فصل ومن الأدلة على ما ذكرناه أن من عن له تحصيل غرض من الأغراض فاستوى في تحصيله الصدق والكذب فإنه يؤثر الصدق على الكذب قطعا، ولا يتردد في ذلك وإلا لذمه جميع العقلاء.
ومنها: أن من رأى شخصا قد أشرف على الهلاك وهو قادر على إنقاذه منه فإنه يستحسن إنقاذه بعقله ويفعل من ذلك ما يدخل تحت قدرته، وإن لم يرج منه ثوابا ولا شكرا، كما إذا كان المنقذ طفلا أومجنونا ولا يطلع عليه أحد ولا يخطر بباله غرضا من جلب نفع أو دفع ضرر، بل ربما أنصب نفسه في ذلك وأتعبها وحملها المشقة وأكلفها، ولو لم يفعل ذلك مع تمكنه منه وعلمه به لأجمع جميع العقلاء على ذمه من موالفيهم ومخالفيهم، ألا ترى إلى قوله في شرح المقاصد مجيبا على المعتزلة حين قالوا من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب بحيث لا يرجح أصلا ولا علم باستقرار الشرائع على تحسين الصدق وتقبيح الكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا وما ذاك إلا لأن حسنه ذاتي ضروري عقلي، وكذا إنقاذ من أشرف على الهلاك حيث لا يتصور للمنقذ نفع وغرض ولو مدحا وثناء.
والجواب: أن إيثار الصدق بما تقرر في النفوس من كونه الملائم لغرض العامة ومصلحة العالم، والاستواء المفروض إنما هو في تحصيل غرض ذلك الشخص واندفاع حاجته لا على الإطلاق كيف والصدق ممدوح والكذب مذموم عند العقلاء، وعلى مذهبكم عبد الله أيضا بحكم العقل، فسلم أن الصدق ممدوح عند العقلاء، والكذب مذموم عندهم، وإنما جعل المختص بالمعتزلة قولهم أن الحكم عند الله كذلك.
Página 29