صاحب هذا الكتاب الدكتور كونراد لورنز مرجع موثوق به في لغة الطير والسباع وسائر الأحياء.
واسم كتابه خاتم سليمان؛ لأن سليمان الحكيم كان يعرف لغة الطير بفضل هذا الخاتم المعجز، وصاحبنا يحب أن يزعم أنه قد عثر بنسخة من الخاتم القديم مفرغة في قالب حديث، يفهم أحياء هذا الزمن كما كان سليمان يفهم أحياء زمانه، ولا فرق في النهاية بين الفريقين.
وليس في المختصين بدراسة الحيوان من ينكر على الرجل دعواه، فإنه يستطيع أن يناغي كل طائر بلهجته وخصائص نطقه، فيجيبه الطائر ويصدع بأمره، ويتفق أحيانا أن يفاجئه بعضهم وهو يخاطب الإوز سهوا بلغة البط أو البجع أو طيور الماء، فيسرع معتذرا كأنه يخاطب إنسانا بلسان غير لسانه: عفوا عفوا، إنما أردت أن أقول كواك كواك!
هذا السليمان الحديث يروي لنا تجاربه مع الأحياء الضارية المخيفة والأحياء الوادعة الأليفة، ثم يخرج منها بنتائج محققة لا موضع فيها للفلسفة ولا للمجاز والكناية، وإنما هي صور حرفية لما رآه وأعاد رؤيته سنوات بعد سنوات.
من تجاربه أن الحمامة لا ترجع عن خصمها إذا حبست معه في قفص واحد حتى تجهز عليه، وأن السباع عامة تجري على سنة غير هذه السنة في صراعها مع أبناء نوعها؛ فلا يعتدي الذئب على الذئب الذي يقاتله إذا استسلم له هذا وطأطأ أمامه بعنقه ليكشف له مقتله، وهو قادر على قتله بعضة واحدة لو شاء.
ولكنه لا يشاء، ولم يحدث قط شذوذ عن هذه السنة في كل ما شاهده صاحب الكتاب أو سمع به من زملائه في هذه التجارب العلمية.
ولا يجزم الرجل بتعليل لهذه العادة العجيبة، ولكنه يقول على سبيل الترجيح إن سلاح الذئب مركب في جسمه، وإن كل تركيبة في جسم الحيوان فإنما يراد بها حفظ النوع، وتنتهي مهمتها إذا فرغ الحيوان من الدفاع عن نفسه. ولو أن الوحش قتل كل وحش من نوعه يستسلم له في صراعه، لانقرض النوع بعد بضعة أجيال وانعكست الآية من تزويده بذلك السلاح.
وهنا يسمح العالم لنفسه بقليل من الفلسفة، فينتقل من عادة الحيوان إلى عادة الإنسان في الحروب بين القبائل والأمم، ويبدو له أن المصيبة مع هذا الإنسان أن سلاحه غير مركب في بنيته، وأنه يصنعه بيديه ليقتل به عدوه، فلا يقتنع بالدفاع ولا يمنعه مانع أن يشتط غاية الشطط في استخدام السلاح.
وسألته صحيفة نمسوية أن يكتب لها فصلا عن «التسليح بين الإنسان والحيوان»، فكتبه وختمه بهذه السطور!
سيأتي اليوم الذي تقف فيه الأمم فريقين متناجزين، ويواجه كل فريق منهما فرصة سانحة للقضاء على عدوه، وسيأتي اليوم الذي ينقسم فيه نوع الإنسان بين معسكرين متناحرين، فهل تراه يسلك يومئذ مسلك الحمائم أو مسلك الذئاب؟!
Unknown page