نعم، لقد عرجت في عودتي من نيويورك على جبل طارق، ومنه قطعت المضيق إلى أفريقية، إلى تطوان عاصمة المنطقة المغربية الشمالية. وقد كانت تطوان محط رحالي، وكلها (أي رحالي) عصرية تشرب البنزين وتأكل النار كالدراويش، لكنها عصرية في جريها وفتلها. ومن تطوان رحلت رحلات استكشافية جنوبا وشرقا وغربا، ثم طرت إلى إشبيلية، ومنها سرت إلى مدريد، فبرغوس حيث قابلت الزعيم فرنكو. وبعد شهرين من الرحلات الشاقة المهلكة اجتمع لدي ملء حقيبة من المذكرات ومن الوثائق والمعلومات ما يكفي لبضعة مجلدات، على أني سأكتفي بمجلد واحد، وسيضاهي في أسلوبه ومادته كتاب ملوك العرب إن شاء الله.»
السياسة الإسبانية
الموضوع جديد، والبلاد في عروبتها مجهولة، والسياسة الإسبانية المغربية هي اليوم دون كيخوته، وهم يقولون دواما: من أجل الحق ولرضى الله، فإذا صحت هذه السياسة فقولي: هنيئا للعرب هناك، وإن لم تصح، فالعرب المغاربة وقد سلكوا الطريق لا يعودون ولا يتوقفون. لقد شاهدت كثيرا وسمعت كثيرا، وكنت في كل ما سمعت وشاهدت مدهوشا حينا، وحينا مدهوشا معجبا معا.
ومما يسرك أنت أن تعلمي، هو أن الفكر خالد، والمثل الأعلى لا يزول. وهاك المثال يوم قال لي المندوب السامي الإسباني: إن استعمارنا لهذه المنطقة عاطفي لا نفعي. قلت: وليس هذا من السياسة والعدل في شيء، إنما هو عمل دون كيخوتي.
فوثب إذ ذاك من كرسيه، وتناول تمثالا صغيرا من الرف وراء مكتبه، هو تمثال دون كيخوته صنعه له فنان إشبيلي، وهو يمثل فارس المثل الأعلى في الشجاعة والأمانة، ومحاربة الظلم والفساد، يمثله بعد معركة الخنازير التي اندحر فيها، وهو حامل الرمح المكسور مطأطأ الرأس فوق حصانه المشارك له في اندحاره!
رفع المندوب السامي التمثال قائلا جوابا على كلمتي: «وأنا دون كيخوته.» فكشفت كلمته عن سنين من الجهاد مطوية في قلبي، فأنطقتني، فقلت له: «وأنا مثلك دون كيخوته أحمل رمحا مكسورا وروحا سليمة قوية لا تكسر.» فسرته الكلمة فاستعادها، وأعدتها بالإنجليزية التي كنا نتحدث بها، فقال فخامته: «رمح مكسور ، وروح لا تنكسر، وها هي اليوم بعد ثلاثمائة سنة منتصرة في وفيك. سأصور هذا التمثال وأهديك صورته.»
بل أهداني رسما كبيرا كتب في أسفله: «هو ذا رسمنا المشترك.» ومعه عدة رسوم بحجم بطاقة البريد لأهديها إلى أصحابي، وها هي إحداها بين يديك يا مي لتتأمليها ولتشاركينا أنا وصديقي الكولونيل خوان بيدرو المثل الأعلى لدون كيخوته، ليس فقط في محاربة الظلم والفساد في العالم، بل في إقامة العدل وتعزيز الأخوة الإنسانية بين الأمم.
ثم ختم أمين الريحاني هذه الرسالة بتحيته وتحية أهل بيته: «كل من في البيت - كلنا يا مي - نحييك تحية شذاها زنابق الوادي، وحرارتها من شمس هذا الجبل، ونحييك يا صديقتنا الغالية ونمتلئ شوقا إليك.» (7) عالمان في حياة مي
وأول هذين العالمين الكبيرين: الدكتور شبلي شميل الطبيب الفيلسوف، والأديب الذي تعشق العلوم الطبيعية، ودان بالعلم والطبيعة، ولم يدن بالأدب والأدباء على الرغم من إنه أديب. وكان يأبى أن يقول: «إن من البيان لسحرا.» بل كان يهتف على الدوام: «إن من العلم لسحرا.» وعنده أن الشعراء مشعوذون دجالون، وأن الله قد سخط القردة فجعل منها شعراء وأدباء، أو على حد تعبيره «أدباتية». ومع هذا فقد كان يقول الشعر ويجيد فيه، حدثتني الآنسة مي أنه هام بالإعجاب بها فترة من الزمان، وجعل ينظم الشعر في صفاتها ومواهبها، ثم يمسك التليفون، ويقرأ لها ما نظم، قالت: «وكنت أستمع إليه وأطرب، ثم أضحك وهو يلقيها في أذني كأنما هو واقف على منبر.» وقد روت لي هذه الأبيات في وصف مشهد من مشاهد الطبيعة:
وإذا الشمس وما في ال
Página desconocida