الشارع يموج بالزحام والأنوار، وبأصوات متباينة يختلط فيها الزعيق والغناء والهتاف، وعزف الموسيقى، وتسمع من خلال الأصوات المدوية أبواق السيارات ورنين أجراس بسكليت أو عربة «حنطور» خاصة، وفرقعة السياط في أيدي سائقي عربات الحنطور العامة، أحيانا يلهبون بها ظهور الجياد، وأحيانا يلهبون بها ظهور الصبية المتعلقين بمؤخرة عرباتهم، وأحيانا أخرى يلهبون الهواء بسياطهم ليشقوا لهم طريقا للمرور!
إن الجماهير في هذا الشارع لا تمشي، ولكنها تدور وتتجمع، كل من في الشارع يترنح؛ الناس ، المقاهي ، الفنادق، دور السينما، الأضواء الملونة التي تغدقها المسارح والكباريهات على واجهاتها بكرم وحماقة.
إن الكلمات والقهقهات هي الأخرى تترنح، الذين يزعقون تخرج الكلمات من أفواههم مبتورة كالسيرة المعوجة أو السلوك السيئ، والذين يقهقهون تعلو قهقهاتهم وتهبط وتتقطع وتتمايل كسكران شرب زجاجة كاملة من خمر رديء! والشارع يبدو كما لو كان متدثرا في غطاء فضاؤه تغطيه البالونات، يمسك بخيوطها الصبيان والباعة الجائلون، وجدرانه تغطيها إعلانات الملاهي وصور المطربات والراقصات والمطربين. النساء والفتيات والشبان والكهول غطوا الرصيف والطريق. أزياء الرجال متعددة الأشكال؛ عمائم وطرابيش وقبعات وقفاطين وبذلات ومعاطف وجلابيب عادية، وجلابيب من الصوف أو الحرير تولى حياكتها أشهر الخياطين. النساء يرتدين الفستان أو الحبرة أو المعطف أو الملاءة اللف، أكثرهن سافرات الوجوه والأقلية منهن احتفظن باليشمك التركي، أو البرقع البلدي!
لا يوجد مقعد خال في مسرح أو في مقهى أو دار سينما أو كباريه، وعلى أبواب المقاهي يعرض الحواة ألعابهم العجيبة، يحشون صدورهم بالثعابين، ويأكلون النار، ويبلعون المسامير، وإلى جانبهم فرقة بمصاحبة البيانولا، بين أعضاء الفرقة من تخصص في المشي على يديه، ومن تخصص في حمل بقية أعضاء الفرقة فوق قدميه! وعند أبواب الكباريهات وقفت أكثر من غانية تعرض مفاتنها الرخيصة؛ وجه ملطخ بالأحمر والأبيض تحملق منه عين خائنة، وابتسامة وقحة، وذراعان تعرتا حتى الإبطين، وساقان عاريتان، وفستان قصير ضيق النطاق على الردفين، فتمرد الردفان على الفستان! ومن ناحية تنطلق أغان وألحان ينشدها المطربون والمطربات في المسرح، وترددها معهم الجماهير في الشارع الكبير.
هكذا كان شارع عماد الدين مساء يوم 31 ديسمبر من عام 1922، وكان صاحب هذه الألحان والأغاني يمشي في الشارع، ويستمع إلى الناس وهم يبدون إعجابهم به، فيأخذه الزهو، وتتملكه نشوة النجاح؛ لقد سبق زمنه في الكشف عن حقيقة الأغنية، ووظيفتها، ومفهومها، وسبق زمنه أيضا في الكشف عن مكانته وموهبته وعبقريته.
لقد أصبح صوت مصر، صوت عاطفتها ومرحها وألمها ونضالها، إنه صاحب كل هذه الألحان التي تعبر عن الحب، والحزن، والأمل، والتمرد على الظلم والاستغلال والاحتلال.
إنه الرجل الذي انفعل بآلام الشيالين والسقايين، وغنى في وقت واحد: «ضيعت مستقبل حياتي»، و«شفتي بتاكلني أنا في عرضك»، و«فلفل فلفل اهري يا مهري»، و«زوروني كل سنة مرة»، و«بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، و«قوم يا مصري مصر أمك بتناديك»، و«اللي الأوطان بتجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم» ...
إنه سيد درويش، وكان في هذا العام قد بلغ من عمره الثلاثين، وبلغ في فنه قمة المجد والشهرة، إنه ابن كل شارع في مصر، واحد من غمار الناس، عاش مشاعرهم وتجاوب معهم، فجعل من فنه رئة يتنفسون بها.
وهو في هذا الشارع «شارع عماد الدين» سيده الأوحد؛ فهذا شارع المسارح والملاهي، وكل ملهى وكل مسرح يجري وراء سيد درويش؛ ليستأثر بإنتاجه الفني في الأغنية والأوبريت، وهو يرفض العروض ويقبلها، دون أن يعرف أحد لماذا يرفض ولماذا يقبل؟ اتفق مع علي الكسار، ونجيب الريحاني، ومنيرة المهدية، لم ينشب خلاف بينه وبين الكسار، ومع ذلك آثر عليه منيرة المهدية برغم اختلافه معها قبل اتفاقهما وبعد اتفاقهما. ولقد آثر نجيب الريحاني على الجميع، مع أن حدة الخلاف بينه وبين الريحاني لم تهدأ منذ أن عرفه إلى أن ترك الحياة؛ فهو يحب الريحاني ويؤمن بأنه فنان عبقري، ومن أجل ذلك غفر له ما لم يغفره لعلي الكسار أو لمنيرة المهدية، غفر له أن ينتقد بعض ألحانه! وكان سيد درويش يتهاون في أي شيء، إلا في المساس بلحن انتهى من صياغته.
كان يغار على تراثه الفني أكثر من غيرته على حياته؛ إنه يسمح لك أن تسرق ماله، ولكنه يقتلك إذا حاولت أن تسرق ألحانه!
Unknown page