الخطاب الرابع
وسافر إلى الإسكندرية في ذلك الحين، وكان من عادته أن يودعها مرة أخرى من محطة القاهرة بالتليفون قبل قيام القطار مكررا لها تحياته ووداعه، ولكنه في هذه المرة حاول أن يتصل بها تليفونيا فلم يستطع؛ فبعث إليها بهذا الخطاب الذي أمضاه بإمضاء «لوتر بيبي»، أي الطفل الآخر، وقد جاء فيه بعد التحية والأشواق: «... غادرت القاهرة أمس، وقد حاولت كثيرا أن أخاطبك تليفونيا من المحطة قبل السفر فلم أفلح؛ لأن جواب السيدة عاملة التليفون كان دائما «مابيردش» قالت لي ذلك بالعربية والفرنسية والإيطالية، نحن نعرف الشيء الكثير من معاكسات سيدات التليفون، ولكنها ما ضايقتني مرة مثل هذه المرة، فسلمت أخيرا أمري إلى الله، ولا أعرف الآن موعد رجوعي إلى القاهرة؛ فإن الأحوال لم تستقر، ولكني أتمنى أن يكون ذلك قريبا.
وأنت، كيف أنت؟ أرجو أن تكوني على ما أرجوه لك من الصحة والهناء!
بلغت إلى البحر ما زودتني له من سلام وتحيات، الساعة الآن متأخرة من الليل، ولا يسعني إلا الانتقال بالفكر إلى تلك الشرفة الشاهقة (يعني شرفة منزلها) ذات الفضل العميم علي في مثل هذه الساعة ، فأقف طويلا عن الكتابة ضائعا في بحار الذكريات، بل إن الكلمات تعصاني، فأبحث عنها ولا أجدها.
أستودعك الله يا بيبي على أمل لقائك بخير وعافية، وقد أصبحت أنا لوتر بيبي.» (6) مي وأمين الريحاني «العيون، تلك الأحداق القائمة في الوجوه كتعاويذ من حلك ولجين.
تلك المياه الجائلة بين الأشفار والأهداب كبحيرات تنطقن بالشواطئ وأشجار الحور.
تلك التي تذكرك بصفاء السماء، والتي تريك مفاوز الصحراء، والتي تعرج بخيالك في ملكوت أثيري كله بهاء، وتلك التي يتسع سوادها أمام من تحب وينكمش لدى من تكره، وتلك التي تقرر بلحظة: أنت عبدي، والتي تقول: بي حاجة إلى الاستبداد فأين ضحيتي؟ وتلك التي تبسم وتتوسل، وتلك التي تقول: ألا تعرفني؟!
العيون، جميع العيون، ألا تدهشك العيون؟!» ••• «ما أسرع أن تتمزق أثواب الورد، وما أتعس القلوب الشديدة التأثر!
طائر صغير نسجت أشعة الشمس ذهب جناحيه، وانحنى الليل عليه، فترك من سواده قبلة في عينيه، ثم سطت عليه يد البشر، فضيقت دائرة فضائه، وسجنته في قفص كان عشه في حياته ونعشه في مماته.
طائر صغير أحببته شهورا طوالا، غرد لكآبتي فأطربها، ناجى وحشتي فآنسها، غنى لقلبي فأرقصه، ونادم وحدتي فملأها ألحانا.
Página desconocida