موقفه، حتى أغرق في الضحك وهو يرطن، على حين تراجعت مريم بسرعة خاطفة في ذعر بين. راح يتطلع إلى الجندي في ذهول وقد زاده فرار مريم ريبة على ريبة، وإن بدا له الأمر كله غموضا في غموض، سأله جوليون متوددا: تعرفها؟
فأحنى رأسه بالإيجاب ولم ينبس. غاب جوليون دقائق، ثم عاد حاملا لفافة كبيرة قدمها إلى كمال قائلا وهو يشير إلى بيت مريم: اذهب بها إليها.
ولكن كمال تراجع جافلا وهو يهز رأسه يمنة ويسرة في عناد. لم تبرح تلك الحادثة مخيلته، ومع أنه شعر بخطورتها من بادئ الأمر، إلا أنه لم يدرك مدى الخطورة على حقيقتها إلا حين قص القصة في مجلس القهوة مساء. استوت أمينة في جلستها وهي تتباعد، وقد ظل فنجان القهوة معلقا بين أصبعيها لا هي تقربه من فيها، ولا هي تضعه على الصينية، على حين غادر فهمي وياسين الكنبة المواجهة لمجلس الأم مهرولين إلى الكنبة التي تجلس عليها هي وكمال، وجعلا يحدقان إليه باهتمام ودهش وانزعاج فاق كل ما توقع. قالت أمينة وهي تزدرد ريقها: أرأيت هذا حقا! ... ألم تخدعك عيناك؟!
وتأفف فهمي: مريم؟! مريم؟! أمتأكد أنت مما تقول؟!
وتساءل ياسين: أكان يشير إليها وكانت تبتسم إليه؟! ... أرأيتها تبتسم حقا؟!
وأعادت أمينة الفنجان إلى الصينية، فأسندت رأسها إلى راحتها قائلة بلهجة تنم عن الوعيد: كمال! الكذب في مثل هذا الأمر جريمة لا يغفرها الله ... راجع نفسك يا ابني ... ألم تعد الحق في شيء؟!
وحلف كمال بأغلظ الأيمان، فقال فهمي بيأس ومرارة: إنه لا يكذب، ليس في وسع عاقل أن يتهمه بالكذب فيما قال، ألا تدركون أن اختراع مثل هذه القصة هو أبعد ما يكون عن تصور واحد في سنه؟!
فتساءلت الأم بصوت حزين: وكيف يسعني أن أصدقه!
فقال فهمي وكأنه يحدث نفسه: أجل كيف يمكن تصديقه! ... (ثم بصوت حاد) ولكنه وقع ... وقع!
وقعت الكلمة الأخيرة من نفسه موقع الخنجر، كررها وكأنما يكرر الطعن متعمدا، حقا شغلته عن مريم الشواغل، فلم تعد ذكراها تلوح إلا في حاشية أحلام يقظته، ولكن الطعنة التي أصابت سمعتها نفذت إليها خلال قلبه. إنه ذاهل ... ذاهل ... ذاهل، لا يدري إن كان نسي أم لم ينس، يحب أم يكره، يغضب للكرامة أم للغيرة ... ورقة شجر جافة في مهب زوبعة متناوحة. - كيف يسعني أن أصدقه؟ ... طالما كانت ثقتي في مريم كثقتي في خديجة أو عائشة، أمها من الفضليات، أبوها طيب الله ثراه كان من الأكرمين ... جيران العمر ونعم الجيران.
قال ياسين - الذي بدا طول الوقت مستغرقا بالتفكير - بلهجة لم تخل من سخرية: علام تعجبون؟ ... منذ القدم والله يخلق من صلب الأبرار أشرارا. فقالت أمينة محتجة كأنما تأبى أن تصدق أنها خدعت طوال ذلك الدهر: يشهد الله أني لم ألاحظ عليها ما يسوء قط.
فقال ياسين بحذر: ولا أحد منا، حتى خديجة العيابة الكبرى، بل خدع بها من هو أفطن منك ومني!
فهتف فهمي متألما: من أين لي أن أطلع على الغيب؟! إنه أمر يشق تصوره.
وحنق على ياسين لدرجة الغليان، ثم بدا له الخلق جميعا بغضاء، الإنجليز والمصريون على السواء ... الرجال والنساء - والنساء خاصة - إنه يختنق ... هفت نفسه إلى الاختفاء ليتنشق في وحدته نسمة راحة، بيد أنه لم يبرح مكانه كأنما شد إليه بحبال غلاظ.
اتجه ياسين إلى كمال متسائلا: متى رأتك؟ - عندما التفت إلي جوليون. - ثم فرت من النافذة؟ - نعم. - هل رأت أنك رأيتها؟ - التقت عينانا لحظة.
ياسين ساخرا: مسكينة! ... إنها دون شك تتخيل الآن مجلسنا هذا وحديثنا ذا الشجون! - إنجليزي!
هتف فهمي وهو يضرب كفا على كف: بنت السيد محمد رضوان!
فغمغمت أمينة متنهدة، وهي تهز رأسها عجبا.
فقال ياسين متفكرا: مغازلة إنجليزي ليست بالمسألة الهينة على فتاة، هذه درجة من الفساد لا يمكن أن تظهر طفرة ...
فسأله فهمي: ماذا تعني؟ - أعني أنه لا بد أن تسبقها درجات من الفساد!
فقالت أمينة برجاء: أستحلفكم بالله أن تمسكوا عن هذا الحديث.
فواصل ياسين حديثه، كأنه لم يسمع رجاءها، قائلا: مريم بنت سيدة لها في التبرج فنون بشهادتكن أنت وخديجة وعائشة!
فهتفت أمينة بصوت ملؤه العتاب والزجر: ياسين!
فقال ياسين كالمتراجع: أريد أن أقول إننا أسرة تعيش في حق مغلق لا تكاد تعلم شيئا عما يدور حولها، قصارى جهدنا أن نتصور الناس على مثالنا، اختلطت بنا مريم أعواما طوالا، ولكننا لم نعرفها على حقيقتها، حتى كشفها لنا آخر من ينشد عنده كشف الحقائق!
وربت على رأس كمال ضاحكا، ولكن أمينة عادت تقول بتوسل حار: أستحلفكم بالله أن تغيروا مجرى الحديث.
ابتسم ياسين ولم ينبس، فأطبق الصمت. لم يعد فهمي يتحمل البقاء بينهم، فاستجاب إلى الصوت الباطني الذي يستصرخه ملهوفا على الفرار ... بعيدا عن الأنظار والأسماع، هنالك يستطيع أن يخلو إلى نفسه، أن يعيد إليها الحديث من ألفه إلى يائه، كلمة كلمة، عبارة عبارة، جملة جملة؛ ليفهمه ويتفهمه، ثم ينظر أين يكون موضعه.
65
كان الليل قد جاوز منتصفه عندما غادر السيد أحمد عبد الجواد بيت أم مريم متلفعا بظلمة العطفة المسدودة. بدا الحي كله - كما أمسى يبدو مع الهزيع الأول من الليل مذ عسكر الإنجليز فيه - غارقا في النوم متدثرا بالظلام، لا مقهى يسمر، ولا بائع يسرح، ولا دكان يسهر، ولا مار يدب، فلم يكن فيه أثر للحياة أو النور إلا ما انبعث من المعسكر، ومع أن أحدا من الجنود لم يتعرض له بسوء في الذهاب أو الإياب، إلا أنه لم يكن يخلو قط في قلق وتوجس كلما اقترب من المعسكر في طريقه إلى البيت، خاصة وأنه يعود - آخر الليل - على حال من الإعياء والاسترخاء والذهول، يشق معها مجرد التفكير في السير الآمن المطمئن، انحدر إلى طريق النحاسين، ثم انعطف يمنة متجها إلى البيت وهو يختلس النظر إلى الديدبان، حتى دخل أشد مناطق الطريق خطورة ... تلك التي ينتشر فيها النور المنبعث من قلب المعسكر، هنالك عاوده الإحساس الذي يخامره كلما دخلها، وهو أنه هدف يسير لأي صائد، فحث خطاه ليخرج منها إلى الظلام المفضي إلى مدخل بيته، ولكنه ما كاد يخطو خطوة، حتى صك أذنيه صوت أجش غليظ، يزعق وراءه راطنا، فأدرك على جهله رطانته - من عنف اللهجة واقتضابها - أنه رماه بأمر لا يقبل المناقشة، فتوقف عن السير، والتفت وراءه مرتاعا فرأى جنديا - غير الديدبان - يتجه نحوه بقوة شاكي السلاح، ماذا جد حتى دعا إلى هذه المعاملة؟ ... أيكون الرجل ثملا؟ أم لعله أذعن لنزوة اعتداء طارئة؟ أم هو يبتغي السلب والنهب؟ جعل يرقب اقترابه بقلب خافق وحلق جاف، وقد طار الخمار من رأسه. وقف الجندي على بعد خطوة منه ثم وجه إليه بلهجة آمرة كلاما سريعا قصيرا - لم يفهم منه بطبيعة الحال كلمة واحدة - وهو يشير بيده الخالية صوب شارع بين القصرين، فحملق السيد في وجهه بيأس واستعطاف، وهو يعاني مرارة العجز عن التفاهم معه كي يقنعه ببراءته مما يتهمه به، أو كي يعرف على الأقل ما يريد، ثم خطر له أنه قصد بإشارته إلى بين القصرين أن يأمره بالابتعاد ظنا منه أنه غريب، فراح يشير إلى بيته بدوره ليفهمه أنه من سكانه، وأنه عائد إليه، ولكن الجندي تجاهل حركته وهو يدمدم، ثم أصر على إشارته وهو يهز رأسه في نفس الاتجاه، كأنما يحثه على الذهاب، ثم بدا أنه ضاق به فقبض على منكبه وأداره بقوة، فدفعه في ظهره، فوجد السيد نفسه يتحرك متجها نحو بين القصرين والآخر وراءه، فاستسلم - ومفاصله تكاد تسيب - إلى المقادير، جاوز في مسيره المجهول المعسكر، ثم سبيل بين القصرين، وهناك اختفى آخر أثر للضوء المنبعث من المعسكر، فخاض أمواج الظلام الدامس والصمت الثقيل، لا منظر يرى إلا أشباح البيوت، ولا صوت يسمع إلا وقع القدمين الغليظتين اللتين تتبعانه في نظام ميكانيكي كأنهما يعدان الدقائق الباقية له في الحياة، ولعلها ثوان، أجل كان يتوقع في أية لحظة أن ينقض عليه بخبطة تهوي به إلى النهاية، فمضى يترقبها بعينين محملقتين في الظلام، وفم مطبق من الجزع، وحرقوة تتحرك حركة عصبية من آن لآن كلما ازدرد ريقه الجاف الملتهب، حتى بوغت بوميض يجذب بصره إلى أسفل، فكاد يصرخ كالأطفال من الهلع، وقد تهاوى قلبه ولكنه تبينه دائرة من الضوء تذهب وتجيء، فأدرك أنها شعاع من بطارية أضاءها سائقه ليتعرف على طريقه خلال الظلمات. استرد أنفاسه بعد أن تخفف من الذعر المباغت، ولكنه لم يستشعر نسمة راحة حتى تلقفه خوفه الأول، خوف الموت الذي يساق إليه، فعاد يترقب حتفه بين لحظة وأخرى، كأنه غريق توهم في تخبطه أنه يرى تمساحا يتوثب لمهاجمته، ثم تبين له أن ما رأى أعشاب طافية، ولكن فرحته للنجاة من الخطر الوهمي لم تكد تتنفس حتى اختنقت تحت ضغط الخطر الحقيقي المحيط به، إلى أين يسوقه؟ لو يستطيع أن يراطنه فيسأله! يبدو أنه سيواصل سوقه حتى يدفع به إلى قرافة باب النصر، لا أثر لإنسان ولا لحيوان، أين الغفير؟ وحيد تحت رحمة من لا يرحم، متى كان مثل هذا العذاب ... هل يذكر؟ الكابوس ... أجل إنه الكابوس. كابده أكثر من مرة خلال نوم مريض، إن ظلمة الكابوس نفسها لا تخلو أحيانا من بارقة أمل قد يشرق بنفس النائم إحساس حنون بأن ما يعانيه حلم لا حقيقة، وبأنه سينجو من شره الآن أو بعد حين، هيهات أن يجود الدهر بمثل ذلك الأمل، إنه صاح لا نائم، وهذا الجندي الشاكي السلاح حقيقة لا خيال، وهذا الطريق الذي يشهد ذله وأسره شيء ملموس مخيف لا وهم، عذابه حقيقة لا سبيل إلى الشك فيها، إن أقل حركة ممانعة تند عنه خليقة بأن تطيح رأسه ... لا سبيل إلى الشك في هذا أيضا. قالت له أم مريم وهي تودعه: «إلى الغد» الغد؟! هل يطلع ذلك الغد؟! سل القدمين الثقيلتين اللتين ترجان الأرض وراء ظهرك ... سل البندقية ذات السونكي الحاد المدبب، قالت له أيضا وهي تمازحه: «تكاد رائحة الخمر المتطايرة من فيك أن تسكرني.» الآن طارت الخمر وطار عقله، ولت ساعة الصبوة، منذ دقائق معدودة ... كانت الصبوة كل شيء في الحياة. الآن العذاب هو كل شيء ... وليس بين هذا وذاك إلا دقائق معدودة، دقائق معدودة؟! ... عندما بلغ منعطف الخرنفش جذب عينيه شعاع يومض في الظلام، فلحظ الطريق، فرأى بطارية تتحرك في يد جندي آخر يسوق بين يديه أشباحا لم يتبين عددهم! ... تساءل ترى هل صدرت إلى الجنود أوامر بالقبض على من يصادفون من الرجال ليلا؟! ... وإلى أين يسوقونهم؟ ... وأي عقاب سيقضون به عليهم؟ تساءل طويلا وهو من الدهش والانزعاج في نهاية، بيد أن رؤيته للضحايا الجدد أدخلت على قلبه شيئا من العزاء والارتياح، لم يعد على الأقل وحيدا كما كان يظن، وجد في بلواه أندادا يؤنسون وحشته ويشاركونه المصير، كان يتقدم قافلتهم بمسافة قصيرة، فراح ينصت إلى وقع أقدامهم مستأنسا إليها كما يستأنس الضال في مفازة إلى أصوات آدمية ترامت إليه مع الريح، ولم تكن أمنية أعز على نفسه آنئذ من أن يلحقوا به لينضم إلى جماعتهم، سواء كانوا معارف أو غرباء، لتخفق قلوبهم معا وهم يحثون الخطى نحو المصير المجهول. هؤلاء الرجال أبرياء وهو بريء ففيم القبض عليهم؟ فيم القبض عليه هو مثلا؟ لا هو من الثوار ولا من المشتغلين بالسياسة، ولا حتى من الشبان فهل يطلعون على الأفئدة ويحاسبون على المشاعر؟ ... أو تراهم يعتقلون أفراد الشعب بعد أن فرغوا من اعتقال الزعماء! لو كان يعرف الإنجليزية فيسأل آسره؟ ... أين فهمي ليحادثه نيابة عنه؟ ... وخزه الألم والحنين، أين فهمي وياسين وكمال وخديجة وعائشة وأمهم؟ هل يمكن أن تتصور أسرته ما آل إليه حاله من هوان، وهي التي لم تره إلا جبارا عزيزا جليلا؟ هل تتصور أن جنديا دفعه بعنف، حتى أوشك أن يطرحه أرضا وأن يسوقه كما تساق السائمة؟ وجد لذكر آله ألما وحنينا، فكادت تدمع عيناه. كان يمر في طريقه بأشباح بيوت ودكاكين يعرف أصحابها، ومقاه كان يوما - خاصة عهد الصبا والشباب - من سمارها، فأحزنه أن يمضي بها أسيرا دون أن تنهض لنجدته، أو حتى ترثي لحاله، شعر حقا بأن أحزن صنوف الهوان ما حاق به في حيه، ثم رفع عينيه إلى السماء باعثا بفكره إلى الله المطلع على قلبه، بعث إليه بفكره دون أن يجري له ذكرا على لسانه، ولو همسا مستحييا من أن ينطق باسمه، وجسمه لم يتطهر من أنفاس الشراب وعرق الغرام، وما لبث أن تضاعف خوفه من أن يباعد دنسه بينه وبين النجاة، أو أن يلقى مصيرا كفاء لما سلف من استهتاره، فغشي صدره تطير وكآبة، وأشفى على اليأس، حينما شارف سوق الليمون ترامى إلى الصمت الذي لا يؤنسه إلا وقع أقدام أصوات مبهمة، فأرهف محملقا في الظلام - وهو يتقدم بين الخوف والرجاء - فتناهت إلى أذنيه لجة لم يدر إن كان مصدرها إنسان أو حيوان، غير أنه تبين بعد قليل لغطا، فلم يتمالك أن قال لنفسه في لهفة: «أصوات آدمية!» ومال مع الطريق، فلاحت لعينيه أضواء متحركة حسبها بادئ الأمر بطاريات جديدة، ولكنها وضحت مشاعل رأى على نورها جانبا من بوابة الفتوح يقف تحته جنود بريطانيون، ثم تراءى له جنود من البوليس المصري رد منظرهم إلى صدره الدماء، سأعرف ما يراد بي، لم يبق إلا مسيرة خطوات، ماذا دعا إلى تجمهر الجنود الإنجليز والمصريين عند البوابة؟ لماذا يسوقون الأهالي من شتى أنحاء الحي؟ عما قليل أعرف كل شيء، كل شيء؟ فلأستعذ بالله ولأسلم إليه أمري، سأذكر هذه الساعة الرهيبة مدى العمر إن كان في العمر بقية، الرصاص ... المشنقة ... دنشواي ... أأنضم إلى سجل الشهداء؟ أأصبح نبأ من أنباء الثورة يتناقله محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار، كما كنا نتناقل الأخبار في سهرات المساء؟ تصور السهرة ومكانك شاغر؟ رحمة الله عليك ... كان وكان ... لشد ما يبكونك، وسيتذكرونك طويلا، ثم تنسى، ما أشد اضطراب قلبي، سلم أمرك للذي خلقك، اللهم حوالينا ولا علينا. ما إن اقترب من موقف الجنود حتى اتجهت الأنظار إليه باردة قاسية متوعدة، فغاص قلبه في الأعماق مخلفا وراءه في الأضلع ألما حادا، ترى هل آن له أن يتوقف؟ تثاقلت قدماه ولفه التردد والحيرة. - ادخل.
هتف بها شرطي وهو يشير إلى داخل البوابة، فنظر السيد إليه نظرة ناطقة بالتساؤل والاستعطاف والاستغاثة، ثم مر بين الجنود لا يكاد يرى ما بين يديه من شدة الفزع، ويود لو يغطي رأسه بذراعيه استجابة لغريزة الخوف التي تستصرخه. هنالك تحت قبة البوابة رأى منظرا عرفه بما يراد به بغير حاجة إلى سؤال، رأى حفرة عميقة كالخندق تعترض الطريق، كما رأى جمهورا من الأهالي يعملون بلا توقف، وتحت إشراف الشرطة لسد الحفرة بأن يحملوا الأتربة في مقاطف ويفرغونها فيها، الكل يعمل بهمة وسرعة، والأعين تسترق النظر في خوف إلى الجنود الإنجليز الذين رابطوا عند مدخل البوابة. اقترب منه شرطي ورمى إليه بمقطف وهو يقول بصوت غليظ ينم عن وعيد: افعل كما يفعل الآخرون ... ثم همسا: أسرع حتى لا يصيبك أذى.
كانت هذه الجملة أول تعبير «إنساني» يلقاه في رحلته المخيفة، فسرت في صدره سرى النسمة في حلق المختنق، انحنى على المقطف، فتناوله من علاقته وهو يسأل الشرطي همسا: هل يطلق سراحنا إذا تم العمل؟
فأجابه بنفس الصوت: إن شاء الله.
تنهد من الأعماق، راودته نفسه على البكاء، شعر بأنه يولد من جديد .. رفع بيسراه الجبة من طرفها، ودسه في حزام القفطان كي لا تعوقه عن العمل، ومضى بالمقطف إلى طوار البوابة، حيث تراكمت الأتربة فوضعه بين قدميه، وراح يملأ كفيه بالتراب ويفرغها في المقطف، حتى امتلأ ثم حمله بيده، وذهب إلى الحفرة فأفرغه فيها وعاد إلى الطوار، واصل العمل بين جماعات من الناس ضمت الأفندية والمعممين، الهرمين والشبان، يعملون جميعا بهمة عالية مستمدة من رغبتهم في الحياة، وإنه ليملأ مقطفه إذ لكزه كوع فالتفت إلى مصدره، فرأى صديقا يدعى غنيم حميدو صاحب معصرة زيوت بالجمالية ممن يلمون بمجالس لهوه بين حين وآخر، ففرح به فرحة عظمى كما فرح به الآخر، وسرعان ما تهامسا: أنت وقعت أيضا! - قبلك ... وصلت قبيل منتصف الليل، ورأيتك وأنت تتسلم مقطفك، فجعلت في ذهابي وإيابي أتبع طريقا يميل إليك رويدا رويدا حتى جاورتك. - أهلا .. أهلا، أليس ثمة أحد من أصدقائنا؟! - لم أعثر على غيرك. - قال لي الشرطي أنهم سيطلقون سراحنا حالما نتم العمل. - قيل لي ذلك أيضا، ربنا يسمع منك. - سيبوا ركبي الله يخرب بيوتهم. - لم تعد لي ركب على ما أظن!
وتبادلا ابتسامة مقتضبة. - ما أصل هذه الحفرة؟ - يقال إن فتوات الحسينية حفروها أول الليل؛ ليمنعوا مسير اللوريات، ويقال أيضا أن لوريا وقع فيها! - إن صح هذا فقل علينا السلام!
وعندما تجاورا مرة ثانية عند كوم الأتربة كانا قد ألفا الموقف بعض الشيء، فعاودتهما الروح، حتى إنهما لم يتمالكا أن ابتسما وهما يملآن مقطفيهما بالتراب كعمال البناء، فهمس غنيم: حسبنا الله ونعم الوكيل على أولاد الكلب.
فهمس السيد باسما: أرجو أن يعطونا أجرا مناسبا! - أين قبض عليك؟ - أمام البيت. - طبعا! - وأنت؟ - كنت بالعا منزولة، ولكني أفقت تماما، الإنجليز أقوى من الكوكايين! - أقوى من القيء نفسه!
مضى الرجال يذهبون ويجيئون عجلين ما بين طوار الأتربة والحفرة على ضوء المشاعل، أثاروا التراب، حتى انتشر في فراغ القبة خالقا جوا خانقا، فعلاهم البهر، وتصبب العرق من جبهاتهم، واغبرت وجوههم وتتابع من انتشاق الغبار سعالهم، فكأنهم أشباح انشقت عنهم الحفرة. على أي حال لم يعد وحده، هذا الصديق وهؤلاء الرجال من حيه، جنود البوليس المصريون معهم بقلوبهم، آي ذلك أنهم جردوا من سلاحهم ... لم يعد السيف ذو الغمد المعدني يتدلدل من أحزمتهم، اصبر ... اصبر لعل هذه الغمة أن تنكشف، هل كنت تتصور أنك ستعمل حتى مطلع الصبح وربما حتى الضحى، شد حيلك، ليس ثمة أنك ستحمل التراب، وتسخر في سد الحفرة؟ لا تريد الحفرة أن تمتلئ، لا فائدة ترجى من الشكوى، ولمن تشكو؟ جسمك قوي صلب العود يستطيع أن يتحمل رغم سكرة الليلة وعبثها، كم الساعة الآن؟ ليس من الحيطة أن تنظر فيها، لو لم يقع لي هذا لكنت الآن مستلقيا على الفراش منعما بلذيذ المنام، كنت أستطيع أن أغسل رأسي ووجهي، وأشرب شربة روية من القلة المعطرة بالزهر، هنيئا لنا هذه المشاركة في جحيم الثورة، لم لا؟ البلد ثائر ... كل يوم ... كل ساعة ضحايا وشهداء، بيد أن قراءة الصحف وتناقل الأخبار شيء أما حمل التراب تحت تهديد البنادق فشيء آخر، هنيئا لكم أيها النائمون في أسرتكم، اللهم احفظنا، لست لها ... لست لها، اللهم اهزم المشركين بقوتك، نحن ضعفاء .. لست لها، هل يتصور فهمي أي خطر يتهدده؟ إنه يستذكر دروسه الآن غير عالم بما يحيق بأبيه، قال لي: «لا » لأول مرة في حياته، قالها بدموعه ولكن سيان عندي. المعنى واحد، لم أقل لأمه، لن أقول لها، أأكشف لها عن عجزي؟ أأستعين بضعفها بعد أن أخفقت بقوتي؟ كلا .. لتبق جاهلة بكل شيء، يقول إنه لا يعرض نفسه للخطر، حقا؟ اللهم استجب، لولا هذا ما رحمته أبدا، اللهم احفظه، اللهم احفظنا جميعا من شر هذه الأيام، كم الساعة الآن؟ إن طلع علينا الصباح أمنا القتل، لن يقتلونا أمام الخلق. الصباح؟ - بصقت على الأرض كي أتخلص من الغبار اللازق بسقف حلقي، فرماني أحد الأبالسة بنظرة وقف لها شعر رأسي! - لا تبصق، تشبه بي، لقد بلعت من التراب قدرا يكفي لسد هذه الحفرة! - لعل زبيدة دعت عليك! - لعلها ... - ألم يكن سد حفرتها أطيب من سد هذه الحفرة؟ - بل أشق!
تبادلا ابتسامة سريعة، ثم قال غنيم متنهدا: انقصم ظهري يا هوه! - مثلك، عزاؤنا أننا نشارك المجاهدين بعض آلامهم. - ما رأيك أن أرمي بالمقطف في وجه الجنود وأهتف بأعلى صوتي «يحيا سعد»؟! - اشتغلت المنزولة من جديد؟ - يا للخسارة! .. كانت قطعة «قد فص العين» حركتها بالشاي مرة ومرتين وثلاثا، ثم ذهبت إلى الطمبكشية أسمع الشيخ علي محمود في بيت الحمزاوي، وعدت قبيل منتصف الليل، وأنا أقول لنفسي «الولية الآن تنتظرك لا أفلح من خيب لها رجاء» حين طلع ابن القرد وساقني من قفاي. - ربنا يعوض عليك. - آمين.
جاء الجنود برجال آخرين بعضهم من ناحية الحسينية، والبعض الآخر من ناحية النحاسين، وسرعان ما انضموا إلى «العمال». ألقى على المكان نظرة فوجده ازدحم بالجمهور أو كاد، وقد انتشروا حول الحفرة في جميع الجهات، يذهبون إلى الطوار ويرجعون إليها في حركة لا تنقطع، وأنوار المشاعل تضيء منهم وجوها لاهثة نال منها الإعياء والذل والخوف كل منال. الكثرة بركة وأمان، لن يذبحوا هذا الجمع الغفير من الناس، لن يأخذوا البريء بالمذنب، ترى أين المذنبون؟ أين هؤلاء الفتوات؟ هل يعلمون الآن أن إخوانا لهم وقعوا في الحفرة التي حفروا؟! قاتلهم الله، هل حسبوا أن حفر حفرة سيعيد سعدا، أو يخرج الإنجليز من مصر! لأنقطعن عن السهر إن كتب الله لي عمرا جديدا، أنقطع عن السهر؟ لم يعد السهر بمأمون، كيف يكون طعم الحياة، لا طعم للحياة في ظل الثورة، الثورة .. أي جندي يقبض عليك .. تحمل التراب بكفيك، فهمي يقول لك لا! متى تعود الدنيا إلى أصلها؟ صداع؟ .. بل صداع وغثيان، دقائق من الراحة .. لا أطمع في مزيد! بهيجة في سابع نومة، أمينة تنتظر كما تنتظر «ولية» غنيم، هيهات أن يخطر لكم ما حاق بأبيكم، رباه إن التراب يملأ أنفي وعيني، يا سيدنا الحسين، امتلئي .. امتلئي .. أما كفاك هذا التراب كله؟! يا بن بنت رسول الله، غزوة الخندق .. هكذا دعاها سيدنا الواعظ، كان عليه الصلاة والسلام يعمل مع العاملين، ويرفع التراب بيديه .. كافرون وكافرون لماذا ينتصر كافرو اليوم! فساد الزمن .. فساد الزمن ... فسادي أنا، هل يعسكرون أمام البيت حتى تنتهي الثورة؟ - ألم تسمع الديكة؟
أرهف السيد أذنيه ثم غمغم: الديكة تصيح! الفجر؟ - نعم .. ولكنها لن تمتلئ قبل الصباح. - الصباح! - المهم أني محصور، محصور جدا.
اتجه ذهن السيد إلى أسفل، فشعر بأنه محصور أيضا، وبأن جانبا من آلامه يعود بلا شك إلى ذلك، وسرعان ما اشتد ضغط المثانة عليه كأنما هيجها تفكيره فيها، قال: وأنا كذلك. - والعمل؟ - ما باليد حيلة! - انظر هناك إلى ابن القرد الذي وقف يبول أمام دكان على الزجاج! - آه! - إخراج شوية بول أهم الآن عندي من إخراج الإنجليز من مصر كلها. - إخراج الإنجليز من مصر كلها؟! ليخرجوا أولا من النحاسين. - رباه .. انظر .. لا يزال الجنود يأتون بالناس!
رأى السيد جماعة جديدة تشق طريقها صوب الحفرة.
66
استيقظ السيد أحمد من نومه حوالي العصر، وكان نبأ واقعته قد ذاع في الأهل والأصدقاء، فوفدوا على البيت واجتمعوا به مهنئين بالسلامة، فراح يقص القصة ويعيدها بأسلوب لم يخل - رغم جدية الأمر - من فكاهة وتهويل حتى أثار شتى التعليقات. كانت أمينة أول من سمع القصة، ألقاها عليها وهو مشتت النفس خائر القوى، لا يكاد يصدق حقا أنه نجا، فتلقت وحدها الجانب المفجع خالصا، وما كادت تغادره نائما حتى استرسلت في البكاء، وجعلت تدعو الله أن يرعى أسرتها بعنايته ورحمته، ودعت الله طويلا حتى كل لسانها، ولكنه حينما وجد نفسه محوطا بأصدقائه، خاصة المقربين منهم أمثال إبراهيم الفار وعلي عبد الرحيم ومحمد عفت، استرد الكثير من روحه المعنوية، فتعذر عليه أن يغفل الجانب الفكاهي من الحادث، حتى غلب على ما عداه، فانتهى الحديث إلى نوع من المزاح، كأنما كان يقص عليهم مغامرة من مغامراته. وبينما حفل الدور الأعلى بالزائرين، اجتمع شمل الأسرة بالدور التحتاني فيما عدا الأم التي شغلت مع أم حنفي بتهيئة القهوة والأشربة، شهدت الصالة من جديد اجتماع ياسين وفهمي وكمال وخديجة وعائشة في مجلس الأم التقليدي، وقد انضم إليهم خليل شوكت وإبراهيم شوكت سحابة النهار، ولكنهما صعدا إلى حجرة الأب عقب استيقاظه بقليل فخلا الجو للإخوة، وكان الحزن الذي غشيهم طوال النهار على ما أصاب والدهم قد زايلهم بعودة الطمأنينة إلى نفوسهم، فنبضت قلوبهم بالعواطف الأخوية، وتوثبوا للسمر والمرح كعهدهم في الأيام الخوالي. على أن الطمأنينة لم تستقر بنفوسهم حتى رأوا والدهم بأعينهم، أقبلوا عليه واحدا في إثر واحد، فقبلوا يده ودعوا له بطول العمر والسلامة، ثم غادروا الحجرة في نظام وأدب عسكريين. ومع أن السيد اكتفى بمد يده لياسين وفهمي وكمال بالتتابع دون أن ينبس بكلمة، إلا أنه ابتسم إلى خديجة وعائشة، وسألهما في رقة عن الحال والصحة، رقة لم تحظيا بها إلا بعد زواجهما، وكان كمال يلاحظها بدهشة مقرونة بسرور كأنما هو الذي يحظى بها. والحق أن كمال كان أسعد الجميع بزيارات شقيقتيه كلما هلت .. كان ينعم في أثنائها بسعادة عميقة لا يعكر عليه صفوها إلا التفكير في النهاية المتوقعة، ودائما كان يجيء النذير بهذه النهاية من أحد الرجلين - إبراهيم أو خليل - إذا تمطى أو تثاءب، ثم قال: «آن لنا أن نذهب» أمر مطاع لا يرد، لم تتكرم إحدى شقيقتيه - ولو مرة واحدة - بأن تجيبه قائلة مثلا: «اذهب أنت وسألحق بك غدا!» بيد أنه بمرور الزمن اعتاد الصلة العجيبة التي تربط بين شقيقتيه وزوجيهما، وسلم بحكمها وقنع بالزيارة القصيرة تجيء بين الحين والحين، فيسعد بها دون طمع في مزيد. وبالرغم من هذا فلم يكن يتمالك أحيانا إذا رآهما مقبلتين من أن يقول متمنيا: «لو تعودان إلى البيت، فتقيما فيه كما كنتما!» فتبادره أمه قائلة: «ربنا يكفيهما شر تمنياتك الطيبة!» بيد أن أعجب ما صادفه في حياتهما الزوجية كان ذلك التغير الذي طرأ على البطن .. وما صاحبه من أعراض بدت تارة مرعبة كالمرض، وطورا غريبة كالأساطير، وفدت على حافظته ألفاظ جديدة كالحبل والوحم، وما اكتنف الأخير من قيء وتوعك والتهام لحبات الطين الجافة .. ثم ما شأن بطن عائشة؟ .. متى يقف عن النمو الذي جعله كالقربة المنفوخة؟ وهذا بطن خديجة بدا - فيما يبدو - يخطو نفس الخطوات، وإذا كانت عائشة ذات البشرة العاجية والشعر الذهبي قد وحمت على الطين، فعلى أي شيء توحم خديجة؟! غير أن خديجة لم تحقق مخاوفه، فتوحمت على المخلل، حتى استثارت منه أسئلة لا حصر لها لم يظفر أحدها بجواب مقنع! .. وتقول أمه إن بطن عائشة - وبطن خديجة بالتالي - سيتمخض عن طفل صغير سوف يكون قرة عينه .. ولكن أين يقيم هذا الطفل، وكيف يعيش، وهل يسمع ويرى، وماذا يسمع وماذا يرى، وكيف وجد، ومن أين جاء؟! .. على أن هذه الأسئلة لم تهمل، ظفر عنها بأجوبة جديرة حقا بأن تلحق بمعارفه عن الأولياء والعفاريت والرقى والتعاويذ، وغير ذلك من المواد التي تزخر بها دائرة معارف أمه .. لذلك سأل عائشة مستطلعا باهتمام: متى يخرج الطفل؟
فأجابته ضاحكة: اصبر لم يبق إلا قليل.
فتساءل ياسين: أظنك في الشهر التاسع؟
فأجابته: نعم ولو أن حماتي تصر على أني في الثامن!
فقالت خديجة بحدة: أصل حماتك تصر دائما على أن يكون لها رأي مخالف، هذا كل ما هنالك!
ولما كان الجميع على علم بما ينشب كثيرا بين خديجة وحماتها من نزاع، فقد تبادلوا النظرات ثم ضحكوا.
وقالت عائشة: أود أن أقترح عليكم أن تنتقلوا إلى بيتنا، فتبقوا معنا حتى يجلو الإنجليز عن شارعكم.
فقالت خديجة بحماس: أجل، لم لا؟ إن البيت كبير، وستنزلون على الرحب والسعة، فيقيم بابا ونينة عند عائشة؛ لأنها في الدور الأوسط، وتقيمون أنتم عندي.
رحب كمال بالاقتراح، فتساءل بلهجة تنم عن التحريض: من يقول لبابا؟
ولكن فهمي قال وهو يهز منكبيه: إنكما تعلمان حق العلم أن بابا لا يمكن أن يوافق.
فقالت خديجة بأسف: ولكنه يحب السهر، فيكون عرضة لتحرش الجنود، يا لهم من مجرمين! ساقوه في الظلام وحملوه التراب! ... آه، رأسي يدور كلما تصورت هذا.
فقالت عائشة: كنت أنتظر دوري لتقبيل يده وأنا أتفحص جسمه جزءا جزءا لأطمئن عليه، كان قلبي يدق ... وعيناي تغالبان الدمع ... لعنة الله على الكلاب أولاد الكلاب!
فابتسم ياسين ... وقال لعائشة محذرا وهو يلحظ كمال غامزا بعينه: لا تسبي الإنجليز هكذا فإن لهم بيننا أصدقاء!
فقال فهمي متهكما: لعله مما يسر له بابا أن يعلم أن الجندي الذي يقبض عليه ليلا ما هو إلا صديق من أصدقاء كمال.
فابتسمت عائشة إلى كمال متسائلة: ألا تزال تحبهم بعد ما كان منهم؟
فغمغم كمال وقد تورد وجهه حياء وارتباكا: لو عرفوا أنه أبي ما تعرضوا له بسوء!
فما تمالك ياسين إلا أن يضحك ضحكة عالية، حتى أنه غطى فمه بيده، وهو ينظر في حذر إلى السقف، كأنما خاف أن يترامى صوت ضحكته إلى الدور الأعلى ... ثم قال ساخرا: الأحرى بك أن تقول: إنهم لو عرفوا أنك مصري ما صبوا العذاب على مصر والمصريين، ولكنهم لا يعرفون!
فقالت خديجة بلهجة لاذعة: دع هذا الكلام لغيرك أنت! ... أتنكر أنك من أصدقائهم كذلك؟!
ثم مخاطبة كمال بلهجة لاذعة: أتواتيك الشجاعة بعد ما عرف عن صداقتك لهم على أن تصلي الجمعة في سيدنا الحسين؟
ففطن ياسين إلى مرمى هجومها، وقال مظهرا الأسف: يحق لك أن تتطاولي علي ما دمت قد تزوجت، فاكتسبت بعض حقوق الآدميين ... - ألم يكن لي هذا الحق من قبل؟! - الله يرحم أيام زمان! ... ولكنه الزواج يعيد إلى البائسات الروح! ... اسجدي شكرا للأولياء ... ولتعاويذ وأقراص أم حنفي.
فقالت خديجة وهي تغالب ضحكة: يحق لك أن تتهجم على الناس بالحق وبالباطل بعد أن ورثت المرحومة، وصرت في عداد الملاك.
فقالت عائشة بفرح صبياني كأنما لم تدر من الأمر شيئا: أخي في عداد الملاك! ... ما أجمل أن أسمع هذا! ... أأنت غني حقا يا سي ياسين؟!
فقالت خديجة: دعيني أعد لك أملاكه، اسمعي يا ستي: دكان الحمزاوي وربع الغورية وبيت قصر الشوق ...
فقال ياسين وهو يهز رأسه مغمضا عينيه: ومن شر حاسد إذا حسد ...
فتابعت خديجة حديثها دون مبالاة بمقاطعته: وما خفي من الحلي والنقود المخبأة أعظم ...
فهتف ياسين في أسف صادق: اختفت كلها وحياتك، سرقت، سرقها ابن الكلب، جعلت أبي يسأله عما إذا كانت تركت حليا أو نقودا، فقال اللص: «ابحثوا بأنفسكم، علم الله أني كنت أنفق عليها في أثناء مرضها من جيبي الخاص» ... اسمعوا يا هوه ... جيبه الخاص ابن الغسالة!
فقالت عائشة بتأثر: يا ولداه! ... مريضة طريحة الفراش تحت رحمة رجل طامع في مالها! ... لا صديق ولا حبيب، غادرت الدنيا من دون أن يحزن عليها أحد.
فتساءل ياسين: من دون أن يحزن عليها أحد؟!
فأشارت خديجة من خلال باب موارب إلى ملابس ياسين المعلقة بالمشجب، وقالت محتجة احتجاجا ساخرا: وهذا البابيون الأسود؟! ... أليس آية على الحزن؟!
فقال ياسين جادا: لقد حزنت عليها حقا، ربنا يرحمها ويغفر لها، ألم نكن تصافينا في آخر لقاء؟ الله يرحمها ويغفر لها ولنا.
فخفضت خديجة رأسها قليلا رافعة حاجبيها، ثم نظرت إليه من أعلى، كمن ينظر من فوق نظارته وهي تقول: إحم ... إحم ... اسمعوا سيدنا الواعظ (ثم وهي ترميه بنظرة شك) ولكن لم يبد عليك فيما أظن حزن شديد؟!
فرماها بنظرة مغيظة قائلا: ما قصرت في واجبي نحوها والحمد لله، أقمت لها مأتما استمر ثلاث ليال، وكل جمعة أزور القرافة محملا بالرياحين والفواكه ... أم تريديني ألطم وأعول وأحثو التراب على رأسي! إن للرجال حزنا غير حزن النساء.
فهزت رأسها كأنما تقول: «أفدتني أفادك الله»، ثم قالت متنهدة: آه من حزن الرجال! ... ولكن خبرني وحياتي عندك ألم يخفف الدكان والربع والبيت من لوعة الحزن؟!
فقال متأففا: صدق من قال: إن قبح اللسان من قبح الوجه. - من قائل هذا؟
أجابها باسما: حماتك!
فضحكت عائشة، وضحك فهمي وهو يسأل خديجة: ألم تتحسن العلاقات بينكما؟
فأجابته عائشة بالنيابة عنها قائلة: سوف يتحسن ما بين الإنجليز والمصريين قبل أن يتحسن ما بينهما ...
فقالت خديجة بحنق لأول مرة: امرأة قوية، ربنا عليها، والله أنا بريئة ومظلومة.
فقال ياسين متهكما: نصدقك يا أختي بلا قسم، هذا شيء نشهد به أمام الله في يوم العذاب!
فعاد فهمي يسأل عائشة: وأنت كيف حالك معها؟
فقالت عائشة وهي تلحظ خديجة بإشفاق: على ما يرام.
فهتفت خديجة: آه من أختك عائشة ... تعرف كيف تسوس وتطأطئ الرأس ... اتفوخص.
فقال ياسين متصنعا الجد: على أي حال، فلحماتك الرحمة ولك صادق التهنئة!
فقالت بسخرية: التهنئة الحقة لك أنت قريبا إن شاء الله حين تزف إلى عروسك الثانية! ... أليس كذلك؟
فما تمالك إلا أن ضحك، ثم قال: ربنا يسمع منك.
فتساءلت عائشة باهتمام: حقا؟
ففكر قليلا ... ثم قال في شيء من الجد: المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولكن من يعلم بما يأتي به الغد؟! ربما ثانية وثالثة ورابعة ...
فهتفت خديجة: هذا ما أتوقعه، الله يرحم جدك!
فضحكوا جميعا حتى كمال، ثم عادت عائشة تقول بصوت أسيف: مسكينة زينب! ... كانت فتاة لطيفة وطيبة ... - كانت! ... وكانت حمقاء أيضا، أبوها - مثل أبي - لا يطاق، لو رضيت بمعاشرتي كما أحب ما فرطت فيها أبدا. - لا تعترف بهذا، حافظ على كرامتك، لا تشمت بك خديجة.
قال باستهانة: نالت الجزاء الذي تستحقه، فلينقعها أبوها ويشرب ماءها.
فغمغمت عائشة: ولكنها حبلى يا ولداه! ... أترضى لوليدك بأن ينمو بعيدا عن رعايتك حتى تسترده غلاما؟!
آه، أصابت مقتلا، ينمو في حضانة أمه كما نما أبوه من قبل، ربما كابد تعاسة كتعاسته أو أشد .. ربما نمت معه كراهية لأمه أو لأبيه، تعاسة على أي حال. قال عابسا: ليكن حظه كحظ أبيه، ما باليد حيلة!
وساد الصمت قليلا حتى سأل كمال خديجة: وأنت يا أبلة متى يخرج الطفل؟
فأجابته ضاحكة وهي تتحسس بطنها: إنه لا يزال في سنة أولى.
فعاد يقول لها ببراءة وهو يتفرس في وجهها: نحفت جدا يا أبلة، وصار وجهك قبيحا!
ضحكوا جميعا وهم يغطون أفواههم بأيديهم، ضحكوا حتى شعر كمال بالحياء والارتباك، أما خديجة التي لم يكن الاستياء من كمال مما تستطيعه، فقد مالت إلى أن تجاري التيار، فقالت ضاحكة: أعترف لكم بأني خسرت في أيام الوحم كل اللحم الذي تعبت أم حنفي أعواما في جمعه ولمه، نحفت وبرز أنفي، وغارت عيناي، وخيل إلي أن «الرجل» يقلب عينيه مفتشا عبثا عن العروس التي زفوها إليه؟
ثم ضحكوا ثانية حين قال ياسين: الحق أن زوجك مظلوم؛ لأنه على غباوته البادية وسيم الطلعة، فسبحان من جمع الشامي على المغربي.
تجاهلته خديجة، وخاطبت فهمي قائلة وهي تومئ إلى عائشة: كلاهما - زوجي وزوجها - في الغباء سواء! لا يكادان يبرحان البيت ليل نهار، لا هم ولا عمل، أما زوجها فوقته كله ضائع بين التدخين وعزف العود، كأنه شحاذ من الشحاذين الذين يمرون على البيوت في الأعياد، وأما زوجي فلا تراه إلا مستلقيا يدخن ويثرثر، حتى يدوخ دماغي.
فقالت عائشة كالمعتذرة: الأعيان لا يعملون!
فقالت خديجة هازئة: العفو! ... يحق لك أن تدافعي عن هذه الحياة، الحق أن الله لم يجمع بين متشابهين كما جمع بينكما، كلاكما في الكسل والدعة والخمول شخص واحد، والنبي يا سي فهمي يمر اليوم كله وهو يدخن ويعزف، وهي تزوق نفسها وتذهب وتجيء أمام المرآة.
تساءل ياسين: لم لا ما دامت ترى منظرا حسنا؟!
وقبل أن تفتح خديجة فاها سألها مستعجلا: خبريني يا أختاه ماذا تصنعين لو جاء وليدك شبيها بك؟
كانت شبعت من مهاجمته فأجابته جادة: سيجيء بإذن الله شبيها بأبيه أو جده أو جدته أو خالته، أما ... (ثم ضاحكة) أما إذا أبى إلا أن يجيء شبيها بأمه، فالنفي يكون أحق به من سعد باشا!
ولكن كمال قال بلهجة خبير عليم: الإنجليز لا يهمهم الجمال يا آبلا ، إنهم يعجبون كثيرا برأسي وأنفي.
فضربت خديجة صدرها بيدها هاتفة: يدعون صداقتك وهم يعبثون بك! ... ربنا يسلط عليهم زبلن من جديد.
ورمت عائشة فهمي بنظرة رقيقة وهي تقول: كم يسر دعاؤك بعض الناس.
فابتسم فهمي مغمغما: كيف أسر ولهم في بيتنا أصدقاء مغفلون؟ - يا خسارة تربيتك له. - من الناس من لا تنفع فيه التربية.
فتساءل كمال محتجا: ألم أرج جوليون أن يعيد سعد باشا؟
فقالت خديجة ضاحكة: في المرة القادمة حلفه برأسك الذي يعجب به.
شعر فهمي أكثر من مرة بأن من حوله يسعون كلما بدت فرصة إلى استدراجه إلى الحديث والتسلية، بيد أن ذلك لم يجد شيئا في التخفيف من الإحساس بالغربة الذي غشيه طوال الوقت. هو إحساس كثيرا ما يفصله عن آله وهو بينهم، فيشعر بالغربة أو الوحدة رغم زحمة المجلس، ينفرد بقلبه وحزنه وحماسه بين أناس لاهين ضاحكين، حتى نفي سعد يتخذون منه دعابة إذا لزم الأمر ... اختلس منهم النظرات تباعا فوجدهم راضين، عائشة ... هانئة وإن تكن تعبت قليلا بسبب الحمل، ولكنها سعيدة بكل شيء حتى بتعبها، خديجة ... متوثبة ضاحكة، ياسين ... صحة وعافية وغبطة، من من هؤلاء يكترث لحوادث هذه الأيام! من منهم يهمه بقي سعد أم نفي، جلا الإنجليز أم مكثوا! إنه غريب، أو غريب على الأقل بين هؤلاء. ومع أن هذا الإحساس كان يلقى منه عادة نفسا مسماحة، فإنه لم يلق هذه المرة إلا حنقا وامتعاضا، ربما كان ذلك لما عاناه في الأيام الأخيرة. كثيرا ما توقع أن يسمع عن زواج مريم، كان ذلك همه وكربه، بيد أنه سلم به سلفا تسليم اليأس، وكاد يألفه بكرور الأيام، إلا أن حبه نفسه تراجع عن بؤرة شعوره الذي شغلته الشواغل الكبرى، حتى وقعت واقعة جوليون فزلزل زلزالا. تغازل إنجليزيا لا مطمع لها في الزواج منه فأي معنى تتضمنه هذه المغازلة؟ هل تصدر إلا عن متهتكة؟ مريم متهتكة؟ وفيم كانت أحلامه الماضية؟ ولم يكن يخلو بكمال حتى يدعوه إلى إعادة القصة من جديد محتما عليه أن يصف التفاصيل بدقة، كيف لاحظ ما يدور، وأين كان موقف الجندي، وأين كان موقفه هو، وهل هو متأكد من أن مريم نفسها التي كانت في الكوة؟ وأنها كانت تنظر حقا إلى الجندي؟ وهل رآها تبتسم إليه، وهل وهل وهل، ثم يسأله وهو يعض على أسنانه كأنما يهرس الشقاء الذي يعذبه: وهل تراجعت في خوف حين وقعت عيناها عليك؟ ثم يمضي متخيلا المواقف والمناظر، موقفا موقفا، ومنظرا منظرا، ويتخيل الابتسامة طويلا حتى كأنه يرى الشفتين المفترتين كما رآهما يوم زفاف عائشة، وصاحبتهما تتبع العروس في فناء بيت آل شوكت. - يبدو أن نينة لن تجالسنا اليوم.
قالته عائشة بصوت يدل على الأسف.
فقالت خديجة: الزوار يملئون البيت.
ياسين ضاحكا: أخاف أن يشتبه الجنود في كثرة القادمين، فيظنوا أن اجتماعا سياسيا ينعقد في بيتنا.
خديجة في مباهاة: إن أصدقاء بابا يحجبون عين الشمس.
فقالت عائشة: رأيت السيد محمد عفت نفسه على رأس القادمين.
فأمنت خديجة على قولها قائلة: كان صديقا حميما لبابا من قبل أن نرى نور الدنيا.
فقال ياسين وهو يهز رأسه: اتهمني بابا ظلما بأنني قطعت ما بينهما. - ألا يفرق الطلاق بين أعز الأصدقاء؟!
ياسين باسما: إلا أصدقاء أبيك!
عائشة بفخار: من ذا تطاوعه نفسه على مخاصمة بابا؟ والله ما في الدنيا كلها نظير له ... ثم وهي تتنهد: كلما تصورت ما وقع له أمس شاب شعر رأسي.
أخيرا ضاقت خديجة بوجوم فهمي، فعزمت على أن تعالجه بطريقة مباشرة بعد أن أخفقت - فيما رأت - الطرق غير المباشرة، فالتفتت إليه متسائلة: أرأيت يا أخي كيف أن ربنا أكرمك يوم لم يأذن بتحقيق رغبتك نحو ... مريم؟!
نظر فهمي إليها بين الدهشة والحياء، سرعان ما تركزت فيه الأبصار، حتى كمال تطلع إليه باهتمام، وساد صمت نم عمقه عن شعور مكبوت طال في الصدر تجاهله أو إخفاؤه، حتى أفصحت عنه خديجة بجرأة، فتطلعوا إلى الشاب في صمت المنتظر للجواب، كأنما هو نفسه الذي طرح السؤال، غير أن ياسين رأى أن ينهي الصمت قبل أن يستفحل فيبعث على الألم ، فقال متظاهرا بالسرور: أصل أخيك ولي، والله يحب أولياءه.
وكان فهمي يكابد حرجا وحياء، فقال باقتضاب: هذه مسألة قديمة عفاها النسيان.
فقالت عائشة بلهجة المعتذر: لم يكن سي فهمي وحده الذي خدع بها، كلنا خدعنا بها.
فقالت خديجة مدافعة عن نفسها - بأقصى ما في وسعها - تهمة الغفلة: على أي حال أنا لم أقتنع لحظة واحدة فيما مضى، حتى مع اعتقادي ببراءتها، بأنها جديرة به.
فعاد فهمي يقول متظاهرا بالاستهانة: هذه مسألة قديمة عفاها النسيان، إنجليزي ... مصري ... سيان، دعونا من هذا كله.
وجد ياسين نفسه تعاود التفكير في «مسألة» مريم ... مريم؟! ... لم يكن ينظر إليها فيما مضى - إن مرت في مجال بصره - إلا عابرا، ثم زاده زهدا فيها تعلق فهمي بها، حتى ذاعت فضيحتها في الأسرة ... هناك ثار اهتمامه، تساءل طويلا أي فتاة هي؟ ود لو ملأ عينيه منها، تمنى لو كان سبر الفتاة التي استرعت تشوق «إنجليزي» ... إنجليزي جاء الحي مقاتلا لا مغازلا، لم يبد سخطه عليها إلا مجاراة للحديث كلما تناولها، أما في الباطن فقد أطربه غاية الطرب وجود «مفضوحة» جريئة مثلها على كثب منه، فلا يفصله عنها إلا جدار، شاع في صدره العريض المكتنز ذاك الطرب البهيمي الذي يدعوه إلى الصيد، وإن وقف - إكراما لحزن فهمي الذي يحبه - عند حد الشعور واللذة السلبية المجردة، لم يعد في الحي من يستثير اهتمامه كمريم. - آن أوان الذهاب.
قالت خديجة ذلك وهي تنهض على حين ترامى إليهم صوتا إبراهيم وخليل وهما يتحدثان قادمين من الردهة الخارجية. قام الجميع، من يتمطى ومن يحبك ملابسه، إلا كمال فقد لزم مجلسه وهو يتطلع إلى باب الصالة بحزن وقلب خافق.
67
جلس السيد أحمد إلى مكتبه، مكبا على دفاتره، يزاول عمله اليومي الذي يتناسى به - ولو إلى حين - همومه الشخصية والهموم العامة التي تتطاير بها الأنباء الدامية. غدا يحب الدكان حبه مجالس الأنس والطرب؛ لأنه على الحالين يظفر بما ينتزعه من جحيم الفكر، إلا أن جو الدكان حافل بالمساومة والبيع والشراء والربح، وغير ذلك من شئون الحياة العادية، حياة كل يوم، فلا تخلو من أن تبعث في نفسه شيئا من الثقة الموحية بإمكان عودة كل شيء إلى أصله، إلى حالته الأولى من الاستقرار والسلام. السلام؟ أين ذهب ومتى يأذن بالعودة؟! ... حتى في هذا الدكان تجري أحاديث الدماء همسا مفجعا، لم يعد الزبائن يقنعون بالمساومة والشراء، فما تألو ألسنتهم أن تردد الأنباء، وتندب الأحداث، فوق زكائب الأرز والبن سمع عن معركة بولاق، ومذابح أسيوط، والجنازات التي تشيع فيها النعوش بالعشرات، والشاب الذي انتزع من العدو مدفعا رشاشا أراد أن يدخل به الأزهر، لولا أن سبقته المنية، فانغرست في جسمه عشرات المقذوفات، هذه الأنباء وغيرها مما يصطبغ بلونها القاني تقرع أذنيه بين حين وآخر في المكان الذي يلوذ به ناشدا النسيان. ما أتعس الحياة في ظل الموت، هلا عجلت الثورة بتحقيق غايتها من قبل أن يمتد أذاها إليه أو إلى أحد من ذويه! ... إنه لا يبخل بمال، ولا يضن بعاطفة، أما بذل الحياة فأمر آخر، أي عذاب صبه الله على العباد فهانت النفوس وجرت الدماء! لم تعد الثورة «فرجة» حماسية، إنها تهدد أمنه في الذهاب والإياب، وتتوعد ابنه «العاصي». فتر حماسه لها، هي دون غايتها، يحلم بالاستقلال وبعودة سعد، ولكن دون ثورة أو دماء أو ذعر، يهتف مع الهاتفين ويتحمس مع المتحمسين، ولكن عقله يقاوم التيار متعلقا بالحياة، فمكث وحده في المجرى كأصل شجرة اقتلعت العواصف أغصانها، لن يوهن شيء، وإن جل، من حبه للحياة، فلتبق له إلى آخر العمر، وليؤمن فهمي إيمانه لتبقى له حياته إلى آخر العمر كذلك، فهمي العاق الذي رمى بنفسه إلى التيار بلا حزام نجاة ... - هل السيد أحمد موجود؟
سمع السيد صوت السائل وهو يشعر باندفاع شخص داخل الدكان، كأنه مقذوف آدمي، فرفع رأسه عن مكتبه فرأى الشيخ متولي عبد الصمد يتوسط المكان رامشا بعينيه الملتهبتين مدققا النظر - عبثا - صوب المكتب، فهش قلبه وابتسمت أساريره، ثم هتف بالقادم: تفضل يا شيخ متولي، حلت البركة.
فلاح الاطمئنان في وجه الشيخ، وتقدم يهتز أعلاه ما بين الوراء والأمام كأنه راكب جملا، فمال السيد فوق مكتبه، ومد يده حتى التقت بيد الرجل وشد عليها متمتما «الكرسي على يمينك، تفضل بالجلوس.» فأسند الشيخ متولي عصاه إلى المكتب، وجلس على الكرسي، ثم اعتمد بيديه على ركبتيه وهو يقول: الله يحفظك ويصونك.
فقال السيد من قلبه: ما أطيب دعاءك وما أحوجني إليه!
ثم ملتفتا صوب جميل الحمزاوي الذي كان يزن أرزا لزبون: لا تنس أن تهيئ لفة سيدنا الشيخ.
فجاء صوت جميل الحمزاوي قائلا: من ذا الذي ينسى سيدنا الشيخ!
فبسط الشيخ راحتيه، ورفع رأسه وهو يحرك شفتيه بالدعاء في هينمة لم يسمع منها إلا وسوسة متقطعة، ثم عاد إلى وضعه الأول، فصمت لحظة، ثم قال بلهجة الافتتاح: أبدأ بالصلاة على نور الهدى.
فقال السيد بحرارة: عليه أزكى الصلاة والسلام. - وأثني بالترحم على أبيك طيب الذكر. - رحمه الله رحمة واسعة. - ثم أسأل الله أن يقر عينيك بأسرتك وذريتك، وذرية ذريتك، وذرية ذرية ذريتك. - آمين.
متنهدا: وأدعوه أن يعيد إلينا أفندينا عباس ومحمد فريد وسعد زغلول. - اللهم استجب. - وأن يخرب بيت الإنجليز بما أثموا وبما يأثمون. - سبحان المنتقم الجبار.
عند ذاك تنحنح الشيخ، ومسح على وجهه بكفه، ثم قال: أما بعد فقد رأيتك في منامي تلوح بيديك، فما فتحت عيني حتى صح عزمي على زيارتك.
فابتسم السيد ابتسامة لا تخلو من حزن، وقال: لا أعجب لذلك، فإني في مسيس الحاجة إلى بركتك، زادك الله بركة على بركة.
فمال وجه الشيخ نحو السيد في عطف وتساءل: أحق ما بلغني عن حادث بوابة الفتوح؟
فأجاب السيد مبتسما: نعم ... من أبلغك يا ترى؟ - كنت مارا بمعصرة حميدو غنيم، فاستوقفني وقال لي: «ألم يبلغك ما فعل الإنجليز بحبيبك السيد أحمد وبي؟» فاستوضحته منزعجا فقص علي العجب العجاب ... قص عليه السيد الحادث بتفاصيله، لم يكن يمل ترديده، ولعله قصه في الأيام القلائل الأخيرة عشرات المرات.
وأصغى الشيخ وهو يتلو همسا آية الكرسي: أفزعت يا بني؟ كيف كان فزعك ... خبرني ... لا حول ولا قوة إلا بالله ... ولكن هل قنعت بالسلامة؟ ... أنسيت أن الفزع لا يمضي إلى حال سبيله؟ ... صليت طويلا وسألت الله النجاة! هذا جميل ولكن يلزمك حجاب. - كيف لا!
يزيدنا بركة يا شيخ متولي ... والأولاد وأمهم، ألم يدركهم الفزع؟ - طبعا ... قلوب ضعيفة لا عهد لها بالقسوة والإرهاب، الحجاب ... الحجاب ... وفيه الشفاء. - أنت الخير والبركة يا شيخ متولي ... لقد نجاني الله من شر كبير، ولكن ثمة شر لا يزال يتهددني ويقض مضجعي.
مال وجه الشيخ نحو السيد في عطف مرة أخرى وتساءل: ماذا بك يا بني عفا الله عنك؟
فرنا السيد إليه بطرف واجم وغمغم في ضجر: ابني فهمي ...
فرفع الشيخ حاجبيه الأشيبين متسائلا أو منزعجا، ثم قال برجاء: محفوظ بإذن الرحمن.
فهز السيد رأسه بأسى، وقال: عقني لأول مرة والأمر لله ...
فبسط الشيخ متولي ذراعيه أمامه كأنما يتقي بهما البلاء، وهتف: معاذ الله، فهمي ابني، وأنا أعلم علم اليقين أنه طبع على البر.
فقال السيد أحمد متسخطا: يأبى حضرته إلا أن يفعل كما يفعل الشبان في هذه الأيام الدامية.
فقال الشيخ في دهش واستنكار: أنت أب حازم ما في ذلك شك، ما كنت أتصور أن ابنا من أبنائك يجرؤ على أن يرد لك أمرا.
حز هذا القول في قلبه، حتى أدماه وضاق به صدره، ثم وجد من نفسه نزوعا إلى التهوين من عصيان ابنه ليدفع عن شخصه تهمة الضعف أمام الشيخ وأمام نفسه معا، فقال: لم يجرؤ على هذا صراحة طبعا، ولكني دعوته إلى أن يحلف على المصحف بألا يشترك في أي عمل من أعمال الثورة فبكى، بكى من دون أن يجسر على قول لا، ما عسى أن أصنع؟ لا أستطيع أن أحبسه في البيت، ولا يسعني أن أراقبه في المدرسة، وأخاف أن يكون تيار هذه الأيام أقوى من أن يقاومه شاب مثله، ماذا أصنع؟ ... أأهدده بالضرب؟ ... أضربه؟ ... لكن ما عسى أن يجدي التهديد مع شخص لا يبالي تعريض نفسه للموت!
فمسح الشيخ على وجهه، وتساءل بقلق: وهل ألقى بنفسه في المظاهرات؟
فقال السيد وهو يهز منكبيه العريضين: كلا ولكنه يوزع المنشورات، لما ضيقت عليه زعم أنه يكتفي بالتوزيع على خاصة أصدقائه. - ما له ولهذه الأعمال! ... إنه الوديع ابن الوديع، ولهذه الأعمال رجال من صنف آخر، ألم يعرف أن الإنجليز وحوش لا تتطرق الرحمة إلى قلوبهم الغليظة؟ ... وأنهم يتغذون صباح مساء بدماء المصريين المساكين؟ ... كلمه بالحسنى، عظه، بين له النور من الظلام، قل له إنك أبوه وإنك تحبه وتخاف عليه، أما أنا فسأعمل من ناحيتي على إعداد حجاب من نوع خاص، وأدعو له في صلاتي، وخاصة صلاة الفجر، والله المستعان من قبل ومن بعد.
قال السيد بحزن: إن أنباء القتلى تتواتر كل ساعة معلنة آي التحذير لمن يعتبر، فما الذي أصاب عقله؟ لقد ضاع ابن الفولي اللبان في غمضة عين، فشهد مأتمه معي وعزى والده المسكين، كان الشاب يوزع سلاطين اللبن الزبادي، فصادف في طريقه مظاهرة، فأغراه القضاء بالاشتراك فيها بلا وعي، وما هي إلا ساعة أو نحوها، حتى خر صريعا في ساحة الأزهر، لا حول ولا قوة إلا بالله ... إنا لله وإنا إليه راجعون، لما تأخر عن ميعاد عودته قلق أبوه، فمضى إلى زبائنه يسأل عنه، قال له بعضهم إنه جاءهم بالزبادي وذهب، وقال آخرون إنه لم يمر عليهم كعادته، حتى بلغ حمروشا بائع الكنافة، فوجد عنده الصينية وما تبقى من السلاطين التي لم توزع، وأخبره الرجل بأنه تركها عنده واشترك في مظاهرة المساء، فجن جنون المسكين وقصد من توه قسم الجمالية، فوجهوه إلى قصر العيني، وهناك عثر على ابنه في المشرحة، لقد علم بالقصة بحذافيرها كما قصها علينا الفولي ونحن في بيته نعزيه، علم كيف فقد الشاب وكأن لم يوجد، ولمس حزن أبيه المبرح، وسمع صوات أهله، هلك المسكين فلم يعد سعد ولم يخرج الإنجليز، لو كان حجرا لعقل، ولكنه خير أبنائي فلله الحمد والشكر.
فقال الشيخ متولي بصوت أسيف: أعرف ذلك الشاب المسكين، إنه أكبر أبناء الفولي، أليس كذلك؟ ... كان جده مكاريا، وكنت أكتري حماره للذهاب إلى سيدي أبي السعود، إن للفولي أربعة أولاد، ولكن الفقيد كان أحبهم إلى قلبه.
هنا اشترك جميل الحمزاوي لأول مرة في الحديث قائلا: أيامنا هذه مجنونة وقد تلفت عقول الناس حتى صغارها، بالأمس قال ابني فؤاد لأمه إنه ود لو يشترك في مظاهرة!
فقال السيد بقلق: يعملها الصغار ويقع فيها الكبار! ... ابنك فؤاد صديق ابني كمال وكلاهما في مدرسة واحدة، ألا تحدثه نفسه ... ألا تحدثهما نفسهما مرة بأن يسيرا في مظاهرة! ... هه؟ ... ما من عجيبة تعد الآن عجيبة!
فقال الحمزاوي وقد ندم على ما فرط منه: ليس إلى هذا الحد يا سي السيد، على أني أدبته بلا رحمة على تمنياته الساذجة، إن سي كمال لا يخرج إلا مصحوبا بأم حنفي حفظه الله ورعاه.
ساد الصمت فلم يعد يسمع في الدكان إلا خشخشة الورقة التي يلف فيها الحمزاوي هدية الشيخ متولي عبد الصمد، ثم تنهد الشيخ وقال: فهمي ولد عاقل، لا ينبغي أن يمكن الإنجليز من نفسه العزيزة، الإنجليز! ... حسبي الله ... ألم تسمع بما فعلوا في العزيزية والبدرشين؟
كان السيد على حال من القلق لم يجد معها رغبة صادقة في التساؤل، إلا أنه لم يتوقع جديدا فوق ما يقرع سمعه هذه الأيام، فاكتفى بأن يرفع حاجبيه متظاهرا بالاهتمام، فأنشأ الشيخ يقول: كنت أول أمس في زيارة الحسيب النسيب شداد بك عبد الحميد بسرايه العامرة بالعباسية، دعاني إلى الغداء والعشاء فأتحفته بأحجبة له ولآل بيته، وهناك حدثني بحديث العزيزية والبدرشين.
سكت الشيخ قليلا، فتساءل السيد أحمد: تاجر الأقطان المعروف؟ - شداد بك عبد الحميد أكبر تاجر قطن، لعلك عرفت ابنه عبد الحميد بك شداد؛ فقد كان يوما على صلة وثيقة بالسيد محمد عفت؟
فقال السيد ببطء ليملي لنفسه في التذكير: أذكر أني رأيته مرة في مجلس السيد محمد عفت قبل نشوب الحرب، ثم سمعت عن إبعاده عن القطر عقب عزل أفندينا، أما من جديد عنه؟
فقال الشيخ متولي بلهجة سريعة عابرة، كأنما يضع كلامه بين قوسين؛ ليعود إلى حديثه الأول: لا يزال مبعدا عن البلاد، وهو يقيم في بلاد فرنسا ومعه زوجه وأولاده، لشد ما يخاف شداد بك أن يموت قبل أن يرى ابنه في هذه الدنيا.
وسكت مرة أخرى، ثم مضى يهز رأسه يمنة ويسرة، ويقول بصوت منغوم، كأنما ينشد مطلع توشيح نبوي: بعد انتصاف الليل بساعتين أو ثلاث والناس نيام، حاصر البلدتين بضع مئات من الجنود البريطانيين مدججين بالسلاح ...
انتبه السيد انتباهة قاسية ... حاصروا البلدتين والناس نيام؟ ... أليس أولئك المحاصرون من جنس هؤلاء الذين يعسكرون أمام البيت؟ ... بدءوا بالاعتداء علي فأي خطوة تالية يضمرون؟!
ضرب الشيخ على ركبتيه كأنما إنشاده ينوع من الإيقاع، ثم استطرد قائلا: واقتحموا على العمدتين داريهما فأمروهما بتسليم السلاح، ثم مرقوا إلى الحريم، فنهبوا الحلي، وأهانوا النساء وجروهن من شعورهن إلى الخارج وهن يولولن ويستغثن وما من مغيث، عطفك اللهم على المستضعفين من عبادك.
دار العمدتين! ... العمدة شخصية حكومية أليس كذلك؟ ... لست عمدة ولا داري بدار عمدية، ما أنا إلا رجل كسائر الناس، ما عسى أن يصنعوا بأمثالنا؟ تصور أمينة مجرورة من شعرها، أيقضى علي بأن أتمنى الجنون! ... الجنون؟
واصل الشيخ حديثه وهو يهز رأسه قائلا: وأجبروا العمدتين على أن يدلوهما على بيوت مشايخ البلدتين وأعيانهما، ثم اقتحموا البيوت محطمين الأبواب، نهبوا كل ثمين، اعتدوا على النساء اعتداء إجراميا بعد أن قتلوا اللاتي حاولن الدفاع عن أنفسهن، وضربوا الرجال ضربا مبرحا، ثم غادروهما بعد أن لم يبقوا فيهما على ثمين لم يسلب، أو عرض لم يثلم.
ليذهب كل ثمين إلى الجحيم ... «أو عرض لم يثلم» ... أين رحمة الله؟ ... أين انتقامه؟ ... الطوفان ... نوح ... مصطفى كامل. تصور! ... كيف يمكن أن تبقى معه بعد ذلك تحت سقف واحد! أي ذنب جنت! ... وهو بأي وجه؟!
ضرب الشيخ بيده ثلاثا على ركبتيه، ثم عاد إلى الحديث وقد تهدج صوته، فصار بالنواح أشبه، قال: وأضرموا النار في البلدتين مستعينين بما على أسقف الدور من حطب وقش، وبما صبوا عليها من بترول، استيقظت القرى في فزع رهيب وفر أهلوها عن بيوتهم كالمجانين، وعلا الصراخ والأنين، وامتدت ألسنة اللهب في كل مكان، حتى استحالت البلدتان شعلة من النيران.
هتف السيد بلا وعي: يا رب السموات والأرض!
فمضى الشيخ قائلا: وضرب الجنود نطاقا حول البلدتين المشتعلتين من بعيد يتربصون بالأهالي البؤساء الذين انطلقوا هائمين على وجوههم تتبعهم الأغنام والكلاب والقطط، يرومون سبيلا للنجاة من النار، فما إن بلغوا مواقف الجنود حتى انهال هؤلاء على الذكور ضربا وركلا، ثم حجزوا النساء ليسلبوا حليهن ويهتكوا أعراضهن، فإذا قاومت إحداهن قتلت، وإذا ندت عن زوج أو أب أو أخ حركة دفاع رمي بالرصاص.
ثم التفت الشيخ متولي إلى السيد الذاهل، وضرب كفا على كف وهو يهتف: وساقوا بقية الضحايا إلى معسكر قريب، وهنالك أجبروهم على التوقيع على مكتوب يتضمن اعترافهم بجرائم لم يرتكبوها، وإقرارا بأن ما أنزله الإنجليز بهم جزاء حق على ما فعلوا، هذا ما حصل يا سيد أحمد للعزيزية والبدرشين، هذا مثل من أمثلة التنكيل التي نسامها بلا رحمة ولا شفقة، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد.
وساد صمت كئيب أليم خلا فيه كل إلى أفكاره وتخيلاته، حتى قطعه جميل الحمزاوي وهو يهتف متأوها: ربنا موجود.
فهتف السيد مؤمنا على قوله: نعم! (ومشيرا إلى الجهات الأربع) في كل مكان.
وخاطب الشيخ متولي السيد قائلا: قل لفهمي إن الشيخ متولي ينصحه بالابتعاد عن موارد التهلكة، قل له سلم إلى الله ربك؛ فهو القادر وحده على إهلاك الإنجليز كما أهلك من قبلهم ممن شقوا عصا طاعته.
ثم مال الشيخ نحو عصاه ليتناولها، فأشار السيد إلى جميل الحمزاوي، فجاءه بالهدية ووضعها في يده، ثم ساعده على النهوض. صافح الشيخ الرجلين ومضى وهو يقول:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ... صدق الله العظيم.
68
عند الغلس، ونور الصباح يولد رويدا من ظلمة الفجر، طرقت خادم من السكرية بيت السيد، فأخبرت أمينة بأن عائشة قد جاءها المخاض. كانت أمينة في حجرة الفرن، فعهدت بالعمل إلى أم حنفي وهرعت إلى باب السلم. بدا على أم حنفي الاستياء ربما لأول مرة في تاريخ خدمتها الطويل بهذا البيت، أما كان يحق لها أن تشهد ولادة عائشة؟ لها كل الحق ... كأمينة سواء بسواء، فتحت عائشة عينيها في حجرها، كل ابن في هذا البيت له أمان؛ أمينة وأم حنفي، كيف يحال بينها وبين ابنتها في هذه الساعة الرهيبة! ... هل تذكرين ولادتك؟ ... وربع الطمبكشية، كان المعلم في الخارج كعادته وكانت وحيدة بعد منتصف الليل، وجدت في أم حسنية صديقة وقابلة معا! ... ترى أين أم حسنية الآن؟ ... ألا زالت على قيد الحياة؟ ثم جاء حنفي بعد تأوهات الألم، ذهب بين تأوهات الألم أيضا، وهو في المهد، لو عاش لكان ابن عشرين الآن! ... سيدتي الصغيرة تتألم وأنا هنا أهيئ الطعام. امتلأ قلب أمينة بفرح موصول بإشفاق، هو الإحساس الذي خفق به قلبها أول مرة يوم استقبلت التجربة بنفسها. ها هي عائشة تتأهب لاستقبال أول مولود تستهل به أمومتها، كما استهلت هي أمومتها بخديجة، هكذا تمتد الحياة التي انبثقت منها إلى غير نهاية، ومضت إلى الأب فزفت إليه البشرى بنبرات رقيقة مهذبة، مبالغة هذه المرة في حيائها وتهذيبها أن يستشف وراء صوتها رغبتها الحارة في الانطلاق إلى ابنتها غير أن السيد تلقى الخبر في هدوء، ثم أمرها بالذهاب دون إبطاء! ... راحت ترتدي ملابسها على عجل، وقد شعرت بأن المزايا التي تكسبها امرأة ضعيفة مثلها بإنجاب الأطفال خليقة بصنع المعجزات أحيانا، وعلم الإخوة بالخبر عند استيقاظهم عقب ذهاب الأم بقليل. علت وجوههم ابتسامة، وتبادلوا نظرة متسائلة. عائشة أم! أليس ذلك غريبا؟ ما وجه الغرابة فيه. كانت نينة أصغر منها يوم ولدت خديجة، هل ذهبت نينة لتخرج الطفل بيديها؟ ابتسامتان. هذا نذير لي، عما قليل تلد بنت الكلب أيضا ... من تعني؟! زينب. آه لو سمعك بابا. عائشة أم، وأنا أب، وأنا خال وعم، ستكون أنت أيضا عما وخالا يا سي كمال، يجب أن أتخلف اليوم عن المدرسة لأذهب إلى آبلا عائشة. جميل جدا، استأذن بابا إن استطعت على المائدة! ... أوووه. نحن في حاجة إلى مزيد من المواليد لنسد العجز الذي أوقعه الإنجليز بنا ... لو تخلفت عن المدرسة ما حدث شيء غير عادي، ثلاثة أرباع التلاميذ مضربون أكثر من شهر. قل هذا لبابا وسيقتنع حتما بحجتك، فيضربك بطبق الفول في وجهك. أوووه. مولود جديد، بعد ساعة أو ساعتين يصير بابا جدا ونينة جدة ونحن أخوالا. شيء خطير، كم مولودا يا ترى يرى نور الدنيا في هذه اللحظة؟ ... وكم إنسانا يغيب عنه هذا النور في هذه اللحظة؟ ... يجب أن نبلغ جدتي. أستطيع أن أذهب إلى الخرنفش لإبلاغها إذا تخلفت عن المدرسة! قلنا لك لا شأن لنا بمدرستك، قل لبابا وسيرحب بفكرتك. أوووه. لعل عائشة تتألم الآن. مسكينة المحبوبة، إن الطلق لا يلين للشعر الذهبي والأعين الزرق، ربنا يقومها بالسلامة، عند ذاك نشرب المغات، ونشعل الشموع، ذكر أم أنثى؟ ... أيهما تفضل؟ ... الذكر طبعا، ربما بدأت بأنثى كأمها. لم لا تبدأ بذكر كأبيها؟ ها ها، عندما يحين ميعاد انصراف المدرسة يكون الطفل قد خرج، فلن أتمكن من مشاهدة خروجه. أتريد أن تراه وهو يخرج؟ طبعا. أجل هذه الرغبة حتى يكون المولود ابنك أنت! ... كان كمال أشد الجميع تأثرا بالخبر، شغل به عقلا وقلبا وخيالا، لولا شعوره برقابة ضابط المدرسة عليه، وأنه يحصي حركاته وسكناته، ليبلغها أول فأول إلى أبيه لما كان في وسعه أن يقاوم الإغراء الذي يناديه للذهاب إلى السكرية. ومكث في المدرسة جسدا بلا روح، هامت روحه في السكرية تتساءل عن القادم الجديد الذي ترقب مقدمه أشهرا، وهو يمني النفس بالاطلاع على سره المكنون. شهد مرة ولادة قطة وهو دون السادسة؛ إذ استرعت انتباهه بموائها الحاد، فهرع إليها تحت عرش اللبلاب فوق السطح، فوجدها تتلوى ألما وقد جحظت عيناها، ثم رأى جسمها يتصدع عن فلذة ملتهبة، فتراجع متقززا وهو يصرخ بأعلى صوته. طافت هذه الذكرى بمخيلته وألحت عليه حتى عاوده تقززه القديم، وانتشرت حوله مضجرة مقلقة كالضباب. غير أنه لم يستسلم للخوف، أبي أن يتصور أن ثمة علاقة بين القطة وعائشة إلا ما يكون بين الحيوان والإنسان وهو - في إيمانه - أبعد مما بين الأرض والسماء، ولكن ماذا يحدث في السكرية إذن؟ ... ماذا طرأ على عائشة من غرائب الأمور؟ ... ثمة أسئلة حيارى لا تنعم بجواب ... ما كاد يغادر المدرسة عصرا، حتى اندفع يقطع الطريق عدوا إلى السكرية.
دخل فناء بيت آل شوكت وهو يلهث، ومضى إلى باب الحريم، فلاحت منه التفاتة إلى المنظرة، فما يدري إلا وعيناه تلتقيان بعيني والده الذي جلس شابكا راحتيه على مقبض عصاه القائمة بين رجليه. تسمر في مكانه جامدا محملقا كأنما نوم تنويما مغناطيسيا، لم يطرف ولم يبد حراكا، ركبه شعور بالذنب لا يدريه، فلبث يترقب انقضاض العقاب عليه وبرودة الخوف تسري في أطرافه، حتى اشتبك السيد أحمد في حديث مع شخص يجلس إلى جانبه، فالتفت نحوه، فاسترد كمال عينيه وهو يزدرد ريقه، عند ذلك لمح في داخل المنظرة إبراهيم شوكت وياسين وفهمي قبل أن يفر إلى الداخل، رقي في السلم وثبا، حتى انتهى إلى دور عائشة، فدفع بابا مواربا، ودخل فالتقى بخليل شوكت زوج أخته واقفا في الصالة، ورأى باب حجرة النوم مغلقا، وقد ترامى من ورائه إلى سمعه أصوات تتحادث ميز منها أمه وحرم المرحوم شوكت، وصوتا ثالثا لا يعرفه، سلم على زوج أخته، ثم سأله وهو يتطلع إليه بطرف باسم: آبلا عائشة ولدت؟
فرفع الرجل سبابته إلى شفتيه محذرا، وهو يقول: هس.
أدرك كمال أنه لم يرحب بالسؤال، بل أنه لم يرحب بمقدمه كسالف عادته، فخجل وعانى قلقا لم يدر له سببا، وأراد أن يتقدم من الباب المغلق، ولكن صوت خليل أوقفه، وهو يهتف باقتضاب ينم عن الضجر: لا.
فتحول نحوه متسائلا، ولكن الرجل قال له في عجلة ولهوجة: انزل يا شاطر والعب تحت.
انكسرت نفس الغلام، فتقهقر متثاقلا بائخا، وقد عز عليه أن يجزى على عذاب انتظاره طوال اليوم هذا الجزاء البخس، ولما بلغ عتبة الصالة صك أذنيه صوت غريب آت من الحجرة المغلقة، بدأ رفيعا حادا عاليا، ثم غلظ وترهل حتى بح، وانتهى بحشرجة طويلة قاسية، ثم غاب لحظة مقدارها تردد النفس المقطوع، ثم بعث آهة عميقة شاكية، بدا له غريبا أول الأمر، كأنه لم يعرف صاحبه، ولكن نبرة من نبراته المعذبة تميزت وسط الحدة والغلظة والحشرجة، فوشت بهوية مصدره، صوت عائشة بلا ريب، أو هو عائشة مذابة منصهرة، ثم تأكد من ظنه عند تردد الآهة العميقة الشاكية، فارتعشت جوارحه، وخيل إليه أنه يراها تتلوى على حال من الألم دعت إلى مخيلته بصورة القطة القديمة، وعطف رأسه صوب خليل، فألفاه يقبض راحته ويبسطها وهو يتمتم: «يا لطيف يا رب»، فخيل إليه مرة أخرى أن جسم عائشة ينقبض وينبسط مثل راحة الرجل، لم يعد يملك من نفسه شيئا، فركض إلى الخارج مفحما في البكاء، وعندما انتهى إلى باب الحريم استرعى سمعه وقع أقدام هابطة وراءه، فرفع رأسه فرأى الجارية سويدان نازلة على عجل، فمرت به دون أن تنتبه إليه حتى وقفت على عتبة باب الحريم، ثم نادت سيدها إبراهيم فجاء الرجل مسرعا، فقالت له: «الحمد لله يا سيدي.» لم تزد على ذلك شيئا، ولم تنتظر حتى تسمع ما يقول، ولكنها دارت على عقبيها، وهرعت إلى السلم، فرقيت فيه دون تردد، رجع إبراهيم إلى المنظرة متهلل الوجه، فلبث كمال وحده لا يدري ما يفعل، ولكن لم تمض دقيقة حتى عاد إبراهيم يتبعه السيد أحمد فياسين، ثم فهمي، فتنحى الغلام جانبا حتى مروا، ثم صعد في أعقابهم خافق القلب، وقابل خليل الآتين أمام مدخل الشقة، فسمع أباه وهو يقول له: الحمد لله على السلامة ...
فغمغم خليل في وجوم: الحمد لله على كافة الأحوال!
فسأله السيد باهتمام: ما لك؟
فقال بصوت منخفض: إني ذاهب لاستدعاء الطبيب.
فتساءل السيد قلقا: المولود؟
فأجابه وهو يهز رأسه سلبا: عائشة! ... ليست على ما يرام، سأجيء بالطبيب حالا.
وذهب مخلفا وراءه وجوما وقلقا واضحين، ثم دعاهم إبراهيم شوكت إلى حجرة الاستقبال، فمضوا إليها صامتين، وجاءت حرم المرحوم شوكت بعد قليل، فسلمت وهي تبتسم لتدخل الطمأنينة إلى قلوبهم، ثم جلست وهي تقول: قاست المسكينة طويلا حتى أنهكت قواها، ولكنها حال عارضة وستزول وشيكا، إني واثقة مما أقول، ولكن ابني بدا اليوم خوافا على غير عادته، على أنه لا ضرر البته من مجيء الطبيب (ثم مناجية نفسها بصوت خفيض) الطبيب ربنا، وربنا هو الطبيب ...
لم يعد السيد يطيق ما يلتزم به عادة من وقار وبرود أمام أبنائه، فسألها في قلق غير خاف: ماذا بها؟ ... ألا أستطيع أن أراها؟
فابتسمت المرأة وقالت: ستراها عما قريب وهي بخير وعافية، الحق على ابني المجنون هو الذي أزعجكم بغير موجب.
كان وراء الصدر العريض القوي والوقار الحازم المهيب قلب يتعذب أشد العذاب، كان وراء العينين الواجمتين الرزينتين دمع متجمد ... ماذا دهم الصغيرة؟ الطبيب؟! لماذا تحول العجوز بيني وبينها؟! ابتسامة رقيقة أو كلمة حنونة مني أنا، مني أنا خاصة، حقيقة بأن تخفف من آلامها، زواج وزوج وألم، لم تذق في بيتي مرارة الألم قط، العزيزة الجميلة الصغيرة رحمتك اللهم، فسد طعم الحياة، إنه ليفسد لأهون أذى يتهددهم، فهمي ... أراه واجما متألما ... هل أدرك معنى الألم؟ ... من أين له أن يعرف قلب الأم! العجوز مطمئنة وواثقة مما تقول، ابنها أزعجنا بغير موجب، اللهم استجب، أنت أعلم بحالي بأن تنجيها كما نجيتني من الإنجليز، قلبي لا يطيق هذا العذاب، عند الله الرحمة، وهو قادر على حفظ أبنائي من كل سوء، لا طعم للحياة بغير ذلك، لا طعم للسرور والطرب واللهو إذا انغرست في جنبي شوكة حادة، قلبي يدعو لهم بالسلامة؛ لأنه قلب أب، ولأنه لا تطيب المسرات إلا لخلي، هل ألقى سمار الليل بقلب سعيد؟ ... أحب إذا ضحكت أن تنطلق الضحكة من أعماق قلبي صافية، القلب القلق كالوتر المختل، حسبي فهمي، إنه يلح علي كوجع الأسنان، ما أبغض الألم، دنيا بلا ألم، لا شيء على الله بكثير، دنيا بلا ألم ولو تكون قصيرة، دنيا تقر فيها عيني بهم جميعا، هنالك أضحك وأغني وألهو، يا أرحم الراحمين، عائشة يا أرحم الراحمين!
بعد غيبة ثلث ساعة عاد خليل مصحوبا بالطبيب، فدخلا الحجرة من فورهما، ثم أغلق الباب وراءهما، وعلم السيد بمقدمهما فقام واتجه إلى باب حجرة الاستقبال، ووقف على العتبة قليلا وهو يمد البصر إلى الباب المغلق، ثم عاد إلى مجلسه فجلس. قالت حرم المرحوم شوكت: لتعلمن صدق رأيي حالما يتكلم الطبيب.
فغمغم السيد وهو يرفع رأسه إلى أعلى: عنده العفو.
عما قليل يعرف الحقيقة، فيمرق من ضباب الشك مهما تكن العواقب. إن قلبه يخفق خفقانا سريعا متواصلا، فليصبر، لم يبق إلا قليل. إن إيمانه بالله قوي عميق، لا يتزعزع فليسلم إليه أمره، سيخرج الطبيب طال مكثه في الداخل أم قصر، وعند ذاك يسأله عما وراءه، الطبيب؟ ... لم يفكر في ذلك من قبل، طبيب عند نفساء؟! ... مع الرحم وجها لوجه، أليس كذلك؟ ولكنه طبيب! ... ما الحيلة؟! المهم أن ربنا يأخذ بيدها فلنسأله السلامة، وجد السيد إلى قلقه حياء وامتعاضا. واستمر الفحص زهاء ثلث ساعة ثم فتح الباب، فنهض السيد ومضى من توه إلى الصالة، وتبعه الأبناء حتى تجمعوا حول الطبيب. كان الطبيب من معارف السيد، فصافحه باسما، ثم قال: بخير وعافية.
ثم في شيء من الجد: جاءوا بي للوالدة، ولكني وجدت أن التي في حاجة إلى العناية حقا هي المولودة.
تنفس السيد بارتياح لأول مرة منذ حوالي الساعة، فتساءل ووجهه يشرق بابتسامة لطيفة: أأطمئن إذن على عهدتك؟
فقال الطبيب وهو يتظاهر بالدهش: نعم، ولكن ألا تهمك حفيدتك؟!
فقال السيد باسما: لا عهد لي بعد بواجبات الجد.
وتساءل خليل: أليس ثمة أمل في حياتها؟
فقال الرجل وهو يزوي ما بين حاجبيه: الأعمار بيد الله، ولكني وجدت قلبها ضعيفا، من المحتمل أن تموت الليلة، وإذا مرت الليلة بسلام جازت الخطر الماثل، ولكني لا أظن أنها تعمر طويلا، في تقديري أنه لا يمكن أن يمتد بها العمر إلى ما بعد العشرين، ولكن من يعلم؟ الأعمار بيد الله وحده ...
ولما ذهب الطبيب إلى طيته التفت خليل نحو أمه وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة تنم عن أسف، وقال: كان في نيتي أن أسميها نعيمة باسمك ...
فقالت المرأة وهي تلوح بيدها مؤنبة: الطبيب نفسه قال: إن الأعمار بيد الله، أفتكون أنت أضعف إيمانا منه، سمها نعيمة، يجب أن تسميها نعيمة إكراما لي، وسيكون عمرها بإذن الله مديدا كعمر جدتها!
كان السيد يحادث نفسه: دعا الأحمق الطبيب ليطلع على زوجه بغير موجب، بغير موجب! ... يا له من أحمق. ولم يستطع أن يكتم غيظه، فقال وهو يداريه بلهجة رقيقة: حقا الخوف يفقد الرجال حسن الروية، أما كان يجمل بك أن تفكر قليلا قبل أن تبادر إلى إحضار رجل غريب ليرى زوجك بملء عينيه؟!
لم يجب خليل، ولكنه نظر فيمن حوله، وقال بجد: لا يجوز أن تعلم عائشة بما قال الطبيب.
69 - ماذا في الطريق؟
تساءل السيد أحمد وهو ينهض في عجلة من وراء مكتبه، فذهب صوب باب الدكان يتبعه جميل الحمزاوي وبعض الزبائن. لم يكن طريق النحاسين طريقا هادئا، كان أبعد ما يكون عن الهدوء، صوته الجهير لا يخفت من الفجر إلى ما قبيل الفجر، حناجر عالية هتافة بنداءات الباعة، ومساومات الشارين، ودعوات المجذوبين، ودعابات السابلة، يتحادثون وكأنهم يخطبون، حتى أخص الشئون تترامى إلى جوانبه، وتطير حتى مآذنه، إلى ضوضاء شاملة تصدر عن صليل سوارس حينا وطقطقة الكارو حينا آخر، لم يكن طريقا هادئا بحال، ولكن تعالت ضجة فجائية وفدت من بعيد في بادئ الأمر كهدير الأمواج، ثم غلظت واشتدت حتى صارت بعزيف الريح أشبه، وقد لفت الحي كله قريبه وبعيده، بدت غربية شاذة، حتى في هذا الطريق الصاخب، ظنها السيد أحمد مظاهرة ثائرة كما ينبغي لرجل عاش في تلك الأيام، ولكن جلجلت في طياتها زغاريد مبشرة بالأفراح، فمضى الرجل متسائلا إلى الباب، ولم يكد يبلغه حتى اصطدم بشيخ الحارة الذي أقبل مندفعا وهو يهتف بوجه طفر منه البشر: أبلغك الخبر؟
فقال السيد وعيناه تلمعان تفاؤلا من قبل أن يسمع شيئا: كلا ... ماذا وراءك؟
قال الرجل بحماس: سعد باشا أفرج عنه ...
فما تمالك السيد أن تساءل صائحا: حقا؟!
فقال شيخ الحارة بيقين: أذاع أللنبي الساعة بيانا بهذه البشرى ...
في اللحظة التالية كانا يتعانقان، واشتد التأثر بالسيد أحمد، فاغرورقت عيناه، ثم قال وهو يضحك مداراة لتأثره: كان العهد به دائما أن يذيع الإنذارات لا البشريات، فماذا غيره ابن الهرمة؟!
فقال شيخ الحارة: سبحان الذي لا يتغير ...
وصافح السيد، ثم غادر الدكان وهو يصيح: «الله أكبر، الله أكبر، النصر للمؤمنين!»
وقف السيد على عتبة الدكان مقلبا عينيه في أنحاء الطريق بقلب ارتد إلى براءة الطفولة وبهجتها، طالع أثر الخبر السعيد في كل مكان ... في الدكاكين التي سدت مداخلها بأصحابها وزبائنها وهم يتبادلون التهاني، في النوافذ التي تزاحمت فيها الأحداث، وانطلقت الزغاريد من وراء خصاصها، في المظاهرات التي تألفت ارتجالا ما بين النحاسين والصاغة وبيت القاضي هاتفة قلوبها لسعد، وسعد وسعد ثم سعد، في المآذن التي اعتلى المؤذنون شرفاتها يشكرون، ويدعون ويهتفون، في العربات الكارو التي تجمعت بالعشرات حاملة المئات من النسوة المتلفعات بالملاءات اللف، وهن يرقصن ويرددن الأغاني الوطنية، لم يعد يرى إلا آدميين أو بالأحرى هاتفين، اختفت الأرض وتوارت الجدران، وتعالى الهتاف لسعد في كل مكان، كأنما الجو قد انقلب أسطوانة هائلة تدور بلا توقف مرددة اسمه. وجرى نبأ فوق الرءوس الحاشدة أن الإنجليز يجمعون معسكراتهم القائمة عند مفترق الطرق تأهبا للرحيل إلى العباسية، فاستمر الحماس وحمست النشوات. لم ير السيد أحمد منظرا كهذا من قبل، فراح يقلب عينين متألقتين وفؤاده يخفق وثبا، وباطنه يردد مع النسوة الراقصات: «يا حسين ... حملة وانشالت!» حتى أدنى جميل الحمزاوي رأسه من أذنه قائلا: الدكاكين توزع الشربات وترفع الأعلام.
فقال له بحماس: اصنع كما يصنعون وأكثر، أرني همتك!
ثم بصوت متهدج: علق صورة سعد تحت البسملة.
فنظر إليه جميل الحمزاوي كالمتردد، ثم قال محذرا: هذا موضع ترى فيه الصورة من الخارج، ألا يحسن بنا أن نتريث حتى تستتب الأمور؟
فقال السيد باستهانة: مضى عهد الخوف والدماء إلى غير رجعة، ألا ترى أن المظاهرات تمر تحت أعين الإنجليز دون أن يتعرضوا لها بسوء؟ علق الصورة وتوكل على الله.
غار عهد الخوف والدماء، أليس كذلك؟ سعد حر طليق، ولعله في طريقه الآن إلى أوروبا، لم يعد بيننا وبين الاستقلال إلا خطوة أو كلمة، مظاهرات الزغاريد بدلا من مظاهرات الرصاص، الأحياء منا قوم سعداء، اخترقوا النيران وخرجوا سالمين، رحمة الله على الشهداء، فهمي؟! نجا من خطر لم يقدره، نجا والحمد لله والشكر لله، أجل نجا فهمي، ماذا تنتظر؟ ... صل إلى الله ربك.
لما اجتمعت الأسرة مساء وشت الحناجر المبحوحة بيوم مليء بالهتاف. كان مساء سعيدا، نمت عن سعادته الأعين والثغور والحركة والكلام حتى أمينة نهل قلبها من نخب السعادة المبذول مشاركة للأبناء، واستبشارا بعودة السلام وفرحا بالإفراج عن سعد. - من المشربية رأيت ما لم تر عين من قبل، هل قامت القيامة ونصب الميزان؟! وأولئك النساء هل جنن؟! لا يزال صدى ترديدهن يرن في أذني: «يا حسين ... حملة وانشالت.»
قال ياسين ضاحكا وهو يعبث بشعر كمال: تحية شيعوا بها الإنجليز الراحلين كما يشيع الضيف الثقيل بكسر القلة وراءه!
نظر إليه كمال من دون أن ينبس، على حين عادت أمينة تتساءل: أرضي الله عنا أخيرا؟
فأجابها ياسين قائلا: بلا ريب (ثم مخاطبا فهمي) ماذا تظن؟
قال فهمي الذي بدا في فرح الأطفال: لو لم يسلم الإنجليز بمطالبنا لما أفرجوا عن سعد، سوف يسافر إلى أوروبا، ثم يعود بالاستقلال، هذا ما يؤكده الجميع، ومهما يكن من أمر، فسيبقى يوم 7 أبريل سنة 1919 رمزا لانتصار الثورة.
فعاد ياسين يقول: يا له من يوم! اشترك الموظفون في المظاهرات علانية، ما كنت أظن أن بي هذه القدرة العظيمة على السير المتواصل والهتاف العالي!
فضحك فهمي قائلا: وددت لو رأيتك وأنت تهتف متحمسا، ياسين يتظاهر ويتحمس ويهتف! ... يا له من منظر فريد!
يوم عجيب في الأيام حقا، اكتسحه سيله الزاخر، فحمله بين أمواجه العاتية كوريقة لا وزن لها حتى طار به كل مطار، لا يكاد يصدق أنه ثاب إلى رشده، وأنه آوى إلى برج المراقبة الهادئ يشاهد من منظاره الحوادث في هدوء وعدم اكتراث! ... جعل يستحضر الحال التي تلبسته في المظاهرات على ضوء ملاحظة فهمي، حتى قال بغرابة: الواحد منا ينسى نفسه وهو بين الناس نسيانا غريبا، فكأنه يبعث شخصا جديدا.
سأله فهمي باهتمام: أكنت تشعر بحماس صادق؟ - هتفت لسعد حتى بح صوتي، واغرورقت عيناي مرة أو مرتين. - كيف اشتركت في المظاهرة؟ - بلغنا نبأ الإفراج عن سعد ونحن في المدرسة، ففرحت فرحا عظيما حقا، أكنت تتوقع غير هذا؟ ... وإذا بالمدرسين يقترحون الانضمام إلى المظاهرة الكبيرة في الخارج، فلم أجد من نفسي ميلا إلى مجاراتهم، وفكرت في التسلل إلى البيت، غير أني اضطررت إلى السير معهم، حتى تسنح لي فرصة للزيغان، ماذا حصل بعد ذلك! وجدت نفسي في بحر متلاطم من الناس، وجو مكهرب من الحماس، فما ملكت أن ذهلت عن نفسي، واندمجت في التيار كأشد ما يكون المرء - صدقني في هذا - حماسا وأملا!
فهز فهمي رأسه وهو يغمغم: شيء عجيب.
ضحك ياسين عاليا، ثم قال: أحسبتني فاقد الوطنية؟! المسألة أني لا أحب الزياط والعنف، ولا أجد حرجا في التوفيق بين حب الوطن وحب السلامة. - وإذا شق التوفيق بينهما؟
فقال مبتسما، ولكن دون تردد: قدمت حب السلامة! نفسي أولا ... ألا يستطيع الوطن أن يسعد إلا بالتهام حياتي؟! يفتح الله، أنا لا أفرط في حياتي، ولكني سأحب الوطن ما دمت «حيا».
قالت أمينة: هذا عين العقل (ثم متطلعة إلى فهمي) هل عند سيدي رأي آخر؟
قال فهمي بهدوء: كلا طبعا، إنه عين العقل كما قلت.
ولم يرض كمال أن يبقى بمعزل عن الحديث، لا سيما أنه كان مقتنعا بأنه لعب في يومه دورا خطيرا حقا فقال: وأضربنا نحن كذلك، ولكن الناظر قال لنا: إننا ما زلنا صغارا، وإننا إذا خرجنا من المدرسة داستنا الأقدام، ثم سمح لنا بالتظاهر في فناء المدرسة، فتجمعنا فيه وهتفنا (هنا هتف عاليا: يحيا سعد) طويلا جدا، ثم لم نعد إلى الفصول؛ لأن المدرسين كانوا قد غادروا المدرسة منضمين إلى المتظاهرين في الخارج!
رماه ياسين بنظرة ساخرة وقال: ولكن أصدقاءك ذهبوا! - في داهية.
ندت عنه هذه العبارة بلا تفكير وهي أبعد ما تكون عن حقيقة شعوره؛ لأن الحال تقتضيها من ناحية، ولأنه أراد أن يداري بها هزيمته أمام سخرية ياسين من ناحية أخرى، أما قلبه فكان يكابد دهشة وغمزا، لم ينس كيف وقف لدى عودته من المدرسة في المكان المهجور الذي كان يحتله المعسكر يقلب عينيه في أرجائه في صمت أليم وعيناه مغرورقتان. سوف يمضي وقت طويل قبل أن ينسي مجلس الشاي على طوار سبيل بين القصرين والإعجاب الذي كان يحظى به غناؤه، والمودة التي كان يلقاها من الجنود خاصة جوليون، والصداقة التي ربطته بالسادة المتفوقين الذين يعلون في اعتقاده على سائر البشر! قالت أمينة: سعد باشا رجل سعيد الحظ، الدنيا كلها تهتف باسمه، ولا أفندينا في زمانه ... رجل مؤمن بلا ريب؛ لأن الله لا ينصر إلا المؤمنين. نصره على الإنجليز الذين غلبوا زبلن نفسه، أي فوز وراء هذا؟! ... لقد ولد الرجل في ليلة القدر.
سألها فهمي باسما: أتحبينه؟ - أحبه ما دمت تحبه.
بسط فهمي راحتيه، ورفع حاجبيه مستنكرا، ثم قال: لا يعني هذا شيئا!
فتنهدت فيما يشبه الارتباك، ثم قالت: كنت كلما بلغني نبأ أسيف تقطع قلبي حزنا، وقلت لنفسي: «يا ترى أكان يقع هذا لو لم يقم سعد قومته؟!» على أن رجلا يجمع الكل على حبه لا بد أن الله يحبه كذلك.
ثم متنهدة بصوت مسموع: أسفي على الهالكين، كم أما تبكي الآن بحرارة؟ ... كم أما لم تزدها فرحة اليوم إلا حسرة على حسرة.
قال لها فهمي، وهو يغمز ياسين بطرفه: الأم الوطنية حقا تزغرد لاستشهاد ابنها.
فوضعت أصبعيها في أذنيها، وهتفت: اللهم إني أشهدك على ما يقول سيدي الصغير! ... أم تزغرد لاستشهاد ابنها! أين؟! على هذه الأرض؟ ولا تحت الأرض في عالم الشياطين!
قهقه فهمي عاليا ومضى يفكر مليا، ثم قال وعيناه تلمعان باسمتين: نينة! سأبوح لك بسر خطير آن له أن يذاع. لقد اشتركت في المظاهرات وقابلت الموت وجها لوجه!
سهمت إليه غير مصدقة، ثم قالت وعلى شفتيها ابتسامة باهتة: أنت؟! ... محال ... إنك من لحمي ودمي وقلبك من قلبي، لست كالآخرين ...
فقال بيقين وهو يبتسم إليها: أقسم لك على ذلك بالله العظيم.
اختفت الابتسامة واتسعت العينان في ذهول، ثم رددت بصرها بينه وبين ياسين الذي حدجه بدوره بنظرة متسائلة، ثم غمغمت وهي تزدرد ريقها: رباه! ... كيف أصدق أذني!
ثم بعد أن هزت رأسها في حيرة أليمة: أنت!
كان يتوقع انزعاجها، ولكن ليس - بالنظر لمجيء اعترافه بعد زوال الخطر - إلى الحد الذي بدا عليها، فبادرها قائلا: ذاك تاريخ مضى وانتهى، لا داعي الآن للانزعاج.
فقالت بإصرار ونرفزة: صه ... أنت لا تحب أمك، سامحك الله.
فضحك فهمي في شيء من الارتباك. قال كمال لأمه وهو يبتسم بمكر: أتذكرين يوم دكان البسبوسة وضرب النار؟ رأيته وأنا عائد في الطريق المقفر، فنبه علي بألا أخبر أحدا بأني رأيته.
ثم نظر إلى فهمي وسأله باهتمام وتشوق: قص علينا يا سي فهمي ما لقيت في المظاهرات، كيف كانت تقع المعارك؟ وكيف يصرع القتلى؟ ألم تطلق النار قط؟
فتدخل ياسين في الحديث قائلا للأم: ذاك تاريخ مضى وانتهى، اشكري الله على نجاته، هذا أولى بك من الانزعاج.
سألته بجفاء: أكنت تعلم بذلك؟
فبادرها قائلا: لا وحياة تربة أمي (ثم مستدركا) وديني وأيماني وربي.
ثم نهض من مجلسه منتقلا إلى جوارها، فوضع يده على منكبيها، وقال برقة: أتطمئنين حين كان ينبغي الانزعاج، وتنزعجين حين ينبغي الاطمئنان! وحدي الله، زال الخطر وعاد السلام، ها هو فهمي بين يديك ... (وضاحكا) ابتداء من الغد سنقطع القاهرة طولا وعرضا، ليلا ونهارا، بلا خوف أو قلق.
وقال فهمي جادا: نينة، رجائي إليك ألا تكدري صفونا بحزن لا موجب له.
تنهدت ... فتحت فاها لتتكلم، ولكنها حركت شفتيها دون أن تنبس، ابتسمت ابتسامة شاحبة لتعلن استجابتها لرجائه، ثم نكست وجهها لتخفي عينيها المغرورقتين.
70
بات فهمي تلك الليلة وهو عاقد العزم على استرضاء أبيه مهما كلفه الأمر، وفي صباح اليوم التالي صمم على تنفيذ عزمه دون تردد. ومع أنه لم يضمر لأبيه - طول فترة العصيان - أي إحساس بالغضب أو التحدي، فإن ضميره كابد شعورا بالذنب ناء به قلبه الحساس المشرب بالطاعة والولاء. حقا لم يتحده بلسانه، ولكنه خالف إرادته بالفعل، بل خالفها مرارا وتكرارا، فضلا عن امتناعه عن القسم يوم دعاه إليه في حجرته، وإعلانه بالبكاء تمسكه برأيه رغم إرادة الرجل، كل أولئك أحله - على حسن نيته - موقفا عاقا شريرا لا يرضاه لنفسه ولا يحتمله. ولم يكن سعى إلى استرضائه من قبل خشية أن ينكأ الجرح دون أن يسعه أن يلأمه؛ لأنه قدر أن يدعوه السيد إلى القسم تكفيرا عما بدر منه، فيضطر مرة أخرى إلى الامتناع، مؤكدا عصيانه من حيث أراد أن يعتذر عنه. الحال اليوم غيرها بالأمس، انتشى قلبه بالسرور والظفر، الوطن كله ثمل بخمر السعادة والفوز، فلا يطيق أن يقوم بينه وبين أبيه حجاب من سوء الظن ولو لحظة واحدة، الاسترضاء، فالعفو الذي يهفو إليه، ثم السعادة الحقة التي لا تشوبها شائبة. دخل حجرة أبيه قبيل ميعاد الفطور بربع ساعة، فوجده يطوي سجادة الصلاة مغمغما بالدعاء، لمحه الرجل بلا ريب ولكنه تجاهله، فمضى إلى الكنبة دون أن يلتفت صوبه وجلس. عند ذاك تراءى فهمي بموقفه عند الباب ملفوفا بالارتباك والحياء، فحدجه بنظرة جافة مستنكرة، كأنما تتساءل: «من هذا الواقف وماذا جاء به؟!» فتغلب فهمي على ارتباكه، وتقدم من مجلس أبيه في خطى خفيفة، حتى انحنى على يده، فتناولها ولثمها باحترام لا حد له، وصمت مليا ثم قال بصوت لا يكاد يسمع: صباح الخير يا بابا.
واصل التحديق فيه صامتا، كأنه لم يسمع تحيته حتى غض الشاب بصره ارتباكا، وغمغم في نبرات نمت عن اليأس: إني آسف.
صمت وإصرار على الصمت. - آسف جدا، لم أذق طعم السكينة منذ ...
وجد أن الكلام كان يستدرجه إلى ذكر ما ود من كل قلبه أن يتحاشاه فأمسك، وما يدري إلا والسيد يسأله بجفاء وتبرم: وماذا تريد؟
رحب بإقلاعه عن الصمت أيما ترحيب، فتنهد بارتياح كأنه لم يستشعر جفاءه، وقال برجاء: أريد أن تكون راضيا عني.
قال السيد بضجر: غر من وجهي.
فقال فهمي وهو يشعر بقبضة اليأس تتراخى قليلا عن عنقه: عندما أنال رضاك.
تساءل السيد متحولا فجأة إلى التهكم: رضاي! ... لم لا؟ ... هل فعلت لا سمح الله ما يستوجب السخط؟!
رحب بالتهكم أضعاف ترحيبه بالإقلاع عن الصمت، التهكم عند أبيه أول خطوة نحو الصفح، غضبه الحقيقي صفع أو لكم أو ركل أو سب، أو كل أولئك جميعا، التهكم أول بشير بالتحول، انتهز الفرصة وتكلم، تكلم كما ينبغي لرجل قد يعمل في المحاماة غدا أو بعد غد، هذه فرصتك! وتكلم، الاستجابة لنداء الوطن لا تعد عصيانا لإرادة حضرتك، لم أفعل شيئا يحسب بين الأعمال الوطنية حقا، توزيع منشورات على الأصدقاء ... وما توزيع المنشورات على الأصدقاء؟ أين أنا ممن بذلوا الحياة رخيصة؟ فهمت من كلام حضرتك أنك تخاف على حياتي، لا لأنك تستنكر حقا الواجبات الوطنية، فقمت بشيء من الواجب، وأنا مطمئن إلى أني - في الواقع - لا أخالف لك إرادة ... إلخ ... إلخ. - علم الله أنه لم يخطر ببالي قط أن أعصي لك أمرا.
قال السيد بحدة: كلام فارغ، تتظاهر بالطاعة الآن؛ لأنه لم يعد ثمة داع إلى العصيان، لم لم تطلب رضاي قبل اليوم؟
قال فهمي بحزن: كانت الدنيا في دم وكرب، وكنت من الحزن في شغل شاغل. - شغلك عن طلب رضاي؟!
قال بحرارة: شغلني عن نفسي لا عن طلب رضاك.
ثم بصوت منخفض: لن أستطيع أن أعيش بغير رضاك.
قطب السيد، لا غضبا كما تظاهر، ولكن ليخفي الأثر اللطيف الذي بعثه كلام الشاب في نفسه. هكذا يكون الكلام وإلا فلا، يجيد صناعة الكلام حقا، هذه هي البلاغة أليس كذلك؟ سأعيد أقواله على مسامع الأصدقاء الليلة لأمتحن أثره في نفوسهم، ترى ما عسى أن يقولوا؟ الولد سر أبيه ... هذا ما ينبغي أن يقال، قديما قيل لي إنني لو أتممت مراحل التعليم لكنت أبلغ المحامين، إني أبلغ الناس بغير التعليم والمحاماة، الحديث اليومي كالقانون سواء بسواء في الكشف عن موهبة البلاغة، كم من محام أو موظف كبير ينكمش في المجلس أمامي كالعصفور! ولا فهمي نفسه بمستطيع أن يسد مكاني يوما ما، سيقولون لي وهم يضحكون حقا الولد سر أبيه، امتناعه عن القسم لا يزال يحز في نفسي، لكن أليس من دواعي الفخر لي أنه اشترك في الثورة ولو من بعيد؟ ليته اشترك في الأعمال الكبيرة ما دام الله قد كتب له العمر حتى اليوم، سأقول من الآن فصاعدا إنه خاض غمار الثورة، أتظنون أنه اكتفى بتوزيع المنشورات كما كان يؤكد لي؟ لقد رمى ابن الكلب بنفسه في التيار الدامي، يا سيد أحمد ينبغي أن نشهد لابنك بالوطنية والشجاعة ... لم نشأ أن نقول لك هذا في إبان الخطر، أما وقد استقر السلام فلا حرج من قوله ... أتنكر أنت شعورك الوطني؟ ... ألم يثن عليك جامعو التبرعات من مندوبي الوفد ... والله لو كنت شابا لفعلت ما لم يفعله ابنك، ولكنه عصاني! عصى لسانك وأطاع قلبك! الآن ما عسى أن أفعل؟ يريد قلبي أن يهبه العفو، ولكني أخاف أن يستهين بمخالفتي! - وأنا لن أستطيع أن أنسى أنك خالفت إرادتي، أحسبت أن الخطبة الفارغة التي صبحتني بها على غيار الريق يمكن أن تؤثر في؟!
هم فهمي بالكلام، ولكن أمه دخلت في تلك اللحظة وهي تقول: الفطور جاهز يا سيدي.
وقد دهشت لوجود فهمي على غير انتظار، فرددت عينيها بينهما، وتلكأت قليلا لعلها تسمع شيئا مما يدور، ولكنها رأت في الصمت - الذي خافت أن يكون مجيئها باعثه - ما دعاها إلى مغادرة الحجرة على عجل. نهض السيد للانتقال إلى حجرة المائدة، فتنحى فهمي جانبا، وقد علاه حزن شديد لم يخف أثره عن عيني الرجل، فتردد لحظات ثم قال أخيرا بصوت سلمي: أريد مستقبلا ألا تصر على حماقتك وأنت تخاطبني ...
وسار فتبعه الشاب ممتنا باسم الأسارير، ثم سمعه يقول متهكما وهما يقطعان الصالة: أظنك حاسب نفسك على رأس الذين أفرجوا عن سعد!
غادر فهمي البيت قرير العين، فمضى من توه إلى الأزهر، حيث اجتمع بزملائه أعضاء لجنة الطلبة العليا للنظر في تنظيم المظاهرات السلمية الكبرى التي سمحت السلطة بقيامها للإعراب عن ابتهاج الشعب، والتي تقرر أن يشترك فيها ممثلو الأمة بكافة طبقاتها، دام الاجتماع وقتا غير قصير، ثم تفرق المجتمعون كل إلى وجهته، فركب الشاب إلى ميدان المحطة بعد أن عرف الدور الذي عهد به إليه، وهو الإشراف على تجمعات طلبة المدارس الثانوية. لئن كان يعد ما يعهد عادة إليه - بالقياس إلى غيره، من الأدوار الثانوية، إلا أنه كان يقوم به بدقة وعناية وغبطة، كأنما هو أسعد ما يحظى به في حياته، غير أنه لم يكن يخلو في جهاده من تعاسة خفيفة لم يعلم بها أحد سواه، منشؤها ما اقتنع به من أنه دون الكثيرين من أقرانه جرأة وإقداما ... أجل لم ينكص عن مظاهرة من المظاهرات التي دعت إليها اللجنة، ولكنه كان يفقد جنانه عند ظهور اللوريات المحملة بالجنود، وخاصة عند إطلاق الرصاص وتساقط الضحايا ... فمرة لاذ بمقهى وهو يرتعد، ومرة أخرى جرى على وجهه شوطا بعيدا حتى وجد نفسه في قرافة المجاورين، أين هو من حامل اللواء في مظاهرة بولاق، أو مذبحة بولاق كما غدت تسمى، الذي استشهد ويداه قابضتان على اللواء، وقدماه ثابتتان في الطليعة، وحنجرته تهتف بالثبات؟! أين هو من أقران ذلك الشهيد الذين تبادروا إلى اللواء ليرفعوه فسقطوا فوقه، وقد تقلدت صدورهم نياشين الرصاص؟! أين هو من ذلك الشهيد الذي انتزع المدفع الرشاش من أيدي الجنود في الأزهر؟! أين هو من هؤلاء جميعا وغيرهم ممن تطير الأنباء بآي بطولتهم واستشهادهم؟! كانت أعمال البطولة تتراءى لعينيه رائعة باهرة، تخطف الأبصار، وطالما أنصت إلى نداء باطني يهيب به إلى الإقدام والتأسي بالأبطال، ولكن كانت تخذله أعصابه في اللحظة الحاسمة، فما إن تنحسر موجة المعركة حتى يجد نفسه في المؤخرة إن لم يكن مختبئا أو هاربا، ثم يعود إلى التصميم على مضاعفة البذل والكفاح والتماسك بضمير معذب وقلب حائر ورغبة في الكمال لا تحد، متعزيا أحيانا بقوله: «ما أنا إلا محارب أعزل، ولئن فاتني الرائع من أعمال البطولة، فحسبي أنني لم أتردد مرة واحدة عن الإلقاء بنفسي في أتون المعركة.» في طريقه إلى ميدان المحطة جعل يراقب الطرق والمركبات، كان الجميع يتوجهون - فيما بدا - وجهته، طلبة وعمالا وموظفين وأهلين راكبين وراجلين، تظلهم جميعا طمأنينة خليقة بقوم ذاهبين إلى مظاهرة سلمية مصرح بها، إنه مثلهم، يشعر بشعورهم، لا كعهده القديم حين كان يلتمس طريقه إلى موعد المظاهرة بنفس ثائرة، وقلب تثقل ضرباته كلما تخايل لعينيه شبح الهلاك. ذاك عهد مضى، اليوم يمضي مطمئن الجانب باسم الثغر ... انتهى الجهاد! خرج منه سليما لا عليه ولا له. ولا له؟! ليته عانى شيئا مما تعرض له الآلاف كالسجن أو الضرب أو إصابة غير مميتة! أليس من المحزن أن تكون السلامة المطلقة جزاء من أوتي قلبا كقلبه وحماسا كحماسه! كطالب مجتهد لم يتح له أن يظفر بأية شهادة ... أتنكر سرورك بالنجاة؟ أكنت تفضل أن تكون من الشهداء؟ كلا، أكنت تتمنى لو كنت من المصابين غير الهالكين؟ نعم، كان ذلك في وسعك، فلم نكصت؟ لم تكن تضمن أن تقع الإصابة غير مميتة، أو أن يكون السجن عابرا، أنت لا تكره النجاة الراهنة، ولكنك تتمنى لو كان أصابك شيء دون أن يغير من هذه النهاية الجميلة، ينبغي إذا جاهدت مرة أخرى أن أطلع على الغيب! أمضي إلى المظاهرة السلمية بقلب مطمئن وضمير قلق - بلغ الميدان زهاء الواحدة بعد الظهر، قبل الميعاد المحدد لقيام المظاهرة بساعتين، فاتخذ مكانه في الموضع الذي حدد له! باب المحطة. لم يكن بالميدان إلا المشرفون وجماعات متفرقة من شتى الطوائف، وكان الجو معتدلا إلا أن شمس أبريل صبت على من تعرض لأشعتها لظى، ولم يطل الانتظار، فأخذت الجموع تتوافد على الميدان من مختلف الطرق المفضية إليه، ومضت كل جماعة صوب عملها، بذلك شرع فهمي في عمله بلذة وفخار، بالرغم من بساطة العمل الذي لم يعد أن يكون ترتيبا للمدارس كل وراء علمها، إلا أنه ملأ نفسه زهوا وخيلاء، سيما وأنه كان يشرف على طلبة كثيرين ممن يكبرونه سنا، حتى بدت التسعة عشر عاما التي يجرها وراءه ذيلا قصيرا في زحمة التلاميذ الذين ناهز كثير منهم الثانية والعشرين والرابعة والعشرين، وفتلت شواربهم، ولاحظ أعينا ترمقه باهتمام وشفاها تتهامس عليه كما سمع اسمه - مقرونا بصفته الشعبية - يجري على بعض الألسن «فهمي أحمد عبد الجواد مندوب اللجنة العليا»، فحرك أوتار قلبه حتى أطبق شفتيه دون أن تند عنهما بسمة حياء، أو ارتباك من «مهابته». أجل ينبغي أن يحافظ على منظر مندوب اللجنة العليا، على الجد والصرامة الخليقتين بالرعيل الأول من شباب المجاهدين، كي ينفسح المجال لأخيلة المتطلعين لحدس ما يخفي وراءه من أعمال البطولة والكفاح، فلتتحقق تلك الأعمال الخارقة، التي عجز عن تحقيقها في الواقع في أخيلتهم، لن تفتر له رغبة في المزيد منها، وإن وخز قلبه إحساسه الحاد بالحقيقة العارية. موزع منشورات وجندي من جنود المؤخرة! هذا هو بلا زيادة، اليوم يوكل به قيادة المدارس الثانوية فيواجه زعامة كبيرة. ترى هل يقدر الآخرون عمله أكثر مما يقدره هو؟! لشد ما يحبونه بالاحترام والمحبة، لم يعقد اجتماع إلا وكان له فيه رأي مسموع، والخطابة؟ ليس من الضروري أن تكون خطيبا ... أليس كذلك؟ ليس محالا أن تكون عظيما وأنت غير خطيب، ولكن أي خسارة ستمنى بها يوم تمثل اللجنة العليا بين يدي الزعيم، فيستبق الخطباء وتلوذ أنت بالصمت. كلا لن ألوذ بالصمت، سوف أتكلم، سأطلق لقلبي العنان أجاد أم لم يجد، متى تقف بين يدي سعد؟ متى تراه لأول مرة فتملأ منه عينيك؟ إن قلبي يخفق، وعيناي تحنان للدموع، سيكون يوما عظيما، ستخرج مصر كلها لاستقباله، لن يكون يومنا هذا إلى ذلك إلا كقطرة إلى البحر، رباه! امتلأ الميدان، امتلأت الشوارع المفضية إليه. عباس، نوبار، الفجالة، لم تسبق كهذه مظاهرة، مائة ألف، طرابيش، عمائم، طلبة ... عمال ... موظفون ... الشيوخ والقساوسة، القضاة ... من كان يتصور هذا، لا يبالون الشمس ... هذه مصر، لم لم أدع بابا؟ صدق ياسين ... الواحد منا ينسى بين الناس نفسه، يعلو على نفسه، أين همومي الشخصية؟ ... لا شيء، لشد ما يخفق قلبي، سأتحدث عن هذا طويلا الليلة وما بعدها. ترى هل ترتعد نينة مرة أخرى؟ منظر جليل تخشع له القلوب وتطمئن، أريد أن ألمس أثره في وجوه الشياطين! ها هي ثكناتهم تشرف على الميدان، الراية اللعينة ترفرف، هناك رءوس في النوافذ ... فيم تتهامس؟! الديدبان تمثال لا يرى شيئا، لم تقض رشاشاتكم على الثورة، افقهوا هذا، سترون عما قريب سعد في هذا الميدان عائدا مظفرا، تنفونه بالسلاح ونعيده بغير سلاح، سوف ترون قبل الجلاء. تحرك الموكب العظيم فتدفقت موجاته تباعا مرددة الهتافات الوطنية، بدت مصر مظاهرة واحدة، بل رجلا واحدا، بل هتافا واحدا. تتابعت طوابير الطوائف طويلا، طويلا جدا، حتى خيل إليه أن الطلائع ستشارف عابدين قبل أن يتزحزح هو وجماعته عن موضعهم أمام باب المحطة، أول مظاهرة تسير دون أن تقطع المدافع الرشاشة الطريق عليها، لا رصاص من ناحية، ولا زلط من الناحية الأخرى، وافتر ثغره عن ابتسامة، رأى الجماعة التي تعسكر أمامه مباشرة تتحرك، فدار على عقبيه كي يواجه مظاهرته «الخاصة»، ورفع يديه فسرت في الصفوف حركة تأهب وتوثب، ثم هتف بأعلى صوته وهو يسير مقهقرا. واصل مهمة القيادة والهتاف حتى مدخل شارع نوبار، ثم تخلى عن الثانية لغيره ممن أحاطوا به مترصدين دورهم بأفواه قلقة متحركة، كأنما قد جاءها المخاض والطلق، فلا تستريح حتى تقذف بهتافاتها، دار على عقبيه مرة أخرى سائرا بوجهه، يشرئب بعنقه تارة ليشاهد ما تقدم من جسم المظاهرة التي لم يعد يرى لها أولا، ويتلفت يمنة ويسرة تارة أخرى؛ ليرى من اكتظت بهم الأرصفة والنوافذ والشرفات والأسطح من جموع المشاهدين الذين جعلوا يرددون الهتافات. امتلأت نفسه بمنظر الألوف الحاشدة قوة إلى قوة، وطمأنينة على طمأنينة، كأنها دروع منصوبة حواليه، قوة متماسكة لا ينفذ منها الرصاص، إن قوات البوليس تتعهد النظام بعد أن أعياها الطعان والهجوم، إن منظر هؤلاء الرجال الذاهبين الجائين على صهوات جيادهم، كأنهم حراس تابعون للمظاهرة قائمون على خدمتها، لأبلغ دليل على انتصار الثورة، الحكمدار؟! أليس هذا هو رسل بك ... بلى هو إنه يعرفه حق المعرفة، وهذا وكيل الحكمدار يخب وراءه ملقيا على الأفق نظرة جامدة مترفعة كأنما تحتج احتجاجا صامتا على السلام الذي احتضن المظاهرة، ما اسمه؟ هل يمكن أن ينسى الاسم الذي ملأ الأسماع في الأيام السود الدامية؟! أوله جيم أليس كذلك؟ جا ... جو ... جي ... يأبى أن يستجيب إلى الذاكرة، جوليون! أوه كيف تسلل هذا الاسم البغيض إلى وعيه؟! هوى عليه كالتراب فأطفأ حماسه، كيف لنا أن نلبي نداء الحماس والظفر ما دام القلب ميتا! قلب ميت؟! لم يكن ميتا منذ دقيقة، لا تستسلم للحزن، لا تدع قلبك يبتعد عن المظاهرة، ألم تعاهد نفسك على النسيان؟ بل إنك نسيت بالفعل، مريم ... من هي؟! ذلك التاريخ القديم؟! نحن نعيش للمستقبل لا للماضي ... جيز ... مستر جيز ... مستر جيز ... هذا هو اسم وكيل الحكمدار لعنة الله عليه، عد إلى الهتاف كي تنفض عن نفسك هذا الغبار الطارئ. مضت «مظاهرته» تقترب رويدا من حديقة الأزبكية التي لاحت أشجارها الباسقة فوق الأعلام المنتشرة بطول الطريق، على حين بدا ميدان الأوبرا من بعيد رءوسا متلاصقة، كأنها تنبت من جسد واحد ملأ الأرض طولا وعرضا. كان يهتف بقوة وحماس، والجمهور يردد هتافه بصوت ملأ الجو كهزيم الرعد. ولما شارفوا سور الحديقة دوت - على حين بغتة - فرقعة حادة فشلت حنجرته، وتلفت فيما حواليه متسائلا في انزعاج، صوت معهود كثيرا ما صك أذنيه في الشهر المنصرم، وكثيرا ما تردد صداه في ذاكرته في هدأة الليل، بيد أنه لم يستطع أن يألفه، فما يكاد يدوي حتى يخطف دمه، ويوقف قلبه عن الخفقان. - رصاص؟! - غير معقول، ألم يصرحوا بالمظاهرة؟ - أسقطت من حسابك الغدر؟ - ولكن لا أرى جنودا؟! - حديقة الأزبكية معسكر هائل مكتظ بهم. - لعلها فرقعة عجلة سيارة. - لعلها.
أرهف أذنيه لما يدور حوله من دون أن يثوب إلى السكينة، وما هي إلا لحظات حتى دوت فرقعة ثانية ... آه ... لم يعد ثمة شك، رصاصة كسابقتها، أين ترى استقرت؟ أليس يوم سلام؟! شعر بحركة اضطراب تسري بين المتظاهرين وافدة من الأمام، كالموجة الثقيلة التي تدفعها إلى الشاطئ باخرة تمخر وسط النهر، ثم تراجع الألوف، وانتشروا باعثين في كل ناحية دفعات جامحة جنونية من الاضطراب والارتباك والارتطام، تعلوها صيحات مفزعة من الغضب والخوف، وسرعان ما انتثرت الصفوف المتناسقة، وانهد البنيان المشيد. تلاحقت جملة من الطلقات الحادة، فتعالى صراخ الغضب وأنين الألم. ماج بحر الخلق وهاج وتدافعت موجاته إلى جميع المنافذ لا تبقي على شيء في طريقها ولا تذر. اهرب، ما من الهرب بد، إن لم يقتلك الرصاص قتلتك الأذرع والأقدام. هم بالهرب أو بالتراجع، أو حتى التحول عن موقفه، ولكنه لم يفعل شيئا، ما وقوفك وقد تشتت الجمع؟! في خلاء أنت، اهرب ... صدرت عن ذراعيه وساقيه حركة بطيئة وانية متراخية. ما أشد الضوضاء، ولكن بم علا صراخها؟ هل تذكر؟ ما أسرع ما تفلت منك الذكريات. ماذا تريد؟ أن تهتف؟ أي هتاف؟ أو نداء فحسب ... من؟ ما؟ في باطنك يتكلم، هل تسمع؟ هل ترى؟ ولكن أين؟ لا شيء، لا شيء، ظلام في ظلام، حركة لطيفة تطرد بانتظام كدقات الساعة ينساب معها القلب ... تصاحبها وشوشة. باب الحديقة، أليس كذلك؟ يتحرك حركة تموجية سائلة، يذوب رويدا، الشجرة السامقة ترقص في هوادة، السماء ... السماء؟ منبسطة عالية. لا شيء إلا السماء هادئة باسمة يقطر منها السلام.
71
سمع السيد أحمد عبد الجواد وقع أقدام على مدخل الدكان، فرفع رأسه عن مكتبه، فرأى ثلاثة شبان يتقدمون نحوه تعلوهم سيماء الجد والرزانة، حتى وقفوا لصق مكتبه وهم يقولون: السلام عليكم ورحمة الله ...
فنهض السيد قائلا بأدبه المعهود: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته (ثم مشيرا إلى الكراسي) تفضلوا.
ولكنهم لم يلبوا الإشارة شاكرين، وقال أوسطهم: حضرتك السيد أحمد عبد الجواد؟
فقال السيد باسما وإن لاح في عينيه التساؤل: نعم يا سيدي.
ماذا يريدون يا ترى؟ الشراء مستبعد ... ما للشراء والمشية العسكرية التي جاءوا عليها! ما للشراء واللهجة الجدية التي يتكلمون بها! ثم الساعة جاوزت السابعة مساء. ألا يرون الحمزاوي، وهو يرفع الزكائب إلى الرفوف إيذانا بإغلاق الدكان؟ أيكونون من جامعي التبرعات، لكن سعد قد أفرج عنه وانتهت الثورة، وأنا لم أعد صالحا الآن إلا للسهرة! يا هؤلاء اعلموا أني لم أغسل رأسي ووجهي بالكولونيا، وأمشط شعري وشاربي وأحبك جبتي وقفطاني كي ألقى وجوهكم! ماذا تريدون؟ غير أنه خيل إليه وهو يرنو إلى محدثه أن وجهه ليس غريبا عليه، رآه من قبل؟ أين؟ متى؟ تذكر، من المؤكد أنه لا يراه لأول مرة، آه ... قال باسما وقد شاع الارتياح في وجهه: أليس حضرتك الشاب النبيل الذي تقدم لإنقاذنا في الوقت المناسب يوم حمل الناس علينا في مسجد الحسين رضي الله عنه؟
فقال الشاب بصوت خفيض: بلى يا سيدي.
صدق ظني، يقول البلهاء: إن الخمر تضعف الذاكرة؟ لكن ما بالهم ينظرون إلي هكذا؟ انظر، انظر؟ هذه النظرات لا تنبئ عن خير، اللهم اجعله خيرا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قلبي ينقبض لأمر ما، جاءوا لأمر يتعلق ب... - فهمي؟! جئتم تريدونه ... لعلكم؟!
نكس الشاب عينيه، ثم قال بصوت متهدج: مهمتنا شاقة يا سيدي، ولكنها فرض واجب، ربنا يلهمك الصبر!
مال السيد فجأة إلى الأمام معتمدا على حافة المكتب، وهتف: الصبر؟ علام! ... فهمي؟!
قال الشاب بحزن بالغ: يؤسفنا أن ننعى إليك أخانا المجاهد فهمي أحمد.
صاح بلهجة منكرة، وإن لاحت في عينيه نظرة قاطعة بالتصديق واليأس: فهمي؟ - استشهد في مظاهرة اليوم.
وقال الذي إلى يمينه: انتقل إلى جوار الأبرار وطنيا نبيلا، وشهيدا كريما ...
تلقى كلماتهم بأذن أصمها الشقاء على حين ختم الصمت شفتيه، واسترسلت عيناه في نظرة شاردة غائبة. مضت هنيهة خيم الصمت فيها عليهم أجمعين، حتى جميل الحمزاوي تسمر تحت الرفوف ذاهلا يمد إلى الرجل بصرا ملؤه الجزع، أخيرا عاد الشاب يغمغم: لشد ما أحزننا فقده، ولكن ليس لنا إلا أن نتلقى قضاء الله بصبر المؤمنين، وإنك لمن المؤمنين يا سيدي.
إنهم يعزونك، لا يعلم هذا الشاب أنك أول من يحسن إلقاء التعازي في مثل هذا الموقف! ... ماذا تعني هي للقلب المصاب؟ لا شيء! من أين للكلام أن يطفئ النار؟ ... مهلا ... ألم تخطر الرزية بقلبك قبل أن يتكلم قائلهم؟ بلى ... تخايل لعيني شبح الموت، الآن والموت حقيقة تلقى إلى سمعك تأبى أن تصدق، أو تخونك شجاعتك فلا تريد أن تصدق، كيف أصدق أن فهمي مات حقا، كيف تصدق أن فهمي الذي كان يطلب رضاك من ساعات فتثاقلت عنه، فهمي الذي تركنا هذا الصباح ممتلئا صحة وعافية وأملا وسرورا، مات ... مات! لن أراه بعد اليوم لا في البيت ولا في أي مكان من ظهر الأرض؟ كيف يكون البيت من غيره؟ كيف أكون أبا بعده؟ أين تذهب الآمال المعقودة عليه؟ لم يعد ثمة أمل إلا في الصبر ... الصبر؟ آه ... هل تشعر بوخز الألم الحاد؟ هذا هو الألم حقا ... كنت تخدع أحيانا فتزعم أنك متألم، كلا، لم تتألم قبل اليوم، هذا هو الألم حقا. - سيدي، شد حيلك وسلم أمرك إلى الله.
رفع السيد رأسه إلى الشاب، ثم قال بصوت مريض: ظننت عهد القتل قد انتهى.
فقال الشاب بنبرات غاضبة: كانت مظاهرة اليوم سلمية، وقد أذنت بها السلطات، فاشترك فيها صفوة الرجال من شتى الهيئات، وسارت أول الأمر في أمان، حتى بلغ منتصفها حديقة الأزبكية، وما ندري إلا والرصاص ينهال علينا من وراء السور بلا سبب، لم يتعرض أحد للجنود لا بخير ولا بشر، حتى الهتاف بالإنجليزية امتنعنا عنه تفاديا من الاستفزاز، ولكن مسهم جنون القتل فجأة، فعمدوا إلى بنادقهم وأطلقوا النار، وقد انعقد الإجماع على توجيه احتجاج شديد إلى دار الحماية، بل قيل: إن أللنبي سوف يعلن أسفه عما بدر من الجنود.
قال السيد بنفس اللهجة المريضة: ولكنه لن يرد حياة إلى ميت ... - وا أسفاه!
قال السيد بتفجع: لم يشترك في المظاهرات الخطرة، هذه أول مظاهرة ينضم إليها!
تبادل الشبان نظرة ذات معنى، فلم ينبس أحدهم بكلمة ... وكأنما ضاق السيد بالحصار المضروب حوله، فقال وهو يزفر: الأمر لصاحب الأمر، أين أجده الآن؟
قال الشاب: في قصر العيني (ثم وهو يشير إلى السيد متمهلا لما رآه يتعجل الذهاب) ستشيع جنازته مع ثلاثة عشر شهيدا من إخواننا في تمام الساعة الثالثة من مساء الغد.
هتف السيد في جزع: ألا يترك لي تشييع جنازته من بيته!
فقال الشاب بقوة: بل تشيع جنازته مع إخوانه في احتفال شعبي.
ثم برجاء: القصر محاصر الآن بقوات من البوليس، ولا بأس من الانتظار ما دمنا نحرص على تمكين أهالي الشهداء من توديعهم قبل تشييع الجنازة، لا يليق أن يشيع فهمي في جنازة عادية كمن قضوا في بيوتهم.
ثم مد له يده مودعا، وهو يقول: اصبر وما صبرك إلا بالله.
وصافحه الآخران مكررين له العزاء، ثم ذهبوا جميعا ... أسند رأسه إلى راحته وهو يغمض عينيه، فجاءه صوت جميل الحمزاوي وهو يعزيه بنبرات باكية، ولكنه بدا ضيق الصدر بالتعزية، ولم يعد يحتمل البقاء، فزايل موضعه يسير بخطى بطيئة ثقيلة، حتى غادر الدكان، ينبغي أن يخرج من حيرته، فإنه لا يدري حتى كيف يحزن، يود لو يخلو إلى نفسه ولكن أين؟ سينقلب البيت جحيما بعد دقيقة أو دقيقتين، وسيلحق به الأصدقاء فلا يدعون له فرصة للتفكير ... متى يتأمل الخسارة التي مني بها ... متى يتهيأ له أن يغيب فيها عن الدنيا جميعا؟ يبدو هذا بعيدا ... ولكنه آت لا ريب فيه، وهذا قصارى ما يجد من عزاء في راهنه ... أجل سيأتي وقت يخلو فيه إلى نفسه، ويفرغ إلى حزنه بكل كيانه، هنالك يمعن النظر في موقفه على ضوء الماضي والحاضر والمستقبل، أطوار حياته كلها من طفولته وصباه إلى ريق شبابه، ما أثار من آمال، وما خلف من ذكريات مطلقا لدموعه العنان، حتى يستنفدها عن آخرها، حقا أن أمامه فسحة من الوقت يحسد عليها فلا داعي للجزع، انظر إلى ذكرى الملاحاة التي نشبت بينهما عقب صلاة الجمعة، أو ذكرى ما دار بينهما هذا الصباح من استعطاف وعتاب، كم يستغرقان من وقته تأملا وتذكرا وشجنا؟ كم يستهلكان من قلبه؟ كم يهيجان دموعه؟ كيف يجزع؟ الأيام تدخر له كل هذه السعادة؟ رفع رأسه المثقل بالفكر، فلاحت لعينيه المظلمتين مشربيات البيت، فذكر أمينة لأول مرة حتى أوشكت أن تخونه قدماه ... ما عسى أن يقول لها؟ كيف تتلقى الخبر؟ الضعيفة الرقيقة التي تبكي لمصرع عصفور! أتذكر كيف هملت دموعها لمقتل ابن الفولي اللبان؟ ماذا تصنع لمقتل فهمي؟ ... مقتل فهمي! ... أهذه هي نهايتك حقا يا بني؟ ... يا بني العزيز التعيس! ... أمينة ... ابننا قتل، فهمي قتل ... يا له ... أتأمر بمنع الصوات كما أمرت بمنع الزغاريد من قبل؟ ... أم تصوت بنفسك أم تدعو النائحات؟! ... لعلها تتوسط الآن مجلس القهوة بين ياسين وكمال متسائلة عما أخر فهمي، سوف يتأخر طويلا، لن تريه أبدا ... ولا جثته، ولا نعشه، يا للقسوة، سأراه أنا في القصر أما أنت فلن تريه، لن أسمح بهذا ... قسوة أم رحمة؟ ما الفائدة؟ ... وجد نفسه أمام البيت، فامتدت يده إلى المطرقة، ثم تذكر أن المفتاح في جيبه، فأخرجه وفتح الباب، ثم دخل ... ترامى عند ذاك إلى سمعه صوت كمال وهو يغني بعذوبة:
زوروني كل سنة مرة
حرام الهجر بالمرة
Página desconocida