فقد بان إنما نسبنا المواد إلى الأغلب عليها، وإن كانت غير خارجة من الكل. ففيما أتينا به إثبات على أن من الحيوان ما هو مشاكل لمزاج نبت من النبات، ومنافر لمزاج حيوان من الحيوان.
ولذلك صار من الحيوان والنبات ما هو غذاء للانسان، ومنه ما هو قاتل له، ومنها ما هو مؤذ غير قاتل.
ومن قبل ذلك أجمعت الأوائل على أن الحيوان في جنسه ينقسم قسمين، لان منه ما هو غذاء للانسان، ومنه ما ليس بغذاء . وما ليس بغذاء فينقسم قسمين: أحدهما: منافر لمزاج بدن الانسان ومضاد له، إما بإفراط حره مثل الحيات والأفاعي والذراريح (1)، وإما بإفراط برده مثل العقارب والرتيلاء. والآخر:
مخالف لمزاج بدن الانسان من غير مضادة ولا منافرة مثل القنافذ والثعالب والأرانب وما شاكل ذلك مما غذاؤه فاسد مذموم وليس بقاتل. ويستدل على ذلك من زفورة لحمها وقربه من النتن.
وكذلك قال جالينوس: أي حيوان كان لحمه زفرا أو منتنا فهو بعيد من مزاج بدن الانسان، وأي حيوان لم يكن في لحمه زفورة ولا نتن ولا رائحة مؤذية، ليس مزاجه ببعيد من مزاج بدن الانسان. فقد بان واتضح أن اللحمان ما هو غذاء للانسان لمشاكلته لمزاجه وقربه من طباعه مثل الجدي والضأن وما شاكل ذلك. ومنها ما هو قاتل (1) له لمنافرته لمزاجه، ومضادته لطباعه مثل الحيات والأفاعي والعقارب. ومنها ما هو بمنزلة الدواء لمخالفته لمزاجه لأنه يسخن ويبرد أكثر من المقدار الطبيعي من غير إفراط ولا منافرة للطباع مثل القنافذ والثعالب والأرانب.
فأما الحيوان المغذي للانسان فينقسم قسمة جنسية على قسمين، لان منه البري ومنه الأهلي.
فأما البري فهو أسخن وأيبس كثيرا إلا أنه يختص بأربع خواص، يحمد منها من جهة، ويذم من أخرى، أحدها: أنه لحرارة هوائه الذي يأوي فيه، وغلبة اليبس على مزاجه، استحر (3) وجف ورق دمه ولطف.
والثانية: أنه لعوزه الماء والنبات دائما قل أكله وشربه، ولذلك قل شحمه ونقصت فضول بدنه. والثالثة:
أنه لجفاف غذائه وغلبة اليبس عليه، صلب لحمه وقلت زهومته (4) وزفورته، ويستدل على ذلك أنه يبقى بعد ذبحه زمانا من غير أن يفسد ولا يتغير. والرابعة: أنه لدوام تعبه وكثرة حركته، تخلخل جسمه وفنيت أكثر رطوبته الجوهرية وصار لحمه وغذاؤه قحلا جافا بعيدا (5) من اللذاذة عسير النفوذ في العروق. ولهذه الخواص اللازمة له صار غذاؤه محمودا من جهة ومذموما من جهة.
فأما الجهة التي يحمد منها فلشيئين: أحدهما: أنه إذا انهضم في المعدة والكبد جميعا كان الغذاء المتولد عنه قليل الفضول سريع التشبه بالأعضاء بعيد الانحلال منها . أما قلة فضوله، فلقلة شحمه وكثرة ما يتحلل من رطوبات بدنه بدوام حركته وكثرة تعبه. وأما سرعة تشبهه بالأعضاء وبعد انحلاله منها، فلقلة رطوبته وصلابة لحمه.
Página 85