وقد بعث إليها بالرسالة التالية بتاريخ 27 يوليو سنة 1939 على إثر عودته من المغرب الأقصى، بدأها بوصف شوقه إليها وشعوره في غيبتها، وذكرياته معها في لبنان، على إثر خروجها من مستشفى العصفورية سنة 1938، وكان قد استضافها عنده قبل عودتها إلى مصر. قال:
صديقتي الغالية، حفظها الله «كتبت إليك كلمة من الباخرة يوم وصلني كتابك الجميل بعواطفه ولطائفه، وأرسلتها من بيروت.
والآن أكتب لك أن هذه الساعة من اليوم العاشر بعد وصولي إلى الفريكة هي ألذ الساعات لدي؛ لأنها تدنيني منك، فأتصورك أمامي ساكتة مصغية، وأنت في السكوت والإصغاء مثلك في الحديث فصيحة بليغة. وأتصورك وأنت الشديدة الإحساس، اللطيفة الشعور، مكتئبة واجمة لما يتعاكس على جبينك مما يختلج في قلبي، فما شعرت أيامي بفراغ في الفريكة، وفي قلب الناسك، شعوري يوم عدت إليها، ووقفت في الرواق الشرقي لبيتي أنظر بعين الشوق والاكتئاب إلى البيت الذي أصبح مشهورا. وفي كل شهرة ما فيها من دواعي الغم والألم، فإن ذلك البيت لا يعرف غير صيف واحد في حياته كلها، هو الصيف الماضي الذي أشرقت فيه شمس مي، ونورت فيه أزاهير مي، وعادت فيه إلى الأشجار ثمار أدب مي.
هذه عبارة مثقلة بالاستعارات، وهي مع ذلك لا تفي بالمراد في التعبير، فذلك البيت المشهور كئيب، وهذا الفؤاد المربى في جنان الحب، المغذى بالإخلاص والصبر هو كذلك كئيب؛ فقد كنا في الصيف الماضي سعيدين بقربك، على همومك التي كنا نشاركك بعضها (يشير إلى ما أصابها من مرض طيلة عامين كاملين في المستشفى ونسيان أصدقائها لها في هذه المحنة)، فكنا نصمت ساعة تسكتين، وفي القلب وجمات، وكنا نحاول ساعة تسترسلين في القنوط أن نقرب منك شمس لبنان بنورها وحرارتها، وأنوار سماء لبنان بما فيها من فيض السكينة والرجاء. وبعد ذلك كنا نجلس إلى منضدة اللعب فننسى لؤم الناس ونفاقهم، وشعوذات الأطباء، وأحابيل المحامين، وترهات الكهنة المحترمين.
وأين تلك الأمسية في هذا الصيف؟ وأين الصيف في هذه السنة؟ وأين مي؟
تردد صدى الصوت الذي طالما اعتصم بالإيمان، اليوم ربيع وغدا صيف وبعد غد قر وصر، وبعد ذلك؟ الربيع لا يخلف وعده، ورسل الربيع لا يكذبون، وأنت يا مي وأنا في رسله، دام ابتسامه، وطالت أيامه، فمتى تعودين إلى لبنان؟ إنك لمن المؤمنات، وإنك لمن الصادقات، وإن أمسية ذلك الصيف، ومن سعدوا فيها ليذكرونك على الدوام.»
رحلة المغرب الأقصى
ثم ينتقل إلى الحديث عن رحلة في المغرب الأقصى المشمول بالحماية الإسبانية، فيقول: «ما أكثر ما أحب أن أحدثك عنه، وما أضيق الوقت في أيام يحسبها الزائرون مخصصة بكل ساعاتها لهم، فهم يشرفون صباحا قبل أن تحمى الشمس، ومساء قبل أن يبرد القمر، وفي أويقات الأكل والقيلولة، وبعدها وقبلها، ولا يبتغون مني غير الابتسام، والقليل القليل من الكلام.
ولكنها أيام معدودات، ثم أقفل غدا أبوابي، وأعود إلى العمل - لله من العمل - التعب الفكري، العقبات الفنية، التأليف.
وقد تغضبين إذ تعلمين أني سأتوقف عن كتابي عن لبنان لأباشر تأليف كتاب عن المغرب الأقصى الكائن اليوم تحت الحماية الإسبانية.
Página desconocida