فهتف الفار قائلا: الله يرحم اللبؤة الكبيرة التي أنجبتكم.
غادر كمال المنظرة إلى الحارة وكأنه يفيق من كابوس، ووقف بين الغلمان الذين ازدحم بهم الطريق، وما لبث أن استعاد ارتياحه، فتمشى مزهوا بملابسه الجديدة، مغتبطا بحريته التي جعلت من المكان كله - فيما عدا المنظرة المخيفة - مجالا مباحا لقدميه دون معترض أو رقيب، فأي ليلة هذه في الزمان! شيء واحد جعل ينغص عليه صفوه كلما خطر على فؤاده هو انتقال عائشة إلى هذا البيت الذي باتوا يدعونه ب «بيتها» هذا الانتقال الذي نفذ على رغمه دون أن يستطيع أحد إقناعه بوجاهته أو فائدته، تساءل طويلا كيف سمح أبوه به وهو الذي لا يسمح لظل امرأة من آله بأن يلوح وراء خصاص النافذة، فتلقى الجواب ضحكا عاليا، وساءل أمه في عتاب كيف تفرط في عائشة لحد النزول عنها للغير، فأجابته بأنه سيكبر يوما ويأخذ مثلها من بيت أبيها فتشيع إليه بالزغاريد، وسأل عائشة هل يسرها حقا أن تهجرهم، فأجابت أن لا، ولكن الجهاز حمل إلى بيت الرجل الغريب ولحقت به عائشة التي لا يطيب له الري إلا من موقع شفتيها، حقا أن الفرح الراهن ينسي أشياء ما كان يتصور أنه ينساها لحظة، ولكن خاطرة الأسى تغشى فؤاده الجذل، كما تغشى السحابة الصغيرة وجه القمر في ليلة صافية السماء، ومن عجب أن سروره بالغناء في تلك الليلة فاق أي سرور عداه، كاللعب مع الغلمان أو مشاهدة النساء والرجال في مرحهم المطلق، أو حتى عيش السراي والألمظية على مائدة العشاء، ولئن أدهش اهتمامه الجدي بسماع جليلة وصابر - الذي لا يتفق مع سنه - كل من لاحظه من النساء والرجال، فلم يدهش أحدا من أسرته التي تعرف سوابقه في الغناء مع معلمته عائشة كما تعرف حسن صوته الذي تعده أحسن أصواتها بعد عائشة، وإن كان صوت الأب - الذي لا يسمعونه إلا مزمجرا - أحسنها جميعا، وقد استمع كمال طويلا إلى جليلة وصابر ولكنه على غير المنتظر وجد غناء الرجل وعزف تخته أحب إلى قلبه وآخذ لنفسه، فرسخت منه في ذاكرته جمل غنائية مثل «تعشق ليه ... علشان كده» جمل يرددها بعد ليلة الزفاف طويلا في سقيفة اللبلاب والياسمين فوق سطح بيتهم، وشاركت أمينة وخديجة كمال في بعض ما أتيح له من أسباب السرور والحرية، فلم يسبق لهما - مثله - أن شهدتا ليلة كتلك الليلة، بما حفلت من أنس وطرب ومرح، وأبهج أمينة خاصة ما لاقت من الرعاية والمجاملة بصفتها أم العروس، هي التي لم تنعم في حياتها برعاية أو مجاملة، حتى خديجة اختفى همها في أنوار الفرح كما تختفي الظلمة عند إشراق الصباح، نسيت أحزانها بين الضحكات الناعمة والأنغام العذبة والأحاديث الطلية، وازدادت لها نسيانا بفضل حزن جديد خالص الطوية منشؤه شعورها بفراق عائشة الوشيك، شعور أثمر حبا وعطفا خالصين، فتوارت الأحزان القديمة أمام الحزن الجديد كما تتوارى الأحقاد أمام الأريحية، أو كما يقع لشخص حيال آخر يحب منه جانبا، ويكره جانبا أن تتوارى - ساعة الفراق مثلا - الكراهية لجانب أمام الحزن على الجانب الآخر، هذا إلى ما شاع في نفسها من ثقة حين تبدت في زينة أضفت على جسمها ووجهها سواء لفت إليها أنظار بعض النساء فلهجن بالثناء عليها ثناء ملأها أملا وأحلاما عاشت بها زمنا رغدا.
وجلس ياسين وفهمي جنبا لجنب يراوحان بين السمر والسماع، وجلس خليل شوكت - العريس - ينضم إليهما بين ساعة وأخرى كلما وجد فرجة بين أشغال ليلته الشاقة الممتعة، وبالرغم من الجو المشبع بالبهجة والطرب انطوى ياسين على قلق، فارتسمت في عينيه نظرة شرود مزمنة، وراح يسائل نفسه بين حين وآخر ترى هل يتاح له أن يروي ظمأه ولو بكأس أو بكأسين؟ لذلك مال مرة على أذن خليل شوكت، وكان صديقا للأخوين وهمس قائلا: أدركني قبل أن تضيع الليلة.
فقال له الشاب وهو يغمز له بعينه مطمئنا: أفردت مائدة في حجرة خاصة لأمثالك من الأصدقاء.
عند ذاك اطمأن باله وعاودته حيويته للسمر والدعابة والسماع، لم يكن في نيته أن يسكر، ففي مثل هذا المكان الحافل بالأهل والمعارف يعد القليل من الخمر فوزا كبيرا، خاصة وأن والده وإن انزوى في المنظرة - غير بعيد - فلم يكن وقوفه على أسرار حياته يزحزحه عن مكانته التقليدية من نفسه، لم يزل قائما بحصنه الحصين من المهابة والإجلال، ولم يزل هو بموقف الطاعة والعبودية، حتى السر الذي اطلع عليه خفية لم يفكر في البوح به لإنسان ولا لفهمي نفسه أقرب المقربين إليه، لهذا كله قنع من بادئ الأمر بكأس أو بكأسين يتملق بهما رغبته الجامحة، ويتهيأ بهما لتذوق المرح والسمر والطرب، وغيرها من المسرات التي لم يعد لها عنده طعم بغير شراب. فهمي - بخلاف ياسين - لم يجد، أو لم يطمئن إلى أنه سيجد ريا لظمئه، ثار شجنه من حيث لا ينتظر عند مجيء العروس، ذهب مع العريس وياسين لاستقبالها بقلب خلي فوقع بصره على مريم وهي تسير وراء العروس مباشرة ومتألقة الثغر بابتسامة تحية للمكان كله، لاهية بالزغاريد والورود عنه، وقد شف قناعها الحريري عن ديباجة وجهها الصافي، فأتبعها نظره بقلب خافق حتى واراها باب الحريم، ثم عاد إلى مجلسه مزلزل النفس كأنه قارب تعرض بغتة لإعصار، بيد أنه كان قبل رؤيتها هادئ النفس لاهيا بشجون السمر شأن السالي الناسي، والحق تمر به أوقات، فيجد نفسه على هذه الحال من السلو والنسيان كأن قلبه يستجم من العناء، ولكن ما إن تخطر خطرة أو تهفو ذكرى، أو يجري اسمها على لسان، أو ... أو، حتى يخفق فؤاده ألما، ويفرز الحسرة تلو الحسرة، كالضرس المسوس الملتهب تجيء عليه فترة فيسكن ألمه حتى إذا هرس لقمة أو مس جسما صلبا انفجر به الألم، وهناك يقرع الحب أضلعه من الداخل كأنما يروم متنفسا، صائحا بأعلى صوته أنه لا يزال حبيسا لم يطلق سراحه العزاء أو النسيان. طالما تمنى لو يعمى عنها الراغبون حتى يستوي على قدميه رجلا حر التصرف في تقرير مصيره. وقرب أمنيته كر الأيام والأسابيع والأشهر، دون أن يتقدم لها خاطب، ولكنه لم ينعم بالطمأنينة الحقة، ولم يزل عرضة للقلق والخوف يتناوبانه الحين بعد الحين ينغصان صفوه، ويكدران أحلامه، ويخلقان له ضروبا من الألم والغيرة إن تكن وهمية فليست دون الواقع - فيما لو تحققت - ضراوة وقساوة، حتى بات التمني نفسه وتأخر وقوع البلاء من بواعث تجدد القلق والخوف؛ وبالتالي الألم والغيرة فود كلما اشتد به العذاب أن يقع البلاء ليلقى نصيبه من الحزن دفعة واحدة، لعله بعد ذلك يبلغ باليأس ما لم يبلغ بالأماني العابثة من الراحة والسلام، ولكنه لم يستسلم للشجن في مجلس طرب تكتنفه أنظار الأصدقاء والأقرباء، إلا أنه كان تلقى من منظر مريم، وهي تسير وراء أخته «أثرا» لا يمكن أن يمضي بلا رد فعل محسوس، ولما لم يسعه أن يجتر به أحزانه وأن يجلو المستور من نفسه، فقد استهلكه - بطريقة عكسية - بالإغراق في الحديث والضحك والتظاهر بالغبطة والسعادة، على أنه كان كلما خلا إلى نفسه، ولو لحظات شعر في أعماقه بعزلة قلبية عما حوله، وأدرك مع مرور الوقت أن رؤيته مريم، وهي تخطر في معية العروس قد هيجت حبه كما تهيج ضوضاء مفاجئة مهموما ذا قابلية للأرق، وأنه لن ينعم على الأقل هذه الليلة بصدر مستقر، وإن شيئا مما يدور حوله لن يستطيع أن ينتزع من مخيلته صورتها أو الابتسامة التي حيت بها جو الاستقبال الحار المشبع بالزغاريد والورود، ابتسامة عذبة صافية وشت بقلب خلي متشوق للهدوء والسرور، ابتسامة لا يوحي رواؤها بأنه يمكن أن ترتسم على موضعها من الشفتين تقلصات الألم، فحز منظرها قلبه وكاشفه بأنه يكابد الألم منفردا ويحمل متاعبه وحده، ولكن ألا يقهقه هو الآن عاليا، يحرك رأسه مع الأنغام كالمنبسط الطروب؟ ... ألا يجوز أن يخدع الناظر بحاله ويظن به ما ظن هو بها؟ ... وجد في تفكيره شيئا من العزاء ولكن ليس أوكد من عزاء المصاب بالتيفود حين يسائل نفسه: «ألا يحتمل أن أشفى كما يشفى فلان الذي أصيب به قبلي؟» وما لبث أن ذكر رسالتها التي عاد بها كمال إليه منذ أشهر وهي: قل له إنها لا تدري ماذا تفعل لو تقدم لها خاطب أثناء هذه المدة الطويلة من الانتظار ... وتساءل كما تساءل عشرات المرات من قبل: هل ثمة عاطفة وراء هذه الكلمات؟ ... أجل لا يستطيع إنسان مهما بلغ به التعنت أن يؤاخذها على كلمة منها، بل لا يستطيع أن يتجاهل ما تتضمنه من عقل وحكمة، ولكن هذا نفسه ما أشعره بالعجز حيالها، وما أحنقه بالتالي عليها؛ إذ يندر أن يرضي العقل والحكمة طموح عاطفة لا تعرف بطبعها الحدود، وعاد إلى الحاضر، إلى مجلس الطرب، إلى الحب الهائج. ليست رؤيته لها وحدها التي رجته هذه الرجة العنيفة، فلعل ذلك لأنه رآها لأول مرة، في مكان جديد - فناء بيت آل شوكت - بعيدا عن داره التي لم يرها خارج نطاقها من قبل، كان وجودها الدائم في المقام القديم قد سلكها في آلية العادة اليومية على حين بعث ظهورها المفاجئ في المكان الجديد - ذاك الظهور الذي خلقها في عينيه خلقا جديدا - حياة جديدة في وجدانه، أيقظت الحياة الأصلية الكامنة، ثم تعاونتا معا على إحداث هذه الرجة العنيفة، ولعل ذلك أيضا لأن وجودها بعيدا عن بيته وما يقترن به من تقاليد صارمة أقامت بينه وبينها سدا من اليأس، وجودها في جو من الحرية والانطلاق ، وعلى حال لم يعهدها من التبرج والحركة، وجودها في بيئة الزفاف وما توحي به من خواطر الحب والوصال، كل أولئك أطلقها من قمقمها إلى حيث يراها القلب أملا غير عسير، وكأنما تقول له: «انظر أين تراني الآن، ما هي إلا خطوة أخرى فتجدني بين ذراعيك.» ولكن ما لبث هذا الأمل أن ارتطم بالواقع الشائك مسهما في إحداث الرجة العنيفة، ولعل ذلك أيضا لأن رؤيتها والمكان الجديد زادتها رسوخا في نفسه وتغلغلا في حياته - ونشوبها في ذكرياته، فإن الصور تتعمق في أنفسنا باندماجها في مختلف الأماكن التي تمتد إليها تجاربنا، وكما اقترنت مريم قديما بسطح البيت وبستان اللبلاب والياسمين وكمال وتسميع الكلمات الإنجليزية ومجلس القهوة وحديثه مع أمه في حجرة المذاكرة والرسالة التي عاد بها كمال، فستقترن منذ الليلة بالسكرية وفناء آل شوكت ومجلس الطرب وغناء صابر وزفاف عائشة، وغير ذلك مما ينثال على سمعه وبصره وكافة حواسه، ومثل هذه العملية ... لا يمكن أن تتم دون أن تشارك في إحداث الرجة العنيفة التي دوخته ... وحدث في فترة الاستراحة أن ترامى صوت العالمة إلى مجلس الرجال من النوافذ المطلة على الفناء وهي تغني «حبيبي غاب»، فنشط إلى السماع باهتمام شديد وجمع حواسه كلها في النغمات، لا لأن صوت جليلة أعجبه ولكن لظنه أن مريم تنصت إليها في تلك اللحظة؛ لأن الجملة الغنائية تخاطب أذنيهما في وقت واحد معا؛ لأنها ألفت بينهما على حال واحدة من الإنصات وربما من الإحساس، لأنها خلقت لهما موعدا يلتقيان فيه بروحيهما، وحمله هذا كله على احترام الصوت وحب النغمات كي يجتمع بها في إحساس واحد. وحاول طويلا أن ينفذ إلى نفسها بالرجوع إلى نفسه، أن يتلمس ذبذبات تأثرها بمتابعة ذبذبات تأثره، ليعيش في ذاتها لحظات بلا حجاب على بعد المسافة وكثافة الجدران، وحاول إلى هذا أن يستخبر الجمل الغنائية عن آثارها في النفس المحبوبة، ماذا تركت في قلبها جملة «حبيبي غاب» أو «بقى له زمان ما بعتش جواب»، ترى هل غابت في لجج الذكريات؟ ... أو لم تنحسر موجة منه عن وجهه؟ ... ألم ينقبض قلبها لشكة ألم أو لحزة حسرة؟ أم لها سادرا طوال الوقت لا يجد في النغمة إلا فرحة الطرب؟ ... وتصورها وهي تهب انتباهها للنغم سافرة متبرجة الحيوية أو وثغرها يفتر عن ابتسامة كتلك التي لمحها على شفتيها عند مجيئها، فآلمته لأنه توسم فيها رمز السلو والنسيان، أو وهي تحادث إحدى أختيه كما يحلو لها كثيرا وهو ما يحسدهما عليه على حين لا تجدان فيه الأمر الذي يدهشه لحد الانزعاج إلا حديثا عاديا كسائر الأحاديث التي تشتبكان فيها مع غيرها من فتيات الجيران، أجل طالما عجب لموقف أختيه منها، لا لأنهما لا تكترثان لها فالحق أنهما تحبانها، ولكن لأنهما تحبانها كما تحبان غيرها من فتيات الجيران كأنها مجرد «فتاة» من فتيات الجيران، وكيف تلقيانها بترحيب عادي دون أن يضطرب لهما نفس كما يلقى هو أي فتاة عابرة أو أيا من أقرانه طلبة مدرسة الحقوق، وكيف تتحدثان عنها فتقولان «مريم قالت أو مريم فعلت»، وتنطقان بالاسم كما تنطقان بأي اسم ... أم حنفي مثلا كأنه ليس الاسم الذي لم ينطق به على مسمع من غيره إلا مرة أو مرتين، وهو يعجب لموقعه من أذنه أو كأنه ليس الاسم الذي لا ينطق به في وحدته إلا كما ينطق بالأسماء المبجلة المنقوشة في خياله بتهاويل الأحلام التي لا ينطق بأحدها حتى يردف «رضي الله عنه» أو «عليه السلام» ... وكيف إذن عطل الاسم - بل الشخص نفسه - عندهما من سحره وقدسيته؟! وعندما انتهت جليلة من الأغنية تعالى الهتاف والتصفيق، فركز فيه انتباهه باهتمام لم تحظ الأغنية نفسها بمثله؛ لأن حنجرة مريم ويديها اشتركت فيه، وتمنى لو كان بوسعه أن يميز صوتها من تلك الأصوات، وأن يفرز تصفيقها من ذلك التصفيق، ولكن لم يكن ذلك بأسهل من تمييز صوت موجة بالذات من هدير الأمواج المتلاطمة على الشاطئ، على أنه وهب حبه للهتاف كله والتصفيق كله بلا تمييز كالأم التي يترامى إلى سمعها أصوات التلاميذ من المدرسة التي يتبعها ابنها، فتدعو لهم جميعا بالبركة والسلامة.
لم يكن أشبه بفهمي في عزلته الباطنية - وإن اختلفت الأسباب - من أبيه الذي لزم المنظرة بين نفر من خاصة خلانه، حتى الأصدقاء الذين لم يطيقوا التوقر، والغناء يجلجل في الخارج، انفضوا من حوله وتفرقوا بين المستمعين يطربون ويلهون، فلم يبق معه إلا النفر الذين مجلسه أحب إليهم من اللهو نفسه، فلبثوا جميعا في رزانة غير معهودة كأنما يؤدون واجبا أو يشهدون مأتما، هذا ما قدروه من قبل، حين دعاهم السيد إلى ليلة الزفاف، لما خبروه من طبيعته المزدوجة التي عرف بجانب منها بين أصدقائه، وبالجانب الآخر بين آل بيته، ولم يفتهم وجه من وجوه التناقض بين مجلسهم الوقور هذا الذي يحتفلون فيه ب «ليلة زفاف» وبين مجالسهم المسائية المعربدة التي لا يحتفلون فيها بشيء! وما عتموا أن جعلوا من توقرهم موضوعا للمزاح الخفيف الهادئ، فما إن علا صوت السيد عفت مرة وهو يضحك، حتى بادره السيد الفار واضعا سبابته على شفتيه كأنما يأمره بخفض صوته وهمس في أذنه محذرا زاجرا: نحن في فرح يا رجل! ... ومرة أخرى وكان الصمت قد غلبهم مليا، فإذا بالسيد علي يقلب عينيه في وجوههم، ثم يقول رافعا يده إلى رأسه كالشاكر: «شكر الله سعيكم.» وعند ذاك دعاهم السيد إلى اللحاق بصحبه في الخارج، ومشاركتهم لهوهم ولكن السيد عفت خاطبه بلهجة تنم عن شديد العتاب قائلا: نتركك في مثل هذه الليلة؟! وهل يعرف الصديق إلا عند الضيق؟! فما تمالك السيد أن ضحك قائلا: ما هي إلا عدة ليالي زفاف أخرى حتى يتوب الله علينا جميعا ... على أن ليلة الزفاف تضمنت في نظر السيد أحمد معاني أخرى غير التوقر الإجباري في مجلس أنس وطرب، معاني تخصه وحده كأب ذي طبيعة خرقت المألوف من الطبائع، فلم يزل يجد لفكرة زواج كريمته إحساسا غريبا لا يرتاح إليه، وإن لم يقره عقله أو دينه. لا يعني هذا أنه ود ألا تتزوج كريمتاه، فالحق أنه كسائر الآباء جميعا رجا الستر لفتاتيه، ولكن لعله تمنى كثيرا لو لم يكن الزواج الوسيلة الوحيدة لهذا «الستر»، ولعله تمنى لو كان الله قد خلق البنات على طبيعة لا تحتم الزواج، أو لعله تمنى في الأقل لو لم يكن أنجب إناثا قط، أما وتلك أمان لم تتحقق ولا سبيل إلى تحقيقها، فلم يكن بد من أن يرجو الزواج لفتاتيه، ولو كما يرجو الإنسان أحيانا - ليأسه من دوام العمر - ميتة شريفة أو ميتة مريحة! طالما أفصح عن نفوره هذا بسبل متباينة سواء عن شعور أو لا شعور، فربما حدث بعض خلصائه قائلا: «تسألني عن إنجاب الإناث؟ إنه شر لا حيلة لنا فيه، ولكن الشكر إلى الله واجب على أي حال. لا يعني هذا أني لا أحب ابنتي، فالحق أني أحبهما كما أحب ياسين وفهمي وكمال سواء بسواء، ولكن كيف يطمئن خاطري وأنا أعلم بأني سأحملهما يوما إلى رجل غريب مهما يبدو لي من مظاهر، فالله وحده المطلع على باطنه؟ ... ما حيلة البنت الضعيفة حيال رجل غريب وهي بعيدة عن رعاية أبيها؟ ... وكيف يكون مصيرها لو طلقها يوما وقد مات أبوها فلجأت إلى بيت أخيها لتعيش عيشة المنبوذين؟! لست أخاف على أحد من أبنائي؛ لأنه مهما يحدث لأيهم من أمر، فهو رجل قادر على أن يواجه الحياة، أما البنت ... اللهم احفظنا!» أو يقول فيما يشبه الصراحة: «البنت مشكلة حقا ... ألا ترى أنا لا نألو أن نؤدبها ونهذبها ونحفظها ونصونها؟ ... ولكن ألا ترى أنا بعد هذا كله نحملها بأنفسنا إلى رجل غريب ليفعل بها ما يشاء ... الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ...» وتجسم هذا الإحساس القلق الغريب في النظرة الانتقادية التي والى بها خليل شوكت «العريس» نظرة متعسفة عيابة أبت أن ترجع قبل أن تظفر بعيب يرضي تعنتها، كأنه ليس من آل شوكت الذين ألفت بينه وبينهم أسباب المودة والولاء من قديم الزمان، أو كأنه ليس الشاب الذي شهد له كل من رآه بالرجولة والجمال والوجاهة، لم يسعه أن ينكر مزية من مزاياه، ولكنه وقف طويلا عند وجهه الريان ونظرة عينيه الهادئة الثقيلة الموحية بالكسل، فطاب له أن يستدل بهما على ما تركه الفراغ في حياته من حيوانية قائلا لنفسه: «ما هو إلا ثور يعيش ليأكل وينام!» لم يكن اعترافه بمزاياه أولا ثم فحصه عن أي عيب ليلصقه به أخيرا إلا منطقا عاطفيا يعكس ما يكمن في نفسه من رغبة في تزويج الفتاة ونفوره من فكرة الزواج، فالاعتراف مهد إلى تحقيق الزواج والفحص عن العيوب نفس عن العاطفة العدائية كمدمن الأفيون الذي تستذله لذته وترعبه خطورته، فينشده بكل سبيل وهو يلعنه، بيد أنه تناسى مشاعره الغريبة وهو بين أصدقائه الحميمين يتسلى بالحديث حينا، وبالسماع من بعيد حينا آخر، ففتح صدره للرضا والغبطة ودعا لفتاته بالسعادة والحياة المطمئنة، حتى نظرته الانتقادية لخليل شوكت استحالت إحساسا ساخرا غير مشوب بالحنق.
وعندما دعي المدعوون إلى الموائد افترق فهمي وياسين لأول مرة، فقاد خليل شوكت الأخير إلى المائدة الخاصة، حيث بذل الشراب بغير حساب، ولكن ياسين بدا حذرا مقدرا للعواقب، فأعلن قناعته بكأسين وقاوم بشجاعة - أو بجبن - تيار الشراب المتدفق، حتى إذا ما لسعته النشوة الأولى فهيجت ذكرياته عن لذة النشوات، ووهنت إرادته فرغب في الاستزادة من النشوة إلى القدر الذي لا يخرجه عن حدود الأمان فتناول كأسا ثالثة، ثم فر بنفسه عن المائدة، إلا أنه - على سبيل الاحتياط، أو لأنه لم يزل عينا في الجنة وعينا في النار - أخفى زجاجة مملوءة حتى النصف في مكان خفي للرجوع إليها عند الضرورة القصوى، وعادوا إلى مجلسهم بأرواح جديدة راقصة انطلق منها إلى الجو المحيط سرور محرر من القيود.
وفي الحريم كان السكر قد بلغ بالعالمة جليلة حد السلطنة، وإذا بها تقلب عينيها في وجوه المدعوات، وتتساءل: من منكن حرم السيد أحمد عبد الجواد؟
فجذب تساؤلها الأنظار وأثار اهتماما شاملا، حتى غلب الحياء أمينة فلم تنبس بكلمة، وجعلت تحملق في وجه العالمة بحيرة وإنكار، ولما أعادت العالمة التساؤل تطوعت حرم المرحوم شوكت بالإشارة إلى أمينة، وهي تقول: ها هي حرم السيد أحمد ففيم يا ترى التساؤل؟
فتفحصتها العالمة بعينين ثاقبتين، ثم أطلقت ضحكة رنانة، وقالت بلهجة تنم عن الرضا: حسناء وحق بيت الله، إن ذوق السيد لا يجارى.
Página desconocida