..
Página 10
بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول في السبب الذي دعا الأوائل إلى الكلام في طبائع الأغذية قال إسحاق بن سليمان: إن السبب الذي دعا الأوائل إلى الكلام في طبائع الأغذية هو انهم لما عنوا بالبحث عن الصحة وأسبابها، والأمور الداعية إلى حفظها، وجدوا الأبدان مضطرة إلى أمرين:
أحدهما: إعطاؤها من الغذاء ما يصلحها مما به قوتها وقوامها، ولحاجتها إلى رد ما يتحلل منها بوقود الحرارة الغريزية من باطنها وحرارة الهواء من ظاهرها. ولذلك احتاجت إلى إعطائها ما تقتضيه القوة الطبيعية الشهوانية، المركبة فيها من الأغذية الموافقة لها.
والآخر: نفى ما يجتمع في الأبدان من قسم الغذاء المخالف لمزاجها، إذ لا سبيل إلى وجود نظير ما يتحلل من جوهر الأبدان بعينه في الأغذية الموجودة، فيفسد ويتحلل لامتناع ذلك في الطبع، إذ ليس جميع أجزاء الغذاء مشاكلة لجوهر البدن من قبل ان منه قسما هو جوهر الغذاء وهو المستحيل دما المتشبه بالأعضاء التي به تغذيتها، وقسما هو ثفل الغذاء وأرضيته وهو الذي تنفيه الطبيعة عن الأبدان لاستغنائها عنه في تغذية الأبدان.
ولما كان ذلك كذلك، ورأينا طبائع الناس في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وتركيبها في القوة والضعف والكثافة والسخافة (1) غير متكافئة ولا متساوية لان منها ما المستولي عليه الدم الخالص النقي. ومنها ما الغالب على مزاجه المرتان (2) أو البلغم. ومنها المتكاثف المسام المستحصف الجلد
Página 11
العسير التحلل. ومنها المتخلخل المسام السريع التحلل. ومنها ما ببعض أعضائه آفة، احتجنا إلى الوقوف على طبائع الأغذية واختلاف حالاتها في تنقلها ليكون ما يعطاه (١) كل صنف من الناس حسب ما يوافقه منها إما مشاكلا وملائما لمن كان مزاجه معتدلا، وإما مخالفا أو مضادا لمن كان مزاجه قد زال عن الاعتدال إذ كان غرض الطب وتمام عمله تثبيت المزاج الطبيعي على حالاته بما لاءمه وشاكله، ورد المزاج الحائد عن الاعتدال إلى الحالة الطبيعية بما خالفه ونقص منه.
مثال ذلك: أنا نجعل ما يستعمله من كان الغالب على مزاجه الدم الخالص النقي أغذية معتدلة في كميتها وكيفيتها جميعا ليكون الخلف المتولد عنها نظير ما يتحلل من الأبدان في طبائعها وجواهرها. ونجعل ما يستعمله من كان الغالب على مزاجه خلط من الأخلاط الأخرى مثل إحدى المرتين أو البلغم أغذية مخالفة لمزاجه وطبيعته لينقله من الزائد عليه إلى الناقص عنه ويرده إلى التوسط والاعتدال. مثال ذلك: أنا متى رأينا في الغالب على مزاجه المرار الأصفر، جعلنا ما يستعمله من الغذاء ما يبرد مزاجه ويرطبه. ومتى رأينا من الغالب على مزاجه البلغم، جعلنا ما يستعمله من الغذاء ما يسخن مزاجه ويجففه. ومتى رأينا من الغالب على مزاجه المرة السوداء، جعلنا ما يستعمله من الغذاء ما يسخن مزاجه ويرطبه. الا أنه يجب أن تكون كمية كيفية الغذاء الوارد على البدن، على حسب مقدار كمية كيفية مزاج البدن في صد كيفية الغذاء إلى أي كيفية كانت لا أزيد ولا أنقص.
مثال ذلك: انه متى كان مزاج البدن حائدا عند الاعتدال إلى الحرارة مقدار درجة، أن يكون الغذاء المستعمل حائدا عن الاعتدال إلى البرودة مقدار درجة. ومتى كان البدن حائدا عن الاعتدال إلى اليبوسة مقدار درجتين، أن يكون الغذاء المستعمل حائدا عن الاعتدال إلى الرطوبة مقدار درجتين. وعلى هذا الوزن والقياس يجب أن ينقل كل مزاج حائد عن الاعتدال إلى حاشية ما، أي حاشية كانت، حتى يرد إلى التوسط والاعتدال. فقد بان من قوة كلامنا أن بين كل مزاجين متضادين مزاج معتدل، كما أن بين كل نوعين من الأغذية، متضادين، نوعا متوسطا، والموافق من كل غذاء لمن كان مزاجه معتدلا لا يذم منه شئ <و> ما كان من الأغذية كذلك، أعني ما كان معتدلا لا يذم منه شئ. وأما ما كان مزاجه رديئا حائدا عن الاعتدال، كان ذلك له من جبلته وأول أمره، أو لعارض عرض له، فليس الموافق له من الغذاء ما كان معتدلا، ولا ما كان مشاكلا لمزاجه، بل ما كان مخالفا لمزاجه وطبعه، إذ كان محتاجا إلى أن ينقل من الحالة التي هو عليها إلى حالة هي أفضل وأعدل.
ونقل كل مزاج فإنما يكون بما خالفه ونافره. فإذا المعتدل ينتظم بمعنيين: أحدهما طبيعي عامي، والاخر عرضي خاصي. والعامي: هو الجاري على مجرى الطباع المتوسط بين كل حاشيتين متضادتين
Página 12
توسطا معتدلا مثل السخونة اللذيذة المتوسطة بين الحرارة والبرودة والليانة (1) المتوسطة بين الصلابة والرخاوة.
وأما الخاصي: فهو ما كان معتدلا بالإضافة إلى كل مزاج حائد عن الاعتدال، فصار معتدلا بإضافته إليه، ورده إلى التوسط والاعتدال.
مثال ذلك: أن الانسان متى كان صفراويا قد غلب على مزاجه الحرارة واليبوسة، كان المعتدل من الأغذية عنده، والأفضل في صلاح حاله ما كان منها باردا رطبا ليقمع ببرده ورطوبته حدة حرارة مزاجه العرضية ويرطب يبسه ويرده إلى التوسط والاعتدال. فقد بان ان المعتدل يقال على معنيين: إما معتدل موافق ومشاكل لمن كان مزاجه صحيحا لملائمته له وزيادته فيه، وإما منافرا ومخالفا لمن كان مزاجه حائدا عن الاعتدال لمضادته له ونقله إياه إلى التوسط والاعتدال.
وعلى هذا الوزن والمثال يجرى القياس في الأسنان (1) والأزمان والبلدان والمهن والعادات، لأنه لا يشك أحد من الطبيعيين أن المعتدل من الأغذية عند الشبان غير المعتدل عند المشايخ. والمعتدل في زمان الربيع غير المعتدل في زمان الخريف. والمعتدل في الصيف غير المعتدل في الشتاء. والمعتدل في البلدان الشمالية غير المعتدل في البلدان الجنوبية. والمعتدل عند أهل الرياضة والتعب غير المعتدل عند أهل الدعة والسكون، إذ كان أهل التعب والرياضة يحتاجون من الغذاء ما كان أغلظ وأعسر انهضاما وأبطأ انحلالا من الأعضاء. وأهل الدعة والسكون يحتاجون من الغذاء إلى ما كان لطيفا سريع الانهضام سهل التحلل من الأعضاء.
وأما تدبير الأبدان على حسب استحصافها وتخلخلها على هذا المثال، وذلك أنه متى كان البدن متخلخلا سريع التحلل للبخارات جعلنا ما يستعمله صاحبه من الغذاء ما كان كثيرا في كميته، غليظا لزجا في كيفيته، ليملأ المسام بكثرته ويشدها بغلظه ويعسر انحلاله منها لان الغذاء إذا كان قليلا رقيقا، مع سعة المسام وتخلخلها، لم يؤمن عليه ان يتحلل أكثره ويخرج من المسام بسرعة ويعدم الأعضاء كثيرا من الغذاء. وإذا كان الغذاء كثيرا غليظا ملا المسام وسدها وعسر انحلاله منها، ولم تحتج منه الا ما كانت الطبيعة محتاجة إلى اخراجه.
ومتى كان البدن كثيفا مستحصفا مانعا للبخارات من التحلل والخروج، جعلنا ما يستعمله صاحبه من الغذاء قليلا في كميته رقيقا سائلا في كيفيته، لان الغذاء إذا كان كثيرا غليظا مع ضيق المسام وكثافتها، اجتمع في البدن من بقايا الانهضام الثالث الكائن في الأعضاء مقدار لا يؤمن معه حدوث علل مزمنة وبخاصة أوجاع العصب والمفاصل. وإذا كان الغذاء رقيقا سيالا سهل خروجه من المسام الضيقة بسرعة ولم يبق منه في البدن الا مقدار حاجة الطبيعة إليه في تغذية الأعضاء، وسلم البدن من أذيته.
Página 13
فقد بان أن الغرض الذي قصدت به الأوائل الكلام على طبائع الأغذية، هو ان يكون الخلف المتولد عنها نظير ما يتحلل من جواهر الأبدان المغتذية بها. ولذلك وجب ألا نقتصر في معرفة ما يجلب الصحة ويديمها، بالوقوف على طبائع الأغذية فقط دون الوقوف على معرفة طبائع الأبدان المغتذية بها، لان من وقف على معرفة طبائع الأغذية، ولو بلغ (1) في معرفته بها الغاية القصوى، ولم يقف مع ذلك على طبائع الأبدان المغتذية بها، لم تتم له المعرفة بما يحفظ الصحة على الأصحاء، ولا بما يكسبها المرضى، من قبل ان الأبدان تختلف كثيرا في مزاجاتها وتركيبها، وبحسب اختلافها يجب اختلاف أغذيتها. ولذلك لزمتنا الحاجة إلى الوقوف على اختلاف الأبدان والاشراف على ما كان منها متخلخلا واسع المسام، أو متكاثفا ضيق المسام، والنظر في مزاج البدن كله، وحال كل واحد من أعضائه هل هو على مزاجه الذي يجب ان يكون عليه أم لا، لأنا نجد كثيرا من الناس مزاج بدنه أسخن من المقدار الذي يجب، ومزاج معدته أبرد.
وربما كان الامر بخلاف ذلك وضده، حتى يكون البدن أبرد والمعدة أسخن. وكذلك الحال في سائر الأعضاء. وقصد الأوائل في جميع الطرق التي يحفظون بها الصحة على الأصحاء ويكسبونها المرضى قصدا سواء خلا استعمال الأغذية فان قصدهم فيها خلاف قصدهم في غيرها من قبل ان قصدهم في جلب الصحة بالأدوية وغيرها هو مقابلة بالضد بالضد من اسخان أو تبريد أو استفراغ أو احتقان. وأما الأغذية فليس كذلك لان قصدهم فيها بدءا ان يكون الغذاء ملائما ومشاكلا لمن كان مزاجه معتدلا، أو مخالفا ومضادا لمن كان مزاجه حائدا عن الاعتدال.
ثم يقصدون، بعد ذلك، إلى أن يبلغ الطعام من الهضم والاستمراء (2) في المعدة والكبد جميعا أفضل مراتبه. ثم يكون ما ينفذ منه إلى جميع البدن سهل النفوذ والجولان، موافقا لمزاج الأعضاء، سريع الانقلاب إليها، قريب الشبه بها مشاكلا (3) في طبيعتها ومزاجها، من قبل ان كل موافق وملائم يغذو وينمي وكل مخالف ومنافر مفسد مؤذ. ولذلك صار كل غذاء مخالف لطبيعة بدن أي حيوان كان، فأما أن لا يأكله أصلا، وأما ان يأكله عند الفقر إليه من غير استلذاذ منه له. ولهذه الجهة اختص أكثر الحيوان بغذاء دون غذاء غيره من الحيوان على قدر طبيعته ومزاجه.
ولجالينوس (4) في هذا فصل قال فيه:
ان كل غذاء من الأغذية لأي حيوان كان، أو نبات كان، فبينه وبين ذلك الحيوان أو النبات الذي يغتذي به في خاصة طبيعته وملاءمة ومشاكلة. مثل الماء العذب المشاكل لطبيعة الأشجار والنبات وألقت (5)
Página 14
والشعير المشاكل للخيل والحمير. واللحم النئ المشاكل للسباع. والخبز المحكم الصنعة، واللحم المدبر بالطبخ المشاكل لمزاج الانسان. ولهذه الجهة صار الخربق (1) غذاء للسلوى (2). والشوكران (3) غذاء للزرازير (4)، والكرسنة غذاء للبقر من غير أن يضر الخربق بالسلوى، ولا الشوكران بالزرازير، على عظم ضررهما بالانسان. ومن قبل ذلك أيضا صار الافراد من الناس يستمرئون من الأطعمة ما لا يستمرئها أكثر الناس اما لخصوصية طبع فيما بين الغذاء والمغتذي، واما لعارض في المعدة يعين على جودة الهضم والاستمراء، لا لجودة الغذاء في نفسه. كما أنه قد يعرض كثيرا ان يفسد الهضم والاستمراء لا لرداءة (5) الغذاء في نفسه، ولا لمخالفته لمزاج المغتذي، لكن لأسباب اتفاقية سنذكرها عن قرب في موضعها الأخص بها إن شاء الله تعالى.
Página 15
الباب الثاني في وجود السبيل إلى الوقوف إلى طبائع الأغذية قال إسحاق بن سليمان: أجمع الأوائل على أن الوقوف على طبائع الأغذية يكون بطريقين:
أحدهما التجربة، والآخر (1) القياس. وذلك أنه لا يشك أحد في التجربة أنها قد تدل على سرعة الانهضام وإبطائه، وجودة الغذاء ورداءته، وملاءمته لمزاج بدن المغتذي أو مخالفته له، وموافقته للمعدة أو إضراره بها، وتليينه للطبيعة أو حبسه لها. إلا أن الامر وإن كان كذلك، فليس يجب أن تكون التجربة معراة من القياس، لان كثيرا ما يدخل أهلها الشبه والالتباس حتى يقودهم ذلك إلى الحيرة والشكوك، من قبل أن الأغذية قد يختلف فعلها وانفعالها في الأبدان لثلاثة أوجه: إما لاختلاف طبائع البشر ومزاجاتهم (2). وإما لاختلاف كيفية الغذاء في طبيعته وبسطه وتركيبه. وإما لاختلاف استعماله وضرره واتخاذه. وذلك أنا كثيرا ما نشاهد الواحد من الأغذية محمودا في قوم ومذموما في غيرهم، ومطلقا للبطن في قوم وحابسا لها في غيرهم. ومن أجل ذلك قال رجل من المبرزين المشهورين بمعرفة الطبيعيات يقال له أرسسطراطس، قال قولا صدق به جميع من سمعه، ووافقه أيضا عليه جالينوس، وهو أن قال أن بعض الناس يستمرئون لحم البقر وما شاكله من الأغذية الغليظة البطيئة الانهضام أكثر من استمرائهم لحم الدراج والفراريج ومحمود السمك. وأن الغسل موافق لقوم محمود عندهم يقولون: أنه مطلق للبطن مهيج للأمراض. وأن العدس والكرنب لا يحبسان الطبيعة في كل الناس، بل يفعلان (3) ضد ذلك وعكسه في كثير من الناس.
ومن قبل ذلك وجب ألا يطلق القول في شئ من الأغذية بأنه ضار أو نافع، أو حابس للبطن، أو مطلق له، وموافق للمعدة أو مؤذ لها دون الفحص عن ثلاثة وجوه: أحدها، معرفة طبائع أبدان المستعملين للأغذية وتركيبها وأمزجتها. والثاني، معرفة اختلاف الأغذية في طبائعها وبسطها وتركيبها.
أعني ببسطها ما كان منها له قوى مختلفة مركبة. والثالث، كيفية انتقال الغذاء واستحالته في الأبدان.
Página 16
أعني بذلك سرعة انهضامه وبطئه وجودة غذائه ورداءته وملاءمته لمزاج بدن المغتذى به، أو مخالفته له، لأنا متى فعلنا ذلك، ووقفنا على حقيقة ما شرطنا ، اتضح لنا لم صار الغذاء الواحد موافقا لبعض الناس، ومخالفا لغيرهم، ومسهلا للبطن في قوم وحابسا لها في خلافهم. ولم صار العسل سببا للصحة في قوم، وعلة للمرض في قوم.
وأنا مبتدئ ببيان ذلك. وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
* * * القول في طبائع الأبدان أما طبائع الأبدان فمختلفة (1) لثلاثة وجوه: أحدها: من خلقتها وتركيبها. والثاني: من طبائعها وأمزجتها. والثالث: لحال تعرض للمعدة في بعض الأوقات خارجة عن المجرى الطبيعي.
فأما اختلاف الأبدان في تركيبها فيكون على ضربين: وذلك أنه لا بد لكل بدن من أبدان البشر من أن يبرز، من فم المرارة التي فيه، مجرى ينشعب شعبتين: إحداهما: أعظم من الأخرى، وأعظم الشعبتين بالطبع من شأنها في أكثر الناس ان تصير إلى المعاء وتقذف فيه بأكثر المرار المنحدر عن المرارة لتقطع ما يصل إلى المعاء من ثفل الغذاء. ويهيج المعاء إلى دفع ما يجتمع فيها من الأثفال.
وأصغر الشعبتين يصير إلى فم المعدة ويقذف فيه من المرارة مقدارا معتدلا ليعين إلى هضم الغذاء ويجلو ما يجتمع في المعدة من الرطوبات الغليظة، وربما انعكس ذلك في بعض الناس حتى تكون أصغر الشعبتين هي التي تنحدر إلى المعاء فيكون الناس (2) ينصب إليه من المرارة مقدارا أقل حتى يضعف فعله هناك. ويغلب على الموضع البلغم ويغلظ فيه، ويغلب لون البلغم على لون البراز ويبعد انحدار الأثفال بسرعة، ويخالف خروجها في أوقاتها الطبيعية، ويعرض لمن كانت هذه الحالة، في أكثر الحالات، القولنج العارض من البلغم الغليظ، ويكثر في أمعائهم الدود وحب القرع والحيات الطوال.
ويصير أعظم الشعبتين إلى فم المعدة ويقذف فيه من المرار مقدارا أكثر حتى يعرض كثيرا، لمن كانت هذه حاله، فساد ما يتناول من الطعام اللطيف السريع الانهضام، ويحسن استمراؤه لما يأخذ من الطعام الغليظ يقاوم فعل المرار الكثير لثقله وبعد انقياده من غير أن يستحيل أو يتشكل بشئ من المرار حتى تتمكن منه الحرارة الغريزية وتحتوي عليه وتستكمل فعلها فيه، فيجود هضمه ويحسن استمراؤه.
Página 17
فأما الطعام اللطيف فإنه ، لخفته وسرعة انقياده، لا يمكنه مقاومة الكثير من المرار لكنه يستحيل ويتشيط (١) بسرعة، وينتقل إلى طبيعة المرة حتى يصير هو وهي شيئا واحدا، فيتوهم من كانت هذه حاله أن مزاجه ممرور وإن كان مزاج بدنه، على الحقيقة، مرطوبا لأنه قد يمكن أن يكون مزاج البدن مرطوبا بلغمانيا، وما يجتمع في معدة صاحبه من المرار مقدارا أكثر، وذلك لسعة الشعبة التي تصير إلى المعدة من المرارة وعظمها. ولذلك، قد يمكن أن يكون مزاج البدن ممرورا قوى الحرارة، وما يجتمع في معدة صاحبه من المرار مقدارا أقل <و> (2) وذلك لضيق الشعبة التي تصير إلى المعدة من المرارة وصغرها، من قبل أن حرارة المزاج إنما تكون من كثرة الجزء المري المخالط للدم الجوال معه إلى جميع البدن. وكثرة اجتماع المرار في المعدة إنما تكون من سعة الشعبة المتصلة بها من المرارة. فربما كانت هذه الشعبة واسعة والدم المري المخالط للدم الجوال معه في جميع البدن قليلا، فيكون ما ينصب من المرار إلى المعدة مقدارا أكثر، ومزاج البدن في نفسه قليل المرار.
وربما كان الجزء المري المخالط للدم كثيرا والشعبة المتصلة بالمعدة من المرارة ضيقة فيكون ما ينصب إلى المعدة من المرار مقدارا أقل ومزاج البدن في طبعه محرورا لكثرة الجزء المري المخالط للدم.
وأما اختلاف الأبدان بحسب طبائعها وأمزجتها فيكون أيضا على ضربين: وذلك أن من الناس من الحرارة على مزاجه أغلب إما طبعا منذ أول مرة، وإما عرضا حالا حادثا. ومنهم من البرودة على مزاجه أغلب إما طبعا أيضا، وإما عرضا. فمن كانت الحرارة على مزاجه أغلب كان متى ورد إلى معدته طعام لطيف رفعته الحرارة لخفته إلى أعلى المعدة، وبقي هناك طافيا عواما في الجزء العصباني من المعدة البعيد من موضع الطبخ إذ موضع الطبخ من المعدة إنما هو الجزء اللحمي الأسفل منها المجاور لحرارة الكبد والمرارة، فإذا لبث الطعام في أعلى المعدة زمانا حمي بقوة الغليان والبخار المتصاعد إليه واستحال وتشيط، وانتقل من جنس المرار وأحدث في فم المعدة لذعا وألما، وولد عطشا قويا وجشاء دخانيا.
ومتى ورد معدة من كانت هذه حاله طعام غليظ ثقيل بطئ الانهضام، قاوم الحرارة بغلظه وهبط سفلا بثقله، واستقر في موضع الطبخ من المعدة، وتمكنت الحرارة منه واحتوت عليه وقوي فعلها فيه، وجاد طبخه وكمل انهضامه.
وأما من كانت البرودة أغلب على مزاجه، فان الطعام إذا ورد إلى معدته لحقه ضربان من الفساد، وذلك أنه إما أن يزلق بلزوجة البلغم ورطوبته وينحدر إلى المعي قبل كمال نضجه ولا يلبث فيها إلا يسيرا، وإن وافى منها شيئا من الفضول الغليظة البلغمانية تفجج هناك وغلظ وعسر انحداره،
Página 18
واستحال إلى فساد، وأحدث أمغاصا ونفخا وقراقر. وإما أن يتفجج في المعدة لضعف الحرارة عن طبخه، فيستحيل إلى الحموضة والعفونة ويحدث نفخا وقراقر وجشاء حامضا عفنا. فإن كانت العفونة أغلب على الجشاء دلت على أن الفضل سوداوي (1)، وإن كانت الحموضة أغلب دلت على أن الفضل بلغماني. وقد يختلف ذلك في الناس على حسب اختلاف صنوف البلغم، لان أصناف البلغم على ضروب خمسة:
وذلك أن منه نوعا يعرف بالتفه أي لا طعم له. وهذا النوع هو الطبيعي ومسكنه العروق لكنه جوال مع الدم في جميع البدن، من قبل أنه دم لم يكمل نضجه فيعذب، ولذلك صارت الطبيعة تستعمله في تغذية البدن عند حاجتها إليه عند نقصان الدم ومنفعته للبدن أن به تكون سهولة الازدراد وحركات المفاصل، وجولان الغذاء إلى جميع البدن، وخروج ما يخرج من فضول البدن.
ومنه نوع ثان: يميل إلى العذوبة قليلا قريب من طبيعة الدم، دال على حرارة قد قويت على البلغم الطبيعي فزادت في هضمه، ونقلته إلى العذوبة.
ومنه نوع ثالث: مائل إلى الملوحة والبورقية قريب من طبيعة المرة الصفراء، دال على حرارة قوية، قد أفرطت على رطوبة البلغم، وأسخنتها وصيرتها بورقية. ولذلك صار هذا النوع من البلغم زائدا في شهوة الماء، وناقصا من شهوة الغذاء.
ومنه نوع رابع: مائل إلى الحموضة قريب من طبيعة المرة السوداء، دال على برودة زائدة قد غلبت على البلغم ومنعت من كمال نضجه، ونقلته إلى الحموضة. ولذلك صار هذا الضرب من البلغم ناقصا من شهوة الماء، وزائدا في شهوة الغذاء.
ومنه نوع خامس: يعرف بالزجاجي لأنه شبيه بالزجاج الأبيض المذاب نستغني عن ذكره في هذا الموضع لأنه لا يغذو البدن أصلا، ولا يستحيل كاستحالة سائر صنوف البلغم، ولا يجول في البدن، ولا ينقاد لفعل الطبيعة، وذلك لغلظه وقوة برده.
وكذلك المرة قد تتصنف على ضروب:
وذلك أن منها نوعا يعرف بالأشقر، لأنه لونه متوسط بين الصفرة والحمرة. وهو النوع الطبيعي المتولد في أبدان الأصحاء ومسكنه ليس المرارة لان الطبيعة تستبشعه لمرارته (2) وحدته فحصرته في موضع ولم ترسل منه مع الدم إلا مقدار حاجتها إليه في تقوية القوة الجاذبية في كل واحد من الأعضاء، كما بشعت المرة السوداء لشدة حموضتها وقوة بردها ويبسها، فحصرتها في الطحال ولم ترسل منها مع
Página 19
الدم إلا مقدار حاجة الطباع إليه في تقوية القوة الماسكة في كل واحد من الأعضاء.
ومنه نوع ثان خارج عن الطبيعي ومسكنه المعدة، وهو أربعة (1) ضروب: أحدها: المعروف بالمحي لان لونه شبيه بلون مح البيض. والثاني: يعرف بالأصفر لان لونه شبيه بلون الزعفران الأصفر.
والثالث: يعرف بالكراثي لان لونه شبيه بلون الكراث. والرابع: يعرف بالزنجاري لان لونه صديدي على لون صدأ النحاس المتزنجر.
فالمحي والأصفر من هذه الأربعة أقل حرارة ويبسا من النوع الطبيعي، لان تولدهما عن رطوبة خالطت النوع الطبيعي المنصب إلى المعدة دائما فغيرت لونه من الشقرة إلى الصفرة. إلا أن الزعفران أقوى حرارة وأكثر (2) يبسا من المحي قليلا لان زيادة صبغه دالة على أن الرطوبة التي خالطته كان فيها قلة ورقة. ولذلك صار أقوى صبغا وأرق قواما من المحي كثيرا.
فأما الكراثي والزنجاري فهما أشد حرارة ويبسا من النوع الطبيعي كثيرا. والزنجاري (3) أشد احتراقا وفسادا، ولهذه الجهة صار أقتل وأوجى (4) وأقرب من الهلاك.
وأما فساد الغذاء لسبب حال يحدث للمعدة خارجة عن الحال الطبيعي، فينقسم قسمين:
أحدهما: أنه ربما اتفق أن يكون في المعدة طعام قد تقدم وتوسط النضج، ثم تناول صاحبه بعده طعاما ثانيا، إما ألطف من الطعام الأول، أو مساويا له، فإذا انهضم الطعام الأول وانحدر انحدارا معه الطعام الثاني ضرورة، وهو على غاية من الفجاجة، فإذا صار إلى الكبد على فجاجته وغلظه، أرسلته الكبد إلى الأعضاء وهو على حال من الفساد لا يؤمن معها أن يحدث عنها مع طول الأيام الاستسقاء المعروف بالحمى. ولذلك وجب ألا يتناول الانسان شيئا من الغذاء إلا على نقاء من معدته وخلوها من الغذاء وغيره.
والثاني (5): أنه ربما اتفق أن يقدم الانسان أمام طعامه غذاء غليظا بطئ الانهضام، ثم يستتم طعامه بغذاء لطيف سريع الانهضام، فإذا انهضم الطعام اللطيف لخفته وسرعة انقياده، وحاول الخروج منعه الطعام الغليظ عن الانحدار. فإذا لبث هناك زمانا طويلا انتقل إلى الدخانية وحبس المرار ممن كان مزاج معدته محرورا. وإما إلى الحموضة والعفونة ممن كان مزاج معدته باردا. ولذلك صار من الواجب أن يقدم الانسان أمام طعامه دائما طعاما لطيفا سريع الانحدار، ويستتم غذاءه بما كان أغلظ وأبطأ
Página 20
انحدارا، ليكون متى انهضم الطعام اللطيف وحاول الخروج، لم يعوقه عائق عن الانحدار.
فإن عارضنا معترض وقال: فما أنكرت أن يكون متى تناول الانسان طعاما لطيفا، ثم أتبعه بطعام غليظ، أن الطعام اللطيف متى انحدر (1) وهم بالخروج، أحدر معه الطعام الغليظ ضرورة كما شرطت في أعلى كلامي (2). أن المعدة متى يقدم فيها طعام قد توسط الهضم، وتناول صاحبه طعاما ثانيا، إن الطعام الأول متى انهضم وحاول الخروج، انحدر معه الطعام الثاني ضرورة.
قلنا له: قابلت بالمحال من قبل أنا إنما شرطنا هذا الشرط متى كان الطعام الثاني ألطف من الطعام الأول أو مساو له في اللطافة لأنه متى كان كذلك وانهضم الطعام الأول، أمكن (3) الطعام الثاني، للطافته وليانته وسرعة انقياده، أن ينزلق وينحدر مع الطعام الأول ضرورة. فأما الطعام الغليظ فإنه إذا أخذ بعد الطعام اللطيف، فانهضم الطعام اللطيف بسرعة، وحاول الخروج، مانع الطعام الغليظ القوة الدافعة لغلظه، وبعد انقياده، ولم ينقاد لفعلها، وامتنع من الانحدار والخروج إلى أن ينهضم ويكمل نضجه ويكتسب ليانة ورخاوة تزلقه وتعين القوة الدافعة على دفعه.
وأما اختلاف الأغذية على حسب طبائعها وذواتها (4) فينقسم قسمة أولية على ضربين: وذلك أن منها بسيط ومنها مركب. أعني بالبسيط ما كانت قوته قوة واحدة مفردة وهو ما كان قوة جرمه وقوة رطوبته المستخرجة منه بالطبخ قوة واحدة. وأعنى بالمركب ما كان له قوتان متضادتان (5)، وهو ما كان قوة جرمه مخالفة لقوة جوهره ورطوبته فما كان منها قوته بسيطة مفردة كان طعم جرمه مشاكلا لطعم جوهره ورطوبته المستخرجة منه بالطبخ وهو على ثمانية اقسام، أحدها: الحلو. والثاني: الدسم. والثالث: المالح.
والرابع: المر. والخامس: الحريف (1). والسادس: الحامض. والسابع: العفص. والثامن: التفه.
فأما الحلو، فإنه متى كان خالص الحلاوة، ولم تشبه حرافة (6) ولا لزوجة كان ألذ الطعوم عند الطبيعة لقربه من طعم الدم وطبيعته، ولأنه يجلو ويغسل وينفى عن الحساسية ما يؤذيها ويلين البطن تليينا معتدلا من غير استكراه للطبيعة، ولا عنف عليها. ولذلك صار فعله في سرعة الانهضام والانحدار عن المعدة والمعاء فعلا معتدلا بطبيعته وذاته. وأما نفوذه في العروق فليس هو له في طبعه لكن بالعرض، لان ذلك إنما يكون عن فاعل خارج عنه، لا عن فاعل من ذاته. وذلك أن الأعضاء لو لم تشتاق إليه لاستلذاذها به بعذوبته، وتجذبه إليها قهرا، لكان من حكمه وطبعه ان يهيج المعاء إلى دفعه وإخراجه
Página 21
منها بسرعة لما فيه من قوة الجلاء والغسل. ولما كانت الأعضاء تجذبه إليها دائما صار ما يصل إلى البدن من غذائه أكثر مما يصل من سائر الطعام، فإن كان مع ذلك ملززا (1) مكتنزا، كان بتقويته للأعضاء أكثر، لطول لبثه فيها وبعد انحلالها منها. وإن كان فيه مع حلاوته لزوجة، مثل التمور، كان انحداره عن المعدة أسرع ونفوذه في العروق أعسر من قبل أن معه، مع جلائه وغسله قوة تزلقه وتحدره بسرعة.
وأما ما نفذ منه في العروق، فإن انهضامه يعسر جدا ويطول لبثه في العروق، وذلك لغلظه ولزوجته، وبهذا صار كثيرا ما يولد سددا في الكبد والطحال، ويستحيل بسرعة إلى العفونة والفساد ويولد حميات مزمنة.
والفالوذجات داخلة في هذا الجنس أيضا لما فيها من الغلظ واللزوجة المكتسبة من الحنطة والزيت، لان أغلظ ما تكون الحنطة إذا عملت بالزيت، ولذلك صارت الزلابية شر ما يؤكل من الحنطة.
فأما ما كان في طبيعته يابسا مثل عسل النحل، فإن فيه قوة حارة مكتسبة من طبيعة الحيوان الذي يتولد منه. ولذلك صار يغسل غسلا قويا، وينقي الرطوبات الغليظة اللزجة. ولهذا صار إذا وافى قوة البطن مستعدة لدفع التفل من أسفل ومقصرة عن تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، أعان القوة الدافعة على انحدار التفل، وصار سببا قويا لاطلاق البطن. فإذا وافى قوة البطن متهيئة لتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، ومقصرة عن إحدار التفل إلى أسفل، فتح أفواه العروق بحدته وطرق (2) للغذاء وأعان على تنفيذه وكشف رطوبة التفل، وجفف أكثرها ومنعه من الانحدار وصار سببا لحبس البطن. ولذلك اختلف فعل العسل في الناس وصار في بعضهم مطلقا للبطن، حافظا للصحة، وفى بعضهم حابسا للبطن مهيجا للأمراض.
وأما ما كان من الأغذية دسما مثل اللوز وما شاكله، فمن خاصيته أنه يطفو بدءا على الطعام كالدهن. فإذا اختلط بالطعام بقوة الغليان غلظه ومنعه من سرعة الانهضام حتى إذا أخذ الطعام في الانهضام، لين خمل (3) المعدة بدهنيته وأزلق الطعام وأحدره بسرعة. فإذا صار إلى العروق وانتفخ فيها وربا، منع من شهوة الطعام.
وأما ما كان من الأغذية مالحا فإن له قوة قطاعة تلذع المعاء وتؤذيها وتهيجها إلى دفع ما فيها بسرعة. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الأغذية حلوا وبورقيا فمن خاصيته قلة النفوذ في العروق وسرعة الانحدار من المعاء. إلا أن البورقي أخص بذلك وأقوى فعلا لجهتين: إحداهما أنه، لملوحته وتقطيعه، يلذع المعاء ويؤذيها ويهيجها إلى دفعه بسرعة. والثانية أنه، لبشاعته وقلة استلذاذ الأعضاء به، لا يجذب إليها منه إلا اليسير جدا، فيبقى أكثره في المعاء ويثقلها ويوهنها فتهتاج إلى دفعه ضرورة من غير لبث كثير. وأما الحلو فليس كذلك لان الأعضاء تستلذه وتجذب إليها منه مقدارا أكثر،
Página 22
فيقل ما يجتمع منه في المعاء ويخف حمله عليها، فلا تهتاج إلى دفعه بسرعة. ولذلك قال جالينوس:
إن الحلاوة تقلل التفل، والملوحة تكثره. أراد أن الغذاء المالح يجتمع منه في المعاء مقدار كثير لقلة ما ينفذ منه في العروق إلى الأعضاء.
وأما ما كان من الأغذية مرا، فإن قوته وفعله شبيه بقوة المالح وفعله. إلا أنه أقل إضرارا بالمعدة كثيرا لغلبة القبض على مزاجه.
وأما ما كان من الأغذية حريفا، فإن له لا محالة قوة قطاعة جديدة مشاكلة لقوة الأغذية المسهلة.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الأغذية حريفا أو بورقيا ففيه قوة قطاعة يفعل بها فعل الأدوية المسهلة ويحدر البطن باستكراه للطبيعة وعنف عليها. ولذلك صار سبيله في الأبدان سبيل الدواء لا سبيل الغذاء. إلا أن الحريف أخص بذلك وأقوى فعلا لان قوته أحد كثيرا.
فأما ما كان الأغذية حامضا فإن له قوة تقطع وتلطف من غير إسخان للبدن. إلا أن فعله يكون على ضربين: وذلك أنه إن وافى في المعدة والمعاء رطوبات غليظة قطعها ولطفها وأحدرها. وإن وافى البطن يابسا قليل الرطوبة، كان بتجفيف التفل وحبس البطن أولا وإليه أسبق، لان ذلك من خاصته وطبعه. وإنما يفعل متى كانت حموضيته ساذجة بسيطة، إلا أن يخالطها شئ من اللزوجة مثل التمر هندي والإجاص، فتكون معينة على إطلاق البطن دائما.
فأما ما كان من الأغذية عفصا، فإن فيه قوة قابضة تدبغ وتجفف وتغلظ الرطوبة. ولذلك صار لمن احتاج إلى التدبير الملطف مذموما، لان من خاصيته أن يدبغ المعدة ويقويها ويحبس البطن بالطبع دائما. وإن كان قد تهيأ فيه إطلاق البطن بالعرض. وذلك أنه إذا أخذ قبل الطعام، تمكن من فم المعدة الأسفل وشده وقواه، ومنع الاسهال منعا قويا. فإذا أخذ بعد الطعام بقي طافيا في أعلى المعدة وعصره كما يعصر الشئ بالمعصار، وأحدر ما في المعدة بسرعة وصار سببا لاسهال البطن، وبخاصة متى وافى جرم المعدة ضعيفا عن حبس الغذاء، وكان ما تقدم من الأغذية من الأشياء الملطفة مثل الحلبة المنبتة وسائر البقول المسلوقة المتخذة بالمري والزيت، لان هذه الأغذية إذا تقدمت وأخذ بعدها شئ قابض انحدرت بسرعة وأعانت على الاسهال.
ولجالينوس في هذا قصة أخبر بها عن رجل خطيب كان يزعم أنه إذا أخذ الأشياء القابضة مثل الكمثرى والتفاح والسفرجل، أسهلته إسهالا قويا. فقال جالينوس: إني لما سمعت هذا الرجل الشاعر يقول أنه إذا أكل الأشياء القابضة أسهلته، فكرت في ذلك وأخمدت الفحص الذي يقع بالتجربة، ودنوت بالحكمة إلى تجربة أخرى من هذا الرجل وسألته أن يصير غذاءه عندي يوما واحدا لأقف على الوقت الذي يأكل فيه الطعام القابض، ومقدار ما كان يأكل منه، وسألته أن يجري غذاءه على عادته في سالف أيامه ولا يغير من تدبيره شيئا. ففعل ذلك، ودخل الحمام بدءا ثم خرج وشرب ماء باردا فأقل منه. ثم أكل حلبة منبتة وفجلا وأشباه ذلك مما عاده الناس إذا أكلوه قبل طعامهم، لانت طبائعهم، ثم شرب بعد
Página 23
ذلك شرابا حلوا، ثم أكل ملوخية مسلوقة بمري وزيت وشئ من خمر، ثم تناول بعد ذلك دجاجا وفراخا ولحم خنزير، ثم شرب بعد ذلك شربة أو شربتين من شراب، ثم لبث قليلا وتناول تفاحا قابضا مخشنا وكمثرى كذلك. ثم تمشى قليلا، فاختلف اختلافا ذريعا، وأخذ يتعجب ويهزأ بالمتطببين.
فلما رأيت ذلك سألته أن يصير غذاءه عندي يوما (1) آخر، فأجابني إلى ذلك وهو مسرور. فلما كان الغد (2) دخل الحمام كعادته وخرج، فقدمت إليه تفاحا قابضا مخشنا وكمثرى كذلك، وسألته أن يتناول منهما ففعل ذلك، ثم أخذ سائر طعامه بعد ذلك أولا فأولا. فلما صنع ذلك لم يكن من فعل التفاح والكمثرى به، بأن لم يسهلاه فقط لكن عقلا بطنه حتى لم يتحرك أصلا، فتعجب من ذلك وسألني عن السبب فيه، فأعلمته أنه لما كان يأخذ الأغذية الخشنة القابضة بعد الأغذية التي تسهل وترخي المعدة، كان ذلك سبب إسهال بطنه، فلما أخذ الأشياء القابضة الخشنة قبل الأشياء التي تسهل وترخي المعدة لم يسهله شئ.
وذكر أيضا أنه خبره بخبر شاب من أصحابه كان شرب قبل ذلك بأيام سقمونيا (3) يسهله، فأقام خمس (4) ساعات من النهار لم يسهله، فجعل يشكو معدته وانتفاخ بطنه. وشق ذلك عليه واشتد به جدا، وأضر به إضرارا قويا، وأخذ يستغيث حتى أمرته يأكل تفاحا حامضا قابضا وكمثرى كذلك ورمانا. فساعة تناول ذلك جاءه إسهال كثير واستراح مما كان فيه. فأحضر الشاب حتى خبره بذلك، ثم قلت له كذلك يصيبك أنت أيضا إذا أكلت بعد طعامك غذاءا يقبض. والسبب في ذلك ضعف معدتك عن مسك الطعام، فإذا عصر أعلاها أدنى شئ حلب كل ما فيها. فقال عند ذلك: قد صدقت، إن معدتي على هذه الحال من الضعف، وإنما أكل الأغذية القابضة بعد طعامي هذا، إذ أهاجت معدتي للقئ، وكدت أن أقئ لأني إذا أكلت بعد طعامي أشياء ترخي مثل الخبازي والمري والزيت، أخذني القئ من ساعتي. فقلت له: قد أحسنت في القول، لان الأشياء التي ترخي تقلب ما في المعدة، والتي تقبض تقوي المعدة وتشدها. ولهذا صار كثيرا ما نأمر من قد اجتمع في معدته مرار أصفر كثير، أن يأكل أشياء حامضة مقبضة ليقطع ذلك الفضل ويحدره إلى أسفل.
وأما ما كان من الأغذية تفها لا طعم له مثل القرع وما شاكله، فان نفوذه في العروق يكون أسرع، إلا أنه في حبس البطن وإطلاقه متوسط بين ذلك، من قبل أن ليس فيه من الحرافة ولا الملوحة ولا غير ذلك من الطعوم المحدرة ما يكون بها مطلقا، ولا له من العفوصة أيضا ما يكون بها قابضا، ولذلك صار متى وافى قوة البطن مستعدة لتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، سال مع الغذاء فانماع (5) إلى جميع
Página 24
البدن للينه وسرعة انقياده. ومتى وافى البطن متهيئة لاحدار التفل من أسفل، أزلق التفل وأحدره بسرعة، وأعان على إطلاق البطن. وإن وافى قوة البطن مقصرة عن تنفيذ الغذاء، وعن إحدار التفل جميعا، طفا وعام واستحال إلى فساد، وولد نفخا وقراقر. وهذه خاصة التفه وفعله. ومتى كان طعمه بسيطا لم يشبه طعم التفاهة. ومن أجل ذلك صار القرع مضرا بأصحاب القولنج (1)، فإن تركب وصار مع ذلك لزجا مثل القطف والخبازي والملوخية، صارت له قوة مزلقة مرخية للمعدة. ولذلك صارت هذه الأغذية أسرع خروجا وانحدارا من غيرها مما ليس سبيله سبيلها لما فيها من فضل الرطوبة واللزوجة، ولا سيما متى مشى المتناول لها، بعد أخذه لها، مشيا رقيقا على أشياء تنخفض وتطأ من تحت قدميه، لان انحدارها وخروجها مع الحركة أسرع منه مع الاضطجاع والسكون، وجودة انهضامها مع الاضطجاع والسكون أكثر منه مع الحركة والمشي.
ومما هو داخل في هذا الجنس أيضا، الشراب الحلو والتوت والإجاص والمشمش والخوخ، إذا كانت حلوة، والبطيخ لما فيها من فضل الرطوبة واللزوجة. إلا أن البطيخ دونها كلها لخاصتين: خاصة تجمعه وإياها، وخاصة ينفرد بها دون غيره. فأما ما يجمعه وإياها فسرعة الانحدار والخروج. وأما التي يختص بها دون غيره فإدرار البول لما فيه من الجلاء اليسير لصدق عذوبته وسلامتها من الحرافة والمرارة. ولذلك صار منقيا للأوساخ من الجلد إذا اغتسل به. إلا أن جميع هذه الأغذية وما شاكلها مما لا طعم له بين ولا رائحة ظاهرة، أو مما له عذوبة ولزوجة متوسطة بين ما يحبس ويطلق على ما بينا في القرع آنفا من قبل أنها متى وافت قوة البطن مستعدة لتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، سالت وانماعت مع الغذاء إلى جميع البدن. ومتى وافت قوة البطن متهيئة لاحدار الثفل، زلقت مع الثفل، وأعانت على إطلاق البطن. ومتى وافت القوة مقصرة عن الفعلين جميعا، وضعفت عن تنفيذ الغذاء وإحدار الثفل، طفت وعامت واستحالت إلى العفونة وحبس السموم. وإنما ينبغي أن نستعمل هذه الأغذية في إطلاق البطن متى كان الفضل رقيقا والثفل لينا. وأما متى كان الفضل غليظا والثفل شديدا فالحموضة أولى بذلك منها. وليست الحموضة أيضا فقط، لكن الحرافة والملوحة والمرارة تستعمل في مثل ذلك.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن فعل الحموضة في تلطيف الفضول قريب من فعل الحرافة. والفرق بينهما أن الحرافة تلطف وتسخن المزاج إسخانا قويا، والحموضة تلطف وتبرد تبريدا بينا. ولذلك وجب أن تستعمل الأشياء الحريفة متى كان الفضل مائلا إلى البرودة والغلظ. وتستعمل الأشياء الحامضة متى كان الفضل مائلا إلى الحرارة والكثافة. فأما ما كان من الأغذية قد خالطت حلاوته شيئا من الحموضة وصيرته مرا، فإن فعله أيضا متوسط بين ما يطلق ويحبس، إلا أن أخص هذه الطعوم بالرياح والنفخ والمنع من جودة الهضم التفاهة لغلبة الرطوبة المائية عليها ومن بعدها العذوبة. وأما المرارة فتبعد عن ذلك لقلة رطوبتها وتوسطها الرطوبة واليبوسة.
Página 25
وأما ما كان من الأغذية مركبا من قوتين متضادتين حتى تكون قوة جرمه مخالفة لقوة مائيته ورطوبته، مثل أن تكون قوة جرمه أرضية فائضة، وقوة جوهره ورطوبته حديدة ملطفة كالعدس والكرنب من النبات، والطيهوج والقنابز من الطير، لان قوة جرم كل واحد منها فائضة بطيئة الانهضام، وقوة مائيته حديدة ملطفة سريعة الانهضام، ولذلك صار متى تناول الانسان جرم أحدها مع مرقته ورطوبته، طلبت الرطوبة الانحدار والخروج لحدتها، ومنعتها قوة الجرم عن ذلك لشدة قبضها، وحدث بينهما مجاذبة ومحاربة ومصارعة حتى تتولد عن ذلك أمغاص ورياح نافخة، لغليان الرطوبة المحتقنة، فلا يزال ذلك دائما حتى يتفق لاحد الضدين الخروج فتبطل عاديته وأذيته. فإن اتفق أن تكون قوة البطن مستعدة للانحدار، قوي فعل الرطوبة على فعل الجرم وانحدرت بسرعة بمعونة قوة البطن لها، لأنه متى صار شيئان شيئا واحدا وكانت الأسباب متكافئة، فالغلبة للشيئين دون الواحد ضرورة، وكذلك إن اتفق أن تكون قوة البطن متهيئة لحبس الطبيعة، قوي فعل الجرم على فعل الرطوبة، وعاقها عن الانحدار، ودامت الأمغاص والرياح حتى يتهيأ انحدار أحد الضدين. فلهذه الجهة، صار العدس هابطا حابسا للبطن في قوم، ومطلقا لها في غيرهم لأنه متى تناوله من كانت طبيعته قريبة القوة من الانحدار، قوي فعل الرطوبة، وأعان على إطلاق البطن. ومتى تناوله من كانت طبيعته بعيدة القوة من الانحدار، قوي فعل الجرم وأعان على حبس البطن، وولد رياحا ونفخا وقراقر مؤذية من غليان الرطوبة المحتقنة.
ومن قبل ذلك، وجب على من أراد استعمال شئ من هذه الأغذية أن يبتدئ بسلقه ويرمي بمائه الذي سلقه به لتزول عنه حدة رطوبته ويلطف جرمه، ويظهر له تدبير محمود في حبس البطن. ومن أحب أن يكون فعله في ذلك أقوى وتدبيره أحمد، فيسلقه مرتين أو ثلاثا ويرمي بالمياه التي يسلقه بها، ثم يستعمله كيف أحب. فقد بان السبب الذي له صار العدس والكرنب يطلقان البطن في بعض الناس، ويحبسانها في غيرهم.
وأما السبب الذي له صار العسل محمودا عند قوم يذكرون أنه ملين للبطن حافظ للصحة، ومذموما (1) عند قوم يزعمون أنه حابس للبطن مهيج للأمراض. فإن ذلك يكون من قبل ملاءمته لمزاج بدن المستعمل له، أو مخالفته له لان من شأن كل غذاء أن يزيد فيما شاكل مزاجه، ويقوي فعله، وينقص مما خالف مزاجه، ويضعف فعله. والعسل في طبيعته حار يابس فهو إذا زائد في الحرارة واليبوسة ومقو لفعلهما، وناقص من الرطوبة والبرودة ومزيل لفعلهما. والمرة الصفراء فهي حارة يابسة، فالعسل إذا زائد فيها ومقو لفعلها. ولذلك، صار متى تناول العسل من كان ممرورا قد غلب على مزاجه الحرارة واليبوسة، زاد في حرارته وصار هيولي للمرة الصفراء حتى يصير هو وهي شيئا واحدا ويصير سببا قويا لتجفيف الثفل وحبس البطن، إلا أن يوافي في المعاء بعض الانجراد (2) فيلذعها بحدته ويسحجها (3) ويصير شيئا عرضيا للاسهال الكائن من قروح الأمعاء.
Página 26
ومتى تناوله من كان بلغمانيا قد غلب على مزاجه البرودة والرطوبة، أسخن مزاجه وخفف رطوبته الفضلية ورد مزاجه إلى التوسط والاعتدال، وصار سببا قويا لجلب الصحة واستدامتها، وبخاصة إذا وافى في المعدة رطوبات فضلية، لأنه يجلوها ويغسل المعدة والمعاء ويهيجها لدفع ما فيها من أثفال الأغذية، ويعين القوة على إطلاق البطن.
ولجالينوس في هذا فصل يذكر فيه أنه أتاه رجل يشكو فم معدته، فعلم مما وصف له أنه قد اجتمع في معدته بلغم. فأمره أن يسلق كراثا وسلقا ويأكلهما بخردل. فلما فعل ذلك، قطع ذلك الطعام ذلك البلغم بحدته وأحدر منه ثفلا كثيرا، وسكن عن الرجل جميع ما كان يعرض له في فم معدته. ثم اتفق بعد ذلك أن الرجل أتخم من طعام حريف، وأحس في معدته بلذع، فأكل السلق مع الخردل يرجو الانتفاع بهما، فزاد فيما كان عرض له من الحرافة واللذع، فدل بذلك على أن الأشياء تزيد فيما شاكلها وتقويه، وتنقص ما ضادها وتضعفه. والله أعلم بحقائق الأمور.
Página 27
الباب الثالث في اختيار الأغذية بالقياس قال إسحاق بن سليمان: وإذ قد أتينا على الشروط التي نتوصل بها إلى معرفة قوى الأغذية بالتجربة، فقد بقي أن نخبر بالوجه الذي يختبر به بالقياس، إذ ليس بالتجربة وحدها يجب أن نلتمس الوصول إلى ما قصدنا إليه، فأقول: إن الأغذية تختبر بالقياس من ثلاثة وجوه: أحدها: من طعومها ومذاقاتها، والثاني: من روائحها، والثالث: من تركيبها وجوهريتها أعني بتركيبها مكانها في السخافة والكثافة، والخفة والرزانة. وأعني بجوهريتها مكان الكيموس (1) المتولد عنها من اللزوجة والرقة والغلظ واللطافة وسرعة الانهضام وبطئه.
Página 28
الوجه الأول من الباب الثالث في معرفة الأغذية من طعومها ومذاقاتها فأما طعوم الأغذية فإنها تنقسم قسمة أولية على ضربين: لان منها ما يفعل في حاسة الذوق ويؤثر فيها، ومنها ما لا يفعل بالحاسة شيئا ولا يؤثر فيها. وما لا يفعل فهو الملقب بالتفه. وهو على ضربين:
إما جسما مركبا مثل بياض البيض وما شاكله، وإما جسما بسيطا مثل الماء وسائر العناصر. فإن كان جسما مركبا كان دليلا على تكافؤ القوتين الفاعلتين فيه. أعني بالقوتين الفاعلتين: الحرارة والبرودة.
ولذلك صار توسط الحرارة والبرودة توسطا بينا، أو أميل إلى البرودة قليلا. وأما الكيفيتان المنفعلتان (1)، أعني الرطوبة واليبوسة فتختلفان فيه على حسب غلظ رطوبته الجوهرية ولطافتها وتوسطها الغلظ واللطافة من قبل أن جوهر الرطوبة متى كان أرضيا غليظا، كان الشئ في طبيعته يابسا مجففا، ونسب إلى البرودة واليبوسة مثل التوتياء والشادنة والاسفيداج (2) وما شاكل ذلك. ومتى كان جوهر الرطوبة لطيفا هوائيا، صار الشئ دهنا دسما ونسب إلى التوسط بين الكيفيات الأربع مثل الزيت العذب المعروف بالانفاق .
ومتى كان جوهر الرطوبة متوسطا بين اللطافة والغلظ، صار الشئ متوسطا بين ما يشد ويرخي، ونسب إلى البرودة والرطوبة، مثل بياض البيض والجبن الطري.
وقد يختلف هذا الصنف فيما وصفناه به على حسب انحراف الرطوبة وميلها إلى إحدى الحاشيتين دون الأخرى، لأنها متى كانت مائلة إلى الحاشية الأولى قريبة من الغلظ، صار الشئ لزجا مغريا مثل الكمثرى والنشاستج. ومتى كانت مائلة إلى الحاشية الأخرى قريبة من اللطافة، صار الشئ ملينا مثل الشمع المذاب والسمين من اللحم.
فأما إن كان ما لا يفعل في حاسة الذوق جسما بسيطا، لم يكن له أن يؤثر في حاسة الذوق شيئا، لأنه بسيط والحاسة مركبة. والبسيط لا يفعل في المركب فعل المركب في المركب، من قبل أن كل فاعل طبيعي ليس له أن يفعل إلا فيما كان مثله بالقوة ليخرجه إلى الفعل. ولا ينفعل أيضا إلا بما
Página 29