امتزج ذكره بحياتي، فحل عندي محل صديق لا تصلني به اللغة ولا يقربه مني التفاهم الروحي، بل يعززه إلي حضوره الدائم، وصوته الرخيم ...»
تلك الفقرات الأولى من مقال «العيون» والثانية من «دمعة على المفرد الصامت»، وهما من كتاب أصدرته الآنسة مي سنة 1923 باسم «أشعة وظلال»، وبعثته إلى فيلسوف لبنان ورحالة الشرق المرحوم أمين الريحاني، وكان من أصدقائه المعجبين، وكانت صداقتها لها صداقة عائلية، وحبه لها حبا أخويا ممتزجا بالتقدير الأدبي والإعجاب الفني، وكان كثير الرحلات لا يستقر في بلد حتى يرحل إلى بلاد أخرى للدعاية للعروبة وللتأليف، فأهدته هذا الكتاب مع كتابها «الصحائف» الذي صدر بعد ذلك بعام، فبعث إليها الرسالة الآتية، وهي لون من ألوان الأدب بين الأصدقاء الأدباء:
أيتها العزيزة مي «هذا آخر أسبوع من الصوم، وأنا في عزلتي صائم على الدوام ، صائم عن المدنية وما فيها مما لا تزال النفس تتوق إليه، كساعة في النادي مثلا مع الإخوان الأدباء، أو كسهرة في التياترو أشهد رواية اجتماعية أو هزلية، أو جولة في دور الصور والرسوم الحديثة، أو عشاء وكأس خمر مع رفيقة تفهم الحياة، ولكني كنت في الأسبوع الذي مضى من أسعد الصائمين؛ لأنه قد زارني من زادني في المدنية زهدا، بل أنساني لذاتها كلها، وزائري في وحدتي هو الجليس الذي لا يمل ولا يتثاءب (يعني كتاب أشعة وظلال). وإذا ما أشعلنا المصباح لنكمل حديث بعد الظهر، وجاء الكرى بعد ساعة يتسلل إلى جفني فلا أقاومه، ولا أنكر وجوده، ولا أخجل إذا ارتخت الأنامل مني فيقع الزائر الكريم في حجري، وقد انحنى فوقه الرأس وطافت حوله الأحلام.
جاءني هذا الزائر يشكو بلغة الطيور والأزهار أشياء كثيرة في الحياة، ويحدث فيما يشكو حديثا أجمل من سحر الطيور تغرد في الأسحار، لذته في العقول لا تزول، ولا تستحيل علقما في القلوب. كيف لا، وفي «العيون» سحر كل العيون، وفي «دمعة على المفرد الصامت» تردد صدى التغريدة الخالدة، و«كن سعيدا» هي السعادة بالذات، و«أين وطني؟» هو أجمل من كل الأوطان في هذه الأيام، و«السهرات الراقصات» هي ألذ وألطف وأبهج من كل سهرة راقصة!
يا مي، ولا أزعجك بأكثر من ذلك رمزا ومجازا. قرأت السهرات الراقصات، والعيون، ودمعة على المفرد الصامت، وأنت أيها الغريب، ثم قرأتها وعدت إلى «الصحائف» فقرأت فيها «بييبر لوتي الراحل الباقي» و«شبلي شميل» و«إسماعيل صبري»، فأدهشني فيك وأنت في خدرك وفي قدس أقداسك شرقية لا تزالين، أدهشتني تلك الشخصية المزدوجة العجيبة التي لا تعرف يسراها ما تصنع يمناها؛ فهي لا تسمح لعقلها في النقد بغير مقدار لحظة، ولا لقلبها في مفاوز الشوق ومروج الحب بغير نظرة تذكرها بما في الحياة لفلاسفتها، وبما في الآداب لأمرائها من ظلال ناعمة طيبة، وأدغال مزهرة منعشة. وأنت يا مي مدركة السر في الاثنين، ممتعة بالجمالين، ونشكر الله أنك كاتبة، فلا تستأثرين بما تتمتعين ، وأشكر الله أنك صديقتي فتذكرينني مع من تذكرين.»
أمين الريحاني
الفريكة، 14 أبريل سنة 1924
كان أمين الريحاني كما قلنا رحالة وداعية للعرب والعروبة، وقد ولد في الفريكة بلبنان عام 1876، ولما نشأ وترعرع غادر وطنه إلى الديار الأمريكية، ومارس بها التجارة مع أبيه وعمه، ثم انضم إلى فرقة مسرحية، واشتغل بالتمثيل، ثم عاد فاستأنف التعليم حتى حصل على شهادة الحقوق سنة 1898. وقد أولع بمؤلفات شكسبير وفولتير وروسو وداروين وهيوم وغيرهم، فأكب على قراءتها حتى ساءت صحته، فرجع إلى لبنان وظل منذ ذلك التاريخ يتردد بين أمريكا ووطنه الأول، ثم قام بعدة رحلات في بلاد العرب وفي أوروبا وشمال أفريقيا، ووضع عدة مؤلفاتها منها كتاب «ملوك العرب» و«الريحانيات» و«تاريخ نجد الحديث» و«زنبقة الغور» و«قلب العراق»، وله في الإنجليزية ترجمة «اللزوميات» لأبي العلاء المعري.
وقد عقد الأدب بينه وبين الآنسة مي نسبا متصلا، فكان يراسلها في رحلاته، ويبعث إليها بمؤلفاته وكتبه وآرائه، ويصف لها كثيرا مما خبره ومارسه من التجارب، وما صادفه من مشاهد ومعالم.
عواطف وذكريات
Página desconocida