كلمة في العنوان
الأدباء بين جيل وجيل1
من أسرار التاريخ والأدب1
كانت1
الناخب المصري وفلسفة أرسطو1
أحد أقارب تشرشل كان يحمل البيكوية1
سحر الشرق1
وجودية أو عدمية1
كوابيس الكبراء1
قبلة الجزائر بين مكة وباريس1
الممثل كين في الفلسفة الوجودية1
تاريخ المستقبل
من الشمال إلى اليمين1
ألوان التأليف في الغرب1
قصور الفلسفة1
الإمامة عند الإسماعيليين1
شرق وغرب1
ماذا تعرف عن الوجودية والفوضوية؟1
فلسفة الحكيم1
شخصيات أمام محكمة التاريخ1
المجتمع ووسائل الإنتاج
مذاهب التطور
التقديس والتشويه في التاريخ
من عالمنا إلى العالم الآخر1
أكاذيب السياسة1
دهشة أخرى1
المنظمة الشيطانية1
الشرق قبل 50 سنة وبعد 50 سنة1
البحث عن سر الحياة1
محاكمة الخديو عباس1
من تاريخ عباس وكتشنر1
أسباب تاريخية؟ أو استعمارية؟1
المحسوبية في بلاد الإنجليز1
بين الإحراق والتحنيط1
كارل ماركس يفتري على أستاذه1
قد يجهل المعاصرون أقرب التواريخ1
سعد زغلول وقناة السويس1
يقظة أفريقيا1
عصا توت عنخ آمون1
الأقمار الصناعية كلام قديم1
حضارة الجنس الأسود1
سخافة الألقاب1
إنجيل برنابا1
المساواة في الدين وفي الفلسفة المادية1
الكراسة الرمادية1
المذاهب الهدامة تهدم نفسها1
لعبة التحطيب1
بلدة إبريم1
الألعاب الموروثة
اكتشاف أمريكا1
عالم من الإسكندرية1
سقراط واحد أو اثنان1
الرسول والنبي!1
شهر الثورات1
الجريدة والصحيفة1
خلق الأطفال1
مكتبة الإسكندرية1
جهل المستشرقين!1
صهيونيتان1
تعليم الفلسفة أو الاقتصاد؟1
العالم منذ ثلاثين ألف سنة1
شهوة الجدل؟1
أين قبر الإسكندر؟1
التاريخ بقلم غانية1
قبر الإسكندر مرة أخرى1
تاريخ الموسيقى العربية1
هل كان قدماء المصريين عربا؟1
نبوءات كارل ماركس1
الكشف الصوفي1
الشكوكية والوجودية1
الذاتية والحرية1
الرأي والنظر في حق الحكمة الإلهية1
خلق الإنسان1
شم النسيم
الخلط بين الوجودية والإباحية1
المؤرخ «توينبي» يصحح نفسه1
اكتشاف العرب لأمريكا قبل كولمبس1
دراسات غريبة في عداد الخرافات1
الأقطاب الثلاثة في فهم النفس البشرية1
ظرفاء النكتة وتأويل الأسماء1
هل نفرتيتي أرمنية؟1
اليوجا1
الأسرار الخفية عند العلماء1
حديث الحميراء1
تقدير الأعمار1
بطلان علوم التنجيم1
الزهاوي ومذهب دارون1
يحمل منارة الجهل فوق رأسه1
المعرفة التامة مستحيلة1
الشخصية النرجسية1
إنصاف1
تغيير البديهيات1
الدين في القرن العشرين1
الأيديولوجية1
تاريخ الأنباط1
أبطال القصة العربية بين التاريخ والخيال1
اضمحلال الغرب1
تقويم الشخصيات التاريخية1
صاحب فكرة «إسرائيل»1
فلسفات كتابنا1
السوبرمان1
نشيد أخناتون1
التجارب الاجتماعية1
المنفلوطي والاشتراكية1
دارون وحاسة الجمال1
اقتباس أو توارد خواطر؟1
الأنسب والأصلح1
مثل من التحقيق والخبرة للدراسة العلمية1
مثل في التواضع والخبرة بالدراسة1
فن جديد من فنون الدعوة1
الإيمان بين التفكير والفلسفة1
البحث العلمي في تاريخ الأدب1
عود إلى الثقافتين1
بين البحث والتخمين1
الصلاة والعلم1
الصيام في القرن العشرين1
الكتب الدينية في الحضارة الحديثة1
دعوى في الميزان1
عبث لا يسكت عليه1
نطق دهرا وسكت قهرا1
المتهافت بأنفاسه1
مؤرخ الغد شقي1
كلمة في العنوان
الأدباء بين جيل وجيل1
من أسرار التاريخ والأدب1
كانت1
الناخب المصري وفلسفة أرسطو1
أحد أقارب تشرشل كان يحمل البيكوية1
سحر الشرق1
وجودية أو عدمية1
كوابيس الكبراء1
قبلة الجزائر بين مكة وباريس1
الممثل كين في الفلسفة الوجودية1
تاريخ المستقبل
من الشمال إلى اليمين1
ألوان التأليف في الغرب1
قصور الفلسفة1
الإمامة عند الإسماعيليين1
شرق وغرب1
ماذا تعرف عن الوجودية والفوضوية؟1
فلسفة الحكيم1
شخصيات أمام محكمة التاريخ1
المجتمع ووسائل الإنتاج
مذاهب التطور
التقديس والتشويه في التاريخ
من عالمنا إلى العالم الآخر1
أكاذيب السياسة1
دهشة أخرى1
المنظمة الشيطانية1
الشرق قبل 50 سنة وبعد 50 سنة1
البحث عن سر الحياة1
محاكمة الخديو عباس1
من تاريخ عباس وكتشنر1
أسباب تاريخية؟ أو استعمارية؟1
المحسوبية في بلاد الإنجليز1
بين الإحراق والتحنيط1
كارل ماركس يفتري على أستاذه1
قد يجهل المعاصرون أقرب التواريخ1
سعد زغلول وقناة السويس1
يقظة أفريقيا1
عصا توت عنخ آمون1
الأقمار الصناعية كلام قديم1
حضارة الجنس الأسود1
سخافة الألقاب1
إنجيل برنابا1
المساواة في الدين وفي الفلسفة المادية1
الكراسة الرمادية1
المذاهب الهدامة تهدم نفسها1
لعبة التحطيب1
بلدة إبريم1
الألعاب الموروثة
اكتشاف أمريكا1
عالم من الإسكندرية1
سقراط واحد أو اثنان1
الرسول والنبي!1
شهر الثورات1
الجريدة والصحيفة1
خلق الأطفال1
مكتبة الإسكندرية1
جهل المستشرقين!1
صهيونيتان1
تعليم الفلسفة أو الاقتصاد؟1
العالم منذ ثلاثين ألف سنة1
شهوة الجدل؟1
أين قبر الإسكندر؟1
التاريخ بقلم غانية1
قبر الإسكندر مرة أخرى1
تاريخ الموسيقى العربية1
هل كان قدماء المصريين عربا؟1
نبوءات كارل ماركس1
الكشف الصوفي1
الشكوكية والوجودية1
الذاتية والحرية1
الرأي والنظر في حق الحكمة الإلهية1
خلق الإنسان1
شم النسيم
الخلط بين الوجودية والإباحية1
المؤرخ «توينبي» يصحح نفسه1
اكتشاف العرب لأمريكا قبل كولمبس1
دراسات غريبة في عداد الخرافات1
الأقطاب الثلاثة في فهم النفس البشرية1
ظرفاء النكتة وتأويل الأسماء1
هل نفرتيتي أرمنية؟1
اليوجا1
الأسرار الخفية عند العلماء1
حديث الحميراء1
تقدير الأعمار1
بطلان علوم التنجيم1
الزهاوي ومذهب دارون1
يحمل منارة الجهل فوق رأسه1
المعرفة التامة مستحيلة1
الشخصية النرجسية1
إنصاف1
تغيير البديهيات1
الدين في القرن العشرين1
الأيديولوجية1
تاريخ الأنباط1
أبطال القصة العربية بين التاريخ والخيال1
اضمحلال الغرب1
تقويم الشخصيات التاريخية1
صاحب فكرة «إسرائيل»1
فلسفات كتابنا1
السوبرمان1
نشيد أخناتون1
التجارب الاجتماعية1
المنفلوطي والاشتراكية1
دارون وحاسة الجمال1
اقتباس أو توارد خواطر؟1
الأنسب والأصلح1
مثل من التحقيق والخبرة للدراسة العلمية1
مثل في التواضع والخبرة بالدراسة1
فن جديد من فنون الدعوة1
الإيمان بين التفكير والفلسفة1
البحث العلمي في تاريخ الأدب1
عود إلى الثقافتين1
بين البحث والتخمين1
الصلاة والعلم1
الصيام في القرن العشرين1
الكتب الدينية في الحضارة الحديثة1
دعوى في الميزان1
عبث لا يسكت عليه1
نطق دهرا وسكت قهرا1
المتهافت بأنفاسه1
مؤرخ الغد شقي1
يوميات
يوميات
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة في العنوان
تضم هذه المجموعة محصول أكثر من عشر سنوات من التعليقات التي نشرت تحت عنوان اليوميات بصحيفة «الأخبار» اليومية، ومعها تعليقات فصول أخرى نشرت في هذه الصحيفة، وفي غيرها من الصحف أو المجلات بمختلف العناوين.
وتتسم الكتابات التي احتوتها هذه المجموعة بالسمات التي يدل عليها عنوانها: اليوميات والصحفيات؛ وهي امتداد المجال، وتجدد المناسبات، وسهولة التناول، وسرعة المساجلة في حينها بين النقد والرد، أو بين السؤال والجواب.
ولا يفهم من عنوان اليوميات أنها بنت يومها أو بنت ساعتها، إنما يفهم منه أن مناسباتها العارضة قد تكون بنت يومها - بل بنت ساعتها ولحظتها - ولكنها مجرد مناسبات عارضة للكلام في موضوع غير عارض، أو غير موقوت بزمن من الأزمان في معظم الأحيان.
وقد تيسر تقسيم بعضها حسب موضوعاته الشاملة، ولكنها في جملتها تتأبى على التقسيم والتوزيع؛ لأن الاستطراد الذي لا مناص منه في الموضوعات المتنقلة كثيرا ما يجمع في اليومية الواحدة كلاما يصلح لإلحاقه بباب العقائد والمذاهب كما يصلح لإلحاقه بباب التراجم والشخصيات، مع التطرق من هنا وهناك إلى مسائل الاجتماع والأخلاق أو مسائل الآداب والفنون، وقد يغني عن حصرها في الأبواب المحدودة أن تتبع في ختام الكتاب بفهرس للأعلام والمباحث يدل على مواضعها من الصفحات، ولا حاجة معه إلى مراعاة التسلسل في ترتيب الأيام.
على أن المجموعة كلها قد تلحق بباب واحد من أبواب التأليف القديم والحديث، بل هو الأصل في كلمة التأليف، التي تعني جمع الشوارد ونقلها من الوحشة المتباعدة إلى الألفة المتقاربة، ثم انتقل هذا الباب في العصر الحديث بعنوان واسع، يسلك فيه أشتات الرسائل والمذكرات واليوميات الخاصة أو اليوميات العامة، ومنها هذه اليوميات التي كتبت من قبل، وجمعت اليوم، بإذن واقتراح من أصدقائنا القراء.
عباس محمود العقاد
الأدباء بين جيل وجيل1
من جيل إلى جيل
كم يبقى من حقائق التاريخ من جيل إلى جيل؟
بل كم يبقى من حقائقه في الجيل الواحد، بين المعلوم والمجهول، وبين المألوف والمستغرب، وبين حسن النية والنية التي تسوء وتسيء ثم تصر على السوء والإساءة؟
قصارانا بعد كل مقال وكل سكوت أن نقول: ويل من التاريخ ما أظلمه! أو نقول: ويل للتاريخ ما أثقل الظلم عليه!
جاءتني بعد مقال الأسبوع الماضي رسائل مختلفة سيطلع القارئ عليها وعلى تعقيباتها، ثم يرى فيها مصداقا جديدا لاعتقاد المعتقدين أن تمحيص التاريخ في أصغر المسائل من أصعب الصعاب، ودع عنك مسائله الكبار.
الأدباء والسياسة السرية
إحدى تلك الرسائل رسالة ذات شعبتين من طالب جامعي، يستغرب في أولاهما ما ذكرناه عن علاقة أدباء الجيل الماضي بالسياسة السرية، وعن مبلغ شأنها في تقدير أعمال الجيل كله، ويسألنا: لم لم يكتب عنها شيء حتى الآن ما دامت بتلك الأهمية؟ ولم لا نكتب نحن ما نعلمه عنها؟
والذي يستغربه الطالب الجامعي كان هو المألوف والشائع بين الأدباء النابهين في ذلك الجيل، فلم يكن فيه أديب واحد لا يتصل بقصر عابدين أو قصر الدوبارة في القاهرة، أو بقصر يلدز والمابين في الآستانة، ولم يشذ عن هذه القاعدة من طبقته وجيله غير حافظ إبراهيم؛ لأنه لم يكن من ذوي الجلد على الأسرار والمناورات.
على أن حافظا نفسه قد أدخلته تلك المناورات في حبائلها على غير مشيئة منه، فسعى بعضهم في تزويده بقلب شاعر الخلافة من قبل السلطان عبد الحميد الثاني، وقامت القيامة هنا حتى احتال من يعنيهم الأمر على حرمانه من اللقب المنتظر، ودسوا عليه من يغريه بهجاء السيد «أبي الهدى الصيادي» نديم عبد الحميد، فانقطع الرجاء في تلقيبه بذلك اللقب الفخم الذي يتضاءل عنده لقب شاعر الأمير.
ولا يستصغرن الطالب الجامعي خطر تلك المناورات التي طالما اشترك فيها أصحاب الأقلام من الأدباء والصحفيين، فالحق أن تاريخ الجيل كله يتوقف على الإلمام بها، ولسنا نعرف شهرة واحدة لا يتغير تقدير الناس لها إذا انكشف الستار عن تلك الأسرار، ومنها شهرة أناس يحسبون في الطليعة بين أبطال الوطنية، وتهبط بهم علاقاتهم تلك إلى ما دون أقدارهم المزعومة بكثير.
أما أن المؤرخين المعاصرين لم يكتبوا شيئا عنها مع أهميتها، فسببه واضح: وهو أنها أسرار يعنى أصحاب الدولة القائمة يومئذ بكتمانها.
وأما إننا نحن نكتب عنها، فذلك ما ننويه ولا نحجم عنه كلما عرضت لنا مناسبة من مناسباته.
والشعبة الثانية من سؤال الطالب الجامعي عن معنى قول السيد البكري للخديو عباس الثاني: إنني وزير مثلك؟
ونحن نحيل الطالب على تاريخ تلك الفترة، ويكفي في هذا السياق أن نذكر له أن خديو مصر كان معدودا من وزراء السلطان العثماني في الآستانة، وأنهم كانوا إلى عهد الخديو عباس يقعون في مشكلة من مشكلات المراسم كلما اتفق وجوده في الآستانة يوما من أيام الأعياد، فيحار رئيس الديوان المابيني في وضعه قبل الصدر الأعظم رئيس الوزراء أو بعده في مراتب التشريفات.
ونحن فيها
نعم ونحن فيها، والضمير عائد على كل مسألة تتعلق بتصحيح التاريخ في الأدب أو السياسة، وفي الحاضر أو الماضي، وهي هنا تتعلق بنسبة بيتين من الزجل إلى قائل غير متفق عليه، رويت في الأسبوع الماضي نادرة لحفني ناصف مع حمد الباسل، حين زارهم على غير موعد فحضرهم في وليمة، وقال حمد بيتين من الزجل، فرد عليه حفني مشيرا إلى طربوشه المغربي وهو يقول: «معلوم أدباتي!»
يقول الأديب مصطفى الصباحي تعليقا على هذه النادرة في خطاب أرسله إلي: ... إن حمد الباسل باشا حين وجه إلى حفني بك هذا الكلام، إنما كان متمثلا به ولم يكن هو منشئه ...
قال: «ولهذا قصة طويلة، خلاصتها أن محمود باشا شكري كان رئيسا لمحكمة طنطا، وأولم وليمة لقضاة محكمته دعا إليها حفني بك - وكان يومئذ قاضيا لمحكمة طهطا، وكان اجتماع المدعوين في منظرة مجاورة للباب الكبير بمنزل الباشا، فلما صعدوا إلى غرفة الطعام دخل أحد اللصوص يسرق عصيهم ومظلاتهم وعباءاتهم، ولما عرفوا أمر السرقة أبلغوا البوليس، وصادف أن كان البوليس قد ضبط السارق يعرض ما سرق للبيع، ومنه عصا عليها اسم حفني بك، فردت المسروقات إلى أصحابها.» «ثم عرف هذه القصة محمد باشا صدقي، وكان يشغل وظيفة مأمور تفاليس، وكان صديقا لحفني بك وبينهما مساجلات زجلية غاية في الظرف والطرافة، ويوقع أزجاله هكذا: «محمد صدقي زجال جلالة حفني ناصف خان.» وقد بعث إلى حفني بك لهذه المناسبة زجلا طويلا لا أذكره كله، جاء فيه هذان البيتان اللذان تمثل بهما حمد باشا وأشار فيه إلى اجتماع قضاة محاكم طنطا وطهطا والسنطة فقال:
جمع محاكم حرف الطاء
طنطا وطهطا والسنطة
ورد عليه حفني بك بزجل بارع تجلت فيه الفكاهة على مذهبه الظريف بقوله:
مني لسيد الزجاله
ألفين سلام فوقهم بوسه
مالوش نظير في الرجاله
يخلق من «الهاب يك» دوسه
إلى أن قال:
كانون سعادتكم زرع
والتلج فوقه للسره
مفيش نفر واحد يطلع
يقول أكل عندك مره
إلى آخر ما قالا، وإني لأرجو أن أعثر على هاتين الطرفتين فأتشرف بموافاتك بهما.»
هذا هو فحوى رسالة الأستاذ الصباحي، وإني - مع شكري على تعليقه - أرجح أن هناك مناسبتين مختلفتين، وأن البيتين كما رواهما حمد الباسل - رحمه الله - أقرب إلى موضع الاستشهاد؛ لأن هذه الرواية تفسر لنا وصول حفني على غير موعد، كما تفسر لنا تعريضه بالأدباتي في رده على حمد.
وأقل ما في المناسبة كلها، أنها مثال للاختلاف على الروايات والأسانيد الأدبية في مدى جيل أو جيلين.
سحاب من عباب
أما صاحب الخطاب الذي وقعه بإمضاء «م. سلامة»، فجوابي الموجز على سؤاله الأول أنني لا أحفظ الكثير من نوادر حفني؛ لأنني كنت أتلقى أخباره على السماع، ومما سمعته غير ما ذكرته في مقال الأسبوع الماضي يبدو لنا تنوع المناسبات وتعدد مصادرها.
فقد سمعت من أديب قنائي إحدى هذه النوادر الكثيرة، وكان حفني قد انتقل إليها قاضيا كما جاء في قصيدته المشهورة:
قالوا نقلت إلى قنا
يا مرحبا بقنا وإسنا
حدثني الأديب القنائي قال: إن القاضي الشاعر كان مقبلا على ديوان المحكمة يوما، فاعترضه صاحب قضية من الفلاحين الذين يتربصون على أبواب المحاكم بكل قادم في زي الأفندية، ويحسبونه قادرا على التوسط لهم في أمر من أمورهم عند الكتاب والمحضرين؛ فما هو إلا أن بصر بحفني بك داخلا حتى هرول إليه قائلا: أنا لي دعوى.
فأجابه حفني وهو يهرول مثله ما استطاع: «وأنا ماليش دعوى»!
وحدثني أحد أبنائه أن أباه ضربه وهو صغير، فخرج يعدو إلى الشارع ونادى له بأول شرطي، فلما خرج حفني للشرطي وهو يدق الباب دقا شديدا سأله: ما الخبر؟
قال: الخبر يا سعادة البك أن هذا الولد جاءني وهو يبكي، وقال لي إن في هذا البيت رجلا كبيرا ضربه واختفى.
فأجابه حفني كالمتهم المنكر: لا والله يا سعادة الجاويش، «هو الذي ضربني وجري.»
وحدثني أديب قاهري أن جماعة تبادلوا الرأي في فن الإلقاء أمام حفني، وتحمس أحدهم للفن الجديد، فاقترح أن يستعين به حفاظ القرآن الكريم في تلاوته حسب المعنى.
وسأله حفني: وكيف يكون تطبيقه في التلاوة؟
قال الأديب المتحمس للفن: بتصوير المعنى وتمثيله!
قال حفني: إذن ترينا أنت مثالا لذلك في قوله تعالى:
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك .
وسمعت عن الشيخ عبد العزيز البشري - رحمه الله - نادرة تروى له مع الفريق إبراهيم فتحي، حيث قال له الفريق: قاض في الجنة، وقاضيان في النار. فذكره البشري بقوله تعالى:
فريق في الجنة وفريق في السعير .
سألت البشري عن هذه القصة فلم يثبتها ولم ينكرها، ولكنه استطرد منها قائلا: إن حفني ناصف هو السابق إلى جواب من هذا الباب؛ قال له بعضهم قاض في الجنة وقاضيان في النار، فقال: «والناصف هو الذي في الجنة!»
وكانت هذه النكتة في المجمع اللغوي مثارا للخلاف على فعل «نصف» الثلاثي وفعل «أنصف» الرباعي، هل يتقاربان في المعنى؟ فتبين أن اللغوي العتيق - رحمه الله - لم يكن بعيدا من الصواب.
ومن نكاته التي تشق طريقها في مقام الحداد أنه سئل تاريخا شعريا يكتب على قبر عريان بك، فنظم هذين البيتين:
لقد هوى في أفق هذا المكان
بدر العلا عريان فخر الزمان
ومذ أتى الجنات أرخته «عريان أضحى في ثياب الحنان»
1888
إن هذه النوادر لا تضيف محصولا كبيرا إلى الذخيرة الحفنية؛ إذ تيسر جمعها من مختلف مصادرها، ولكنها قد تشير بتعدد مناسباتها إلى سحاب من عباب.
أما جواب السؤال الأخير من الرسالة - وهو تعليل ملكة الفكاهة عند حفني ونظرائه - فهو شرح يطول؛ وخلاصته في كلمات أنها ملكة لا غنى فيها عن الذكاء وعن المزاج، وأنها تنمو بالإضافة إلى ذلك مع مفارقات الحياة؛ لأن النكتة في جوهرها إنما هي التفات إلى المفارقات.
ولقد كانت حياة حفني كلها مفارقة تنتهي على مفارقة أعجب منها، هل يعلم القارئ مثلا أن حفني ناصف كان في أول عهده بالتدريس معلما للخرس والبكم والعميان؟! أما إنه بدأ سيرته من رجال الشريعة وختمها بين القضاء الأهلي وأستاذية الجامعة فهو معلوم.
من أسرار التاريخ والأدب1
الكتاب الأسود
أما قضية الكتاب الأسود، فقد كان الباعث عليها تمثيل رواية «شلومة»، التي مثلت في باريس وبرلين قبل أن تمثل في البلاد الإنجليزية، وكان تمثيلها محظورا على المسارح العامة، فمثلتها جماعة المسرح المخصوص وقصرت حضورها على المشتركين في الجماعة.
وهنا انبرى بمبرتون
pemberton
عضو مجلس النواب وصاحب صحيفة «الساهر»، فحمل على هذه الجماعة وقال إنهم فئة من سبعة وأربعين ألفا موصومين بالشذوذ الجنسي، ومنبثين في المراكز وفي دوائر المجتمع على اختلافها، وأسماؤهم جميعا محصورة في سجل محفوظ عند إدارة المخابرات الألمانية، يستخدمونه في التهديد والاطلاع على الأسرار، وخص بمبرتون بحملته فتاة راقصة مشتركة في جماعة المسرح المخصوص، تتطوع لتمثيل دور شلومة، وتستبيح في تمثيله ما لا يستباح على المسارح الإنجليزية.
ثم ساقته هذه الفتاة إلى المحكمة، ودافع بمبرتون عن نفسه فدل على نسخة الكتاب الأسود التي وصلت أخبارها إليه، وزعم أنها منقولة من الكتاب الأصيل ومودعة عند الأمير وليام فيد
vied
الألباني، الذي كان ملكا لألبانيا أثناء الحرب العالمية الأولى.
وأخطر ما في القضية أن بمبرتون جاء بشهوده الذين اطلعوا على الكتاب إلى المحكمة، فذكروا بعض الأسماء التي اطلعوا عليها في الكتاب ومنها اسم القاضي دارلنج
Darling
الجالس لمحاكمته، وأسماء أناس من الوزراء والقادة.
ولما وصل الشاهد على سرد الأسماء، قاطعه القاضي وأمره بالسكوت وقال له في حدة وغضب: «إنني لم أعترض أقل اعتراض على تصريحك باسمي في هذا الصدد، ولكنني أصر على حماية الغائبين عن الجلسة!»
ودعي للشهادة في هذه القضية لورد ألفريد دوجلاس، عشيق أوسكار وايلد الذي كان يوما من الأيام موظفا بالوكالة البريطانية في القاهرة، فسئل عن ترجمته للمسرحية من الفرنسية إلى الإنجليزية، فكانت شهادته وتعقيبات المعقبين عليها وصمة لا حاجة بنا إلى تفصيلها، ولكنها هي وما شابهها - مما هو أقذر من كل مجونيات أبي نواس - مدونة في تقارير النفسانيين، وبعضهم علماء مختصون يرتفعون بنسبة الشواذ في ألمانيا نفسها - حيث يحفظ الكتاب الأسود - إلى أكثر من عشرة في كل مائة، ويرد في هذه التقارير أسماء غليوم وبيلوف وطائفة من زعماء النازيين.
وقد سئل المحلفون عن رأيهم في بمبرتون هل هو مذنب أو غير مذنب، فاتفقوا بعد اجتماع قصير على أنه غير مذنب، واضطر القاضي دارلنج إلى إعلان براءته. وهي براءة لا يخفى ما تدل عليه.
ثم عاش بمبرتون إلى أن توفي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنتين، فعاد الحديث عن القضية لهذه المناسبة، وضمنها مونتجمري هيد من رجال القانون والبرلمان كتابا خاصا عن القضايا التي غيرت القانون.
فليست فضائح لندن وبرلين وباريس ونيويورك بأهون من فضائح بغداد، وليس الراقصون بالليل والنهار بأشرف ممن لا يرقصون، وليس إحصاء الكتاب الأسود في عاصمة واحدة بأقل من إحصاء الديوان النواسي وما احتواه من القصائد والأبيات.
وتهميشات
وننتقل إلى الهامش فنقول «أولا» إنها سواء كانت حربا أو غير حرب، فماذا يضير الأستاذ سلامة منها؟ إنه لخليق أن يوقن بالتطوع لمؤازرته من أولئك الذين يعنيهم العقاد جدا، أو يعنيهم جدا جدا، فيقولون الأرض كلما قال السماء، ويقولون اليسار كلما قال اليمين، ويقولون لعنه الله كلما قال حياه الله!
وواحد منهم على ما نظن يخصنا بعنايته في اختيار الصور، ونطمئنه على ذخيرته فنؤكد له أن عندنا صورا لنا نحفظها «أشوه» من كل صورة في يديه، فإذا نفدت الصور التي عنده فلا يخف ولا يحزن، فإن الصور التي عندنا في الخدمة حين يشاء!
ونقول «ثانيا» بعد انتقالنا إلى الهامش إن صديقنا الأستاذ الشناوي يتواضع حين يذكر المعارك القلمية وينسى حصته المباركة فيها.
قال فيما قال: «وقامت معركة عنيفة بين الأستاذين الكبيرين عبد القادر حمزة في البلاغ ومحمد توفيق دياب في الجهاد .»
ونسي أن يقول: «وكان الأستاذ الشناوي يتناول التلفون ليتحدث لحظة إلى الأستاذ أنطون الجميل في الأهرام، ويتحدث بعدها لحظة إلى الأستاذ دياب، ويتحدث بعدهما أو قبلهما إلى الأستاذ عبد القادر حمزة، ويعمل جهده في هذه المحادثات الفنية للتهدئة والتوسط واستدراج حفني محمود - رحمه الله - إلى الوساطة بين الخصوم، وأنه نسي في جميع هذه المحادثات أن يذكر اسمه مستترا بأسماء غيره وغيرهم، ومبالغا ثمة في التواضع ونكران الذات.»
وهي حصة ينساها الأستاذ الشناوي ولا يصح أن ينساها التاريخ.
وعلى فكرة ...
نعم على فكرة، لا تنسى أيضا كلما ذكرت عجائب المصادفات، وينبغي أن نذكرها لنذكر دائما أن المصادفة تأتي بالخوارق في كثير من المناسبات.
إن الأستاذ الشناوي يكتب يومية الثلاثاء عن الحروب القلمية، فيقول فيها ما قال عن حرب البلاغ والجهاد.
ثم يكتب بعدها على الأثر يومية الأربعاء عن تشابه الأصوات.
فيا للعجب! هل لتشابه الأصوات يد في إحدى هذه المناسبات؟
الله أعلم، ومن الناس من يعلمون وينسيهم التواضع نصيبهم المأثور فيما يكتبون.
كانت1
فاتني ولم يفتني
فاتنا أن نشهد الحفل الذي أقيم في القاهرة تحية لذكرى الفيلسوف العظيم عمانويل كانت لانقضاء مائة وخمسين سنة على وفاته، ولكن لا يفوتنا أن نشكر الدكتور عثمان أمين لقيامه عن أدباء مصر بهذا الواجب وسداد هذا الدين، وهو دين يستحقه الفيلسوف في ذمة كل شرقي على الخصوص وكل مناهض لزبانية الطغيان والاستعمار.
وإنما يعزينا عن هذا السهو - في هذه الذكرى الأخيرة - أننا سبقنا الدكتور عثمان أمين إلى قضاء هذا الدين بثلاثين سنة، ولعلنا انفردنا يومئذ بتحية الفيلسوف العظيم في هذه الديار، فكتبنا عنه فصلين لانقضاء مائتي سنة على مولده سنة 1724، وسرنا يومئذ أن يطلع عليهما الدكتور جرمانوس المستشرق المجري فيقول: «إنه يتكلم الألمانية منذ صباه، وإنه يقرأ «كانت» ويقرأ شراحه باللغة الألمانية، ولكنه لم يفهم «كانت» بتلك اللغة كما فهمه من ذينك المقالين باللغة العربية.»
سابق لأوانه وفي أوانه
وخير ما يذكر به فيلسوف العصور الحديثة الأكبر، أنه نشأ في القرن الثامن عشر ولا يزال سابقا لأوانه في القرن العشرين، ونحسب أنه سيظل سابقا لأوانه عدة قرون.
ويقال ذلك عنه في المحسوسات كما يقال في المعقولات؛ فإنه قرر مكان السيارات الشمسية، التي كشفت بعد تقدم التلسكوب، وهو لا يعول على شيء غير التقدير المضبوط والحساب الدقيق.
ويظهر فضله في هذه الفطنة النافذة متى علمنا أن الفيلسوف هيجل خليفته في الشهرة العالمية، والذي ولد بعده بنحو أربعين سنة، قد سخر من علماء الفلك لأنهم يبحثون عن سيارة ثامنة. قال: ولو أنهم نظروا في مباحث الفلسفة بعض نظرهم في مباحث علم الهيئة، لوضح لهم أن السيارات سبع ، ولا يمكن أن تكون أكثر من سبع، ولا أقل من سبع بأي حساب.
ولم يكد كتابه الذي يقرر فيه هذه البديهية على زعمه يظهر وينتشر بين المؤمنين به، ومنهم كارل ماركس، حتى أعلنت المراصد الفلكية ظهور سيارة ثامنة وانتظار سيارات أخرى لم يبلغها الرصد إلى ذلك الحين!
إن دقة «كانت» في هذه المحسوسات تجاريها، بل تسبقها، دقته في المعقولات، ومنها قضية الاستعمار وقضية السلام.
فقد كان الاستعمار يومئذ يخطو في الشرق والغرب خطواته الأولى، وكان الحكيم يتطير من عواقبه على السلام العالمي، وينبئ الناس بالحروب الكثيرة والثورات الجائحة التي تهددهم من جراء مطامع المستعمرين. وكان اعتقاده، الذي أعلنه في بروسيا ولم يحذر عواقبه، أن القضاء على الاستعمار مرهون بقيام الحكومات الجمهورية التي لا تستغل جهود الأكثرين لإشباع نهمة الأقلين.
مبارزة بسلاح البرهان
وعلى رصانته الراجحة، كان أصحابه يعلمون أن إثارة موضوع الاستعمار كافية لاستدراجه إلى الكلام والإفاضة في الشرح والتعليق ولو في الطريق.
فاتفق يوما في حديقة عامة أن أناسا من أصحابه استوقفوه وفتحوا معه موضوع الحرب بين بريطانيا العظمى والثوار الأمريكيين، فنسي نفسه وحمل على الدولة البريطانية حملة شعواء، وانتصر لكل أمة من أمم الشرق والغرب تطمع فيها دول الاستعمار.
وإنه لينطق في هذه الحملة العنيفة إذا برجل قوي ينحني أمامه ويدعوه إلى المبارزة.
وسأله الفيلسوف: ولم يا صاح؟
قال الرجل: لأنني إنجليزي، وأنت منذ ساعة تهين بلادي على مسمع من هؤلاء.
ولا ننسى أن الفيلسوف الذي كان يقتحم الأخطار الكبار بشجاعته الأدبية لم تكن له قدرة كهذه القدرة في مبارزات السلاح، ولم يعرف السلاح قط في حياته التي قضاها بين المعاهد والمكتبات، وكان هذا المارد الفكري قزما لا تزيد قامته على خمس أقدام، وقلما تقوى رجلاه على حمله برأسه الكبير.
ولكنه لم يتلجلج ولم يتلعثم أمام دعوة المبارزة، وقال له إنه يختار سلاحه ويبارزه بسلاح البرهان؛ لأنه هو السلاح الذي وقعت به الإهانة، أو وقع به العدوان!
وغني عن القول أن صاحبنا قد اختار سلاحه وهو عارف بقوته فيه، فلم يلبث خصمه أن اعترف بالهزيمة، وطاب له حديثه فاسترسل معه فيه، ولم يشعر بنفسه إلا وهو على مقربة من مسكن الفيلسوف، والفيلسوف يدعوه إلى زيارته! فكانت هذه الزيارة فاتحة الصداقة الطويلة بين الخصمين!
في أوانه بالسنة واليوم
ومن المصادفات التي تتفق كثيرا في سير نوادر العبقريين، أن هذا الحكيم العظيم الذي يقال عنه بحق إنه سابق لأوانه في علمه وتفكيره، قد كان مرهونا بوقت معلوم في رسالته الفكرية، وكاد هذا الوقت المعلوم أن ينطبق على أيام عمله بالسنة واليوم، فلو تقدم قليلا أو تأخر قليلا لضاع في الظلمات وذهب اسمه بين غمار المنسيين والمجهولين.
قال شوبنهور: «إن عمانويل كانت كان الجوهرة العليا في تاج فردريك الكبير، فما كان لمثل كانت أن يعمل أستاذا بمرتب من الدولة في ظل حكومة أخرى من حكومات الكرة الأرضية، ثم يؤذن له بما قاله في كتبه عن الملوك، ولو أنه تقدم قليلا أو تأخر قليلا، لما كان عندنا ذلك الشخص المسمى باسم عمانويل كانت، ويندر أن يكون الحكام من الرجال العظام، فإذا بلغ من عظمتهم أن يدركوا عظمة الآخرين، فهم جدراء بالحمد من بني الإنسان.»
ولقد حدث فعلا بعد موت فردريك الكبير أن ابنه غضب على الفيلسوف ونقم عليه جرأته في آرائه ومعتقداته، ولكن الفيلسوف كان قد فرغ من أهم كتبه وأدى أمانته لتلاميذه ومريديه، وكان قد شاخ وبلغ السبعين وأحب الإخلاد إلى الراحة ، فكف عن الكتابة المثيرة واعتذر بطرفة من طرف المعاذير، لا نذكر لها نظيرا غير اعتذار فرنسيس باكون من نوع آخر، قبل ذلك بنحو مائتي سنة.
فأما كانت فقد كان عذره أن كلامه غامض لا يفهمه أحد من عامة القراء، فلا خوف منه عليهم، ولم يكذب كانت في هذا الاعتذار، بل لعله بالغ في الاعتدال حين قال إن عامة القراء وحدهم هم الذين لا يفهمونه، وإنه ليعلم أن صديقه «هرتز» من طبقة المفكرين قد أعاد إليه كتابه قبل أن يتمه، وقال إنه يعيده إليه قبل أن يذهب به إلى المارستان !
أما اعتذار فرنسيس باكون فقد كان تحفة أخرى من تحف الاعتذار الغريبة؛ لأن هذا الفيلسوف - إمام الفلسفة التجريبية - كان كبيرا للقضاة فاتهم بالرشوة فلم ينكرها، ولكنه قال إنه كان يتقبل الهدايا من الخصمين ليقاوم الزيغ والانحراف، ويضطر إلى الحكم بينهما بالإنصاف!
ولم تكن توبة نصوحا من جانب رسول السلام والمسالمة؛ فقد عاد إلى الكتابة عن الثورات والأخلاق، فلم يقلع عنها إلا وقد علت به السن، وأطبق الخوف على ذلك الدماغ الضخم، وودع الحياة وهو لا يعلم أنه يودعها ويستقبل ما وراءها، ومن سخرية المقادير أن ذلك الرأس القوي، الذي حاول أن يحيط بما بعد الحياة والموت، قد مات وهو لا يعلم أنه يموت!
الناخب المصري وفلسفة أرسطو1
قرأت في هذا الأسبوع الكتاب الأول من «تطور الفكر السياسي»، الذي ألفه الدكتور جورج هولاند ساباين، وترجمه الأستاذ حسن جلال العروسي، ولخصه العلامة السنهوري في مقدمته البليغة بكلمتين؛ إذ قال:
إن الحكم الصالح لا تتلمسه فلسفة الإغريق في الحكم المطلق للفيلسوف، ولكن تنشده في مبدأ سيادة القانون.
من كان في شك من الحكمة السائرة التي تقول: «إن الإنسان إنسان حيث كان»، أو كان في شك من قول القائلين: «إنه لا جديد تحت الشمس»؛ فليقرأ هذا الكتاب فإنه سيعرف بين ما يعرفه من دروسه الكثيرة أن مسائل الحكم والسياسة قديمة في أصولها، وأن أنواع الحكومات وعيوبها جميعا معهودة منذ العصور التاريخية الأولى، وأن أفلاطون وأرسطو ومن عاصرهما من فلاسفة اليونان لا يستغربون شيئا لو انبعثوا من الأجداث ونظروا إلى العصر الحاضر كما نراه بمشكلاته ومعضلاته وحلوله وأحكامه، وتقلبوا في أرجاء العالم من مشرقه إلى مغربه ومن أرفع الأمم إلى أقل الشعوب والقبائل نصيبا من الحضارة وشئون السياسة والحكومة.
مشكلة الحكم المطلق، ومشكلة الحكم الشعبي، ومشكلة التفاوت في الثروة، ومشكلة الطبقات الحاكمة، ومشكلة الانتخاب وأصحاب الحق فيه، ومشكلة الفارق بين حقوق الرجال وحقوق النساء، ومشكلة الملكية والشيوعية، وغير ذلك من المشكلات التي تقرأ أخبارها في صحافة اليوم؛ هي هي هذه المشكلات التي يعرضها الكتاب؛ إذ يعرض لنا آراء أفلاطون وأرسطو، ويلم بما سبقها من آراء الإغريق والفرس التي لم يتغير منها إلا اتساع النطاق، وظهور الجسد القديم في ثوب جديد.
ومن المفيد للعقل الإنساني دائما أن يعرف أصالة المسائل التي يعالجها أو يفكر فيها، فإنه يفهمها خطأ ولا ريب إن فهم أنها بنت اليوم وأنها شيء لم يسبق له مثيل في الجملة والتفصيل.
أرسطو والناخب المصري
وأذكر على سبيل المثال مسألة كنت أعتمد فيها على أرسطو، وأرى الأدلة الوافرة على صوابها من تجاربنا العصرية؛ وهي مسألة الناخبين واختلاف حقوق الانتخاب بين المتعلمين والجهلاء.
إن التجارب العصرية جميعا تثبت رجاحة رأي الفيلسوف الكبير في حقيقة الملكة الانتخابية، فهي مسألة بداهة وعادة وليست مسألة علم وفلسفة، أو هي مسألة تجاوب وامتزاج بين المعلومات، وليست مسألة آراء متفرقة ينفرد بها أصحابها هنا وهناك، دون أن تصهرها البوتقة العامة في بيئة تتخلق من بينها ويتخلقون منها.
وحدث كثيرا أن بعض إخواننا في المجالس النيابية كانوا يقترحون تمييز المتعلمين بزيادة الأصوات، أو يقترحون حرمان الأميين من الانتخاب، فلم أكن أناقشهم برأي أرسطو؛ لأن الرد عليه سهل جدا على لسان العارف وغير العارف؛ وهو الابتسام مع القول بأن الفلسفة شيء والواقع شيء آخر، أو مع القول بأنها نظريات وأحلام «طوبية» لا تقبل التطبيق في العصر الحديث.
ولكنني كنت أناقشهم بالواقع المتكرر من تجارب الانتخابات بين المتعلمين وغير المتعلمين، وكنت أضرب المثل لهم بانتخابات المحامين والمهندسين والمعلمين والأطباء في نقاباتهم، وأسألهم: أتعتقدون حقا أنها خير من انتخابات المجالس النيابية، وبخاصة ما تقدم منها في تجاربها الأولى؟ فكان الواقع يضطرهم إلى الاعتراف بالحقيقة، ويقنعهم بأن العادة هنا أفعل من العلم الغزير والثقافة العالية، إلا أن تكون من قبيل الثقافة التي تسري بالقدوة والعدوى وعلى غير قصد في كثير من الأحيان.
الديمقراطية الصحيحة
وليس هذا كل ما يقال عن خطأ القائلين بحرمان الأميين حق الانتخاب؛ فإن الأميين إذا كانوا في الأمة قلة لا تزيد على خمسة أو عشرة في المائة، فمن الجائز حرمانهم مع المحافظة على قواعد الديمقراطية؛ لأن رأي تسعين في المائة مقدم على رأي العشرة الباقية، ولا يخل بالحرية الديمقراطية أن يتغلب حكم الأكثرين على حكم الأقلين.
لكن الأمية في الشرق هي الكثرة الغالبة، وليس من الحرية الديمقراطية في شيء أن تجرد أربعة أخماس الأمة من الحقوق وأنت تفرض عليهم الواجبات، وأن تحملهم مهمة الدفاع عن الوطن وأداء الضريبة وتعاملهم معاملة الأجانب الغرباء أيام الانتخاب.
هذا إلى ملاحظة لا بد من الالتفات إليها في هذا الصدد، وهي سبب حرمان الأميين حق الانتخاب في بعض الأمم، ولا سيما الأمريكية، فإنه هنالك حيلة يقصد بها حرمان الهنود الحمر والزنوج حقوق المساواة دون التعرض لتهمة التمييز بين الأجناس، وليست هذه الحيلة مما يجوز بين أبناء الوطن الواحد والجنس الواحد والصفة القومية الواحدة، بل هي مما لا يجوز مع اختلاف الأجناس كما لا يجوز كل احتيال في هذا المقام.
الواقع قبل الفلسفة
على أن الواقع من تجارب الانتخاب في مصر يثبت لنا أن «الناخب المصري»، سواء كان من الأميين أو المتعلمين، قد أدى الأمانة في مواقف كثيرة على أحسن وجه يراد من الناخبين في أرقى الأمم.
ولست أحب أن أصف الناخب المصري بصفة واحدة مطلقة تنطبق عليه في جميع الأوقات وجميع المناسبات، ولكني أذكر المواقف التي نعلم علم اليقين أنه بلغ فيها الغاية من الأمانة الانتخابية، ونبدأ من المجلس النيابي الأول قبل ثمانين سنة، وننتهي إلى تجاربنا الأولى في الجمعية التشريعية، ثم في البرلمان بعد إعلان الدستور.
قبل ثمانين سنة
رجعت إلى أسماء النواب المنتخبين لمجلسنا النيابي الأول على عهد إسماعيل ثم على عهد توفيق، وكانت شروط الانتخاب يومئذ ضيقة بالغة في الضيق، ولكنها على كل حال كانت عامة مطلوبة من جميع المرشحين بغير استثناء، ولم يكن في وسعي أن أتثبت من أحوال الانتخاب في كل إقليم، فاكتفيت بالأقاليم التي أعرفها وأعرف الأسر والمرشحين من أبنائها، وسألت من يعرف الأقاليم الأخرى هذه المعرفة، ويستطيع من شاء أن يتقصى الأمر في بلده على هذا النحو، فإن النتيجة التي تنتهي إليها بعد مراجعة أحوال الانتخاب جميعا هي صحة التمثيل النيابي في القطر كله، بحيث يصدق القول على كل نائب وصل إلى المجلس أنه أحق أبناء إقليمه بالنيابة عنه في تلك الأحوال.
وفي الجمعية التشريعية
وننتقل إلى انتخابات الجمعية التشريعية منذ أربعين سنة، فإن وقائعها مذكورة بتفصيلاتها وعواملها الخفية والظاهرة، ولا سيما دوائر القاهرة والإسكندرية.
إن الناخب المصري قد قاوم من الضغط عليه في هذه الانتخابات ما يندر أن يقاومه ناخب في قطر من أقطار الحياة النيابية العريقة.
كان الخديو عباس ورئيس الوزراء محمد سعيد باشا والمندوب البريطاني لورد كتشنر؛ يحاربون سعد زغلول ويعملون جهدهم أن يحولوا بينه وبين الوصول إلى الجمعية التشريعية.
ووقف هؤلاء جميعا في جانب، ووقف الناخب المصري في الجانب الآخر، فانهزموا جملة ونجح سعد زغلول في دائرتين هما دائرة الإمام ودائرة السيدة زينب.
وكانت هناك قوة أخرى إلى جانب القوى التي تضافرت على مقاومة سعد في كل من الدائرتين.
كان المرشح أمامه رجلا له صفة دينية في دائرته وهي مشيخة الإمامين، وكان الناس يذكرون حملات «ظلموك يا سعد»، التي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يكتبها في اللواء - لسان الحزب الوطني يومذاك - فاستطاع الناخب المصري أن يحكم حكمه بين هذه العوامل المتألبة عليه، وكان آية في صدق البداهة الاجتماعية وأمانة الضمير الوطني، قبل أن يكون للجمعية التشريعية شأن في ميدان الوطنية.
ومما يذكر من مفاخر تلك الانتخابات أن رجلا «كواء» من سكان المنشية عرضوا عليه جنيهين ثمنا لصوته - وكان الجنيه في ذلك الحين بقيمة عشرة جنيهات على الأقل في الوقت الحاضر - فردهما وطرد المساوم له من دكانه شر طردة، ثم اتصل الخبر بسعد من بعض مريديه، فأبت نخوته إلا أن يذهب إلى دكان الرجل في جمع من كبار صحبه، ثم حياه ووجه إليه الخطاب كأنه يحيي أميرا مالكا في حشد عظيم.
ولقد بذل خصوم سعد كل طاقتهم في تلك الأيام لصرف الناخبين عنه وتحويلهم إلى مزاحميه، إلا وسيلة واحدة لم يستخدموها والشهادة للحق؛ تلك وسيلة التزوير في الأوراق، فلم يحصل قط تزوير من هذا القبيل، ولكن وسيلة التزوير ليست مما يحسب على الناخب بأية حال.
سنة 1924
واتفقت هذه القوى جميعا على محاربة سعد وأنصاره بعد إعلان الدستور، فلم ينجح أحد في دوائر القطر غير أنصاره، ما عدا القليل الذي لا يزيد على أصابع اليدين، وكلهم ذوو «عصبيات محلية» لا يزاحمها أحد في إقليمها، ولم تكن الخصومة بينهم وبين سعد محور الخلاف بين الناخبين.
وأخفق رئيس الوزراء نفسه «يحيى إبراهيم باشا» في دائرته، وأخفق أذناب الخاصة الملكية في دوائرهم القليلة، وغلبت إرادة الناخب المصري كل إرادة في ذلك العراك العنيف.
لا بل تجدد الانتخاب وأعلن أصحاب السلطان أن سعدا لن يعود إلى الوزارة، وقد كان الانتخاب على درجتين: درجة لانتخاب المندوب عن كل ثلاثين ناخبا، ودرجة لانتخاب العضو لمجلس النواب، فاجتهد عمال المحافظة قصارى جهدهم لإسقاط سعد في دائرة المندوبين، فنجحوا لأنهم فرقوا الأسماء ذات اليمين وذات اليسار في كل اتجاه، ولكن الجهود كلها حبطت دون إسقاطه، وإسقاط الكثرة من أنصاره، فجاء مجلس النواب وفيه مائة وخمسة وعشرون من أنصار سعد، ولم يزد عدد الفريق الآخر على الثمانين، موزعين بين الحكوميين والاحتلاليين.
ثم تعطلت الحياة النيابية أكثر من سنة، وأنشئ حزب الاتحاد بسلطان القصر، فانتمى إليه المتزلفون في كل إقليم، ثم حان الموعد لكتابة دفاتر الانتخاب على حسب القانون الجديد، فأضرب العمد عن تنفيذ القانون، وسيقوا إلى القضاء، فخرج الكثيرون منهم بغير جزاء.
بداهة أرسطو
إلى هنا يحق لنا أن نقول إن الانتخابات المصرية حتى سنة 1927 قد أسفرت عن تلك البداهة التي يلخصها صاحب الكتاب عن أرسطو فيقول: «إن الحكمة الجماعية لشعب من الشعوب أسمى حتى من حكمة أعقل المشرعين؛ فالأفراد في خضم الجماعة يكمل بعضهم بعضا بصورة فريدة، ذلك بأن يفهم أحدهم جزءا من مسألة، ويفهم الآخر جزءا آخر، فيحيطون في مجموعهم بالموضوع كله.»
ولسنا نريد أن نطلق تلك البداهة وصفا عاما للناخب المصري في جميع أوقاته وجميع حالاته، ولكننا نقرر الواقع الذي لا شك فيه حين نروي ما حدث في تلك الانتخابات، بما شهدناه وشهده غيرنا عيانا وسجلته المصادر المختلفة بالأرقام.
وقد حدث غير ذلك في الانتخابات التالية، فلماذا تغير المسلك من فترة إلى فترة، خلافا لما ينتظر من التقدم مع الزمن حقبة بعد حقبة وجيلا بعد جيل؟
قبل أن نعلل ونفصل، علينا أن نرجع إلى الجو النفساني الذي أحاط بتلك الانتخابات؛ فإنه أهم عامل من عوامل الاتجاه السياسي في الجماعات.
كان جو الانتخابات بين أوساط القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هو «القضية الوطنية»، بل جو الحماسة القوية لهذه القضية.
كان هذا الجو محيطا بانتخابات المجلس الأول على عهد إسماعيل؛ لأن الأمة كانت في حالة ثورة نفسية أمام الطغيان الأجنبي من جراء الديوان والامتيازات.
وكان هذا الجو محيطا بالانتخابات جميعا، من أيام الجمعية التشريعية إلى أيام الانتخاب الأخير قبل وفاة سعد زغلول، وانضم إليه عامل آخر لا يقل عنه قوة وصدقا في توجيه الشعوب، وهو عامل الزعامة الموثوق بها، بل الزعامة التي يرتفع الشعور بها من الثقة إلى الإعجاب والإيمان بقلة النظير. •••
ثم ماذا جرى للناخب المصري؟
ثم حدث الانفصال شيئا فشيئا بين جو الانتخاب وجو الحماسة الوطنية والزعامة الموثوق بها أو الزعامة المحبوبة.
فلم ينجح زعيم قط في هذه الفترة؛ لأنه زعيم الشعب الموثوق به لخدمة القضية الوطنية، وإنما كان النجاح يتوقف على الأمل في الوزارة المقبلة، فكان صاحب الوزارة المقبلة على الدوام هو صاحب الكثرة في الانتخاب.
وكان الناخب يغالط سريرته كلما تحدث عن الزعامة الشعبية؛ لأنه لا يريد أن يقول عن نفسه إنه طالب منفعة، وإنه يساوم على صوته وضميره، فإن قال إنه يؤيد هذه الزعامة أو تلك، فإنما يدفع التهمة التي تلصق به لو أعلن أسباب هذا التأييد، وقد يغالط سريرته فيتوهم، أو يحب أن يتوهم، أنه يدين بالمبادئ ولا يدين بالمنافع والمساومات.
ويكذب على الواقع من يقول: إن النحاسيين أخفقوا في الانتخابات التي أجراها محمد محمود أو أجراها أحمد ماهر؛ لأنهم تعرضوا للضغط والإرهاب، فإن الضغط والإرهاب في هاتين المرتين كان أقل من كل ضغط وإرهاب حدثا في الانتخابات المصرية، وإنما كان النحاسيون يظفرون كلما قيل إنهم مطلوبون للوزارة، وكان عمل الموظفين والعمد وسماسرة الانتخاب في هذا التحول أكبر من عمل الآحاد المتفرقين.
هل نبرئ الناخب عامة من أجل هذا؟
هل نبرئ المرشحين؟ هل نبرئ الأحزاب؟
كلا، لا نبرئ أحدا ولا ندين أحدا، غير أننا نعلم كما يعلم الكثيرون من طبائع الناس أنهم قابلون للتضحية وقابلون للبطولة كلما وجد السبب الذي يرتفع بهم إلى تلك الذروة، ولكنك تطلب كرامة القديسين إذا أردت من الناس في جملتهم أن يتغلبوا على مصالحهم لغير قضية عامة يفهمونها ويستثار بها شعورهم من ركود الحياة اليومية.
والخلاصة التي لا نشك فيها، أن الناخب المصري يقاوم كل محنة وكل إغراء في سبيل إيمانه بقضية وطن وعظمة زعيم، فإن لم يكن هذا، فالشرط اللازم لصحة الانتخاب أن يكون قيام الوزارة القادمة معلقا على نتائجها، ولا تكون هذه الوزارة معلومة قبل إجراء الانتخاب، فإذا تيسر ذلك وسلمت للناخب حريته، فتمثيل الشعب في هذه الحالة أصح تمثيل مستطاع.
وهذا أيضا في الدفتر
وأصحابنا الأقدمون لم ينسوا هذه الخصلة ولم يجهلوا خطرها في التربية السياسية؛ فقد كان الناخب الأمثل عندهم هو الناخب الذي يدين بالولاء للمدينة، وكانت المدينة عندهم مرادفة للوطن في الزمن الحديث، فكانوا يقولون إن الأثيني الحق من ينسى نفسه حين يعطي صوته، أو من يوفق في حياته الخاصة وحياته العامة؛ فلا تجور إحداهما على الأخرى، وكانوا مع ذلك لا ينسون أن المواطن الصالح والإنسان الصالح وصفان لا يتساويان في المعنى إلا إذا ارتقى المجتمع إلى الأوج المثالي في الأخلاق والملكات العقلية، وهيهات.
قال المؤلف: «على هذا النحو كانت المدينة، كما يتصورها الأثيني، مجتمعا يعيش أفراده معا في تآلف وانسجام، ويتيح لأكبر عدد مستطاع من أفراده فرصة المساهمة الفعلية في الحياة العامة دون تمييز يرجع إلى ثروة أو جاه، كما يعطي لكل ذي كفاية مجالا طبيعيا هنيئا للعمل والازدهار، ويمكن القول إلى حد كبير بأنه ربما لا يوجد مجتمع آخر نجح في تحقيق هذا المثل الأعلى، مثلما نجح المجتمع الأثيني في عهد بركليس، ولكنها مع ذلك كانت مثلا عليا لا حقائق واقعية، والديمقراطية في أفضل حالاتها لا تخلو من المثالب.»
والصحيح في التعقيب على هذا الرأي أن الديمقراطية كثيرة المثالب، ولكنها تمتاز من هذه الناحية بمزية لا تتوافر لغيرها من نظم الحكومات، فعيوبها هي عيوب الإنسانية أو هي عيوب الأناسي الذين يشتركون فيها، وفرق بين عيوب النظام من حيث هو نظام، وعيوب الناس التي لا يلام عليها نظام الحكم، ولكنها ترجع إلى طبائع المحكومين وأخلاقهم وعاداتهم، ولا أمل في صلاحها بغير التربية السياسية والتجارب المتعاقبة وتكرار الخطأ والتصحيح.
وإذا لاحظنا في كتاب «تطور الفكر السياسي» مأخذا، فإنما نلاحظ عليه أنه خلا من الشرح الكافي للتفرقة بين الديمقراطية المعيبة والديمقراطية الممسوخة، التي كان الإغريق يسمونها «أوخلوكراسي»
Ochloocracy
ويعنون بها شيئا قريبا من فوضى الغوغاء، وهذا الفارق مشروح في كتاب المفكر السياسي بوليبيوس
، الذي كان أحق المفكرين أن يعتمد عليه في هذا المقام؛ لأنه يوناني تربى في عاصمة الرومان وأحاط بتجارب النظم فلسفيا وواقعيا بين المدينة الإغريقية والدولة الرومانية، وكان أدق من أفلاطون وأرسطو معا في التفرقة بين الديمقراطية المعيبة والديمقراطية الممسوخة، التي تشبه الحكم المطلق وتنتهي إليه، وتقوم على إنكار الامتياز والتسوية العددية، على خلاف الديمقراطية في صميمها؛ وهو اتساعها لشتى المزايا والاعتراف لكل مزية بحقها ومكانها من المجتمع، وقد كان تفصيل المذاهب التي أتى بها بوليبيوس في تاريخه دون قصد إلى البحث النظري والتقرير الفلسفي؛ أصدق بيانا للنظم الحكومية جميعا في سياق التطبيق والتنفيذ من معظم آراء الأبيقوريين والكلبيين.
والذي يشكره القارئ للأستاذ العروسي مترجم الكتاب، أنه أحسن التوفيق بين الدقة والوضوح والأسلوب السائغ في هذه الترجمة العلمية، وأنه أضاف بهذا الكتاب القيم ذخرا جديدا إلى المجموعة السياسية العلمية، التي بدأت عندنا بكتب جستاف لوبون وجون ستيوارت ميل وسبنسر وترجمة كتاب السياسة لأرسطو بقلم الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد، فليس ألزم للقارئ العصري من توسيع النظر إلى أصول المباحث الأولى والحديثة في مسائل الاجتماع والحكم والسياسة، وليس أدعى إلى صدق النظر فيما يعرض عليه من الدعاوي والدعوات من علمه بعواقب أمثالها فيما تقدمت به تجارب الأمم، وقد يقال عن يقين إنه ما من جديد كل الجدة قط في هذه المذاهب السياسية التي تساق كل يوم مساق الجديد.
ولا نزيد على مثل واحد لبيان رأينا في أسلوب الترجمة كما اختاره الأستاذ العروسي حريصا على الدقة والطلاوة، وهذا المثل الواحد يدل على غيره كل الدلالة، ويطمئن القارئ إلى الثقة بالمعنى مع اختلاف المشرب أو المنهج، فقد ترجم الأستاذ كلمتي
Happy Versatility
بالتغير السعيد، ولا خطأ في معنى الكلمتين بهذه الترجمة، ولكننا نفضل أن نترجمهما «بالمرونة الموفقة»؛ لأن هذا اللفظ يؤدي معنى الاتفاق ويؤدي معنى السعادة دون أن يصل إلى طبقة السعادة في قوة مدلولها، وهي بلا شك أقوى من المطلوب بوصف التوفيق؛ إذ هو أقرب إلى الوصف المريح منه إلى الوصف السعيد.
أحد أقارب تشرشل كان يحمل البيكوية1
في الشهر الماضي ظهر الجزء السادس والأخير من تاريخ الحرب العالمية الثانية، الذي يكتبه السير ونستون شرشل رئيس الوزارة الإنجليزية في الوقت الحاضر، وكأنه قد ختم به تاريخه للحرب العالمية وختم به أعماله الوزارية أو السياسية، إذا صح ما أذيع من أنه ينوي اعتزال السياسة بعد شهور.
ومن المعقول أن يكون الخبر عن اعتزاله السياسة صحيحا؛ لأنه لم يظهر على عادته ظهوره العنيف فوق المسرح منذ سنتين ، وسيبلغ الثمانين في نهاية شهر نوفمبر القادم، فإذا انقضى الصيف واقترب عيد الميلاد المسيحي، واتفق مع ذلك أنه يحتفل بالذكرى الثمانين لمولده؛ فتلك مناسبة صالحة للاعتزال بعد طول النضال والنزال.
العبقرية وآفتها
هذا الجزء، كسائر ما يكتبه شرشل، مزيج من الأدب والتاريخ ومزيج من العبقرية وآفاتها، التي يقول النفسانيون إنها تلازمها.
قيل إن العبقرية لا تسلم من بعض الاختلال.
ويقول تاريخ أسرة شرشل إن جذور الاختلال كامنة في الآباء والأمهات؛ فالدوق مارلبرو الكبير قضى السنوات الأخيرة في حياته ذاهب اللب من أثر الصدمة التي مني بها لإهماله بعد الإقبال عليه، والجدة سارة قيل عن كوارثها البيتية أنها أصابت رأسها كما أصابت قلبها، والجد الأمريكي القريب - جده لأمه - كان معروفا بأغرب الغرائب في طموحه ومغامراته.
ولا شك في عبقرية شرشل.
ولا شك كذلك في لوازم هذه العبقرية، سواء كشفتها الوراثة، أو دل عليها بأطواره وأقواله وبعض كتاباته، ومنها ما تقرؤه في هذا الجزء الأخير.
بينه وبين ابن سعود
وهذا بعض ما تقرؤه في الجزء السادس عن مقابلته للملك سعود - رحمه الله - في إقليم الفيوم:
في السابع عشر من شهر فبراير أعدت العدة لاستقباله بفندق البحيرة من واحة الفيوم، وأجلي من الفندق جميع النازلين به، ثم نجمت مسائل شتى من المشكلات الاجتماعية، فقد أخبرت أنه لا التدخين ولا المشروبات «الروحية» مما يسمح به في حضرته الملكية، وكنت أنا صاحب الضيافة في ذلك الاجتماع، فبادرت إلى إثارة المسألة مع المترجم وقلت له: إذا كانت ديانة جلالته تحظر عليه التدخين والمشروبات، فإن نظام حياتي يجعل من شعائري المقدسة تقديسا مطلقا
Absolutly Sacred
أن أدخن وأتناول الشراب قبل الوجبات وبعدها وفي الفترات بينهما. فتلطف الملك بقبول الموقف، وناولني ساقيه قدحا من عين مكة المقدسة، كان ألذ ما تذوقته من الماء ...
إلى أن قال:
وترك الملك ابن سعود في نفسي أثرا بالغا؛ فكان إعجابي به عميقا لولائه الذي لا يتزعزع لنا، فقد كان على أحسنه في الساعات المظلمة، وقد بلغ السبعين ولكنه لم يفقد نشاط المقاتل المناضل، ولم يزل يعيش عيشة الملوك الشيوخ - أو الآباء - في صحراء بلاد العرب مع أبنائه الأربعين الأحياء وثلاث من زوجاته الأربع حسب وصفة النبي، وأحد الأماكن الأربعة خاليا لا يزال ...
هذه العبقرية بآفاتها كلها؟
فليس للنبي محمد - عليه السلام - «وصفة» تأمر المسلم بزواج الأربع.
وليس للسيد المسيح - عليه السلام - وصفة تأمر شرشل بالتقديس المطلق للشراب أو التدخين.
وقد كان في وسع شرشل أن يكتب هذه القصة بغير هذا الإيماء والإيحاء.
ولكن هل كان ذلك في وسعه حقا إن كانت الوراثة حاكمة وآفات العبقرية لازمة؟!
لا نظن، ولو أنه كان في وسعه أن يتجنبه لتجنبه، فما كان أحد ليضطره إليه، لولا أنه اضطرار لا حيلة له فيه!
مساومات السياسة
وليس من غرضنا أن نعقب بالنقد المفصل على أجزاء الكتاب، فإنه يبلغ أربعة آلاف صفحة لا تخلو إحداها من حادث أو خبر أو قضية، ولكن القليل منه قد يغني عن الكثير في بيان «أسلوب المساومات» بين سياسة الدول، ولا سيما هذه المساومات التي تجني على الأمم الضعيفة، وأولها المساومة على قناة السويس!
جرى ذكر الهيئات الدولية والأصوات المعدودة فيها فقال ستالين: «افرضوا أن الصين على اعتبارها عضوا دائما بمجلس الأمن طلبت إعادة هونج كونج، أو أن مصر طلبت إعادة قناة السويس، فإنهما لا تنفردان، وربما كان لهما أصدقاء أو حماة في جمعية الأمم أو في مجلس الأمن.
فقال شرشل: على حسب ما أفهم لا يمكن أن تستخدم قوى الهيئة العالمية ضد بريطانيا إن لم تكن مقتنعة ورفضت الموافقة.
وسأل ستالين: أهذا صحيح؟ فأكدت له أنه صحيح.
وقال مستر إيدن موضحا: إنه في هذه الحالة يحق للصين أو لمصر أن تشكو، ولكنه لا يمكن أن يتخذ قرار يتضمن استخدام القوة بغير مراجعة حكومة جلالة الملك، وأكد مستر ستيتنكس أن العقوبات لا تفرض إلا بإجماع الأعضاء الدائمين، وإن كان من الجائز تزكية المقترحات التي تقدم للتسوية السلمية.
قال ستالين: إنه يخشى أن تؤدي المناقشات حول هونج كونج وقناة السويس إلى تمزيق الوحدة بين الدول الكبرى الثلاث .
فأجبته بأنني أقدر الخطر، ولكن الهيئة العالمية لا تعطل بحال من الأحوال على الاتصال الدبلوماسي بين الدول الكبار أو الصغار، وأن الهيئة العالمية منفصلة على حدة ولأعضائها أن يستمروا في بحث مسائلهم بينهم، ومن الحماقة أن تثار داخل الهيئة العالمية مسائل تمزق الوحدة بين الدول الكبرى.
قال ستالين: إن زملائي في موسكو لا يستطيعون أن ينسوا ما حدث في شهر ديسمبر سنة 1939 خلال الحرب الروسية الفنلاندية، حين استخدم الإنجليز والفرنسيون عصبة الأمم ضدنا، ونجحوا في عزل الاتحاد السوفييتي وإخراجه من العصبة، ثم راحوا يؤلبون الأمم علينا، وتحدثوا في إعلان الجهاد على روسيا، أفلا نستطيع أن نحصل على بعض الضمانات التي تحول دون تكرار هذا مرة أخرى؟
قال مستر إيدن: إن الاقتراح الأمريكي يجعله من المستحيل.
فسأل ستالين: أليس من الممكن إضافة موانع أخرى؟
فقلت: إن هناك تدبيرات متخذة عن الإجماع بين الدول الكبرى.
قال ستالين: إننا نسمع اليوم بذلك للمرة الأولى.
فسلمت أن هناك مجازفة باحتمال إثارة التهييج على إحدى الدول الكبرى - كبريطانيا مثلا - فيكفي أن أقول في هذه الحالة إن الدبلوماسية العادية تؤدي مهمتها في الوقت نفسه، ولا ينبغي أن أتوقع أن الرئيس يثير أو يؤيد حملة على بريطانيا العظمى، وأشعر بيقين أن كل شيء سيعمل لوقفها، كما أشعر في مثل هذا اليقين بأن المارشال ستالين لن يهاجم الدولة البريطانية - بالقول بداهة - قبل أن يتحدث إلينا أولا ويجري البحث في وسيلة التسوية الودية.
قال ستالين: نعم ...»
وهكذا يتفاهمون ويعقدون صفقات المساومة وتبادل الرضى بالعدوان على الأمم الصغيرة! «دعوا لنا فنلاندا وما شابهها، ندع لكم هونج كونج وقناة السويس وما شابههما ... وتجري المهام الدبلوماسية أثناء ذلك على حدة باسم الوحدة العالمية.»
ولقد كتبوا ميثاق الأمم المتحدة على الورق، ولكن الميثاق الذي جرى عليه العمل بغير كتابة، هو هذا الميثاق الذي يفهم من وراء الجدران والأوراق.
شرشل بك
والمعلوم أن السير ونستون شرشل ينتمي إلى أسرة الدوق (مارلبرو)، وأن اسم شرشل أضيف إلى أعلام الأسرة بعد موت الدوق مارلبرو بغير عقب مباشر، ولكن المجهول أن سلفا من أصحاب هذا الاسم أقام زمنا في الشرق وتزوج منه وزوج بناته فيه، وأنعم عليه بلقب البكوية منذ مائة سنة، إن صح الخبر الذي قرأناه في مذكرات الدكتور شاكر بك الخوري، طبعت سنة 1908 بمطبعة الاجتهاد في بيروت.
يقول الدكتور من الصفحة ال (456)، بعد رثائه للشاب فؤاد ابن الأمير سليم شهاب من السيدة جلنار ابنة شرشل بك الإنجليزي:
شرشل هو من أعرق الأسر الإنجليزية شرفا، ولم تزل أسرته من اللوردات في إنجلترا، حضر إلى سوريا مأمورا عسكريا سنة 1846، وبقي فيها ولم يرجع إلى إنجلترا، وتزوج من النساء الشرقيات، وهو سياسي محنك خبير، رزق ابنتان وغلام (هكذا) سماه ونستن عرفته جيدا، وتزوجت بنتاه؛ الواحدة بالأمير شهاب، والثانية بالأمير سليم منصور شهاب والدة فؤاد، وكان لشرشل بك أخت في إنجلترا، أوصت بقسم من أملاكها أو قيمة أربعة آلاف ليرا إنجليزية لأولاد أخيها من زوجتها خانم، وبعد وفاتها دخلوا بالدعاوي، وأخيرا اقتسموا المال حسب الوصية، ونالت زوجة الأمير عبد الله حصتها من الإرث، أما ولده فتزوج فتاة إفرنسية أتى بها إلى سوريا، ثم انفصل عنها وتوجهت لبلادها، غير أنه تبعها أخيرا ولا أعلم ماذا صار به بعد ذلك، إنما بلغه أنه توفي بلا عقب.
أما الشاب الذي رثاه الطبيب الشاعر، فقد قال عنه في مذكراته قبل ذلك إنه: هو فؤاد بن سليم منصور الشهابي، كان شابا وحيدا بلغ السابعة عشر وتعلم بمدرسة الآباء اليسوعيين، فمرض بداء الجنب وتوفي وله سبع شقيقات، هو وحيد بينهن، وقد حزن لفقده كل من عرفه، وقد نظموا له عدة «مراث» وكنت من جملة من رثوه. أما والدته، فهي ابنة شرشل بك الإنجليزي الذي كان قائمقاما في الجند الإنجليزية، وهو من أسرة عريقة في الشرف لم تزل إلى اليوم.
فها هنا اسم «شرشل» واسم «ونستون» ولقب اللوردية والعمل في الجندية، فمن يكون هذا الضيف الشرقي أو المستشرق من تلك الأسرة التي لا تذكره ولا تذكر الشرق كله بخير؟
إن صاحب المذكرات الدكتور شاكر بك الخوري قد يدعوك على الابتسام بأسلوبه الكتابي وغرائب عصره، ولكنه كان ولا شك من ذوي الاتصال الوثيق بتاريخ الأسر الشرقية، وكان من الطلاب اللبنانيين القلائل الذين سمح لهم بحضور الدروس الطبية في مدرسة القصر العيني برعاية الخديو إسماعيل، ولما حضرت السيدة حسن جهان قرينة الأمير بشير قاسم الشهابي إلى مصر، كان هو الطبيب الذي اختاره الأمير لمعالجتها والعناية بها، ثم ندب للسفر معها عند عودتها، ثم وقع عليه الاختيار لمصاحبة أسرة روزفلت في رحلتها النيلية منذ نحو خمسين سنة، وعلى رأسها السيدة روزفلت الأم ومعها ولداها: كرنيليوس، وفرنكلين الذي تولى الرئاسة وتوفي منذ بضع سنوات.
فإذا كتب رجل كهذا خبرا عن أسرة شرشل وعلاقتها بالأسر الشرقية، فهي كتابة مطلع يعلم ما يقول، وأبعد ما يكون عن احتمال أن تكون القصة كلها من قصص المشابهة في الأسماء؛ لأن أسر النبلاء الإنجليز لم يتكرر فيها اسم أسرة شرشل واسم ونستون على الخصوص.
فمن يكون شرشل بك هذا من أسلاف السير وأبناء الدوق؟ ومن في لبنان اليوم من ذرية بناته أو من ذريته هو بعد زواجه من إحدى السيدات اللبنانيات؟ وكيف يكون الاتصال بين شرشل اللبناني وشرشل الإنجليزي إذا تعارفا اليوم معرفة الأقارب والأصهار.
إن وجد في لبنان من يذكر هذا النسب، فخير ما تصنعه لبنان أن تجنده لمفاوضة قريبه نصير الصهيونية في مشكلة إسرائيل، أو تجنده لإقناعه بحق الشرف وحق بنيه، ومنهم عمومة له وأخوال!
طرائف التاريخ القريب
على أن الدكتور شاكر الخوري جدير - بحقه الشخصي - أن يذكر في سياق التاريخ وفي سياق اللغة وفي سياق الفكاهة، فإنه على أسلوبه المضحك يحسن الفكاهة ويقبلها إذا أصابته، وقد أصابه منها الكثير وضجر منه، ولكنه أحاله على الطبيعة المصرية التي لا تعذر أحدا وقع في طريق القافية.
الحمار صاحب السعادة
ومن فكاهته أن الطبيب الكبير «محمد علي البقلي باشا» كان يلقي درسه المشهور، وكان من هيبته يخيف الطلاب فلا ينبس أحدهم بكلمة في حصته، ويخيف الموظفين بالمستشفى فيمنعون كل ضوضاء فيه ومن حوله، ولكنهم في ذلك اليوم سمعوا ضجة عالية يتخللها نهيق حمير وصياح أناس هنا وهناك، فنظر الدكتور البقلي إلى طالب سوري اسمه بشارة وأمره أن يتعرف جلية الخبر، فجاءه بعد لحظة بخبر عن حمار الباشا، لم يدر كيف يلقبه وكيف يتكلم عنه وهو - في عرف الطالب - حمار لا يمكن أن يشبه الحمير.
قال: «إن سعادة حمارك عندما رأى دابة مصطفى أفندي ابتدأ بالنهيق.»
ونظر الباشا إلى صاحبنا يقول له سائلا: يا شاكر! هل تمنحون الرتب والألقاب في بلادكم لحميركم؟
قال شاكر: نعم يا سيدي؛ ولذلك نقول لبشارة: يا بشارة أفندي .
العامية من جيل إلى جيل
أما فكاهة صاحبنا على الرغم منه، فهي فكاهة الأسلوب العامي أو المفردات العامية «كما تتطور» من جيل إلى جيل ومن بلد إلى بلد.
أراد أن يصف مستشفى قصر العيني كما وجده عند دخوله، فقال: «كان يسع لحد ألف فرشة، وتدخله جميع المرضى من جهادية وملكية.»
يعني «ألف سرير».
وأراد أن يذكر الطلبة وأدواتهم، فقال: «كان عدد التلامذة لحد مايتين للطب والصيدلة، وكان لبسهم لبس ضباط عسكريين، وكلهم كل سنة طقم جوخ وآخر كتان، وكل ما يلزم من الطربوش إلى السرماية!»
ولم يكن بالمدرسة ثلاجة، ولم يكن الحصول على الماء البارد ميسورا بغير تبريده في «القلل» القنائية، قال: «وكنت في بعض الأحيان أستيقظ من النوم وأطلب الماء فأجد قلتي فارغة، ففي ذات يوم خطر لي أن أضع في الماء قليلا من الطرطير المقيء، الذي يسبب القيء ولا يضر ...»
وبقية القصة مفهومة لا لزوم لشرحها في شهر رمضان!
التشريح القاتل
أما التطور في التفكير والفهم، على العموم، فيكفي في بيانه فرق النظر بين تشريح الجثث بين أمس واليوم، فقد روى الطالب أن أحد التلامذة يوما ما، قدم عريضة إلى كلوت بك وهجم عليه بينما كان يقرؤها وضربه بالخنجر على رأسه فأخطأه، ثم رجع وضربه في صدره فتلقاه في زنده، وأخيرا مسكوا هذا الخائن، وذلك بسبب التشريح.
قال: «إن معلم التشريح في ذلك الوقت كان رجلا نمساويا، فمات أحد الخصيان من دائرة أحمد باشا في الاسبتالية، فأشهروا الخبر أن المعلم شرحه، فابتدروا يترصدون معلم التشريح لأجل إلحاق الضرر به، ففي ذات يوم وهو راجع ليلا إلى منزله مار بقرب السرايا، وجده اثنان من الخصيان فسألاه إذا كان يعرف معلم التشريح الذي شرح رفيقهما، فأجابهما: نعم أعرفه، ماذا تريدان منه؟! فقالا: إنه شرح رفيقنا، مرادنا أن نشرحه مثله. فقال: اتبعاني وأنا أدلكما عليه. فمشى إلى أن وصلا إلى داره، فدخلها وعرف اسمهما وقفل الباب وراءه، وفي اليوم التالي أخبر عنهما فعوقبا.»
ثم عقب صاحب المذكرات على الخبر قائلا: «وكذلك كان المصبرون زمن الفراعنة عند المصريين مكروهين، وكانوا يرجمونهم بالحجارة ويخلصون من القتل بصعوبة، مع أنها عملية دينية.»
لا شهادة للمصريين
ومن أطوار الزمن أن شهادة الطب كانت تسلم إلى الطلاب الشرقيين إذا أتموا دراستهم، ولا شهادة للطلاب المصريين!
قال صاحب المذكرات: «وبعد الامتحان النهائي - أي بعد درس ست سنوات - تعطى الشهادة إلى تلامذة الشوام فقط ولا تعطى للمصريين؛ لأن هؤلاء يبقون في المدرسة بعد آخر فحص فتخبر عنهم عمدة المدرسة مجلس الصحة، وهذا يعينهم بالمأموريات اللائقة بهم ولو لم تكن بيدهم الشهادة؛ وذلك لأجل حصرهم في مصر بحيث لا يمكنهم مغادرتها؛ لأن الحكومة علمتهم مثل عسكرية، فلو هرب أحدهم إلى البلاد الغربية لا تمكنه المعيشة بلا شهادة.»
وهذا نص «شهادة الشوام»، على حد تعبير الطالب النجيب الذي نقلها بحرفها وهي كما يلي:
حمدا لمن أعاد لمصر رونقها الأول بهمة عالي الهمة، الألمعي النبيه، من اقتدى في نشر المعارف والمنافع بجده وأبيه، أفندينا ولي النعم ذي الفضل الجزيل، خديو مصر وعزيزها؛ إسماعيل، حفظه الله وأبقاه، وأدام توفيقه وشكر مسعاه؛ فإنه جدد فيها أنواع المدارس، وأحيا كل علم رميم ودارس، فمن جملة هذه المدارس الجزيلة وأعظمها نفعا، المدرسة الطبية التي أشرق في المشرق نورها حتى اهتدى بها كل قاص ودان، وأتاها القاصدون من أقاصي الأقطار والبلدان، وكان ممن سعى إلى هذه المدرسة المنيفة رغبة في تعلم صنعة الطب الشريفة، الفطن اللوزعي الأديب والشاب النبيل ؛ شاكر أفندي الخوري ابن يوسف أفندي الخوري، أحد أعضاء المجلس الكبير في جبل لبنان ...
ويلي ما تقدم بيان مفصل للدروس التي حضرها، وأسماء الأساتذة الذين حضر عليهم وتوقيعاتهم واحدا واحدا شهودا بصحة ما جاء فيها من ذلك البيان، ثم يلي توقيعاتهم إقرار من «رئيس مجلس عموم صحة مصرية» يقول فيه:
نظرت هذه الشهادة الممهورة بأختام حضرات خوجات المدرسة الطبية بمجلس عموم الصحة المصرية، مصدقا عليها من سعادة ناظر ديوان المدارس والأوقاف، ولأجل اعتمادها بمحل اللزوم لزم الشرح منا.
تاريخان
هذه المذكرات وما جرى مجراها تدخل في باب التاريخ «غير المقصود»، وهو في اعتماد الكثيرين أصدق وأولى بالثقة من التاريخ المقصود؛ لأن الفائدة منه منزهة عن التوجيه المدبر والأهواء التي تصطبغ بها أحكام المؤرخين، ولو أن صاحب المذكرات تعمد أن يكتب فصولا في تطور الأفكار والعادات وقضية اللغة الفصحى واللغة العامية وعلاقات الأسر التاريخية؛ لما استطاع أن يعطينا من الحقائق ما نأخذه من سطوره ومن بين سطوره على السواء.
والعبرة البينة في أسلوب الكتابة أن لغة العلم والثقافة تتشتت وتتشعب إلى عدة لغات، على حسب اللهجات والأزمنة ومبلغ المعرفة عند كتابها، لو لم تكن هناك لغة فصحى تعتمد في الكتابة العلمية والثقافية وتتخطى قيود البيئة المحدودة والزمن الموقوت، ولهذا يصح أن يقال إن الكتابة باللغة الفصحى تفهم الآن خيرا من الكتابة بلغة العصر الحاضر في قرية من القرى، ولو كانت اللغة الفصحى لغة الجاهلية قبل بضعة عشر قرنا أو نحوها؛ لأن غاية ما نجهله منها كلمة تفسرها المعجمات، أما لهجات القرى فتنحصر في حدود كل قرية وليست لها معجمات، ولا يتأتى أن توضع لها معجمات تحفظها جميع القرى للمراجعة والاستشهاد.
وحبذا لو حفظ في متاحف اللغة أثر من آثار اللهجات العامية جيلا بعد جيل؛ لتذكير الباحثين في اللغة بهذه الحقيقة كلما تعرضت للنسيان.
أين مذكرات سعد؟
وبين النظر في مذكرات الساسة ومذكرات الرحالين والسياح، يخطر لنا أن نسأل: هل قضي بالكتمان على أهم المذكرات الوطنية والسياسية التي كتبت في مصر في العصر الحاضر، وهي مذكرات سعد زغلول؟
لا نحسب أن سببا من الأسباب التي نظر إليها سعد عند كتابة مذكراته قد بقي الآن حائلا دون نشرها والاستفادة التاريخية منها؛ فقد ذهب الملك فؤاد وذهب وزراؤه من نظراء سعد ومنافسيه، وامتنعت العوائق التي كانت تقف في طريق ناشرها مهما يكن من حسن نيته أو سوئها، وليس في هذه العوائق بطبيعة الحال أن تشتمل المذكرات على آراء لا توافق مصالح النحاس، فإن سعدا لم يعلم أنها ستئول إلى يديه ولم يقيد نشرها بقيد من هذا القبيل.
فلماذا تطوى هذه المذكرات ؟ وإلى متى تظل مطوية عن أعين التاريخ وأعين المتطلعين إلى حقائقه وخفاياه.
لعله قد آن الأوان.
سحر الشرق1
لقيني الزميل الصحفي المتفنن الأستاذ حبيب جاماتي فابتدرني قائلا: ابن حلال والله، لقد تركت الساعة على مكتبي خطابا أعددته لإرساله إليك، وضمنته بعض المعلومات عن شرشل بك الذي ذكرته في إحدى مقالاتك، ثم خرجت قبل أن أتم الخطاب على نية العودة إلى إتمامه وإرساله، فالحمد لله أنني لقيتك لأحدثك بما كنت أنوي أن أرسله إليك، مكتوبا في موضوع هذا الرجل.
ثم قال الأستاذ جاماتي: إن الرجل قريب حميم لرئيس الوزارة البريطانية كما قدرت، وله ذرية في لبنان ومعارف وأصحاب، وهم يذكرونه باسم شرشر بك ... فقد عربوا اسمه كما عربوا كثيرا من أخباره وأطواره، وهو من الشخصيات التي تحيط بها الأخبار والذكريات.
وفي ذلك اليوم نفسه وصل إلى دار «أخبار اليوم» كتاب من المؤرخ اللبناني المعروف الأستاذ صموئيل عطية، تفضل فيه ببيان موجز عن شرشل بك اللبناني وسبب مقامه في لبنان وانقطاعه فيه عن أسرته الإنجليزية.
قال الأستاذ عطية: «إن إنجلترا أرسلت في أوائل القرن التاسع عشر أسطولها إلى المياه السورية لمساعدة الدولة العلية، ووقف الزحف الذي قامت به جيوش إبراهيم باشا، وأن الأسطول ألقى مراسيه بميناء بيروت؛ لكي يخير الأمير بشير الشهابي حليف إبراهيم باشا بين استسلامه لأميرال الأسطول أو نفيه إلى الآستانة، وكان على ظهر البارجة التي تقل الأميرال بعثة إنجليزية سياسية، أحد أعضائها الكولنل شرشل من عائلة شرشل المشهورة، ففي إحدى الحفلات التي أقيمت لتكريم هذه اللجنة تعرف الكولنل بسيدة من العائلة الشهابية، فهام بها وقرر أن يتزوجها، ولما عارضته عائلته استعفى من الجيش البريطاني غير عابئ بتهديد العائلة.»
شرشل محب للشعر العربي
ويفهم من بيان الأستاذ عطية أن شرشل بك هذا كان كاتبا مشغولا بالتاريخ، وأنه ألف كتابا أهداه إلى صديقه الدوق ولنجتون المشهور، عني فيه خاصة بعقائد الطائفة الدرزية.
بل يفهم من أخباره أنه أراد أن يحيط نفسه بالجو الشرقي كله، وهو ذلك الجو الذي يعتقد المسحورون بالشرق من الغربيين أنه لا يخلو يوما من شعر يقال في جميع المناسبات، فاشترى قرية صغيرة من قرى لبنان تقع بين بلدتي عالية وبحمدون المعروفتين للمصطافين، وبنى فيها قصرا، وساعده على زراعتها كثرة الينابيع، ولا تزال على جسر بناه فوق أحد الأفنية لوحة رخامية منقوش عليها ما يأتي:
لقد أنشاه شرشل بك جسرا
تمر الناس فيه بالأمان
شرى هذا المكان وكان أرضا
معطلة فصار من الجنان
شريف قد تسلسل من شريف
وزير الإنجليز عظيم شان
نسيب مؤيد جنرال حرب
بمارلبروك يدعى في الزمان
والقرية اسمها «بحواره»، يملكها الآن المليونير اللبناني جورج شقير، ويزرع بها أجود التفاح والكمثرى والخوخ، وإلى بضع سنوات مضت كانت مباني قصر شرشل بها لا تزال قائمة.
ويقول الأستاذ عطية: إن أسرة شرشل بك قاطعته مقاطعة تامة، ولكن عمته عادت فاعترفت بابنه الذي كان يحمل اسم ونستون شرشل، وهو اللقب أو الاسم الذي يتخذه أفراد الأسرة، وكان الاعتراف بالابن بعد وفاة والده.
الحمد لله
ونحن نشكر للأستاذ عطية بيانه الوافي عن شرشل بك، ونحمد الله على تبدل الزمن وتبدل العلل والمعاذير التي يلجأ إليها الاستعمار لبسط يده على الأماكن التي يتطلع إليها، فلو تقدم الزمن قليلا بشرشل بك هذا، لاستطاعت بريطانيا العظمى أن تقيم دعواها على القرية وما حولها؛ لأنها تضم رفات رجل من رعاياها وسليل بيت من أقدم بيوتاتها، ولكانت حماية الرفات ورعاية الذرية «الإنجليزية» سببا صالحا لرفع «اليونيون جاك» على الجسر أو على اللوحة التي فيها اسم «وزير الإنجليز عظيم شان».
أما والدنيا قد تبدلت بعض الشيء، وتبدلت معها دعاوي المستعمرين ودعاوي الشعوب، فقصارى الأمر في سليل «مارلبروك» هذا أنه واحد من مساحير الشرق بين مشاهير الغربيين، وليس الذين عرفوا في لبنان من هؤلاء المساحير بالقليل، وفي مقدمتهم سيدة تنتمي إلى بيتين يضارعان بيت مارلبرو في النسب والمكانة؛ وهما بيت شاتام وبيت ستانهوب.
فتش عن الحب
هذه السيدة هي اللادي هستر ستانهوب، التي أصبحت في الأدب الغربي أسطورة مشهورة منذ كانت بقيد الحياة قبل أكثر من مائة سنة.
هجرت بلادها وعولت على الإقامة في الشرق بقية حياتها، فحجت إلى بيت المقدس واختارت لها مكانا بجوار صيدا بين عشائر الدروز، أقامت فيه من سنة 1813 إلى أن أدركتها الوفاة بعد ست وعشرين سنة وهي تناهز الثالثة والستين.
أما سر هذه الهجرة فهو «هوسة حب» قلبت بهوسة دين؛ فقد كانت تحب السير جون مور فمات فيئست من الدنيا، واعتزمت أن تتبتل بعيدا عن كل ما يذكرها بهواها، ثم تطور معها شعور الحب المفقود إلى شعور الزهد والأمل في البعث القريب، فداخلها الاعتقاد أن السيد المسيح سيعود إلى الدنيا وهي قريبة من بيت المقدس، وهيأت لاستقباله مطية يركبها لتمشي هي في ركابه، وغيرت زيها الأوربي فعاشت بقية حياتها في الملابس الشرقية، ولا سيما ملابس البدو من الرجال!
وكانت لا تبالي الخطر ولا تخاف البادية، فلما اعتزمت أن تزور هياكل بعلبك - وفيها ذكريات عشتروت ربة الحب - حذرها النصحاء وخوفوها من أبناء الصحراء، فضربت بتحذيرهم عرض الحائط ولم تندم على هذه المجازفة؛ لأنها ذهبت وعادت في أمان برعاية زعماء البدو، الذين رحبوا بها واستقبلوها بين عمدان الهيكل بموكب من أجمل الفتيات البدويات، يرقصن ويهزجن وينشدن لها الأناشيد، وأنزلوا أجملهن من قوس النصر متدلية على حبل مضفور بالأزهار لتضع على رأسها إكليل الحفاوة والإكرام، وقد سرها المقام بين أبناء البادية وبناتها، فنصبت خيامها في جوار المعبد نحو أسبوع.
قال العلامة جوليان هكسلي، وقد عبر بصومعتها في رحلة الأونيسكو التي تولى رياستها: «أي شريط سينمائي كان خليقا أن يؤخذ من هذا المنظر.» وقد طافت به ذكرى هذه الناسكة «العشتروتية» وهو يتأمل هياكل تدمر، وطافت به ذكراها وهو يصعد من صيدا إلى قصر المختارة، حيث احتفى به وبزملائه زعيم شاب من الدروز من بيت جنبلاط.
حرب الجان في السويس
وظهرت في اللغة الإنجليزية كتب شتى عن هذه الأميرة الناسكة، منها كتاب ألفته السيدة حصلب اللبنانية، وكتاب ألفته النبيلة الإنجليزية الدوقة كليفلاند، ومنها فصل مسهب في كتاب السائح كنجليك «في مطلع الفجر»، أجاد فيه تمثيلها ومحاكاة أحاديثها التي دار معظمها على نابليون وإبراهيم باشا وبيرون ولامرتين، وكان هؤلاء جميعا هدف السخرية والفكاهة عن السيدة البارعة في المحاكاة، ولكن السر الخطير الذي كشفت عنه الناسكة الساحرة، إنما يدور على كنوز السويس المخبوءة ومعارك الحرب التي احتدمت حولها بين حراس السجن ونابليون تارة، وإبراهيم باشا تارة أخرى، ونقل المؤلف هذه الأحاديث في كتاب ألفه سنة 1835 وطبعه بعد ذلك بسنوات، وهذه شذرات منه عن عرق الذهب الذي يستولي صاحبه على ما شاء من الذخائر والكنوز.
قال فيما نقله عنها: «إن نابليون دس ذراعه في الكهف فيبست، ولكنه لم يرتعب ولم ينهزم، بل أمر جنوده بإطلاق المدافع فانطلقت على غير جدوى؛ إذ ماذا تجدي المدافع في حرب الجان؟! ثم جاء إبراهيم باشا بعد سنين بمدافعه الثقيلة وطلاسمه الخبيئة؛ لأنه كان من العارفين بالسحر وأسرار العزائم والتعاويذ، وكان محجبا محروسا من فعل الرصاص والقذائف النارية ينفضها من كسوته بعد انتهاء المعركة فتسقط كالتراب، ولكنه لم يفلح في استخلاص الودائع من حراسها وأرصادها.»
وقص كنجليك كثيرا من نبوءاتها عن الحروب العالمية فقال: «أنذرتنى النبية أننا مقبلون على أهوال وقلاقل تذهب بكل قيمة للأرض وما عليها، وأن الذين يعيشون في الشرق هم الجديرون وحدهم أن ينعموا بعظمة الحياة الجديدة، ونصحت لي أن أعمد في متسع من الوقت إلى التخلص من كل ما أملك في إنجلترا الهزيلة المسكينة، وأن أتخذ لي ملاذا في الأرض الآسيوية، ثم أشارت علي بأن أعود إلى سورية بعد ذهابي إلى مصر، فابتسمت بيني وبين نفسي؛ لأنني كنت على نية عقدتها وأبرمتها وفرغت منها؛ إذ قررت بعد زيارة الأهرام أن أستقل الباخرة من الإسكندرية إلى بلاد اليونان، إلا أن الإنسان يجاهد القدر عبثا، ويمضي في التدبير والله في التقدير؛ فإن النبية التي لم أصدقها كانت على صواب في نصيحتها، وكان الطاعون يهددني في معتقل الحجر الصحي لو أبحرت من الإسكندرية، فاضطررت إلى تغيير طريقي ولبثت بمصر برهة، ثم رجعت من طريق الصحراء مرة أخرى وعدت إلى جبال لبنان كما أنذرتني النبية من قبل.»
وانتقل كنجليك من حديث الكوارث العالمية وحرب الجان والسحرة، إلى آراء الناسكة النبية في العقائد والمذاهب والأديان، فقال: «إن اللادي هستر تحدثت إلي طويلا في مسائل الديانة فقالت لي إن المسيح سيأتي بعد، وحاولت أن تكشف عن سخف الأوربيين في آرائهم الدينية وعما لديها من أسرار العظمة الروحية.»
وهنا تطرقت إلى سيرة اللورد بيرون الشاعر الإنجليزي وإلى سيرة الكونت لامرتين الشاعر الفرنسي - وكلاهما من رواد الشرق كما سيأتي - فراحت تحاكي اللورد بيرون وهو يرطن بالرومية ويظن أنه قد فهمها الفهم الكافي لإصدار الأوامر بها إلى مخدومه اليوناني، وراحت تحاكي النبيل الفرنسي الشاعر وهو يبالغ في الأناقة والكياسة، ويحاول أن ينسى أسلوب أبناء قومه في كثرة الإشارات والإيماءات أثناء الحديث، فكان إلى ظرفاء الإنجليز أقرب منه إلى نبلاء الفرنسيين.
وتركها الأديب السائح وهو يخفي ابتسامته ويكتب عنها في حذر شديد؛ لأن أمه كانت من حاشية أسرتها الكبيرة في بلادها، ولم يشأ أن يقول إنها كانت مسحورة بالشرق، فلعله هو أيضا في زمرة المسحورين.
لامرتين
وأشهر من هذين بين مساحير الشرق في القرن التاسع عشر كما تقدم «ألفونس لامرتين»؛ مؤلف قصة روفائيل، التي ترجمها الأستاذ الزيات وترجمها قبله الأستاذ نجيب الحداد باسم «غصن البان في رياض الجنان»، على عادة الأدباء يومئذ في تسجيع العناوين.
كان لامرتين يهيم بمحاكاة بيرون في رحلاته ومغامراته، وقد رحل بيرون إلى بلاد اليونان واشترك في حرب استقلالها ومات بالحمى على أرضها، ولم يبق للشاعر الفرنسي دور يتصل بتراث اليونان، فليكن له إذن دور يتصل بتراث الأرض المقدسة، ومن هنا نجمت الفكرة في سياحته الشرقية، وأسفرت عن رحلة الشرق البليغة التي تحسب من آيات الوصف الشعري في كتب السياحات.
وأوشك لامرتين أن يقيم في الشرق ويقطع الصلة بينه وبين الغرب لولا أن تحولت الأحوال في وطنه، فآثر الرجعة إليه مزودا بسخرية اللادي ستانهوب!
ومنذ رحلته إلى لبنان سنة 1832 أصبح الكلام عن لبنان والاشتهار بالاطلاع على قضيته مما يروقه ويرضي غروره، فلما أثارت الدول مسألة الشرق الأدنى وتقسيم تركة الرجل المريض - أي الدولة العثمانية - شعر الفرنسيون بهزيمتهم في المضمار أمام المناورات الإنجليزية، وراحوا في برلمانهم ينحون على حكومتهم، وفي طليعتهم لامرتين الذي كان - مع شهرته بالشعر - من خطباء البرلمان المعدودين.
وقد حفظت له خطبة مشهورة في صيف سنة 1846، حمل فيها على الوزارة ولم يتورط فيها مع الساسة في استغلال تهمة التعصب الديني أو في اتخاذ جانب المسيحيين أو الدروز، بل رجع بالحوادث إلى دسائس الدول وقال إن الفريقين متحدون، وكانوا على وفاق ومودة في ظل الأمير بشير الشهابي الكبير، وأن هذا الأمير لم يخطئ في غير شيء واحد؛ وهو جنوحه إلى إبراهيم بن محمد علي، فغضبت عليه حكومة الباب العالي من جراء ذلك، وجاءت الدول بعد جلاء إبراهيم باشا عن سورية فأسقطت هيبة الأمير بشير.
وكان في تلك الخطبة معارضا لسياسة فرنسا في القطر المصري؛ لأنها صرفت همها إلى تأييد محمد علي، وكان من واجبها أن تؤثر بالعناية أناسا من عقيدتها استظلوا بحمايتها منذ أجيال متقادمة وأحسوا باهتمامها من أيام لويس القديس إلى أيام لويس الرابع عشر.
وقد كان لامرتين يعني بذلك أن «الحكومة الملكية» عرفت واجبها قبل الثورة الفرنسية؛ لأنه كان ملكيا، وكانت أسرته كلها ملكية؛ مما عرض أباه للسجن في أيام الثورة وعرضه هو للهجرة من بلاده، وأعجب أطواره في الأدوار السياسية المسرحية أنه بعد كل هذا رشح نفسه لرئاسة الجمهورية، فلم يظفر بأصوات تذكر في معركة الرئاسة .
إلا أن الكلمة التي تذكر له في تلك الخطبة هي قولته المشهورة: «إن الدول تزعم أنها تريد أن تخلق من جبال لبنان سويسرة أخرى في الشرق، فاحذروا أيها السادة أن تجعلوها بولونيا أخرى.»
يريد أن يقول إن مطامع الدول قد تجني على أبناء لبنان، كما جنت على البولونيين فمزقت بلادهم بين آل رومانوف وآل هابسبرج وآل هوهنزلرت، وقد كانوا يحسبون أنهم من حماية فرنسا الأدبية في حرز أمين.
ورينان
وقد كان رينان كذلك من مساحير هذا الشرق المظلوم، وكان سحر الشرق عليه شديدا قاسيا؛ لأنه جرده من مسوح الكهان ومن نعمة الإيمان، إن صح ما رماه به أقطاب ذلك الزمان.
مات أبواه وتكفلت به أخته هنرييت، واشتغلت بالتعليم لتنفق على تعليمه في مدارس اللاهوت.
ولكنه جنح في دراسة اللغات السامية ليطلع على الكتب المقدسة في أصولها العبرية والعربية، فقاده الاطلاع إلى الشك، وقاده الشك إلى المجاهرة بآرائه التي أنكرها رجال الدين في زمانه، وأوشكت مسألته أن توقع في القصر الإمبراطوري مشكلة بيتية بين نابليون الثالث وزوجته أوجيني، فإنها كانت تناصر رجال الدين في حربهم للفيلسوف المارق، وكان هو يناصر رينان ويود لو أقامه في كرسي من كراسي الأستاذية بالكوليج دي فرانس.
غير أن الإمبراطور لم يشأ أن يستهدف لسخط المتدينين من جراء فلسفة رينان، فأقصاه عن فرنسا في بعثة علمية إلى سان، واغتبط رينان بهذا الإقصاء؛ لأنه كان مشوقا إلى دراسة اللغات الفينيقية والآرامية بين آثارها في بلادها، وكان يسره أن يطوف بين قرى لبنان ويسمع أسماءها التي تحمل أصولها العريقة، وتدل بالباء على بيت، وبالعين على عين، وبالرش على رأس، وتعيد إلى بحمدون ذكرى بيت حمدون، ورشيمة ذكرى رأس الماء، وعمشيت ذكرى عين شيت، فضلا عن التين والزيتون فيها، وهما من أقسام القرآن الكريم.
وابتلي في لبنان بلية أخرى لم تكن له في حساب؛ لأن صحبة أخته الدائمة أثارت غيرة زوجته، فانقضت عليهما هنيهة ثم عادت مغضبة مستريبة، وأضافت بحماقتها مصيبة أخرى من المصائب التي جرتها عليه حماقات الناس ، وحماقته هو في بعض السهوات والبدوات.
لقد كانت هنرييت في سنها تكاد أن تحسب أما له كما كانت أما له بالتربية والتثقيف، وكانت تعاونه في الكتابة وتصحح له الأخطاء، وتجتهد اجتهادها في تنقية أسلوبه من مسحة فولتير وأقرانه المتهكمين المستخفين، ومن رآها ظن أنها أكبر من سنها بعشر سنين، لشدة ما أصابها من شقاء العيش وهي تسعى لرزقين، وتترحل بين فرنسا وبولونيا وبين بولونيا وبرلين لتجمع من مرتب المربية الخاصة رزقا تعين به التلميذ المطرود والأستاذ المحروم.
ولكنها الغيرة وسخافتها لا تعرف الحكمة فلا تستريح ولا تريح، وقد أصيبت هنرييت بالحمى وماتت بها في لبنان، وحار الأطباء في توصيف تلك الحمى وتسميتها بأسماء الأمراض البدنية، ولكنها ولا ريب تحمل في طيها جرثومة من جراثيم الفكر مع أدواء الأجسام.
ومن فجائع هذه المحنة أن العدوى سرت إلى رينان، فأفاق من غيبوبته ساعة وسأل عن الشقيقة التي ظن أنها تتماثل للشفاء، قبل أن يغيب عن وعيه، فعلم أنها فارقت الحياة.
بعد خمسين سنة
وبعد خمسين سنة زار أمين الريحاني ضريح هنرييت، واستعاد ذكرياته يوم زاره قبل ذلك بخمس وعشرين سنة فقال:
إنني أنقل من مذكراتي في تلك الأيام، وأترجم من مقال لي باللغة الإنجليزية كتبته إلى مجلة بوكمان النيويوركية.
منذ ربع قرن؛ أي يوم حججنا، كان أهل عمشيت يعجبون لمن يجيء بلدتهم سائلا عن ضريح هنرييت رينان شقيقة ذلك الفرنسي الكافر، وقد اجتمعنا يومئذ بكاهن يسكن البيت الذي أقام فيه رينان وتوفيت فيه هنرييت، وكتب فيه قسما من حياة يسوع، فقلنا لأول وهلة إنه ولا شك حر شجاع، وإنه لا يأبه بالذكريات.
وقد قيل لنا إنه متخرج من الجامعة الشهيرة التي درس رينان نفسه فيها من سان سلبيس بباريس، وإنه كاهن عصري؛ أي مهذب حر الفكر والضمير كما يراد من اللفظ في تلك الأيام.
ولكنه على عصريته وعلى ما في بيئته، كان يدعو رينان كافرا، ولا يخفي احتقاره حتى للزائرين المعجبين به، وكأنه تخصص في دروسه اللاهوتية بعلم المقاصد والنيات.
وقال ذلك المحترم إن أحد أغنياء اليهود استخدم رينان لكتابة كتابه الذي لا يستحسنه غير اليهود أنفسهم والكفار من المسيحيين، وقال كذلك إن شقيقة رينان التي كانت تلبس لبس الراهبات وتزور الكنيسة مع أهل القرية ساعدته على تأليف ذلك الكتاب، فهي وإياه في الكفر سواء.
والبلية الكبرى على ضحايا الفكر أن رينان منهم عند اليهود؛ لأنه قال عن أنبياء الساميين ما لا يرضاه يهودي من المؤمنين ولا من الكفار.
سرك يا جمال الدين
فماذا نقول؟ أنقول إنه سر جمال الدين الذي رماه بالكفر فلاحقته تهمة الكفر في الحياة وبعد الموت، ولم يسلم منها في وطنه ولا في الشرق الذي استدرجه بسحره ولم يعرف لجمال الدين حرمته فيه؟!
لا نقول ذلك ولا يقوله جمال الدين، ولكننا نقول إن السحر أقوى من المسحورين، وإن هؤلاء المفتونين بالشرق لم يستغربوه إلا لأنهم هم أنفسهم غرباء مستغربون، وإنما يرى المرء نفسه فيما حوله كما قيل.
وقد أشرنا إلى لمحة من غرائب لامرتين الذي رشح نفسه لرئاسة الجمهورية وهو ملكي بالوراثة والفكرة والشعور، وأشرنا كذلك إلى لمحات من غرائب الأميرة الساحرة المسحورة، فإذا كانت غرائبها تلك بحاجة إلى المزيد، ففي وسعك أيها القارئ أن تزيد عليها غرائب أبيها الذي كان رساما وطباعا ومخترعا ونبيلا من الأسر البريطانية العتيقة، وجمهوريا يعلن مذهبه برئاسته لجماعة الثوريين طلاب الانقلاب في المعقل الملكي القديم!
وما كان أقوى السحر الشرقي في وجدان رينان!
وما كان أقواه في «عم» شرشل المغمور!
إنهم غرباء تسوقهم غرابتهم إلى استغراب الشرق واستغراب كل شيء ينظرون إليه في مرآة نفوسهم.
ولسنا نكره أن يوصف الشرق بالغرابة عنه هؤلاء الغرباء ...
ولكنه يستطيع أن يحتفظ بغرائبه دون أن يصبح فرجة من تهاويل الخيال، وأن يحبس في القفص من أجل ذاك.
وإلا فالمستشرق «المستغرب» هو الغريب.
وجودية أو عدمية1
كابوس يستحق نصيبه من السخرية وافيا كما تلقاه على يدي الفيلسوف صاحب الكوابيس، أو صاحب الألاعيب: براتراند رسل.
ذلك هو كابوس الوجودية التي يلغط بها فلاسفة المقاهي في الحي اللاتيني، وهم الآن يتكلمون بلغة «الإنذارات النهائية» في مناقشاتهم، أو مناوراتهم مع الخبراء الثقافيين من زمرة الشيوعيين.
ما هذا اللغط بالوجود والوجودية؟ ما لهؤلاء القوم يبدءون ويعيدون في حديث وجودهم؟ هل يريدون إثبات الوجود المشكوك فيه؟ هل هم موجودون أو معدومون يحلمون في ساحة العدم بالوجود؟
كابوس وأي كابوس!
وقد نظم الفيلسوف لهذا الكابوس نشيدا بالفرنسية قال فيه:
في صحراء شاسعة الأطراف
فراغ واسع من الرمال
ذهبت أبحث وأنقب
ذهبت أبحث عن الطريق المفقود
الطريق الذي أبحث عنه ولا أصل إليه
تتيه روحي هنا وتتيه هناك
في كل جهة من الجهات الأربع
وكلما بحثت لم أجد شيئا
في ذلك الفراغ الذي ليس له آخر
ذلك الفراغ الذي لا ينقطع
رمال، رمال، رمال
تلك الرمال الخادعة الخانقة
تلك الرمال الرتيبة المحزنة
تمتد إلى نهاية الأفق
وأسمع صوتا في النهاية
صوتا صاعقا يحلو أو حلوا يصعق
ثم يقول لي ذلك الصوت
أتحسب أنك روح ضائع
أتحسب أنك روح
أنت غلطان
أنت لست بروح
أنت لست بضائع
أنت عدم
أنت غير موجود
وهكذا طمح الفيلسوف طموحه مرة واحدة، فهو فيلسوف وروائي وشاعر، وهو موسيقي أيضا؛ لأن قصيدته هذه قابلة للإيقاع والغناء.
والكابوس في هذه القصة راكب على أنفاس «وجودي» يريد أن يثبت مذهبه.
ومذهبه أن الألم والخجل يخلقان الشعور في الضمير، ومتى خلق الشعور في الضمير فالضمير موجود وصاحبه غير معدوم.
ومن تجارب الكابوس أن يبتلى هذا الوجودي بالتعذيب في معسكرات النازية، وأن يجيعه في روسيا، وأن يدخله في الشيوعية الصينية؛ ليتهم فتاة بريئة مخلصة بتهمة الخيانة والجاسوسية، لعله يشعر بالخجل وتبكيت الضمير فيثبت لنفسه أنه موجود.
ثم يعود إلى باريس فتنعقد المجامع ترحيبا بالمجاهد العائد من ميادينه، ويدعى إلى مجمع من هذه المجامع، فيقبل وهو ينظر إلى مكان ضيف الشرف، فإذا فيه غراب! وإذا الغراب ينعب له بصوت يسمعه المؤتمر كله:
فلسفتك يا هذا ليس لها وجود
فلسفتك يا هذا عدم
إنها ليست بشيء ...
وينهض فزعا على صدى هذا النعيب فيسمع نفسه يصيح: ها أنت أخيرا تتعذب، ها أنت أخيرا موجود.
ولكنه حلم، بل كابوس، لا يذكره مدى حياته، ولا يجري ذكر الفلسفة له على لسان.
كوابيس الكبراء1
كابوس أيزنهاور
ليست الكوابيس كلها مسلطة على النفسانيين والفلاسفة المفكرين، ولكنها تتسلط كذلك على ذوي السلطان، فلا يسلم منها ستالين ولا أيزنهاور، ولا يفلت منها أصحاب الحلول وأصحاب المقترحات والمشروعات في سبيل السلام.
ويحلم الرئيس أيزنهاور فيرى في الحلم كابوس الوفاق الثنائي بين مكارثي وملنكوف.
مكارثي «يكتسح» ميدان الانتخاب بعد سنة فيرتقي إلى كرسي الرئاسة وينتقل بالسياسة الغربية من محاربته الشيوعية في روسيا إلى محاربتها في قلب الديار الأمريكية.
ولا تمضي غير فترة وجيزة حتى يتم الوفاق بين رئيس البيت البيض ورئيس الكرملين، وحتى تنقسم الكرة الأرضية شطرين بين الرئيسين.
فآسيا وأوربة الشرقية من نصيب الكرملين وملنكوف.
وأوربة الغربية وأفريقيا والقارة الجديدة من نصيب البيت الأبيض ومكارثي.
ولا يسمح لأحد في الشرق أن يشتم رأس المال أو ينكر انتساب كولمبس كله بآبائه وأجداده إلى عنصر الصقالبة.
ولا يسمح لأحد في الغرب أن يشتم الصعاليك أو ينكر انتساب بطرس الأكبر إلى الأمريكيين الأصلاء.
ويكتفى بحزب واحد في الديار الأمريكية هو الحزب الجمهوري دون غيره. ويقال في تسويغ هذا التوحيد إنه الدافع الوحيد لخطر الحرب العتيد، المقبل من قريب أو بعيد.
وتبقى مشكلة اليابان.
وليست اليابان مشكلة إلا إذا بقيت دولة قوية مسلحة، فلتجرد إذن من السلاح، ولتقسم إذن قسمين، ولتكن جزيرة «هكايدو» من حصة الروس، ولتكن بقية الجزر من حصة الأمريكيين.
ويصبح من حق كل رئيس أن يسمي خلفه ويختاره على غراره؛ فيسمي مكارثي رئيس الجمهورية من بعده، ويسمي ملنكوف أولياء عهود بعد ولي عهده، وتتعاهد الأمم ثلاثا وأربعين سنة إلى تتمة القرن العشرين، أن تصون الميثاق وتنكس الأعناق لبطلي الوفاق.
ولا يخلو الكابوس من كابوس آخر في باطنه، كابوس داخل كابوس، يخيف الخائفين فيعتصمون من الكوابيس الصغار بالكابوس الكبير.
وواحد من هذه الكوابيس الصغار كابوس لئيم، يخيل إلى البيض أن السود قد ثاروا بهم يذبحونهم في القارة السوداء ، فلا يبقى أبيض ولا أسود في القارات الخمس إلا وهو يلمس رأسه بين كتفيه.
نعوذ بالله
نعوذ بالله في الختام، نعوذ به فنحمده على السلامة والسلام.
وخير ما نشيع به الكوابيس كلمة تكشف سرها وتوضح سحرها، وإن كانت لا تدفع شرها!
والسحرة الأقدمون والسحرة المحدثون متفقون فيما تراضى به الشياطين.
والسحرة الأقدمون هم المشعوذون.
والسحرة المحدثون هم «الكهنة» النفسانيون.
وكلهم يقولون: إنك تروض الكابوس إذا عرفت اسمه، ووعيت طلسمه، وأحسنت نداءه، ولم تجهل دعواه ودعاءه.
وقد يعرف القارئ اسم الكابوس فيضحك، وقد يكون الضحك من اسم الكابوس أول علامات الشفاء وآخر علامات الداء.
إنهم يسمونه في لغات الغرب بالساحر الراكب أو العفريت الذي يدوس، ويجعلونه مرادفا لكلمة التفريخ أو واللقاح، ويحسبونه من العفاريت التي تغرم بالنساء ولا تتعرض للرجال إلا من قبيل الخطأ أو خبط عشواء.
وكانوا يسمونه فرس الليل، ويشيرون به إلى الركوب والجماح، ويضمنونه من المعاني ما يباح وما لا يباح.
ومن فخر اللغة العربية أن اسم الكابوس فيها أصح الأسماء، وأنه لا يتجاوز الواقع إلى هراء كذلك الهراء.
وقد يضحك القارئ من تفسيرات الكابوس كما يضحك من أسمائه، ومن علاقاته بضحاياه ونسائه.
فالحق أن القوم في الغرب قد أمعنوا في تفسيره، وتوسعوا في أوصافه وتعليل أسبابه وأصنافه، وبلغ في عملهم به أنهم استطاعوا توليد الكابوس بالوسائل الصناعية، وأمكنهم أن يسلطوا تيار الكهرباء على مراكز الدماغ فيخلقوا فيها الكوابيس على أشكال وألوان، والعينان مفتوحتان!
والحق أنهم سبقوا الفيلسوف صاحب الكوابيس إلى علاج أبطال القصص والروايات، ومنهم هملت الذي كان يحسب الموت كالنوم، ويخاف من الموت أن تتخلله الأحلام المزعجات.
لكنهم هزلوا من فرط الجد حتى حسبوا من أسبابه أنه نذير بالخطر المقبل، وهاتف من هواتف الغيب.
وهنا أيضا يحق للشرقي أن يفخر على القوم؛ لأنه يعلم ما يجهلونه من أسرار النوم!
فليس مع الكابوس «رؤيا صادقة»، ولا نذير صحيح من أسرار النوم في الحكمة الشرقية.
ولا يعلم الغيب إلا الله.
وأما الكوابيس فإنها من فعل الشياطين.
ونعود إلى الفيلسوف فنقول إنه لم ينس ذلك في أقاصيصه عن شيطان الضواحي.
ولكننا ننتهي الآن من كوابيسه فلا نبتدئ بشياطينه.
ونعوذ بالله.
وقد أنصف الفيلسوف الرياضي فلم يرحم الفلاسفة الرياضيين، ولم يتركهم في أمان من عهد أفلاطون إلى عهد أدنجتون.
وينام الفيلسوف الرياضي، فيحلم بالأرقام تناديه وتناجيه؛ الواحد يصيح فخورا: أنا الأول، وأنا الأصل الأصيل.
والاثنان تقاطعه فتصيح شامخة: لا زيادة ولا نماء إلا باثنين اثنين.
والثلاثة تقول: أنا عدد الربات الثلاث؛ ربات الأقدار وربات النعمة والبركة والكمال.
والأربعة تقول: أنا العدد الذي تتقابل به الأمثال وتتعادل فيه الأعدال.
والخمسة تقول: أنا اليد التي تعد وتحسب. والستة تقول إنها عدد التمام، والسبعة تقول إنها العدد المقدس في الأرض والسماء.
ثم يحاول الكابوس أن يسكتها عند العشرة، فتهجم الأحد عشر قائلة: أنا عدد الرسل الأمناء بعد يهوذا الخائن. وتهجم الاثنا عشر قائلة إنها أم الحساب عند أم الرياضة في أرض بابل. وتهجم الثلاثة عشر قائلة: حذار أن تغفلوني فألحقكم بالشؤم والنحس والبلاء.
وتنتفض الأعداد فإذا الفرديات والزوجيات رجال ونساء، أو إذا هي ذوات أجنحة تطير بباب الرياضي المسكين فيلوذ منها بالفرار، ويطلع عليه النهار.
قبلة الجزائر بين مكة وباريس1
ثورة الجزائر
ثورة الجزائر خبر اليوم الذي يملأ الصحف وتهتز به موجات الأثير.
وإن هذه الثورة لدرس رادع للمستعمرين وعبرة نافعة للمعتبرين، ورجاء صادق لليائسين.
كان المؤرخ الفرنسي ووزير الخارجية في وقت من الأوقات - جبرائيل هانوتو - يقول قبل خمسين سنة إنهم استطاعوا أن يحولوا قبلة التونسيين من مكة إلى باريس.
وجاء بعده من يقول إن التجربة نجحت في الجزائر أضعاف نجاحها في تونس؛ لأن الجزائريين دخلوا في الجنسية الفرنسية، وفتحت لهم أبواب البرلمان الفرنسي، وأصبحوا يتعلمون لغة الدولة الحاكمة قبل لغتهم العربية، ويفرض عليهم في السنوات الأولى أن يلقبوا تلك الدولة بلقب الأم الحنون.
وكنا نحن في أسوان نبصر بالعين خطأ الوزير السياسي الفيلسوف وضلاله في سياسته وعلمه وفلسفته، قبل أن نميز الخطأ من الصواب في مباحث السياسة والتاريخ.
كنا في مدرسة أسوان نتطلع إلى العمل الوطني الذي نسمع عنه كثيرا، ونتعجل الوقت الذي نضطلع فيه بشيء منه بالغا ما بلغ من القلة والضآلة، وكانت المدارس في البلدة قليلة، ومدرستها الأهلية التي أنشأها أحد فقهائها باسم المدرسة الإسلامية فقيرة إلى المساعدة والتشجيع؛ لضعف مواردها وقلة الإقبال عليها، فاتفقنا نحن فئة من تلاميذ المدرسة الأميرية على التطوع بالتدريس في فصولها التحضيرية، وكان رائدنا وسابقنا إلى هذه المهمة اللواء صالح حرب، رئيس جماعة الشبان المسلمين، فإنه توظف قبلنا، فاستطاع أن يضيف المساعدة بالمال إلى مساعدته التي كان يؤديها بالتدريس في أوقات الفراغ.
وأذهب إلى المدرسة الإسلامية ذات يوم لأداء حصتي، فأجد هناك شابا غريبا في كسوة غريبة، لم أر شبيها لها قبل ذلك؛ فقد كان يلبس كسوة التشريفة الأوربية، وعلى رأسه الطربوش المغربي، وفي إحدى يديه قفاز ويده الأخرى عارية بغير قفاز، فعرفني به صاحب المدرسة وعلمت منه أنه الأمين الخاص لنبيل فرنسي من الأسر العريقة، وأنه يصحبه في رحلاته الشرقية، وقد صحبه في هذه الرحلة الشتوية إلى أسوان.
كان الكلام بالفرنسية أيسر على هذا الشاب من الكلام بالعامية الجزائرية، فضلا عن العربية الفصحى، وكانت تربيته منذ طفولته في باريس، حيث عرف النبيل من سنوات الدراسة الباكرة، وكانت له فترة فراغ في الصباح وفترة أخرى بعد الظهر يقضيهما حيث شاء غير متقيد بصحبة النبيل، فترك الفندق وملاهيه ذلك اليوم ليبحث عن معهد إسلامي أو مدرسة إسلامية يطلع فيها على خبر من أخبار الإسلام في هذه الديار، وطفق بعد ذلك يتردد على المدرسة كل صباح، ويبذل لصاحبها ما استطاع من المعونة والإرشاد.
لم يكن هذا تصديقا فلسفيا أو تاريخيا لنبوءة هانوتو وأمثاله، ولكننا رأينا خطأ الفيلسوف المؤرخ رأي العين قبل أن نرجع إلى الفلسفة والتاريخ.
للفرنسيين مستقبل واحد في الجزائر طال بهم الزمن أو قصر.
مستقبلهم أن يعيشوا فيها جزائريين، أو يرحلوا عنها مطرودين. وأما أن تصبح الجزائر الفرنسية في حضن فرنسا - أمها الحنون - فلن يطول الرضاع أكثر من خمسين سنة!
وهذه صيحة الطفل الرضيع على أمه الحنون.
إنها لدرس للمستعمرين وعبرة للمعتبرين ورجاء لليائسين.
الممثل كين في الفلسفة الوجودية1
لو ترك «سارتر» الفلسفة وحصر جهوده في الرواية التحليلية، لما تبددت هذه الجهود في الكلام الفارغ الذي يسمونه بالوجودية، ولا شيء فيه من الفلسفة على الإطلاق، ولا مصير له غير الإهمال بعد سنوات، إن لم يكن قد دخل منذ اليوم في ظلال الإهمال.
لقد كانت المسرحية التي وضعها عن الممثل كين أو خلل العبقرية تحفة قليلة النظير في الأدب التمثيلي الحديث، ولا يستطيع المنصف أن يوازن بينها وبين تحفة إسكندر دوماس إلا حكم بالرجحان لهذه الثمرة العصرية من ثمرات التحليل والدراسات النفسية.
لا شيء من الحب في الرواية ولا في حياة العبقري أدموند كين، ولكنها الكبرياء في نفوس الجميع، وأولهم الملك جورج الرابع، الذي ظهر في رواية دوماس باسم ولي العهد حرصا على العلاقات السياسية.
ومن الواضح أن الممثل كين يزاحم الملك على معشوقته مرضاة لكبريائه.
ولكن من المستغرب أن تهيم هذه المعشوقة النبيلة بالممثل المنبوذ مرضاة لكبريائها، وهي - فيما يبدو من ظاهر الأمر - تبتذل كبرياءها بمغازلته، وتهين كرامتها بالمناوبة بينه وبين الملك وزوجها النبيل.
لكنها غرابة ظاهرة ليس إلا.
أما الواقع فهو أن الكبرياء تعمل هنا ما لم تعمله في غرام كين بالمعشوقة النبيلة؛ لأنها تشبع غرور المرأة كله حين يقال إنها تضرب الممثلاث في ميدانهن، وإنها «أنثى» قبل كل شيء.
وتبرز هذه المعاني في المساومة بين كين والمعشوقة النبيلة على مكافحة الغيرة «العلنية».
فالنبيلة تهدده باستقبال ولي العهد في مقصورتها والإقبال عليه بالمغازلة الفاضحة، التي لا بد أن يلحظها الجمهور.
ويجن جنون الممثل فيسألها عن شروطها، فلا تشرط عليه شيئا إلا أن يعانق على المسرح ممثلة غير الفتاة الجميلة «أنا دنبي».
وإن المسكين ليعلم أن المغازلة في مقصورة علنية بين المعشوقة النبيلة وولي العهد لا تكون إلا دورا من أدوار التمثيل.
ولكن هذا الذي يعنيه دون الحقيقة؛ فهو لا يرضي كبرياءه إذا كانت النبيلة تحبه في سريرتها ويرى الجمهور منها أنها تغازل ولي العهد على منظر منهم ومن صاحبها كين.
فلا كبرياء في هذا الحب المسرحي، بل هو إذلال ومجاهرة بالإذلال في غير مجاملة.
وعلى هذه الوتيرة تجري مناظر الرواية كلها، وتنكشف العواطف الإنسانية بين يدي سارتر من وراء المظاهر الفنية والطبيعية.
ويريد سارتر مع هذا أن يحسب في الفلاسفة، ولا يسره أن يخرج من عدادهم ليلحق بزمرة الروائيين.
اضحك معي أيها القارئ غير مأمور.
تاريخ المستقبل
وددت أعرض على القارئ تلك المقارنة البديعة، التي جاءت بها يراعة «ونتوورث دي ويت»
Wintworth De witt ، الفيلسوف المتخصص لدراسة أبيقور، لولا أنها مقارنة تستلزم منا تمهيدا طويلا في تصحيح أغلاط التاريخ عن «أبيقور»؛ الفيلسوف المظلوم الذي أصبح اسمه علما على «الشهوانية»، ولم يكن بين الفلاسفة من هو أبعد منه عن الشهوات.
يقارن دي ويت بين أبيقور والقديس بولس إمام المسيحية في القرن الأول بعد الميلاد، ويعزز مقارنته بالنصوص وشواهد الحياة، ويدع القارئ وهو على يقين من سخافة التاريخ وطهارة الفيلسوف المظلوم.
ولو اتسع المقال للتمهيد والتصحيح على هذه الوتيرة، لكانت هذه الأعجوبة سيدة الأعاجيب بين واردات الأدب الأخيرة، ولكنها أسلم وأوضح؛ حيث تأتي بعد تمهيدها الملائم، ومع تصحيحها المطلوب.
ونحن نستبدل بها هذه الخاتمة عن كتاب في تاريخ المستقبل، فربما كان الكذب على تاريخ المستقبل أقل كثيرا من كذب المؤرخين على الماضي البعيد، أو على الحاضر القريب.
وأشهد بعد هذا أن الكتاب الأخير عن تاريخ المستقبل جد صارم، لا يأتيه الهزل من بين يديه ولا من خلفه.
غير أننا معشر الشرقيين سنضحك منه قبل أن نطويه ضحكة الرضا، وسيضحك منه معشر الغربيين ضحك الاستخفاف، ويتمنون له التكذيب من الغد؛ لأنهم لا يملكون في أمره غير هذا الضرب من الأكاذيب.
يتحدى الكتاب مصير الإنسان، ويستند في نبوءاته إلى الإحصاء وأطوار التقدم حسب الحقائق التي يعلمونها اليوم، أو الحقائق من طراز 1954.
ويقول عنه العلامة آينشتين:
إننا خلقاء أن نشكر هاريسون براون على هذا الكتاب، الذي بحث فيه أحوال الإنسان كما تتكشف اليوم للناظر المثقف الجلي النظر.
ويشفق المؤلف على قرائه من جد العلم فيمزج فصوله بالشعر، ويخص الشعر الشرقي بقسط غير قليل، فهو يفتتح الفصل الأخير بأبيات الخيام التي يقول فيها:
آه يا حبيبي، ليتنا نضع أيدينا مع القدر على أداة هذه الدنيا المحزنة، فنحطمها بددا ونعيدها على هوانا نشأة أخرى.
ويختتم الفصل بأبيات تاجور التي يصف بها العالم الإنساني كما يتمناه:
وحيث العقل لا يخاف والرأس مرتفع
وحيث المعرفة طلقة من قيودها
وحيث الدنيا لم تتمزق أشتاتا ولم تنفصل بجدرانها الضيقة حول الأوطان
وحيث الكلم ينطلق من أعماق الصدق الصراح
وحيث الجهد يبسط يديه صوب الكمال
وحيث العقل جدول لم يضل سبيله إلى صحراء العادات
وحيث البصيرة تمضي بهديك إلى مجال من الفكر والعمل أوسع وأجدى ... إلى ذلك المصير ... إلى تلك السماء الحرة أيقظ أمتي يا أبتاه •••
غير أن العقدة كلها في الطريق قبل هذه النهاية
وفي الطريق يقول «المتنبئ العلمي»: إن الحضارة الصناعية ستنهار
تنهار لأنها تخلق السلاح
وتنهار لأنها تخلق النزاع بين الأمم والطبقات
وتنهار لأنها تستنفد المعادن التي لا غنى عنها لتسيير الطاقة والانتقاع بقواها
وتنهار لأنها أول هدف للمتقاتلين من المعسكرين
وتنهار لأنها تمسخ الإنسان وتصوغه في قالب الآلات والمصنوعات
هذه حضارة تنهار ولا فرار لها ولا قرار
فما الحضارة التي تخلفها مع الزمن، ويقوم عليها عمار الأرض، وتأمن عواقب الفناء؟
قال ونرجو له الصدق فيما قال:
إن الحضارة الآتية
إن الحضارة الباقية
هي الحضارة الزراعية كرة أخرى
ولا بد أن يضحك الشرقيون والغربيون راضين أو ساخرين، فقد لبثوا مائة سنة يسمعون أن الحضارات جميعا صائرة على الصناعة والتصنيع، ويعلمون أنه رأي العلم وأنها نبوءة الواقع الملموس باليدين.
وبقي اليوم بعد قول الخيام وقول تاجور بيت واحد يقوله أبو العلاء:
تقفون والفلك المحرك دائر
وتقدرون فتضحك الأقدار
من الشمال إلى اليمين1
يوميات وسنويات
قرأت في يوميات الأستاذ مصطفى أمين أن الثورة الروسية تتمخض عن ثورة أخرى في داخلها مناقضة لها في وجهتها، وأنه قرأ مقالات الصحفية العالمية مرجريت هيجنز، فاستوقفه منها أن البلاد الروسية «على أبواب تطور ضخم، وأن مالنكوف بدأ يسمح للأبناء بأن يرثوا الآباء، وأن إعلانات ضخمة في شوارع موسكو الآن تقول: ابن بيتا لك، ليملكه أولادك من بعدك. ثم هناك إعلانات ضخمة تشجع العمال على التأمين على حياتهم لمصلحة أولادهم.»
ومضى الأستاذ مصطفى في تعقيبه على مقالات الصحفية العالمية فقال: إن النظام الشيوعي «كان يسهل الطلاق، وفجأة بدأت حملة في صحف روسيا ضد الطلاق؛ تمهيدا لتقييد هذه الإباحة التي كانت تجعل الطلاق مسألة سهلة كشراء تذكرة دخول السينما.»
قال: «ومن قراءة التحقيقات الصحفية الأخيرة عن الحياة في روسيا، أشعر أن هناك ثورة في داخل الثورة، وأن الشيوعية في طريقها إلى تطور جديد.»
قديمة
وهذا في جملته خبر قديم مسبوق!
ولا ضير على الأستاذ مصطفى في هذه «التشنيعة» الصحفية؛ لأن الخبر مسبوق في الأخبار الجديدة نفسها، وقبل سنة من هذا التاريخ نشرت الأخبار الجديدة تحقيق وكيل الصحف المتحدة بعد ثلاثة أشهر قضاها في البلاد الروسية، ثم خرج منها يقول إنه وقف على أخطر تطور في روسيا للثورة البلشفية، إن في روسيا الآن ثورة تتطور في هدوء وبسرعة، وقد أم هذه الثورة الجديدة في روسيا مديرو المصانع وأساتذة الجامعة والعلماء والمهندسون وضباط الجيش ورؤساء العمال.
وإني أذكر هذا الخبر؛ لأنني عقبت عليه في حينه قائلا إن الكرة الأرضية في العام المقبل تدور يمينا، وإن خبر الوكالة الصحفية المستعجل ليس بالخبر الحديث عندنا؛ لأننا توقعناه قبل ثلاث سنوات، فقلنا في رسالتنا عن فلاسفة الحكم في العصر الحديث إن كارل ماركس مخطئ في تقديراته، وإن الصناعة الكبرى لا تؤدي إلى النتيجة التي تقعر غاية التقعر في الإنباء بها، وإنما تنشأ «طبقة غير طبقة أصحاب الأموال وغير طبقة الصناع والعمال، تشرف على أدوات الإنتاج، ولا يتأتى الاستغناء عنها في المجتمع القائم على الصناعات الكبرى، وهذه هي طبقة المديرين الفنيين، وخبراء الصناعة وما إليها.»
ومن عهد لينين
ولم يشعر زعماء الشيوعية اليوم - فقط - باستحالة تطبيق الخرافة الماركسية في عالم الواقع، بل بدءوا يشعرون بها حين بدءوا بالتطبيق، فأباحوا للفلاح في المزرعة الجامعة أن يقتني بيتا؛ يعيش فيه مع عائلته ويربي فيه دواجنه ويتركه لذويه الذين يحلون في عمل المزرعة محله، واضطر مديرو المصانع إلى مضاعفة الأجر على حسب القطعة، وزيادة الدخل السنوي على حسب المقدرة والبراعة، ثم وجدوا أن الإغراء بزيادة الأجر والدخل لا يحفز النفوس إلى مضاعفة الجهد والمثابرة ما دامت الزيادة لا تجلب لهم شيئا غير الضروريات، فأطلقوا العنان لتجارة الترف والزينة، وأصبح من معروضات الدكاكين عندهم قوارير للعطر وأكسية من الحرير والمخمل تباع بمئات الجنيهات.
الأطوار النفسية
والأطوار النفسية أهم جدا من هذه الظواهر المادية؛ لأنها جميعا تدل على إفلاس الماركسية من الداخل، وتنبئ عن أحداث المستقبل التي لا مناص منها طوعا أو كرها، وعلى هوى الدولة أو على غير هواها.
ومن هذه الأطوار إقبال الملايين على الكنائس، واستطاعة هذه الكنائس أن تجمع النفقات لترميم ما تخرب منها أثناء الحرب والثورة من تبرعات المصلين دون غيرها؛ لأن الدولة - كما هو معلوم - لا تنفق على المعابد شيئا من خزانتها، بل تنفق من الخزانة على المعاهد التي تفتحها وتديرها لمحاربة الدين.
ومن هذه الأطوار تحول الأدباء من أدب الآلات إلى أدب النفوس البشرية، وإعلانهم ذلك غير مرة في السنة الأخيرة، كما لخصناه في أخبار اليوم منذ سبعة شهور.
وأخطر من ذلك أن «العقد النفسية» التي طالما سمعنا من الماركسيين أنها مرض لا محل له في المجتمعات الشيوعية، قد أخذت تنفجر في أخلاق الجيل الجديد وعاداته على نحو لا نظير له في البلاد التي يسمونها ببلاد رأس المال.
فالخلاعة والتأنيث في ملابس الشبان والعربدة الفاضحة والولع بالمقامرة؛ قد أصبحت اليوم من موضوعات العظات الدورية في الصحف والنشرات، وقد عادت الدولة إلى السماح للآباء بالإشراف على سلوك أبنائهم وبناتهم، وتبليغ المراجع الحكومية عن الشذوذ أو التهتك الذي يلاحظونه عليهم، ومن أخبار هذه التبليغات أن أبا وجد في حقيبة بنته مجموعة من الصور الشائنة والمناظر الشاذة، فأسلمها إلى الإدارة المختصة وأدى الشهادة عليها، فكان جزاء البنت - وهي في السابعة عشرة - أنها أودعت دار الإصلاح ! وأبيح للشرطة والآباء معا أن يبلغوا شبهاتهم عن كل شاب يخرج إلى الطريق بالملابس المزركشة والألوان الصارخة والأصباغ التي لا تجمل بالرجال.
وباء جارف لا مرض متفرق
والواقع أن العقد النفسية في البلاد الشيوعية وباء جارف، لم يبد من أعراضه حتى الآن إلا القليل.
ولا يمكن أن يكون غير هذا في بلاد يحسبون فيها أن التعبيرات النفسية حيلة يخترعها المالكون لزمام الإنتاج الاقتصادي في كل مجتمع قديم أو حديث.
فإنهم على هذا الحسبان يفرضون التعبيرات النفسية في الأدب والفن، ويظنون أن الحكاية كلها حديثة في مكان حيلة قديمة من مخترعات رأس المال.
ومن قراراتهم أن «الفواجع» أو التراجيدية لا موضع لها في المجتمع الشيوعي؛ لأنها كانت لازمة في المجتمعات التي يتخبط فيها الفرد مع المجتمع على غير جدوى وبغير رجاء.
ومن قراراتهم أن الأسلوب الطبيعي
Naturalism
في الفن والأدب لا موضوع له كذلك في مجتمعات الشيوعيين؛ لأن هذا الأسلوب أسلوب تأمل وحنين إلى الماضي، حيث لا ينبغي التأمل والحنين.
ومن دواعي الحيرة للمؤلف أن الفواجع ممنوعة، وأن الضحكات لا تباح إذا كان مدارها على نقد المجتمع ونقد ولاة الأمور، ولم يكن هدفها المقصود بطلا من أبطال البرجوازية أو رأس المال، وكل شيء ميسور إلا أن يضحك الإنسان بالأمر وعلى وفاق أحكام المراسيم.
وقد أصدرت إحدى المطابع «الأميرية» كتابا نفدت طبعته من مؤلفات «بتروف»، فأصابها التوبيخ والتحذير ولم تغن عنها المعاذير.
وشاع الرياء في تلفيق الشعور الطبيعي، فاستحقت الرضى والتشجيع رواية مدارها على بطل «مثالي» يحن إلى المصنع قبل انقضاء أيام الإجازة، ويترنم بمحاسن المكنات التي غابت عن نظره كما يترنم العاشق بمحاسن ليلاه.
مثل هذا الكبت الحيواني لخوالج النفوس الحية لن يكون له أثر معقول غير العقد النفسية، التي يقولون عنها إنها مرض من أمراض البرجوازية ورأس المال!
لا جرم ينتحر ثلاثة من الأدباء النابهين؛ هم مايكوفسكي وإيسنين وباجرتسكي، ويموت آخرون في ريعان الشباب، ومنهم من يقترن موته بالريبة وتحوم الظنون فيه على الغيلة أو الانتحار.
ولا جرم يتعدى الكبت شعور الكاتب والفنان، إلى شعور القارئ الذي يحس كابوس النفاق جاثما على صدره، ولا يستطيع أن يغالط نفسه فيزعم لها أنه يقرأ تعبيرا صادقا عنها فيما يقرؤه من أدب المكنات والآلات.
ولا نحسب أن الصيحة التي صاحها سيمونوف وأهرنبرج والشاعر فردوسكي والشاعرة أولجا بدجولتز؛ كانت تنطلق في روسيا ويسمح لها بالانطلاق، لولا تفاقم الخطر وبلوغه مبلغ التهديد والإزعاج، الذي يوقظ الغافلين ويصدم تلك الأدمغة الملتوية، فتدرك على الرغم منها أن الأدب من طبيعة الإنسان، لا من حيلة محتال ولا من تدبير العمل أو رأس المال.
عرض زائل
ونحن لا يخامرنا الشك لحظة في استحالة بقاء الشيوعية كما وضعها كارل ماركس وإنجلز وسائر هذه الزمرة من دعاة القرن التاسع عشر؛ لأنها مجموعة ألفاظ أغاليط لا تقبل البقاء، وكلما مضى على تجربتها عام ابتعدت من قواعدها وأهدافها على السواء، ثم لا تزال تبتعد وتبتعد لا يبقى منها إلا ما ينكر الماركسيين وينكره الماركسيون.
منذ بضع سنوات كتبت أقول إن الشيوعية لا تصمد للتجربة عشر سنوات.
فلما أعلنوا في الصين أنهم دانوا بالشيوعية، جاءني من العراق سؤال نشرته مجلة الاثنين ينتفخ بالجهل والتحدي ويسألني مرسله: ألا تزال على اعتقادك أن الشيوعية لا تصمد للتجربة عشر سنوات؟
والذي يخدع أمثال هذا السائل في الحركات الاجتماعية أنهم يأخذونها بعناوينها وأسمائها، ويحكمون على «حسن» بأنه «حسن»؛ لأن اسمه حسن بشهادة أبويه وشهادة الأوراق الرسمية وشهادة من يناديه!
والشيوعية التي أعلنت في الصين إنما هي بقية الثورة الصينية التي نشبت سنة 1911 قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل الظروف الداخلية والخارجية التي استفاد منها لينين وزملاؤه في إقامة الحكومة السوفيتية.
ولو لم تحدث في روسيا ثورة ولم يقم بعدها انقلاب، لتسلسلت الحوادث من ثورة سن ياتسن إلى ثوره «ماوتسي» وما يشبهها، ثم لا تلبث أن تستقر على الغرار الصالح للبقاء بعد ذهاب الرغوة وانجلائها عن المحض الصريح.
وسيرى المخدوعون بأعينهم أنه لا ثورة الروس ولا ثورة الصين تسفر غدا عن شيوعية ماركسية، وأنها في هذه اللحظة لا تثبت من الماركسية مقدار ما تنفض وتهدم؛ فلم تبق من الماركسية اليوم نظرية واحدة يعتمدها الثقات من أساطين الاقتصاد، وليس في وسع دعاة الروس أن يدلوا الناس على نظرية منها وضعت موضوع التطبيق فأسفرت عن نجاح.
وإن غدا لناظره قريب.
ولكن ...
ولكننا نقول مع الأسف الشديد إن أعداء الشيوعية يخدمونها حيث يتخاذل عنها الأصدقاء والأتباع.
فهؤلاء «الديمقراطيون» الذين يزجون بأصابعهم في كل مكان بحجة الخوف من الشيوعية، إنما يخنقون الأنفس ويخلقون فيها الريبة، ويحاربون العدوان المنظور بعدوان واقع يكظم الصدور وينفي عنها الأمل ذات الشمال وذات اليمين.
وكأنما الدنيا كلها قد أصبحت وليس فيها غير اللون الأحمر يصبغ به الشيوعيون كل شيء؛ لأنهم يحبونه، ويصبغ به «الديمقراطيون» كل شيء؛ لأنهم يحذرونه، وتعمى العيون إذن عن كل لون وعن كل نور غير هذا البلاء المحيط.
إن أعداء الشيوعية يحسنون صنعا في محاربة الشيوعية كلما عرفوا للأمم الشرقية حقوقها ولم يتخذوا من خوفهم حجة للعدوان والافتيات على تلك الحقوق، ذلك الافتيات الذي لا يجدي شيئا غير إثارة المخاوف في قلوب الآمنين.
ومن مصائب الدنيا أننا نعالج خوف الشمال بخوف اليمين، ثم نقف بينهما حائرين لا نملك إلا أن نتمثل شاعرنا الحكيم:
إذا استشفيت من داء بداء
فأقتل ما أعلك ما شفاكا
المذاهب والتعليم
في هذا الأسبوع تلقيت خطابا من «معلم» يسألني فيه رأيي عن تدريس المذاهب الشيوعية في مدارسنا، يسألني بصفة خاصة عن فصل من كتاب عنوانه «مشكلات فلسفية»، مكتوب عن الاشتراكية الماركسية بقلم الأستاذ «عبده فراج» على نمط لا يرتضيه المعلم صاحب الخطاب.
وأحب أن أقرر قبل الإجابة عن السؤال أنني أدعو إلى تدريس المذاهب جميعا للمتقدمين من الطلاب، ولا أقيد هذا التدريس بقيد غير التحقيق العلمي والتنزه عن الدعاية.
وأقرر كذلك أنني لا أعرف وسيلة لمقاومة الكتاب غير الكتاب، فإن الخطأ لا يثبت على النقد الصحيح، ولا سبيل إلى القضاء عليه أقوم من سبيل الإقناع.
وعلى هذا الميزان - ميزان التحقيق العلمي - أعرض ذلك الفصل الذي يسألني عنه كاتب الخطاب.
رجعت إلى ذلك الفصل فوجدت كاتبه يقول: «إن الاشتراكية وجدت أكبر دعاتها في كارل ماركس، الفيلسوف اليهودي الألماني الذي قدر لمذهبه أن يطبق بنجاح في روسيا الحديثة، ليصبح أقوى ما أنتجه الفكر السياسي تأثيرا في السياسة العالمية المعاصرة.»
ثم يقول: «إن ماركس كان متأثرا بفيلسوف مادي من تلاميذ هجل، هو فورباخ الذي رفض فلسفة أستاذه الروحية واعتنق الفلسفة المادية، وكانت هذه منتشرة في ألمانيا إذ ذاك بفضل تقدم العلوم الطبيعية الباهر.»
ثم يقول: «استعار ماركس المنطق الجدلي وهذبه، وتأثر بما ذهب إليه هجل من وجوب التفرقة في تفسير التاريخ بين الحقائق العميقة الهامة مثل رغبات الأمة وآمالها، وبين الظواهر السطحية التافهة كالشخصيات التاريخية.»
ولم ينس الأستاذ أن يضيف إلى ما تقدم «أن نجاح النظام الاشتراكي في روسيا يرجع إلى لنين ومواهبه الفلسفية العملية وأسلوبه الصلب المرن في آن واحد، وقد اضطر لأن يجاري الظروف الواقعية ويحيد أحيانا عن التفصيلات الماركسية.»
ثم يختم الفصل بكلمة عن نبوءات كارل ماركس يقول فيها: «إن كثيرا منها لم يتحقق، وإن علة ذلك أن الرأسماليين يتبعون هم أيضا منهجه الجدلي، فيزيلون أو يخففون في نظامهم العوامل التي تدعو إلى تذمر العمال أو إلى انهيار الرأسمالية.»
والخطأ في هذا كله كثير، وفيه مصداق لما يعتقده من خوض الأكثرين عندنا في هذه المذاهب على غير معرفة واستيعاب، معتمدين على الملخصات أو القشور التي لا يفهم منها مذهب قط على وجه مفيد، ولو كان كاتب هذا الفصل على علم بما يكتبه، لما قال في مقدمته عن «إنجلز» شريك ماركس إنه «أحد رجال الأعمال الإنجليز»، وهو ألماني صميم أعرق في الألمانية من كارل ماركس الذي ينتمي إلى بني إسرائيل.
فمن الخطأ أن يقال: إن مذهب كارل ماركس طبق بنجاح في روسيا، وإنما يطبق في روسيا نظام لا فرق بينه وبين النظام النازي الذي كان يطبق في البلاد الألمانية، فالطبقة الحاكمة التي ينتمي إليها لنين وستالين ومالنكوف كالطبقة الحاكمة التي ينتمي إليها هتلر وجوبلز وريبنتروب، وتجنيد العمال هو تجنيد العمال، وإشراف الدولة هنا هو إشراف الدولة هناك، وليس في جوهر الأمور فرق واحد بين النظامين في غير الكلمات الجوفاء، وقد تقاربت هذه الكلمات الجوفاء حين أصبحت العصبية السلافية دينا للأمة الروسية، تنتحل باسمه المفاخر لعظماء الروس وعلمائهم دون سائر العظماء والعلماء، وتدخل الحرب فتسميها الحرب القومية أو الوطنية، وتنسى القول بتفاهة الشخصيات التاريخية، فتبني لزعيمها ضريحا لم يبنه القياصرة للأسلاف «المقدسين».
ومن الخطأ أن يقال: إن المذهب المادي ينتشر «بفضل تقدم العلوم الطبيعية الباهر»؛ فإن تقدم العلوم قبل عصر كارل ماركس لا يذكر بالقياس إلى تقدمها في عصر بلانك وهيزنبرج وأدنجتون وجينز وأوليفر لودج، ومنهم مع ذلك من تلهمه تلك العلوم أن الكون كله «فكرة رياضية»، وأن المادة لم يبق منها إلا الحسبة التي تقاس بالرياضيات.
وقد وجدت المذاهب المادية قبل ألفي سنة، حيث لا علوم طبيعية ولا علوم صناعية، بل وجدت في الهند التي تسمى مهد الفلسفة الروحانية، ونشأت مدرسة كارفاكا
Carvaka
قبل عصر بوذا والفلسفة الجينية، وخلاصتها أن العلم كله علم الحواس، وأن الأثير الذي يسمونه أكاسا
Akasa
غير موجود؛ لأنه غير محسوس، وأن المتعة بالحياة الدنيا غاية الأحياء، وعصفور اليوم خير من طاووس الغد الموعود، وإذا انحل الجسم لم يبق عقل ولا عاقل، ويستوي في ذلك الحكماء والجهلاء.
وتقدمت الفلسفة المادية في بلاد اليونان على الفلسفة الروحانية أو المثالية في تاريخها وترتيبها، وظهر بين العرب الجاهليين من يقول كما جاء في القرآن الكريم
إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين ، ومن يقول:
ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .
وليس في وسع باحث في العصر الحاضر أن يزعم أن الفلاسفة الماديين أكثر أو أكبر من الفلاسفة المثاليين، وهذه الفلسفة المادية الجدلية نفسها لا يوجد في العالم فيلسوف معدود من دعاتها المؤمنين بها، ولا استثناء لروسيا الشيوعية إلا في أسلوب المخاتلة والمداراة.
أما أن نبؤات كارل ماركس لم تصدق لأن الرأسماليين قاوموها، فذلك غير صحيح، وإنما الصحيح أنها لم تصدق لأنها تناقض الواقع مناقضة القطبين المتقابلين، وخلافا لما قال قد رأينا أن البلاد التي سلمت منها هي البلاد المتقدمة في الصناعة الكبرى والتعليم، وأن نسبة انتشار الشيوعية عكسية على حسب التأخر والجهل والإهمال، فأسلم الأمم الأوربية من الشيوعية هي أكثرها صناعة وثقافة ومعرفة بالحقوق، وعلى نقيض ذلك سائر الأمم التي تعرضت من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ولم تغلب الشيوعية حتى اليوم على أمة بعيدة من جوار روسيا وسلطانها المتحكم فيما حولها، ولم تغلبها الشيوعية إقناعا بل غلبتها بحكم ذلك الجوار وذلك السلطان.
ولن نذهب بعيدا في الاستطراد إذا قلنا قياسا على ذلك إن زيادة في العلم بالشيوعية زيادة في العلم بأخطائها وخرافاتها، وإننا لا نعرف وسيلة لبيان حقيقتها خيرا من الأمانة في تعليمها، فإن وجد بعد ذلك من يتمادى في لجاجاتها، فليس هو بصاحب فكرة أو صاحب مذهب، ولكنه صاحب غرض يساق إليه أو يؤجر عليه، ومثل هذا لا يضيرنا تعليم المذاهب على اختلافها بالنسبة له؛ لأنه على الجهل أو على العلم مسوق إلى حيث يساق.
ورد غطائها
وعندنا كلمة ورد غطائها في سيرة أخرى من سير الشيوعية والشيوعيين مع كاتب هذه السطور.
والكلمة خطاب من أحدهم ينكر فيه أشد الإنكار أن الذين يخصون كاتب هذه السطور بحملاتهم الهزيلة شيوعيون يتعصبون للشيوعية في تلك الحملات، ويكاد يقسم أنهم يبغضون الشيوعية، أو أنهم على الأقل لا يعطفون عليها.
وليكن صاحبنا هذا صادقا كما يشاء، وليكن زملاؤه أعداء للشيوعية لا ينكرون أنها خطر على المجتمع ولا يعطفون عليها.
مليح، وقل كذلك صحيح.
فكم كلمة مدح وجهوها إلى كاتب هذه السطور مكافأة له على خدمة المجتمع وجهده في حمايته، ولو أغضب الشيوعيين المؤمنين والمأجورين المسخرين؟
أليس في جهاد ثلاثين سنة في هذا الميدان ما يستحق كلمة مدح أو تقدير إذا كانت هذه الطائفة حقا تحمد هذا الصنيع ولا تحقد عليه؟
والا إيه؟
كلمة مدح واحدة إن كانوا صادقين، وندركهم قبل أن يبذلوها أو يضنوا بها فنقول لهم إننا نحول هذه الكلمة مقدما إلى الجهة التي يختارونها، وعليهم أن يشفعوها بالعنوان، فلا تمضي ساعة بعد وصولها إلينا، حتى نبعث بها إلى الممدوحين المختارين.
ألوان التأليف في الغرب1
أما في هذه المرة فهو كشكول كبير بمعنى الكلمة، وبأكثر من معنى الكلمة؛ لأنه تصنيفة من الكتب لا يرتسم لها طابع واحد، ولا تلتقي منها عدة كتب تحت عنوان واحد إلا بمشقة عظيمة، ولكنها على ذلك يمكن أن تدلنا على اتجاهات واضحة في الكتابة الأوربية منذ سنتين، أو على اتجاهات واضحة في السنة الرابعة والخمسين بعد التسعمائة بعد الألف للميلاد.
قحط في القصة، نشاط في الشعر، كثرة في كتب الكشوف على أنواعها، عناية بدراسة النفسيات التي تشمل طبائع الأحياء من الإنسان إلى الحشرة إلى ما دون ذلك.
قحط في القصة
فانصراف القراء الأوربيين والأمريكيين عن القصة ظاهرة محسوسة مقدرة بالأرقام، وعليها شاهدان من كلام النقاد ومن إحصاءات الناشرين، وكلاهما يدل على انحدار سريع في الكم والكيف، كما يقولون في لغة المناطقة، أو انحدار سريع في عدد القصص التي ظهرت وعدد النسخ التي وزعت منها، وقيمة هذه القصص من الوجهة الأدبية والوجهة الفنية على السواء.
وكاتب هذه السطور أول من يتفاءل بهذه الظاهرة؛ لأنني أحس من مبدأ الأمر أن أساس الإقبال على القصة كسل في النفس وتقديم للتسلية على الذوق والفهم والشعور الصادق، وأن جمهور القصة الشائعة هم طوائف الجهلاء وأشباه الجهلاء، ومن يتخذون القصة بديلا من علبة السجائر أو تكملة لها عند الضجر من التدخين.
وفي القصة نوع رفيع - بل رفيع جدا في بعض الأحيان - يكتبه عباقرة الفن وأقطاب البلاغة، ولكنه يضيع بين القصص التي يطلبها الجهلاء وأشباه الجهلاء، ويحسب قراؤه بالمئات حيث يحسب قراء المهازل والخزعبلات بمئات الألوف.
وقد راجت قصة من القصص؛ لأن امرأة متزوجة كتبتها لتذكر فيها علاقاتها وغواياتها ومقدمات تلك العلاقات والغوايات، على علم من زوجها قبل النشر، وبعد النشر بطبيعة الحال!
ومثل هذه القصة لو تحولت إلى مناظر من الصور الشمسية الخليعة، لصادفت من الرواج ما صادفته القصة المكتوبة وزيادة.
وإنه لغافل أو مخطئ من يقول إن القصة بدعة حديثة بين الفنون الإنسانية؛ فإنها أقدم ما عرفه الأطفال في المهود والعجائز حول مواقد الشتاء، ولكن الأقدمين كانوا على شيء من الوقار فتركوها في مكانها بين ألاعيب الأطفال وثرثرة العجائز، ومضت ألوف السنين ولم يبق من تلك القصص أثر، ولم ينقص منها شيء يحس بنقصه؛ لأنها تخترع من جديد على نحو واحد في كل جيل، ثم تعاد وتعاد على النسق القديم.
ومنذ مائة سنة قيل ما قيل عن بدعة القصة في عالم الفنون، فظهر منها ما ظهر واختفى ما اختفى ، ولم يبق من الظاهر المأثور إلا الذي يقرؤه طلابه لغير القصة التي فيه: يقرءونه للصور الشخصية أو للدراسات النفسية أو للقدرة على خلق المواقف والتعبيرات.
ثم ندر هذا النوع من القصص الرفيع ولا يزال يندر في الأعوام الأخيرة، فعسى أن تكون هذه الندرة مؤذنة بزوال سلطان الجهلاء والغوغاء على الفن والأدب والثقافة.
ويدعونا إلى التفاؤل أن الإعراض عن القصة يصحبه إقبال على موضوعات أخرى، تجمعها كلها جامعة التعريف بالحياة وبالعالم وبأسرار الأرض والسماء؛ ومنها كتب الكشوف السماوية والتاريخية، وكتب البحوث في الطبيعة وما وراء الطبيعة، وكتب النفسيات والخصائص التي ركبت في طبائع الأحياء.
وإذا كان هذا هو البديل فليس انصراف الناس عن القصة دليلا على إهمال العواطف والنفسيات، ولكنه دليل على إدراك هذه العواطف والنفسيات من طريق غير طريق التسلية وتزييف العاطفة بغرائز الشهوات.
والشعر ينشط
ومن الدلائل الحسنة أن الشعر ينشط في السنة الأخيرة، وأن عوامل البناء فيه أكبر من عوامل الهدم والفساد.
رأي لا نجزم به ولا نتعجل بقوله على علاته، ونحب أن نعلقه على ما بعده حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذه الظلمات.
إن المجموعة التي بين أيدينا تختار مائة قصيدة من نحو عشرة آلاف قطعة لألف وستمائة ناظم.
فالرأي الذي نراه يصدق على نخبة من هذه القصائد المختارة، ولكننا لا ندري شيئا عما وراءها من المئات المرفوضة والأسماء الخاملة، فلعلها من صنف آخر لا يشبهها في نزعاتها وأساليبها، ولعلها من هذا الصنف ولكنها تختلف بنصيبها من الجودة والإتقان.
لا ندري ...
وإن كنا نستطيع أن ندري يقينا أن اشتغال ألف وستمائة شاب بالنظم، علامة على اهتمام لا شك فيه بالشعر وموضوعاته التي لا تشاركه فيها الفنون الأخرى.
ونقول ألفا وستمائة «شاب»؛ لأننا نرى في المجموعة أسماء أناس ولدوا بعد سنة 1930، ولا نرى فيها إلا القليل جدا ممن بلغوا الشيخوخة وبدءوا بالنظم قبل الحرب العالمية الأولى.
فهذه النخبة إذن ترجمان صادق للنزعة الفنية، وعلامة على روح جديدة في النظر إلى الحياة، وتتمثل هذه الروح في العطف على الطفولة، وفي العطف كذلك على السلف الذي باد أو كاد يبيد، ومن أمثلة ذلك قصيدة يقول ناظمها إنه يرثي للشيوخ، الذين يسمعون كلام الأبناء عن فجائع الحرب الأولى كأنهم يتكلمون عن حرب طروادة ووقائع الرومان؛ لأن كلامهم هذا ينتزع من حياة المجاهدين قطعة حية ليحيلها سمرا من الأسمار.
وموقفهم مما وراء الحياة لا يصدق عليه وصف اليقين والإيمان، ولكنه لا يدخل في باب اليأس المصطنع أو الهدم المعتسف، أو قلة الاكتراث المقصودة في الباطن باكتراث شديد.
وقد تصور هذا الموقف قصيدة في المجموعة، يقول ناظمها إنه لا ينتظر آخر النهار إلا أن يسمع منه قبل احتجابه صفوة بليغة مما حدث فيه واستحق الذكرى والتعبير، فإذا جاء الليل بعد ذلك فلتغمض العينان في انتظار الأحلام، أو على انتظار كيف كان.
روح طيبة لا ريب فيها.
وكل ما نلاحظه عليها أنها تتفاهم مع البشرية كأنها في ناد أو نزهة خلاء، وقد كان شعراء أمس ينظمون لإخوانهم من بني الإنسان كأنهم أبناء بيت يشتركون في أعراسه ومآتمه وفي وفره وفقره وفي سره وجهره، فأما هؤلاء الشعراء الذين تتحدث عنهم البشرية عندهم «أعضاء ناد»، لا يباح فيه للعضو المهذب إلا إشارة يلفت بها الزميل المذهب إلى منظر هنا أو صيحة هناك، ثم يكتفي بالإشارة ولا ينتظر الجواب.
على أنهم، بعد كل ما يقال، خير من شعراء البشرية التي يفتح فيها المتكلم فمه ليقول إنه لا يهتم بمن يخاطبه وإن من يخاطبه لا يهتم به، والسلام عليكم ورحمة الله، أو لا سلام ولا كلام ولا رحمة ولا لعنة ولا يحزنون ولا يفرحون!
قرأت للأديب الأستاذ أنيس منصور في إحدى أسبوعياته القريبة كلمة يسأل فيها: هل يوجد فن بغير قواعد؟
يا سيد أنيس! لا يوجد في الدنيا ولن يوجد لعب بغير قواعد معلومة للاعبين، فما ظنك بكرة القدم التي تلقى في كل اتجاه؟ وما ظنك بالشطرنج الذي ترمى حجارته أو تتغير بحجارة أخرى في كل دور؟ وما ظنك بالسباق من غير مجال ومن غير مسافة ومن غير ميعاد؟
يا سيد أنيس، القاعدة مع من يطلب الفن بغير قاعدة أنك تصفعه على قفاه!
أما أن تناقشه مناقشة الجد، فمن طول البال الذي قد يطلب من عباد الله الصالحين في الصوامع، ولست منهم ولا نحن بحمد الله!
نعم، ونحمد الله أيضا لأن الشعر الجديد يفتح باب الأمل في زوال الفوضى على الأقل، فلا شيء غير الفوضى بغير قواعد وبغير حدود.
كشوف الأرض والسماء
أما السيل الذي لا ينقطع بالقياس إلى هذه الجداول والقنوات، فهو سيل الكتب التي تصدر عن الكشوف بأنواعها، وهي في هذا الزمن كثيرة الأنواع.
الكشوف السماوية والرحلات بين الأفلاك العليا.
والكشوف في أعماق البحار، والكشوف في قمم الجبال، والكشوف عن أصل المادة وجوف الذرة، والكشوف الحفرية عن آثار الأقدمين وتواريخ الأمم والحضارات.
ومما وصل إلى مصر من هذه الكشوف الأثرية الأربعة مصنفات بأقلام المشتركين في الحفر، أو الباحثين بين طباق الزمن القديم عن كنوز التاريخ.
منها كتاب جديد بقلم ليونارد وولي؛ حجة الباحثين في حفائر العراق عن تاريخ إبراهيم الخليل.
ومنها طبعة جديدة لهذا المؤلف لكتابه الذي جعل عنوانه «مدن ميتة وأناس أحياء»، وتكلم فيه عن حفرياته في مصر وإيطاليا وتركيا والعراق، ومنها كتاب شامل عن فتوح الإنسان من أقدم الأزمان.
وأظرفها كتاب بعنوان «نفرتيتي عاشت هنا»، للسيدة ماري شوب التي أغرمت بتل العمارنة وتعقبت «نفرتيتي» في كل بقعة من الأرض خطرت عليها بقدميها.
وتلخيص هذه الكتب جميعا تضيق عنه الصفحات، ولكننا نعبرها بكلمة عن كل كتاب في الطريق على سبيل التحية من قريب.
فالكتاب الذي أثبت فيه «وولي» لقاياه وأشار إلى لقايا الآخرين، خليق أن يعلم المتحذلقين درسا في أدب العلم، فلا يسرع أحدهم إلى كل خبر من أخبار الأولين بالتكذيب والسخرية، ويتواضع قليلا ليفهم أن الصحيح في تلك الأخبار أكثر من صحيح أخبار هذا العصر الذي نعيش فيه.
والطبعة الجديدة عن كشوف مصر وإيطاليا والشرق الأوسط، تعيد القديم من تواريخها جديدا نستغربه كأننا لم نسمع به قبل الآن، وبعض ما فيه عن الأحياء أعجب من حكايات الموتى الخالدين والموتى المنسيين.
والكتاب الشامل عن فتوح الإنسان من أقدم الأزمان يسجل الكشوف التي لا شك فيها والكشوف التي يعتورها الشك الكثير، وعلى حسب هذه الكشوف المشكوك فيها نعلم أن أمريكا وأفريقيا الجنوبية ومجاهل القارات جميعا قد كشفت مرات قبل عصر كولمبس وفاسكودي غاما ولفنجستون، ونعلم أن مصر قد كانت لها اليد السابقة في معظم هذه الكشوف.
رقص الصعيد في إسكس
Essex
وكتاب السيدة «ماري شوب» عن معاهد نفرتيتي ومآلفها قصة حقة تنبض بالحياة، وأسلوبه الذي اختارته السيدة تغلب فيه عواطف المرأة على تحقيقات العالمة المؤرخة، ولا سيما الأسلوب الذي تصف فيه حفلات الفلاحين وأغانيهم ومراقص الرجال والنساء في الصعيد.
ولعلها جاءت فيه بمعلومة عن الرقص الصعيدي؛ تعتبر عند المصريين من أهل الصعيد والريف خبرا مفاجئا لم يسمعوا به قبل الآن.
ففي إحدى الحفلات التي أقامها الفلاحون لتوديع البعثة يرقص الفتيان رقصة تعجب الحاضرين والحاضرات، ويقول أحدهم «رالف» متسائلا: أين يا ترى شهدت هذه الرقصة بعينها؟ أين رأيت هذه الخطوة بعينها وهذه الحركات من الذراعين بعينها؟!
ثم يذكرها بعد هنيهة فيصيح قائلا: عجبا! إنها هي بعينها رقصة موريس التي رأيتهم يرقصونها في إسكس.
قال أحد أعضاء البعثة واسمه جون: «أحسب أن موريس تصحيف لكلمة موريش
Moorish ، وكأننا ننظر هنا إلى الرقصة في منشئها الأصيل قبل وصولها إلى بلادنا من البلاد العربية، وقد كان الأوربيون الأقدمون يطلقون اسم المغاربة أو ال
Moors
على كل منسوب إلى العرب والمسلمين .»
ثم قال: هذا أو ربما كانت بعض ما عاد به الصليبيون من الشرق إلى البلاد الإنجليزية!
وإنه لظريف حقا أن يقدم الكشافون من إنجلترا للبحث في أرض الصعيد، فيكشفوا عن تاريخ بلادهم نفسها قبل تاريخ هذه الأرض المباركة، ويتذكروا فتنفعهم الذكرى ... ولعلها تنفعنا أو تنفع الذين يرقصون منا، ويحسبون أن كل خطوة يخطوها الراقصون على سطح الكرة الأرضية تستحق منهم أن يتعلموها ويتعبوا في تعليمها، إلا الخطوات على الأرض المصرية في الجنوب أو الشمال.
الذئب أرحم
ونختار من كتب الدراسات النفسية كتابا قيما عن نفسية الحيوان.
إذا وجدت بين يدي كتابا عن النفسية الإنسانية وكتابا عن طبائع الحيوان، فقليلا ما يساورني التردد في البدء بالكتاب الذي يعنى شيئا عن طبائع الحيوان.
ولا أميزه بالتقديم لأنني أفضل الحيوان على الإنسان، وإن جاز هذا في عرف المؤمنين بالتطور والقائلين باحترام الأجداد والأسلاف!
كلا! لا أبدأ بطبائع الحيوان لأنها أفضل من خلائق الإنسان، ولكني أبدأ بها لأنها في رأيي كالمسودة التي تكشف لنا المقاصد الخفية قبل التنقيح والتعديل، وأبدأ بها لأنها أبسط من التركيبة الإنسانية التي تخدعنا ونغالط فيها أنفسنا، ولا خداع ولا مغالطة في طبائع الحيوان الأبكم، من طريق الكلام أو غير الكلام.
صاحب هذا الكتاب الدكتور كونراد لورنز مرجع موثوق به في لغة الطير والسباع وسائر الأحياء.
واسم كتابه خاتم سليمان؛ لأن سليمان الحكيم كان يعرف لغة الطير بفضل هذا الخاتم المعجز، وصاحبنا يحب أن يزعم أنه قد عثر بنسخة من الخاتم القديم مفرغة في قالب حديث، يفهم أحياء هذا الزمن كما كان سليمان يفهم أحياء زمانه، ولا فرق في النهاية بين الفريقين.
وليس في المختصين بدراسة الحيوان من ينكر على الرجل دعواه، فإنه يستطيع أن يناغي كل طائر بلهجته وخصائص نطقه، فيجيبه الطائر ويصدع بأمره، ويتفق أحيانا أن يفاجئه بعضهم وهو يخاطب الإوز سهوا بلغة البط أو البجع أو طيور الماء، فيسرع معتذرا كأنه يخاطب إنسانا بلسان غير لسانه: عفوا عفوا، إنما أردت أن أقول كواك كواك!
هذا السليمان الحديث يروي لنا تجاربه مع الأحياء الضارية المخيفة والأحياء الوادعة الأليفة، ثم يخرج منها بنتائج محققة لا موضع فيها للفلسفة ولا للمجاز والكناية، وإنما هي صور حرفية لما رآه وأعاد رؤيته سنوات بعد سنوات.
من تجاربه أن الحمامة لا ترجع عن خصمها إذا حبست معه في قفص واحد حتى تجهز عليه، وأن السباع عامة تجري على سنة غير هذه السنة في صراعها مع أبناء نوعها؛ فلا يعتدي الذئب على الذئب الذي يقاتله إذا استسلم له هذا وطأطأ أمامه بعنقه ليكشف له مقتله، وهو قادر على قتله بعضة واحدة لو شاء.
ولكنه لا يشاء، ولم يحدث قط شذوذ عن هذه السنة في كل ما شاهده صاحب الكتاب أو سمع به من زملائه في هذه التجارب العلمية.
ولا يجزم الرجل بتعليل لهذه العادة العجيبة، ولكنه يقول على سبيل الترجيح إن سلاح الذئب مركب في جسمه، وإن كل تركيبة في جسم الحيوان فإنما يراد بها حفظ النوع، وتنتهي مهمتها إذا فرغ الحيوان من الدفاع عن نفسه. ولو أن الوحش قتل كل وحش من نوعه يستسلم له في صراعه، لانقرض النوع بعد بضعة أجيال وانعكست الآية من تزويده بذلك السلاح.
وهنا يسمح العالم لنفسه بقليل من الفلسفة، فينتقل من عادة الحيوان إلى عادة الإنسان في الحروب بين القبائل والأمم، ويبدو له أن المصيبة مع هذا الإنسان أن سلاحه غير مركب في بنيته، وأنه يصنعه بيديه ليقتل به عدوه، فلا يقتنع بالدفاع ولا يمنعه مانع أن يشتط غاية الشطط في استخدام السلاح.
وسألته صحيفة نمسوية أن يكتب لها فصلا عن «التسليح بين الإنسان والحيوان»، فكتبه وختمه بهذه السطور!
سيأتي اليوم الذي تقف فيه الأمم فريقين متناجزين، ويواجه كل فريق منهما فرصة سانحة للقضاء على عدوه، وسيأتي اليوم الذي ينقسم فيه نوع الإنسان بين معسكرين متناحرين، فهل تراه يسلك يومئذ مسلك الحمائم أو مسلك الذئاب؟!
وظاهر أن الأمل الوحيد مرتهن بحكمة الإنسان وإيثاره مسلك الذئب على مسلك الحمامة.
وصدق أبو العلاء حكيم كل زمان حيث قال:
ظلم الحمامة في الدنيا وإن حسبت
في الصالحات كظلم الصقر والبازي
ولم يخل في حكمته من محاباة؛ لأنها على قول سليمان الحديث أظلم من الصقور والبزاة!
قصور الفلسفة1
سنصحب القارئ في هذه المقالة إلى «قصور الفلسفة»، أو مباهج الفلسفة على قولين.
وكلاهما اسم كتاب واحد، تبدل اسمه باختيار مؤلفه الكاتب الأمريكي «ديورانت» ومترجمه الأديب المصري الدكتور أحمد فؤاد الأهواني.
وأمنيتنا للكتاب في ترجمته العربية أن يصيب من الرواج مثل نصيبه بين قراء اللغة الإنجليزية، مع حفظ النسبة بين تعداد قراء اللغتين .
كان ابن رشد يسمى الشارح وكفى، فإذا قيل الشارح فلا حاجة إلى التسمية.
ولو أنك أردت أن تطلق على كاتب حديث لقب الشارح، لكان «ديورانت» صاحب هذا الكتاب أحق الناس به غير مدافع؛ لأنه يحسن الفهم والشرح والتلخيص على نحو نادر بين كتاب الفلسفة، فيقبل القراء على كتبه بالألوف وعشرات الألوف، وربما بلغوا مئات الألوف إذا صدقنا إعلانات الناشرين، وهل تراهم يكذبون على عمال الضرائب إن كذبوا على القراء والنقاد؟!
وقد طبع أحد كتبه «قصة الفلسفة» في طبعة جيبية، فراج رواج القصص الغرامية أو البوليسية، وفتح الأبواب لرواج الكتب المنوعة من هذا القبيل.
وأحسن الدكتور الأهواني ترجمة الكتاب في معانيه ومدلولاته، وواجه مشكلة المصطلحات بأمانة مشكورة؛ لأنه شفع الاصطلاح المترجم بالأصل الإنجليزي، فمن رجع إلى الأصل لم يفته المعنى المقصود، وقد يحاول المترجم محاولة ناجحة للتعديل والملاحظة والوصول إلى المصطلح المتفق عليه.
ونحن نبدأ من البداءة باسم الكتاب أو باسميه، وهما الاسم الأول في طبعته الخاصة والاسم الثاني في طبعته العامة أو الشعبية.
فالاسم الأول
Mansions of Philosophy
ترجمة الدكتور الأهواني بقصور الفلسفة، ونحن نفضل كلمة الصروح على كلمة القصور في هذا المعنى؛ لأننا ألفنا في التعبيرات العربية أن نستعير الصروح للمعاني المفهومة وللمباني المحسوسة، فلا يندر في لغتنا أن يقال «بنينا «صروح» المجد أو صروح العلم أو صروح الأخلاق»، ولكننا لا نقول قصور المجد أو قصور العلم أو قصور الأخلاق، وهذا فضلا عن التباس القصور بالتقصير والعجز؛ إذ يسبق إلى ظن القارئ أن المقصود بقصور الفلسفة عجزها أو تقصيرها عن المطلوب منها.
والاسم الثاني
يغري بكلمة «المسرات» ترجمة له لأول وهلة، ولكن الدكتور الأهواني أحسن بالعدول عن هذه الكلمة؛ لأنها قريبة إلى الحسيات، وأحسن كذلك بالعدول عن كلمة «اللذات»؛ لأنها قريبة إلى الشهوات، وفضل عليهما كلمة «مباهج الفلسفة»، وهي في الحق أفضل منهما لولا أنها أقوى من المعنى المقصود بها حين تنسب إلى الفلسفة على الخصوص، فإننا نطمع كثيرا إذا انتظرنا من الفلسفة أن «تبهجنا» ولم نقنع منها بما دون ذلك، وعندنا أن «متعة الفلسفة» أو «متع الفلسفة» أقرب إلى تصوير الارتياح المعقول من المطالعة الفلسفية، وليس بالجديد في كتبنا العربية أن نذكر المتعة والإمتاع في الموضوعات التاريخية والدينية والأدبية، فإن كتاب «إمتاع الأسماع» للمقريزي موضوع في أخبار النبي - عليه السلام.
وهنا وهناك كلمات نلاحظ عليها أنها لا تطابق معناها كل المطابقة، ومنها أن المترجم نقل كلمة الأسباب الرديئة أو السيئة فسماها الباطلة (ص16) ولا يلزم من السبب الرديء أن يكون باطلا، وإنما يلزم منه أنه غير مستحسن وكفى، ونذكر لهذه المناسبة أن موظفا - لبقا - غاب عن مكتبه يوما وسأله رئيسه عن سبب غيابه فقال له: إن السبب الصحيح هو السكر والعربدة والتأخر في النوم إلى ما بعد ميعاد الدواوين، ولكنه سبب رديء وإن يكن هو السبب الصحيح.
فالرديء يقابله الحسن، والباطل يقابله الصحيح، والفرق ظاهر بين ما هو حسن وما هو صحيح.
وكلمة الاختلاج أو كلمة الانتفاض أوفق إلى كلمتي الهوس الاهتزازي في ترجمة
Delirium tremens ... وربما كانت كلمة الهوس أوفق بكلمة
Obsession
التي ترجمها الدكتور بالتلبس ولا دلالة في التلبس عليها، فإن كان المقصود عيبا أدبيا ولم يكن مرضا عصبيا، فكلمة «اللجاجة» أوفق الكلمات لما يراد من العبارة الإنجليزية؛ لأنها يراد بها أن المرأة تلج في غرض فلا تعدوه، أو في خاطر فلا تحيد عنه.
مباهج النحو والصرف
وعلى هذا الاختلاف بيننا وبين الأستاذ المترجم، نود أن نستعير منه كلمة المباهج للمسائل النحوية الصرفية كما استعارها للمسائل الفلسفية، عسى أن تسوغ ملاحظات النحو والصرف على مقدمة الكتاب ولو بعض التسويغ.
فمن سهوات العارفين تلك الفلتات التي جاءت في مقدمة الدكتور إبراهيم مدكور، فكانت أحق شيء بالتنبيه؛ لأنها من غرائب السهو، إذا لم تكن في السهو غرابة في كثير من الأحيان.
يقول الدكتور: «إنا نتساءل إذا كان من اليسير أن يقدم له الدواء.»
وجواب «إذا» في هذه العبارة غير مذكور وغير مقدر، ونحن قد نقول مع زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى
ولا سابقا شيئا إذا كان آتيا
فنفهم جواب «إذا» من الكلام السابق، ويكون المقصود «أنه إذا كان المقدور آتيا فإنني لا أسبقه.»
أما أن نقول مع الدكتور «إذا كان من اليسير أن نقدم له الدواء فنحن نتساءل» فهو كلام لا يستقيم، بل يستقيم الكلام بغير حاجة إلى الجواب حين نقول:
نتساءل هل يقدم له الدواء؟
وقال الدكتور مدكور بعد ذلك: «في كتاب مباهج الفلسفة جهد كبير وعرض شيق.»
والشيق هو المشوق أو المشتاق، وليس الكتاب مشوقا أو مشتاقا ولكنه شائق يجعلنا نحن مشتاقين إليه أو شيقين.
وقال الدكتور: «وهو أديب بقدر ما هو فيلسوف.» وتلك محاكاة عرفية للتعبير الأجنبي، وإنما المألوف في التعبير العربي «أن حظه من الفلسفة كحظه من الأدب»، أو أنه «على نصيب سواء من الفلسفة والأدب»، أو أنه «يحسن الفلسفة كما يحسن الأدب»، ولا بأس بالمحاكاة الحرفية إذا لم يكن في العربية ما يغني عنها، فإن أغنت عنها العبارات العربية فهي أولى.
وحسبنا هذا من مباهج الفلسفة ومن مباهج النحو والصرف، مع رجاء المعذرة ممن يرفعون كلمة المباهج ويضعون في موضعها المزعجات، ولولا أننا لا نحب أن تتسع الفجوة بيننا وبين الغربيين لتركنا لهم مباهجهم وأبعدنا مباهجنا عن الفلسفة واللغة، ولكنهم إذا أفلحوا في ترويج الفلسفة بين مئات الألوف من قرائهم فلنطمع في بعض هذا الرواج عندنا، ولتكن بسائط اللغة بيننا من المفهومات التي تدرك لها أسباب لا تتوقف على النحاة.
الإمامة عند الإسماعيليين1
من الجنوب الشرقي
أين نضع أسوان حين نتكلم عن الجهات الأربع، أو عن الشرق والغرب، كما نتكلم الآن؟
ليست من الجنوب بالموضع الذي يقابل الشمال، ولكنها إذا وضعت في الجنوب «الشرقي» لم نبعد بها عن موضعها الصحيح.
ولقد عدنا من أسوان بالأمس، وسمعنا فيها أحاديث الشرق والغرب ما يلحق «بالعالميات» على هذا المنوال، ومنها حديث أغاخان.
كان «أغاخان» يحضر للصلاة في مسجدها فيصلي قائما مع الجماعة؛ لأنه لا يستطيع الركوع والسجود.
وسألوه: هل ينوي حقا أن يخلع ابنه علي خان من ولاية العهد على الطائفة الإسماعيلية؟ فنفى الإشاعة، ونفاها من حوله بعض الأتباع .
وسألوني هناك سؤالا كهذا؛ لأنهم ظنوا في كتابتي عن إمام الإسماعيلية وعن مفكراته ومساعيه أنني أعرف من شأنه ما يسوغ ذلك السؤال.
ولكن الواقع أن معرفة أغاخان ليست للإفتاء في هذا الموضوع: موضوع ولاية العهد بين الإسماعيليين على التخصيص.
فالطائفة الإسماعيلية كلها قد نشأت؛ لأنها أنكرت التبديل والتغيير في ولاية العهد من أيام جعفر الصادق إلى أيام الخليفة المستعلي ونزار من خلفاء الفاطميين.
فقد كانت ولاية العهد لإسماعيل بعد أبيه جعفر الصادق فحولها جعفر إلى موسى الكاظم؛ لأنه سمع أن إسماعيل لا يلتزم الأوامر والنواهي التي ينبغي أن يلتزمها الإمام، فأبى أناس من أتباع جعفر أن يتبعوه في هذا التحويل، وقالوا إن الإمام يتلقى وحيه من الله، وإن الله لا يجوز عليه «البداء»؛ أي إبداء الرأي والعدول عنه إلى غيره.
وكذلك انشق حسن بن الصباح وأنصاره على الفاطميين حين اختير المستعلي للخلافة بدلا من نزار.
فإذا اتبع أغاخان تقاليد أسلافه فليس من حقه أن يبدل ولاية العهد إن كان قد أعلنها قبل الآن.
إلا أن التأويل والتخريج لا يعدمان الحجج والذرائع بين فقهاء الأديان، ولولا ذلك لما وقع الخلاف بين الإماميين والإسماعيليين، ولا بين الإسماعيليين أنفسهم منذ أيام شيخ الجبل حسن بن الصباح.
وينوي أغاخان - على ما علمت - أن يبني له قصرا في أسوان وضريحا لمثواه الأخير بعد عمر طويل؛ لأنه أعجب بهوائها كما أعجب بترابها، بعد ما عاينه من أمانته في المحافظة على رفات الخالدين!
إن صح هذا فسوف تزاد معاهد الأديان كمية جديدة في أقصى الصعيد، وسوف يقال إن البلد الذي اشتهر في العالم بالإشعاع المعدني سوف يشتهر بشعاع جديد من الأشعة الروحانية، بين طائفة ذات خطر على الأقل في أفريقيا الشرقية وفي الهند: وهي طائفة الإسماعيليين.
شرق وغرب1
انتهى عصر الحقنة.
لماذا أعتقوا مالنكوف؟
عصر الحقنة
مضى على ما نعتقد «عصر الحقنة» المنبهة أو «المفوقة» في عصر النهضة الشرقية.
مضى عهد المفاخرة بالحق وبالباطل لاستنهاض الهمم واستثارة النخوة، وتحريض العزائم على محاكاة الأجداد والتشبه بهم في المجد العريق.
مضى عهد الحقنة التي نأمن أوائلها ولا نأمن عواقب الإفراط فيها إذا عولنا عليها وحدها ولم تعول على قوة البنية ومناعتها.
أما اليوم فنحن في عصر «الغذاء الصحي»، الذي نختار منه للبيئة ما ينفعها وما تعتمد فيه على وظائفها الصحيحة وقدرتها التي لا شك فيها.
ولهذا يكفينا أن نقول اليوم ونحن على يقين إن ظهور الأديان في الشرق دليل على اهتمام الشرق بالروحانيات وشعوره بالحاجة إليها، وحسبنا اليوم أن نحافظ على هذه المزية التي لا غنى عنها في عصرنا هذا على الخصوص؛ لأنه العصر الذي أفرط، غربا وشرقا وجنوبا وشمالا، في عبادة الماديات.
أما أننا نحن الشرقيين قد احتقرنا المادة قديما أو حديثا فيفتح الله ثم يفتح الله.
هذه «ألف ليلة» وما شابهها من كتب الشرق تفيض بالماديات و«الحسيات»، التي لا فرق بينها وبين الغرق في بحار المادة والحس فعلا إلا أنها موقوفة التنفيذ.
وهذه أسماء «السيف» يقال إنها بلغت المئات في اللغة العربية فلا يفهم من ذلك، بداهة، أنه دليل على «الموت في حب السلام».
كلا، ذلك دليل على الموت في سبيل الحرب، وليس بدليل على الموت في سبيل السلام.
فلنعرف أنفسنا على حقائقها كما ينبغي أن نعرف جميع الحقائق.
وإننا لنعلم إذا عرفنا أنفسنا على حقائقها أننا نحب المادة وأننا أحببناها من قبل، ولكننا نعلم كذلك أننا نهتم بالروحانيات ولا نزال مهتمين بها، وفي هذا الكفاية للخلاص إذا عقدنا الرجاء على الخلاص من ربقة المادة بقبس من عالم الروح.
وعلى الله تحقيق الرجاء.
ومفاخرهم أيضا
ومفاخر الغربيين أيضا في هذا الزمن عرضة للمناقشة وإعادة النظر، إن لم تكن عرضة للتفنيد والإنكار.
إنهم يزعمون أنهم أصحاب العقول التي احتكرت فضيلة «الاختراع» والابتكار، وينسون ألوف السنين من أجل مائة سنة أو مائتين على الأكثر في تاريخ الاختراع الحديث.
فالواقع الذي لا نكران له أن المبتكرات الكبرى جميعا من عمل الشرقيين، وأنها هي المخترعات التي نقلت الإنسان في الخطوة الأولى وهي أصعب الخطوات، ثم تلتها خطوات أخرى قد تقل عنها في صعوبتها ولكنها لا تقل عنها في آثارها الباقيات.
من الذي روض الحيوان والنبات؟ من الذي صنع السفن؟ من الذي أقام البناء؟ من الذي نسج الثياب؟ من الذي أبدع الآلات؟
لقد قيل في تعريف الإنسان إنه الحيوان الذي يستخدم الآلة، وهو التعريف الذي يضع الحد الفاصل حقا بين أرقى أنواع الحيوان وأسفل أنواع الإنسان.
وقد كشفت الحلقة المفقودة، أو ما سمي حينا بالحلقة المفقودة في اصطلاح النشوئيين، ووجدت في بكين بقايا الحيوان المتوسط بين العجماوات وبين المخلوق الناطق، ووجدت أمثال هذه البقايا في وادي الرين بألمانيا وسميت ببقايا إنسان «النياندر» أو
Meanderthal man .
هذه البقايا متقاربة في الأعمار، يذهب بها بعضهم مئات الألوف من السنين، ويقنع بعضهم بعشرات الألوف.
والإنسان الشرقي هو الذي وجدت معه صنوف الآلات التي لم توجد مع إنسان في القارة الأوربية، فهو صاحب فضل في الاختراع الأول من أعرق الأصول.
وقد وجدت أصول الخيل والإبل في القارة الأمريكية، ولكنها لم تعرف كيف تستخدمها قديما حتى عادت إليها بعد كشفها الأخير.
ولا خلاف على فضل الشرق في مخترعات وادي النيل ووادي النهرين وشرق البحر الأبيض، فليس للغرب إذن أن يستطيل بدعواه من أجل مائتي سنة، وليس لنا نحن الشرقيين أن نستطيل عليه باحتقار المادة، ولا سيما في هذا الزمان، فإن أكثر ما نستطيل به من ذلك «قصر ذيل»، وحسبنا أننا سبقناه إلى العناية بالروحانيات وسبقناه إلى القدرة على الاختراع.
فإذا جاء الغد وكتب لنا أن ننقذ العالم بروحانية جديدة من حاضرنا أو ماضينا، فليقل يومئذ من شاء ما يشاء، وربما أغناه حسن الفعال عن حسن الثناء.
ومن الحضارتين إلى الكتلتين
ولا بد من حديث الكتلتين بعد كل كلام يدور على الشرق والغرب في هذه الأيام، فإنه المدار الذي ينطوي فيه العالم بما رحب، ويدور على عقبيه كما يدور إلى الأمام في طريق المستقبل المجهول.
ذلك حديث الصراع بين زعماء الشيوعيين بعد موت ستالين وما سيكون له من الأثر في علاقات الأمم وفي علاقات الحرب والسلم على التخصيص.
ولقد توسعت صحافة العالم في التعقيب على هذه الأحداث الخطيرة، وقلبت ما يعرض لها من الاحتمالات على جميع الوجوه من ناحية السياسة بين الدول الكبرى، فلا ننوي أن نعرض لها من هذه الناحية في هذا المقال.
ولكننا نراها أهلا للتعقيب الكثير، إذا نقلناها إلى ذلك المدار الواسع الذي يرتبط بتاريخ الإنسانية ومصير العقائد الاجتماعية في هذا الحين وبعد حين.
إن أحداث روسيا الحمراء تهدم مذهب كار ماركس من أساسه، ولا تدع منه إلا أنقاضا تلحق بما تقدم من آثار الهدم والانتقاض في تاريخ العالم.
فقد كان قوام المذهب كله على فكرة واحدة؛ وهي أن القضاء على رءوس الأموال يبطل الاستغلال، ويفضي بالأمم إلى مجتمع لا طبقات فيه ولا داعية فيه، من ثم، للتصارع على السلطان.
وهذه فكرة سخيفة نقضها الباحثون الاقتصاديون من وجهتها العملية الواقعية منذ عشر سنين، ولخصنا مباحثهم هذه في كتابنا عن فلاسفة الحكم في القرن العشرين الذي صدر منذ أربع سنوات، فقلنا في الصفحة ال (106) من ذلك الكتاب إن حساب كارل ماركس اختل في هذه المسألة، وإنه «من هنا نشأت طبقة غير طبقة أصحاب الأموال وغير طبقة الصناع والعمال تشرف على أدوات الإنتاج، ولا يتأتى الاستغناء عنها في المجتمع القائم على الصناعات الكبرى، وهذه هي طبقة المديرين الفنيين الذين حذقوا أسرار الصناعة، أو حذقوا أساليب تنظيمها وتصريفها وترويج مصنوعاتها، وهم بين مهندس وعالم طبيعي وخبير بتسيير العمل في المكاتب أو نشر الدعوة.»
ثم مضينا في التلخيص فقلنا إنه متى تداعى رأس المال ، فتلك علامة من التطور الطبيعي الذي لا يرجع إلى الوراء، وسينقضي عهد الشيوعية في روسيا وفي غيرها، فلا يلزم من زواله أن تعود الأمم إلى نظام رأس المال كما كانت قبل التجربة الشيوعية، وإنما تبطل التجربة الشيوعية لتعقبها ولاية المديرين الفنيين حيثما وجدت الصناعة الكبرى، فإن لم توجد فالبلاد التي تخلو منها تظل معلقة بدولاب من دواليب الأمم الصناعية الكبرى إلى أن تتمالك قواها وتتمكن من الوقوف على قدميها.
فالذي يحصل في روسيا اليوم نتيجة معروفة للذين ينظرون إلى هذه المسائل العالمية في مدارها الكبير، الذي لا ينفصل من تاريخ الإنسانية في جملتها، وإنما هو صراع بين نفوذ الصناعة الكبرى ونفوذ الساسة والمستوزرين، وما كان مالنكوف في الواقع غيورا على معيشة العامة والفقراء حين أراد تحويل الصناعة الكبرى إلى إنتاج اللوازم المعيشية وتيسير الضروريات للمحتاجين والمعوزين، ولكنه أراد أن يهدم منافسيه بهدم الأساس الذي يقومون عليه، وهو أساس الصناعات الثقيلة والمصنوعات التي تخرجها، وفي مقدمتها الأسلحة الضخام والطيارات والدبابات والمصفحات، وسائر هذه المصنوعات التي يهتم بها القادة العسكريون كما يهتم بها المهندسون والمديرون والفنيون.
فلا جرم إذن يتفق بولجانين وخروشيشيف سكرتير الحزب الأول، والرجل الذي يدل اسمه أو لقبه الشائع بين الروس على أنه يترقى على عجل، ويتقدم بسرعة كأنها سرعة الدواليب!
ومن الواجب أن يحسب بولجانين من المديرين والخبراء الفنيين قبل أن يحسب من القادة العسكريين؛ لأنه كان مدير مصرف الدولة أو «الجوسبانك» الذي يتبعه ثلاثة آلاف فرع في البلاد الروسية، وكان قبل ذلك مدير مصلحة التعمير التي تممت مهمتها على يديه في ثلاث سنوات بدلا من السنوات الخمس المقررة في المشروع، ولا شك أن القوم قد اصطنعوا الدهاء إذ نقلوا مالنكوف من السياسة إلى إدارة المصانع الكبيرة؛ لأنهم بذلك قد وضعوه على اللولب الذي يدور به حيث تدور الصناعات الثقيلة، فيعمل لها في مستقبله أو يقضي على نفسه بيديه ولماذا أعتقوه؟
والسؤال الذي يسأله الناس في عجب: كيف نجا مالنكوف من الموت؟ ولماذا سقط من أعلى مراكز النفوذ وهو بقيد الحياة، خلافا «للعرف المرعي» في روسيا الحمراء؟
وجواب هذا السؤال يهدم المذهب الماركسي من جانب آخر؛ وهو جانب العلل التي تدفع بطلاب الجاه والسلطان إلى التنافس عليهما والاستئثار بهما في كل مكان.
فعند كارل ماركس أن هذه العلل محصورة في استغلال «الفلوس» ... وعند الواقع في روسيا كما في غيرها أنها هي أهواء النفوس وأواصر القرابة، وما إليها من وشائج الصداقة والوفاق.
فالرفيق خروشيشيف صهر مالنكوف، والجنرال بولجانين زميله في مدرسة كاجانوفتش منذ اختاره ستالين لتدريب الشبان المرجوين لخدمة الدولة في المستقبل، فكان مالنكوف وبولجانين في مقدمة النخبة المختارين، وربما كانت المودة «الأوثق» من هذه المودة بينهما أنهما اشتركا في كراهة بريا، والتآمر على إسقاطه وقتله وتفريق شمله.
والعجيب أن مالنكوف وصهره معا قد أفاضا في الكلام على «المحسوبية» الشخصية في الخطاب الذي ألقاه كل منهما على مؤتمر الحزب التاسع عشر، فدلا بالكلام وبالعمل على أن أهواء النفوس، أهم من حساب الفلوس، حتى في بلاد الروس!
ماذا تعرف عن الوجودية والفوضوية؟1
... قامت في فرنسا في القرن الماضي حركة سياسية سميت في تاريخ الفلسفة باسم
L’anarchismc
بزعامة
، وتلخص سياسته هذه بالحرية المطلقة؛ فلا جبر ولا إلزام على الأشخاص ولا دين ولا دولة، بل تهدف الفوضوية إلى القضاء على الخضوع للسلطة سوى سلطان العلم والعقل، ولكن لم يقدر لهذا المذهب السياسي أي نجاح، فضلا عن إهمال علماء السياسة لدراسته.
وفي فرنسا الآن حركة أدبية أخلاقية واسعة هي المذهب الوجودي، ومن المعروف عن هذا المذهب أن كل إنسان يعمل ما يريد، وفي عمله يجب أن يكون بعيدا عن الخيال، وقد قال سارتر: «إننا نعيش في المادة، فيجب أن نخضع للطبيعة ونتركها تعمل ما تريد.»
ولشدة الشبه بين المذهب السياسي السابق والمذهب الأدبي الموجود الآن نسأل: هل هناك علاقة بين المذهبين؟! وهل يمكن اعتبار الوجودية امتدادا للفوضوية ولكن في ثياب الأدب؟ ...
إدوارد فؤاد
طالب بآداب القاهرة، قسم التاريخ
أحسن الطالب الأديب أولا في تسمية الفوضوية والوجودية بالحركة؛ لأن الحركة أليق بهما من اسم المذهب الذي ذكره بعد ذلك، وقد تكون الوجودية مناقضة للتمذهب بحكم قواعدها الأولى، وهي تجتمع كلها في التعويل على استقلال الفرد بآرائه وميوله، وينتمي إليها - أي إلى الوجودية - أكثر من عشرين مفكرا لا يلتقي واحد منهم بالآخر إلا في عرض الطريق.
وكذلك الفوضوية في تشعبها وكثرة مدارسها وأقاويلها، فإن بردون وباكونين وكروبتكين وأتباعهم في روسيا وإسبانيا؛ يختلفون بالرأي كما يختلفون بالعمل، ولا بد من هذا الاختلاف بين القائمين بالحركة التي تهدم كثيرا ولا تتفق على خطط البناء .
وأحسن الطالب أيضا في التفرقة بين الحركتين؛ لأن إحداهما سياسية وهي الفوضوية، والأخرى أخلاقية أدبية وهي الوجودية، وما بينهما من التوافق العرضي فإنما هو من طريق المصادفة السلبية، حيث يتفق المنكرون للأسس القائمة في بعض الأمور، وإن تفرقوا في الأسباب والأغراض.
بل تكاد الحركتان تتناقضان في مبدأ أصيل يميز كلا منهما ويرجع إليه الفارق الأكبر بينهما.
فالوجودية تعول على استقلال الفرد كل التعويل، ولا وجودية في رأي من الآراء بغير هذا الاستقلال.
والحركة الكبرى من حركات الفوضوية - وهي معروفة بالفوضوية الشيوعية - تخرج الفرد من حسابها وتكاد تمحوه في سبيل الجماعة، ولم تنشأ الوجودية إلا بمثابة احتجاج الفرد على طغيان الجماعة وتهوينها من شأن الاستقلال الفردي في الحركات الاجتماعية، ولا استثناء في ذلك للديمقراطية ولا للاشتراكية المعتدلة ولا لدعوات التأميم والخطط المرسومة لتنظيم العمل والثروة.
فالوجودية في ناحية من نواحيها الهامة احتجاج على الفوضوية كلها، واحتجاج على الفوضوية الشيوعية قبل غيرها، وما يتلاقيان فيه من إنكار التسلط، فإنما هو مصادفة عرضية لا تلبث أن تبتدئ على اتفاق حتى تتشعب على شقاق ونضال؛ لأن إنكار التسلط في الحركة الفوضوية يحمل بين طواياه إنكار المزايا الفردية، ورد الأمر كله إلى الجمهرة الغالبة بالعدد والكثرة دون القيمة والكفاية.
إلا أن الحركتين تتشابهان في خصلة واحدة؛ وهي أنهما معا غير مفهومتين على اتضاح وجلاء؛ لكثرة الشعب التي تتفرع عليهما، وكثرة الأدعياء الذين يلصقون بهما، وكثرة الآخذين منهما بالقشور دون اللباب.
الفوضوية لا تنكر النظام
فالذي يسبق إلى الذهن من اسم الفوضوية - ولا سيما اسمها باللغة العربية - أنها تبطل النظام وتلغيه، وتدعو إلى مجتمع مطلق من الآداب لا نظام فيه.
وهذا غير صحيح.
لأن الفوضوية إنما تنكر «التسلط» كما قال الطالب النجيب في خطابه، ولكنها لا تنكر الهيئات التي تتولى الأعمال العامة بالمشاركة والمشاورة، ولا تلغي هيئة واحدة لازمة للتعليم أو لصيانة الصحة أو لإدارة المصانع أو لتوزيع المطالب والحاجات.
ودعوة برودون على الخصوص قائمة على لزوم هذه المصالح العامة واستغنائها عن «المتسلطين»، الذين يعتمدون على القوة دون غيرها في تغليب مصلحتهم على سائر المصالح الاجتماعية.
وقد ألف كتابه «ما هي الملكية؟» ليقول إنها هي السرقة، ويقول من ثم إن اغتصاب السارقين للثروة المشتركة يضطرهم إلى اغتصاب آخر لحفظ ما سرقوه في أيديهم، وهو اغتصاب «السلطة» واحتكار الشريعة والقانون.
وعند برودون أن اغتصاب الملكية واغتصاب السلطة هما الباعث الأكبر على الجريمة والفساد؛ فحيث لا اغتصاب ولا إجرام ولا فساد، لا حاجة إلى التسلط والمتسلطين.
وهذا الرأي قد بطل عند علماء السياسة وعلماء الاجتماع كما قال الطالب النجيب؛ لأن الدراسات النفسية والمقارنات الاجتماعية بين المجتمعات الأولى والمجتمعات الحديثة، قد عرفت الناس ببواعث الجريمة ولم تحصرها في البواعث الاقتصادية.
ولا تدعو إلى القتل
ومن الشائع عن الفوضوية أنها تدعو إلى القتل أو إلى الاغتيال السياسي لتحقيق برنامجها.
وهذا أيضا من الإشاعات التي تصدق على نفر قليل من الفوضويين ولا تصدق على الحركة كلها، وقد بدأ الاغتيال السياسي قبل عصر برودون وعاش بعده، ولم يكن موقف الدعاة الكبار منه موقف التأييد والتقرير إلا على سبيل الإغضاء والاضطرار.
والنفر القليل الذي يدين بالاغتيال السياسي بين الفوضويين يطلق على الاغتيال اسم «الدعاية بالفعل» أو الدعاية المثيرة، ويعتقد أن حوادث الاغتيال تنبه الأذهان إلى مقاصد الفوضوية، فيتساءل عنها من يجهلها ولا يباليها، ويفهمها الناس من طريق هذا التساؤل فيقبلون عليها.
وقد أنكر كروبتكبن مبدأ الاغتيال السياسي في مقاله الذي استكتبته إياه دائرة المعارف البريطانية بطبعتها الحادية عشرة، وحاول أن يفسره بقوله إنه من قبيل القصاص ورد الفعل للتنكيل بأصحاب هذه الحركة، وإن المغتالين لا يعتدون على الناس جزافا بغير تفرقة بينهم لمجرد التنبيه ولفت الأنظار، ولكنهم يعتدون على المعتدين ويجزونهم بما فعلوه في حماية السلطة والقانون.
ثم نشأت في روسيا طائفة فوضوية اشتراكية تنادي بمقت الاغتيال، وترى أنه من معوقات الدعوة والمنفرات منها، ولكنها لم تكن تشتد في إدانة المغتالين، ولم يكن بينها وبين الشيوعيين فارق كبير في الوجهة الأخيرة، فإنما كان الفارق الجوهري بين الفوضوية والشيوعية أن الشيوعية ترضى عن قيام السلطة أثناء فترة الانتقال لقمع العناصر الرجعية، وتمهل هذه السلطة الموقوتة إلى أن تذبل على شجرتها فتسقط بغير جهد من المجتمع لانتهاء الحاجة إليها.
ولا تنكر الاعتقاد
وليس من الصحيح أن الفوضويين جميعا ينكرون الاعتقاد أو ينكرون الديانة في صورة من صورها التقليدية أو المبتدعة.
فإن الشعبة التي يقودها سوريل ويقترح فيها إقامة النقابات مقام الحكومات، تبني دعوتها كلها على العقيدة التي تسميها ال
Mith
وتؤمن بضرورتها لكل حركة إنسانية.
وإنما ينكر الفوضويون الديانات التي يتخذها المتسلطون ذريعة للسيطرة على الضعفاء، وهي من قبيل المذاهب التي قال عنها أبو العلاء:
إنما هذه المذاهب أسبا
ب لجلب الدنيا إلى الرؤساء
وليس برودون مؤسسها
كذلك يقال دائما إن برودون هو أبو الفوضوية وصاحب الدعوة الأولى إليها.
وهو قول صحيح إذا أريد به تنسيق الفلسفة وتطبيقها على النظم العصرية، ولكنه مع ذلك غير صحيح على إطلاقه في الزمن القديم أو في الزمن الحديث.
فالفيلسوف الرواقي زينون الذي نشأ في القرن الرابع قبل الميلاد كان يؤمن بالمجتمع المتحرر من السلطة، ويفخر بأن تلاميذه يتعلمون منه أن يصنعوا طوعا ما يصنعه سائر الرعايا مكرهين أو مهددين.
والمفكر الإنجليزي وليام جدوين
Goduin
الذي ظهر في القرن الثامن عشر، شرح في كتابه عن العدل الاجتماعي وسائل الحكم الذي يتوزع بين الهيئات ولا ينحصر في سلطة مركزية تملك وسائل الإرهاب والإكراه.
ويمكن أن يقال إن فلسفة الحكم منذ وجدت كانت تشتمل في كل عصر على مدرستين متقابلتين: مدرسة التوسع في سلطان الحكومة لتنظيم المجتمع ، ومدرسة التضييق في هذا السلطان والاكتفاء منه بأقل ما يستطاع لحماية الأبرياء، وليست الفوضوية إلا تطرفا في هذه المدرسة إلى أقصى اليسار، يدعو إليه تطرف الاستبداد على النحو الذي كان عليه قبل الثورة الفرنسية.
الوجوديات
أما الوجودية فالاضطراب في قواعدها أشد من الاضطراب في قواعد الفوضوية؛ لأنها وجوديات كثيرة لا وجودية واحدة، وربما تناقض الفيلسوفان الوجوديان في العصر الواحد والبلد الواحد كما يتناقض الإيمان العميق والإلحاد السافر أو كما يتناقض الزهد والإباحية، ولعل الكثيرين لا يفهمون منها إلا اللفظ الشائع عن الإباحية الأخلاقية المنطلقة من جميع القيود، فيقبلون عليها لأنها سند فلسفي يسوغون به ضعفهم وانحلالهم، وهم يخجلون - أو ينبغي أن يخجلوا - من الضعف والانحلال بغير سند منسوب إلى الفكر والفلسفة.
والأساس الصحيح الذي تقوم عليه الوجوديات السليمة هو إنصاف ضمير الفرد من طغيان الجماعة على استقلاله، ولكن الاستقلال كالمال يلزم الإنسان لأغراض كثيرة؛ فمنه ما يلزمه للعصمة من الزلل، ومنه ما يلزمه للتورط في الزلل وتيسير الذرائع إليه.
وأسوأ الوجوديات الإباحية لا يسوغ الانطلاق من قيود الآداب بغير نظر إلى العواقب والضحايا، فإذا اختار الوجودي أن يستوفي كيانه الفردي بإشباع شهواته، فهو حر في اختياره واحتمال جرائر هواه، وهو حقيق أن يوازن بين الخطر والإحجام على علم بما يصيبه من المنعة وما يصاب به من الأذى، وتلك هي قيمة «الاختيار» الملائم في عرف هؤلاء الوجوديين.
أما المسوغ الفلسفي الذي يستند إليه الوجوديون الإباحيون، فهو أسخف الأسناد الفلسفية التي ظهرت في عالم الفكر والعقيدة.
إنهم يقولون إن الوجود الحقيقي هو وجود الفرد المعروف بشخصه وكيانه، وإنما النوع كلمة أو لفظة أو خيال لا وجود له في غير التصور، وليست «الإنسانية» إلا كلمة خاوية لا توجد بمعزل عن هذا الفرد وذاك الفرد، أو هذا الإنسان وذلك الإنسان.
ومن هنا اسم الوجودية الذي ينتسبون إليه ويحسبونه تصويرا للواقع، لا مراء فيه.
إلا أن الواقع الذي لا مراء فيه أن النوع موجود في تركيب كل إنسان وإنسانة، وأنه ما من خلية في بنية الفرد لم يتمثل فيها النوع تمثيلا أوفى وأعمق من تمثيل الفرد ذاته خصائصه ومقوماته.
ولقد ثبت ثبوت اليقين أن قوام البنية مرتبط بالغدد الصماء وغير الصماء، وأن علاقة هذه الغدد بالخصائص النوعية وثيقة جدا في عملها المنفصل وأعمالها التي تتعاون عليها.
وإذا كان تمثيل النوع حيويا أو «بيولوجيا» حقيقة لا ريب فيها، فالتمثيل النفساني أو السيكولوجي حقيقة تضارعها ثبوتا ويقينا، إن لم تكن أبرز منها للوعي والشعور.
وعلى هذا لا يمكن أن يقال إن الفرد موجود حقيقي وإن النوع وهم ليس له وجود؛ لأننا نستطيع أن نتخيل فردا مجردا من الخصائص النوعية في كل خصلة من خصاله وكل خلجة من خلجات وعيه وشعوره، ومن قال إنه ينطلق على هواه ويمضي على رأسه غير مبال بمصير النوع إلى الفناء، فعليه قبل كل شيء أن يخرج من دعوى «الوجودية» إلى دعوى «العدمية»؛ لأن فلسفته تقوده إلى فناء الفرد وفناء الإنسانية، حين يزعم أنه يبالي بحاضره ولا يبالي بمصيره ولا بمصير الإنسانية جمعاء.
وبعد فهذه الوجوديات كلها شيء، والمدارس الفوضوية كلها شيء آخر.
إن الوجودية لا تسري على الجماعة ولا تتجه إليها إلا من طريق الاتجاه إلى استقلال الفرد على حدة.
أما الفوضوية فهي جماعية قبل كل شيء، وهي حركة سياسية لا تنظر إلى الأفراد متفرقين ولا تبالي بهم مستقلين، وكلهم سواء عندها في ظل النظام الذي لا سلطة للطغاة عليه، وإذا اتفق الوجوديون والفوضويون في كراهة التسلط، فقد يتضارب الفريقان إذا كانت المسألة مسألة طغيان الجماعة لا مسألة الطغيان من أصحاب السلطان.
أنا وجودي ...
وكاتب هذه السطور «وجودي» إذا كان معنى الوجودية إنصاف الضمير الفردي وتقديس الإنسان المستقل بفكره وخلقه، وعندنا أن الجماعة المثلى هي الجماعة التي تهيئ للفرد غاية ما يستطاع من الكرامة والاستقلال، وأنها إذا توقف وجودها على فناء الفرد ومحو استقلاله جماعة جديرة بالفناء.
إلا أن الوجودية التي تؤمن بوجود الفرد لينسى واجبه ولا يذكر غير هواه، ليست في الحق إلا عدمية باسمها وفعلها، وهي من المفارقات والأغاليط بالنسبة إلى الآحاد وبالنسبة إلى الأنواع والجماعات.
فلسفة الحكيم1
والحكيم هنا اسم وصفة.
إنه اسم زميلنا الكاتب القصصي الموهوب الأستاذ توفيق الحكيم.
وأما الصفة فهي الفيلسوف التي ترادف صفة الحكيم، وهي الصفة التي اتسم بها الزميل في كتابه الجديد عن «التعادلية» ليشرح فلسفته الجامعة في مسائل الكون والحياة.
وخلاصة هذه الفلسفة، كما يدل عليها اسم الكتاب، أن «التعادل» هو الحقيقة الأولى في كيان الأرض وكيان الإنسان.
قال في الصفحة السابعة عشرة إن الأرض «كرة تعيش بالتوازن أو التعادل بينها وبين كرة أضخم هي الشمس ... فإذا اختل هذا التعادل ابتلعتها الشمس أو ضاعت في الفضاء ... التعادل إذن هو الحقيقة الأولى لحياة الأرض، فهل صفة التعادل هي أيضا الأولى في كيان الإنسان؟ فلننظر أولا كيف يعيش الإنسان من حيث هو كائن مادي، إنه يعيش طبعا بالتنفس، ما هو التنفس؟ هو حركة تعادل بين الشهيق والزفير، فإذا اختل هذا التعادل بأن طال الشهيق أكثر مما ينبغي طاغيا على الزفير، أو امتد الزفير أكثر مما ينبغي جائرا على الشهيق؛ وقفت حياة الإنسان. فإذا تركنا التركيب المادي إلى التركيب الروحي وجدنا عين القانون، فالتركيب الروحي للإنسان له هو أيضا شهيقه وزفيره فيما يمكن أن نسميه الفكر والشعور، أو بعبارة أخرى العقل والقلب، والحياة الروحية السليمة هي أيضا تعادل بين الفكر والشعور.»
بين الرصيفين
تلك هي خلاصة «الفلسفة التعادلية» التي يدين بها الحكيم الكاتب، والحكيم الحكيم.
ويبدو لنا أن الأستاذ دخل في البحث بهذه الفكرة، ولم يخرج بها بعد البحث في هذا الكتاب على الأقل: كتاب التعادلية.
ومن الجائز أن الأستاذ - في حياته الفكرية - بحث ثم انتهى إلى هذه الفكرة، وأخذ بالمقدمات زمنا طويلا ثم استطرد منها إلى النتائج في خاتمة المطاف.
ولكنه في الكتاب قد طرق الباب وفكرة «التعادل» معه على الباب.
ونحن نؤمن برسالة الفن في توضيح الأفكار، ونؤمن بأن التصوير الفكاهي - أو الكاريكاتور - هو خير وسيلة لإبراز فكرة تحتاج إلى الإبراز.
ولهذا نعمد إلى هذا التصوير، الكاريكاتوري، لنقول إن السلامة في رأي صديقنا الفيلسوف هي السير في وسط الطريق بين الرصيفين.
لا على الرصيف الأيمن ولا على الرصيف الأيسر، بل في مكان متعادل بين الرصيفين.
ولا بد من الاستعداد قبل ذلك بنمرة الإسعاف!
مقابلة وضعية
إن حرص الأستاذ الحكيم على الأمثلة التعادلية قد أنساه أن التقابل بين الأشياء ضرورة وضعية آلية، أو أنها على أحسن تعبير ضرورة لغوية اصطلاحية!
فماذا تكون المواضع إن لم يكن فيها يمين ويسار، وأسفل وأعلى، وأمام وخلف، وأبيض وأسود، وحر وبرد، وحركة وسكون، وجمال وقبح ، وصحة ومرض، وشيء يقابله شيء في كل وضع وفي كل تعبير.
فالتقابل بين الأشياء ضرورة وضعية لا محل فيها - أكثر الأحيان - للقيم الأخلاقية والمعاني الفكرية، وإنما هي ضرورة الوجود المحدود بالنسبة إلى غيره من الموجودات، وما يكون فوق هذا يكون تحت ذاك، وما يكون على يمين سائر يكون على يسار غيره، وما يكون حسنا في وضع من الأوضاع يكون سيئا في وضع سواه.
حتى التقابل بين الفكر والشعور
ونستطرد من المتقابلات الوضعية إلى المتقابلات التي تمتزج بالمعاني والآراء، وقد ذكر منها الأستاذ توفيق متقابلين اثنين مهمين في مذهبه الفلسفي؛ وهما العقل والقلب أو الفكر والشعور.
ويرى الأستاذ توفيق أن الإيمان من عمل القلب والشعور، وأن التفكير المجرد من العاطفة يؤدي إلى الكفر والتعطيل.
والذي نراه نحن أنه لا تقابل بين الفكر والشعور، حتى في هذه المسألة التي يخطر على البال أنها مسألة فكر وشعور قبل كل شيء.
إن في العالم اليوم ملايين من الخلق لا باعث لهم على الكفر والإلحاد غير باعث الشعور بغير تفكير.
إنهم يشعرون بالكراهية والسخط ويصبون غضبهم على الكون كله؛ لينكروا فيه كل معنى ويجحدوا فيه كل جميل.
إنهم يشعرون بغواية الشهوات والموبقات ويشعرون بالعوائق التي تصدهم عنها من جانب الدين، فيمرقون عن الدين ذهابا مع الشعور بالمنعة، والشعور بالانطلاق، أو الشعور بالفوضى والتمرد على الأوامر والنواهي والمحرمات والمحللات.
ومن الناس من يكفر بالله على سبيل التحدي والمناجزة؛ لأنه يحسب أن الله يحابي ذوي النعمة والجاه، ويريد أن يثور على هذه المحاباة فيجعلها ثورة في صورة الإنكار والإلحاد.
ومن الناس من يهديه الفكر وحده إلى الإيمان؛ لأن الفكر لا يناقض الإيمان بطبيعته، بل يمشي معه في طريقه، ولكنه لا يستطيع أن يبلغ الغاية من هذا الطريق؛ إذ كان الفكر محدودا والغاية من هذا الطريق بغير حدود.
والحياة ليست على الحياد
والحياة، بعد، ليست على الحياد بين هذه الموجودات، كائنا ما كان وضعها من التقابل أو التعادل.
الحياة على الدوام خروج على الحياد إلى جانب من الجوانب ، وقدرة تقاوم دواعي التعادل إذا اقتضى الحال، وكثيرا ما يقتضيه.
مثال ذلك حرارة الجسم وحرارة الهواء.
إذا تساوت حرارة الجسم وحرارة الجو فلا حاجة إلى وقاية من الملبس أو المسكن.
ولكن الحياة تخرج دائما على الحياد لتزيد هنا أو تنقض هناك، ولولا هذا الخروج على الحياد، لما كانت الملابس ولا المساكن ولا المناجم ولا العلوم التي تعنى بخصائص المواد والتوفيق بين درجات الحرارة ومطالب الحياة.
والمثل الذي ضربه الأستاذ توفيق للتعادل من دوران الأرض حول الشمس أو ضياعها في أجواز الفضاء، إنه لو كان مثلا للحياد بين قوتين لأصيبت الأرض والشمس بالشلل، ولم تتحرك هذه ولا تلك بانتظام ولا بغير انتظام.
ولكن الأرض تحركت؛ لأن هناك شيئا خارجا على الحياد بين الجاذبية والاندفاع، ولولا أن الأرض تملك ذلك الشيء الذي يقاوم جذب الشمس ودفعها على السواء، لسقطت بغير حراك.
ربح وخسارة
وبعد، فإن الحياة «لعبة» لم تخلق ليخرج منها اللاعبون متعادلين «كيت» على سواء.
وإنما خلقت الحياة لتقاوم ما حولها وتتغلب على كل مقاومة، وإنها لحية قادرة ما دامت «تقاوم» وتتغلب، فإذا تعادلت قوى العمل والسكون، أو قوى البناء والهدم، وقفت وآذنت بالانحلال ثم الزوال.
الحياة قوة تعمل وتقاوم الحوائل دون عملها، وظهورها بين عناصر المادة نفسه إنما هو ظهور شيء يتجه مع الدوافع والبواعث، ولا يقف متوسطا بين جميع الاتجاهات، وكلما ارتقت الحياة تبين ارتقاؤها في وسائل الاتجاه لا في وسائل الوقوف والسكون بين الأطراف، فهي إذا أرادت عملت، وإذا عملت قدرت على المضي إلى وجهتها وتوسلت لها بوسائلها، ومقياس الارتقاء بين حياتين أن الحياة الأرقى مريدة فعالة، وأن الحياة التي دونها تخضع لما حولها وتتكيف بالمؤثرات ولا تؤثر فيها.
ولنضرب مثلا بالأستاذ توفيق نفسه، وهو يهم بتأليف الكتاب عن التعادلية.
فماذا كان يحصل لو تعادلت أسباب الكتابة وأسباب السكوت؟
لا توجد فلسفة التعادلية.
وفلسفة التعادلية على كل حال شيء خارج على الحياد، وينبغي أن يكون خارجا على الحياد في الساعة التي يحاول فيها إقناعي بالتعادلية، ويحاول فيها أن يصل إلى يدي ثم إلى إرادتي ثم إلى عقلي، ثم إلى عملي بعد الفراغ من الإقناع.
وحمار الحكيم
وننتقل من الحكيم إلى حماره القديم.
لكنه هنا حمار له زميل أولى بالتقديم، وهو حمار «بريدان» المشهور في التعادل بين حزمتي البرسيم.
ضربوا المثل بحمار «بريدان» فقالوا إنه يهلك جوعا بين حزمتي البرسيم عن يمينه وعن يساره، إذا تساوت الحزمتان في اللون والمقدار والرائحة وسائر المشهيات والمرغبات.
وكان من المضحك أن يصور الفلاسفة حمارهم على هواهم، وأن يتخيلوه واقفا على الحياد بين الحزمتين، فلا يميل إلى هذه أو إلى تلك إلا بمرجح في إحدى الحزمتين.
وهذه فلسفة لن يعترف بها الحمار، ولن يعمل بها في ذلك الموقف ولا في موقف غيره؛ لأنه لا يقف فيه على الحياد، ولا يلبث أن يطالب نفسه بالاختيار بين شيئين لا بين حزمتين من البرسيم.
لا يلبث أن يطالب نفسه بالاختيار بين الأكل أو الموت جوعا، ومتى اختار الأكل فإنه ليأكل يمينا أو شمالا ولا يبالي ذلك التعادل المزعوم بين برسيم اليمين وبرسيم الشمال، فإنه هو لا يقف على الحياد بين الموت جوعا وأكل البرسيم حيث كان.
كاتب المسرحية كمفكر
ومن المصادفات أن كتاب «التعادلية» كان أول كتاب قرأته بعد الفراغ من كتابين وصلا إلى مصر في الشهر الماضي، وكلاهما يتكلم عن المسرحي المفكر أو القصاص المفكر، أو عن الفكرة التي يعمل لها كتاب المسرحيات والروايات.
أحدهما كتاب «مؤلف المسرحية كمفكر»، لصاحبه إريك بنتلي أستاذ الأدب المسرحي بجامعة كولمبيا الأمريكية.
والآخر كتاب «مقالات أدبية وفلسفية بقلم سارتر» مترجمة بقلم أنيت مكلسون من الفرنسية إلى الإنجليزية.
فكان الإغراء بالتطبيق قويا بعد قراءة الآراء والقواعد والملاحظات، ثم قراءة الفلسفة التي يكتبها بقلمه كاتب عربي في طليعة المؤلفين التمثيليين، وإن لم تكن رواياته المفرغة في القالب المسرحي مما يمثل على المسارح في جميع الأحيان.
من العودة إلى التسلية
وفي وسع القارئ أن يتصور «برج بابل» على الطراز الحديث إذا استمع إلى الآراء المضطربة المتناقضة، التي جمعت في هذين الكتابين.
فمن هذه الآراء أن الدراما، كما قال لويس قبل ثمانين سنة، تتحول من المراسم الدينية إلى العبارة الفنية إلى التسلية وتزجية الفراغ، وأنها لا تنقذ نفسها من هذه الحطة التي تنحدر إليها إلا إذا تخصصت لفكرة تدعو إليها، أو لحالة اجتماعية تعرضها معرض النقد والتصوير.
ومن هذه الآراء أن الصور المتحركة قد أبطلت الدرامة الواقعية كما بطل تصوير الملامح والأشباه بعد ظهور الصور الشمسية، فلا حاجة اليوم إلى «المذهب الواقعي» أو المذهب الطبيعي على المسرح؛ لأنهما مذهبان متوافران على اللوحة الفضية بغير مجهود.
ومن رأي «بنتلي» أن الدراما العصرية مصابة بالجفاف واليبوسة، وأنها إذا قرئت بعد شكسبير وشعراء اليونان كانت أشبه «بالسناريو» الذي ينتظر الملء والحشو خلال التمثيل.
وإذا كانت الفكرة هي التي تنقذ الدرامة من حطة اللعب الماجن والتسلية الرخيصة، فكيف يعالجها المفكر على أسلوبه الفني دون أن يخرج على أصول الفن أو وظيفة الفنان؟
يريد ماسون من المؤلف أن يختفي عن النظر وعن الفكر أثناء عرض الرواية، ويعيب على سارتر أنه يفتأ يشد الخيوط ويتدخل بين الشخوص كما يفعل صاحبه جويبتير في التطفل على الواقع لتنفيذ مقاديره وإرسال بروقه ورعوده.
ويرد عليه بنتلي قائلا إنه لم يلاحظ هذا التطفل والاقتحام على مسرحيات سارتر، وإنه - لحسن الحظ - قرأها قبل أن يطلع على فلسفة سارتر، فبدا له أن القارئ يستطيع أن يتلقى أفكارها بداهة وإن لم يسمع من قبل باسم كيرجارد وهيدجار.
ونعود إلى سارتر فنسمع منه العجب في نقد الفكرة الروائية؛ لأنه - وهو الفيلسوف الوجودي الملحد - يكتب عن الكاتب الكاثوليكي مورياك فيقول: «إن الكتاب المتدينين أصحاب «عقلية» صالحة لكتابة الرواية؛ لأن المتدين حر، ولعله يغيظنا بيقينه؛ لأنه شيء مكتسب، ولكنه إذا كان كاتبا روائيا فهذه الصفة فيه مزية.»
ثم يقول: «إنه حتى فكرة الخطيئة توافق أصلا من الأصول اللازمة لكتابة الرواية.»
ثم يفاجئ الكثيرين من الوجوديين المتشبهين به في مصر والبلاد الشرقية حين يقول إن الفكرة المادية تناقض الحرية بل تناقض طبيعة الفكرة؛ لأنه كما جاء في مقاله عن المادية والثورة: «إذا كان الواقع النفساني تحت سيطرة الواقع البيولوجي، وكان هذا الواقع البيولوجي تحت سيطرة الأحوال الطبيعية في العالم؛ فمن الجائز أن يكون الفكر دالا على سببه، ولكنه لا يجوز أن يكون دالا على قصده وموضوعه.»
برج بابل
وكن على يقين أنك تسمع الرأي ونقيضه من كل ناقد قبل أن تنتقل من البحث إلى غيره، أو من الفصل إلى ما بعده؛ لأن المصيبة العظمى في هؤلاء النقاد أنهم مولعون بإعطاء الأسماء وإقامة الحواجز وتقييد الآراء في سياق البحث عن حرية التفكير، وكلهم تعنيه فكرة واحدة مسلطة على رأسه وهو يكتب أو يتعرض بالنقد لمن يكتبون، وتلك الفكرة الواحدة هي تبرئة الفن من تهمة «الفقر العقلي» أو التجرد من القدرة على التفكير، وعلى هذا يحشرون الأسماء المصطنعة حشرا ليطلقوها على أفكار فجة كفقاقيع الصابون لا تقوى على نسمة هواء، وأظن أن هذه الحركة لا تزال على مشابه وثيقة من الحركة النسوية في عالم السياسة؛ فإن المرأة التي تمتلئ بفضائل جنسها لا تعنيها مساواة الرجل في حقوقه ولا في واجباته، وإنما تطمح إلى مساواته حين تشعر بالفقر النفساني أو العقلي بالنسبة إليه، فلا يرضيها إذن إلا أن تكون كالرجل في جميع الصفات، لو كانت هذه الصفات من العيوب.
والخلاصة
والخلاصة أن الفن لا يخلو من الفكر ولا يمكن أن يخلو منه؛ لأنه «فن إنساني» يعبر عن «الشخصية الإنسانية».
وليس من المعقول أن يوجد فنان كبير بغير فكرة أو بغير فهم بديهي للتفكير، ولكننا على هذا لا نزال نشعر بوظيفة للفنان ووظيفة أخرى للفيلسوف، وقد نقترب بهذه الحقيقة من المشاهدات اليومية؛ إذ قلنا إن الرجل العظيم لا يخلو من خلق عظيم، ولكننا نطالبه بغير عمله حين ننتظر منه بحثا في حقائق الفضائل ودخائل المحاسن والعيوب التي يتصف بها العظماء وغير العظماء.
مكان التعادلية
وبعد، فأين مكان «التعادلية» من فلسفة الحياة؟ وأين هي من الفكرة التي تشيع في روايات الحكيم؟
الحق أن «الفكرة» في روايات الحكيم الفنان أقوى من الفكرة في كتاب الحكيم الحكيم .
هناك لا تعبر فصلا من رواية دون أن تلقاك فكرة صائبة أو فكرة جميلة على لسان شخص من شخوصها، يقولها ولا يباليها.
وهنا في كتاب الحكيم الحكيم تفتتح الكتاب من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة على فلسفة وتفكير، ولكنك لا تأمن إذا أسلمت زمامك للحكيم الحكيم أن يدلك على أسلم الطرق في الحياة: طريق التوسط بين الرصيفين.
شخصيات أمام محكمة التاريخ1
كنت أعيش هذا الأسبوع في يوم واحد لم يحن بعد، وهو اليوم الحادي عشر من شهر يوليو.
إنه يوم لا ينسى في تاريخ مصر الحديث؛ لأنه يوم ضرب الإسكندرية وفاتحة أيام الاحتلال الذي دام بعد ذلك أكثر من سبعين سنة.
وإنه ليوم لا ينسى في تاريخ النهضة الشرقية؛ لأنه يوم الذكرى لأكبر المصلحين المصريين الإسلاميين منذ القرن الرابع للهجرة، وهو الأستاذ الإمام محمد عبده - رحمه الله.
وإنه ليوم أذكره فيما أذكره من أعمال التأليف؛ لأنه يرتبط بقصة كتاب ألفته من اليوم الحادي عشر من شهر يوليو هذا، وكأنما كان منظورا إليه بلحظ الغيب على حد تعبير أبي العلاء؛ لأنه صدر في اليوم الخامس من الشهر وصودر في اليوم السادس منه بأمر فاروق أو حاشية فاروق، ثم جاء اليوم السادس والعشرون من الشهر وفاروق في ديار غير هذه الديار!
محكمة تاريخية
كلما قلبت مراجع التاريخ في حادث من الحوادث المصرية الكبرى، خطر لي أننا في حاجة إلى محكمة عادلة تنظر في تاريخ ذلك الحادث نظر القضاة، وتدين من تدين وتبرئ من تبرئ بوثيقة القاضي المنصف وبينة الشهود العدول.
محكمة تستدعي الموتى كما تستدعي الأحياء، وتنيب عن الموتى من يحضر عنهم، للدفاع أو للمناقشة، كما تنيب المحاكم من يحضر عن الغائبين.
ما أكثر المجرمين الذين يخرجون يومئذ بهالة الشرف!
وما أكثر الأبطال الذين يخرجون يومئذ بوصمة العار!
وما أكثر «الشخصيات» التي تخلق في الأذهان خلقا جديدا يناقض كل ما عرف منها قبل الآن! حتى كأنها كانت مرسومة على البعد بوحي الخيال في قصة من القصص، فولدت بعد ذلك في عالم الحقيقة بسيرة أخرى.
شخصيات
وقرأت عن اليوم الحادي عشر من شهر يوليو مشغولا بهذا الخاطر، معتمدا أن أشهد تلك المحكمة التاريخية كأنها قائمة بقضاتها وشهودها ترد الاعتبار وتدين الهاربين من وجه العدالة، وتخلق «شخوص» التاريخ على حقيقتها مبرأة من الزيف والمبالغة والتشويه.
ومرت بي «شخصيات» كثيرة لا تستغني واحدة منها عن شهود هذه المحكمة.
شخصيات تبرز في التاريخ بشارات المجد والعظمة، وليس أيسر من إدانتها بالخيانة العظمى، لو وقفت بين يدي ذلك القضاء.
وشخصيات تتوارى في التاريخ عن الخزي الذي يلاحقها ظلما وعدوانا، وليس أيسر من إبرازها على قمة المجد أعلاما يقتدي بها العاملون.
كم من هؤلاء! وكم من هؤلاء!
أيها التاريخ! ما أهون احتقارك على من يريد أن يهزأ بك ويشيح عنك ببصره!
وأيها الضمير! ما أحوج العاملين إليك كلما أشاحوا بأبصارهم عن التاريخ، ونظروا إلى المؤرخين بين جاهل ومعرض، ومأجور وسايح في بحر من الظلمات، لا يطلع عليه نهار!
عبد الله نديم
كثيرون وكثيرون، كثير من يدان بعد تشريف، وكثير من يعظم بعد هوان، وكثير من يخلق في الأذهان خلقا جديدا بعد الإدانة والتعظيم.
ومن هؤلاء الذين يخلقون خلقا جديدا في الأذهان رجل من أجدر الناس بالإنصاف بين أهل القلم، وهو الأديب الخطيب الصحفي الرائد عبد الله نديم.
لا تفهم من جملة الأخبار عنه إلا أنه داعية ثرثارة، أقرب إلى التهريج منه إلى الجد والرأي السديد.
ولا تكاد تعرفه بهذه الصورة التي لا تنصفه حتى يستوقفك بخبر صغير هنا أو كلمة عارضة هناك، فتبادر الصورة الشائهة قائلا: قفي أنظر إليك نظرة أخرى، فما أنت على التحقيق بعبد الله المظلوم.
ونظن أنه يبدو كذلك لمن شاهدوه وسمعوه ولا يبدو بها لمن يقرءون تاريخه، وحسب، بعد سنوات وسنوات.
رآه «بكتال» المستشرق الإنجليزي الذي يعرف الشرق معرفة أبنائه، ويعرف اللغة العربية معرفة مكنته من ترجمة القرآن الكريم، ويعرف الإسلام معرفة حملته على الإيمان به والتعرض من جراء ذلك لكثير من المتاعب والمنغصات، ويعرف الثورة العرابية تلك المعرفة التي تظهر للقارئ من قصته عن أبناء النيل.
ووصف «بكتال» شخصية عبد الله النديم في قصته عن الثورة العرابية، فوصف لنا شخصيته تكمن فيها النار الملتهبة وراء صفحة من القداسة والخشوع، ويكاد يقول إنه كان يحرض على الفتك كما كان يحرض على الثورة، وإن القلم واللسان بعض أسلحته - لا كلها - في ذلك الصراع العنيف.
كان عبد الله نديم يحرض على الزحف بالجيش إلى ميدان عابدين، ويكتب في صحيفته عن ذلك الموكب الرائع أنه «كان زفاف الحرية في مصر.»
وكان يتكلم في الجماهير فكأنما يلقي النفط الملتهب على الحطب، ولكنه كان يحسن الإطفاء كما يحسن الإشعال والإيقاد.
قالت صحيفة مهملة من صحف تلك الأيام بأسلوبها الذي ننقله بحروفه: «لما كان حضرة الأستاذ النديم حريصا على تنفيذ ما تعهد به عرابي من حفظ الأمن مراعاة للمصلحة، وتلاحظ له أن أفكار الأهالي متهيجة بسبب لائحة الدولتين ووجود أسطوليهما في مياه الإسكندرية، ويظهر له ذلك بما حدث من المتظاهرين أثناء مرور دولتلو درويش باشا، خشي منه أنه ربما وقع من بعض الرعاع ما لا ينطبق على تعهد عرابي ومصلحة الحزب الوطني، فاغتنم فرصة تجمهر الناس وبث فيهم بعض إخوانه يوعزون إليهم بالحضور إلى جهة الأنفوشي في مساء ذلك اليوم لسماع خطبة أدبية، وما جاء وقت العشاء حتى توافد الناس زمرا إلى تلك الجهة، وقام فيهم الأستاذ المومأ إليه خطيبا، فحضهم على استعمال السكينة والهدوء وترك السياسة لأربابها من رجال الحل والعقد، ولامهم على ما حدث منهم من التظاهر في هذا اليوم، وحرضهم على الالتفات إلى الأمور النافعة من الصناعة والتجارة إلى غير ذلك من النصائح المفيدة.»
قال الكاتب في صحيفة البريد: «ومما يضحك الثكلي ما زعمه ذوو الأغراض بعد دخول الإنجليز مصر أن هذه الخطابة كانت في تحريض الوطنيين على الفتك بالأجانب؛ مما نشأ عنه حادثة 11 يونيو، مع أني كنت حاضرها وشاهدت نديما بعيني رأسي، وسمعت جميع ما فاه به مما لا يخرج عن موضوع ما فاه به آنفا.»
وإنك لتكاد أن تعرفه بهذه الصورة مسلما له صناعة اللسان بشقيها من الإثارة والتسكين، إذا بخبر صغير في زاوية من زوايا الصحف يريك الرجل من ذوي الرأي والمشورة في مآزق الحرج، ويخيل إليك أنه لو أطيع لتغيرت الحال بخير منها على الأقل في بعض الأمور.
كانت الضربة الكبرى التي زعزعت العرابيين وأوقعت الفشل في صفوفهم وجرت إلى الفتنة في الجيش المقاتل؛ «بياننامة الخلافة» كما سميت في ذلك الحين، وهي المنشور الذي أعلن فيه السلطان العثماني عصيان عرابي وخروجه على ولي الأمر، ومروقه من حظيرة الشرع الشريف.
وكان رأي عرابي إخفاء هذه «البياننامة» والمبالغة في كتمانها.
أما «عبد الله نديم» فقد أشار بغير ذلك وألح على عرابي بوجوب نشر «البياننامة» مشفوعة برسائل التشجيع التي كانت ترد إليه من حاشية السلطان، وأن يعقب على هذا وذاك بالحملة على الدولة البريطانية ومشيري السوء من حول السلطان؛ لأنهم أكرهوه على توقيع ما كتبوه وتطاولوا على ذلك المقام الأعلى - مقام الخلافة - بالتهديد والإرغام.
قال عبد الله نديم: «إن البياننامة لا بد أن تصل بكل حيلة إلى داخلية القطر ويطلع الناس عليها، فتنفر القلوب وتتفرق الكلمة، بخلاف ما إذا عرضت عليهم مشفوعة بالرد عليها.»
وهكذا حصل؛ فإن الجيش فوجئ بالمنشورات، فأحدث فيه ما أحدثه رفع المصاحف على الأسنة في حرب علي ومعاوية، وكان لذلك أثره في اضطراب العزائم وتوهين الثقة بالطاعة الواجبة لقائد الميدان.
وقد شهد النديم بوادر هذا الاضطراب؛ لأنه لم يكن ينزوي في داره ليكتب صحيفته بين الجدران، بل كان ملازما لعرابي في خط النار، ليجبر بالخطابة والرأي العاجل ما تكسره نكبات الهزيمة والخيانة، وقد كان أكثر الهزيمة من خيانة الأعوان المتواطئين مع الأعداء، وبلغ منها أن الجيش الإنجليزي ضم إليه «البروجية» الذين لازموا قصر الخديو، فضربوا «نوبة» الارتداد التي لا يشك سامعها من المصريين أنها صادرة من معسكر القيادة، ولم ينكشف السر إلا بعد وقوع الفشل والاختلال.
والذي لا ينسى نسي!
أما اليوم الذي لا ينسى في تاريخ النهضة الشرقية، فقد نسي مع الأسف الشديد!
نسي حيث ينبغي أن يذكر، وحين ينبغي أن يذكر؛ لأنه في هذه السنة يوافق انقضاء خمسين سنة على وفاة الإمام الذي لم ينس إنهاض الشرق الإسلامي قط، فنهض لينساه!
إن هذا الموعد يتخذ في الشعوب الحية الذاكرة مناسبة لإحياء الذكريات والوفاء بالشكر لمن يستحقه من النوابغ والعظماء والمصلحين، وإن رجالا أصغر قدرا وأهون أثرا من محمد عبده تقام المحافل لذكراهم، ويدعى إليها القريب والبعيد للمساهمة في هذا الواجب الذي يشرف الأمم قبل أن يشرف عظماءها في القبور.
وإن هذه المحافل لتنفع الأحياء ولا نفع منها للأموات؛ لأنها تنويه بالأمم التي تخرج للعالم ذلك العظيم، وتنويه بالخلق ينبهها إلى الحفاوة بذكراه.
وما من أمة في الشرق الإسلامي إلا وهي على أهبة لتلبية الدعوة إلى ذكرى الرجل الذي يتردد اسمه من أقصى المغرب إلى تخوم الصين.
ونحن نسمع اليوم بالحزب الإسلامي في أندونيسية، ونعلم أنه أقوى أحزابها بالعدد والصوت المسموع، ولا يعلم الكثيرون منا أن قادته يعترفون بالتلمذة لمحمد عبده، ويطلبون إلى اليوم كتبه وآثاره من الديار المصرية.
ومنذ سنتين كنت في إحدى المكتبات، فأقبل ثلاثة من حجاج الصين يسألون عن تفسير «محمد عبده»، ويقول لهم صاحب المكتبة: إنكم تسألون عن تفسير المنار. فيتشاورون بينهم هنيهة ولا يشترون التفسير حتى يعلموا أنه مقتبس من دروس الأستاذ، وأن صاحب المنار تلميذ من تلاميذه الكبار.
ومن المغرب إلى نيجيريا إلى إفريقية الجنوبية إلى إفريقية الشرقية، لا تذكر النهضة الإسلامية إلا ذكروا معها اسم «محمد عبده» في مقدمة الأسماء.
ورجل مثل هذا تنقضي خمسون سنة على وفاته ولا يسمع هؤلاء الذاكرون لفضله أن فضل الرجل مذكور في بلده، وفي المعهد الذي نشأ فيه وتلقى الأذى كله في سبيل إصلاحه، ومات والعداوة تلاحقه من جراء هذا الإصلاح.
يا له من وفاء!
لقد كان أيسر شيء يستطيعه الجامع الأزهر أن ينهض بهذه الأمانة وأن يتخذ منها مناسبتها الحاضرة، وإننا لفي حاجة إلى خلق هذه المناسبات، لو لم تكن حاضرة بغير تدبير.
وكان هذا الواجب أوجب ما يكون على الجامع الأزهر؛ لأنه ظفر بالجهد الأكبر من جهود المصلح العظيم، ولم ينبغ فيه أحد في هذه السنين الخمسين لا يرجع نبوغه إلى غيرة ذلك الرجل وجهاده الذي أعناه في إبان القوة والمضاء.
ومنذ خمسين سنة فارق الرجل دنياه «مستحقا» كل عداوة الأقوياء في سبيل رسالته التي شملت بلاد الشرق الإسلامي من أقصاها إلى أقصاها، وثارت ثورة الأمير - وهو غائب عن مصر - لأن أناسا من حاشيته ساروا في الجنازة ونسوا، كما قال في خطابه إليهم: «إنه عدو الله وعدو النبي وعدو الدين وعدو الأمير وعدو العلماء وعدو المسلمين وعدو أهله، بل وعدو نفسه، فلم هذه المجاملة؟»
وصح من هذا كله أن الأمير عدوه الذي لم ينس عداوته بعد أن فارق الحياة؛ لأنه أراد للأزهر وللمعاهد الدينية وللمحاكم الشرعية نظاما غير النظام الذي ارتضاه لها الأمراء منذ مائة سنة!
تلك عداوة الأمير للمصلح الكبير من أجل رسالته الباقية.
فأين الصداقة الباقية له بعد خمسين سنة؟
في ذمة التاريخ
ومهما يكن من غلط التاريخ، فلنحسب له من الحسنات أنه في هذا المقام أصوب من التلاميذ والمريدين، ومن الأحياء الذين لا يذكرون ولا يشكرون!
ولن يقول الناس: إن ذكرى «محمد عبده» ذهبت منسية لأنه لا يستحق أن يذكر، وإنما يقولون إن الذين ينسونه هم المنسيون في حساب الحق والعرفان بالجميل.
وبين الحادي عشر والسادس والعشرين
ونختم الذكريات من هذا اليوم الحادي عشر، بعبرة الكتاب الذي صودر؛ لأنه أفشى قليلا من الأسرار التاريخية التي لصقت بذلك اليوم العصيب.
علم الله أننا لم نقل في ذلك الكتاب كل ما ينبغي أن يقال، وعذرنا في ذلك أنه - مع هذا - لم يسلم من المصادرة السريعة، ولم تصبر عليه حاشية القصر بضع ساعات، ولا نقول بضعة أيام.
بل الشاهد بين يدي القضاء يقسم اليمين على أن يقول الحق وأن يقول كل الحق ولا يقول إلا الحق.
وأردت أن أقسم هذا اليمين بين يدي التاريخ، فأشفقت أن أكون بهذا قائلا ما لا يقرأ ولا يسمع له خبر.
فاكتفيت بثلثي اليمين، وأقسمت أن أقول الحق ولا أقول إلا الحق، فكأنني لم أصنع شيئا بهذا الاختصار.
حتى مضى أسبوعان اثنان، وكأنهم لم يصنعوا شيئا بمصادرة الكتاب؛ لأن ما قيل بعد الأسبوعين في فاروق وأجداد فاروق طوفان من الأرض والسماء، إلى جانب ذلك الجدول الصغير عبرة لمن ينسون العبر، وقديما قيل:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وسيخالونها تخفى على الناس ألف مرة وآلاف المرات؛ لأن التكرار لا يعلم أبناء آدم وحواء.
المجتمع ووسائل الإنتاج
أين هم يا عدوي؟
قرأت أخيرا مقالين للأستاذ ... نبهني إليهما صديقان من الأدباء.
والذي يعني القراء من هذين المقالين موضوعان علميان؛ وهما موضوع الإنتاج المادي في الشيوعية، وموضوع الفرد وحقوقه في الوجودية، ويلحق بهما ذيل يتعلق بالأبرياء الذين يقول الأستاذ ... إنني رميتهم بالشيوعية وهم لا شيوعيون ولا هم يطيقون الشيوعية من بعيد، ولا عمل لهم إلا أن يلعنوها في السر - في السر فقط - ويوافقوها في العلانية ممن قبيل المجاملة ليس إلا.
أما موضوع «رسائل الإنتاج المادي» فالأستاذ ... يزعم أنني أنكر تأثيره في حوادث التاريخ، وهو زعم غير صحيح، لا أقول به ولا أعلم أن أحدا من أصحاب المذاهب الاجتماعية قال به في عصر قديم ولا حديث.
فتأثير وسائل الإنتاج أو الماديات على الإجمال مسلم مقرر في أقدم الآراء، ولم يخترعه الشيوعيون أو الماديون التاريخيون، وإنما جاء الشيوعيون أخيرا بإنكار كل شيء غير وسائل الإنتاج، فلا أديان ولا عقائد ولا آداب ولا فنون إلا من وسائل الإنتاج، وبغير وسائل الإنتاج لم يكن من الممكن ظهور الحقائق المجردة في الرياضيات، فإنها لولا الانتفاع بها في وسائل الإنتاج، لم يكن من المستطاع أن يدركها عقل الإنسان.
هذا الذي ننكره ونعلم أن كارل ماركس إمام الشيوعية يخلط فيه خلطا ذريعا لا يستقر على قرار.
فهو تارة يدعي أن وسائل الإنتاج هي التي تخلق الطبقة المسيطرة على المجتمع، وتارة يدعي أن الطبقة المسيطرة هي التي تخلق وسائل الإنتاج، وفي غير هذين الموضعين يقول إن المكنات ومصنوعاتها هي المهم في تطور التاريخ، وفي موضع آخر يقول إن المهم هو العلاقات الاجتماعية التي تربط بين المشتغلين بتلك المكنات والمصنوعات، ويهرب من مناقضة الواقع فيقول إن المؤثرات المادية القديمة قد تبقى بعد أوانها بحكم العادة، ولكنه لا يقول لنا ما هي تلك العادة التي تقاوم المؤثرات المادية الحاضرة بفعل المؤثرات المادية قبل خمسين أو ستين سنة.
هراء يحسبونه علما وهو أهزل من الهواء، وما كان لنا أن ننكر قولا يعطي الماديات حقها من التأثير ولا يلغي كل ما عداها من عوامل التاريخ، فأما مذهب المادية الذي يفسر تحنيط الموتى وحرق جثثهم بسبب واحد، فنحن لا ننكره وحسب - كما يظن الأستاذ ... متواضعا في الظن - بل نحن نقول كما تقدم إنه هراء من أهزل الهراء، أو إنه بمرتبة دون ذلك أهزل من الهراء. •••
ويرى الأستاذ ... أننا أخطأنا في القول بأن الوجودية تقرر الفردية.
فليعلم الأستاذ ... إذن أننا نتحداه أن يذكر معنى واحدا للوجودية غير الفردية من الألف إلى الياء.
فالوجودية كما يدل عليها اسمها مأخوذة من الوجود
Existence
مقابلا للماهية
Essence .
ومعنى هذه المقابلة أن الموجود الحقيقي هو الفرد، وأن الماهية كلمة على اللسان لا وجود لها في الخارج.
فزيد وبكر وعمرو وخالد موجودون لا شك في وجودهم، ولكن «الإنسانية» التي تجمعهم في ماهية واحدة خيال في الذهن أو كلمة على اللسان.
إذا استطاع الأستاذ ... أن يذكر للوجودية، على تعدد مذاهبها، معنى غير هذا فليتفضل بذكره وذكر مدلوله الذي يراه، وإنا لمنتظرون.
وبعد هذا نهلل قليلا للأستاذ ... لغيرته على الأبرياء المتهمين، ونصيح أو نهم بأن نصيح: يا سلام! الدنيا بخير يا خلق الله.
ولكننا لا نذكر أننا تعرضنا للاتهام مرارا من هؤلاء الأبرياء، حتى نعود إلى التهليل والتحبيذ مع إيقاف التنفيذ، فإننا لا ندري أين كانت غيرة الأستاذ ... على الحق، يوم تطاول على كاتب هذه السطور من لا يرتفعون إلى مواطئ نعله فزعموا أنه كاتب مأجور.
وإلى أن يقول لنا الأستاذ ... أين كان يوم كان أبرياؤه يقذفون بالإفك والبهتان؛ نحب أن نبلغه بعض الإشاعات عن مخلوق يقال له العنقاء تارة، ويقال له الشيوعية تارة أخرى بما لها في العالم من دعايات وأذناب ومأجورين.
لا يحتاج منا الأستاذ ... إلى قسم لنقول له إن تلك العنقاء موجودة لا شك فيها، ولا يحتاج منا إلى قسم لنقول له إن هذه العنقاء لها دعاة منتشرون في أرجاء الكرة الأرضية، وإنهم - بغير قسم أيضا - لم يغفلوا عن الديار المصرية بصفة خاصة؛ لأنها مفتاح الشرق والعالم الإسلامي والبلاد العربية والقارة الأفريقية في وقت واحد.
ولا يحتاج منا الأستاذ ... مرة أخرى إلى قسم لنقول له إن الدعاة لهم عمل مطلوب منهم، وهو ترويج سياسة الكرملين والحملة على خصومه بكل حجة مدعاة إلا أنهم خصوم الشيوعيين.
والآن وبغير حاجة على قسم أيضا، نتحدى الدكتور ... أن يذكر لنا كاتبا فردا من أبريائه كتب حرفا واحدا يخالف سياسة الكرملين في عهد من عهوده، وإنه ليعلم أن أبرياءه مصريون - مصريون جدا - ولكنهم لم يحملوا على الصهيونية مرة واحدة يوم كان مرضيا عنها من الكرملين، ولم تكن حملتهم هنا إلا تابعة للحملة من هناك.
وهؤلاء الأبرياء - ويا للمصادفة البريئة - هم الذين يحملون على كاتب هذه السطور، ولا يعرفون سببا للحملة عليه إلا ما يفترونه من الأكاذيب التي يظهر بطلانها من نظرة واحدة، بل يظهر أنها مناقضة للحقيقة في الجملة والتفصيل.
والعجيب أن أبرياءه هؤلاء لم ينبسوا بكلمة في نقد الشيوعية والتحذير من خطرها، وهم مع ذلك في رأي الأستاذ ... لا شيوعيون ولا يطيقون رائحة الشيوعية من بعيد.
أفي وسع الأستاذ ... إذن أن يدلنا على أذناب الشيوعية أين هم إن لم يكن هؤلاء هم أولئك الأذناب؟
أفي وسع الأستاذ أن يفهم، ويريد منا أن نفهم، أن الشيوعيين لهم دعاة مأجورون ليخدموا الشيوعية بالدعاء في المساجد والكنائس وإقامة الصلوات في الخلوات والمحاريب.
الأبرياء الذين لا يخالفون سياسة الكرملين بحرف واحد، ولا يكفون عن الافتراء على خصومه، هم أبرياء والله العظيم.
سلمنا يا أستاذ.
فأين هم الشيوعيون غير الأبرياء يا ترى؟ أين هم بالله عليك؟
أغير موجودين؟ مستحيل!
أموجودون ولكنهم غير هؤلاء؟
لعلهم كذلك، ولعلهم يلبسون طاقية الإخفاء ويهمسون تحت الأرض، أو يخدمون الشيوعية بالصلاة والدعاء.
مذاهب التطور
قرأت في إحدى المجلات مقالا عن لامارك، جاء فيه أنه قام في الاتحاد السوفيتي سنة 1948 مذهب جديد في التطور قريب الشبه جدا بمذهب لامارك في توارث الصفات المكتسبة، يقوم هذا المذهب على اعتبارات سياسة جدلية مادية، ويتعارض مع قوانين الوراثة المعروفة، وقد قوبل بنقد مر سواء في أوربة وأمريكا، ومن بعض العلماء في الاتحاد السوفيتي، وأكبر أنصار هذا المذهب الأكاديمي ليسنكو، فأرجو أن تتكرموا علينا بتناول هذا المذهب الجديد بشيء من الإيضاح.
سعيد أحمد البطرني
مدرس العلوم بمنوف الثانوية
المذهب الذي يشير إليه الأستاذ ليس فيه جديد في عالم الفلسفة الماركسية نفسها كما وضعها كارل ماركس وإنجلز منذ أكثر من مائة سنة؛ فإن آراء «ليسنكو» كلها قائمة على التفسير المادي للاجتماع وللحياة، فليس في المجتمعات البشرية على رأيهم ظاهرة سابقة أو لاحقة لا تفسرها الظروف المادية الاقتصادية، وليس في أطوار الحياة ظاهرة أصيلة أو متفرعة لا تفسرها الظروف المادية الطبيعية، وكل ما في الإنسان وفي عامة الأحياء من الخصائص والطبائع والأفكار والأخلاق، فإنما هو من أثر البيئة قديما في الناسلات
Genes
والصبغيات
Chromosoms
التي تتألف منها الخلايا التناسلية، ولا فرق في ذلك بين الموروث منها والمكتسب غير فرق الزمان الطويل أو القصير.
وتطبيق هذا الرأي لم يثبت شيئا جديدا في مسألة الوراثة بين الأحياء، ولم يثبت في عالم النبات غير ما سبقت تجربته في تحسين البذور وتحويل الفصائل بالتطعيم والتزريع، وكل ما عدا ذلك فهو لغو أجرف لم يقم عليه أقل دليل.
ولا يتسع المقام لتفصيل هذه التجارب ونتائجها، ولكن الأستاذ صاحب السؤال يستطيع أن يرجع في ذلك إلى كتاب العالم البولوني ليوبولد إنفلد
Infeld
الذي ألفه عن تطور الطبيعيات
Evolution of Physics ، وإلى كتاب «موت علم»
Death of a Science
وهو مجموعة من المباحث في علم الناسلات أو «الجينات» بإشراف البروفسور زيركل
Zirkle
أستاذ علم النبات بجامعة بنسلفانيا، وصاحب التجارب الواسعة في تدجين النبات.
التقديس والتشويه في التاريخ
القديس ماكلين
وهذا ممسوخ قد ظهر بتطويب القداسة على ما يظهر من كهنوت الماركسييين؛ هذا هو ماكلين.
كان ماكلين جاسوسا ممسوخا سكيرا يعمل في مصر لخدمة الصهيونية، ويبذل جهده لإقناع دولته بضرب المصريين والاستيلاء على حكومة هذا البلد؛ لأنهم اجترءوا على مقاومة إسرائيل.
وكتبنا نحن ننكر ذلك فيما أنكرناه؛ فحقت علينا اللعنة من سماء الماركسية السفلية؛ لأننا ذكرناه بغير ما ينبغي من التقديس والتطويب.
وكتب إلينا السيد «محمد علي أحمد» من شارع بين الصورين يحيينا تحية نشكره عليها، ثم يروي لنا نبأ اللعنة التي حقت علينا للمساس بالقديس المظلوم.
قال: «... ومشينا في حوار وأزقة ملتوية، رائحة العفونة والقاذورات تزكم الأنوف منها، ودخلنا الماخور العفن، فوجدنا في غرفة ضيقة بضعة من الأشخاص جالسين ذوي لحى وشعر منفوش بينهم فتاتان، وقدمني إليهم على أني رفيق عاطف.»
إلى أن قال: «إلا أن دجالهم الأكبر ما انفك أن أرغى وأزبد، وبدا في الهذيان والهجوم الحقير على شخصكم الكريم، وانتقل إلى مقالكم الهائل عن الكلبين ماكلين وبرجس، فقال إن سيادتكم المبجلة هي التي تتهرب من اتهام نفسها ... وإنكم إلى الآن لم تتزوجوا، وإنه يوجد شخص عند سيادتكم سموه عم مرسي وفضحوا لي إحدى دسائسهم وأفعالهم، وأنهم لهم دائما جواسيس في مجالسكم قاتلهم الله ...»
وصاحب الخطاب السيد «محمد علي أحمد» طيب القلب جدا - كما هو واضح في خطابه - لأنه لم يستطع أن يتخيل الهاوية التي ينحدر إليها هذا الواغش البشري، فلم يخطر على البال أن إنسانا يتشوه هذا التشويه فيتعصب للصهيونية على قومه ويغضب لمقاومتها وذكر الحقائق عن العاملين لخدمتها.
وقد يشوه الطبع فيبتذل الصدق ويسقط في حساب الأخلاق وفي حساب الغيرة الوطنية وفي حساب العقيدة الدينية، ثم يبقى له أثر من الشعور الآدمي، يثير فيه شيئا من النخوة لمئات الألوف من الأطفال والنساء والشيوخ المشردين على مرأى من بلادهم، ليستبيحها شذاذ الآفاق من صنائع الاستعمار.
أما أن يبلغ التشويه هذا المبلغ بمخلوق آدمي، فلا صدق ولا وطنية ولا دين ولا مروءة إنسانية، فهذا من وراء الخيال - بحق - في تصور الرجل الطيب كاتب الخطاب.
ولكن كاتب الخطاب يفرط في الطيبة إذا ظن أن الصدق شيء له قيمة في كلام الذين يقدسون ماكلين وأشباه ماكلين، وكثير منه أن يظن بهم الصدق حتى في دعوى التجسس على بيتي، فإني أسكن هذا البيت منذ ثلاثين سنة، لم يدخله أحد قط يسمى «عم مرسي»، وليس في وسع أحد أن يخلق «عم مرسي» هذا أو يدل على ... وهكذا يمتنع الصدق عليهم حتى فيما لا شرف للصادق فيه، وأما الزواج والعزوبة فما دلالتهما إن صدقوا أو كذبوا؟ ألم يكن ماكلين من المتزوجين؟
والعبرة من قصة القديس ماكلين هذه أنها تبين «لزوم» الماركسية لهذا الواغش الممسوخ من الآدميين.
فلا يستطيع مخلوق يعلم أنه ساقط في حساب الخلق والوطنية والدين والشعور الإنساني، ثم يحتمل هذا الخزي دون أن يبخع نفسه بيديه.
فإذا كانت الماركسية تنقذه من هذا الخزي وتحسبه شرفا له، فهي أحق بضرب المثل من تهافت الغريق على القشة في التيار الجارف، وغير عجيب أن يتهافت عليها الممسوخ المشوه وهي بديل عنده من الخزي والانتحار.
وأود في ختام هذه الكلمة أن أهدئ من غضب الرجل الطيب وإخوانه؛ لأنهم لا يريدون أن يسمعوا كلمة تكدرهم عن كاتب هذه السطور، فالكلمة التي تكدرهم في الواقع هي كلمة ثناء علينا تخرج من فم واحد مع الثناء على ماكلين وأشباه ماكلين، وما يضيرهم أن يصبح كاتب هذه السطور ويمسي ملعونا مكذوبا عليه ممن يوزن ثناؤهم بذلك الميزان.
من عالمنا إلى العالم الآخر1
أذاع البرق من أمريكا، منذ أسابيع، خبرا مفصلا بعض التفصيل عن كشوف جديدة في كوكب المريخ، وصل إليها أحد العلماء الأمريكيين، فوجدنا أن تلك الكشوف مشروحة في الكتب الفلكية المبسطة وغير المبسطة التي طبعت قبل عدة سنوات، ونقلنا ما أثبته الفلكيون في تلك الكتب عن لون الكوكب وعن الماء والأكسجين الطليق فيه، وعن النبات الذي يجوز أن ينبت في جوه، ومنه ما هو مذكور باسمه؛ كالصبير وجزار الصخر أو زهرة الحجر التي يعرفها أبناء الكرة الأرضية.
ومن الواجب أن نقول إن تلك الكشوف مسبوقة؛ لأنها في الواقع مسبوقة لا يجوز أن يقال عنها بلسان البرق إنها كشف جديد لم يعرف قبل الآن.
ولكن الأستاذ الفاضل الدكتور «إمام إبراهيم أحمد»، مدرس الفلك بكلية العلوم بجامعة القاهرة، كتب إلى «الأخبار الجديدة» يرد على ملاحظاتنا ليقول:
فلنفرض جدلا أن الخبر كما نشر لا يحوي جديدا، فإنه ليس بخاف على الأستاذ العقاد أن من أصول البحث العلمي، أيا كان نوعه، تكرار المشاهدات والتجارب التي أجريت حتى منذ مئات السنين.
ونقول نعم، هذا من أصول البحث العلمي التي لا تخفى على أحد، ولا يمكن أن تخفى عليه لو أراد أن يخفيها عن نفسه، فإن البحث العلمي لا ينقطع ولا يبطل فيه تكرار المشاهدة، ولكن ليس من أصول البحث العلمي في هذه الحالة أن يقال عن القديم السابق إنه جديد غير مسبوق، وإنما تقضي أصول البحث العلمي أن يقال إن هذا الكشف يؤيد الكشوف التي سبقته حيثما اتفق التأييد.
وأراد الأستاذ الفاضل أن يدهشنا فقال: ... ولنذكر للأستاذ العقاد على سبيل المثال لا الحصر أن إراتستين
Eratosthenes
في حوالي عام 230 قبل الميلاد حسب مقدار نصف قطر الأرض، ومع ذلك قد يدهش الكاتب الكبير إذا علم أن الأبحاث في هذا المضمار لا تزال جارية باستخدام وسائل البحث الحديث لمعرفة مقداره بدقة أكثر.
وللأستاذ علينا حق الشكر؛ لأنه أراد أن يدهشنا بشيء عجيب في هذا الزمن الذي لا عجيب فيه.
ولكن هي الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
ولكنه نوى أن يدهشنا فكتب له ثواب النية دون أثرها ومقصدها ، فإن خبرا عن بحوث إراتستين لن يدهشنا؛ لسبب بسيط لا حيلة للأستاذ ولا لنا نحن فيه.
فحكاية إراتستين هذه قد كتبنا عنها قبل أكثر من ثلاثين سنة، فقلنا في فبراير سنة 1924:
وعلى خطوات من ذلك المقياس بئر أخرى لا تقل عن بئر المقياس خطرا، ولا تقصر عنها عراقة وأثرا؛ تلك هي - على عهدة الرواة - بئر إراتستين التي اهتدى منها إلى قياس محيط الأرض، وأدرك على قاب لمحة فيها ما لا يدركه الآخرون بغير طواف الأعوام والشهور، وعرف قبل المسيح بقرنين ما أيده العلم بعد المسيح بقرون.
كتبنا هذا قبل أكثر من ثلاثين سنة، وسمعنا قصته قبل أكثر من أربعين سنة؛ لأن المكان الذي عرف فيه العالم الإسكندري زاوية الفلك بين أسوان والإسكندرية، إنما كان حيث ولدت، على مقربة من مسقط رأسي، ورأيناه وعرفنا قصته على غير اختيار منا كما نرى البيوت والآثار من حولنا، ثم تتبعنا الجديد في هذه القصة بعد القديم، فلم نر فيه تعديلا لقاعدة ولا تخطئة لنظرية، ولم نعلم أن دقة أكثر من تلك الدقة أضيفت في الزمن الحديث إلى القاعدة التي اعتمد عليها العالم القديم؛ لأن هذه القاعدة لا تتغير ولن تتغير ولا يمكن أن تتغير؛ وهي أن العلم بطول الجزء من المحيط يعرفنا بطول المحيط كله.
هذه هي القاعدة التي اعتمدها إراتستين، وهي لا تتغير في هذا الزمن، ولن تتغير أبد الآبدين ودهر الداهرين، وليس الخطأ منها، ولكنه من حسبان أسوان وإسكندرية على خط مستقيم، ومن حسبان الأرض كرة تامة التدوير.
ولا شان للآلات الحديثة بهذه الحقيقة؛ لأن تغيير الآلات لا يغيرها، ولكنه يغير قياس المسافات الأرضية، سواء أخطأ إراتستين أو أصاب، وكذلك تتجدد المقاييس والضوابط ولا يحتاج العلم بالجديد منها إلى أكثر من النظر بالعين.
والشيء الذي لم نفهمه هو قول الأستاذ الفاضل إن النتائج «جاءت بما يعتبر كشفا جديدا في هذه الدراسات؛ فقد وجد الدكتور سليفر
Lowell
أن هناك تغيرا كبيرا في المساحات الداكنة، وهي أول مرة يثبت فيها تغير بهذا المقدار.»
فالذي نفهمه أن هناك عالمين يبحثان في أرصاد المريخ: أحدهما يسمى سليفر
Slipher ، والآخر يسمى برسيفال لويل، ولا يوجد عالم يسمى سليفر لويل كما جاء في مقال الأستاذ ... وليس بحث سليفر مقصورا على المريخ وحده، وإنما يرصد اللون الأحمر في المريخ وفي غيره؛ ليعلم منه مقدار المسافات التي تبتعد بها كواكب المجرة إذا اختلف لونها وضربت قليلا إلى الاحمرار.
والرأي الذي أشار إليه برسيفال لويل قديم، قد عول فيه على رأي العالم الإيطالي شياباريلي
Schiaparelli ، وأعتقد بناء على ذلك أن في المريخ أقنية مصنوعة على أصول هندسية، وظهر لبعض الراصدين أن هذه الأقنية تحيط بها بقاع زرقاء، مخضرة في بعض الأوقات، وسمراء داكنة في أوقات أخرى، ونشر هذا كله في مؤلفات مبسطة، أقربها يرجع إلى الطبعة الأخيرة في السنة الماضية من كتاب «موجز السماوات» لمؤلفيه الثلاثة برنارد وبنيت ورايس، وكلهم من الرياضيين الفلكيين.
فلا جديد فيما قاله الأستاذ الفاضل أخيرا، ولا فيما قاله وكلاء الأنباء البرقية، ومقطع الرأي أن يذكر لنا الدكتور «إمام إبراهيم» حقيقة الكشف الجديد، ووجه القول بجدته من اختلاف المقادير والمسافات.
ويومئذ نستطيع أن نحيله على مرجع سابق يذكر هذا الاختلاف بمقاديره، أو نعلم حقا أن الكشف الجديد غير مسبوق فيما علمناه من كتب الفلك التي يقرؤها غير المختصين!
أكاذيب السياسة1
وصلت الطبعة الأمريكية من كتاب جنتر
Gunther
عن القارة الأفريقية
Inside Africa .
وجنتر هذا هو صاحب المؤلفات المشهورة عن داخل أوربة وداخل آسيا وداخل الولايات المتحدة وداخل أمريكا الجنوبية، وما وراء الستار من القارة الأوربية.
وملاحظتنا على هذه المؤلفات أنها حافلة بالمعلومات المباشرة والصور الشخصية والأخبار «الصحفية» التي يفرغها في قالب التاريخ.
ولكنك لا تستريح إلى أحكامه كما تستريح إلى معلوماته وصوره وأخباره.
لأنه قلما يخالف أحدا من ذوي الجاه في بلد من البلدان، وقد يرضي أكثر من فريق واحد بين ذوي الجاه هنا وهناك.
ومن أمثلة ذلك كلامه عن السودان.
فالسيد عبد الرحمن المهدي عنده زعيم لا يحب أن «تبتلع مصر بلاده».
وماذا عن ابتلاع الإنجليز؟
لا شيء! ولا حرف!
وعنده أن المهدي الكبير زعيم مات قبل الأربعين، ولكنه أفلح في إنقاذ السودان من طغيان المصريين.
وأجهل المؤرخين المعاصرين يستطيع أن يعلم أن أبناء مصر والسودان قد ثاروا على طغيان واحد، وأن ثورة مصر على ذلك الطغيان كانت سابقة لثورة السودان بسنوات.
وندع ما عدا ذلك من أكاذيب السياسة التي يجريها مجرى الوقائع المسلمة.
فعنده أن الإنجليز تدخلوا في السودان؛ لأن مصر فزعت إليهم وتوسلت إليهم أن ينقذوها من ورطتها في الجنوب.
وأجهل المؤرخين المعاصرين مرة أخرى يعلم أن الإنجليز أكرهوا مصر على «الفزع»، وأسقطوا وزيرا؛ لأنه لم يقبل أن يفزع كما أرادوا.
إلا أننا - بعد هذه الأباطيل - نحمد الله على اليوم الذي دخلت فيه أفريقيا في حساب كتاب الغرب، فكتبوا عنها كما يكتبون عن قارات الدول القوية، بل زادوا في نصيبها على نصيب تلك القارات؛ لأن كتاب جنتر عن القارة «المجهولة» أضخم وأهم من كتبه الأخرى.
لقد كانت هذه القارة مجموعة من الملحقات بإنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والبرتغال، وكل من مد يديه لإلحاق القسم المتفق عليه من أقسامها، أو من أشلائها.
فاليوم هي «كيان» مقصود لذاته، غير محسوب على سادته، يبحثون عن مستقبله من داخله ولا يكفيهم أن يبحثوا عنه في لندن وباريس وبرلين، وغيرها من عواصم السادة المستعمرين.
دهشة أخرى1
الآن أدهشنا الدكتور «إمام إبراهيم أحمد» بعد أن أراد أن يدهشنا في المرة الأولى فأخطأه الهدف.
أراد أن يدهشنا بخبر عن «إراتستين» وهو لا يعلم أن العلامة الفلكي القديم «بلدينا» على وجه من الوجوه، وأننا جلسنا حيث كان يجلس ونظرنا على التحقيق إلى مساقط الأشعة الشمسية حيث كان ينظر إليها، وسمعنا بقصته قبل أربعين سنة، وكتبنا عنه قبل ثلاثين سنة، وتتبعنا ما يقال عنه وعن نظريته؛ فليس فيها ما يدهشنا في هذا الزمن الذي لا ندري هل تقل فيه المدهشات أو تكثر، وهل تنقص أو تزيد.
أما الآن فالدكتور الفاضل يعوض ما فاته ويدهشنا على غير قصد منه، دهشة تستحق تعب السطور التي كتبها والتي نكتبها في الإشادة بها والإشارة إليها.
قلنا في تعقيبنا على كلام الدكتور: «وإنما يرصد اللون الأحمر في المريخ وفي غيره ليعلم منه مقدار المسافات التي تبتعد بها كواكب المجرة، إذا اختلف لونها وضربت قليلا إلى الاحمرار.»
فعلق الدكتور على ذلك قائلا: «لعل الأستاذ الكبير يقصد ما يسمى
Doppler shift ؛ وهي تغير موضع خطوط الطيف نحو المنطقة الحمراء في الطيف، والتي يمكن منها حساب السرعة التي يبتعد بها النجم ولا يجعله يضرب قليلا ولا كثيرا إلى الاحمرار، أم لعله يقصد تغير لون النجم إلى الاحمرار بتأثير مواد ما بين النجوم
Interstellar Matter ، ولكن هذه الدراسة لا تصل بنا إلى استنتاج السرعة التي يبتعد بها النجم.»
وكله مدهش
وكل ما قاله الدكتور في هذا التعليق مدهش حقا؛ لأنه ينفي أمورا مقررة في كتب الثقات من الرياضيين والفلكيين، وعليهم نعول فيما نذكره عن هذه الملاحظات.
فاللون الأحمر يتزايد كلما ابتعد النجم أو كلما أسرع مبتعدا عنا، ونحن ننقل له سطرين بنصهما الإنجليزي من الصفحة التاسعة والتسعين من كتاب «طبيعة الكون» لمؤلفه فريد هويل
Hoyle
حيث يقول:
In Fact، by measuring the degree of the reddening we can deduce the speed with which a body is receding.
وترجمتها الحرفية: «نحن في الواقع بقياس درجة الاحمرار نستطيع أن نستخرج السرعة التي يتراجع بها الجرم عنا.»
وقد وضح الأستاذ هويل ما يعنيه فقال: «ولعلك لاحظت أن الصفارة في القطار المقبل لها حدة صوتية أعلى من الصفارة في القطار المدبر؛ فالنور الذي يصدر من مصدر متحرك له هذه الخاصة بعينها، فحدة النور تهبط، أو كما نقول عادة تحمر، كلما كان المصدر يتحرك مبتعدا عنا، ونحن نلاحظ أن النور من المجرة يحمر، وأن درجة الاحمرار تزداد على نسبة ابتعاد المسافة عنا.»
فإذا لم يكن معنى هذا أن الكوكب يضرب إلى اللون الأحمر، فماذا يكون معناه؟
ولقد كررنا أن الكتب التي نقرؤها في مسائل الفلك هي الكتب الموضوعة لغير المختصين، ولكن لا يفهم من ذلك أن الذين كتبوها غير مختصين بعلومها؛ لأن الواقع أنهم جميعا من أكثر المختصين اختصاصا بما يكتبون فيه.
والأستاذ هويل يدرس علومه في كامبردج، ويقوم بالرصد أحيانا في أكبر المراصد العالمية وهو مرصد مونت بالومار
، ويؤلف في هذه الموضوعات خاصة؛ ومنها كتابه في طبيعة الكون، وكتابه في المباحث الجديدة عن طبيعيات الشمس، وكتابه عن حدود علم الفلك، ورسائله القيمة التي يقرؤها في المعاهد الرياضية الفلكية وتلقى كل عناية واحترام.
والملاحظة التي ينفيها الدكتور إمام منشورة في كتاب بلغ من ذيوعه أنه صدر في ثلاث طبعات، وأنه كان موضوع التعليقات الإذاعية والصحيفة والتقريظات من كبار العلماء.
أما احمرار لون النجم بتأثير المواد المنبثة في أجواز الفضاء، فلم يكن مما قصدناه في مقالنا السابق، ولكننا ندهش لقول الأستاذ: «إن هذه الدراسة لا تصل بنا إلى استنتاج السرعة التي يبتعد بها النجم.»
لأن هذا الغبار
Dust
المنبث في الفضاء يمكن أن تعرف مواضعه، ويمكن لذلك أن تعرف لحظة دخول الكوكب فيه ولحظة خروجه منه، وتقاس بذلك سرعته كما تقاس سرعة كل كوكب في الفضاء بالنسبة إلى المواقع التي يعبرها.
وهنا أيضا نعتمد على مصدر من مصادر الثقات التي يكتبها المختصون لغير المختصين، بل هذا المصدر الذي نعنيه مكتوب للمختصين بأسلوب نفهمه نحن ويفهمه من لم يتفرغوا للدراسة الفلكية، ونعني به مبحث الأستاذ كاهن
Kahn
في العدد الرابع والثلاثين من مجلة أخبار العلوم؛ إذ يتكلم عن مواد ما بين النجوم
Interstellar Material
وعن علامات الألوان بالنسبة إليها، فيقول: إن اللون الأزرق أسرع زوالا من اللون الأحمر، وإن هذا ولا شك وسيلة من وسائل الاستنتاج، لا يلزم أن تكون وسيلة مباشرة، ولكنها مؤدية إلى النتيجة من طريق غير بعيد.
ونعود فنقول إن الدكتور كاهن مختص بمراقبة المواد التي تتخلل الفضاء بين النجوم، ويدرس الفلك بجامعة مانشستر، ويشترك مع كبار الأساتذة الإنجليز والألمان وآخرهم الأستاذ أورت
Oort
بليدن
Leiden
وهو مرجع للعلماء في هذه البحوث.
وبعد، فالذي نود أن يعلمه الدكتور الفاضل أننا لا نقرأ هذه الدراسات لنكون فلكيين أو رياضيين، ولكنه يستطيع أن يوقن كل اليقين أننا لا نبيح لأنفسنا أن نخط كلمة فيها، ما لم نكن معتمدين فيها على مراجعها، والتبعة بعد ذلك على المراجع إن كانت هناك تبعة، ولكنها إذن تبعة لا يسلم منها إنسان.
قزل باش
ومن قزل نجم ننتقل إلى قزل باش.
أما «قزل نجم» فهو المريخ.
وأما «قزل باش» فهو الرأس الأحمر باللغة التركية، وهو انتقال إلى قصة الطربوش؛ لأن هذا الغطاء الأحمر للرءوس لا يريد أن يحتجب عن الأعين بسلام.
قلنا في مقال لنا: إن الترك العثمانيين أخذوا الطربوش من اليونان، وإنه الآن يفارق الرءوس بعد أن تركه اليونان والعثمانيون، وأوشكنا أن نتركه نحن المصريين.
فكتب إلينا السيد «حسن نصرت» يقول: إن الترك عرفوا غطاء الرأس الأحمر من غير اليونان، وإن طائفة منهم في آسيا الصغرى تلبسه وتسمى من أجل ذلك «قزل باش»، وإن الطربوش باق إلى اليوم بين المسلمين في بلاد البلقان وما جاورها.
والسيد «نصرت» لم يخطئ حين قال إن الترك اتخذوا غطاء أحمر للرأس غير الطربوش.
ولكن الفرق بعيد جدا بين «القزل باش» والطربوش اليوناني على أنواعه؛ لأن «القزل باش» يطلق على أصحاب طريقة دينية تلبس العمامة الحمراء ذات العذبات الاثني عشر، وتعتقد أنها عمامة الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - وأن العذبات فيها إشارة إلى الأئمة الاثني عشر من ذريته، ولم يلبس هذه العمامة أحد من سلاطين الترك العثمانيين، بل لبسها على نقيض ذلك شاهات الفرس الصفويون؛ لأنهم من الشيعة، على خلاف الترك العثمانيين فإنهم سنيون، وبينهم وبين القائلين بالإمامة الاثني عشرية أو الإمامة على إطلاقها خلاف شديد.
وهذه الطريقة الدينية تنطوي على أسرار تكتمها ولا توافق السنة ولا الشيعة في عقائدها وشعائرها، ومنهم من يصوم الأيام الأولى من المحرم - أول السنة الهجرية - ولا يصوم شهر رمضان، ودعواتهم التي يرتلونها في الأناشيد تتردد فيها أسماء علي وعيسى وموسى وداود، وكأنهم يميلون إلى التوحيد بين الأديان، وإن كانوا لا يعلنون ذلك لغير «الواصلين».
ولم يخطئ السيد «نصرت» أيضا حين قال إن الطربوش باق بعد زواله من البلاد التركية وأوشك زواله من البلاد المصرية؛ لأنه أصبح شعارا مميزا للمسلمين البلقانيين، يلبسونه في مواسمهم وأعيادهم، ولا يلبسون القلبق أو القبعة، ونذكر مما كتبته القصاصة الإنجليزية ربيكا ويست
Rebecca West
في رحلة البلقان ، أن مسلمي الصرب كانوا يتعمدون لبس الطربوش أثناء زيارة رئيس الجمهورية التركية لبلادهم ولا يقابلونه بالهتاف ولا بالتحية، كأنهم يستنكرون منه أن يخلع هذا الشعار ولا يلبسه إكراما لهم أثناء هذه الزيارات الرسمية «القومية».
وفي أفريقيا الوسطى
على أننا نذكر الآن أن الطربوش لا يزال معدودا في الطليعة بين أغطية الرأس التي يحتفل بها أبناء أوغندة وأفريقيا الوسطى، وقد ذكرنا ذلك يوم مرور «الكاباكا»؛ أي ملك بوغاندة بمطار ألماظة، فإنه يلبس الطربوش أحيانا كما يلبسه جنوده الوطنيون، وقد تختلف ألوانه بعض الاختلاف، فلا تنحصر في اللون الأحمر كطرابيشنا المصرية، ولكنه في قالبه وشكله طربوش مصري لا تختلف فيه عينان.
هل لا بد من غطاء رأس؟
والحق أنه سؤال لا بد أن نوجهه إلى أنفسنا بعد ما رأيناه من خاتمة عهد الطربوش.
فهل نترك الطربوش ولا نخلفه «بغطاء رأس» على الإطلاق؟ وهل يبقى فريق منا بالعمامة وفريق منا عراة الرءوس بغير شارة قومية لغير المعممين؟
لقد كان الباحثون في توحيد الزي يتجهون في بحثهم وجهة غير صحيحة؛ إذ يظنون أن الأوربيين موحدون في غطاء الرأس، وأننا نحن المصريين خاصة غير موحدين.
فتسمية الغطاء على الرأس بين الأوربيين باسم واحد - وهو القبعة - لا يعني أنهم متفقون في زى واحد، فإن الفرق ما بين قبعة وقبعة أبعد من الفرق بين غطاء الرأس في الهند وغطاء الرأس في قطر من الأقطار الأوربية، وإذا نظرنا إلى القبعة بأشكالها وألوانها والأنسجة، أو الجلود التي تصنع منها؛ فقد يجتمع منها مائة شكل أو تزيد، ولكننا إذا حصرنا أغطية الرأس المصرية لم تختلف هذا الاختلاف، ولم يكن منها - عدا العمامة والطاقية - إلا طربوش واحد بلونه وشكله ونسيجه متشابها على جميع الرءوس.
فمسألة التوحيد في غطاء الرأس عندنا ليست بالمشكلة التي نبالغ فيها بالقياس إلى أغطية الرأس عند غيرنا.
ولكن الأوربيين يخلعون القبعة في الطريق وفي محل العمل وفي البيوت، ويحسبونها مع ذلك «غطاء للرأس» لا يزال على هذا الاعتبار كما كان قبل القرن العشرين.
أما نحن فنخلع الطربوش ولا نتخذ لنا غطاء قوميا للرأس يحل في محله، أو نتمثل به قوميين بغطائنا الخاص كما يتمثل الأوربيون «مقبعين»، سواء لبسوا القبعات أو حملوها في اليد أو تركوها في البيوت.
ولا اعتراض لنا على زي من الأزياء يقع عليه الاختيار بلا تفرقة بين الطربوش والطاقية واللبدة والعمامة، ولكن كيف يا ترى يقع هذا الاختيار؟
إننا نغتبط بحرية الفرد في ملابسه أمام قيود المجتمع التي لم يكن لها معنى في العصور الماضية .
ولكن الانتقال من تلك القيود إلى الفوضى التي تلغي وحدة المجتمع، لا تؤمن عقباه على الحياة الاجتماعية في الشئون الجدية التي تتماسك عليها بنية الأمة.
والشعائر والرموز حقيقة لا ننساها ولا نستطيع أن ننساها، فإن المجتمع الذي لا يذكرنا بوجوده وحقوقه بشيء يواجه النظر والخيال، يسهل نسيانه في غير هذه الظواهر التي نظن لأول وهلة أنها ليست ذات بال.
وقبل أن نقول ذهب الطربوش، يجب أن نتحسس جوانب رءوسنا لنعلم ماذا نضع عليها في مكان الطربوش.
المنظمة الشيطانية1
أقوى علامة على إدبار الصهيونية العالمية أن دعاتها يهوشون الآن باسمها ويعترفون بوجودها.
كانت الصهيونية العالمية تعمل في الخفاء وهي واثقة من نجاحها مطمئنة إلى وسائلها التي تملكها في كلتا يديها، وكانت تفزع من ظهور هذه الوسائل؛ لأنها بطبيعتها لا تستطيع العمل في ضوء النهار.
ولا نزال نذكر الحوار الطويل الذي دار بين الكاتب الإنجليزي شسترتون وبين دعاة الصهيونية في إنجلترا؛ لأنه ردد كلمة اليهودية العالمية في بعض أقواله، وكان خلاصة ما كتبه أولئك الدعاة وكرروه أنهم يجلون أديبا كبيرا مثله أن ينخدع بالأوهام التي تتلقفها أفواه العامة على غير معرفة، فإن «اليهودية العالمية» شيء لا وجود له فيما زعموه.
أما اليوم فالخواجة «شاريت» يعلن وجود الصهيونية العالمية ويحتج على «شكوسلفاكيا» باسمها، ويكرر الاحتجاج بهذا الاسم في الخطب والتصريحات.
تلك ولا ريب علامة خير.
تلك علامة على أن الصهيونية العالمية تحتاج إلى إثبات وجودها ولفت النظر إليها، وعلامة على أن هذه الصهيونية العالمية تعمل بيديها على هدم البقية الباقية منها؛ لأن اليوم الذي تزول فيه هذه «المنظمة الشيطانية» هو اليوم الذي تنكشف فيه للنور.
إن الصهيونية العالمية آخذة في الضعف لأسباب كثيرة، ولكن الأسباب الدولية أهمها وأبقاها.
كان للصهيونية العالمية شأن كبير يوم كانت بريطانيا العظمى طرفا أصيلا في كل حرب عالمية، فكان الصهيونيون في أنحاء العالم يساومونها على المعونة الاقتصادية، وعلى نشر الدعوة لمصلحتها في أرجاء الكرة الأرضية.
إلا أن بريطانيا العظمى لن تكون اليوم طرفا أصيلا في الحروب العالمية أو المشكلات الكبرى.
إنما الطرفان هما الولايات المتحدة وروسيا الحمراء، ولا تستطيع الصهيونية العالمية أن تحارب الولايات المتحدة من معسكرها الأكبر في نيويورك؛ لأنها لو فعلت ذلك هدمت بيتها على رأسها، وتعرضت للاضطهاد المشروع بل للمذابح الشعبية.
وهي كذلك لا تستطيع تهديد روسيا؛ لأن الشيوعية سلاح من أسلحة الصهيونيين يمهدون به للسيادة على العالم، وقد رأينا نحن في مصر صهيونيا من أصحاب الملايين ينشر الدعوة الشيوعية ويشن الغارة على رأس المال.
وقد تعدل الصهيونية عن موقفها هذا مع روسيا فتحاربها وتشوه سمعتها، فلا تبالي روسيا من حملتها هذه شيئا؛ لأنها حملة قائمة على كل حال.
هذه أهم الأسباب الدولية التي تؤذن بإدبار الصهيونية.
وإسرائيل نفسها سبب أقوى من كل سبب؛ لأنها مخلوق متنافر لا يعيش إلا ليثير الشغب من حوله ويجر البلاء على نفسه.
والبقية في حياتك يا خواجة شاريت.
وفي حياة بن جوريون وكل بن صهيون.
الشرق قبل 50 سنة وبعد 50 سنة1
من دلائل التطور في الوعي «الشرقي» سؤالان تلقيتهما على أثر ما كتبته في الأسبوع الماضي عن اليابان وما كان لها من الحب والكراهية في نفوس الشرقيين، وفحوى السؤالين متقارب في معناه؛ لأن الغرض منه فهم الموقف الطبيعي للشرق كله أمام دوله الكبيرة التي تتعرض لمطامع الغرب كما تتعرض لها أمم الشرق الصغيرة، ولكن الدول الكبيرة في الشرق قد تكون لها مطامعها أو سياستها الاستعمارية، فما هو الموقف الطبيعي لكل أمة شرقية بين الشرقيين؟
هذان السؤالان، كلاهما يذكرني بخطاب وصل إلي من إحدى المدن السورية «يشتمني» فيه كاتبه؛ لأنني أعربت عن خيبة الأمل في اليابان قبل عدة سنوات؛ إذ قلت إنها ترمي إلى استعمار القارة الآسيوية بدلا من قيادة حركة التحرير فيها، وتنادي بأن آسيا للآسيويين وكأنها تفهم من ذلك أن آسيا لليابانيين.
وخلاصة الشتائم التي تضمنها الخطاب أن اليابان دولة شرقية عظيمة يشرف بها الشرق، فلا يجوز لنا أن ننحى عليها أو نلومها، كأنما نسي كاتب الخطاب أن الأمم التي تفتتحها اليابان وتخنق حريتها أمم شرقية، لو نهضت في طريق التقدم سلم الشرق كله، وسلمت اليابان في المقدمة من طغيان الاستعمار الغربي بمختلف الألوان والأسماء.
بين التاريخ وشهادة العيان
ولم يشعر أحد بخيبة الأمل في هجوم اليابان على أمم الشرق كما شعرنا بها نحن الذين شهدنا نهضتها وحضرنا طلائعها وعرفناها معرفة العيان، قبل أن تصبح من معارف التاريخ.
كنا في نحو الخامسة عشرة يوم نشبت الحرب بين اليابان وروسيا، وكنا نتلقف الصحف لنقرأ فيها أخبار انتصارها في البر والبحر، وأخبار وقائعها الحاسمة حول المعاقل الكبرى في الشرق الأقصى.
ولا نذكر أن الشرق من أقصاه إلى أقصاه شملته هزة من الفرح كتلك الهزة التي شملته أثناء الحرب اليابانية الروسية؛ لأنه اعتبرها حربا شرقية غربية، وإن لم تكن روسيا مثلا صحيحا للغربيين أو للأوربيين.
مصطفى كامل يؤلف
لم يكن مصطفى كامل يؤلف الكتب لاشتغاله بالكتابة الصحفية والخطب الوطنية والسياحة في الغرب للحملة على الاحتلال البريطاني حيث استطاع، ولكنه بعد نشوب حرب اليابان ألف كتابه عن «الشمس المشرقة»، ويعني بها اليابان؛ لأنها تعرف باسم بلاد الشمس المشرقة أو الشمس الطالعة، وقال في مقدمته: «كان البعض منا معاشر الشرقيين يقول، ويلقن هذا القول للصغار والكبار، إننا أمم انقضى دورها ودالت الأيام على مدنيتها ومحا الزمان وجودها السياسي، وليس في وسعها التسلح بمدنية أوربا ومقارنتها بها، وإنه لا بد لها من الاستسلام للغرب وقبول حكمه وسلطانه بلا عمل للحاضر وبغير جهاد في سبيل المستقبل، فقامت أمة اليابان مكذبة لهذه الدعوى، منادية الشرقيين أجمعين بأن طريق الارتقاء ميسر لقصاده، وأن من جد وجد وكل من سار على الدرب وصل وتساءل الناس بدهشة وعجب: من هذا الشعب الذي خرج من القبور ليزعج الأحياء بأصوات مدافعه وقنابله، وحركات جنوده في البحر والبر، ومطالب ساسته وتغلبه على الدولة التي ظنت وظن العالم معها أنها لا تغلب، وفوزه هذا الفوز الذي حارت فيه العقول وكادت الدنيا ترتاب فيه؟! وكيف أدرك هذا الشأو في سنوات قلائل، وجارى الغرب في أمور وسبقه في أخرى؟!»
وهذا الكتاب قد صدر قبل خمسين سنة ، ولكنه أحد الكتب القلائل التي بقيت عندي ولم تذهب مع ما ذهب من كتبي المقتناه مرات بعد مرات.
وحافظ ينظم
ونظم حافظ إبراهيم أكثر من قصيدة في مفاخر اليابان، قال في إحداها على لسان فتاة يابانية:
إن قومي استعذبوا ورد الردى
كيف تدعوني ألا أشربا
أنا يابانية لا أنثني
عن مرادي أو أذوق العطبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم
وأواسي في الوغي من نكبا
هكذا «الميكاد» قد علمنا
أن نرى الأوطان أما وأبا
ملك يكفيك منه أنه
أنهض الشرق فهز المغربا
وقال في قصيدة أخرى:
أتى على الشرقي حين إذا
ما ذكر الأحياء لا يذكر
ومر بالشرق زمان وما
يمر بالبال ولا يخطر
حتى أعاد «الصفر» أيامه
فانتصف الأسود والأسمر
وهاجرت من مصر طائفة من الشبان للتطوع في جيش اليابان، وبقي منهم شاب هناك تزوج من يابانية، واسمه «محمد فضلي» على ما أذكر، فثابر على الكتابة إلى الصحف المصرية زمنا، وبقي غيره ممن عاشوا هناك ولم يكتبوا إلى الصحف، وسمعنا أن بعضهم عاد بعد حين.
من هذا وأمثاله يستطيع الناشئ في هذا العصر أن يعرف مبلغ الأمل في نهضة الشرق على يدي اليابان.
مصيبة المظاهر
ولكن المصيبة كلها في المظاهر أو في «الوجاهة» المصطنعة، التي تنخدع بها الدول كما ينخدع بها آحاد الناس.
كان احتلال المستعمرات «وجاهة» عالمية في عرف الدول التي تريد أن تدخل في زمرة الدول الكبار.
مستعمرة، أي مستعمرة! مستعمرة والسلام، لا بل مستعمرة في الواقع والحرب الضروس والموت الزؤام.
وكثير من هذه الدول كان يستطيع أن يعيش بغير مستعمرات، لولا هذه الوجاهة المكذوبة التي اصطلحت عليها.
وكثير من عمد الريف عندنا كانوا يستطيعون أن يعيشوا بغير لقب الباشوية أو البيكوية، الذي خرب بيوتهم وبدد ثرواتهم وأغراهم بالمظاهر الكاذبة في غير حاجة إليه.
ويحسن الظن كثيرا بالدول الاستعمارية من يظن أنها أرجح عقولا من عمد الريف في مسألة المظهر والوجاهة.
كلهم والله قريب من قريب.
ولو أنك أحصيت ما أنفقته هذه الدول في القرن العشرين على السلاح والحرب وما كسبته من مستعمراتها، لرجحت كفة النفقات أضعافا على كفة المكاسب والأرباح.
وهذا مع سفك الدماء وإفشاء القلق والاضطراب، وتعويق نهضات التقدم والعمران.
وهكذا أصيبت اليابان بحمى الوجاهة الكاذبة، كما أصيبت بها الدول التي ظهرت أخيرا في المضمار، لتثبت «وجاهتها» ومساواتها للدول الكبار.
وهكذا أصبحت إيطاليا تستعمر طرابلس؛ لأنها ليست بأقل من فرنسا التي تستعمر تونس!
وهكذا أصبحت ألمانيا تستعمر المجاهل في القارة الأفريقية؛ لأنها ليست بأقل من إنجلترا التي سبقتها إلى استعمارها.
ولسوء حظ هذه الدول - من طالبات الوجاهة الاستعمارية - أنها جاءت في الزمن الأخير، والاستعمار كما كان خلال القرن الثامن عشر في دور الاحتضار، فنكبت جميعا ولم تستفد من استعمارها كما استفادت الدول التي سبقتها في غفلة الزمن، مع جهالة الشعوب التي نكبت بغارات الغاصبين.
بديهيات لا نبوءات
ولا أريد أن أدعي أنني أتنبأ بما يحدث بعد سنوات، ولكنني أريد أن أقول إن البديهيات ظاهرة لمن يلتفت إليها، وقليلا ما يلتفت الناس إلى المحسوسات، فضلا عن البديهيات.
فمنذ عشرين سنة كتبت «رجعة أبي العلاء»، وتخيلت فيها المعري عائدا إلى العالم يسبح في أرجائه، بعد أن حرم نفسه السياحة فيه أيام الحياة، وقلت عنه إنه «كان في أرض نيبون يتأفف ويتبرم من كل شيء ومن غير شيء، ولم يزل مع تلميذه على حذر وامتعاض حتى هجرا أرض نيبون إلى أرض الصين، وأقاما فيها برهة بين الفتن والثورات والمجاعة تارة والقحط تارات، ولكنهما كانا أقرب إلى راحة البال وشهود الأحوال؛ لأنهما كانا يشهدان في الصين جهدا يسر الناظرين أن يبلغ تمامه ، أما الجهد الذي كانا يشهدانه في أرض نيبون فقل أن يكون في تمامه سرور للناظرين، ولا سيما الحكماء.»
ثم يسأل التلميذ أستاذه عن انتصار اليابان وهزيمة الصينيين، فيقول الأستاذ المعري:
وما يدريك لعل أهل نيبون يخدمون أهل الصين بهذه الهزيمة وهم لا يشعرون؟ لقد كان هؤلاء المنهزمون شتيتا من الخلق، فجمعتهم الهزيمة فأصبحوا أمة تنضوي إلى لواء واحد، فإذا بالمنتصرين يخافونهم بعد همس سنوات تجردوا فيها لاتخاذ الأهبة، وتوحدوا أو كادوا يتوحدون، فكيف يكون شأنهم لو تجردوا لاتخاذ الأهبة متوحدين خمسين سنة لا خمس سنوات؟ ... علم الله لولا أن أهل نيبون يخافونهم ويفزعون من غدهم، لما عاجلوهم بالعدوان، وما أخالهم مع ذلك آمنين عقبى الأمور.
وتركيا من قبل
لقد كنا نحذر هذه العقبى على بلاد الشمس المشرقة قبل عشرين سنة، وكنا نتمنى لبلاد الشرق كله أن تعصم نفسها عن غوائل الاستعمار وعواقبه، فتدفع عنها المستعمرين ولا تشتهي تلك الشهوة الخبيثة، التي تغريها بمحاكاة أولئك المستعمرين.
وقبل نكبة اليابان كنا نكتب في مجلة البيان - سنة 1912 - عن مستقبل الدولة العثمانية، فنقول بعد هزيمة البلقان: «لو كانت الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربة، لحق لهم ألا يرجوا منها بعد الآن ثمرا، ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها.»
ثم نقول؛ «ليس من حسن السياسة ولا مما يوافق الدولة أن تفسر شعوبها على الاندماج في بنيتها قوة وغضبا، والعقل العصري لا يفهم من معنى الإخلاص أن يتقيد الشعب بالولاء لحكومة تحكمه لمصلحتها لا لمصلحته.»
سياسة الأحلاف
وأخوف ما كنا نخافه على أمم الشرق منذ ذلك الحين، سياسة الأحلاف بين المعسكرين، فكتبنا في ذلك المقال قبل نيف وأربعين سنة: «إن المحالفة لا تؤكد للدولة إلا عداوة من تخالفه، ثم إنها لا تكفل لها صداقة من تحالفه ... وليعلم العثمانيون أن تلك الدول لا تعضدهم ولا تتخلى عنهم إلا لمصلحتها، فإن عن لها وجه المصلحة في تأييدهم نصرتهم سواء كانت معهم أو عليهم ، أو عن لها وجه المصلحة في التخلي عنهم خذلتهم؛ سيان المحالف منها والمخالف، فخير للدولة أن تدير شراعها مع كل ريح من أن تتقيد بريح واحدة، وأنفع لها أن تكسب عطف الرأي العام في أوربا كلها من أن تكسب الود الظاهر من بعض حكوماتها.»
كتبنا هذا ووددنا لو تعول الدولة العثمانية على منبتها في الشرق قبل أن ينهض مصطفى كمال لتعمير آسيا الصغرى، وقبل أن يتخذ العاصمة الحكومية في أنقرة بثماني سنوات.
وكل ما نتمناه لمن ينظرون تحت أقدامهم ولا ينظرون إلى أمامهم، أن يبقوا بعد انتقادهم واعتراضهم، بضع سنوات على الدوام، فيروا بأعينهم أن مثالب الانتقاد والاعتراض ترتد إليهم ولا تصيبنا بشرار ولا دخان، فهم على خطر من روادع الزمن يحسبون أنهم على هدى وصواب.
خمسون سنة إلى الأمام
والآن وقد مضت خمسون سنة بين النصر والهزيمة والغرور والندم والعظة والنسيان، يستطيع الناظر إلى الماضي أن يقول عن يقين إن اليابان قد ضلت الطريق، وإنها سلكت على الطريق الخطأ، واغترت بمظاهر الوجاهة الكاذبة، فضيعت في سبيلها مصلحتها الحقيقية، وأنفقت ملايين الملايين من الأموال على عدة الحرب التي تتغلب بها على جيرانها، فلم تربح من هذه النفقات ما يساوي عشر معشارها، ولم تكن لتربح شيئا يذكر إلى جانب الخسارة لو أنها مضت في طريقها ولم تنقطع بها الهزيمة في وسط الطريق.
واليابان اليوم ضعيفة مفتقرة إلى العون، ولكنها لا تبقى على هذه الحال، ولا بد لها من عودة إلى القوة والثروة، فإذا عادت وجدت إلى جانبها في آسيا دولا كبارا تقوم بين أمم كبار، لا مطمع فيها لطامع من المشرق ولا من المغرب إلا على غرر وأخطار.
ستجد الصين ذات الملايين التي تزيد على أربعمائة، وتجد الهند ذات الملايين التي تقارب الأربعمائة، وتجد الباكستان وعدتها نحو مائة مليون، وأندونيسيا وهي في قرابة هذا العدد، وإلى جوانبها أمم لا تضارعها في الكثرة، ولكنها تضارعها في العراقة والاعتزاز بالحرية والكرامة.
فإذا كان للماضي عظاته النافعة، فأكبر العظات أن تتعلم الأمم الآسيوية الكبرى أنها مسئولة عن سلامة القارة كلها، وإلا جنت على نفسها وعبثت بسلامتها، ونكصت على عقبيها ولم تنتفع بتقدمها ونهوضها إلى مرتبة الدول الغربية العظمى.
وخمسون سنة على نهج الهداية تصنع المعجزات وتأتي بالأعاجيب.
قارة تتساند في وجه المطامع الغربية، تكف تلك المطامع عنها وأنف الغرب راغم، وتتجه بالعالم الإنساني وجهة الأمان والفلاح، وتتسلم الزمام من يد الحضارة الغربية التي اؤتمنت عليه، فلم تؤد الأمانة لأحد، ولم تحفظها لنفسها، وهي تحسب أنها حافظتها أبدا دون سواها.
البحث عن سر الحياة1
حمام التلات «اللي يرجع العواجيز بنات»
ولادة العذراء
بعد تمهيد متردد أعلنت الصحف التي تنطق بلسان الفاتيكان أن قداسة البابا «بيوس الثاني عشر» رأى السيد المسيح في يقظته، أيام مرضه الأخير الذي عرض له منذ عام وشفي منه بعد أسابيع.
لا نريد أن نفسر هذه الظاهرة، ولكننا نعتقد أن نظرة صاحب القداسة حجة وثيقة في مسألة يهتم بها الكثيرون في هذه الأيام.
ترى أية صورة للسيد المسيح كانت أقرب إلى الصورة التي نظرها صاحب القداسة وعرف أنها صورة السيد المسيح؟
إن قداسة البابا قد رأى من هذه الصور، التي تخيلها كبار الأقطاب في مختلف الأمم والأزمنة، عددا لم يره غير القليل، وليس فيهم من يضارع قداسته في الحكم على جودتها وإتقانها من الوجهة النفسية والفنية.
رآها قداسته في متاحف الفاتيكان، ورآها في المعابد التي زارها والمراجع التي اطلع عليها، وقداسته معروف باطلاعه الواسع على موضوعات الفن والثقافة، وعنده مع هذا الاطلاع إجلال لمقام السيد المسيح لا يسمو عليه إجلال.
فإذا كانت الملامح التي نظر إليها قداسته تقارب صورة من الصور التي اجتهد أقطاب التصوير في تخيلها، فنظرته ولا شك حجة قوية لترجيح هذه الملامح على غيرها، وتغليب الصورة المختارة عن مئات من الصور التي تخالفها.
وهذه الظاهرة - ظاهرة الرؤيا البابوية - تأتي في أوانها على الأقل ليستفيد منها المشتغلون بعرض التواريخ المقدسة على اللوحة البيضاء، أو المتسائلون عن إمكان عرضها على المسرح في الروايات التمثيلية، فإننا منذ شهرين نسمع الأسئلة الكثيرة في هذا المعنى، يسألها الخبراء الفنيون ورواد معاهد الفن والتمثيل.
سمعناهم يسألون: هل يجوز تمثيل «الشخصيات المقدسة» على اللوحة البيضاء، أو على مسارح التمثيل؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة كنا نقول إن السؤال يحتاج إلى سؤال يسبقه، ونتفق فيه على رأي راجح.
فقبل سؤالنا: هل يجوز؟ ينبغي أن نسأل: هل يمكن؟ ثم ننتظر الجواب من شهود العيان وخبراء الفنون.
وعلى ذكر صورة السيد المسيح نقول إن المجموعة التي لدينا من صوره تشتمل على نحو مائة صورة، عمل في تصويرها كبار الفنانين سنوات طويلة، واختلفت نظراتهم وبيئاتهم على حسب الأمم التي نشئوا فيها، والمذاهب التي يدينون بها، والعصور التي عاشوا خلالها؛ فمنهم مجريون وروسيون، ومنهم نمسويون وألمان، ومنهم إيطاليون وإسبان، ومنهم هولنديون وفرنسيون، ومنهم إنجليز وأمريكيون معاصرون.
وإذا سئلنا أية صورة من هذه الصور تقارب النظرة التي ننظرها والشعور الذي نشعر به، فلا نستطيع أن نقول إننا نرتضي منها أكثر من صور ثلاث أو أربع بين عشرات وعشرات.
بعض المصورين يخيل إليه أنه يأخذ بالنظرة الواقعية، فيصور السيد المسيح كأنه عبراني من العبرانيين، لا يتميز من الألوف الذين ينطبع في الذهن أنهم يمثلون الملامح العبرانية.
وبعض المصورين يخيل إليه أن الصورة التي تدل على السيد المسيح لا تكون إلا مجموعة من الأشعة، تتخلق بينها الملامح الآدمية.
وبعضهم يملؤه بالحيوية الجسدية، وبعضهم يحيطه بالظلال الروحية، وكلهم لا يعطيك الصورة التي تطابق في نفسك ما توقعت وتأملت، فنقول على الأثر: نعم هكذا ينبغي أن يلوح لنا هذا الروح العظيم.
إنني لا أتخيل أن السيد المسيح كانت له ملامح العبرانيين النموذجية؛ لأنه لو كان كذلك لما أنكر أحوال العبرانيين في زمانه، وعلى الوجوه لا بد أن تظهر عوارض النفوس.
ولا أتخيل أنه كان طغاوة من الأشعة؛ لأن من كان كذلك لا يقلب موائد الصيارفة في الهيكل، ولا يقول إنه يلقي السيف كما يلقي السلام.
ولا أتخيل أنه حيوية جسدية ولا أنه ظلال روحية، ولكنني أتخيل أنه «حماسة في وداعة»، تلفت النظر بالطيبة والقوة بعد نظرات طويلة ، ولا أقول بعد نظرة واحدة.
أما الصور القلائل التي أقول إنني ارتضيتها بين نحو مائة صورة فهي: صورته في العشاء الرباني، من عمل ليونارد دافنشي؛ وصورته مع الأطفال، لكل من بلوكهورست وكوبنج؛ وصورته وهو يتلقى قبلة يهودا الأسخريوطي، لجاسبر جيجر؛ وصورته أمام ببلاطس الحاكم الروماني، لمنكاشي. وكلها تمثل السيد المسيح مع آخرين ولا تمثله على انفراد، وهذه «نقطة» مهمة يجب الالتفات إليها؛ لفهم الإيحاء الذي يستعين به المصورون من طريق المقابلة أو المناقضة.
فيكفي أن يتخيل المصور منظر الخيانة في يهودا ليحسن التخيل حين يتصور نقيضها، مع الفارق في العظمة والطهارة.
ويكفي أن يتخيل المصور براءة الأطفال الشاعرين بالعطف الذي يحيط بهم ليرسم صورة الأبوة العاطفة، ويعطيها مسحة الأبوة الروحية.
ويكفي أن يتخيل مناظر السلطان الدنيوي أو الكهنوتي في حضرة بيلاطس والكهنة اليهود، ليتخيل ما يقابل هذا السلطان الدنيوي من سلطان الروح وسماحة التسليم.
وعلى هذا كله لا أشعر أنني رأيت أمامي صورا تستجيب لكل ما في النفس من جو الشعور بحضرة السيد المسيح.
أما تمثيل المسرح واللوحة البيضاء للسيد المسيح، ففي وسعي أن أقول إنني لا أذكر هيئة واحدة تطابق الشخصية المسيحية في حركاتها وسكونها وكلامها وصمتها وغيرتها وحزنها وأعمالها المتعاقبة في سائر أوقاتها، ولا شك أن هذا التمثيل أصعب جدا من تخيل المسيح في هيئة واحدة يؤديها التصوير.
فالسؤال: هل يجوز؟ يسبقه السؤال: هل يمكن؟ ولا يتسرع القائل بالإمكان إلا إذا كان الحس الظاهر أغلب على نفسه من صور الوجدان كما يتمثل في ملايين النفوس.
صورة محمد - عليه السلام
ولقد سمعت الأسئلة في هذا المعنى في سياق الكلام على صورة النبي محمد - عليه السلام.
فقلت: إن الواقع هنا أقرب إلينا من الخيال.
والواقع معروف مستمد من التاريخ الذي لا خلاف عليه، سواء منه تاريخ النبي وتاريخ صحابته المقربين.
لقد كان حول النبي رجال من طراز أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبي عبيدة الجراح ومعاوية بن أبي سفيان.
كان كل من هؤلاء الرجال يقيم الممالك ويقود الجيوش، ويهزم القياصرة والأكاسرة، ويحسن ولاية الأمر في وطنه وغير وطنه.
وكان منهم رجل كعمرو بن العاص، يقول إنه لم يجرؤ على أن يملأ نظره من وجه محمد.
وكان منهم رجل كابن الخطاب، عاش إلى آخر أيامه وهو يعيد كلمة «يا أخي»؛ لأنه سمعها مرة من فم محمد في موقف وداع.
وكان منهم رجل كمعاوية، يحتفظ بقلامة ظفر من إصبع محمد، ولا يفرط فيها وهو على سرير ملكه.
ولولا أن «شخصيته» تعز على التمثيل، لما دانت له هذه الشخصيات زهاء عشرين سنة، ولا يقال إنها هيبة الإيمان وحده؛ فإن هذه الهيبة لا بد لها من هيبة «شخصية» تناسبها، وتناسب قدرها الرفيع في نظر المؤمنين.
وقد رأينا على اللوحة البيضاء من حاولوا تمثيل صلاح الدين الأيوبي فلم يفلحوا.
فهل تراهم يفلحون في تمثيل ذلك الرجل الذي لا نظير له بين الرجال؟
لا نخالهم يفلحون، ولا ضير عندنا من تمثيل أناس من عظماء الإسلام في مقام الدعوة والتكريم، فأما الشخصيات المقدسة التي تعلو على ذلك كثيرا، فالإشارة إليها من بعيد أوفق للفن وللمقام. ومن ظن غير ذلك، فليحاول ما شاء على سبيل التجربة في موقف أو موقفين، ثم لينظر ماذا يرى من ظنونه بعد ذاك.
محاكمة الخديو عباس1
قرأت اليوم «محاكمة الخديو عباس» منقولة من الأوراق التي احتفظ بها سعد زغلول وبقيت محفوظة إلى الآن.
وتساءلت أخبار اليوم: ترى لماذا احتفظ بها سعد ولم يكن وزيرا في أثناء نظر القضية؟
ومن وفاء حق التاريخ أن نسجل هنا ما نعلمه عن هذه القضية، التي كان لها شأن خطير في تاريخ مصر الحديث، أوشك بعضنا أن ينساه.
إن سعدا احتفظ بتلك الأوراق؛ لأن حساب دائرة سيف الدين ودائرة صالحة هانم التي حذف اسمها من الأسرة الخديوية؛ كان سبب استقالته من وزارة الحقانية، وهي الاستقالة التي تذكر بين أشرف الذكريات في تاريخ الوزارات المصرية وغيرها من الوزارات.
إن لورد كتشنر يظهر أخيرا بمظهر الحارس الغيور على نزاهة الحكم، مع أنه كان يتعرض لها من مبدأ الأمر لحماية صاحبه حسين محرم باشا وشفاء حزازته من الخديو عباس.
وقد كان سعد وزيرا للحقانية حين راجع أعمال المجالس الحسبية، فلاحظ في أوراق الدائرتين كثيرا من الخلل وسوء التصرف، وأراد أن يحيل الوصي حسين محرم إلى القضاء، فوقف له لورد كتشنر، وطالبه بتقديم الأدلة على الخلل قبل اتخاذ إجراءات المحاكمة؛ أي طالبه بوضع المركبة أمام الحصان كما قال له سعد؛ لأن حجز أوراق الدائرة جميعا أول عمل من أعمال الإثبات.
وأبى ضمير سعد أن يسكت على الخلل الواضح أمام عينيه، فاستقال بعد مقابلة عاصفة بينه وبين اللورد الحاكم بأمره، وقالت دائرة المعارف البريطانية وهي تروي القصة: «إن أدلة إدانة زغلول لم تكن كافية، ولكنها كما وقر في الأذهان كانت صحيحة في جملتها.»
أما حماسة كتشنر للدفاع عن حسين محرم باشا، فسرها معروف عند الكثيرين، وبعض ما يقال عنه إنه كان يدير له رحلات الصيد على اختلافه ويصحبه في تلك الرحلات.
ولا نعلم بين مفاخر النزاهة واستقلال الرأي مفخرة أعظم من مفخرة الرجل الذي يناضل سلطة العرش وسلطة الاحتلال دفاعا عن حقوق لا يدري بها أصحابها في خارج القطر، ولا يملكون المطالبة بها لو علموا بتلك الحقوق.
من تاريخ عباس وكتشنر1
نشرت «أخبار اليوم» بيانا عن القضية التي نظرت في أوائل أيام الحرب العالمية الأولى، وسميت يومئذ بمحاكمة «الخديو عباس الثاني»؛ لأنها كشفت عن خلل في حساب دائرة سيف الدين ودائرة صالحة هانم منسوب إلى الوصي عليها «حسين محرم باشا»، ثم قيل إن لورد كتشنر هو الذي أمر بالتحقيق والمحاكمة؛ إظهارا للغيرة «الاحتلالية» على نزاهة الحكم والإدارة.
وقد اقتبست «أخبار اليوم» بيانها الذي نشرته من أوراق مودعة بين محفوظات الزعيم الخالد «سعد زغلول» وتساءلت:
لماذا يا ترى عني سعد بحفظ هذه الوراق، مع أنه لم يكن وزيرا في أثناء المحاكمة؟
وكنا نعلم شيئا عن هذه القضية، سمعنا بعضه من سعد، وسمعنا بعضه الآخر من المعاصرين الثقات، فكتبنا موجزا مما نعلمه، وقلنا إن سعدا قد احتفظ بالأوراق؛ لأن هذه القضية كانت سبب استقالته المشرفة من وزارة الحقانية، بعد اصطدامه بالخديو عباس وباللورد كتشنر معا أثناء التحقيقات الأولية، التي أجراها على أثر مراجعاته لأعمال الدوائر والمجالس الحسبية.
سؤال مؤرخ قانوني
وصديقنا الفاضل الأستاذ «عبده حسن الزيات» المحامي، مؤرخ وقانوني، يعنيه تاريخ سعد زغلول خاصة في القضاء؛ لأنه كتب عن قضاياه التي نظرها كتابا مستقلا، يعد الآن من المراجع القانونية والتاريخية، وهو فوق ذلك معني بجلاء الحركة الوطنية على حقيقتها في جميع أطوارها، وفيما يتعلق بدعوى الاحتلال عليها، وادعائه أنه ملاذ الإصلاح والنزاهة فيها.
فدعاه الاطلاع على بيان القضية، وعلى تعليقنا، إلى الاستفسار طلبا للمزيد من الإيضاح، وفي كتابه الذي أرسله إلينا بهذا الصدد يقول:
إنني بمجرد قراءتي لتلك القصة قامت بعقلي شبهات، ولاحظت في الوقائع المسرودة تناقضات، أنهيتها في خطاب إلى الأستاذ مصطفى أمين، ثم قرأت تعقيبكم فاسترحت، خصوصا حين قررتم أن محرم باشا كان صديق كتشنر؛ فقد كان بين ملاحظاتي على القضية، صعوبة التوفيق بين القول بأن الخديو أراد إرضاء كتشنر بتقديم محرم للمحاكمة كبشا للفداء، وبين ما أثبته حكم البراءة - أن محرما هذا كان قد شكا إلى كتشنر تصرفات الخديو. فإن المعنى الخالص من هذا أن محرما ذو علاقة باللورد. ولكنني لا أكتب هذه السطور لمجرد الشك، إنما حفزني إلى كتابتها رغبتي أن تتفضلوا بزيادة القضية إيضاحا، وأن تفردوا لها فصلا خاصا يجلو على الناس هذه الصفحة الوضيئة من صفحات سعد، وينفي من نفوسهم هذا الوهم الضار؛ أعني غيرة المحتلين على العدالة ونزاهة الحكم.
نزاهة غير نزيهة
والأستاذ الزيات على حق في ملاحظاته وفيما استزاده من البيان عن دعوى الاحتلال؛ لأن الواقع المستفاد من جميع القضايا الكبرى، التي تعرض لها قياصرة الاحتلال باسم نزاهة الحكم، أن هذه النزاهة لم تكن نزيهة على الإطلاق، وإنما كانت سبيلا للدعاية أو لتغطية الحقيقة التي تمسه وتمس أولئك القياصرة، وقد كان أنزه هؤلاء القياصرة - من الناحية المالية - لورد كرومر، الذي قضى في الوكالة البريطانية نحو ربع قرن، لم يكن له فيها دعوى غير النزاهة والتنزيه فيما يدور حول العدالة والمساواة، ولكنه لم يكن يعرف عدالة ولا مساواة حين تقضي الدعاية المغرضة قضاءها عليه في أظهر الأمور.
ومن قبيل ذلك أنه قام وقعد لاتهام «المنشاوي باشا» بضرب بعض اللصوص الذين سرقوا ماشية الخديو عباس في جواره، ولم يسترح حتى صدر الحكم بحبس الوجيه المتهم، ليصل من وراء اتهامه إلى اتهام الأمير وحاشيته.
وكرومر هذا بعينه هو الذي أمر بإشعال النار في الحقل الذي اعتصم به اللصوص عند البلينا فماتوا حرقا، ومفتشه وأعوانه يحاصرون المكان ليضربوا كل من خرج منه بالنار.
وهؤلاء لصوص، وأولئك لصوص.
وهؤلاء في طريق المحاكمة، وأولئك في طريق المحاكمة.
ولكن العدالة وقوانين الحضارة الحديثة تسمح لكرومر بإحراق الأحياء، وتقيم القيامة للتشهير بالمصريين إذا اتهم وجيه منهم بجلد هذا أو ذاك من قطاع الطريق.
ولقد وقر في اعتقاد أناس، يعلمون تاريخ ضرب الإسكندرية والمذابح المدبرة، أن «المنشاوي باشا» حوكم لأكثر من سبب واحد في قضية الماشية المشهورة.
وقر في أذهانهم أنه حال دون استفحال المذابح المدبرة في إقليمه، واستحق من مؤتمر الأجانب الذي انعقد بفندق «أبات» بالإسكندرية أن يوجه إليه رسالة الشكر الإجماعية، التي قالوا فيها: «إننا نحن الواضعين إمضاءاتنا بذيله، المستوطنين في القطر المصري، والتابعين لدول مختلفة، بناء على ما اشتهر لدينا مما أتيتم به من الإعانة والغيرة نحو ساكني طنطا، على اختلاف أجناسهم وأديانهم؛ قد رأينا من الواجب علينا أن نقدم لسعادتكم هذه العريضة؛ برهانا على إقرارنا الأبدي بحميتكم وشكرنا الدائم لسعادتكم، وأنه ليسرنا ويعزينا كثيرا أن نرى في القطر المصري، مع ما أصيب به من النوائب، رجالا دافعوا عن حقوق الإنسانية، وراعوا زمام التمدن بحمايتهم أولئك الأبرياء.»
قال أولئك العارفون بتاريخ المذابح المدبرة يومئذ إن الرجل إنما سيق إلى السجن لحمايته الأبرياء لا لضربه اللصوص، وسواء صح تقدير أولئك العارفين أو لم يصح، فقد كانت معاملته للمجرمين أهون جدا من الإحراق بقيد الحياة.
أما نزاهة كتشنر
أما نزاهة كتشنر في قضية سيف الدين، فقد كانت كلها دعاية وتغطية من المبدأ إلى الختام.
كانت له علاقة وثيقة «بحسين محرم باشا»، تمتد إلى الرحلات والسهرات والزيارات الشخصية، وكان حريصا على تغطية حسين محرم باشا، منذ عرضت أوراق الدوائر على وزير الحقانية - سعد زغلول - إلى أن استقال سعد من الوزارة احتجاجا على التدخل في أعمال المجالس الحسبية.
وكان سعد قد أبدى رأيه عند مراجعة أوراق الدوائر بإحالة الوصي إلى القضاء، فوقف له كتشنر مباشرة؛ لأن مستشار الحقانية الإنجليزي كان يظهر الحيدة فيما يتصل بالمحاكم الشرعية والمجالس الحسبية، وقال كتشنر إنه لا يمنع المحاكمة، ولكنه يوجب على الوزير أن يتقدم بجميع الأدلة التي تثبت التهمة قبل إحالة الوصي إلى التحقيق، وهذا هو الذي سماه سعد بوضع المركبة أمام الحصان؛ لأن الأدلة القاطعة لا تجتمع بين يدي المحققين المسئولين قبل حجز الأوراق والمقابلة بين الحسابات، ولم تستطع دائرة المعارف البريطانية أن تخفي هذه الحقيقة، فقالت في طبعتها التي ظهرت بعد الحرب إن أدلة زغلول لم تكن كافية، ولكن التهمة كانت صحيحة كما وقر يومئذ في الأذهان.
وأبى سعد أن يقضي على الشبهات وهو مفتوح العينين، فاستقال وكتب في صحيفة الأهرام ردا على الذين خاضوا في أمر تلك الاستقالة، منذرا بإعلان الحقيقة إذا أصر ولاة الأمر على اللجاجة فيها، فانقطعت الألسنة وتقصفت الأقلام!
ولم يكن كتشنر في مصر يوم نظرت القضية بعد التحقيق فيها، ولكن القضية لم تنظر إلا والخديو عباس معزول.
ولهذه المسألة في علاقتها بالمجالس الحسبية والقضاء الشرعي، شعب كثيرة يحيط بها رأي سعد المعروف عن تنظيم المعاهد الدينية والهيئات القضائية، ولم يكن يقنع فيه بما دون الإصلاح الشامل الذي يتناولها جميعا، لو انطلقت يداه بالعمل كما أراد.
وكتشنر كله دعاية
ومن عجيب أمر السياسة الاستعمارية التي كانت من خطط القوم في إبان عهد الاستعمار، أنها خلقت من كتشنر هذا كله دعاية طنانة، كأنها الطبل الجوف يسمع من بعيد ولا شيء فيه من قريب.
ولا نعجب لأمر هذه الدعاية لأنها عجيبة من خطط الاستعمار، ولكننا نعجب لها لأن القوم يصدقونها ويجددون بها قصة أشعب في ساحة الجد والخطر، وهي كثيرة على اللعب والمزاح.
فقد كانت حرب الدراويش هي الفتح العظيم الذي طيروا به اسم الرجل في الخافقين، كأنهم كانوا يظنون أن القائد الذي يقاتل الأعداء بالمدافع الحديثة من بواخر النيل ومن معاقل الشاطئ؛ يأتي بمعجزة فنية خارقة إذا انتصر على أناس يقاتلون بالبنادق والحراب!
ثم أرسلوه إلى حرب البوير فأوشك أن ينهزم، لولا تفاوت القوة بين الدولة البريطانية وعصابات أفريقيا الجنوبية، وهي تتلقى العداء من الوطنيين السود ومن الإنجليز.
ثم ندبوه لتنظيم القتال في ميادين الحرب العالمية الأولى، فكانت الطامة الكبرى لولا أنه أزيح من مكانه بضربة من ضربات القضاء.
وإلى اليوم يعتقد بعض «الشكوكيين» أن الجاسوسية البريطانية لم تبذل عنايتها الوافية لحراسة القائد الكبير وهو ذاهب إلى روسيا لتنظيم الخطط الحربية هناك، فغرق عند جزائر شتلاند، وعرف الألمان موقع السفينة في سفرها من برقية لا تحتاج إلى فطنة كبيرة للعلم بما وراءها من الإيحاء.
وخلاصة القصة عن هذه البرقية أنها أرسلت من أحد العيون في البلاد الإنجليزية إلى زميل له في الخارج يسأله بما نصه:
Should Henry enter the law academy next December?
واسم جزائر شتلاند يتألف من أوائل الحروف في هذه الكلمات، وليس أيسر من ملاحظة التلفيق فيها لجمع الحروف التي يحتويها اسم الجزيرة؛ إذ ليس من العادة المألوفة في البرقيات ذكر أداة التعريف، وليست «الأكاديمي» علما على مدرسة الحقوق، ولا يلزم تحديد تاريخ الدخول بديسمبر القادم ولا بشهر من الشهور.
إلا أن العناية بكسب الحرب قد غلبت على العناية بحراسة كتشنر، فمرت البرقية بغير تدقيق!
وشاهد من أهله
وليس لنا في الرجل رأي غير الآراء المتفق عليها بين عارفيه من قومه، بعد مسح الطلاء المعهود في أمثال هذه الأوصاف والشهادات.
فاللورد كرومر يقول عنه كما روى مترجمه الفيكونت إيشر
Esher : «إنه لا يحسن الابتكار والإنشاء، ولكنه معاون نافع في التنفيذ.»
ولورد مورلي وزير الهند يومئذ يقرر بلهجة التوكيد على أثر المحادثة بينه وبين كتشنر «أنه لن يذهب حاكما للهند كما أراد أبدا. لن يذهب إليها أبدا.»
والمترجم نفسه يقول عنه: «إنه ينقلب فظا في بعض الأحيان، ولكنه يجيد الوقيعة والسياسة الميكافيلية.»
وتراجمه كلها تروي أخبار حنينه إلى المعيشة في البلاد الشرقية، التي يتولى فيها المناصب بغير رقابة من الرؤساء عن كثب؛ ومنها منصب السفارة في الآستانة، ومنصب حاكم الهند، ومنصب حاكم السودان. وعلاقاته الشخصية تفسر دعاية النزاهة التي تذاع عنه تفسيرا منزوع الغطاء، وسر «التغطية» التي يتكلفها لبعض الأشخاص مكنون كله في ذلك التفسير.
لا يعرف شكسبير
وثالثة الأثافي أن «القائد العظيم» كان من العامية والفدامة بمنزلة تذهل العقل ممن هو دونه في المقام بكثير، فضلا عن هذا المقام الرفيع.
قال صاحب الأروقة الهامسة
Whispering Gaileny :
لم يكن كتشنر يعير الثقافة الأدبية ذرة من الالتفات، وقد يقرأ بعض الكتب لاستقاء المعلومات ويندر أن يقرأها للمتعة؛ فإذا جرى حديث الثقافة، غاص في أعماق نفسه ولم ينبس بكلمة. وجرى الحديث يوما عن شكسبير، فتداوله الحاضرون حتى لاحظ مورلي أن كتشنر شارد الذهن لا يصغي إليه، فاجتهد في جذبه إلى المحادثة، وأفلح في لفت نظره إلى جلسائه بعد شروده بين الجدران، وسأله: ما رأيك بحق في شكسبير؟ وشاع في المجلس صمت الأموات، وكتشنر يقلب نظره من وجه إلى وجه بين الحاضرين، ثم استقر نظره على جون مورلي، فقال أخيرا: شكسبير! ثم صمت هنيهة وعاد يسأل: أليس هو ذلك القائل الذي يتحدث عن الخيلاء والفخامة وميادين الحروب الظافرة!
وراغ الحاضرون عن الجواب. •••
ولا نخال أن أحدا يرتاب في فدامة مخلوق إنجليزي لا يعرف شيئا أكثر من هذا عن شكسبير، ولو من المسارح أو الإعلانات أو الصحف أو أحاديث الدهماء، ولا نقول الخاصة والمطلعين.
وقد كان هذا الرجل يسلط على الشعوب والرجال في الأمم المنكوبة بالاستعمار، ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه في عظيم من أمرها أو حقير، وكان يستكثر على العظماء والرؤساء ألا يعاملوه معاملة الملوك أو الأرباب؛ لأنه كما قال عنه شرشل يعامل الناس كالآلات، ولم يكن في الوقت نفسه يتورع عن زيارة محتال مشهور في بيته للتفرج كما يقول على مجموعة السجاجيد، ولا كان يتورع عن إهداء الدبابيس المرقومة بحرفي اسمه ولقبه
K. K.
لأناس لا يلقاهم في مصلحة من المصالح العامة، ولا في شأن من شئون السياسة!
ويقال في أحاديثه وحوادثه بعد ذلك إنها قصة نزاهة وعدالة، وبينها وبين النزاهة والعدالة ما بين النقيضين.
أسباب تاريخية؟ أو استعمارية؟1
المستعمرون كملوك البربون في فرنسا، لا يتعلمون شيئا ولا ينسون شيئا.
قرأت اليوم تعليقهم على ثورة شرق الأردن، فرأيتهم يعللونها بالدسائس الخارجية .
كذلك فعلوا، تماما، حين أرادوا أن يعللوا ثورة مصر في سنة 1919؛ فإنهم لم يفتح عليهم بسبب في تعليلها غير دسائس الترك والألمان.
ومعنى هذا أن الترك والألمان قد استطاعوا في يوم واحد وهم منهزمون ما لم يستطيعوه في سنوات وهم صامدون على الأقل أو منتصرون.
ولكن التعليل الصحيح لهذه التعليلات السقيمة، أنها تستر جهل المسئولين أو تعفيهم من تبعات قصر النظر وسوء التدبير، فلا يقال عنهم إنهم أخطئوا الرأي وجهلوا العواقب، بل يقال عنهم - كما يحسبون - إنهم معذورون غير ملومين؛ لأن السبب راجع إلى العوامل الأجنبية التي لا تدخل في التقدير.
وعندنا اقتراح واحد ينفع هؤلاء المستعمرين، فيتعلمون شيئا وينسون شيئا، ولا تصير بهم الجهالة إلى مصير أسرة البربون.
حاولوا - وأنتم أقوى الأقوياء - أن تخلقوا ثورة كثورة الأردن الآن أو كثورة مصر، فإن استطعتم فأنتم حقا معذورون غير ملومين.
ولن تستطيعوا وأنتم أقوى الأقوياء في العصر الحاضر أن تصنعوا ما تتهمون به كل يوم أناسا لا يبلغون مبلغكم من القوة والثروة وفساد الضمير!
المحسوبية في بلاد الإنجليز1
ندر بين التراجم التي تؤلف عن ساسة الإنجليز المشهورين في البلاد الشرقية؛ أن نقرأ كتابا يحتوي من الحقائق والأخبار الصحيحة ما احتواه هذا الكتاب في ترجمة السير ريجنالدونجت، الذي كان مندوبا ساميا لدولته في مصر أيام الثورة المصرية، وكان قبل ذلك حاكما عاما للسودان.
ومن هذه الحقائق، التي جاءت في الكتاب على غير قصد من المؤلف، أن المحاباة أو «المحسوبية» التي يعيروننا بها داء قديم متأصل في الحكومات الغربية، لم تسلم منه أعرق البلاد في النظام البرلماني، وأشهرها بالدقة والضبط في معاملة الموظفين، وسيرة صاحب الترجمة من الأدلة الكثيرة على قدم هذا الداء - داء المحسوبية - في بلاد الإنجليز.
لقد كان «ونجت» هو المندوب السامي الوحيد الذي خرج من مصر مغضوبا عليه، أو غير مشيع بعلامة من علامات الرضى والارتياح، فخرج كرومر منعما عليه بلقب اللوردية وربطة الساق وخمسين ألف جنيه، وخرج كتشنر منعما عليه بمثل ذلك، ولم يظفر ونجت باللقب ولا بالمكافأة المالية ، وبقي على فقره محروما من وظائف دولته، حتى اضطر إلى العمل بإدارة إحدى الشركات.
ومع هذا كان «ونجت» أصوب رأيا في السياسة الشرقية من جميع أسلافه ولاحقيه؛ فلم تختلف نظرتان في شأن خطير من شئون مصر والسودان، إلا كانت نظرته هو أصح النظرتين، وأبعدهما أمدا في اتقاء العواقب وتذليل المصاعب، وكاد هذا الرجحان بالرأي الصواب يطرد في جميع الوصايا التي أشار بها على حكومته فأعرضت عنها، وربما «وبخته» من أجل بعضها في قالب التوبيخ المعهود بين وزارة الخارجية وأعوانها من كبار الرؤساء.
أنذر حكومته بالثورة في مصر إن أصرت على الإعراض عن مطالب المصريين، فجاءه رد من وزارة الخارجية تعجب فيه من هذا الإنذار الذي لا تسوغه بادرة من بوادر الواقع، فصح قوله وكذبت تقديرات حكومته، وظل الرجل بعد ذلك مغضوبا عليه.
وأنذر سماسرة إسرائيل بسوء العاقبة إن لم يعملوا على مرضاة العرب، وقال لهم إنهم «معقولون» مجاملة لهم وللحكومة البريطانية التي أرسلتهم إليه، ولكنه شفع ذلك بقوله إنهم يجهلون كل شيء عن العرب وعن الشعور العربي و«العقلية العربية»، وإنهم لا يفلحون مع هذا الجهل في خطة من الخطط التي يرسمونها على البعد في الخيال.
ولما احتل الفرنسيون فاشودة، كان من رأي كتشنر أن يرفع عليها العلمين الإنجليزي والمصري كما فعل في الخرطوم، فحذره ونجت من ذلك وقال له: إن حجتنا إنما تنقض دعوى الفرنسيين إذا كانت هذه الأرض مصرية تحت الراية المصرية، ولكننا نقف منهم موقف المتنافسين على الأرض الأجنبية إذا رفعنا رايتنا على تلك البقعة. فأذعن كتشنر بعد لجاج طويل، وذهب إلى ملاقاة الضابط الفرنسي مرشان وهو يلبس الطربوش والكسوة العسكرية المصرية، وخرج كتشنر بفضلها وشهرتها، وبقي ونجت منسيا مغمورا في هذا الحادث، على دأبهم معه في الحوادث الأخرى.
ولما اختلف كرومر وونجت على الخطة التي تتبع في السودان بعد الثورة المعروفة بثورة «الجبخانة»، كان كرومر يشير باستخدام العنف وتجربة فرقة من جيش الاحتلال على الخرطوم، وكان ونجت يشير بنقيض ذلك، ويوصي بحل المشكلة بالهوادة والمسايرة إلى حين، فنجح ونجت حيث أخفق كرومر، وقيل يومئذ إن سياسة كرومر هي التي أعادت السودان إلى الطاعة والهدوء.
ومن أخبار هذه الترجمة التي أشرنا إلى بعضها في كتابنا عن سعد زغلول، أن ونجت والسلطان فؤاد اتفقا على إدخال سعد وعبد العزيز فهمي في الوزارة، وكتب «المندوب السامي» إلى حكومته قبل أن يعرف من الوزيرين المرشحين قبول هذا الترشيح، فجاءه الرد من الحكومة البريطانية بالاعتراض على اختيار رجلين معروفين بمقاومة النفوذ البريطاني، في وقت تحتاج فيه الحماية البريطانية إلى المؤيدين.
وجاء في هذه الترجمة أن سعدا كان يلقى ونجت بنادي محمد علي، فيفاتحه في أمر الجمعية التشريعية، وأن الاتفاق على المقابلة بعد إعلان الهدنة، إنما تم بينهما في نادي محمد علي دون أن يخبره سعد بالغرض منه حتى يكون معه صاحباه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، ثم تمت المقابلة ودون المندوب البريطاني أحاديثها بالتفصيل، فلم يختلف نصها ونص الزعماء الثلاثة إلا في القليل.
ونحن نقول إن الكتاب يحتوي من الأخبار الصحيحة ما لا تحتويه أمثال هذه الكتب، ولا نريد بذلك أنه صدق في أخباره جميعا، ولا أنه خلا من الوقائع المحرفة أو المناقضة للواقع الثابت في أسانيدنا نحن المصريين؛ وإنما هي «الصحة النسبية» بالقياس إلى التزييف المتعمد من الألف إلى الياء في كل ترجمة يكتبها الإنجليز عن ساستهم في البلاد الشرقية، ولعل هذه الصلة أثر من آثار الإجحاف الذي حل بصاحب السيرة، ووسيلة من وسائل إبراز الكفاية التي لم يقدرها القوم تقدير الإنصاف والرعاية.
أما الأخبار التي وردت غير صحيحة أو غير محققة في هذه السيرة ، فهي أكثر من الأخبار الصحيحة المحققة، ولا سيما أخبار الحوادث التي اشترك فيها ونجت، وحمل فيها بعض الوزر وبعض التبعة، متعاونا مع زملائه بالسودان أو مع وكالة القاهرة ومكاتب دوننج ستريت.
قصة غردون مثلا، أو فجيعة غردون، أو مؤامرة غردون.
ما حقيقتها بين القائلين إن غردون ذهب في الخرطوم المحصورة ضحية مقصودة، أو إنه ذهب في ذلك الحصار من جراء الإهمال والتقصير والجهل بدخائل السودان عند تسيير الحملة لإنقاذه، على الرغم من معارضته في الجلاء عن الخرطوم؟
هل مات غردون قصدا أو مات عن جهل وسوء تدبير؟
اقرأ الوقائع في الكتاب تجد أن مؤلفه يحاول أن يصرف الشبهات جميعا عن أبيه، وتجد أن ونجت نفسه يدافع عن خطة التمهل والإبطاء في مسير الحملة إلى الخرطوم، ولكنك تستطيع أن تقول بعد مراجعة الوقائع جميعا إن القصد أظهر من الإهمال، وإن الإبطاء لم تكن له ضرورة محتومة، سواء قبل اتخاذ القرار بتسيير حملة الإنقاذ أو بعد اتخاذ هذا القرار.
وهذه هي الوقائع مجردة من التعليق والزيادة نسردها، وندفع للقراء من المستعمرين بكسر الميم أو المستعمرين بفتح الميم أو الشهود من أصحاب الحيدة بين الطرفين، أن يفهموا منها ما تمليه ولا مبالغة فيه.
فأول ما هنالك من حلقات هذه السلسلة المترابطة أن لورد كرومر ترك قصر الدوبارة أيام الأزمة، ولم تجد حكومته وقتا غير ذلك الوقت العصيب تدعوه فيه إلى المؤتمرات المالية، وتختاره هو دون غيره لحضورها وملازمتها.
ثم يتأخر صدور القرار بإرسال الحملة بعد فوات الوقت الملائم، ويصدر الأمر إلى قائدها لورد ولسلي بأن يحاول الوصول إلى دنقلة، ولا يتقدم خطوة واحدة وراءها.
ثم يكون ولسلي هذا من أجهل الناس بالسودان ونهر النيل، ويستبد برأيه فيقرر نقل المؤنة والأزواد في الزوارق الصغيرة، كما كان يفعل في أنهار كندا، ولا يخفى على حكومته - إن خفي عليه - أنه يعبر بهذه الزوارق خمسة شلالات!
ثم يصدر الأمر إليه بالتقدم في اللحظة الأخيرة وراء دنقلة، ولكن على شرط يزيل كل فائدة للتقدم؛ وهو الاقتصار على كتيبة صغيرة من مائتين أو ثلاثمائة كافية في زعمهم لاختطاف غردون من وراء الحصار، وهم يعلمون أن غردون يرفض النزول من السودان، وينتظر الحملة لفتح الخرطوم، فلو أمكن وصول الكتيبة الخاطفة إليه، لكان هو أول من يرفض مناورة الاختطاف.
وعلى كل هذا بقي في حساب الأيام يومان بغير عمل، يقول عنهما ونجت إن العمل فيهما توقف هنيهة؛ لأنه كان مجازفة لا تؤمن عواقبها، كأنما هذه المناورات جميعا لم تكن من المجازفات أو العبث الذي هو شر من المجازفة؛ لأن المجازفة قد تفلح في الأحايين.
وتتم الفجيعة بعد هذا كله بالصياح على غردون الشهيد، وبالحقوق الشرعية التي ترتبت على هذا الاستشهاد المطبوخ، وإن «فضل» المنقذين فيه لأكبر من فضل المعتدين. •••
أما حادث الذخيرة، أو «الجبخانة» كما اشتهر في وقته، فهو أول ثورة مسلحة على الاحتلال، تعاون فيها الجيش المصري والجيش السوداني وشعب السودان.
ويعزوها ونجت إلى تحريض الضباط المصريين، الذين أدخلوا في روع الجند السودانيين أنهم سينقلون إلى أفريقيا الجنوبية لتسخيرهم في حرب الترنسفال، بعد الهزائم التي تعاقبت على الإنجليز بقيادة كتشنر هناك، وشاع على الألسن أن كتشنر طلب التعجيل بإرسالهم؛ لأنهم قاتلوا بقيادته وقاتل معهم، فاختبرهم واختبروه، فهم أنفع له في حرب البوير من الفرق الإنجليزية التي كان يقودها هناك.
إلا أن ثورة «الجبخانة» من الحوادث التي رواها الكثيرون، ووصفها الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم بحذافيرها من المبدأ إلى الختام، وقد كان من شهودها كما كان من ضحاياها، وطابق وصفه لها روايات الشهود من المصريين والسودانيين.
قال حافظ إبراهيم في كتابه ليالي سطيح: «صدرت مشيئة القائم بالأمر في السودان بجمع ذخيرة البنادق من أيدي الجنود، فتساءل الناس عن هذا النبأ، ومشى بعضهم إلى بعض، وأرجفوا يومئذ بسقوط الوزارة وانحراف الأمير عن القوم، فكثر التأويل كما كثر القيل، فتنبأت طائفة منهم أن سبب هذه المشيئة هو التحرز والتوقي من انتقاض الجيش، وقد نمى خبر خذلانهم أو أوليات الحرب الترنسفالية، وظنت طائفة أخرى أن سببها هو ذلك الفتور الذي زعموا أنه وقع بين الأمير والقوم، وقال ذوو الأسنان إنها محنة من محن السياسة يبلون بها طاعة الجيش ...»
وبين هذه الأراجيف التي أطال حافظ إبراهيم في التعقيب عليها، شاعت حقا مسألة الندبة إلى حرب الترنسفال، وكان المصريون والسودانيون جميعا يعطفون على هؤلاء القوم؛ سخطا على الاحتلال والسيادة الأجنبية، لا حبا للبوير، ولا معرفة بما هم أهله من العطف والمعونة.
وكان «ونجت» هو الذي تكفل باستكشاف أسرار المؤامرة كما سماها ، وتهدئة الخواطر بغير حاجة إلى استخدام السلاح، كما خطر لكرومر حين أشار بإنفاذ فرقة أو فرقتين من جيش الاحتلال إلى الخرطوم.
فلا جرم تشاب الرواية هنا وفي مأساة غردون بشائبة الهوى، أو بحب الدفاع عن الخطة التي كانت له يد في رسمها وتنفيذها؛ بموافقة رؤسائه تارة، وبغير موافقتهم تارة أخرى.
مصر والعرب
ولكننا لا نختم الكلام عن الكتاب بحقائقه وأباطيله دون أن نعترف لمؤلفه رونالد ونجت بعطفه على الجانب المصري، حين يتفق العطف عليه مع الدفاع عن سياسة أبيه.
ومن مناسبات هذا العطف بين الحوادث التي رواها واستمر على روايتها بعد استقالة أبيه، أنه عقد المقارنة بين إنذار للورد اللنبي على أثر مقتل السردار، وبين إنذار النمسا إلى الصرب بعد مقتل ولي العهد في سراجيفو، وتحفز الدول لتأييد الصرب من جانب، وتأييد مطالب النمسا من الجانب الآخر.
قال المؤلف بعد الإشارة إلى الإنذارين إن إنذار اللورد اللنبي قبلته وزارة مصرية بعد رفض سعد زغلول لمطالبه التي تناقض الاستقلال ... أما إنذار النمسا فقد كانت شدته البالغة سببا لاشتعال الحرب العالمية، وما جرت إليه من الخسائر والنكبات.
الحكماء الطائشون
ويذكر المؤلف كيف قبلت مطالب الإنذار في الوقت الذي وصلت فيه البرقية السرية من لندن بتعديل بعض هذه المطالب والعدول عن بعضها، وكانت حجة الساسة الحكماء عندنا في قبول ما قبلوه أنه «حكمة» تمليها الوطنية والبصر بدخائل الأمور، وهم كما تبين من أسرار هذه النكبة بعد ذلك أجهل الناس بالدخائل والظواهر، وأسرعهم إلى الاستخفاف بالوطنية وبالحكمة، وأجهلهم بما يريده الغاصبون حقا، وما يهولون به وهم فيه مختلفون.
وشيء لم يذكر في الكتاب
وشيء لم يذكر في الكتاب نضيفه إليه؛ لأنه مما نعلمه عن طرائف السودان، وقد يجهله المؤلف أو يعلمه ولا يملك المصارحة به في كتاب يترجم به أباه.
كان ونجت يتكلم العربية باللهجة السودانية كأحد أبنائها، وكان يتظرف بالتحدث بها إلى ضيوفه من مشايخ القبائل في الحفلات السنوية التي تقام بقصر الحاكم العام لرؤساء العشائر والدواوين.
وفي حفلة من هذه الحفلات طاف بموائد المشايخ من أهل البادية، وسأل أحدهم بلهجته المحلية: كيف أنك يا زول؟
قال الرجل: زين يا جناب السردار، ما يصعب علي غير حالك أنت والله!
فتشوف ونجت إلى استطلاع ما يريده هذا الشيخ الصريح، وسأله: وما لك صعبان عليك حالي يا زول؟
قال في براءة وطنية: أنت يا جناب السردار في هذا الملك الطويل العريض، ما لقيت لك زوجة غير هذه المرأة الشينة التي نراها معك كل عام.
فلم يتمالك ونجت نفسه أن أغرب ضاحكا، واسترسل في الضحك حتى عجبت اللادي ونجت، واشتد بها الفضول إلى سر هذه النكتة التي تجود بها قريحة شيخ من شيوخ البداوة، وسألت قرينها عن سر ضحكه مع تقاليد «التوقر» الذي تفرضه عليه الرئاسة أو «الإمارة» في قصر «الدولة»!
وكانت في ونجت شيطنة دعابية، فلم يكتم عنها الخبر، وكانت السيدة كزوجها في هذه الخليقة، فضحكت معه وجعلت كلما لقيت ذلك الشيخ في وليمة من الولائم الرسمية، تطلب من المترجم أن يسأله: أما وجدت لجناب السردار زوجة أجمل من هذه المرأة الشينة؟ فيومئ الرجل إلى جناب السردار كأنه يتشفع به وهو يقول: الله يجازيك يا باشا! لا تكتم السر وأنت أبو «المخابرات».
بين الإحراق والتحنيط1
حضارة البراهمة تنكر الجسد وتوحي بإحراقه بعد الموت؛ لأنه مصدر الشهوات والأباطيل والشرور.
وحضارة الفراعنة تحتفظ بالجسد؛ لأنه بيت الروح الذي تعود إليه بعد طول الغياب، يوم القيامة.
وبين هؤلاء وهؤلاء أمم يتركون الجسد للأرض، كأنهم يقولون إنه تراب وإلى التراب يعود.
وصاحبنا أغاخان قد نشأ في الهند وعاش آباؤه في إيران، ويقول مذهبه إنه ينتمي إلى الرسول بالجسد أو بالروح، ويعيش هو حيث شاء في جميع القارات.
وهو لذلك حائر بجسده ماذا يصنع به بعد عمر طويل.
إنه يحرص عليه ولا يريد أن يحرق كما يفعل البراهمة، ولكنه لا يريد أن يحفظه بالتحنيط كما تحفظ الموميات.
فلا جرم يحب هذه البقاع التي أراها أمامي الساعة ويراها الأبد كل ساعة؛ لأنها حلت له المشكلة أيسر الحلول، وشهد فيها بعينيه أنها تحفظ الأجساد من البلى بغير حاجة إلى التحنيط.
ولهذا يختارها لمثواه الأخير.
يا للإنسان من الموت! ويا للموت من الإنسان!
إن حبه لحياته لا ينتهي عند القبر ولا عند يوم القيامة، ولولا ذلك لما دامت قداسة الذكرى ولا كانت آمال الخلود.
كارل ماركس يفتري على أستاذه1
لي أصدقاء أعزاء أعرفهم ويعرفونني، ويزيدهم إعزازا عندي أنني عرفتهم بالسماع فلم أرهم ولم يروني، ولم تكن بيننا من واسطة للتعارف إلا ما أكتبه في الصحف وما يكتبونه إلي بالبريد.
هؤلاء الأصدقاء أنا حريص على صداقتهم، محتفظ بها على شريطة واحدة معقولة وأخالها مقبولة؛ وهي ألا تكلفني هذه الصداقة أن أدخل نفسي إلى قفص الاتهام طوعا كلما سمعوا كلاما عني يسوءهم، ويريدون أن يدفعوه فلا يجدون أحدا غيري يتكفل لهم بهذا الدفاع.
ومن هؤلاء الأصدقاء، رجل حسن النية يساق إلى طريق الشيوعيين أو يسوقون أنفسهم إليه، فيغيظونه بما يقولون عني؛ لأنني بحمد الله أغيظهم ذلك الغيظ الذي لا يشفيهم منه البذاء والعواء؛ لأنهم أول من يعلم أنه افتراء.
هذا الصديق على البعد يسومني أن أدخل قفص الاتهام كلما سمع من القوم فرية ينسبونها إلينا، ولست أريد منه ولا من أمثاله المخلصين أن يؤمنوا بالعصمة على الغيب، ولكني أريد منه ومنهم ألا يؤمنوا بالفرية المسموعة بغير دليل، فلا يطلب مني أن أقف موقف الدفاع، قبل أن يطلب منهم البرهان على الدعوى. ولا يظن أنني فارغ الوقت لكل ما يقولون ويتقولون، ولا أنهم قوم يحفل لهم بشهادة حق أو باطل، وهم باعتراف أساتذتهم الأولين لا يدينون بالحق ولا بالباطل كلما ضاقت بهم حبائل الدعاية والتضليل.
شنشنة معهودة
ولست أبيح لنفسي أن أعرض لمفتريات هؤلاء الطغام، ألا أن يكون الكلام عاما في سبيل تقرير الحقيقة التي تهم القراء؛ لأنها من قبيل توضيح فكرة أو تصحيح رأي أو تمكين معرفة نافعة.
كان لهؤلاء القوم إمام قذر الروح والجسد يسمى كارل ماركس، وكانت تمر به الشهور دون أن يغتسل، ويمر به العمر كله دون أن يكف لحظة من لحظاته عن إلقاء قاذوراته على الناس، ومنهم من أحسنوا إليه.
وكان من مبادئه التي لا يخجل منها أن يوصي أتباعه باختلاق الأكاذيب في سبيل نشر الدعوة. ومن عباراته التي نترجمها بنصها أن الداعية في حل من تشويه سمعة كل ديمقراطي محبوب
To discredit every popular democrat .
وقد طبق ذلك في معاملته لأستاذه باكونين، الذي حقد عليه لشهرته وحسن الأحدوثة عنه بين دعاة الفوضوية والشيوعية، فافترى عليه أنه كان مأجورا للخفية الروسية، مع أن الرجل كان محكوما عليه بالموت من محاكم الدول الثلاث: روسيا والنمسا وبروسيا، ولما أعلنت هذه الأحكام قال إنها حيلة مدبرة لتيسير التجسس له على الثوار المهاجرين من تلك البلاد، واتهمه باختلاس أموال مخصصة للدعاية الثورية، فظهرت براءته أمام اللجنة التي انتخبت من أساطين الدعاية لبحث هذه التهمة، وزعم أن الأدلة على جاسوسية باكونين محفوظة في أوراق الكاتبة الفرنسية جورج صاند، فلما أعلنت هذه الكاتبة كذبه، عاد فاتهمها هي بأنها خليلة لباكونين تنكر الحقيقة وتتستر عليه.
ثم انجلت الحقائق جميعا من المحفوظات التي تكشفت بعد موت ماركس وباكونين، فعرف الماركسيون وغير الماركسيين أي قيمة للحق ولكرامة الأبرياء عند ذلك المخلوق القذر، الذي يدين له أتباعه من واغش الآدمية في هذا الزمان.
وإذا كان عصر باكونين وماركس بعيدا بعض البعد، فالعصر الحاضر - إلى أشهر قليلة - قريب يدل على قيمة التقديس والتنجيس معا عند هذا الواغش المحسوب على الآدمية، فماذا كانت صفات «بريا» في موسوعاتهم العلمية؟ وماذا أصبحت بعد أربع وعشرين ساعة من سقوطه إلى الهاوية؟ بل كيف كانوا يعبدون ستالين بالأمس وكيف أصبحوا يلعنونه اليوم؟!
إن أشد الناس مبالاة بلغط الثناء أو التشهير ليهون عليه أن يفقد ثناءهم ولا يشتريه بقبضة من تراب، ويهون عليه أن يتلقى سبابهم أو يحسبه من السباب، وهو أشرف لمن يتلقاه من أشرف الألقاب.
وعلى هذا الرأي في قيمة سبابهم وثنائهم، أذيع هنا خلاصة النشرة الداخلية رقم (57)، التي قال صديقنا المراسل، أو قيل له، إنها نشرة سرية توفرت عليها لجنتهم الثقافية، لتكشف الستار عن حقيقة العقاد المأجور وحقيقة الأخبار الصفراء ، وحقيقة ناصر الدين النشاشيبي الجاسوس، وحقيقة كل إنسان يعرفون هم حقيقته على أسلوب كارل ماركس في معرفة الحقائق عن المحقود عليهم من المتنازعين والمنافسين.
فالعقاد إذن مأجور.
حسن، إنه لخبر يصدقه السامع كما يصدق كل خبر بدليله، فما هو دليله؟ بل ما هو الدليل على أن العقاد رجل يقبل الأجور من مستأجري الضمائر والأقلام؟ وأين هذه الأجور يا ترى؟ وأين آثارها في حياة الرجل الذي يكتب منذ أربعين سنة ولا يزهد أحد في استئجار قلمه، إن كان من أقلام الأجراء؟
يا صديقي المخلص الأمين!
شكرا لك، إنك من المخلصين على البعد، وإنك تغار على سمعة هذا الكاتب من أقاويل المفترين، ولكني أدلك على طريق غير الطريق الذي تلجأ إليه كلما سمعت الفرية بعد الفرية ممن لا يستغرب منهم كل افتراء، فلا تطلب مني الدفاع أو البيان عن البراءة قبل أن تطلب الإثبات أو البيان عن الاتهام.
العقاد مأجور.
يجوز، ولكن هل يجوز ذلك بغير دليل؟
إذن هاتوا الدليل، فكل اتهام لا دليل عليه فإنما هو ضرب من القال والقيل، وأضعف ما يكون سندا أن يلغط به موتور هزيل أو موتورون مهازيل.
أما أن يذهب العقاد باختياره إلى قفص الاتهام كلما انفجر بالغيظ كاذب نمام، أو واغش من حثالة الهوام، فدون ذلك وينفق كارل ماركس وأتباعه، من يومه المشئوم في زمانه، إلى آخر الأيام.
قد يجهل المعاصرون أقرب التواريخ1
ومن بحره، جهل المعاصرين بأقرب التواريخ، في حياة رجل من أشهر المصريين والشرقيين في جميع العصور.
ومن أهم أولئك المعاصرون الجاهلون بأقرب التواريخ؟
إنهم أناس لا يكتبون سطرا إلا زعموا فيه أنهم يكشفون من بواطن التاريخ المصري ما يجهله الحاضر والماضي والرائح والغادي، ولا يطلع أحد غيرهم على بعض خباياه.
قرأت اليوم في صحيفة من صحف الكشوف التاريخية النادرة، أن سعد زغلول بنى بيت الأسرة في أبيانة سنة 1908 ليستقبل فيه الخديو عباس الثاني، يوم كان الوفد والقصر على وفاق.
وفي سنة 1908 لم يكن في مصر شيء يسمى الوفد.
وزيارة الخديو لبيوت الأعيان بالوجه البحري، إنما كانت في صيف سنة 1914 قبل رحلته إلى الآستانة!
وندرك المؤرخين الكشافين بهذا التصحيح؛ ليقفوا هنيهة ولا يسترسلوا خطوة أخرى من خطواتهم الخفية.
ولعلهم - لو لم ندركهم - قائلون في الخطوة التالية: إن سعدا خان أمانة الوفد والأمة باستقبال الأمير، وإنه جدد بيت الأسرة بكذا وكذا من أموال المتبرعين!
سعد زغلول وقناة السويس1
عدت من الإسكندرية فوجدت في بريدي رسائل كثيرة، يسألني أصحابها عن موقف سعد زغلول في مسألة قناة السويس؛ عن اقتراح الشركة مد أجل الامتياز بعد انتهائه، وبعض أصحاب هذه الرسائل يسألونني عن هذا الموقف، لعلمهم أنني قد ألفت كتابا ضخما في الترجمة لسعد، وأنني قد حضرت هذه المسألة يوم عرضها، وكنت ممن رفضوا ذلك الاقتراح.
ولا أحب أن أطيل الشرح والتفصيل، ولكنني أقول موجزا إن سعدا لو ذهبت جميع أعماله وبقي منها عمله في هذه المسألة، لكان وحده كفيلا له بالمجد الذي تعنو له الرءوس.
لقد عرضت الشركة اقتراحها بموافقة المعتمد البريطاني والمستشار المالي الإنجليزي، فقبله أكثر الوزراء وعارضه سعد ورشدي ومحمد سعيد، وعلم سعد أن المسألة ستنتهي بالموافقة على اقتراح الشركة إذا فصل فيها مجلس الوزراء، فاتفق مع أصدقائه من أعضاء الجمعية العمومية على المطالبة بعرض المشروع عليها، واعتبار رأيها فيه قاطعا لأول مرة في أمثال هذا المشروع الذي لا يخولها القانون النظامي رأيا قاطعا فيه.
ولما صرح سعد بهذا الرأي في مجلس الوزراء، اشترط رئيسه بطرس غالي أن يتولى سعد عرضه على الجمعية ليشرح وجهة النظر فيه، وكان يظن أن سعدا يرفض هذا الشرط محافظة على سمعته، فلم يبال سعد بالسمعة في سبيل المصلحة القومية، وقبل ما اشترطه رئيس الوزراء.
إن هذه المعلومات مما يعرفه أنصار سعد وخصومه، ولهذا لا نكتفي فيها بما نعرفه ونحيل القراء من بين الأسانيد الكثيرة على شرح المسألة كلها في مذكرات أحمد شفيق باشا، الذي طالما غمز سعدا وصرح بلومه في المذكرات والحوليات.
جاء في الصفحة ال (186) من المجلد الثالث من المذكرات «وكان المستشار المالي يميل إلى الأخذ بهذه الفكرة، وكذلك السير جورست وبطرس باشا، إلا أن الرأي العام كان ضدها، وكذلك بعض النظار كسعد باشا ورشدي باشا ومحمد سعيد باشا.»
ثم قال شفيق باشا: «ووردت لنا برقيات من محمود سليمان باشا وعلي شعراوي باشا وأحمد يحيى باشا، يطلبون فيها طرح المشروع على الجمعية العمومية.»
ولا يخفى على أحد أن هؤلاء الأعيان هم حزب سعد في الجمعية العمومية أو الجمعية التشريعية، أو الوفد المصري عند تأليفه عقب الحرب العالمية الأولى.
ثم عاد شفيق باشا في الصفحة ال (204) فقال: «وتقرر عرضها على الجمعية العمومية لأخذ الرأي فيها، على شرط أن يتولى سعد زغلول باشا الدفاع عن وجهة نظر الحكومة.»
ولا يخفي أيضا معنى هذا الشرط.
فمعناه الواضح أن سعدا هو الذي يريد عرض المشروع على الجمعية، وأنهم يشترطون عليه الشروط لقبول اقتراحه، ولو كان موافقا للمشروع لما كان ثمة معنى للاشتراط عليه.
إن أناسا كثيرين لا يبالون بالمصلحة في سبيل السمعة، أما أن يتعالى الرجل عن السمعة نفسها غيرة على مصلحة قومه، فتلك منزلة من الرفعة لا يسمو إليها إلا من هو أهلها، وأهلها في هذه الدنيا قليلون، بل جد قليلين.
يقظة أفريقيا1
خبر اليوم، بل خبر الجيل، بل خبر المستقبل، أن القارة الأفريقية تتحفز لتكوين «كتلة» من شعوبها، وأن ميلاد هذه الكتلة يوشك أن يعلن في مدينة الخرطوم.
أي مارد يتيقظ بعد مصابه الطويل بمرض النوم!
إن القارات جميعا قد أثبتت لها وجودا قويا في تاريخ بني الإنسان، إلا القارة الأفريقية في جملتها، فإنها لم تتحرك قط حركة عالمية عامة أو إنسانية شاملة، ومن تحرك من شعوبها قبل اليوم فإنما تحرك بمعزل عنها.
آسيا ثم أوربة ثم أمريكا ...
وأين أفريقيا؟
في سبات عميق!
واليوم يتيقظ هذا المارد النائم، وبعد زمن يعلمه الله يعمل عمله ويقوم بدوره في تاريخ الإنسانية، ولا يدري أحد في أيامنا هذه ماذا يكون هذا الدور بعد جيل واحد، ولكنه طال به الزمن أو قصر لا بد أن يبدأ بخطوة لا سبيل إلى اجتنابها، وهي تحقيق المصير البديهي الذي يتلخص في كلمتين: أفريقيا للأفريقيين!
ومن المضحك أن يوجد في هذا الزمن «شعيب» ضئيل في جنوب القارة، يتوهم أنه قادر على كبح هذا التيار، ويجعل سياسته كلها في المستقبل «أن يكون ضدا أبديا» لسياسة الواقع الذي لا محيص منه، وهو أن أفريقيا خلقت للأفريقيين، أيا كان مدلول هذه الكلمة يوم يتحقق ذلك المصير.
ففي هذه الأيام تصدر القوانين في أفريقيا الجنوبية بعزل البيض من غير البيض، ويظن أصحاب هذه القوانين أنهم يحصنون أنفسهم من هذا «السواد الأعظم» بهذه الخطوط على الورق، أو بهذه «الإجراءات» في دواوين الإدارة.
ولعلهم لو أرادوا لفتحوا أعينهم منذ اليوم، وعلموا أن الحصن الوحيد الذي سوف يلوذون به في المستقبل، أن يزول الحاجز بينهم وبين ذلك السواد، وأن تشملهم كلمة الأفريقيين قبل أن تشملهم العصبة التي يسمونها بعصبة «اللون الأبيض».
وويل لهم يومئذ لو بقيت من أوراق القوانين التي ينمقونها اليوم ورقة واحدة تحجزهم عمن حولهم من الملونين.
إن هذه الورقة لن يكون لها معنى في ذلك اليوم المنظور المحتوم، إلا أنها حكم الفناء.
عصا توت عنخ آمون1
هواية؟ أو جريمة سرقة؟
جوابا على أسئلة السائلين عن عصا «توت عنخ آمون» المفقودة، أقول إنني لا أعلم أي العصي هي بين العصي الكثيرة التي وجدت في المقبرة، والأرجح أنها هي صولجان النصر، الذي نقشت عليه صور الأعداء المنهزمين في الشمال والجنوب.
وقيمة العصا التاريخية لا تقدر بمال، وقيمتها الفنية عظيمة في كل عصر؛ لأنها من صنع المدرسة الفنية التي حررها أخناتون من قيود الكهانة وتقاليد الصناعة الهيكلية، وموروثات الشعائر والتقاسيم التي تقاس بالذراع والقيراط.
أما «التكييف» القانوني أو الجزاء القانوني لمن تضبط معه العصا في الخارج، فهو أن الحادث «جريمة سرقة» سافرة معاقب عليها، ولكن العقوبة تتوقف عند إدانة المسئول وتعيين السلطة التي تملك عقابه، ولا ننسى أن المصاب بالسرقة بلد شرقي، وأن المسئول عن «حيازة العصا» رعية أوربية أو أمريكية، وفي هذه الحالة لا تعدم من يفتي بأن المسألة كلها مسألة البحث عن الآثار بغير رخصة، وأنها في سبيل العلم هواية مستحبة أو واجب مطلوب.
الأقمار الصناعية كلام قديم1
يظهر أنني سأتولى لأخبار اليوم مهمة البوليس الفلكي، أو بوليس الأخبار الفلكية التي يذيعها البرق بعد أوانها بعشرين سنة في بعض الأحيان، وبعشرين قرنا في أحيان أخرى!
فمنذ أسابيع أنبأنا البرق من العالم الجديد بخبر اليوم، أو بخبر الساعة، كما قيل في ذلك الحين، وزعم لنا أن المصادر الرسمية تذيع لأول مرة أنها تشتغل باختراع الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض كما يدور القمر، وأن كثيرا من الأطباق الطائرة إنما هي تجارب أولية لهذا الاختراع.
وعجبنا لزعم البرق أن الخبر يذاع لأول مرة من المصادر الرسمية، فإن الكتب المطبوعة منذ سنوات تقرر فيها هذه الأخبار، منسوبة إلى مصادرها الرسمية التي أعلنتها قبل سبع سنوات.
أما حديث الأقمار الصناعية في غير المصادر الرسمية، أو الحكومية، فأقدم من ذلك بأعوام طوال. •••
وفي الأسبوع الماضي نقلت أخبار البرق أعجوبة جديدة في زعم وكلاء الأنباء، ونشرتها الصحف اليومية عندنا على هذا الاعتبار، وزبدتها أن العلماء يعللون اللون البرتقالي والألوان المخضرة الداكنة على المريخ بأنها ألوان البقاع الواسعة على ذلك الكوكب، وهي تتبدل حسب اختلاف المواسم الزراعية.
وننقل ذلك الخبر كما جاء في صحيفة غير أخبار اليوم يقول وكلاؤها:
إن الجمعية الجغرافية الأمريكية أعلنت أن أحد علمائها اكتشف على سطح كوكب المريخ الأحمر اللون منطقة كبيرة، لونها أزرق ضارب إلى الخضرة، تقدر مساحتها بمائتي ألف ميل مربع؛ أي ما يعادل مساحة ولاية تكساس، والمعتقد أن هذه المنطقة تغطيها مادة خضرية حية، وقالت الجمعية في بيانها إن هذا الكشف يعد أعظم تطور في معرفة الإنسان لجغرافية المريخ، منذ أن صنعت خريطة كاملة لهذا الكوكب.
ثم مضى راوي الخبر يقول:
وقالت الجمعية الجغرافية في بيانها إن البيولوجيين يميلون إلى الاعتقاد بأن هذه الحياة أقرب ما تكون إلى المادة الموجودة في أنواع الفطر المعروفة باسم الجزاز الصخري، التي تنمو على الصخور في المناطق الجدباء من سطح الأرض وعلى قمم الجبال، ويقول الدكتور سلايفر إن مثل هذه النباتات يمكن إنماؤها في المعامل تحت ظروف طبيعية وكيمائية معينة، والمعروف أن هذه الظروف متوفرة في المريخ.
قال:
وإذا كان في جو المريخ شيء من الأكسجين الطليق، فإنه يكون بنسبة ضئيلة جدا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى بخار الماء. •••
هذه هي الأخبار والبرقية المثيرة.
وكلها - حرفا حرفا - مقررة في كتب الفلك التي طبعت قبل سنوات، ومقررة كذلك في البحوث التي يسجلها أساتذة الجامعات، وأنت لا تفتح كتابا واحدا من كتب الفلك المبسطة، أو الكتب المطولة التي ألفت لغير المختصين، إلا وجدت فيها هذه التقريرات جميعا بمختلف العبارات والأساليب.
ففي الصفحة ال (100) من كتاب العوالم حولنا
Worlds Around us
يقول المؤلف باتريك مور:
إنك تستطيع بمجهر صغير أن ترى العلامات على المريخ، فإن اللون الغالب برتقالي أحمر، وهو اللون الذي من أجله سمي الكوكب بإله الحرب لهذه الصبغة الدموية، ولكن هنالك علامات داكنة أيضا نلاحظها بضع دقائق، فنرى أنها تزحف وسط القرص من اليمين إلى الشمال.
ويستطرد المؤلف فيقول:
والأرجح أن الجوانب البرتقالية على الكوكب صحراوات من غير الرمل؛ لأن الرمل يتكون من فعل الماء الجاري على التربة والصخور، وليس في المريخ من الماء الجاري غير القليل، وربما كانت تلك الصحراوات مغطاة بالتراب، وأما جو المريخ فالنبات يتنفسه إذا أمكننا أن نثبت أنه يشتمل على الأكسجين الخالص، وكذلك يتنفسه الإنسان، لولا أن الظاهر لسوء الحظ أن الجو مركب من الغاز الذي لا ضرر فيه ولا يصلح للتنفس وهو النيتروجين، ونحن نعلم مع هذا أنه لا بد أن يكون في المريخ قليل من الأكسجين وقليل من بخار الماء، ولا تستطيع الأشجار والآجام أن تعيش بمثل هذا المقدار، ولكن نبات الصبير
Cacti
يستطيع أن يعيش عليه.
ويقول عن النبات عامة:
لا يدهشنا وجود النبات على المريخ؛ حيث تلائمه حالة الجو، وإنما المدهش حقا ألا يوجد فيه نبات!
هذا كتاب من المبسطات الفلكية.
وكتاب آخر من المبسطات، كما يدل عليه اسمه، يقرر هذه المشاهدات بعبارة أخرى.
يقول كتاب الفلك لكل إنسان
Astronomy for Everyman
في الصفحة ال (124):
يتألف المريخ من قيعة ثلجية قطبية، تتراجع في الصيف وتنتشر في الشتاء، ومن نطاق محمر يحيط بالكوكب في مداراته الشمالية، ولعله يقابل النطاق الصحراوي من الصحراء الكبرى إلى جوبي، ومن مساحة خضرة إلى اسمرار ثابتة في جملتها، ولكنها تتغير في المواسم: منظرا ولونا وتخطيطا، وتشير إلى وجود النبات.
ثم يقول إن الماء فيه، إن وجد، فهو قليل.
وكتاب السماء وأسرارها
The sky and its Mysteries
أعمق من ذلك قليلا في معلوماته، ومؤلفه أجار بيت سكرتير الجماعة الفلكية البريطانية يقول في الصفحة ال (218):
وعلى المريخ نرى شيئا يجوز أن يكون نباتا، ولا مسوغ للجزم بامتناع وجود الأحياء الشاعرة عليه، وإن لم يكن ثمة دليل على وجودها ولا قرينة تعرفنا بأشكالها.
وأكثر من هذه الكتب توسعا كتاب العوالم جاراتنا
Our Neighbour worlds
لمؤلفه الأستاذ فيرسوف، وهو يخصص للمريخ أكثر من ثلاثين صفحة كبيرة، ويلخص معلوماته بأن وجود الأكسجين محتمل ولكنه غير مؤكد، وأن اللون الأصفر قد تفسره زوابع بركانية، وأنه لم يوجد دليل قط على وفرة الماء في المريخ، وأن الحياة إذا كانت قد ظهرت حينا على سطحه، فهي الآن مولية إلى الفناء.
ويشبه هذا الكتاب كتاب الحياة والكون لمؤلفه إيرل نلسون، وهو يقول في الصفحة الثانية والثلاثين وما بعدها: «إن المريخ يبدو محمرا، ويظن أن احمراره ناشئ من امتصاص الصخور لمعظم الأكسجين من جوه، والحياة كما نعرفها لا يمكن أن توجد في أحوال كأحوال المريخ، ولكن الحياة متطورة وفقت بينها وبين ظروف متباينة، فيجوز أن تكون حيواناته قد وفقت بينها وبين أحواله زمنا طويلا، ويجوز على هذا أن تكون موجودة في جوه الضئيل.»
أما أوفر الكتب التي نعرفها تعمقا - بالنسبة لغير المختصين - فهو كتاب السيارات وأصولها لمؤلفه هارولد أوري
Urey ، وهو يلخص الآراء ويثبت منها بالحرف الواحد اسم نبات الفطر المعروف بالجزاز الصخري
Lichens
كما جاء في أخبار البرق المستعجل من العالم الجديد.
قال بعد كلام مطول، نقلا عن العالم كويبر
Kuiper
قبل سنوات: «إنه وجد انعكاسا ضوئيا من السيارة يماثل لون الصخر المؤكسد، مغطى على جزء منه بالجزاز الصخري، وهو يعيش على الأرض فوق القمم العالية والجبال الباردة، وتناسب الأحوال التي يفرض وجودها في المريخ.»
وكتاب السيارات هذا قد صدر سنة 1952، ويحيل على كتب صدرت قبله بعدة سنوات.
ولولا أننا نريد أن نرجع إلى المصادر، لاكتفينا هنا بما ذكرناه نحن في كتاب ألفناه قبل ثلاث سنوات، وقلنا فيه من الصفحة الحادية والأربعين:
ومن أشهر القائلين بإمكان وجود الحياة على المريخ، العالم الفلكي سبنسر جونس، صاحب كتاب الحياة على العوالم الأخرى، وهو على ترجيحه وجود النبات في المريخ يقول: «إن لون سطح المريخ يزودنا بدليل قاطع على وجود الأكسجين الطلق في الماضي على الأقل، ويكاد وجود الأكسجين الطلق يستلزم وجود النبات، فإذا قرنا هذا الاستدلال بالأدلة التي تجتمع لدينا من التغييرات التي تطرأ على سطحه، حسب اختلاف الزرع موسما بعده موسم؛ أمكننا أن نفهم من ذلك أن وجود نوع من النبات في المريخ محقق أو يكاد، وليس في وسعنا أن نقول إن الحياة الحيوانية - وبخاصة أنواعها العليا - يمكن أن توجد في المريخ؛ لأن قلة الأكسجين فيه تجعل وجودها هنا بعيد الاحتمال، وإن كان رفض هذا الاحتمال رفضا قاطعا غير مستطاع لنزارة ما نعلمه عن حقيقة الحياة، غير أن مسألة وجود هذه الأشكال العليا في الوقت الحاضر على سطح المريخ، قليلة الخطر بالقياس إلى المسألة الأخرى التي تكاد تتحقق بالدليل القوي، وهي وجود حياة كائنة ما كانت هناك.
ثم قلنا:
إن جزمه بوجود النبات في المريخ يخالف تقديرات الكثيرين من نظرائه في المكانة العلمية؛ فإن العالم أرهنيوس
Arrhenius
يقول إن التغييرات التي استدل بها سبنسر جونس على مواسم النبات يمكن أن تفسر بتغير ألوان الأملاح الماصة في الأجواء الممطرة. والعالم المشهور سير جيمس جينس لا يرفض هذا التفسير، ويضيف إليه تفسير ليوت
Lyot
تغييرات تلك الألوان بانعكاسها من رماد البراكين، ويقول: إننا ولا ريب نشط كثيرا حين نقرر أن تغييرات اللون على سطح المريخ دليل قاطع على وجود الأكسجين الطلق ولو في الماضي، وإن الأكسجين الطلق يستلزم وجود النبات، وأبسط من هذا على التحقيق أن يقال عن الأكسجين الطلق الذي جاء من الشمس قد استوعبته الصخور كله، ولا موجب هنا لفرض وجود النبات.
كتبنا هذا قبل ثلاث سنوات في كتابنا «عقائد المفكرين»، وكان أحلاس القهوات ورقعاء البارات يعيبون يومئذ كتابنا في هذه المسائل؛ لأنها من مسائل القرون الوسطى التي فات عليها الأوان، ثم يأتي لهم البرق في أخباره المستعجلة بما كتبناه قبل ثلاث سنوات عن أخص حقائق الحياة، وطبل وزمر «يا جدع أنت وهو» بأدب الحياة وقصص الحياة وأسرار الحياة وأخبار الحياة.
وما هي أخبار الحياة عند هؤلاء؟
لا يكون الخبر عندهم خبر حياة، إلا إذا كان خبرا عن امرأة هلوك أخذها ماجن رقيع وذهب بها إلى حيث يتمم القصة كتاب الإيضاح وما إليه؟ •••
والنتيجة، بل النتائج المتعددة، لهذه البرقيات المستعجلة: (1)
أن بعض العلماء في هذا العصر يجني عليهم ضيق التخصص، فيعكفون على بحوثهم ولا يطلعون على بحوث زملائهم الذين سبقوهم إلى مثلها في أمثال أرصادهم، ولعلهم يكررون بها كل ما سبقوا إليه.
وهؤلاء المتخصصون «المغلقون» معروفون في البيئات العلمية الأمريكية من أجيال مضت، وإليهم يشير فولتير أمريكا - وندل هولمز - في أحاديث المائدة، التي ذكر فيها رجلا ثائرا على معركة الانتخاب، فحسبه من أنصار بعض المرشحين لرئاسة الجمهورية، ثم سأله فتبين له أن هذه الثورة إنما تدور على الترشيح لرئاسة فرع من فروع البحث في علوم الحشرات!
ونظن أن هذا التخصص المغلق هو الذي أطرفنا بخبر من أخبار البرق عن أمور منشورة في الكتب منذ سنوات. (2)
وأن بعض وكلاء الأخبار يخطفون أطراف الكلام قبل أن يتبينوه، ولعلهم لو تبينوه لما عرفوه، ولا يستغربن أحد في مصر ذلك؛ فقد رأينا أناسا من هؤلاء «الفطاحل»، فإذا هم أشباه أميين يراسلون الصحف العالمية، ونحسبهم نحن - مخدوعين فيهم - من حملة الأقلام العالمية! (3)
ولا بد أن نذكر في هذا السياق أن أخبار المريخ تتطاير بها البلاغات البرقية؛ لأنها ترتبط بمسألة الخلود ولا ينحصر أمرها في مسألة الحياة؛ إذ يسأل بعض المؤمنين: كيف يا ترى يكون خلاص الأرواح المريخية، كما أن خلاص الأرواح الأرضية في عقائد المؤمنين بخطايا الجنس البشري وحاجته إلى الفداء؟ (4)
وخاتمة المطاف اليوم أن اللغط الذي يهذر به أحلاس القهوات عندنا خليق بالإهمال الذي يلقاه من قراء العربية في كل آونة؛ لأنه سخف ينم على جهل مطبق، أو على افتراء أناس مأجورين يندفعون بأمر الموعزين إليهم من حيث لا يفقهون، فما من مخلوق يعقل ما يقول يزعم أن الأدب العصري، أو أدب الحياة العصرية، صفة تخلع على حكايات السرير ولا تخلع على دراسات تبحث عن الحياة في كل زاوية من زوايا الكون، ولا يتراخى عليها القدم كما يهذرون، بل يحسبها وكلاء الأنباء أحيانا من عواجل البرقيات.
حضارة الجنس الأسود1
أعرف أن العلماء المتخصصين لعلم الأجناس البشرية يقولون بتشابه البيض والصفر والسمر والسود في أصل الخلقة، ويؤكدون أن الاختلافات التي بينهم عارضة غير متأصلة في تكوينها، ومنهم من يرفض القول بتفوق بعضها في خدمة الإنسانية، ولا يصعب عليهم أن يستدلوا على اشتراكها في هذه الخدمة بالأمثلة من تاريخ الصين والهند والفارسيين والعرب والأوربيين والأمريكيين.
وأنا شاب سوداني فخور بجنسي، لا أقبل عوضا منه لونا من الألوان، ولكني أحب أن أفخر بسبب ولا يكفيني مجرد النخوة القومية، فهل لكم أن تدلوني على سبب؟ وهل تعرفون تاريخا صحيحا يدل على اشتراك الجنس الأسود في خدمة الحضارة الإنسانية؟
سوداني
نعم، وإنه لسبب صحيح وسبب وجيه، وسبب يضارع غيره من أسباب المفاخر والذكريات.
إن الجنس الأسود قد عرف الزراعة قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، يوم كان الكثيرون من أبناء الأجناس الأخرى يجهلونها وهم يعيشون في أخصب البقاع، ويعولون في معيشتهم على الصيد ورعي الماشية.
والثابت اليوم من تاريخ الجنس الأسود في صميم القارة الأفريقية، أنه زرع الأرض واعتمد على غلاتها وثمراتها قبل أن يعرف الماشية، وأنه قد ظل بعد انتقالها إلى مواطنه في الجانب الغربي الجنوبي من أفريقيا يعتمد على خبرته بالزراعة ولا يأكل من ألبان الماشية، وإن أكل من لحومها.
وقد وجدت في تلك المواطن أصناف من النبات لم توجد في غيرها ، فتعلم الناس زرعها من السود الأفريقيين بعد انتشارهم على بلاد السواحل الغربية والشرقية.
وهذه الخبرة بالزراعة هي التي جعلت للسود تلك المكانة الملحوظة في البرازيل، فلم يحدث فيها ما حدث في الأقطار المجاورة من التعصب والنفور بين الأوربيين المهاجرين وقبائل الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية، فقد كان السود أساتذة للمهاجرين إلى البرازيل في فنون الزراعة باعتراف المؤرخين البرتغاليين، وكان لهذا الفضل حقه الملحوظ في شعور البرازيليين البيض والسود بالمساواة والتقارب في المنزلة الاجتماعية.
فإذا بحث الأخ السوداني عن السبب في مقام المفاخر الإنسانية، فهذا السبب قريب غير بعيد، وقد تضاف إليه أسباب وأسباب كلما تقدمت مباحث العلماء في تلك الجوانب المجهولة من القارة الأولى، فربما كان أول هذه الأسباب أن النوع البشري قد تعلم «الإنسانية» لأول مرة هناك.
سخافة الألقاب1
كنت أحسب اللورد «اللنبي» مثلا في السخافة؛ لأنه كان يكتب في تقاريره التي نشرت بعد عزله أنه طلب شنق هؤلاء «الجنتلمن» جمع جنتلمان، ولكن حكومته خيبت رجاءه، وموضع السخافة أن يحرص على سمعه العرف الكاذب في الصالون والنادي ولا يحرص على سمعه الإنصاف والمروءة، فإن شنق إنسان يقال عنه إنه جنتلمان، وهو أكمل أوصاف الإنسانية والتهذيب فضيحة من فضائح الأخلاق وسيئة من سيئات الظلم لا تغتفر ولا تحسن بمخلوق عاقل.
إلا أن هذه السخافة لم تكن حكرا للرجل وأمثاله من طبقة النبلاء، فقد أطلعني بعض الزملاء اليوم على خبر في الصحف، يروي للقراء تنفيذ حكم الإعدام في «سيدتين» قاتلتين، أدانهما القضاء في جريمة من أشنع جرائم الفتك والغيلة الوحشية.
وكل هذا ولا تزالان سيدتين، على حكم العرف المهذب الذي لا يليق بالجنتلمان أن ينساه .
أليس من الإهانة لكل سيدة شريفة أن تلقب بألقاب المجرمات المبتذلات؟
أليس من المسخ للجنتلمانية أن تسقط بالاحترام والتحية إلى هذا الحضيض؟
إنجيل برنابا1
... قرأت إنجيل برنابا ترجمة الدكتور الفاضل خليل سعادة عن الإنجليزية، ولفت نظري أن الدكتور المحترم يشك في نسبة هذا الإنجيل إلى القديس برنابا، بينما يحاول السيد رشيد رضا إثبات نسبة هذا الإنجيل إلى القديس، فما رأي سيادتكم في ذلك؟ وإذا كان هذا الإنجيل لم يكتبه برنابا، فمن الذي كتبه؟
أ. ع.
ديروط قبلي
القديس برنابا هو أحد الحواريين الاثنين والسبعين، الذين أرسلهم السيد المسيح للوعظ والتبشير في أرض الجليل، وهو الذي قدم بولس الرسول إلى جماعة المسيحيين الأولين في بيت المقدس وزكاه عندهم؛ لأنهم كانوا يرتابون فيه، وهو خال مرقس الإنجيلي ومرشد البعثة الرسولية إلى بلاد اليونان؛ حيث ارتفع في أعينهم، وظنوا أنه الإله جوبيتير قد عاد إلى الأرض في ثوب الآدمية، «فرفعوا صوتهم قائلين إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا، فكانوا يدعون برنابا زفس؛ أي جوبيتير، وبولس هرس؛ أي عطارد؛ إذ كان هو المتقدم في الكلام.» كما جاء في كتاب الأعمال.
وقد كتب برنابا إنجيلا لا شك فيه، ويقول السيد رشيد رضا في مقدمته: «إننا لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها، فقد جاء في ضمنها إنجيل برنابا. وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد؛ أي قبل بعثة نبينا
صلى الله عليه وسلم ، على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم في ذلك المنشور، كما ذكر الدكتور سعادة في مقدمته، والمثبت مقدم على النافي.»
والحقيقة أن هذا الإنجيل لم يكن مجهولا قبل القرن الخامس كما وهم بعض العلماء الأوربيين وتابعهم في ذلك الدكتور خليل سعادة؛ لأن الإشارة إليه وردت في كتابات أوريجين، وكلمنت، ويوسبيوس، وأبرنيموس، ولاردنر، ومنهم من اقتبس منه وروى عنه، فهو ولا ريب قد كان معروفا في القرن الثاني للميلاد.
لكن هل الإنجيل الذي كتبه برنابا واطلع عليه أولئك الأقطاب من آباء المسيحية في القرنين الثاني والثالث، هو بنصه هذا الإنجيل الذي ترجم إلى اللغة الإنجليزية ونقل إلى العربية؟
حقيقة واحدة يمكن الجزم بها، وهي أن إنجيل برنابا لم يكن موافقا كل الموافقة للأناجيل الأخرى في جوهره وأصوله؛ لأنه لم يعتمد مع تلك الأناجيل عند إقرارها.
أما فيما عدا هذه الحقيقة، فالواضح لدينا أن الإنجيل المترجم إلى اللغة الإنجليزية قد أضيفت إليه زيادات غير قليلة، وقد لوحظ في كثير من عباراته أنها كتبت بصيغة لم تكن معروفة قبل شيوع اللغة العربية في الأندلس وما جاورها، وأن وصف الجحيم فيه يستند إلى معلومات متأخرة لم تكن شائعة بين اليهود والمسيحيين في عصر الميلاد، ولسنا نعني بذلك ما قيل من أن وصف الجحيم في إنجيل برنابا منقول من قصة دانتي الشاعر الإيطالي عن الكوميديا الإلهية؛ فإن الوصفين لا يتفقان عند المقابلة بينهما، وإن الشاعر دانتي نفسه قد نقل صورة الجحيم في قصته عن مصادر معروفة له ولغيره، ومنها ما يرجع إلى أشعار هوميروس وقصائد شعراء الرومان وأساطير التلمود.
فليست المشابهة بين وصف برنابا ووصف دانتي هي علة الشك في بعض عبارات الإنجيل المختلف عليه، وإنما نشك في كتابة برنابا لتلك العبارات لأنها من المعلومات التي تسربت إلى القارة الأوربية نقلا عن المصادر العربية، وليس من المألوف أن يكون السيد المسيح قد أعلن البشارة أمام الألوف باسم «محمد رسول الله»، ولا يسجل هذا الإعلان في غير صفحات هذا الإنجيل.
كذلك تتكرر في الإنجيل بعض أخطاء لا يجهلها اليهودي المطلع على كتب قومه، ولا يرددها المسيحي المؤمن بالأناجيل المعتمدة في الكنيسة الغربية، ولا يتورط فيها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من المناقضة بينه وبين نصوص القرآن.
ولهذا يخطر لنا أن الزيادات قد أضيفت بقلم كاتب لم يقصد ترويج هذا الإنجيل بين اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، ولكنها زيدت لإلقاء الشبهة عليه ووقف سريانه بين طائفة من الطوائف، حذرا من ظهور نسخة أخرى تقل أسباب الشك فيها فيسهل قبولها والاستناد إليها.
ولا نقول إن هذا الظن هو الظن الوحيد الذي يخطر على البال؛ فإن الزيادة قد تكون بقلم يهودي أو مسيحي أسلم، فأحب أن يعدل الكتاب بما يوافق معتقده، ولم يشمله كله بالتعديل لصعوبة تعديل كتاب كامل على نسق واحد، فبقيت فيه مواضع التناقض والاختلاف.
وخلاصة الرأي بعد ملاحظة جميع الاحتمالات أن إنجيل برنابا كان إنجيلا موجودا في القرن الثاني للميلاد، وأنه لم يكن موافقا كل الموافقة لسائر الأناجيل، ولا كانت هذه الموافقة منتظرة بعد الخلاف الذي حدث بين القديس وبولس الرسول وأدى إلى استقلال كل منهما بالتبشير، ولكن إنجيل برنابا الذي قرأه أوريجين وكلمنت ويوسبيوس وسائر الآباء المسيحيين في القرنين الثاني والثالث، لم يشتمل على كل ما جاء في نسخة الإنجيل المترجمة إلى الإنجليزية والعربية.
المساواة في الدين وفي الفلسفة المادية1
المساواة خير ومصلحة إذا أريد بها أنها تعطي كل ذي حق حقه، وإنها تحول بين كل إنسان وبين العدوان على حق غيره، وتسوي بين جميع الناس في حدود المعاملة.
ولكنها شر ومضرة إذا أريد بها أن تمنع المزايا والكفايات، وتجعل الناس جميعا كأنهم فرد متكرر، لا فرق بينهم في الصفات، ولا اختلاف بينهم في الأعمال والأخلاق، ولا تمييز بينهم في التبعة والغاية.
وهذه المساواة على كونها شرا ومضرة، هي استحالة تامة من جهة، وحالة لا يتمناها العقلاء الراشدون لو جاز تحصيلها من جهة أخرى.
فهي استحالة تامة؛ لأن عوامل الاختلاف بين الموجودات جميعا، ولا سيما الموجودات المركبة، أعمق جدا من أن يحيط بها سبب واحد أو جملة محدودة، ولا سيما تلك الأسباب التي يسمونها في مذهب الماديين بالأسباب الاقتصادية.
وحسبنا مثل واحد من كواكب الفضاء ونجومه وأجرامه المختلفة، فليست هناك أسباب اقتصادية كالأسباب التي تعمل في المجتمعات الإنسانية، ولكننا لا نرى بين ملايين الملايين من الكواكب نجمين اثنين، يتساويان في الحجم والضوء والسرعة والموقع والتركيب وسعة المدار.
فإن لم يكن هذا المثل كافيا، فلننظر إلى مثل آخر من عالم النبات الذي يحسب من الكائنات العضوية.
فخذ من الغابة الواحدة شجرة واحدة، وخذ من الشجرة الواحدة غصنا واحدا، ومن الغصن الواحد فرعا واحدا، ومن الفرع الواحد ورقة واحدة؛ فإنك لن ترى لهذه الورقة شبيها قط في طولها وعرضها، وشكل استدارتها أو استطالتها، وخطوط نقوشها وحوافيها، ولن ترى ورقتين تتشابهان في الصبغة أو توزيع اللون بين أجزائها.
فإذا كانت أسباب التنوع بين الكائنات بهذا العمق الذي لا يسبر غوره، وبهذه الأصالة التي لا يحصرها سبب واحد، ولا جملة من الأسباب المحدودة؛ فمن المسخ المشوه لتكوين الأحياء الإنسانية على الخصوص أن نقصرها على شبه واحد، وهي - على تركيبها المتشعب - أحق بالاختلاف من أجرام الكواكب وأوراق الأشجار.
ولهذا تعتبر المساواة استحالة بعيدة كما تعتبر مصابا حيويا غير مرغوب فيه إن تأتي، وما هو بالمتأتي على وجه من الوجوه.
وكل ما هو مستطاع ومرغوب فيه، فإنما هو منع الاختلاف الظالم بين الناس، وإطلاق عوامل الحياة الحرة، التي تؤدي إلى تنويع مزايا الحياة وتوفير نصيبها من الكفايات والصفات، وتوسيع مداها من الحقوق والواجبات.
وهذا ما صنعه الإسلام، ولم يصنعه ولن يصنعه مذهب هدام. •••
يسوي الإسلام بين الناس جميعا؛ فلا تمييز بينهم في حقوق الإنصاف وحقوق المعاملة، ولا فضل لأحد على الآخرين بغير أعماله وأخلاقه التي تجمعها كلمة التقوى، وهي كلمة تجمع فيها كل ما ينطوي في أداء الواجب ورعاية الحدود واجتناب المحظورات.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
وهذا هو الإنصاف، أصدق الإنصاف وأنفع الإنصاف.
وأما ما عدا ذلك فالمساواة فيه ظلم وبخس للحقوق.
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة .
لا يستوي الخبيث والطيب .
وينشأ عن هذا التفاوت في الصفات ما لا بد أن ينشأ عنه من التفاوت في الأرزاق، ولكنه لا يبيح لصاحب المال أن يحسبه حكرا له، ولا يأذن لطائفة من الناس أن تحصر الأموال بين يديها.
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء .
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .
هذه المساواة، هي الحق الواجب، وهي الرضا للناس آحادا وجماعات، فما من مصلحة الإنسانية جمعاء أن يتساوى فيها العلم والجهل، والسعي والكسل، والطيبة والخبث، والفطنة والغباء، وما من أحد يرضى عن هذا التساوي ويطلبه ويجعله أساسا للمعاملة في المجتمعات الإنسانية، إلا أن يكون من أراذل الخلق، الذين وطنوا أنفسهم على الإخلاد إلى الضعة، واستراحوا إلى نصيبهم من الجهل والعجز، وأضمروا الحسد والضغينة على من يسمو بهمته إلى نصيب فوق هذا النصيب. •••
والمسألة هنا ليست بمسألة الأصلح الأنفع فحسب، ولكنها مع هذا مسألة الممكن الذي لا يتأتى غيره على طول الزمن، وما تأتي قط، ولو في زمن قصير.
فالمساواة التي يدعيها أصحاب التفسير الاقتصادي للتاريخ، لا تتم في مجتمع من المجتمعات الإنسانية ولو قبض على زمامه أصحاب هذا التفسير عشرات السنين، بل هم كلما تقدموا في مجتمعهم سنة، بعدوا به عن مساواتهم الموهومة، واضطروا - على الرغم منهم - إلى التسليم بالعوامل الحيوية والعوامل الكونية، التي لا تسمح لحظة واحدة بإلغاء الفوارق والمزايا بين الأحياء.
فلم يمض جيل واحد على مجتمع من المجتمعات التي يفرضون عليها مبادئهم المادية، إلا ظهرت فيه طبقات من الرؤساء والخبراء والمديرين والمدبرين، يتفاوتون قبل كل شيء في أحوال المعيشة الاقتصادية؛ من مسكن وملبس وطعام ورياضة ونفوذ وحظوظ من المال والمتاع.
وكل ما يستفاد من تلك المساواة الموهومة، أنها سلبت عشرات الملايين قدرتهم على التقدم؛ لأنها قتلت فيهم عوامل الأمل والحذر التي تستحث الخاملين والكسالى إلى السعي والطموح؛ إذ كان الباعث الأكبر على نفض الكسل والخمول أن يشعر الخامل الكسلان بالخوف من عاقبة الضعة، وبالحافز إلى التقدم واستثارة ما فيه من حسن الاستعداد للعمل وطلب المزيد، وإن الملايين من الخلق ليفقدون هذا الحافز الطبيعي إذا أيقنوا أنهم مطمئنون إلى مصيرهم، عاملين أو غير عاملين.
وينتهي الأمر بتلك المساواة المادية إلى ظلم محيط، لا تفلت الأمم ولا الآحاد من سوء عقباه. وأول المظلومين، أولئك الذين يتخيلون أنهم هم الموعودون بالإنصاف والعدل والرعاية؛ فإن العاجز الذي يحرمه المجتمع حوافز الهمة، لهو المظلوم المسكين الذي يبلغ من ظلمه أن يجهل أنه مظلوم ويرضى عن ظالميه.
وأقبح ما في هذا الظلم أنه نزول يأبى للنازل أن يصعد باختياره، وأنه يسوي الأعلى بالأدنى حيثما استطاع، فإذا نظر المتساوون إلى حضيضهم الذي يسمونه المساواة، لم يجدوا دونه منزلة يهبطون إليها، فهي مساواة ليس دونها مكان يتسع للمزيد من الهبوط، وهم يتجنبون فيها الأعلى على الدوام ولا يتجنبون ما هو أدنى.
وإنما المساواة شرف حين ترتفع بالأدنى إلى ما هو أعلى منه. وحين تعطي الرفيع حقه وتأبى عليه أن يجور على حق غيره، وحين تكون إنصافا للعاجز؛ لأنها تستنهضه إلى القدرة، وإنصافا للقادر؛ لأنها تكافئه على المزية ولا تعاقبه عليها بحرمانه من جزائها، وحين تكون في أعماقها إنصافا للفطرة السليمة التي فطرت على التفاوت والتنوع من أجرام الفضاء إلى ذرات العناصر في المادة الصماء، وذلك هو إنصاف الحق والخير، وهو إنصاف الإسلام.
ذلك هو الإنصاف الذي لا يحرم الإنسان العاقل روحه وضميره، ولا يلغي فيه بواعث الهمة والطموح إلى الكمال، ونترجمه بلغة الاقتصاد فنقول: إنه يفتح ميدان العمل للعاملين، ويحميه غوائل الإفراط والتفريط من جانبيه، فيأبى على القادرين أن يحصروا الثروة بين أيديهم، ويأبى للعاجزين أن يفقدوا نصيبهم فيوليهم من ثروة الأمة كلها أكثر من ثلاثة في المائة بين زكاة ومعونة وكفارة ونافلة، محسوبة في كل عام من الثروة كلها، لا من ربحها الزائد في ذلك العام.
نوعان من المساواة تختار بينهما الإنسانية فلا تحار في الاختيار وفيها بقية من الخير.
الكراسة الرمادية1
من الأعداء من نختارهم كما نختار الأصدقاء والأصحاب، وإذا كان الأعداء قسمة في هذه الحياة لا مفر منها كما يقول أبو العلاء:
ولا يرى حيوان لا يكون له
فوق البسيطة أعداء وحساد
فمن الغنيمة أن نختار العدو الأحمق الجاهل المتهم في قوله وعمله، بل من الغنيمة أن نشتريه بالمال إن كان الشراء سبيلا للتفضيل والانتقاء، وأهون الأعداء خطبا أحقهم بالمغالاة في ثمنه وسعره على هذا الاعتبار.
أقول هذا لصاحب الخطاب الذي جاءني من طريق «أخبار اليوم»، يعتب فيه كاتبه على الصحيفة؛ لأنها نشرت الكراسة الرمادية، وهي هراء لا يستحق أن نلتفت إليه.
نعم، يا صاحبي، إنها هراء لا يستحق أن نلتفت إليه، ولكننا - على هذا - أولى بنشره من دعاة الشيوعية؛ لأنه يقيد مذهبهم وينم على جهلهم، ولا يضير الإسلام أو يزعزع عقيدة مسلم في دينه، إلا أن يكون مسلما بغير عقيدة وبغير دين، يستوي بقاؤه وخروجه من زمرة المسلمين.
نحن أولى بإذاعة الجهالة الماركسية من أبنائها، فنحن نعلم أنها تكشف جهالتهم وهم لا يعلمون، وأي وثيقة من وثائق الأعداء أولى بالإذاعة من الوثيقة التي تعلن جهلهم حتى بأسماء القبائل، وحتى بآيات القرآن، وحتى بعناوين الدول، وهم يقولون إنهم يعتمدون على التاريخ ولا ينظرون إلى شيء غير تفسير التاريخ!
إننا ننشر عتاب المسلم الغيور صاحب الخطاب؛ لنسأل الأخبار مزيدا لا ينقطع من هذه الدعاية التي يخدمنا بها الأعداء، وقد تغنينا عن خدمة الأصدقاء.
والعدو الجاهل لا يقل في فضله وجدواه عن الصديق العاقل، ويزيد على أنه لا يكلفنا شرا على فضله المعكوس وجدواه التي لا تجديه!
المذاهب الهدامة تهدم نفسها1
يكتب الماركسيون كثيرا عن الأديان وعلة نشوئها وتطورها، ويخصون الإسلام بقسط وافر من هذه الكتابة، ويبنونها كلها على فكرة واحدة، يكررونها على نسق واحد في كل دين؛ فلا يدري القارئ ما هو الفارق بين دين ودين سواه. وفيهما من النقائض ما لا يصدر عن علة واحدة، أو علل متشابهة، بل كثيرا ما يكون أحدهما هادما لغيره في عقائده وفرائضه وآدابه، قاضيا ببطلانه وتكفير القائلين به وإخراجهم من عداد المؤمنين بالإله الحق والرسل الأبرار، وليس من المفهوم أن تكون أسباب النقيضين على اتفاق.
ولم أفرغ من قراءة فصل من فصولهم هذه عن الأديان عامة، وعن الدين الإسلامي خاصة، إلا ورد على خاطري هذا السؤال: أي الفريقين أولى بنشر هذا الكلام؟! أهم أنصار المذهب الماركسي، أم أنصار الدين الذي ينتقدونه ويشرحون علة نشوئه ويريدون أن ينقضوه بشرحهم لهذه العلة؟
إن فضائل الدين قد تحتاج إلى مجهود لشرحها وتوضيح أسرارها، أو توضيح الأسباب العميقة التي تنبعث منها العقائد، وتتخذ لها من الأشكال والرموز ما يلائم كل زمن ويوافق كل طور من أطوار التفكير والمعرفة.
إن وضوح هذه الفضائل لا يتكشف على جلائه بغير شرح وبرهان، ولكن وضوح السخف المطبق في أقوال الماديين، الذين ينقدون الأديان ويبسطون أسباب ظهورها، أمر لا يتردد فيه الذهن بعد نظرة عابرة، ولا يعاد فيه النظر مرة بعد مرة إلا ازداد وهنا على وهن، وتهافتا على تهافت، وأصبح حجة للدين على ناقديه، ولم تبق منه حجة للناقدين على الدين.
ولقد جاوز الماديون حد التوفيق في كراستهم «الرمادية»، التي نشروها بالعراق وجمعوا فيها أقوال القدماء منهم والمحدثين عن نشأة الدين الإسلامي وبواعث الدعوة المحمدية؛ فما من مقدار من الأخطاء المتلاحقة يجتمع في صفحات كراسة واحدة كهذه الكراسة الرمادية، إلا بتوفيق كتوفيق الإلهام، لولا أنه إلهام معكوس يتنحى فيه الصواب لنقيضه من الخطأ والزيغ والكذب الصراح.
لقد كانت هزيمة كسرى مثلا في وقعة ذي قار سببا لثورة العرب على فارس، ولكنك تقرأ بعد سطور أن قريشا كانت تعتز بسلطان كسرى في رفضها لدعوة النبي العربي، وأنه «كان من أسباب إذعان القرشيين وفاة كسرى ملك الفرس في سنة 628 ميلادية؛ إذ كان هذا الشاه معروفا بحمايته لعباد الأوثان، ففقدوا بوفاته كل أمل للحصول على مساعدة من الخارج ...»
وخلال ذلك تقرأ أن سببا من أقوى أسباب ظهور الإسلام أن إله قريش «أحرز التفوق على سائر الآلهة، أما أرباب العشائر الضعيفة ... فقد دعوا أولاد الله.»
ولا تقول لنا الكراسة الرمادية: لماذا يا ترى كانت قريش تنقم على التبشير باسم الله، وتعاند الداعي إليه ذلك العناد، الذي لم ينكسر ولم يتراجع إلى التسليم، إلا بعد اليأس من حماية الشاه المشهور بعبادة الأوثان؟ ولا تقول لنا الكراسة: لماذا هاجر النبي من موطن قريش عباد الإله الأكبر، ليستعين عليهم بأعداء ذلك الإله من أبناء يثرب الذين يعبدون غير الله؟
وتقرأ في الكراسة أن انتصارات العرب «لم تكن نتيجة حماسهم الديني، بل كان سببها انحلال الدولتين العظيمتين بيزنطة وإيران بعد حرب طويلة أنهكت قواهما، وكان رعايا هاتين الدولتين قد عانوا كثيرا من الضرائب المتزايدة والاضطهادات الدينية، فلم يبدوا الرغبة في الكفاح ضد الفاتحين، وعدا ذلك لم يكن لديهم قوة الكفاح.»
ولا نريد أن نسأل: لماذا دخل الفرس المنهزمون في الإسلام وأقبلوا على الدخول فيه مختارين؟ ولماذا تبعهم في القارة الآسيوية أضعاف أضعافهم من البوذيين والمجوس والوثنيين، الذين لم يشتبكوا في حرب قط مع العرب الفاتحين؟
لا نريد أن نسأل هذا السؤال، بل نريد أن نأخذ على اللجاجة طريقها الطويل؛ فنسأل: ولماذا استطاع العرب المسلمون أن يهزموا المشركين من العرب وقد بلغوا عشرة أمثالهم في بعض الحروب؟
إن المحاربين من الفريقين كانوا يتألفون من طبقات متشابهة؛ في الغنى والفقر، وفي الحرية والعبودية، وفي الرئاسة والاتضاع.
ففي جيش المسلمين سادة وعبيد، وفي جيش المشركين سادة وعبيد.
وليس المشركون جميعا من أصحاب الإقطاعات، ولا المسلمون جميعا من الفقراء المرهقين بالديون.
وقد كان أبو بكر وعثمان وخالد بن الوليد من ذوي اليسار، وكان في جيش المشركين ألوف من الأرقاء والمحرومين، فما هي القوة التي غلب بها الأقلون الأكثرين غير حماسة الدين؟
ويقودنا ذلك إلى سؤال آخر يستلزمه إكثار الماركسيين من ذكر الاستغلال تارة، وذكر الصعاليك تارة أخرى، فنسألهم: هل قام الإسلام لأن المستغلين أقاموه، أو هو قد قام لأن الصعاليك أقاموه ثائرين على أولئك المستغلين؟
والنبي - عليه السلام - ما مصلحته «الاقتصادية» في تأييد الإقطاعيين؟ وماذا استفاد لنفسه أو لأهله من تأييدهم، إن صح أنه كان يختصهم بالتأييد؟ ولماذا يثير عليهم المستضعفين ليعيش هو نفسه بعد ذلك عيشة المستضعفين؟
إن كان «الاقتصاد» يفعل كل ذلك، فهذا الاقتصاد مخلوق عجيب من عجائب الجان؛ يتشكل على جميع الأشكال، ويتلون بجميع الألوان، بل هو مخلوق متناقض؛ يعدو مع الذئب ويهرب مع الأرنب، ولا يحمد الغنيمة في الحالتين! •••
والجهل وحده لا يكفي للاهتداء المظلم إلى هذا التوفيق المعكوس من الأخطاء والأكاذيب في خلق الأغراض والعلل، فلا بد مع الجهل من سوء النية لهذا الانحراف المتعمد عن محاسن الأديان، إصرارا على حب التشويه والتشهير بغير دليل غير هوى النفس الخبيث.
فلا بد من سوء النية لإنكار تحريم الربا في الإسلام، استنادا إلى تعاطي الربا أحيانا في البلاد الإسلامية، واعتبار هذا العمل دليلا على أن الإسلام ديانة «إقطاعية » تخدم الإقطاعيين، فما من عاقل يزعم أن القانون لم يحرم جريمة من الجرائم لأن الناس يقترفون تلك الجريمة، وآخر من يحق له أن يزعم هذا الزعم جماعة الماركسيين، الذين يعلمون أن تطبيق الماركسية لم يمنع اتهام الألوف من زعماء المذهب وخدامه بجرائم استغلال النفوذ وخيانة الشعب والخروج على المبادئ المقررة فيه، ولم يمنع ثورة العمال والأجراء في المجر؛ لأنهم يطلبون الخبز والكساء، ولم يمنع سلب الحرية في الكتابة والتفكير لإكراه الناس على اعتقاد لا يعتقدونه، ورأي لا يصبرون عليه بغير ذلك الإكراه.
وإذا كان مؤلف الكراسة الرمادية جاهلا بالإسلام وتاريخ الجزيرة العربية، فالعربي الشيوعي الذي نشرها أجهل منه بتاريخ بلاده، بل بتاريخ ما حصل في بغداد وعلى مقربة منها قبل الإسلام وبعد الإسلام، فهو يجهل تاريخ اللخميين ويسميهم اللخمديين، متابعة للكلمة الأجنبية على غير علم بمعناها، وهو يذكر ثورة الزنج فيسميها الزنجة، ويتكلم عن قبيلة ثقيف ومنها الحجاج الذي حكم العراق زمنا، واشتهرت أفعاله وأقواله هناك، فيسمى تلك القبيلة بقبيلة السقيف، بل هو لم يقرأ القرآن الكريم، ولم يقرأ سورة الفتح خاصة، وهي مدار التشهير بالجهاد في سبيل الله وبما زعموه من فتوح المسلمين لغير حماسة في الدين، فالمترجم العربي يترجم الصراط المستقيم في أول السورة وفي بعض آياتها فيقول: «إن الحرب قد سميت في القرآن الكريم بالطريق الأعلى.» ومثل هذا النقل قد تكرر في كل كلمة مفردة نقلت من القرآن الكريم؛ كالحنفيين وهي لم تذكر في الكتاب، وإنما ذكر فيه الحنيف والحنفاء، ومثله تسمية الأشهر الحرم بالأشهر «المقدسة»، ومثله تسمية قريش بالقريشيين، خلافا للقاعدة واللفظ المسموع، ومثله ذكر العرب الرحل في مكان «الأعراب» كلما وردت الإشارة إليهم في الكراسة، ومثله أن النبي - عليه السلام - كان «يحول» وجهه في السماء ترجمة لقوله تعالى:
قد نرى تقلب وجهك
إلى كثير من أمثال ذلك، فيما عدا الآيات التي ذكرت في اللغة الأجنبية بأرقامها، فعرف المترجم مكانها من المصحف ونقلها بحروفها على غير علم بمعناها.
وأول ما يفهم من ذلك أن أدعياء العربية والإسلام، الذين نشروا تلك الكراسة بين أبناء قومهم، كانوا كفارا متطوعين للكفر قبل أن يقرءوا كتابهم، ويطلعوا على تاريخ دينهم، وينظروا في نقده وتجريحه نظر العارف بما يقوله الناقدون ويقوله المخالفون لهم في الجواب عليهم، وإنما طبعت قلوبهم على الضغينة والتمرد؛ حسدا للناس وذهابا مع الشر والنقمة، فكفروا وهم لا يعلمون ما الإيمان، وما وجه الإنكار على الإسلام أو على غيره من الأديان.
وتلك شنشنة مألوفة في هؤلاء الماركسيين على اختلاف نصيبهم من العلم بما يكتبون فيه، زاعمين فخورين بأنه كتابة علمية أو كتابة «تحليلية»، وهم لا يزيدون فيها على أسبابهم «الاقتصادية» التي يثبتونها على أسلوبهم بكلمات يبعثرونها هنا وهناك، تتخللها ألفاظ محفوظة عن الاستغلال والجشع والأجور والكدح والكادحين والأموال التي تحسب بالملايين، ويكفي مجرد الإيماء إليها لإثارة الحسد والضغينة في نفوس السامعين أو القارئين، وكل من تقبلها منهم فهو - قبل الكفر الذي يعلله بأسبابه «الببغاوية» - كافر متطوع بلا سبب معقول غير طوية الحقد واللوم وشهوة الافتراء على عباد الله، وعلى «الله» الذي يقولون عنه إنه «غير موجود»، وكل ما قالوه شاهد ناطق بأنهم حاقدون عليه، حقدهم على الموجود الذي يصرف القضاء وبيده المنع والعطاء.
إن أبعد الناس عن الدين لهو ذلك القارئ الذي تذهب بدينه حجة كحجة هؤلاء المنكرين في كراستهم الرمادية، وإن أضعف الناس إيمانا لتعيده إلى التفكير في الإيمان تلك الكراسة التي تهدم الباطل بيديه وتنقض البهتان بلسانه، فما لم يكن متطوعا للكفر ببرهان من الضغينة والعناد، فكل ما في الكراسة الرمادية من برهان فهو هباء يطير مع الريح، أو هو برهان للدين على المنكرين. ولولا أنه برهان معكوس، لوجب على المسلمين أن ينشروه ويتركوه لمصيره، فما هو بقادر على تشكيك أحد يطلع عليه وفي لبه ذرة من يقين.
لعبة التحطيب1
... قالوا إن لعبة التحطيب - العصاية - فرعونية قديمة، فما رأيك في لعبة الحجلة التي يلعبها أبناء قنا وأسوان؟ هل هي من الألعاب القديمة في المديريتين؟
عبد السلام محمد الصلحابي
سليمان باشا، القاهرة
نعم، وكذلك كل ألعاب الكرة في هاتين المديريتين؛ سواء منها الكرة التي يلعبها الأطفال مقبلين أو مدبرين، ومشيا على القدمين معا أو حجلا على قدم واحدة، وسيرا على أرجلهم أو محمولين على ظهور زملائهم المغلوبين، أو الذين يتبادلون السير والركوب.
إلا أن لعبة الحجل كانت شائعة بين البنات، قليلة الشيوع بين الصبيان، ثم كثرت بين الصبيان بعد الفتح العربي، وقلت بين البنات، ولا تزال لها بقية تشبه تمرينات الرقص وحركات الرشاقة، وتشاهد في قرى الريف كثيرا مع ندرتها في عواصم الأقاليم، وقد شاهدناها في الشتاء الماضي على مقربة من أسوان.
بلدة إبريم1
... لما كان من مقتضيات بحثي عن الحضارات القديمة أن أكون على دراية ببلدة إبريم ببلاد النوبة وتعريفها؛ فأرجو إرشادي حتى أسير في بحثي على جادة الصواب.
زكريا عبد الله فراج
كلية المعلمين بالقاهرة
إبريم هي بريمس
أو برمنيس
القديمة، ويخطر لبعضهم أن الكلمة رومانية بمعنى الأول؛ لأن البلدة كانت أول معقل في بلاد النوبة على طريق إثيوبية، ولها تاريخ قديم متقدم على تاريخ الأسرة الخامسة، وإلى القرب منها عاصمة الولاية التي كانت تعرف باسم معمام
Maamam
ويتولاها رؤساء في مرتبة الأمراء الوراثيين، ويتصل تاريخها في عهد الفراعنة بتاريخها في عهد البطالسة والرومان، وقد احتلها بترونيوس قائد الإمبراطور أغسطس في طريقه إلى الجنوب، واهتم سليم الأول بتحصينها بعد الفتح العثماني، وجملة أخبارها مروية في كتب الآثار كما تروى في كتب التاريخ العربية، التي تناولت علاقات مصر والنوبة أيام الفتح العربي وأيام الدولتين الفاطمية والأيوبية على الخصوص، ولكنني لا أعلم كتابا خاصا بإبريم يفردها بالتعريف.
الألعاب الموروثة
يقول الأستاذ سمير وهبي تعقيبا على اليوميات في موضوع الألعاب الرياضية الموروثة عن تاريخنا القديم:
1 «وزيادة للفائدة أذكر لكم أن كرة الشراب كانت معروفة عند قدماء المصريين، والدليل على ذلك أن أولادنا ما زالوا يستعملون في ألعابهم ألفاظا فرعونية لا يعتريها التحريف، برغم مرور قرون طويلة عليها؛ فكلمة «سنو» معناها اثنان، وكلمة «كحكو» مشتقة من فعل كحك الهيروغليفي ومعناها انحنى، وكلمة «شكو» مشتقة من فعل شكا ومعناها ضرب، وانتقلت كلمة «سنو» بمعناها ومبناها إلى اللغة القبطية وصارت «سناو» للمذكر و«اسناوت» للمؤنث.»
ويصل إلينا في الأسبوع نفسه تعليق من طرف آخر بتوقيع «مصطفى أبو زيد»، لا يرى صاحبه موجبا للاستغراب ولا للعناء في البحث عن الألعاب الموروثة عن الأقدمين، أليس هذا شأن جميع الألعاب في جميع البلاد كما يقول السيد أبو زيد؟ أليست ألعاب الأطفال اليوم في كل بلد تكرارا لألعاب آبائهم وأجدادهم في الشرق والغرب وفي كل مكان؟
وأيسر ما في هذا التعليق أنه دليل على تعدد وجهات النظر في كل خبر من أخبار الحياة العصرية أو أخبار التاريخ؛ فمن جهة تدرس الألعاب وعادات الجد والفراغ ويرجع بها الدارسون إلى أصولها العتيقة قبل ألوف السنين، ومن جهة أخرى يرى بعض المطلعين على هذه الدراسة أنها تحصيل حاصل، وأنها مما يمكن العلم به والتحقق منه بغير عناء.
لكن الواقع أن دراسة الألعاب وعادات الفراغ هامة جدا في دلالتها الاجتماعية ودلالتها النفسية، وقد يكون منها ما هو أهم من دراسة الأعمال الجدية؛ لأن معرفة الأمة من هزلها وعبثها وأسلوبها في قضاء أوقات فراغها، أصدق وأيسر من معرفة الأعمال الجدية التي تتقارب في أكثر الأمزجة وتتشابه بين معظم الشعوب، وإنما تعرف النفس البشرية على سجيتها وحين تطرح الكلفة عنها، قبل أن تعرف من الأعمال التي تتكلف لها ما ليس من دأبها في جملة أطوارها، ولهذا كانت دراسة الألعاب بابا من أبواب التاريخ كدراسة العظائم وجلائل الخطوب.
وقد تشترك جميع الأمم في هذه الخصلة، ولكنها تعنينا بصفة خاصة في الألعاب المصرية القديمة؛ لأن الوراثة فيها - على خلاف ما يرى السيد أبو زيد - لا تشبه وراثة الألعاب في سائر الأمم العريقة؛ إذ ليست ألعاب الإيطاليين اليوم تكرارا لألعاب الرومان في عصورهم الأولى، وليست ألعاب اليونان قديما كألعابهم حديثا، إلا ما اتفقت الجماعات الرياضية في أوربة على إحيائه وتجديده، ثم نقله اليونان عنهم، كأنهم يستعيرونه من غيرهم وهو في مصدره منسوب إلى آبائهم وأجدادهم. وقد اختلفت ألعاب الإنجليز في القرون المتأخرة عن ألعاب سكان الجزر البريطانية قبل الميلاد أو في القرون الوسطى، وكذلك تختلف ألعاب الفرنسيين والإسبان والألمان مثل هذا الاختلاف، أو أشد من هذا الاختلاف.
أما في وادي النيل فالبقاء والاستمرار «طابع» الوادي منذ أقدم العصور، وعادات المعاصرين - ولا سيما أهل الصعيد - تكرار متصل لعادات الأقدمين؛ في الألعاب والأعراس والمآتم وسائر العادات المشتركة في جماعات الكبار والصغار وجماعات الرجال والنساء. ومن يشاهد اليوم آنية منزل متوسط في الأقصر أو أسوان، فكأنه يشاهد هذه الآنية في متحف الآثار، وقلما يلاحظ في الأعراس والمآتم فارق ذو بال بين ما يجري في هذا العصر وما كان يجري ونقرأ أوصافه الأثرية قبل الميلاد بألف سنة!
ولولا أن «البقاء والاستمرار» طابع دائم هنا، لما احتفل أبناء الوادي بالتخليد والحفظ كل هذا الاحتفال؛ في المراسم والأبنية والهياكل والأنصاب والموميات، وغيرها من معالم الآثار التي تدخر الزمن للبقاء بغير انتهاء، بل لولا هذا الطابع في عوامل الحياة المتمكنة من الإقليم، لما «تأقلمت» فصائل الحيوان قبل أن ينقضي عليها الجيل الثالث في هذا المناخ الثابت على مدى الدهور، وقد ظرف من قال: إن الجمل عندنا يوشك أن يطلب الماء المرشح المثلج مرة كل ساعتين، وفي كوز من الفخار القنائي النظيف.
وأظرف منه من قال لنا في أسوان: ما أحوجكم إلى الدليل للتمييز بين المتحف والدار.
اكتشاف أمريكا1
تصل إلي مجلة الجمهور الجديد من لبنان، وقد قرأت فيها المقال الذي أتشرف بأن أرفقه بهذه الرسالة عن اكتشاف اللبنانيين أمريكا قبل كولمبس، وهو موضوع يتطلب القول الفصل منكم في يومياتكم ...
أحمد طلعت
شارع دمياط، مصر الجديدة
والموضوع - كما قال الأديب - جدير بالتحقيق والاهتمام، وخلاصته أنهم عثروا في البرازيل على وثيقة تاريخية مكتوبة بالحروف الفينيقية القديمة، تثبت أن الفينيقيين اكتشفوا أمريكا قبل كولمبس بزمن طويل، واتصل الأمر بقنصل لبنان العام في ساو باولو، فاهتم به وأبلغه عن طريق السفارة اللبنانية في «ريودي جانيرو» إلى دار الآثار البرازيلية؛ للتنقيب عن موضوعها في صخور سفح جبل السكر على مدخل العاصمة، ويقال إن بعض الدول تسعى لطمس معالم هذا الكشف الخطير؛ حرصا على مفاخرها التاريخية.
ويؤخذ من تعليقات الصحف الأمريكية أن هذه الوثيقة كشفت سنة 1899، وطويت أخبارها حتى اطلع عليها الأستاذ ريتشارد هنيج
Hennig
سنة 1940، وعكف على دراستها وتفسير كلماتها، ولكنه لم يستطع أن يعرف معانيها بلغتها المنسية، ولعلها ترجع إلى ما قبل الميلاد بعدة قرون؛ لأن حروفها تشبه حروف الأبجدية التي سبقت تطور الأبجدية السريانية بأجيال كثيرة.
والجديد في المسألة أن الكشف الذي تدل عليه تلك الوثيقة سابق لعصر الميلاد، وهذا هو وجه الغرابة فيه؛ إذ لا جديد في أخبار الكشف التي رويت عن القرن الخامس أو عن القرن العاشر أو عن القرن الثالث عشر بعد الميلاد، ولا عن أخبار الكشف التي رويت في تلك العصور عن رواد أيرلندة وأيسلاندة وعن شواطئ القارة الأوربية في الشمال على الخصوص.
وليس بالجديد من أخبار هذه الكشوف أن العرب قد اشتركوا فيها كما جاء في كتاب مروج الذهب للمسعودي، وفي كتاب نزهة المشتاق للإدريسي، وهو الذي يروي عن أولئك الملاحين - الذين سماهم بالمغررين - أنهم وصلوا إلى جزيرة في بحر الظلمات، سماها جزيرة الغنم، ولقيهم فيها من يكلمهم باللغة العربية.
ومن الأدلة على سبق الكشافين من أفريقيا إلى النزول بأمريكا الجنوبية، أن كولمبس عاد منها بذهب مخلوط بالنحاس على النحو الذي يخلطونه به في «غانة».
عالم من الإسكندرية1
بأي بلدة ولد الأسقف سرابيون؟ وبأي المدارس تعلم؟ وما هو تاريخ ميلاده؟ وهل هناك علاقة بين شارع سرابيون في الشاطبي بالإسكندرية، وبين هذا الأسقف؟ وهل صحيح أن مصر كانت بعد سنة 330 بلدا مسيحيا؟ وهل كان للأسقف سرابيون دور في هذا التاريخ ...
إبراهيم محمد القرضاوي
سنهور المدينة
في تاريخ العصور الأولى للمسيحية نحو عشرين ناسكا وقسا وقديسا باسم سرابيون، ويلاحظ أن هذا الاسم من الأسماء التقليدية في مدينة الإسكندرية بعد انتشار المسيحية؛ لأنه اسم يجمع بين لفظ «السرابيوم» معهد الحكمة والعبادة القديم، وبين لفظ «سرافيم» الذي يطلق على ملك من الملائكة المقربين.
ولكن أشهرهم جميعا وأقواهم بأسا سرابيون الهرقلي، الذي ولد بمصر - ويرجح أنه ولد بالإسكندرية - ثم عينه يوحنا فم الذهب أسقفا لكنيسة القسطنطينية، وكان مشهورا بالصرامة والحزم، يشير على يوحنا فم الذهب دائما باستخدام «العصا» في تأديب القساوسة من أتباعه، وكان ينوب عنه في غيابه، ويشدد النكير على مخالفيه من رجال الكنيسة، بل كان يبالغ في التنديد بمن يلومونه على شدته وتعاليه، كما صنع مع رئيسه سفريان الذي قال عنه: «إنه إن مات على دين المسيح فالمسيح لم يتجسد في هذه الدنيا.» فادعى عليه أنه أنكر التجسيد، وعمل على حرمانه وطرده من الأسقفية. وقد حمد له يوحنا فم الذهب هذا الصنيع، وعده من دلائل غيرته وصدق يقينه، فأقامه أسقفا على هرقلة في «تراقيه» ولبث في منصبه حتى نفي يوحنا فم الذهب، فثار به خصومه وأخرجوه من المدينة، وأعادوه إلى الإسكندرية منفيا مغضوبا عليه.
إلا أن الراجح من قرائن التاريخ أن سرابيون هذا غير سرابيون الذي بقي ذكره في الإسكندرية، وأن سرابيون الآخر هو سرابيون الملقب بالعلامة أسقف تمويس بمصر، وصديق القديس أثناسيوس والقديس أنطوني المشهور، وقد أوصى له ذلك القديس الكبير بأحد قميصيه من الجلد؛ إكراما له وتنويها بعلمه وتقواه، وتنسب إليه مؤلفات كثيرة يرد بها على المانوية والديانات المخالفة للمسيحية، وله شروح مستفيضة كان لها أثرها العظيم في زمانه؛ إذ يرى مؤرخو الكنيسة بمصر أن هؤلاء الأقطاب الثلاثة - أنطوني وأثناسيوس وسرابيون - كانوا عماد الكفاح الذي أدى بعد حين إلى تحرير النصرانية المصرية من سلطان الرومان.
وقد أصبحت المسيحية على المذهب المصري بعد عصرهم هي العقيدة الغالبة من الإسكندرية إلى بلاد النوبة، ولكنها لم تكن بطبيعة الحال عقيدة جميع المصريين بلا استثناء، فلم يزل في مصر مذاهب غير مذهب الكنيسة العامة إلى القرن السادس للميلاد ، ومنهم مسيحيون ملكيون وأتباع للديانة المصرية القديمة، لا يفكرون كثيرا في أمر الدين.
ولست أعرف مرجعا يفصل ترجمة سرابيون «العلامة» منذ ولادته إلى نشأته وولايته منصب الأسقفية، ويفهم من ذلك أنه قد تعلم بالإسكندرية حيث تعلم غيره من رجال الدين.
سقراط واحد أو اثنان1
في كتاب مسالك الثقافة الإغريقية إلى العرب، الذي ألفه المستشرق أوليري وترجمه الدكتور تمام حسان، يقول المؤلف في تعريفه نيسطور أن «سقراط» ذكره في كتابه، ومن المعروف أنه لا يوجد في تاريخ الفلسفة سقراط واحد هو أبو الفلسفة اليونانية الذي تتلمذ له أفلاطون، وأن سقراط هذا عاش قبل المسيحية ولم يؤلف كتبا، فمن إذن سقراط هذا الذي يتحدث عنه المؤلف؟! وفي أي عصر عاش؟
مسعود عامر
قسم الفلسفة، آداب الإسكندرية
إذا ذكر تاريخ المسيحية، فليس هناك غير سقراط واحد يذكرونه ولا يحتاجون إلى تخصيصه أو تمييزه من سقراط الفيلسوف؛ لأن هذا - كما قال الطالب الأديب - سابق لظهور المسيحية، ولم يكتب شيئا غير ما رواه عنه تلميذه أفلاطون وبعض تلاميذه ورواة أخباره.
أما سقراط المؤرخ فقد ولد بالقسطنطينية حوالي سنة (408) ميلادية، وتعلم الفلسفة والأدب على العالمين الإسكندريين هلاديوس وأمونياس، اللذين هجرا الإسكندرية فرارا من غضب الإمبراطور، ومذهبه في كتابة التاريخ أن العناية بتسجيل الواقع أولى وأوثق من العناية بالأخبار الماضية، وأن بساطة الأسلوب أوفق للموضوعات التاريخية من الأسلوب الفخم الذي يتحراه الأدباء والشعراء، وكتابه ينقسم إلى سبعة أقسام، تبدأ من عهد قسطنطين إلى نهاية (سنة 439)، ولا تزيد مدتها على مائة وأربعين سنة مما حضره وشهده أو نقله عن الحاضرين وشهود العيان.
ولم يكن سقراط من رجال اللاهوت، ولكنه كان على علم واف بمسائل الجدل بين اللاهوتيين في زمانه، واستطاع أن يتخذ موقف الحيدة بينهم لاستقلاله عن الشيع والكنائس ومجامع الأساقفة، ووصف هذه المجامع وصفا قريبا لم يؤثر مثله عن مؤرخ آخر من أبناء عصره ولا من اللاحقين به في عهود الخلاف، وهذه هي قيمته التاريخية عند الباحثين في تواريخ صدر المسيحية وفي عصر قسطنطين على التخصيص، وقد ترجم كتابه إلى الإنجليزية لأول مرة سنة 1619، نقلا عن النسختين اللاتينية والإغريقية، ترجمه مرديث هامتر أستاذ علم اللاهوت، ولا يعسر الحصول عليه الآن، ولكنه نادر في غير المكتبات القديمة.
الرسول والنبي!1
يستغرب الأستاذ مرسي محمد مرسي المدرس قولنا من رسالة الثقافة العربية «إن شعيبا تقدم موسى إلى عقيدته الإلهية وعلمه تبليغ الشريعة وتنظيم القضاء في قومه.»
ويسأل الأستاذ: كيف يتعلم الرسول من النبي؟ أليس الرسول أولى بعلم التبليغ؟
والأستاذ «عبد الفتاح أحمد» يسألنا رأينا عما قاله الأستاذ «أمين الخولي» في بعض المجلات اعتراضا على قولنا في كتاب حقائق الإسلام إن الدين الإسلامي شرع العتق ولم يشرع الرق؛ إذ كان العتق موجودا معروفا قبل ظهور الدعوة الإسلامية ... إلخ إلخ.
ولا حاجة بنا إلى جواب على الاعتراضين معا بعد جواب القرآن الكريم.
فإن الكتاب المبين صريح فيما أنبأنا به عن طلب موسى العلم من أستاذ لم يذكر بين الرسل:
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا .
أما معنى كلمة «شرع» فيفهمه من يفتح المصحف على سورة الشورى ويقرأ في آياتها الأولى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .
صدق الله العظيم.
شهر الثورات1
... ما هو السر الذي يكمن في شهر يوليو؟ وما علاقته بالثورات؟ ثورة فرنسا قامت في شهر يوليو، ثورة مصر الكبرى قامت في شهر يوليو، ثورة العراق قامت في شهر يوليو، وكذلك ثورة السودان وغيرها وغيرها، فما السر في هذا؟
عبد العال يونس محمد أحمد
الخزندارية، طهطا
تحدث الثورات غالبا في شهر يوليو وفي شهور الصيف على العموم لجملة أسباب:
منها أنه يوافق وقت الفراغ من الأعمال الزراعية ومن جمع المحاصيل وتدبير أمر المؤنة.
ومنها أن النفوس في الصيف أسرع جهدا وأقل كلفة، ولا سيما الحركات الخارجية التي تستدعي الانتقال من بلد إلى بلد والمبيت في الخلاء.
ومنها أن النفوس في الصيف أسرع إلى الغضب، وأقل صبرا على الظلم والضنك ومساوئ المعيشة.
وقد تغيرت الأحوال بعض التغير في عصور الصناعة، التي لا ترتبط فيها معيشة الطوائف المظلومة جميعا بمواسم الزراعة، فلا يندر الآن أن تحدث الثورات شتاء أو خريفا، كما حدثت ثورة «الديسمبريين»، وثورة 17 أكتوبر في روسيا، وكما حدثت ثورة المجر بين الخريف والشتاء منذ ثلاث سنوات.
الجريدة والصحيفة1
... وقد جاء في صفحات مطوية من تاريخ حركة الاستقلال من مقدمة الأستاذ إسماعيل مظهر ما نصه: هذه الصفحات المطوية التي ننشرها اليوم هي خلاصة آراء أستاذنا الكبير - أحمد لطفي السيد - في السياسة المصرية من أوائل 1907، وهي السنة التي تألف فيها حزب الأمة، وظهرت صحيفة الجريدة إلى أوائل 1909، وعندي أن هذا العهد هو عهد الانقلاب الفكري، الذي تميز فيه الاتجاه الاستقلالي في سياسة مصر الوطنية، فما رأيكم دام فضلكم؟ هل شاعت كلمة الجريدة منذ صدورها سنة 1907.
إنني أكتب إليكم لأنكم المرجع القريب لكل ما يعن للناطقين بالضاد في هذه الشئون.
محمد علي الفولي
رئيس سكرتيرية منطقة المنيا التعليمية
كانت كلمة «الجريدة» بمعنى الصحيفة معروفة قبل إطلاقها على لسان حزب الأمة، وإذا صح ما سمعناه يومئذ فقد وقع الاختيار على هذا الاسم بعد عدة أسماء، لوحظ فيها أن تساعد الباعة على مد الصوت بالنداء كالزمان والميزان والجرنال ... إلخ.
وقد كان بعض أعضاء الحزب لا يرى حرجا في تعريب كلمة الجرنال واتخاذ الصحيفة بهذا الاسم لسان حال للحزب القومي؛ لأن صحيفة «الجورنال» الفرنسية كانت هي الصحيفة القومية الكبرى التي لم تتسم بالصبغة الشبيهة بالرسمية كالطان والماتان، ولكن الرأي استقر أخيرا على اختيار اسم «الجريدة»، وتفضيل هذا الإطلاق على نسبتها إلى هيئة من الهيئات، وقد كان اختيار أسماء الصحف في ذلك العصر مسألة دقيقة لا ترتجل ارتجالا، على خلاف المظنون اليوم؛ فكان وراء كل اسم من أسماء الصحف اليومية مقصد سياسي ودلالة مفهومة، كما يؤخذ من مراجعة تلك الأسماء. وقد تغير اسم الصحافة نفسها يوم ارتفع شأن الصحفيين وأنكرت الأذواق أن يطلق عليهم اسم «الجرنالجية» بلهجة الاستخفاف، وكانت تسمية الجرنال بالصحيفة وبالجريدة مرحلة انتقال في تاريخ الصحافة والصحفيين.
المقوقس وكثرة الخلاف حوله ... ما حقيقة اسم المقوقس؟ وما سبب تلقيبه بأسماء أخرى عديدة؟ وما المركز الذي كان يشغله في مصر؟ وما جنسيته ومذهبه؟ وما موقفه من الفتح الإسلامي لمصر؟
محمد عبد القادر جودة
آداب الإسكندرية
إذا قلنا للطالب الأديب صاحب السؤال إن هناك مائة قول في أمر هذا المقوقس فلا مبالغة.
وكأنما قالت «كليوس» ربة التاريخ لهذا الرجل عندما أرسلته إلى صفحاتها، اذهب فاجمع حولك كل ما تستطيع من أوجه الخلاف في أمرك، فصدع بالأمر وجمع من أوجه الخلاف المعقول وغير المعقول فوق ما استطاع وفوق ما يستطاع.
إنه مختلف في زمنه، ومختلف في اسمه، ومختلف في وظيفته، ومختلف في جنسه، ومختلف في مذهبه، ولا اتفاق على أمر من أموره بين مؤرخي العرب ولا بين مؤرخي الروم، ولا بين المؤرخين المحدثين من الأوربيين والشرقيين، وتفصيل هذه الخلافات جميعا مبسوط في كتب «فتح مصر»، التي يرى منها الطالب مراجع شتى في مكتبة الجامعة، ومكتبة المجلس البلدي على ما نعتقد؛ فلا محل لإعادتها ولا لتلخيصها في هذه السطور؛ فإن مجرد الإشارة إليها يستغرق الصفحات.
إلا أننا نرجح جدا بعد المقابلة بين الأقوال المتضاربة أن المقوقس لقب تعظيم روماني، أطلق على زعيم من زعماء مصر يدين بمذهب القسطنطينية، مع قلة صغيرة من المصريين خالفوا أبناء وطنهم في المذهب؛ فقالوا بالطبيعتين والمشيئتين للسيد المسيح، بدلا من القول بالطبيعة الواحدة على مذهب الكنيسة القبطية.
ويدعونا إلى ترجيح ذلك:
أولا:
أن عقد معاهدة معه لتنفيذها بعد جلاء الدولة البيزنطية عن وادي النيل، لا معنى له إذا كان الرجل يونانيا أو بيزنطيا ينتهي سلطانه ونفوذه بانتهاء عهد الروم في البلاد.
وثانيا:
أن ألقاب التفخيم تخلع عادة على الولاة من أبناء الوطن؛ ترضية لهم وتعويضا عن مظاهر الاستقلال، ولا تخلع أمثال هذه الألقاب على الولاة الموظفين من الغرباء.
وثالثا:
أن اسم «مينا» تكرر في سيرة الرجل، وهو اسم لم يطلق على أحد من المسيحيين غير المصريين.
ورابعا:
أن مذهب الكنيسة البيزنطية كان له أتباع قليلون بين أبناء البلاد، أكثرهم من أبناء الأمهات الروميات، وليس من النادر في تواريخ الأمم المحكومة أمثال المقوقس بين أبناء البيوتات المرشحة للرئاسة، فهم يتقربون إلى الدولة الحاكمة تارة بالمصاهرة، وتارة بالمجاراة في المذهب، ولا يبعد أن يكون القول بالطبيعتين مذهب المقوقس عن اعتقاد وتصديق؛ لأن جمهرة الأمة لم تخالفه مخالفة الإجماع إلا بعد زوال السلطان البيزنطي بعشرات السنين، ولكنه - على أية حال - لم يعتقد هذا المذهب لأنه رومي أصيل، فلو أنه كان من الروم ولم يكن له سلطان بين قومه مستقل عن سلطان القسطنطينية، لما اكترث العرب لمعاهدته، ولا استحق «المقوقس» كائنا ما كان أن يتجه إليه خطاب من النبي - عليه السلام - غير خطابه إلى هرقل عاهل الدولة الحاكمة، بل لما كان هناك موجب للحنق عليه بين المصريين؛ لأن مخالفته لهم ومشابهته في الرأي والعقيدة للسادة المسيطرين على البلد، كلاهما حالة طبيعية لا غرابة فيها، وإنما الغريب أن يكون الواقع غير ذاك.
خلق الأطفال1
... هل تصدقون أن العلماء يجربون خلق الأطفال بالوسائل الصناعية في المعامل؟ وهل هذا ممكن في هذا الزمن أو بعد زمن طويل؟ وهل يليق بالرجل المؤمن بالله - مسلما كان أو على دين إلهي آخر - أن يفعل فعل هؤلاء العلماء المزعومين؟
أحمد سالم
المنصورة
إن البحث في تحليل الخلايا الحية، سواء كانت من خلايا التناسل أو من غيرها، عمل نافع جدير بعناية العالم المؤمن بالله على أي دين؛ فإن العلم بخصائص الأجسام الحية، تحليلا وتركيبا، مصلحة إنسانية نستفيد منها؛ في تقوم البنية، وفي علاجها، وفي العلم بأسرار الخليقة التي يأمرنا الدين القيم بالكشف عنها ولا ينهانا عن البحث فيها.
ولكننا نعتقد أن العالم «البيولوجي»، الذي يظن أنه قادر بالتحليل الكيماوي أن ينقل خصائص الحياة، يجهل طبيعة المسألة التي يتصدى لبحثها، ويضيع أوقاته وتجاربه في غير جدوى.
فمن الجائز أن يطمع العالم في محاكاة الخلية الأولى بالتراكيب الكيماوية، ولكنه لا يستطيع أن يودع هذا التركيب خصائص الحياة الموروثة في أبسط الخلايا، فضلا عن الأجسام المترقية التي تجمع الملايين من الخلايا، وتتفرع كل وظائفها من خلية واحدة تكمن فيها جميع الخصائص الموروثة عن الآباء والأجداد.
فليس بين الخلايا الناسلة فرق كبير في التركيب الكيماوي، ولكن إحدى الناسلات تخرج للحياة إنسانا له في وجهه شامة كما كان لأبيه أو لجده، ومثلها ناسلة أخرى تخرج للحياة إنسانا لا تظهر على وجهه هذه الشامة، وإن فرضنا - مجرد الفرض - أنهما يتشابهان فيما عدا ذلك من أجزاء التكوين، فما هي «الكمية» الكيماوية التي تكمن فيها هذه الشامة داخل جرم الخلية الصغير، وهو جرم لا يرى بالعين، ويتسع فنجان القهوة لثلاثة آلاف مليون جرم مثله؟
ونقترب قليلا من المشاهدات الحسية، فنقول إن مخ الإنسان لا يختلف كيماويا؛ سواء كان يعرف الرياضة أو يعرف الطب، فهل يعقل أن العالم البيولوجي يخلق في المعمل مخا يعرف المعادلات الرياضية ولا يعرف شيئا عن الطب، أو مخا يعرف الطب ولا يميز بين أرقام المعادلات، بالغا ما بلغ إتقانه لمحاكاة الأجزاء الكيماوية من الدقة وتناسب الأجزاء؟
وبعد كل هذه المحاولات التي لا تفلح على ما نعتقد، هل تثبت من صنع الخلية الحية في المعمل أن الخالق غير موجود؟
إن الأنابيب والأحماض والمحلولات ودروس التشريح وعلم الحياة، تفسر لنا كيف اجتمعت الأجزاء التي تركبت منها الخلية الحية في المعمل الحديث.
فما الذي يفسر لنا تأليف الجسم الحي من العناصر المتفرقة بين جوانب الكون الواسع ملايين الملايين من المرات؟
إذا استطاع مخترع أن يركب الخلية على مثال معروف، فمن الذي استطاع أن يجمع هذه العناصر بمقاديرها التي لا تتفق بالمصادفة ولو بنسبة واحدة في عشرة ملايين.
إن كل خلية من البروتين تتألف من سلسلة، فيها بضع مئات من الحلقات، وإن كل حلقة هي تركيبة من ذرات نوشادرية، وإن الأحماض النوشادرية تبلغ نحو العشرين، ويجوز أن يقع كل منها موقعه مع اختلاف في النسبة والتركيب، ولكنها لا ترى في بعض الأنسجة إلا على ترتيب واحد ونسبة واحدة، فكيف تم التوفيق بين هذه المصادفات؟
يقول الأستاذ ليتز
Leathes
إن هذه المصادفة كمصادفة الرصاصة التي تصيب حدقة الثور على بعد الأرض من المجرة، ولا تخطئها مرة واحدة في كل مليون مرة!
إن الكون الذي يفعل ذلك بغير حاجة إلى معمل الأستاذ البيولوجي، يثبت قدرة الخالق ولا ينفيها، وسيلهث الأستاذ البيولوجي عبثا في خاتمة المطاف؛ لأنه سيجد الدليل الذي هرب منه واقفا له أمام المعمل بالمرصاد.
مكتبة الإسكندرية1
... أصدر مكتب الاستعلامات بالإسكندرية كتابا، جاء بالصفحة الثانية منه: وفي سنة 641 ميلادية استولى القائد المسلم عمرو بن العاص على إسكندرية، وحرق مكتبتها الشهيرة؛ تنفيذا لأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وقد استغرق حرق هذه المكتبة ما يقرب من ستة أشهر. ونحن نريد من أستاذنا بيان ما إذا كان القائد المسلم هو الذي أحرق المكتبة بأمر الخليفة، أم الذي جرى هو غير ذلك؟
محمد وليد سماقية
طالب بالإسكندرية
إن الرواية - كما هو ظاهر - منقولة من مصدرها الخرافي الذي لا يعول عليه، وقد نفاه معظم المؤرخين الثقات من الأوربيين، فلا يجوز نقله بغير تنبيه إلى علاته الكثيرة، أو بغير إشارة إلى الردود الكثيرة عليه.
وخلاصة الرواية أن القائد عمرو بن العاص سأل الخليفة في أمر المكتبة، فأمره بإحراقها، فوزعت كتبها على حمامات الإسكندرية - وعدتها أربعة آلاف حمام - فأغنتها عن الوقود ستة شهور!
وبطلان هذه الرواية واضح من سياقها ومن نسبتها إلى مصادرها الأولى.
فهي «أولا» لم تذكر في مصدر يرجع إلى ما قبل القرن السادس للهجرة أو الثالث عشر للميلاد، وكانت تنسب في روايتها الأولى إلى رجل لم يكن بقيد الحياة في إمارة عمرو بن العاص؛ وهو يحيي النحوي.
ولقد كذب الرواية أقطاب المؤرخين من أمثال جيبون وبتلر.
وقال شوفان
Chauvin
ساخرا: إن هذا الوقود يستنفد على الأقل أربعة عشر مليون مجلد، وارتفع بها كازانوفا
Casanova
إلى اثنين وسبعين مليونا، مع ملاحظة حجم اللفائف وعادات القوم في النسخ والتنسيق.
وثبت أن المؤرخين الذين اشتهروا بحب الكتب وزاروا مصر قبل الفتح العربي، لم يذكروا المكتبة ولا ما يدل على وجودها؛ مما يؤكد أنها أحرقت أثناء حصار قيصر للإسكندرية، وبادت البقية الباقية منها أيام الثورة على العقائد الوثنية، وقد ذكر روسيوس
Orosius
الذي مر بالإسكندرية سنة 414 إحراق الكتب في عهد قيصر، وقال إنه رأى مواضع الكتب خاوية، ولكنه قال على سبيل الظن «إن المعقول أن غير هذه الكتب قد جمع للتعويض عن خسارتها»، ولم يذكر شيئا عن موضعها المفروض، الذي يمكن أن تودع فيه ملايين المجلدات ولا يهتدي إليها المؤرخ الباحث عنها.
ومن الواجب أن نذكر أن المكتبة على أية حال لم تكن من الضخامة بالقدر الذي توهمه المؤرخون المتأخرون، ولا يمكن أن تكون بهذا القدر ولا بما يقرب منه؛ لأنها على أرجح الأقوال قد جمعها الكاتب ديمتريوس دفالير، الذي احتمى بقصر «بطليموس سوتر»، وأراد أن يحسن جزاءه بإنشاء مكتبة في جواره تنسب إليه، ومهما يبلغ من سعة اطلاع هذا الكاتب، فالمسألة هنا مسألة المؤلفين الذين كتبوا التصانيف ووصلت إلى يديه فنسخ منها ما استطاع، وقبل أن نسأل كم مليون مجلد كان في مكتبة الإسكندرية، ينبغي أن نسأل: كم ألف كاتب ألفوها؟ وأين أسماء هؤلاء الألوف من الكتاب والعلماء؟
إن لم تبلغ عدة المؤلفات في المكتبة سبعين مليونا فلتبلغ سبعة ملايين، بل سبعة آلاف، بل سبعمائة تتكرر بالنسخ والشرح والتذييل، فمن أين جاء المؤلفون الذين كتبوها وشرحوها؟ ولماذا لم تحفظ أسماؤهم كما حفظت أسماء الذين نعرفهم الآن بغير مؤلفات على الرواية والسماع؟ وأين هي الكتب التي لم يحرقها عمرو بن العاص ولا وصلت إلى أيدي العرب؟ ولماذا يسكت عنها الغيورون على الثقافة ولا نسمع عنها مثل هذه اللجاجة من أولئك الغيورين المتخصصين للغيرة في شئون التاريخ العربي دون سواه؟
إن الخرافة حضرت تأسيس تلك المكتبة ولم تفارقها بعد زوالها، وقد عاشت فوق ما يحق لها أن تعيش، فإن قضي عليها أن تقبر في ظلماتها فليس لنا نحن أن ننفخ فيها النفس الأخير بعد النفس الأخير.
جهل المستشرقين!1
لقد أثار هنا بألمانيا - بجامعة ماينز
Mainz - أحد أساتذة الدراسات الشرقية في إحدى محاضراته عن القرآن الكريم، موضوعا أعتبره نقطة ضعف وتناقض في محتوياته؛ إذ يقول إن بالقرآن الكريم بعض الكلمات غير عربية الأصل؛ مثل:
هيت لك
في سورة يوسف،
وفاكهة وأبا
في سورة عبس وتولى. واستشهد كذلك بألفاظ أخرى في مواضع مختلفة ، على حين أن القرآن الكريم يقرر أنه عربي مبين؛
إنا أنزلناه قرآنا عربيا . وقال إن هذه القضية شغلت علماء المسلمين منذ وقت بعيد ... وإني أكتب إليكم سائلا عن رأيك في هذه القضية، شاكرا لكم أن تتكرموا بالإجابة.
أحمد الزواوي
نستغرب أن يصدر هذا الرأي من عالم متخصص للدراسات اللغوية، فإنه خليق أن يعلم قبل كل شيء أن اللغة الحية الواسعة تشتمل على ألوف من الكلمات لا ترجع بالبداهة إلى مصدر واحد؛ سواء قصدنا المصدر مكان النشأة، أو قصدنا به السلالة البشرية، ويصدق هذا على الألمانية - لغة الأستاذ - كما يصدق على جميع لغات العالم؛ إذ توجد في هذه اللغة ألوف من الكلمات، تدخل في الألمانية كما تدخل في ألسنة الأمم الهندية الأوربية على تعددها وتباعد أوطانها، ولا ينتظر أن تكون اللغة العربية على غير هذه القاعدة المطردة في كل موقع وفي كل سلالة.
ومن العجيب أن يستشهد الأستاذ بكلمة «هيت»، وهي سواء حسبناها في أصولها من أسماء الأصوات أو من أسماء الأفعال أو من علامات التنبيه، لم تنفرد بها لغة محدودة بين اللغات الإنسانية؛ إذ يستخدم الناس الهاء الممدودة للتنبيه والاستدعاء، كما تدل على ذلك الضمائر وأسماء الإشارة في ألفاظ كثير من الأمم. وأعجب من ذلك أن يجزم الأستاذ بغرابة كلمة «الأب» بمعنى العشب عن اللغة العربية، مع أن العرب أولى الأمم بهذه المادة؛ لحاجتهم القديمة إلى العشب، ودلالة «الأب والأباب» على العشب، والماء والسراب في لهجات قبائلهم منذ احتاجوا إلى التعبير عنها. ومهما يكن الرأي في أصول الكلمات، فلم يكن أحد ليفهم من وصف القرآن الكريم ب «الكتاب العربي المبين» أن كلمات اللغة العربية وقف على الأبناء والآباء والأجداد، الذين يحملون شهادة ميلاد عربية منذ أول عهود النطق بالكلمات الإنسانية! إذ ليس في وسعنا أن نتخيل هذه النشأة اللغوية - المقفلة بين أهلها - ولو على سبيل الفرض والتخمين، ولكننا نفهم أن القرآن الكريم يكون عربيا على الوجه الوحيد الذي يمكن أن تتحقق به هذه الصفة، أو تتحقق به الصفة العربية في عقل من العقول، وهي الصفة التي تصدق على اللسان كله، كيفما كانت المفردات التي جرى بها ذلك اللسان.
وليست القضية أن نفهم القرآن الكريم على هذه الصفة، ولكنما القضية - حق القضية - أن نفهمه على النحو الذي يتوهمه الأستاذ وهو مستحيل، فكيف يريد صاحبنا أن تتحقق الصفة العربية للقرآن الكريم؟ إنها تتحقق على شرط واحد مستحيل كما قدمنا! وهو أن تنشأ اللغة العربية مقفلة معزولة من ألسنة الآدميين، لا ينطق أبناؤها بكلمة وجدت في لغة أخرى، وإلا فليست هناك لغة عربية ولا كلام عربي مبين!
إنها لقضية مشكلة بحق الله، ولكنها قضية الجهالة التي تقع فيها طائفة من المستشرقين، وليست بقضية القرآن ولا قضية المسلمين والمفسرين!
صهيونيتان1
قسم بعض الكتاب الصهيونية الأولى إلى قسمين: أطلقوا على أحدهما اسم الصهيونية الدينية، وعلى الآخر اسم الصهيونية السياسية، فيقولون إن الصهيونية الأولى حركة دينية، ترمي إلى السيطرة على فلسطين وجعلها دولة يهودية، مع إحياء تراث اللغة العبرية وآدابها. ويقولون عن الثانية إنها حركة سياسية، تهدف إلى إنشاء دولة مستقلة في فلسطين، يقوم دعاتها بجمع الأموال لصالحها وجلب اليهود إليها من البلاد كافة. فهل ترى سيادتكم ثمة فرقا بين دولة يهودية ودولة صهيونية، أو بين هدف الحركة الأولى وهدف الحركة الثانية؟ هذه هي القضية التي شغلت فكري منذ مدة غير قصيرة، وذلك يرجع أولا وأخيرا إلى ندرة المؤلفات التي تعالج الصهيونية.
عبد اللطيف عبد الرحمن عنان
مدرس اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية
الصهيونية كلها حركة سياسية في نشأتها الأولى؛ لأنها لم تعرف بين اليهود قبل قيام المملكة اليهودية في بيت داود - عليه السلام.
فقد بقيت أورشليم بعد موسى - عليه السلام - بعدة قرون ملكا لليبوسيين، وسكنها معهم بنو بنيامين كما جاء في سفر القضاة إلى عهد كتابة هذا السفر، ثم تغلب عليها بنو يهوذا كما جاء في التوراة، فأحرقوها ولم يقيموا فيها، ثم جاء الملك يهواش من ذرية إبراهيم - عليه السلام - «فهدم سور أورشليم، وأخذ كل ما فيها من ذهب وفضة ورجع إلى السامرة»، كما جاء في الإصحاح الرابع عشر من سفر الملوك الثاني.
فلم تكن «صهيون» بأورشليم قبلة مقصودة عند اليهود قبل قيام المملكة الأخيرة، ويومئذ أصبحت موعدا لعودة الملك مرة أخرى بعد زواله، واتفقت على ذلك كلمة الساسة المطالبين بالدولة وكلمة الكهان على السواء.
ولا فرق بين الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية في النتيجة الواقعة، وإنما يقول الدينيون إن دولة صهيون الموعودة يقيمها مسيح منتظر من نسل داود؛ لأنهم لا يعترفون بالمسيح ابن مريم - عليه السلام - ولا يعتبرون أن الدولة السياسية تحقق أحلامهم المنتظرة في آخر الزمان، يوم يعود أبناء إسرائيل الغابرون من صدر إبراهيم، ويتسلمون مفاتيح السيادة على العالم أبد الآبدين ودهر الداهرين!
وقد يختلف السامريون والإسرائيليون أشد الاختلاف في تأويل كلمات التوراة، ولكن السامريين - مع هذا - لا يكرهون قيام الدولة اليهودية حيث يقوم على أية صورة من الصور؛ لأنهم يؤجلون تحقيق الأحلام المنتظرة إلى المستقبل، ويتقبلون الواقع كيفما اتفق؛ لأنه تمهيد يتلوه تمكين وتوكيد، وهو عندهم خير من ترك الأمر كله للمستقبل البعيد.
تعليم الفلسفة أو الاقتصاد؟1
يقول الأستاذ حليم فريد تادرس، مدرس الفلسفة بالتعليم الثانوي:
إن بعض المهيمنين على شئون التخطيط بوزارة التربية والتعليم، يدعون إلى الإقلال من دروس الفلسفة بالتعليم الثانوي، وجعلها مادة اختيارية؛ يختار الطالب بينها وبين مادة جديدة هي علم الاقتصاد ... فهل تحدثنا عن رأيك في هذا الموضوع؟
ومن المحقق أن قيمة الفلسفة في التعليم الثانوي لا تحتاج إلى رأي يعززها، ولا تقبل المناقشة الطويلة حول لزومها وضرورة العناية بها؛ في هذا العصر خاصة، وفي بلادنا الشرقية على الأخص، بعد أن طال الزمن في تاريخنا القديم على احتجابها بين جدران الهياكل، أو على سوء الظن بحقيقتها عند من كانوا يخطئون فهمها ويخطئون فهم الدين.
فالعلماء في هذا العصر «يفلسفون» العلم، ويعرفون للفلسفة محلها إلى جانب العلم، الذي يتقيد بوصف الواقع كما تثبته التجربة، ويدع الفروض الضرورية لتقرير كل تجربة أو تفسيرها، كي يتولاها أصحاب النظرات الفلسفية من المفكرين العلميين.
ونحن الشرقيين قد اتهمنا زمنا طويلا بالعجز عن التفكير المستقل عن المنافع العملية والمشاهدات الحسية؛ لأن علماءنا الأقدمين كانوا يحتجبون بعلومهم وفلسفاتهم وراء الهياكل والمحاريب، فلا يجمل بنا اليوم أن نؤكد تلك التهمة بتهوين شأن الفلسفة، أو اعتبارها ضربا من ضروب الحذلقة وبابا من أبواب الفضول.
ولكننا، على خلاف رأي الأستاذ حليم، لا نرى في العناية بعلم الاقتصاد غضا من قيمة الفلسفة، ولا نحب أن يهمل هذا العلم في دراساتنا الثانوية؛ لأن قضايا العالم كله في عصرنا هذا تتصل بالقضايا الاقتصادية أوثق اتصال، ولا يحسن بالطالب الثانوي أن ينتهي إلى التعليم الجامعي وهو خالي الذهن من قواعد الاقتصاد وعلاقتها بالسياسة العالمية وبأطوار التاريخ الحديث، وليس يخفى على الأستاذ حليم أن دراسة الفلسفة ودراسة الاقتصاد تلتقيان الآن في كثير من المباحث الهامة، التي يتطلبها فهم أحوال الجماعات البشرية، بل فهم العقائد والمذاهب التي يسمونها «الأيديولوجية»، ويقدرون لها السيطرة على النظم والأفكار وعلى العلاقات بين الأمم والجماعات.
فالاقتصاد والفلسفة يلتقيان عند البحث في أسرار الثقة وعلاقات المعاملة.
والاقتصاد والفلسفة يلتقيان عند البحث في مبادئ التصنيع والتعمير، وارتباطها باختلاف المواقع والأمم في موارد الثروة الطبيعية وموارد الأرزاق على العموم.
والاقتصاد والفلسفة يلتقيان عند المقارنة بين المذاهب المادية والمذاهب المثالية، وعند المقارنة بين مجال التخطيط والتأميم ومجال العمل الفردي أو مجال الحرية الشخصية في السياسة والاجتماع.
ولا يلزم - أثناء التعليم الثانوي - أن يستقصى الطالب مذاهب الفلسفة ومذاهب الاقتصاد خلال سنة أو سنتين، ولكنه ينال منهما الكفاية في سلك هذا التعليم إذا عرف موضوع هذه المذاهب، وعرف مسالك البحث فيها وأسباب العناية بها ومراجع التوسع في تفصيلاتها لمن يريد المزيد على البرامج المدرسية.
وما يقال عن علم الاقتصاد بالنسبة إلى الفلسفة، يقال عن علم الأخلاق وعلم الأجناس البشرية وما إليها من الدراسات المشتركة بين علوم الثقافة، فلا يقال إن العناية بدراسة من هذه الدراسات تغض من شأن الفلسفة أو تصرف الطلاب الناشئين عنها، ولكنه في الواقع عنوان واحد يتفرع عليه عدة عناوين.
العالم منذ ثلاثين ألف سنة1
نشرت صفحنا اليوم أنهم عثروا أخيرا في أمريكا على عظمة فيل، حفرت عليها رسوم يدوية تثبت وجود أجناس بشرية كانت تقطن القارة الجديدة منذ ثلاثين ألف سنة، وآخر ما عثر عليه كان يثبت أول عمل بشري كشفوه هناك لا يرجع إلى أكثر من عشرة آلاف سنة.
والخبر مهم ينتفع به الباحثون في أبواب كثيرة من المعرفة الإنسانية، وأهم ما فيه بحث الرسوم التي حفرت على العظمة، وقدروا تاريخها بثلاثين ألف سنة، فإن علماء الحفريات يحاولون أن يفهموا حقيقة هذه الرسوم؛ ليستعينوا بها على الفصل في مسألة جوهرية من مسائل التاريخ الكبرى، ومنهم من يعتقد أن الرسوم التي وجدت على آثار تلك الأزمنة قد تكون من قبيل التعاويذ السحرية، كما تكون من قبيل علامات الكتابة، أو من قبيل نقوش الزينة التي لا معنى لها غير التحلية والتجميل، وكل فرض يحققونه يذهب بالباحثين مذهبا غير مذاهبهم المتشعبة في دلالة الفروض الأخرى.
أما القول بأن الكشف الأخير هو الأول من قبيله، فهو - على ما نرى - شيء لا يدل على كشف جديد في رواية هذه الأخبار العلمية: وهو أن رواة الأخبار الغربيين، ولو كانوا يعملون في الشركات العالمية، يخلطون بين أخبار آخر ساعة وأخبار القرون الأولى بين طوايا الأرض وطوايا الزمن المجهول؛ فإن الآثار التي أثبتت وجود الإنسان قبل ثلاثين ألف سنة في البلاد الأمريكية، قد مضى على كشفها نيف وثلاثون سنة، وأثارت هناك ضجة شغلت خبراء المتاحف وطبقات الأرض سنوات، ومنها آثار كشفت (سنة 1926) في بلدة فولسوم بالمكسيك الجديدة، دلت على وجود الإنسان الذي كان يستخدم أسلحة الظران قبل نهاية العصر الجليدي في ذلك الإقليم، واقترن هذا الكشف بكشوف أخرى، أثبتت قدم الحياة البشرية في العالم الذي يسمونه إلى اليوم العالم الجديد! وربما دلت على ما هو أغرب من ذلك، إذا صح الاستدلال بالأشباه وأشكال العظام على السلالة البشرية التي تخلفت من بقاياها، فإن التشابه كبير بين الأقوام البدائية في أستراليا، وبين الأقوام الأمريكيين قبل ثلاثمائة قرن على هذا التقدير. وليست هذه أول قرينة ترجح قدم الاتصال بين القارات الخمس فيما قبل التاريخ، فإن وجود الفيل نفسه يرجح انتقال الحيوانات الوحشية من وادي النيل إلى أقاليم آسيا وأفريقيا، ثم انتقالها منهما إلى الأمريكتين.
هذه إحدى عجائب الأخبار المدفونة التي تنبعث إلى عالم الحياة من هذه الأحافير والكشوف، وينبعث معها المجهول من حياة النوع الإنساني على ظهر الأرض تحت شمس النهار.
وقد كانت الأحافير نفسها أعجوبة مجهولة قبل أن يتعلم الناس سؤالها عن خبايا تاريخهم الدفين.
كان أرسطو يرجع بها إلى توليد الأبخرة والدواخين، وكان الخرافيون يحسبونها ضربة من ضربات المسخ والغضب الإلهي، وكان الفضل الأول في التعريف بحقيقتها العلمية للفيلسوف الشرقي «ابن سينا» الملقب بالشيخ الرئيس؛ لأنه هو أول من قرر أن المتحجرات التي تشبه الأحياء والنباتات كائنات عضوية جفت رطوباتها فبقيت على أشكالها، ولم يجد هذا الفيلسوف صعوبة قط في فهم حقيقة البقايا الحيوانية بين أطواء الأرض؛ لأنه لم يجعل عمر الإنسان على الأرض مرتهنا بعصر قريب.
والآن وقد خرجت الأحافير والمتحجرات من عداد الأعاجيب الخرافية، يرجع إليها الإنسان فيقرأ في صفحاتها الأولى حقائق الحياة على الأرض وتحت الأرض، ويتعلم منها كيف يصحح أباطيله وأساطيره التي درج عليها منذ القرون، بل يتعلم منها أنها تحتفظ له بأسرار قد تكشف له بعض الجهالات التي لا تزال تصاحبه إلى منتصف القرن العشرين.
شهوة الجدل؟1
... اسمحوا لنا أن نلجأ إليكم في مشكلة أثارها مؤلف قديم ... فقد نقل هذا المؤلف عن ابن الأنباري قاضي الخليفة المهدي على البصرة؛ كلمات قليلة في الاستدلال على يسر الشريعة الإسلامية واتساعها ... ثم أحال إلى مصدر آخر وجدنا فيه أن ابن الأنباري يقول: القول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب، وكل من سمى الزاني مؤمنا فقد أصاب، ومن سماه كافرا فقد أصاب ، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ... إلخ إلخ.
ألا يرى أستاذنا أن كلام ابن الأنباري هذا يظهر الشريعة الخالدة بمظهر الاضطراب وعدم الانسجام؟ ... إننا نترقب الجواب لمعرفة الصواب.
القاهرة، محمد منير الحسامي
قيل إن وضع السؤال نصف الجواب، ويصح أن يقال كذلك إن وضع المشكلة هو نصف المشكلة، أو هو المشكلة كلها في أكثر الأمور؛ بحيث لا يبقى أمامنا وجه للإشكال ولا للاستشكال، لولا التعسف والحذلقة في تقرير الآراء، أو في خلق الآراء لخلق أسباب الخلاف.
إن القائل بأن الزاني كافر يريد أن الزاني الذي يرتكب الزنى؛ لأنه ينكر تحريمه وينكر الشريعة التي تحرمه يكفر بالدين، فهو كافر لا مراء.
ولكنه - بدلا من أن يقول ذلك ليقول شيئا يتفق عليه جميع السامعين - يعمد إلى العبارة المبتورة الغامضة؛ مرضاة لشهوة الجدل وتهويلا على الناس بالحذلقة والدعوى، فيجني على الدين جناية أشد عليه من جناية العصاة.
وكذلك الخلاف على القدر والجبر لا محل له مع توضيح المراد منه؛ فنحن نؤمن بأن الله يخلق الإنسان، ونؤمن بأنه يخلق الحرية والتكليف، ونؤمن بأن الفرق قائم لا شك فيه بين الحرية المخلوقة والتسخير المخلوق، فكلاهما مخلوق، ولكن الحرية في النهاية غير التسخير.
فلو أننا قلنا ذلك للناس لقلنا كلاما مفهوما لا يعسر عليهم أن يتفقوا عليه، ولكن شهوة الجدل - قبحها الله - هي التي تلوي الألسنة عن الكلام المفهوم إلى الكلام الذي يطول الخلاف عليه في غير موجب للخلاف.
هذا مجمل رأينا في سؤال السيد الحسامي نكتفي به ولا نحب أن نعود إلى الخوض فيه، ولولا كثرة الأسئلة التي نقرؤها ونسمعها حول هذه الأمور، لما عرضنا لها بإجمال ولا بتفصيل، فربما نفعت هذه الكلمة الموجزة - ولو بعض النفع - في علاج تلك المشكلات التي لا إشكال فيها بطريقة ميسرة لمن يريدها؛ وهي طريقة العودة بالمشكلة إلى وضع السؤال في موضعه السليم.
أين قبر الإسكندر؟1
منذ عام، تقريبا، حول الخواجة ستليو - جرسون فندق سيسل - ميدان محطة الرمل إلى حفر ومطبات؛ بحثا عن قبر الإسكندر الأكبر الذي زعم أنه يوجد هناك ... ومنذ أسبوع قرأت في الصحف أن رجلا برأس التين زعم - هو الآخر - أن هناك بجوار القصر مغارات وسراديب تدل على أن قبر الإسكندر موجود فيها، فهل ترى أن الباحثين عن هذا القبر سيجدونه في مدينة الإسكندرية؟ أو هو قول من قبيل الحدس والتخمين؟
أحمد محمد المطيري
كامب شيزار، إسكندرية
الذي لا شك فيه أن هناك ضريحا فخما أقيم بالإسكندرية لدفن الإسكندر فيه، وأن هذا الضريح اشتهر باسم «السوما»
Soma ؛ أي الجسد، كان مقاما بين أسوار المدينة الملكية التي كانت تشتمل على قصور البطالسة ومدافن الأمراء والأميرات منهم ومن غيرهم، كما كانت تشتمل على بناء الجامعة المشهورة باسم الموزيوم.
ولم يبق في التاريخ دليل قاطع على أن رفات الإسكندر نقل إلى ضريحه بعد الفراغ من بنائه، اللهم إلا روايات هنا وهناك تحتمل الشك الكثير، ومنها أن يوليوس قيصر تاقت نفسه إلى رؤية وجه الفاتح العظيم، فهشم أنفه وهو يزحزح الغطاء عنه!
أما الشائع من الروايات التاريخية، فخلاصته أن الإسكندر حين وافاه أجله ببابل شغل قواده عن العناية بجسده، فتركوه مهملا بضعة أسابيع تعرض فيها للتلف، ثم استدعي المحنطون من مصر وبابل لوقف التعفن المحتوم، فبذلوا غاية جهدهم في حفظ الرفات وتطبيبه، ووضع التابوت بعد ذلك على مركبة تشبه بناء الهيكل، أعدها القادة للانتقال بها مع موكب الجنازة الطويل من العراق إلى دمشق إلى واحة آمون للصلاة عليه في معبد الإله الذي كان ينتسب إليه! ثم نقله إلى بلدته «إيجة» بمقدونيا ليدفن مع آبائه وأعضاء أسرته، ولكن بطليموس مؤسس دولة البطالسة أدرك خطر الدعوة السياسية التي يستفيدها بنقل الرفات إلى الإسكندرية، فأقنع الكهان بتسليمه إليه بعد إتمام المراسم الدينية، ثم نقله إلى مدينة منف ريثما يفرغ من بناء الضريح الضخم الذي يناسب الدفين فيه والدعوة الضافية التي تثار حواليه.
ومن هنا يبدأ الاضطراب والاختلاف حتى على اسم البطليموس الذي تم البناء في عهده، وقيل إنه استغرق أربعين سنة قبل أن يتهيأ لاستقبال دفينه.
ويظهر هذا الاختلاف من أقوال المؤرخين المتأخرين، وأسبقهم ليون الأفريقي صاحب التاريخ المنسوب إليه، فإنه يذكر أنه رأى بالإسكندرية بيتا صغيرا يشبه المعبد ويحيط بقبر يكرمه المسلمون، ويؤكدون - اعتمادا على كتابهم - أنه قبر إسكندر ذي القرنين
والمفهوم أن البيت الصغير الذي رآه هذا المؤرخ لم يكن هو ذلك الضريح الفخم الموصوف في أخبار الأقدمين، ولكنه على الأرجح يوافق وصف المقام المشهور باسم مقام النبي دنيال.
ويقول أدين بيفان صاحب كتاب «مصر في حكم البطالسة»: إن رواية بقاء الرفات أربعين سنة بمدافن مدينة منف مبالغ فيها، وإن الأرجح أن بطليموس الأول هو ناقل الرفات إلى ضريح الإسكندرية الكبير.
ولكن هذا الضريح كان مجهولا على عهد يوحنا فم الذهب، الذي كان يقول في سياق التهوين من مجد الجبابرة: «أين ضريح الإسكندر اليوم؟ خبروني!»
وسواء نقل رفات الإسكندر إلى الإسكندرية، أو بقي بمدينة منف أو غيرها، فالثابت المحقق أن له ضريحا بناه البطالسة في الإسكندرية، وأن هذا الضريح بني داخل المدينة الملكية التي كانت تشغل نحو ربع المدينة بجميع أحيائها المعمورة، وكانت قصورها إلى جانب البحر وأضرحتها إلى الجانب الغربي على الأرجح محافظة على التقاليد الفرعونية، وقد ثبت كذلك أن هذا الضريح لم يكن ظاهرا عند نهاية القرن الرابع للميلاد، وأنه تهدم أيام الثورة على الآثار الوثنية، وربما نهبت دفائنه النفيسة وبعثرت أجساده فلم يبق منها ما ينبئ عن أصحابها، وليس لمن يتتبعون بقاياها الآن من دليل غير التخمين.
التاريخ بقلم غانية1
قد تكون فشارة وقد تكون صادقة ...
هكذا قال الأستاذ «علي أمين» في فكرته أمس عن الممثلة اللعوب «زازا جابور»، التي تنضم اليوم إلى سلسلة المتجرات بأسرار المخادع، وتتحدث عن علاقاتها بمصطفى كمال «أتاتورك» في أخريات أيامه.
والأستاذ علي أمين مقتصد في التخمين؛ لأنه قسمه نصفين بين الصدق والفشر، ولا نظن نصيب الصدق فيه يزيد على العشر أو نصف العشر على أبعد احتمال، ويقارب الممثلة اللعوب في هذه الدرجة من الصدق جميع المتجرات والمتجرين بأسرار المخادع والمقاصير من أبناء العصر الحديث؛ لأنه العصر الذي علم هؤلاء رفع البرقع والغطاء، فلم يبق في وجوههم موضع للصدق ولا للحياء.
والمعروف من تراجم «أتاتورك» أنه أصيب وهو ملحق عسكري في البلقان بمرض سري خطير لم يعالجه حذرا من سوء السمعة، مع تعذر علاجه يومئذ في المدن البلقانية وقصور الطب عن علاجه الحاسم قبل العهد الأخير، ويعزى إلى هذا المرض عقم أتاتورك واضطراب حياته البيتية، ونوبات القلق العنيف التي عجلت بوفاته وهو في نحو السابعة والخمسين، ولم تكن أحواله العامة ولا الخاصة لتسمح له بساعة فراغ يستمع فيها إلى تلك المهذارة يوما بعد يوم في غير سأم ولا انقطاع!
وأكذب ما في أكاذيب هذه المؤرخة «الخصوصية»، أن غياب ساعة في يوم يدعو زوجها إلى السؤال وهو يعلم أنها تشتغل بالتمثيل على اللوحة البيضاء، فلا يخطر له أنها غابت بين دور الصور المتحركة إلا بعد التعب في السؤال والتفكير. «أغرق الزوج في الضحك وقال لها: «يا لك من كذابة صغيرة ... اعترفي بالحقيقة ... وقولي إنك كنت في السينما».»
ولو شاء الأستاذ علي أمين لقال لها دون حاجة إلى الإغراق في الضحك: يا لك من كذابة كبيرة ... اعترفي بالحقيقة ... وقولي إنك كنت تمثلين ...
قبر الإسكندر مرة أخرى1
يعقب الأستاذ عمر عبد العزيز عمر على يومياتنا على قبر الإسكندر بخطاب مطول، يشتمل على بحث قيم معزز بالأسانيد التاريخية، وينتهي منه إلى تأييد رأي الدكتور لطفي عبد الوهاب المتخصص لتاريخ الحضارة اليونانية الرومانية، وفحواه أن ضريح الإسكندر كان قريبا من كنيسة في مكان الكنيسة المرقسية الحالية في منطقة شارع النبي دانيال، ثم يضيف الأستاذ عمر عبد العزيز إلى ذلك أنه يعتقد «أن مكان الضريح ينحصر بين ثلاثة شوارع رئيسية؛ هي: شوارع شريف وسيزوستريس والنبي دانيال، وأن كل تنقيب يتعلق بهذا الموضوع يعتبر كسبا علميا ولو أدى إلى نتائج سلبية؛ لأنه يقلل احتمالات الخطأ ويحصر دائرة البحث ... ولا بد في يوم من الأيام أن يسفر عن كشف مكان الضريح.»
ورأينا أن المؤرخين المختصين مطالبون بمتابعة البحث في كل موضوع يتعلق بتاريخ الإسكندرية، وأن تقديرات الأستاذين تساعد على حصر الموقع، ولا تناقض المراجع المعتمدة فيما يثبت من تاريخ الضريح، ولكن البحث كله موقوف على ضبط حدود المدينة الملكية القديمة، وهي على التحقيق متصلة بالشاطئ محصنة من جانب البر، أو غير مطروقة ولا ممهدة السبيل لمن يغير عليها من هذا الجانب، ولا بد أن تكون المقابر في القسم الداخل إلى ناحية الغرب على الأرجح، قياسا على الأضرحة الفرعونية القديمة، لما هو معلوم من التزام البطالمة لشعائر الهياكل وتقاليد الأسر الملكية السابقة ... فإذا انحصرت القصور والمقابر في الحي الثاني، أو حي «الباء» كما يقول فيلون، فالأماكن التي يقدرها الأستاذان أقرب من غيرها إلى الغرض؛ لأنها تواجه الميناء من ناحية البحر وتقابله من ناحية الغرب إلى مسافة غير بعيدة من موقع القصور، ولكننا على هذا لا نخال أن ضريح الإسكندر بقيت منه بقية بعد تخريب جميع المعاهد الوثنية التي تشمله وتحيط به ولم تبق منها بقية قائمة، وليس في مباني النبي دانيال مشابهة للأبنية القديمة، ولا هي من الفخامة على الصفة التي يوصف بها ضريح الإسكندر، وليس يخطر على البال أنها تجديد للضريح بعد هدمه؛ لأن هذا التجديد يحدث في حالة واحدة؛ وهي شيوع الاعتقاد بقداسة قبر الإسكندر المقدوني بعد هدمه، ثم تسميته بعد ذلك باسم النبي دانيال، وليس شيء من ذلك بمذكور في تاريخ يعول عليه، ولا هو من التقديرات التي يرجحها الدليل.
وللإسكندر أسوة بصاحب الهرم الأكبر؛ لا الصرح المشيد حمى جثمان خوفو، ولا المدينة الواسعة حمت جثة بانيها، فلا أمان لأثر من الآثار من سخرية الأقدار وتقلب الليل والنهار.
تاريخ الموسيقى العربية1
من مؤلفات هذه السنة كتاب من سلسلة بليكان، وصل إلى القاهرة هذا الأسبوع، يبحث صاحباه في تاريخ الموسيقى، وهما من المتخصصين لهذه المباحث بدراستهما العلمية، ومعها دراسة الفن وتاريخه والمساهمة في أعمال المجامع العليا وتأليف الموسوعات.
ونحن نستغفر لهذين الباحثين أصحابنا الفطاحل من علماء الشرق الغيورين، الذين غضبوا علينا - كما سيغضبون عليهما - لإثبات فضل الحضارة العربية القديم على حضارات الكلدانيين والعبرانيين واليونانيين، ولكننا نرحب بجريمة الشريكين الجديدين؛ لأنها ستخفف عنا كثيرا من حمل جريمتنا المنكرة، وبخاصة حين يقولان في مفتتح كلامهما عن موسيقى البلاد العربية، التي لا يقطعان برأي في أصول سكانها الأقدمين:
إن شبه الجزيرة العربية تقع بين وادي النيل ووادي النهرين، وكانت مركز حضارة ترجع إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، ونعلم من حفائر أقاليمها الجنوبية أنها كانت ذات مدن هامة في بواكير الألف السابقة للميلاد.
ثم يقولان:
إن بلاد العرب - وهي مركز تجارة كبيرة في العالم القديم - كانت على اتصال وثيق بالأمم التي تحيط بها، كالعراق وإسرائيل واليونان، وقد ساعد النفوذ العربي على تكوين ثقافات هذه الأمم، واقتبس العرب من جانبهم كثيرا منها، ولا سيما العراق ...
وأدهى من ذلك ...
نعم أدهى من ذلك أن المؤلفين يرجحان عند غموض كل أصل من أصول البدع الموسيقية المستحدثة أنها منقولة - كالعادة - من ينابيع الشرق الحديث!
ولم نكد نفرغ من قراءة هذا الكتاب، حتى روت لنا أخبار اليوم - هذا الصباح - خبرا بعنوان «ثلاثة قرود» تقول فيه إن هذه القرود «بدأت أول تجربة من نوعها يمكن أن تؤدي إلى انقلاب في عالم الصناعة، فقد تسلمت أعمالها أمس في ورشة فريدمان لإنتاج الأثاث بعد أن ثبتت كفاءتها للعمل، وكان المدير الذي نجح في تدريبها على العمل يفكر في استخدام ثلاثة وعشرين قردا أخرى لتشغيل الورشة تحت ملاحظة رجلين فقط ...»
نقول - وقلبنا عند الدكتور مندور - إننا آسفون لأننا قد أثبتنا فضل قرود الشرق على هذه القرود الأمريكية قبل نحو عشرين سنة، وقلنا (صفحة 151) من كتاب هذه الشجرة:
في الهند تكثر القردة ويكثر من قديم الزمن من يستغلون ذكاءها وقدرتها على التعلم؛ فيعلمونها بعض الحيل المضحكة وبعض الحركات البهلوانية، وخطر لهم ... أن يستغلوا هذه القدرة فيما هو أنفع وأجدى، وأن يجربوا تدريب القردة على تحريك أنوال النسيج، وهو أسهل وأبسط من كثير من الحركات البهلوانية المعقدة، التي تحذقها ولا تخطئ فيها بعد المرانة عليها، ففعلوا ونجحت القردة في إدارة مصنع صغير يشتمل على عدة أنوال.
فماذا نقول في هذه القردة الخبيثة؟
لو كان هذا الخبر ابن يومه، لجاز أن نكتمه لكيلا يقال إننا نحابي الشرق في ذكر السوابق والمآثر والتقاليد، ولكننا لا نملك الآن كتمان خبر قد أفلت من القلم - وا أسفاه - قبل نحو عشرين سنة، فكل ما بقي لنا من فنون التشكيك العلمي - الأصلي - أن نتهم قردة الهند في تطبيق الأساليب «المنهجية» لصناعة النسيج، وأن الأساليب «المنهجية» أربعة وعشرين قيراطا إنما هي من تحقيقات هذه القردة الحديثة من نوابغ تكساس!
فماذا يقول مندور وغندور على داير ما يدور؟
قرود من الهند سبقت بهذه الألاعيب قبل عشرين سنة، وأستاذان من الغرب يرددان تلك النغمات قبل نهاية هذه السنة، ولا بد في الأمر من سر مستور، وخبر مشكوك فيه، ولو أنه قديم منشور.
هل كان قدماء المصريين عربا؟1
سألكم سائل عما إذا كانت القومية العربية سابقة لظهور الإسلام، وأن قدماء المصريين كانوا عربا كما ذهب بعض الأساتذة الثقات، وقد أجبتم سيادتكم على النصف الأول من السؤال، كما ورد في إذاعة «كفاح ونجاح»، ولم نحظ بردكم على النصف الثاني وهو علاقة قدماء المصريين والعروبة. فهلا وضحتم لنا إذن هذا الأمر في يومياتكم، ولكم خالص الشكر وأطيب التمنيات.
محمد محمد مرشدي بركات
إذا رجعنا إلى المخلفات الباقية من عصور قبل التاريخ، وهي العصور المعروفة بعصر نقادة الأول وعصر نقادة الثاني وعصر البداري؛ أمكن أن نستخلص الترجيحات التالية، وهي:
أولا:
أن حضارة عصر نقادة الأول كانت سامية أفريقية، وأن المدن في ذلك العصر لم تكن تستقر على شاطئ مجرى النيل؛ لأن النهر لم يتخذ إلى ذلك العصر مجرى ثابتا يعود إليه فيضانا بعد فيضان، بل كانت الفيضانات تغمر المكان في سنة وتنحسر عنه في سنة أخرى، فيضطر السكان إلى الابتعاد عن الشاطئ إلى جانب الصحراء، مما هو أقرب وأوفق لمعيشة البداوة قبل انتظام الزراعة السنوية، ويظهر من مقارنة الأدوات الحجرية والمعدنية في هذا العصر أن التشابه قريب بينها وبين أمثالها من الأدوات عند الساميين الذين تتابعوا على شرق القارة الأفريقية، وأن العلاقة ضعيفة بينهم وبين منافذ البحر الأبيض وسينا.
ثانيا:
أن حضارة عصر نقادة الثاني تشابه حضارات القارة الآسيوية الغربية، ويرجح ذلك كثرة الفضة بين مخلفات هذه الحضارة، وهي معدن لا يكثر بوادي النيل.
ثالثا:
أن حضارة الدلتا القديمة لا تزال فرضا لا يقوم عليه دليل ، وأن تشعب مجاري الفيضان إلى شمال الوادي في عصور ما قبل التاريخ كان حائلا طبيعيا دون قيام المدن وانتظام مواسم الزراعة.
فالآثار القديمة ترجح امتزاج السلالة السامية والأفريقية من طريق وادي الحمامات والبحر الأحمر، ثم من طريق الشمال والبحر الأحمر أيضا؛ لأن وفود الطارئين من ناحية البحر الأبيض المتوسط لم يقم عليه دليل قبل عصر نقادة الثاني، ويستبعد القائمون على الحفريات وصول الطارئين من هذه الناحية؛ لما كانت عليه حالة الإقليم البحرية عند الدلتا من صعوبة الاستقرار والانتفاع بموارد الري والزراعة.
أما بعد العصور التاريخية، فالمفهوم من حروف اللغة الغالبة على كلام المتأخرين أنها لا تشتمل على حروف كثيرة تميزت بها اللغات السامية الراقية؛ إما لأنها سقطت في الاستعمال الدارج، أو لأنها ترجع إلى لغات غير سامية.
ويقول الدكتور أحمد بدوي، العالم الثقة في الدراسات المصرية القديمة، أن قواعد الاشتقاق وتركيب الفعل تتشابه في اللغتين العربية والمصرية القديمة، وهي قرينة تدل على اتساع نطاق اللغات السامية في أصولها بين وادي النيل وآسيا الغربية.
ومن المستبعد عقلا على أية حال أن تتفتح الطرق بين هذه الأقاليم من أقدم الأزمنة، ثم يمتنع الاتصال بينها ورودا وصدورا قبل عصور التاريخ، وبخاصة حين نذكر أن أقاليم الدلتا التي تلي شواطئ البحر الأبيض لم تكن بالحالة التي تيسر الورود والصدور بين وادي النيل وما وراء تلك الشواطئ من الأقطار الشمالية.
فالشواهد الأثرية والعقلية ترجح اتصال الطرق بين الجوانب الأفريقية الشرقية وجوانب آسيا الغربية قبل اتصالها بالجوانب الأوربية. وأما ما حدث بعد التاريخ، فله مثال مما يحدث في العصور الحديثة من علاقات وادي النيل بأقطار العالم المعمور.
نبوءات كارل ماركس1
ولكني أكتب لك هذا الخطاب لأعرف رأيك في بعض المسائل، ومنها ما قاله أحدهم في المدرسة من أن العقاد قال في الأربعينيات إن مذهب كارل ماركس سينهدم في ظرف عشر سنوات، فهل صحيح ما رواه صاحبنا هذا؟ وما هو رأيك الآن في هذه المسألة إن صح ما رواه؟
عبد الله إبراهيم عبد الله
المدرسة الثانوية
طوكر سودان
ونود من الطالب الأديب أن يطلب الجواب الشافي الوافي من صاحبه راوي الخبر بعد قراءة هذه السطور: إن مذهب كارل ماركس يتلخص في النبوءات التالية: (1)
إلغاء ملكية الأرض ومرافق الثروة الخاصة. (2)
إلغاء القيمة الفائضة فيما يزيد على الأجور. (3)
إلغاء الفوارق بين الجماعات.
هذه نبوءات كارل ماركس بفصها ونصها وقضها وقضيضها.
فإذا كان تطبيق الدعوة الماركسية قد ألغى الملكية كبيرها وصغيرها، وأبطل الفوارق بين الأوراق والكفايات، ومنع استخدام القيمة الفائضة في غير الأجور؛ فقد كذبت نبوءتنا وعلينا وعلى جميع الكاذبين لعنة الله!
وإن لم يكن في العالم بلد تقررت فيه نبوءات كارل ماركس بنصها وفصها وقضها وقضيضها؛ فقد صحت نبوءتنا والحمد الله، ولمن شاء أن يستأثر بما شاء من لعنة الله.
ويحق للطالب الأديب بعد قراءة هذه السطور أن يعود إلى صاحبه ليسأله عن نبوءات معلمه الكبير، جزاه الله أحسن ما يستحق من جزاء.
وواحدة من نبوءاته المتكررة المتقررة، أن دعوته تتحقق أولا في البلاد الصناعية المتقدمة، التي توطدت فيها أركان الصناعة الكبرى.
وواحدة أخرى من نبوءاته المتكررة المتقررة، أن قيام الصناعة الكبرى يحصر الثروة بين أيدي أفراد معدودين على الأصابع، ويجرد العامل والزارع من كل شيء غير السلاسل والأغلال.
وواحدة ثالثة من نبوءاته المتكررة المتقررة، أن البلاد الزراعية لا تصلح لقيام الثورات الاجتماعية.
كذلك قال جزاه الله أحسن ما يستحق من جزاء.
وكل ما يحدث في العالم يدل على ابتعاد هذه النبوءات عن الواقع، ولا يدل على اقترابها - كلها أو بعضها - إلى التحقيق.
فالبلاد الزراعية حدثت فيها الثورات الاجتماعية التي لم تحدث في بلاد الصناعة الكبرى.
والصناعة الكبرى تجرد أصحاب الملايين من قناطيرهم المقنطرة، كما تجردهم من الصولة والسيطرة، وتخضعهم لذوي الخبرة والمقدرة، وذوي الأيدي العاملة والرءوس المدبرة!
وهذه الصناعة الكبرى بعينها تحطم سلاسل الاحتكار، وتتوزع بالأسهم والأرباح بين الكبار والصغار، وبين صعاليك الفاقة وملوك الجمع والادخار!
وأيا كان ما قال وقلنا، فحقنا في الأنباء وحقه سواء، والسماح لنا بأخطائنا كالسماح له بتلك الأخطاء؛ فلا المعلم كارل يحتكر النبوءة والخطأ، ولا نحن - بحمد الله - نحتكر العصمة في الأقوال والآراء.
وللطالب الأديب، أن يسأل بعد ذلك أو يجيب.
الغد «حاشية»: هذه السنة الجديدة - على ما نرى - قد فتحت أبواب الغد على جميع المصاريع؛ فلا نكاد نفتح بريد اليوميات على غير سؤال عن الغد، واستطلاع لما يرجى له وما نرجوه.
فإذا كنا قد استطعنا أن نخرج من عبر الماضي بلمحة إلى المستقبل، فهذه هي اللمحة التي نلتمس بها الطريق تحت غمام الحوادث وبين ظلمات المجهول، نحن نعود إلى الماضي كلما انتهينا إلى طبقة تتحكم في سائر الطبقات، أو ونحن نتقدم إلى المستقبل كلما اتسع المجال للطبقات جميعا.
وتلك هي عبرة الحرب العالمية الأولى كما نظمناها في تشييع غليوم.
غليوم والدنيا بلاء الرجال
أعجب من أمسك هذا المآل
الناس لا يملكهم واحد
مهما علا في ملكه واستطال
وتلك هي عبرة الماضي والحاضر، وعبرة الحرب والثورة، وعبرة البدء والمصير، إن كان للتاريخ لسان مبين.
وإلا فهذا ما فهمناه من إشارة بعد إشارة، ومن صيحة بعد صيحة، ومن لسان يقول ويعيد ولا نفهمه إلا بترجمان.
الكشف الصوفي1
جاء في مقال الأستاذ جلال العشري، الذي نشر بالعدد الأخير من مجلة الشهر، أن هناك حالات من قبيل الكشف الصوفي تعرض لكم، فهل صحيح ما ذهب إليه؟ وهل هي مما عرض للإمام الغزالي وقال فيه:
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
سعيد حنفي
معيد بقسم اللغة العربية
جامعة القاهرة ... هل صحيح ما كتب عن الشاعر ابن الرومي من أنه كان معروفا بالشؤم؟ وهل توجد علاقة بين دخول سيادتكم السجن وبين ما كتبتم عن ابن الرومي؟
عبد الرزاق فهمي المهداوي
مدرسة العروة الوثقى الثانوية
أقول لحضرات أصحاب هذه الرسائل، وغيرها من الرسائل التي لم أذكرها اليوم ، إنها وردت إلي في بريد واحد مع رسائل اليوميات، وتعمدت أن أجمعها كلها لكي أبرز للعيان حقيقة من حقائق المصادفات، التي لا تستغرب في الحياة الواقعية، ولكنها قد تستغرب إذا التفتنا إليها مقرونة بموضوع معين نهتم به في وقت من الأوقات.
فهذه الأسئلة كلها تدور على الكشف والتسبيح واستطلاع الأمور البعيدة، وما إليها من الأمور المتناسبة، التي يمكن أن نلتفت إليها التفاتا خاصا فنستغربها، ولا غرابة فيها عند المقارنة بينها وبين أمثالها.
وبعد هذا التمهيد نقول للأستاذ المعيد أن الحالات التي سماها الأستاذ العشري بحالات الكشف الصوفي، هي تجارب واقعة، لا ينقضي أسبوع دون أن نحصى لها مثلا أو عدة أمثلة، ولكننا نفضل أن نسميها بتجارب «التلقي» أو «التلباثي»، ونعني بها حالات الشعور على البعد، ولا نرى مانعا من وقوعها ومطابقتها للتجارب المقررة في عالم الأحياء جميعا، وأولها الإنسان.
من الثابت «علميا» أن بعض الأحياء تتلقى رسائل محسوسة على بعد كبير في البحر والهواء، وأنها تبعث بأمثال هذه الرسائل إلى أبناء جنسها وتنتظر جوابها، وأن المخترعين المشتغلين بالردار يستفيدون من مراقبة هذه الرسائل، ويجتهدون في محاكاتها لتوجيه الغواصات وطائرات الاستطلاع.
ومن الثابت «علميا» أن أضعف الأصوات ينتقل بأجهزة الإذاعة من أبعد المسافات، متى وافقته أسباب التلقي والإرسال.
وعندنا أن أجهزة الدماغ الإنساني لا يستغرب منها ما نحسبه أمرا مألوفا في الأجهزة الحية والأجهزة الآلية، وأن أسباب الإرسال والتلقي قد تتوافر أحيانا فنشعر بما حولنا من الرسائل النفسية والفكرية على أبعد المسافات.
وإنني لأفضل أن أسمي هذه الرسائل ب «تجارب التلقي»؛ لأنني أستطيع تعليلها بأمثالها من التجارب المقررة، ولست أمنع القول «بالكشف الصوفي» إلا لأنه موكول إلى العوامل التي لا تجري على قاعدة نعللها، وقد يكون لها تعليل مقبول يعرفه أصحابه ولا ندعيه.
أما الروايات المتواترة عن شؤم ابن الرومي، فنحن نعلم عنها علم اليقين ما يشبه التجارب العلمية، وما من شك - مثلا - في أننا تعاقدنا على طبع ترجمته مع الأستاذ سيد كامل مدير مطبعة مصر، فدخلنا السجن، ومات الأستاذ سيد كامل قبل أن نفرغ من طبع الملازم الأولى من الكتاب، واسمه «ابن الرومي: حياته من شعره».
إلا أن الكتاب في عرف المؤلفين والناشرين يعتبر كتابا «سعيدا» جدا؛ لأنه طبع خمس مرات.
ولو أننا عنينا بتحقيق الموافقات بين حوادث المصابين خبط عشواء، لما تعذر علينا أن نحصي من أمثال نوادر ابن الرومي عشرات ومئات، نقارن بينها فلا نرى لابن الرومي اختصاصا بين خلق الله بذلك الشؤم المعلوم.
ولنجمع مثلا عشرين إنسانا أصيبوا بالخسائر في المال أو في الجسم أو في الأقربين والأعزاء، فإننا نستطيع أن نجد بينهم مشابهات كثيرة قبل وقوع المصاب؛ كالذهاب إلى مكان معين، أو السكن في حي معلوم، أو اتخاذ كساء من هذا الزي أو ذاك، أو غير هذه المشابهات التي لم نلتفت إليها، ولكننا نستغربها إذا التفتنا إلى بعضها وراقبنا مواضع الاتفاق فيها، وبهذه الوسيلة يصح أن تعتبر الغراب رسولا من رسل السعادة، وبشيرا باليمن والبركة لأناس كثيرين؛ لأن نعيب الغراب يسمعه مئات تصادفهم السعادة بعد استماعهم إليه.
الشكوكية والوجودية1
... نسمع التساؤل كثيرا عن الوجودية واللاأدرية، فهل نطمع أن نجد لدى سيادتكم توضيحا لمذهب اللاأدرية، الذي يتزعمه الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل؟ وهل اللاأدريون يؤمنون بالله؟ وما هو وجه الاختلاف بين اللاأدرية والوجودية؟
أبو الفضل فهمي حسين
الدقي، الجيزة
إن اللاأدرية - أو الشكوكية - مذهب يقول بأن المعرفة الإنسانية قاصرة عن إدراك الحقائق على وجه اليقين، ولا سيما حقائق الوجود الأبدية.
وبرتراند رسل يؤمن بإمكان المعرفة العلمية على أنها اصطلاح مفهوم كما تفهم المصطلحات المتفق عليها، ولكن اليقين من حقائق الأشياء في ذواتها غير مستطاع، ومذهبه في المسألة الإلهية أن إقامة البرهان عليها بالظواهر الطبيعية ليست من الحجج الملزمة، ولا يزال القول فيها محلا للخلاف.
ولا علاقة بين اللاأدرية والوجودية؛ لأن بعض الفلاسفة الوجوديين مؤمنون مصدقون بالدين، ومنهم من يتبع الدين على مذهب معروف ينتمي إليه، وبعض هؤلاء الفلاسفة يعتبرون أن الوجود الإلهي هو أصل الوجود كله، ومنه وجود الإنسان. وليس القول بالوجودية رأيا في المسألة الإلهية أو مسألة خلق الكون والحياة، ولكنه رأي في حقيقة وجود الفرد بالنسبة للنوع الإنساني كله. وخلاصة هذا الرأي أن الفرد هو الموجود حقا بخلاف النوع الإنساني الذي لا وجود له غير وجود أفراده المتفرقين؛ ولهذا يقولون بحرية الإنسان وينكرون أن تفنى هذه الحرية في غمار الجماعات. وقد يكون الوجودي حازما بالمعرفة وبالواجب وبالغاية التي ينوط بها حياته، خلافا لجماعة الشكوكيين الذين لا يجزمون بحقيقة شيء على الإطلاق، وإن قالوا بجواز المعرفة الحسية في حدود العادات المصطلح عليها، ثم يقفون عند هذه الحدود ولا يتقدمون إلى الإثبات أو الإنكار.
الذاتية والحرية1
آثرت أن أكتب لكم هذا الخطاب - إلى أسوان - لأنني أقوم بكتابة بحث جامعي عن اتجاهات الفكر العربي المعاصر، وقد قرأت في العددين الأخيرين من مجلة الشهر مقالا لواحد من تلاميذكم، هو الأستاذ جلال العشري، ذهب فيه إلى أن الذاتية والحرية هما القيمتان الرئيسيتان في حياتكم الفلسفية، فهل يعلم من ذلك أنك وجودي أو أن هناك جانبا وجوديا في تفكيركم الفلسفي؟ أكون شاكرا لو أنك تفضلت بالجواب.
مجاهد عبد الله
كلية الآداب، جامعة القاهرة
إذا كان المقصود بالذاتية والحرية أنني أدين بكرامة «الشخصية الإنسانية» في وجه كل مذهب مخالف وكل عقيدة مباينة وكل رأي لا يؤمن بهذه الكرامة؛ فالأستاذ جلال العشري قد أصاب في التلخيص، وقال حقا حين قال إن أفضل القيم الفلسفية عندي هي قيمة الذاتية وقيمة الحرية.
ولمن شاء أن يحسب الإيمان بذلك موافقا للإيمان بجوهر الوجودية؛ لأن الوجودية - على تعدد مذاهبها - تقوم على رعاية حق الفرد وحمايته من طغيان الجماعات على فكره وضميره.
ولكن التشابه بين هذا التقويم العقلي الأخلاقي وبين جوهر الوجودية لا يسلكني في عداد القائلين بمذاهب الوجودية المختلفة، وهي تتفاوت بين أقصى الإنكار المادي وأقصى الإيمان الروحي، كما يعلم الطالب الأديب.
وليس من طبيعة تفكيري واعتقادي أن أدين بمذهب فلسفي محدود أو أقتدي بشرعة فيلسوف واحد؛ لأنني آمنت بأن الحياة الإنسانية أوسع نطاقا من أن تنحصر في وجهة واحدة، ولا سيما الوجهة التي تطالع الحقائق المطلقة، كيفما اتفق التجاوب بينها وبين إدراك الإنسان.
وعندي أن التشيع لمذهب من المذاهب الفلسفية الأخلاقية يناقض الوجودية الحقة في أساسها؛ لأن أساس الوجودية عند كل مفكر من مفكريها الكبار أن يستقل الفرد بتفكيره وشعوره وعمله عن كل قيد من قيود المذاهب التقليدية، فليس «وجوديا» حقا ذلك الذي يقول إنه وجودي على مذهب كيركجارد، أو على مذهب هيدجر، أو على مذهب كارل بارت، أو على مذهب جاسبر، أو على مذهب مارسيل، أو على مذهب سارتر، أو على مذهب واحد من عشرات الوجوديين؛ لأن تقليده في حياته لحياة إنسان آخر يلغي حياته المستقلة، ويجعله تابعا من توابع التقليد الذي تثور الوجودية عليه، وينبغي أن يكون في العالم مذاهب وجودية على قدر عدد الأفراد الوجوديين الذين يعرفون اسم هذا المذهب، أو لا يعرفونه ولكنهم يحيون حياة الاستقلال بالفكر والضمير، و«يعتنقون» الوجودية وهم لا يشعرون!
وإذا سألني الطالب الأديب: لماذا لا تسمي نفسك وجوديا وأنت تؤمن بالكرامة الشخصية وتوافق الوجودية في جوهرها؟ فجوابي لهذا السؤال أنني لا أعرف فاصلا حاسما بين الفرد والنوع؛ لأنني أعلم أن قوام الفرد كله ممثل لنوعه في تكوين جسده وتكوين وعيه الباطن ووعيه المحسوس، فليس من شروط «الشخصية المستقلة» عندي أن يكون استقلالها انفصالا عما يوجبه النوع إلى الفكر والضمير، وكل ما هنالك أن وحي النوع لا يتفق في فردين، ولا يحسن بالفرد أن يكون عالة على غيره في الخلائق النوعية.
الرأي والنظر في حق الحكمة الإلهية1
... وبعد فقد طالعتنا كاتبة بمقال تنقد به كلمة صدرت منكم في الحكم على المرأة، وهذه الكلمة هي: إن رأيي رأي الطبيعة ورأي الخالق إلخ إلخ. وقالت: إنه لا يصح أن ينسب الرأي إلى الخالق ... ولكننا نعتقد أن ما قلتموه له تعليله المقنع عندكم ... ونطمع في تفسير هذا التعليل.
محمد عبد الجواد أبو سناق
طالب بالمعهد الديني بالمنيا
إن السيدة التي يسألنا الطالب النجيب عن تعليقها تستند على قول رجل مبشر - أعجمي - لتتخذ منه حجة في اللغة والدين، وكلاهما بمنزلة واحدة من العلم بما يكتبان فيه .
والرأي هو مصدر «رأى» سواء بمعنى البصر وبمعنى الحكم والتقدير، وقد جاء في القرآن الكريم أن الله تعالى «يرى» بكل معنى من معاني هذه الكلمة:
يرونهم مثليهم رأي العين .
ألم يعلم بأن الله يرى .
قد نرى تقلب وجهك في السماء .
إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا .
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون .
والمعلوم لكل قارئ يفهم معنى القرآن الكريم أن كل كلمة تنسب إلى الخالق لها تفسير غير تفسيرها بالنسبة إلى المخلوق، وكذلك نفهم الوجه والعين واليد، ونفهم المكر حين ينسب إلى الله في قوله تعالى:
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
أو قوله تعالى:
ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون .
فليس بالممتنع إذن أن ينسب الرأي إلى الله بمعنى البصر أو بمعنى الحكم والتقدير، أو بكل معنى من المعاني نفهمه على الوجه الذي يناسب مقام الخالق، وإن ورد في عبارة واحدة منسوبا إلى الله وإلى الرسل وإلى سائر خلقه من الناس، كما جاء في «رأى» الأعمال منسوبة إلى الله وإلى الرسول وإلى المؤمنين، وليسوا في الرأي - على أي معنى من المعاني - بسواء.
ولولا أن السيدة التي يشير إليها الطالب النجيب مسلطة على نفسها، لما انساقت مرة بعد مرة إلى هذه اللجاجة التي علم من يقرءونها حقيقة ما تنطوي عليه، ولم يبق أحد - ولا إحدى! - يفهم أنها مناقشة برئية تتحرى مواقع الصواب والموافقة كما تتحرى مواقع الخطأ والانتقاد، وأنها لتسيء إلى نفسها وإلى المرأة فيما تزعمه من الدفاع عنها، فقد كادت - وهي تثور على الحجاب - أن تقنع الناس بأنها في حاجة إلى برقع لعقلها يستر ما لا يحسن كشفه من الأخطاء وعيوب التفكير، وقد كانت المشكلة كلها من قبل في براقع الوجوه!
خلق الإنسان1
أرسل إلينا الطالب النجيب هانئ مبارك بالجامعة الأمريكية سؤالا عن خلق الإنسان كما تصوره أصحاب مذهب النشوء والارتقاء، وسؤالا عن صورة النبي - عليه السلام - ورأي بعض المؤرخين الغربيين في الدعوة الإسلامية، وكل من هذه الأسئلة موضوع حسن من موضوعات أحاديث العيد.
قال السيد مبارك: «هل كان دارون على حق حين وضع نظريته عن أصل الإنسان؟ وهل معنى الانتخاب الطبيعي عنده أن الحياة خلقت «تلقائيا»؟ وهل يوافق هذا الرأي قوله تعالى، ما معناه أنه خلق الإنسان وسواه وعدله؟»
وقال السيد مبارك أيضا: إن بعض المؤرخين الإنجليز ذكر في كتاب سماه باسمه ولا داعي لنشره، أن محمدا تخيل أنه رسول وأنه لم يأت بجديد بعد المسيح، ونشر له صورة مع الكلام عنه، فما رأيكم في الصورة وفي هذا الكلام؟
وقد تلقينا مع هذه الرسالة رسالتين عن مذهب دارون، وسمعنا السؤال عن هذا المذهب كثيرا في الأيام الأخيرة، ولعله تجدد بعد السكوت عنه طويلا على أثر الاحتفال بذكرى كتاب دارون عن أصل الأنواع وموالاة الكتابة عنه في السنتين الأخيرتين إلى هذه الأيام.
والذي نود أن يعلمه الطالب المثقف في هذا العصر أن مذهب التطور لا ينفي وجود الخالق، وأن «والاس» شريك دارون في نشر هذا المذهب يؤمن بالله ويؤمن بالمعجزات، ويرى أن ظواهر الانتخاب الطبيعي لا تنطبق على خلق الإنسان، وكل ما هنالك من الاختلاف بين القائلين بالانتخاب الطبيعي والقائلين بخلق كل نوع من أنواع الحيوان والنبات خلقا مستقلا، فإنما هو اختلاف في كيفية الخلق لا في وقوع الخلق نفسه، وقد وجد من النشوئيين من يؤمن بالله ويقول بالانتخاب الطبيعي، ويعتبره دليلا من أدلة القدرة الإلهية على الإبداع وتدبير أسباب الحياة.
أما صورة النبي - عليه السلام - فملاحظتنا عليها أن القوم لا يتحرجون من تصوير الأنبياء والرسل أو القديسين والشهداء، وأنهم صوروا السيد المسيح والحواريين على أشكال متعددة، فليس في الأمر سوء «أدب» بالنسبة إلى النبي - عليه السلام - كما يفهمون الأدب في حق الأنبياء.
ولكن الخطأ في الصورة وفي الكلام إنما هو خطأ فن وخطأ تاريخ.
فلم يصدق المصور - فنيا - حين تمثل النبي محمدا - صلوات الله عليه - كأنه كان يتزيا بزي علماء الترك ومشايخ الإسلام بالآستانة، ويلبس العمامة والجبة على القفطان العثماني المعروف!
ولم يصدق المؤرخ تاريخه حين قال إن نبي الإسلام لم يأت بجديد بعد الدعوة المسيحية، مع ما هو ظاهر من المقابلة بين العقيدتين في الله وفي وظيفة النبوة وفي تبعة الإنسان.
وليس لنا أن نطالب المؤرخ غير المسلم بأن يكرر ما نقوله عن رسالة الإسلام، ولكن المؤرخ «غير المسلم » مطالب قبل غيره بإدراك مواضع المقابلة بين ما يعتقده هو ويعتقده المخالفون له في الدين، وإلا كان خلافه بغير سند من التاريخ والعلم، فضلا عن العقيدة والدين.
صفات الله ... إن لم يكن للتعليق على الموضوع أصلا فنرجو أن تزيدونا إيضاحا عما ينسب إلى الله من الصفات مشكورين.
عبد الحليم البكتوشي
بالشركة العربية، السيوف إسكندرية
فهمنا من كلام الست بنت الشاطئ أنها تدرس تفسير القرآن لطلبة المعاهد العالية، فإن لم يكن بيانكم لمعاني القرآن اهتماما بالست المذكورة، فمن الواجب أن يكون اهتماما بأولئك الطلبة ... ولا أخفي عنكم أن نسبة الوجه واليد إلى الله غير نسبة الرأي والمكر؛ لأن تفسيرها - مجازا - قريب إلى الذهن، فهل لنا أن ننتظر منكم بيانا أوفى في موضوع الألفاظ التي تذكر في وصف الخالق ويجوز في الوقت نفسه أن تذكر في وصف المخلوقات؟
شعبان إبراهيم، أسيوط
لا نرى رأي السيد «شعبان إبراهيم» في التفرقة بين نسبة الوجه واليد إلى الله ونسبة الرأي والمكر إليه سبحانه؛ لأن المعنى في جميع هذه الكلمات ينتهي إلى تنزيه الخالق عن مشابهة المخلوق في كل صفة تنسب إلى الله وإلى العباد، فلا مشابهة بين رأي الإله ورأي الرسول ورأي المؤمنين ورأي غير المؤمنين، ولكن الرأي قد ورد في القرآن الكريم منسوبا إلى الله وإلى عباده في قوله تعالى:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون
وورد كذلك منسوبا إلى الله وإلى المشركين في قوله تعالى
إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا
ولا مشابهة بين حقيقة الرأي في جميع هذه الحالات.
وما دامت المسألة - على «رأي» صاحبي الرسالتين - مسألة إنقاذ لعقول الطلبة أو القراء، فنحن نسوق إليهم مثلا تمتنع فيه كل مماراة، ويتضح منه كل الوضوح أن الكلمة متى نسبت إلى الله وجب أن يكون لها معنى غير معناها المنسوب إلى المخلوقات .
فالله جل شأنه يقول في كتابه المبين:
قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .
وفي الكتاب المبين أيضا قوله تعالى:
فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا .
نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون .
فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم .
وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا .
فهذه صفة واحدة هي صفة النسيان ينفيها القرآن الكريم عن الخالق جل شأنه؛ لأنه لا يضل ولا ينسى، ولكنها تذكر في مواضع أخرى من الكتاب، فيجب علينا فهمها بالمعنى الذي يخالف صفة النسيان حين تعرض للعباد، وهو نسيان المنافقين بمعنى الإهمال والهوان وفوات الرحمة والرضوان.
ولعل «الست» مفسرة القرآن لم تنس هذا التفسير وهي تستمد العلم الغزير من الأب «لامنس» وإخوانه وشركائه الأقطاب العارفين باللغة والكتاب.
شم النسيم
أول عيد من أعياد الأمم عاش أمس ويعيش غدا، منذ عرفه التاريخ إلى هذا العام.
ربما سبقته أعياد عريقة في القدم يعرفها التاريخ أو لا تعرف الآن بين أبنائها ولا الغرباء عنها.
ولكن «شم النسيم» عيد قديم متصل الماضي بالحاضر منذ عرفه التاريخ بوادي النيل، قبل دعوة إبراهيم، ودعوة موسى، ودعوة عيسى، ودعوة محمد - عليهم صلوات الله أجمعين.
عيد لبني الإنسان لا لأبناء دين من الأديان ولا وطن من الأوطان؛ لأنه عيد الربيع وعيد الثمرات والأرزاق، فكل محتفل بالربيع في أوانه فهو محتفل بصورة من صور شم النسيم، وإن ظهرت كل صورة باسم غير هذا الاسم، وظهر «شم النسيم» بنحو عشرة أسماء على أدواره المتعاقبة، وهو هو في منبته وفي شعائره وفي تقاليده التي لا تنفصل عن تقاليد الحياة الخالدة المتجددة، مهما يكن لها من تقاليد أخرى ظهرت بعد ظهور الأديان والعبادات.
وتقاليده هذه الأخرى «سجل» عامر بالحقائق تختفي حينا وراء الأشكال والعادات، ووراء الأساطير والدعايات، ولكننا لا نفتحها على صفحاتها المحفوظة إلا انكشفت السوابق والقضايا، وتحدثت «البصمات» بالتهم والجرائم، وابيضت وجوه واسودت وجوه.
وها هي الصهيونية تبرر لنا مرة أخرى في هذا السجل القديم الذي تتطوع هي لنشره على هواها، ولو أنها عادت إليه - على هوى الصدق - لسترته تحت التراب، وألقت إليه حجابا فوق حجاب، تحت حجاب.
تنشر الصهيونية حديث شم النسيم في كل عام باسم «عيد الخروج»، لتحسبه تذكارا ليوم الحرية ويوم النجاة بعبادة الحق والتوحيد من معقل الأسر في هذا الوادي المحبوب، ولم يكن قط مكروها عند آباء صهيون وإن أحبوه لفوله وبصله ولبنه وعسله، ولم يحبوه لأهله ولا للحق ولا للدين!
ما كان لإسرائيل من فضل في يوم الخروج إن ذكروا الحرية وعبادة التوحيد، وإنما الفضل فيه لموسى - عليه السلام - ولمن علموه علمه الحق قبل بعثته إلى قومه، فاهتدى بما تعلم في صباه، واهتدى بما ألهمه الله مختلفا إلى أئمة التوحيد بعين شمس وإلى محراب شعيب بمدين، ومستعدا للرسالة الإلهية بما أعده لها الله من هدي العلم وهدي الإيمان.
تاريخ بني إسرائيل كله في وادي النيل يقول: إن هؤلاء العبيد الأذلاء لم يفكروا قط في الحرية، ولم يصبروا قط على عبادة التوحيد، ولم يزالوا بعد عصيان الداعين لهم إلى الخروج حقبة بعد حقبة يخرجون أخيرا فيذكرون عبادة العجل وعبادة البعل، وموائد الضأن والفطير وقصاع العدس والفول.
قبل خروجهم مع موسى - عليه السلام - دعاهم رهط «أفرايم» إلى الخروج، فسخروا منه وأهانوه، وبعد ذلك بثلاثين سنة دعاهم موسى - عليه السلام - فشتموه وهددوه، وشهد عليهم كتاب الخروج بما فعلوا وقالوا؛ حيث «تكلم أمام الرب قائلا، هوذا بنو إسرائيل لم يسمعوا، فكيف يسمعني فرعون؟!»
ولم يكن شعب مصر مسيئا إليهم؛ لأنهم كانوا يستجدونه ويستعيرون منه فلا يبخل عليهم بشيء طلبوه، ويشهد كتاب الخروج أنهم «طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا، فأعطى الرب نعمه للشعب في عيون المصريين، حتى أعاروهم فسلبوا المصريين!»
إنما أساء إليهم فرعون يوم أساء إلى قومه وارتد عن دين التوحيد الذي ترنمت به معابد إخناتون، فارتدوا معه ولم يستجيبوا لموسى - عليه السلام - خارجين مختارين، وإنما طردهم أمراء البلد لكسلهم وفتورهم و«تنبلهم» في شغل السخرة وشغل العمل المختار ، لا لأنهم زهدوا في لحم الضأن وهجروا قصاع العدس والفول!
أطاعوا النبي العبري؛ لأنهم - كما شهد عليهم كتاب الخروج - قد «طردوا من مصر ولم يقدروا أن يتأخروا»، فخرجوا خروج الهارب المتلبس بإجرام .
أما النبي العبري فقد بقي على دين التوحيد، وأنكر من فرعون «المرتد» نكوصه عن العبادة القويمة وإكراهه الناس على النكوص عنها، ومنهم أبناء إسرائيل وأبناء وادي النيل.
ومن أين نتحدث إليهم عن «ملفات» شم النسيم الأول والأخير؟ عن صفحات علمائهم نروي ما نقول، وإنهم لمن مفاخرهم التي يذكرونها ولا ينسونها كلما استكثروا من أسماء الأعلام: أسماء فرويد، وماير، وسيلين، وآخرين وآخرين، مذكورين في كتاب فرويد عن «موسى وديانة التوحيد».
هؤلاء هم الذين يقولون إن موسى - عليه السلام - تلقى اسمه من لغة وادي النيل؛ لأن بنت فرعون التي سمته باسمه تعرف كلمة «موسى» بمعنى الطفل، ولا تعرف العبرية فتسميه بكلمة من كلماتها، تعرف أسماء بتحموس ورعموس وأمنموس وغيرها من الأسماء والألقاب، ولا عجب في إطلاقها على طلاب الحكمة العالية في معاهد منف وطيبة وقصور الملوك والملكات.
إنه لفضل موسى - عليه السلام - وإنه لفضل الله على موسى بما هداه إلى الحكمة وهداه إلى الرسالة.
أما أسلاف صهيون الأقدمون فما طلبوا حرية ولا ابتغوا وجه الله، ولا كرهوا عبادة العجل وقد عادوا إليها قبل أن يعبروا الحدود إلى الوطن الموعود.
وأما شعب مصر فلم يكن جزاء الخارجين من بلاده إلا أنهم سرقوه وأخذوا فضته وذهبه وثيابه وآنيته، وما استطاعوا أن يحملوه ويحملهم من مطية أو ركاب، ولم يكن من عمله معهم إلا أنه أكرمهم وائتمنهم، فسلبوه.
وعلى فكرة ...
على فكرة بعد ثلاثين قرنا لم تسقط المدة القانونية ... لأنكم تقررون «مستنداتكم» في أرض الميعاد من ذلك التاريخ.
على فكرة ...
كم يحمل ستمائة ألف خارج وخارجة من الذهب والفضة واللباس والآنية إذا أخذ كل منهم خاتما أو ما يساوي قيمة الخاتم بالدرهم والدينار!
وكم فوائد المبلغ بالحساب الذي لا تجهلونه مضاعفا من تلك السنة، ولو سئلتم عنها في عرض الطريق!
الوثيقة بخط اليد محفوظة، والدعوى مرفوعة، والحساب يجمع.
وشم النسيم يعود وسيعود، وسوف يعود ...
فاحسبوها من الآن، واحسبوه إعلانا بالدين القديم، لا ينساه الديان، ولا يغالط فيه بن جوريون ولا بن ديان!
الخلط بين الوجودية والإباحية1
يندر أن أتلقى بريدا لهذه اليوميات من غير سؤال عن الوجودية، وعن آراء الفلاسفة الوجوديين في هذه المسألة من مسائل الدين أو تلك المسألة من مسائل الأخلاق، أو غير ذلك من مسائل الاجتماع أو السياسة.
وكل سؤال من هذه الأسئلة هو خطأ جسيم من الخطوة الأولى، ينبغي أن يصحح «أولا» قبل أن يتأتى الوصول إلى جواب صحيح عنه، وعن غيره من مذاهب الفلسفة الوجودية.
فالخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها على صحة وبينة، أن الوجودية ليست مذهبا واحدا يتفق القائلون به على رأي واحد في عقائد الدين ومبادئ الأخلاق ونظم السياسة؛ فإن الفلاسفة الوجوديين كثيرون؛ منهم المتدين المؤمن بوجود الإله ورسالة الرسل، ومنهم المنكر المعطل الذي لا يدين بعقيدة على الإطلاق، ومنهم من هو مثل في الخلق الكريم والنزاهة العالية، ومن هو مجرم بأقواله على الأقل لا فرق بينه وبين المجرمين المحكوم عليهم، غير أنه لم يصل إلى المحكمة أو إلى دواوين التحقيق.
ولا يمكن أن تكون الوجودية شيئا غير ذلك في تناقض الآراء وتباعد النزعات ومناهج الحياة؛ لأن الأصل فيها أن حق الفرد في الوجود هو الحق الأصيل، ومنه الذي تصدر جميع الحقوق الوجودية؛ إذ كان «الفرد» هو الكائن الحقيقي المشاهد المستمتع بالحياة، وكل ما عداه فهو في رأي الوجوديين أسماء وصور في الذهن لا حقيقة لها خارج التصور، وهم يتساءلون: ما هي الإنسانية مثلا؟ هل هي كائن له وجود خارج الذهن، أو هي مجموعة الأفراد المنتسبين إليها ولا زيادة؟
فإذا كان الوجود الحقيقي هو «الفرد»، فلا يحق للجماعات أن تطغى عليه وأن تجرده من حقوقه الحيوية، وليس للفرد المدرك لحقيقة وجوده أن ينزل عن هذه الحقيقة باختياره مجاراة لأوهام ليس لها وجود.
وينتهي الاتفاق بين الفلاسفة الوجوديين عند هذا الرأي الذي استمدوا منه اسمهم الشائع في هذه الأيام، وهو اسم «الوجوديين»؛ أي المؤمنين بالموجود الحقيقي دون الأسماء والعناوين.
ولكن الاختلاف بعد ذلك ضرورة طبيعية لا بد منها بين الذين يرجعون بكل شيء إلى الحرية الفردية، فإن الأفراد بطبائع تكوينهم مختلفون مزاجا وشعورا وفكرا وتربية واستعدادا للمؤثرات الخارجية؛ فمن كان منهم قويم الخلق قوي المزاج، ملك زمامه ولم يندفع مع أهواء الساعة وغوايات البيئة. ومن كان على نقيض ذلك ضعيفا منحل الإرادة، فمعنى الحرية عنده أن يفعل ما يشاء ولا يبالي بالعاقبة، ولا يلوم نفسه على ما وقع فيه من جرائر الضعف والغواية.
ولقد ظهر في العالم فلاسفة وجوديون قبل أن تعرف «الوجودية» باسمها هذا، الذي يلوكه ويتشدق به من يفهمونها ومن لا يفهمون منها إلا أنها إباحة تنطلق بصاحبها من قيود الفضائل والآداب.
فالفيلسوف الألماني نيتشه كان وجوديا حين نادى بحق «السوبرمان» أو الإنسان الأعلى، معارضا للديمقراطية التي تحسب حساب الناس بالكميات والأعداد.
وكارليل الفيلسوف الأيقوسي كان وجوديا حين ألف كتابه عن الأبطال وعبادة الأبطال، وأراد أن يقول إن صلاح الأمم مرتهن بصلاح أبطالها للزعامة في ميادين العقيدة والعمل.
وجون ستيوارت مل وهربرت سبنسر وجوديان حين كتب أولهما يقول إن النوع البشري كله لا يحق له أن يحجر على حرية فرد واحد يخالفه، وكتب الآخر كتابه عن الإنسان والدولة ليقول إن الدولة لا يحق لها أن تتعرض لحرية إنسان إلا بالمقدار الواجب لحماية الآخرين من عدوانه.
وماتسيني وجروشه وجوديان؛ لأنهما يقدسان «الحرية الإنسانية»، ويجعلانها بالمنزلة الأولى بين جميع الحقوق العامة والخاصة.
وكل هؤلاء لم يظهروا في الأمم المختلفة إلا بعد ظهور الدعوات العامة، التي كانوا يخشون سوء فهمها وتجاوز حدها ذهابا مع حقوق الجماعات الكبرى، وإنما سواء السبيل عندهم أن تكون حرية الأمة ضمانا لحرية الفرد، وأن تكون حقوق الفرد أساسا للحقوق المشتركة التي تقام عليها دعائم المجتمع مهما يبلغ من التعدد والاتساع.
والفيلسوف الوجودي على حق في رأيه، إلا إذا تجاوز الحد من جانبه فاعتقد أن وجود الفرد ينفصل من وجود النوع؛ لأن النوع موجود وجودا محسوسا في كل فرد من أفراده، وليس النوع الإنساني مجرد اسم من الأسماء كما يتوهم بعض اللفظيين؛ لأن تركيب الفرد في جسده ووظائف أعضائه يمثل وجود نوعه في كل خلية من خلايا الدم وكل نسيج من أنسجة الأعصاب، وليست الوظائف الجسدية التي تهم الإنسان في حياته الفردية غير جزء قليل بالقياس إلى وظائفه النوعية المتمكنة في تركيبه بلا انفصال بينها وبين ذرة من ذرات بدنه.
فإذا أراد «الوجودي» أن يعتبر الوجود الحقيقي فليحلل جسمه في المعمل الكيماوي، لكي يعلم من أبسط التحليلات الأولية أنه عشرة في المائة على الأكثر فرد، وتسعون في المائة نوع، وسيعلم بعد ذلك أن العشرة في المائة ليست من عمله ولا من كسبه، ولكنها موروثة عن أبيه وأمه وجده وجدته إلى أقدم أسلافه.
وقد لمحنا كثيرا من بعض الأسئلة أن أصحابها يستريحون إلى الخلط بين الوجودية والإباحية؛ لأنهم - على ما يبدو من عباراتهم - يريدون أن يستندوا إلى مذهب يبيح لهم ما تحرمه المذاهب الأخرى عليهم، وأن هذا الشعور الخفي وحده خليق أن ينقض الإباحية كل النقض؛ لأنه يدل على حاجة الإنسان إلى سند يجيز له ما لا يجوز، حتى في الاستباحة التي تريد أن تعفي نفسها من القيود والحدود.
والخلاصة الأخيرة أن المخلوق الإباحي قد يكون موجودا بتكوينه الضعيف العاجز عن قيادة أهوائه وشهواته.
أما المذهب الذي يبيح هذا فهو بالاختصار «غير موجود» في كل الوجود.
غير موجود أبدا ولا بين الوجوديين! ولكنه قد يكون بين العدميين أو المعدومين!
المؤرخ «توينبي» يصحح نفسه1
أرنولد توينبي أشهر المؤرخين الغربيين في العصر الحاضر غير مدافع.
وهو أكبر من «مؤرخ» قدير واسع الشهرة بين أبناء عصره؛ لأنه إمام مدرسة مستقلة في «فلسفة التاريخ»، يعيد تصوير التاريخ العالمي على صورة خاصة به وبمنهجه في التفكير، أو في «العقيدة الروحية» قبل التفكير.
ولا نحسب أنه استطاع ذلك بفضل العلم وحده وسعة الاطلاع وحدها، ولكنه استطاع بما له من «شخصية» قوية متصرفة، تطبع الوقائع والأفكار بطابعها المتميز «المتحيز» الذي لا يلتبس بطابع آخر، وإن كنا - على هذا - نعتقد أن إحاطته بالموضوعات والحوادث أهم وأعمق من إحاطته بأسرار «الشخصيات» العظيمة، كما يبدو ذلك جليا من تصويره للشخصيات الكبرى في تاريخ الإسلام، ومنها شخصية النبي - عليه السلام - وشخصيات الزعماء الأمويين، ومن قبلهم الخلفاء الراشدين.
ولهذا العقل المتصرف أفانين من التفكير والتخيل، يضيق بها الإحصاء في هذه الكلمة الوجيزة، ولكننا نكتفي هنا بأحدثها وآخرها؛ وهو كتابه الذي سماه إعادة نظر
Reconsideration ، وأدار فصوله، وقد جاوزت سبعمائة صفحة، على نقد كتابه الضخم الذي أتمه في عشرة مجلدات.
إن الناقد هو المنقود، والكاتب هو موضوع الكتاب، وللقارئ - إذن - أن يقول إنه يطالع صفحة من صفحات النقد الذاتي أو صفحة من صفحات النقد الموضوعي، فكلاهما واحد حول هذا الكتاب الطريف، وأطراف ما فيه أن أسلوبه أشد من أسلوب الناقد الغريب، وأن توينبي وهو يبحث عن أخطاء «توينبي» قد تحدى خصومه فنجح أيما نجاح؛ لأنهم لم يظهروا من أخطائه شيئا يزيد على ما أظهره بقلمه وبحث عنه باجتهاده، مع الحماسة التي تغلو أحيانا غلو اللدد والتحامل، كأنها - حقا - حماسة خصوم!
وجملة مآخذه على نفسه أنه أخطأ في اعتباره «الحضارة اليونانية» أساسا للحكم على سائر الحضارات، وأنه لاحظ بعد إعادة النظر أنه كان شديد الميل إلى التعميم والتوسع في تطبيق الأحكام الشاملة، وأنه أعطى الأساطير التاريخية حقا من العناية لا يقل عن حق المباحث العلمية، ولكنه لا يأسف على ذلك كثيرا؛ لأنه لا يزال يعتقد أن الأسطورة الرمزية تفسر روح الأمة، وتساعد على النفاذ إلى بواطنها الخفية على مثال لا يقصر عن شأو «التحقيق العلمي» وعن مشاهدات الواقع والفكر الصراح.
على أن المؤرخ الكبير لم يندم على هذه الحماسة في نقد نفسه؛ لأنه لم يبلغ بها أن يهدم صرحه المشيد، الذي توفر على بنائه طول عمره، وغاية ما صنعه أنه أعاد طلاءه ووسع بعض حجراته وضيق بعضها على أساسها الأول، مع بقاء «العمارة» كلها بصورتها المعهودة من بعيد، ومن قريب.
فالتاريخ لا يزال كما كان قصة مجتمعات، وليس بقصة أمم أو دول أو حكومات.
والمجتمعات لا تزال قائمة على حضاراتها، وليست قائمة على ثروتها أو قوتها أو مساحة أرضها.
والحضارات لا تزال كما كانت مدينة للفكرة وللعقيدة، التي تحل لها مشكلاتها الطبيعية والاقتصادية، وتوحي إلى أبنائها أن يعملوا مستقلين وأن يقلدوا العاملين مخلصين، فإذا انتهى دور الحضارة فعلامة ذلك أن أبناءها يفقدون دوافع العمل والمحاكاة، ويقضون أعمارهم في معيشة سلبية بين الاسترسال مع الشهوات والمنافع الموقوتة، وبين اليأس والسخط على غير هدى.
إذا بقيت للمؤرخ الكبير هذه الأسس وهذه الأركان، فالخسارة من حملته على نفسه غير جسيمة، والنقد على هذا المثال يزيد منافع «العمارة» ولا ينقص منها.
ثم يزيدنا شيئا آخر لم يكن في الحسبان.
يزيدنا علما بأن النقد «الموضوعي» لا يتطلب من الناقد أن يتجرد من «شخصيته»، وأن يقيم نقده على قواعد غير قواعده السابقة أو اللاحقة، كل ما يتطلبه منه إخلاص النظر وإخلاص التطبيق، وليكن بعد ذلك موضوعيا أو ذاتيا أو «ذاتيا موضوعيا» أو «موضوعيا ذاتيا» كما يريد.
يقول الأستاذ «مغاوري همام مرسي» من رسالة مطوله: «إن لكل فرد مجاله السيكولوجي الخاص ... وإننا إذا تعرضنا لمسألة النقد الموضوعي في الأدب، لا نجد حيلة للاقتناع بقيام ما يمكن تسميته بالنقد الموضوعي لأي إنتاج أدبي.»
نقول للأستاذ إننا نرى خلاف ما يراه، وإن النقد الموضوعي ممكن جدا؛ كالإبصار الموضوعي والسماع الموضوعي واللمس الموضوعي والذوق الموضوعي، وكل إدراك ظاهر أو باطن يدركه الإنسان بحسه أو بفكره أو بخياله.
إن المائدة التي أمامي تلوح لعيني على صورة لا يمكن أن توافق الصورة التي تلوح بها لأعين الناظرين إليها من حولها؛ إما لاختلاف مكان النظر، أو لاختلاف موقع الضوء، أو اختلاف قوة العين، أو اختلاف استعدادها لتمييز الألوان، أو لاختلاف العصب الموصل إلى الدماغ، أو لاختلاف الشواغل النفسية ساعة النظر إليها وتلقي الصورة من جوانبها.
ولكن هذا كله لا يمنع الاشتراك في الحس بين جميع الناظرين إليها بالمقدار الذي يكفيهم جميعا للعلم بأنهم يتحدثون عن شيء واحد حين يتحدثون عن تلك المائدة.
وهذا هو كل المطلوب للتفاهم بين أصحاب الحواس وأصحاب العقول.
إذ ليس المطلوب أن يكون النقد الموضوعي إلغاء للشخصية الإنسانية، ولا محوا للفوارق بين الشخصيات، ولو أمكن ذلك لبطل معنى النقد كله ، موضوعيا وذاتيا، وأصبحنا في غنى عنه؛ لأنه لا يعطينا غير ما نأخذه بأنفسنا ولا نحتاج معه إلى تفاهم مع الآخرين.
إن النقد الموضوعي هو تصوير الأشياء كما نخالف بها غيرنا وكما تختلف بين المجالات النفسية المختلفة، ولولا ذلك لما كانت فائدة ولا طعم ولا ضرورة.
وإذا كان الناقد عاجزا عن مفارقة مجاله النفسي، فليس هو بعاجز عن بيان ذلك المجال ولا عن تصويره، ونتيجة النقد - إذن - هي معرفة الشيء المنقود في مجالات نفسية متعددة بدلا من حصره بين حدود المجال الواحد بلا تفاهم ولا مشاركة بين العقول والحواس، ولو على سبيل التقريب. «وهذا هو المطلوب» كما كان يقول لنا «خوجة الحساب» - رحمة الله عليه.
اكتشاف العرب لأمريكا قبل كولمبس1
تجدد البحث منذ أسابيع في مسألة اكتشاف العرب للعالم الجديد قبل رحلة كولمبس المشهورة في أواخر القرن الخامس عشر.
وصاحب البحث الجديد هو الدكتور «هوي لزلي»، العالم الصيني، أستاذ علم النبات بجامعة بنسلفانيا الأمريكية، ألقاه في الاجتماع الحادي والسبعين بعد المائة لجماعة المستشرقين بمدينة «فلادلفيا»، واستند فيه إلى وثائق محفوظة في الصين، وإلى فصائل من النبات والحيوان لم تكن من محاصيل الأرض الأمريكية، وذكر من أخبار تلك الوثائق أنها قدرت مدة الرحلة من الشواطئ الأفريقية إلى أمريكا بنحو مائة يوم، ورجعت بموعدها إلى حوالي القرن الثاني عشر للميلاد.
وهذه هي المرة الثالثة التي يعاد فيها بحث هذه المسألة منذ مطلع القرن العشرين، فإن مدير متحف البرازيل عثر قبل نهاية القرن التاسع عشر على صخرة إلى جوار ريو دي جانيرو، عليها نقوش قريبة الشكل من الحروف العربية القديمة - أو الفينيقية - ثم جاء العالم الجغرافي الألماني ريتشارد هنيج بعد أربعين سنة، فأعاد النظر في تلك النقوش لتفسير معانيها، واتصل الأمر بعد ذلك بالقنصلية اللبنانية، ولا نعلم ماذا تم من تحقيقات هذا الكشف غير الإشارة إليه منذ شهور في بعض صحف بيروت.
إن الشكوك في أمر هذا الكشف محدودة المجال على كل حال، فإذا كانت الرحلة من أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية قد حدثت حوالي القرن الثاني عشر، فالمحقق أن الملاحين العرب هم الذين قاموا بها يومئذ، أو أن الملاحة العربية هي الملاحة الوحيدة التي كانت تنفع أصحابها في مثل تلك الرحلة؛ لأن مصطلحات هذه الملاحة باقية من قبل ذلك التاريخ إلى اليوم في اللغات الأوربية، كما يؤخذ من كلمات كثيرة تحتويها معاجم الإسبانية والإيطالية والألمانية والإنجليزية. وقد جاء في كتاب دستور الملاحة، المكتوب في القرن الثاني عشر باللغة النرويجية، أن الملاح الذي يضطلع بركوب البحار البعيدة ينبغي أن يكون مطلعا على اللغة الإيطالية، وأن يلم بمعلومات الجنوبيين عن الفلك، وهذا يدل على أن الملاحين الشماليين، الذين وردت أخبار رحلتهم من شمال القارة الأوربية إلى بعض مواقع أمريكا، لم يتمكنوا من رحلاتهم تلك بغير معرفة الملاحة العربية، فإذا كانت الرحلة قد بدأت من الجنوب حوالي القرن الثاني عشر، فمن المحقق أن القائمين بها كانوا من الجنوبيين، وكانوا يحسنون فن الملاحة في البحار الواسعة، ولم يكن أحد غير العرب يضطلع بمخاطر تلك الرحلة من تلك الشواطئ.
إن ملك صقلية كان في القرن الثاني عشر يستعين بالشريف الإدريسي على رسم الخرائط وتصوير الكرة الأرضية من الفضة. والإدريسي يقول في كتابه نزهة المشتاق إن جماعة من أهل الأندلس ركبوا البحر من لشبونة، فوصلوا بعد أربعة وعشرين يوما إلى جزيرة، اعتقلوا فيها «ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم، فوعدهم خيرا وأعلمهم أنه ترجمان الملك، فلما علم الملك بذلك ضحك وقال للترجمان: إن أبي أمر قوما من عبيده بركوب هذا البحر، وإنهم جروا في عرضه شهرا إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تجدي.»
وقد كان قراء اللغة يعلمون مما كتبه المسعودي في أوائل القرن العاشر للميلاد أن الشمس إذا غربت على بحر الظلمات كان ظهورها بعد ذلك على شواطئ الصين الشرقية، ومن هذا وأمثاله علم كولمبس أنه يصل إلى الهند إذا اتجه غربا من شواطئ الأندلس، فليس بالمستغرب أن يقدم على هذه المحاولة قبله من كانوا يطلعون في كتبهم الجغرافية والفلكية على هذه التقديرات، ولكن الحقيقة في هذا الأمر إنما تثبت بما بقي من آثار الرحلات العربية هناك، ولا يكفي أنها أخبار لا ترفض ولا تستغرب ليمتنع فيها الشك وتضاف عن ثقة ويقين إلى حقائق التاريخ.
وحسبنا حتى الآن من فضل هذه الكشوف أنها لم تكن لتحدث لولا الجغرافية العربية والملاحة العربية، أيا كان المنتفعون بهما من أبناء الشمال أو أبناء الجنوب.
الأستاذ الإمام وكتابنا ... تناول الدكتور آدامز تاريخ الجيل المعاصر من المحدثين، فقال إن أثر محمد عبده المباشر، فيما يتعلق بالعقاد وإبراهيم المازني، ربما كان أبعد إجمالا من تأثيره فيما يتعلق بهيكل لقلة الصلة الشخصية، وقد كان العقاد صديقا لسعد زغلول، ولكن في خلال السنوات التي أصبح للسياسة فيها المكان الأول في تاريخ سعد، فهل لي أن أسألكم بقصد المعرفة: ما هي الصلة الشخصية وروابط المعرفة بين الأستاذ المازني وبين الأستاذ الإمام؟
سيد يوسف محمد حسنين
الثانوية، الأقصر
يعني الدكتور آدمز بروابط المعرفة، فيما يتعلق بالدكتور هيكل، أن الدكتور هيكل كان على صلة بالأستاذ أحمد لطفي السيد وأسرة محمد محمود باشا وأسرة عبد الرازق باشا، وغيرهم من أصدقاء الأستاذ الإمام، ولم تكن لنا بالأستاذ الإمام مثل هذه الصلة كما اعتقد الدكتور آدمز، وهو خطأ منه فيما يرجع إلى ما بينت حقيقته في مناسباتها التي أشار إليها الطالب الأديب في مقدمة خطابه، أما صديقنا المازني - رحمه الله - فلا أعلم أنه اتصل بالأستاذ الإمام أو حضر دروسه، ولكنه ذكر في ترجمته لنفسه أن الشيخ محمد عبده أعان أخاه الأكبر على كتابة اسمه بجدول المحامين الشرعيين بعد وفاة والده، وكان أخوه الأكبر - خيري - يستعين به كلما أعوزته المعونة من جاه المفتي في مسائل الدواوين.
إلا أن «التأثير الأدبي» الذي ينسب إلى الأستاذ الإمام لم يكن مقصورا على الصلة الشخصية أو على حضور الدروس بالجامع الأزهر، ولكنه كان تأثيرا عاما يشمل المدرسة الكبرى التي أنشأها الشيخ محمد عبده بفتاواه وآرائه وردوده على كتاب الغرب وعلى الجامدين من أنصار القديم، ودعوته الوطنية التي تعتبر أساسا لدعوة «مصر للمصريين»، ولمبدأ الاستقلال التام على خلاف الدعوة الأخرى، التي كان أذناب عابدين في القاهرة و«يلدز» في الآستانة يروجونها لطلب الاستقلال تحت السيادة العثمانية.
وكان مذهب محمد عبده في الإصلاح الديني، وفي تعديل نظام التعليم، ونظام المحاكم الشرعية، وخطط السياسة العامة؛ معروفا منتشرا بين البيئات المهذبة، يكاد يتناوله البحث ويشتد حوله الجدل بين أنصاره وخصومه من المشتغلين بالشئون العامة عند كل مناسبة تثيرها فتاواه أو حملات المغرضين عليه، بإيعاز الخديو عباس الثاني وسماسرته من الصحفيين ودعاة الأحزاب السياسية.
ويظهر اتساع الأفق المحيط بتلك المدرسة من جمعها في الأدب بين حافظ إبراهيم ومصطفى المنفلوطي وحفني ناصف، وبين زملاء جيلنا وهم على غير هذا المنهج من مناهج الكتابة والنقد والمقاييس الفكرية أو الأدبية.
وقد كان صديقنا المازني يناصر مدرسة الشيخ محمد عبده في دعوة التحرير من الجمود، كما كان يناصرها في قضية الاستقلال عن السيادة العثمانية، ولكنه لم يكن عظيم الاكتراث بناحية السياسة من تعاليم الشيخ محمد عبده قبل اشتغاله بالصحافة الحزبية على أثر الحرب العالمية الأولى، فلما اشتغل بهذه الصحافة كان يتفق له أن يكتب إلى الصحيفة منها بعد الصحيفة غير متقيد بآرائها في التفصيلات الحزبية، ولكنه كان على خطة واحدة من خطط السياسة العامة تتلخص في استقلال بلاد العرب عن سلطان الدولة العثمانية، وهذه خطة تلتقي بمبادئ الشيخ محمد عبده التي ثبت عليها منذ أيام الثورة العرابية، وكان شعارها «مصر للمصريين» ردا على القائلين بجامعة عثمانية تشمل المصريين وغير المصريين، وقد كان لهذه العثمانية أذناب ينصرونها إلى زمن قريب، ثم سكتوا عنها ولم يسكتوا عن نشر المغامز والدعاوي على المنكرين سياستهم بالأمس، وفي طليعتهم الأستاذ الإمام.
دراسات غريبة في عداد الخرافات1
في خطاب من الدكتور «عبد الكريم دهينة » النفساني ... يقول الدكتور بروايته:
إني قرأت حديثا للدكتورة - روث دارون - تقول فيه: إنه سوف يأتي الوقت الذي يأخذ كل صديق من صديقه نقطة دم عندما يودعه، ويستعمل هذا الأثر الدموي محطة إرسال كلما أراد أن يخاطبه ... وقال عالم آخر هو الدكتور ألكسندر كانون: إن التفاعل مستمر بين الفكرة والجسم، وإنه مصدر اهتزازات أثيرية يمكن قراءتها بآلة السيكموجراف ... أو بموهبة الجلاء البصري. ويقول عالم آخر هو السير شارلس بل منذ مائة عام: إن الأفكار تنفعل مع الأعصاب وتستمد ما قدر لها من خير أو شر من تموجات العقل الكوني العام، فترسم في الكف رسومات تدل على ذلك ... ولن يبقى بعد هذه الكشوف الأثيرية حديث حول الغيب وحول اللاشعور والميتافيزيقا، فكلها ستصبح معلومة ملموسة طبيعية.
وهذه يا سيدي مشكلتي، وليست روحية بقدر ما هي أثيرية، وإن كنت أعتقد بأن الروح جزء من الأثير، وأنه لولا دراسة الأثير ما عرف المذياع ولا المرناة - التلفزيون - ولا أمكن البطل الروسي جاجارين أن يلمس السماء مجتازا شهبها وحرسها، وبدراسة الأثير أيضا سنحل مشكلة استحضار الأرواح وتجسدها وتطبيبها لبعض المرضى، والزواج منها أيضا كما يقال إن بلقيس كانت أمها جنية ... وبدراسة الأثير كذلك سنحل مشكلة هذه العلوم التي أخذت لقب الفراسة زمنا طويلا، وعد الكلام فيها هجوما على الغيب الذي تفرد به الله - سبحانه وتعالى. ... وهذه هي قصة الأثر والأثير، فهل أنت معي في هذا العالم - الأثيري - الذي أحلم به؟ إن لم تكن معي، فإني أستلهم روحك الطاهرة، ولن يرعبني منها صولجانها بقدر ما أشغف بمناجاتها؟
إن الدكتور «عبد الكريم دهينة» يتكلم بحق عن دراسات غريبة لا تزال عند الأكثرين محسوبة - كما قال - في عداد الخرافات، ولكنها تتراوح بين الدراسات الشبيهة بالنفسية
parapsychic
وبين دراسات العلاج النفساني
psychiatry .
فهذه المباحث تدخل في حدود التجارب العلمية، حين يجتهد العلماء النفسيون في امتحان العلاقات بين العقول على البعد لتقرير الحقيقة عن الرسائل «النفسية»، التي يقال إنها تتبادل أحيانا بين بعض الناس، ولا يسهل تفسيرها بالانتقال الحسي أو بالتنويم المغناطيسي من قريب أو من بعيد. وموضع السؤال في هذه الدراسات هو هل هناك وسيلة لنقل فكرة من عقل إلى عقل، بغير وساطة الحواس أو بغير وساطة الإيحاء المغناطيسي، الذي تفسره الاتصالات الحسية على نحو من الأنحاء؟ وهل هناك استعداد خاص عند بعض الناس لما يسمونه الإدراك «فوق الحسي»، أو إدراك ما وراء الحسي، ويطلقون عليه بالإنجليزية
Extrasensory
ويختصرونه بحروف
E. S.
؟
ونقول إن هذه الدراسات دخلت فعلا في حدود البحث العلمي؛ لأن القائمين بها اعتمدوا على تجارب المشاهدة، والإعادة لنفي كل شبهة ترد على ذهن العالم المحقق في هذه الأحوال. وغاية ما وصل إليه أصحاب هذه التجارب أن وجود الصلات غير الحسية بين الأفكار ليس بمستحيل، وأن هناك نسبة مئوية لهذه الصلات، لم يتمكن العلماء من تعليلها بالحس، وإن كان من الجائز أن يهتدوا إلى تعليلها الحسي بعد حين. ويقال بعبارة أخرى إن تفسيرها بالمصادفة لا يزال أصعب من تفسيرها بوجود الصلات بين الأفكار بالوسائل الحسية ووسائل الإيحاء.
وكل ما جاوز هذا الحد من الفرض والظن فهو - في رأي الأكثرين - لاحق بالعوارض النفسية، التي تدل على انحراف الحس والفكر، وتعالج على هذا الاعتبار. •••
واعتقادي في هذه الفروض، أو هذه الظنون، أنها لا تزال من موضوعات القصص العلمية، التي يعمل فيها الخيال ويتخلص فيها الذهن من الحرج باتفاق بين الكتاب والقراء، فلا يقرؤها القارئ وهو مصدق لكل ما فيها من الغرائب والنبوءات، ولا يزال يحسبها من قبيل التوقع الذي قد يسبق الواقع، وقد ينتهي على الورق كما بدأ عليه.
ومن هذه الخيالات الممتعة - فيما يتعلق بالآثار «الدموية» التي أشار إليها السيد دهينة - أن الكاتب القصصي المشهور جورج أوريل تخيل أن الموجات الكهربية في دم الإنسان تختلف باختلاف الأجناس البشرية، وأنه يجوز على هذا أن تخترع غدا قذيفة تهلك أبناء بعض الأمم ولا تهلك الجيوش التي تستخدم القذيفة؛ لأن هذه الجيوش تحتمي منها بموجات كهربية في دمها، تكفل لها المناعة من الإصابة.
ومثل هذا التخيل هو الذي نسميه «تخيلا برخصة» من العلم على «مسئولية» المتخيلين.
أما ما وراء ذلك من أحاديث النقطة الدموية التي «تستعمل كمحطة إرسال»، فهي خيال منطلق لا يرتبط بالعلم ولا بالتجربة ولا بالواقع، ويجوز أن يتخيلها المتخيل قبل اكتشاف الكهرباء وقبل التحدث عن محطات الإرسال ومحطات الوصول؛ لأن الكهرباء لا تقربها قيد شعرة من أوهام التصور إلى حيز البحث والاحتمال.
الأقطاب الثلاثة في فهم النفس البشرية1
كانوا ثلاثة من أركان مدرسة التحليل النفساني، التي اشتهرت بعد ذلك باسم مدرسة «فينا»؛ لاجتماع هؤلاء الأقطاب الثلاثة فيها، متفقين متفاهمين فترة من الوقت، قبل أن يرحلوا عنها مختلفين متضاربين.
هؤلاء الثلاثة هم: فرويد، وآدلر، ويونج؛ آخرهم الراحل في هذا الشهر إلى عالم الغيب، الذي كان يبحث عنه في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، كما كان يبحث عنه في كل سريرة من سرائر النفس البشرية.
كانت الغريزة الجنسية هي علة العلل لجميع مشكلات النفس البشرية، وهي أعمق الجذور التي تتشعب عليها جملة الفروع في مذهب فرويد.
وكان «آدلر» يقول إن طبيعة «النمو» بجميع معانيه هي علة العلل، وهي كذلك أعمق الجذور؛ فإذا اصطدمت «الشخصية الإنسانية» النامية بما يعطل نموها ويعوق ارتفاعها وامتدادها، فالعلل الباطنة التي تتخلف من هذه الصدمة تتطلب التعويض بحيلة من الحيل، لتغطية الضعف والتنفيس عن شعور الذل والحرمان، ولا سبيل إلى التفرقة بين العوارض الحيوية والعوارض الاجتماعية في تفسير هذا المرض وفي الاحتيال لعلاجه؛ لأن أحوال المجتمع هي التي تحدث الصدمة بين «شخصية الفرد» وبين سائر الشخصيات، ومن هنا يحدث الاضطراب ويحتاج علاجه إلى شيء في داخل النفس وشيء في البيئة الخارجية.
أما فقيد المدرسة الأخير فلعله أسلم الثلاثة تفسيرا أو أقربهم فهما للنفس البشرية؛ لأنه يبحث عن أصل كل مرض نفساني في جميع الغرائز الحيوانية والإنسانية، ويذكر من هذه الغرائز - على التخصيص - غريزة التغذية وغريزة الجنس وغريزة القوة وغريزة الطبيعة الاجتماعية، ولا يسوي بين الناس في التعرض لأمراض النفس وعيوب الفطرة، بل يقسمهم إلى نماذج متعددة، على حسب ما يصيبهم في طفولتهم من عوارض تلك الغرائز الكثيرة، ولكنهم على الأكثر أربعة نماذج متميزة واضحة الفوارق بينها إذا تطرفت إلى الغاية من التطرف، وقد يلتقي منها نموذجان أو أكثر في بعض الأفراد، مع التوسط والاعتدال.
وهذه النماذج الأربعة هي: نموذج الإنسان المفكر ، ونموذج الإنسان الحساس، ونموذج الإنسان العاطفي، ونموذج الإنسان الباطني، أو الإنسان الذي لا يكف عن طلب الغوامض والخفايا وراء حوادث الحياة وأعمال الأحياء.
وعن «يونج» أن جذور النفس البشرية لا تنتهي إلى غريزة من الغرائز التي يذكرها هو أو يذكرها صاحباه؛ لأن «الجذور» العميقة سابقة لوجود الحي بل لوجود الحياة، وخلاصتها عنده أنها هي «الإله» الذي لا يدرك بغير الرمز والتسليم، ولا يخرج عن عالم الأسرار إلا في صورة من صور العقيدة الدينية، وهي - إذا جاشت بها نفس الإنسان - حقيقة واقعة، لا تقل ثبوتا وأصالة عن حقائق الطبيعة وحقائق المحسوسات والمعقولات.
ولقد كان «يونج» يدرس التنجيم والسحر وعلوم الرمل والاستطلاع، ويحسب أنها تفسر النفس الإنسانية وتكشف عن الجذور العميقة وراء العلم والمنطق، وإن لم يثبت منها شيء في معامل الطبيعة وقضايا الفلاسفة، فإنها لغة أخرى من لغات التفاهم بين عالم الغيب وعالم الشهادة، لا فرق بين إلغائها وإلغاء الحس والفكر؛ لأنها لم تكن لتوجد لو لم تكن معبرة عن معنى غير المعاني المعروضة على الحس والتفكير.
ولم يقل «يونج» قط إن الخرافة تحل محل البحث العلمي والقضية المنطقية، ولكنه كان يقول ويعيد أن البحث العلمي والتفكير المنطقي كلاهما جدير بتفسير الخرافة وتفسير البواطن التي تشير إليها، وأن الخطأ في تفسيرها أولى بالعقل من إنكار وجودها وإنكار حق النفس البشرية في التخبط بين غياهب الظلمات، كلما قصرت الأضواء عن بلوغ ذلك القرار.
وهذا هو عيب «يونج» مع الإفراط في مذهبه الذي انفصل به عن صاحبه.
فإذا كان إفراط فرويد يصور لنا النوع الإنساني كله مريضا مصابا بالهوس الجنسي والشهوات الحيوانية، وإذا كان إفراط «آدلر» يفتح الباب على مصراعيه للمرضى بجنون القوة؛ فها هنا إفراط غير مأمون العاقبة، قد يفتح الباب لإنكار المنظور المعلوم في سبيل المغيب والمجهول.
أما المذاهب الثلاثة - بغير إفراط - فأسلمها تفكيرا وأوسعها أفقا هو مذهب النماذج الإنسانية، التي تعطي كل غريزة حقها في العمل الظاهر والعمل الباطن، وتربط الصلة بين الإنسان وبين عالم الغيب المجهول، وهو عالم لا يغمط حقه في مذاهب «التحليل النفساني»، التي تبحث عن كلمة السر وتبتدئ منه وتنتهي إليه، ولن يكون سر النفس البشرية سرا يعتري إنسانا واحدا وينتهي كله هناك بمعزل عن غيره من الناس. •••
ولا ندري هل هي مصادفة من مصادفات الحظ، أو هي طبيعة الهوس الجنسي أن يجتذب إليه المفتونين به، ويكشف عن أغراضهم وعاهاتهم حين تختفي أعراض المفتونين بدين القوة وأعراض المفتونين بالطلاسم والخرافات.
فقد احترس الناس من الإفراط مع آدلر في عبادة القوة؛ لأن سخافة هذه العبادة لم تغب عن الأذهان منذ أيام الحرب العالمية.
واحترس الناس من الإفراط مع يونج في مجاهل الغيب؛ لأن الخرافة لم تزل سيئة السمعة بعد تاريخها الأسود منذ أيام القرون الوسطى.
ولكنهم لم يحترسوا من الإفراط مع فرويد؛ لأنه - على ما يظهر - أشهر الثلاثة وأسبقهم، ولأنهم فهموا أقرب مقاصده إلى الحس والغريزة ولم يفهموا في الواقع لباب آرائه ومرامى مصطلحاته وتعبيراته.
وغير بعيد منا ما قد جناه التحليل الجنسي على الهستيريين؛ من هواة الأدب المكشوف أو هواة أدب الهدم والإفلات على حل الشعور.
فكل ورقة تخرج من مخادع هذا «الفن» الفراشي، فهي حالة «فرويدية» خالصة، لا تقترب من ناحية آدلر ولا من ناحية يونج، ولولا أن «فرويد» يسأل عما قال ولا يسأل عما يتقوله عليه الجاهلون بمرماه، لقلنا: جزاه الله بما جنت يداه على ضحاياه، إن كانوا ضحاياه ولم يكونوا ضحايا جنسهم إياه، شفاه الله!
ظرفاء النكتة وتأويل الأسماء1
قرأت مقالكم عن الأقطاب الثلاثة في فهم النفس البشرية؛ وهم: فرويد وآدلر ويونج، ولي تعليق صغير أرجو أن تعقبوا عليه برأيكم في يومياتكم، فإنه من المعلوم أن أسماء فرويد وآدلر ويونج معناها بالألمانية الفرح والصقر والفتى أو الشاب، وأراد كاتب فكه أن يقرن كل اسم بمبدأ صاحبه، فقال: إنه لا عجب أن ينادي الفرح بمذهب اللذة، وأن ينادي الصقر بمذهب القوة، وأن ينادي الفتى بفكرة الأحياء
Rebiron ، فماذا ترون في هذه التوفيقات؟ إلخ إلخ.
سمير وهبي
بكالوريوس في الدراسات الاجتماعية
والأستاذ سمير يصدق الرواية عن ظرفاء «النكتة اللفظية»، أو ظرفاء نكتة «الجناس» بين الغربيين، وهم كثيرون في زمرة المثقفين الذين يطلعون على مذاهب العلم والفلسفة، ويقلبون ألفاظها ومعانيها على وجوهها، ويتعمدون أحيانا تحريف الأسماء لوصف أصحابها أو للسخرية منهم بشهادة أسمائهم عليهم، وقديما قال هؤلاء عن شكسبير: إنه يهز القلم أو يهز الستار؛ لأن ترجمة اسمه الأصيل أنه «يهز الرمح»، وأخيرا قالوا عن برنارد شو: إنه ليس إلا «مظهرا على الوجه» من كلمة
Shaw
التي تدل على هذا المعنى بعد قليل من التحريف، وقال غيرهم ردا عليهم: بل هو «أجمة» الأسد؛ لأن الكلمة منقولة من الدانماركية «المتكلنزة» بهذا المعنى.
ومثل هذا كثير في جميع اللغات، يولع الظرفاء بتوفيقه، أو «بتلفيقه» من حسن التمني في بعض الكلمات والأسماء، ولعله خير رد على الذين يصطنعون تأويل الأسماء لترويج أباطيل السحر وطلاسم الشعوذة والتعاويذ، فإن المصادفة تعطينا كل يوم أمثلة من طوالع الأسماء على هذا النحو، بعيدة من السحر ودعواه.
بل نحن نشاهد من أمثال هذه التحريفات جميعا أنها لا تصلح للفكاهة على سبيل المصادفة، بغير جهد قليل أو كثير في تحويل المعاني والألفاظ، وتحميلها شيئا من التأويل لا تحتمله بغير «التراضي والاتفاق» بين الطرفين.
فلماذا يكون الفرح - مثلا - دليلا على اللذة الجنسية؟
ولماذا يكون اسم النسر في الألمانية وحدها مرادفا لمذهب القوة؟
ولماذا يكون «الشباب» عنوانا للاستحياء الذي يقترن بعالم للغيب يسبق الحياة؟
إنه يكون كذلك خضوعا لحكم «القافية»، كما يقول أبناء البلد عندنا ويعنون أنه حكم «مقبول» على شرط، وليس بالمقبول على كل حال.
وقد صدق من قال: «إن طبيعة الإنسان واحدة في كل مكان»؛ فإن الأمم قديما وحديثا قد لهجت بهذه «التوفيقات» لهوا وتفاؤلا كما لهجت بها سحرا وشعوذة، أو زعما من الزاعمين أن المسميات لها نصيب من الأسماء في كل حين، أو من حين إلى حين!
ولكن الغربيين في القرن العشرين لا يزالون «تلاميذ» مبتدئين لأصحاب هذه الجناسات من أدباء العربية، الذين يتفكهون بها أو يصدقونها تصديقهم لعلامات التفاؤل والتشاؤم، وأنها لباب واسع بين أبواب «الزجر والعيافة» وأسطورة متخلفة بين بقايا الأساطير.
وليس في كل ما قرأناه من تحريفات الأسماء عند الغربيين تحريفة واحدة ترتقي في إتقان الصنعة إلى الذروة التي ارتقى إليها شاعرنا المتفائل المتشائم علي بن العباس ابن الرومي المشهور.
أرسل إليه أمير يرغب في لقائه رسولا مليحا صاحب اسم مليح، وهو اسم «إقبال».
فلما فتح له الباب نظر أمامه فرأى باب دكان مقلوبا، فانثنى إلى داره وهو يقول: إن اسم إقبال - إذا قلب - فهو «لا بقاء»، ونعوذ بالله من نذير الفناء.
وسمع العصافير تصيح «سيق سيق»، فأيقن أنه في «سياق» الموت، كأنما كانت عصافير بيته تعرف العربية، أو تعرف لها لفظا غير «سيق سيق» في أيام مرضه، وأيام صحته وفي جميع الأيام.
وقد اشتملت كتب الأدب العربي على فصول مطولات عن علامات البشارة والإنذار من أسماء الناس، وأسماء الحيوان والنبات.
فجعفر عند المتشائمين «جاع وفر»؛ ولا أمان مع الجوع والفرار، والنوى جمع «نواة» نذير بالنوى والفراق، وسفرجل نذير بسفر يجل عن احتمال؛ فهي فسحة واتساع.
أما الغراب، فكل شيء فيه من اسمه ولونه ونعيبه ومكان وجوده؛ نذير يشير إلى نذير.
وربما تألف من هذه «التوفيقات» قاموس ضخم، يبتدئ بالهمزة وينتهي إلى آخر الكلمات في آخر حروف الهجاء، ونطلع عليه متفائلين أو متشائمين فنسقطه من الحساب بعد بضعة أيام؛ لأنه يعطينا البشير والنذير في الكلمة الواحدة من الصفحة الواحدة، ولا تتلاحق فيه صفحة بعد صفحة إلا خرجنا من كل حرف فيها بمائة بشير ومائة نذير، ولعلنا ننقل القاموس إلى لغة أخرى غير العربية، فنفهم منه أن «الغيب المجهول» يبشرنا بلسان وينذرنا بلسان، ويقول على لسان المتكلم ما لا يقوله على لسان الترجمان.
ولست أذيع للسيد «سمير» سرا إذا قلت له إنني - كجميع الناس - أحب أن أسمع كلمات البشارة وأكره أن أسمع كلمات التنفير والتحذير، ولكنني أقف بهذه وتلك عند حدها المأمون، فلا أسمح للكلمة الجميلة أن تخدعني بلفظة، ولا أسمح للكلمة المشئومة أن تخيفني ببضعة حروف، وإنني لأكتب هذه السطور وأمامي تمثال بومة أتحدى به الشؤم كله في «صنعه» الموهوب، ومسكني رقمه (13) مع مثل هذا الرقم في كثير من ملابساته عندي، وهي معروفة لمن يعرفونني من أصحابي وذوي قرباى.
وأكاد أسمع بعد هذا سؤالا على لسان القارئ، يحتاج إلى جوابه مع جوابي للسيد «سمير»: ولماذا كل هذه المبالاة بالتفاؤل والتشاؤم، إن لم يكن لهما قرار عميق في نفسك؟
وأعود إلى ابن الرومي - سامحه الله - فأقول إنه هو القرار العميق ولا قرار؛ فإنني كنت أسمع التحذير - مزحا وجدا - ممن يحضرون كتابتي عنه وإعجابي بشعره، فكان تمثال البومة الصامت جوابا لهم، يتكلم معهم بلسان الحال كلما لجوا في المقال، ووددت يومئذ لو لأنني استغنيت عن التمثال الصامت ببومة ذات نعيب؛ فذلك جواب للسؤال أفصح من الصمت المجهول.
هل نفرتيتي أرمنية؟1
سؤال للسيد «علي سري، شارع أبي بكر الصديق بمصر الجديدة»، يذكر فيه كلاما للكاتب الأرمني «أرشاج البوبجيان»، من كتاب له عن العلاقات القديمة بين أرمينية ووادي النيل قال فيه:
أراد أمنحوتب في شيخوخته المتقدمة أن يتزوج من الأميرة توتوخيبا بنت الملك دوشراروي سنة 1387-1367 قبل الميلاد - وهو الملك الميداني في ذلك العصر - فأرسل وفدا لمصاحبة الأميرة إلى مصر، حيث استقبلت بحفاوة عظيمة، ولكن لم يصل أمنحوتب الثالث إلى أمنيته؛ لأنه مات وخلفه ابنه «أمنحوتب الرابع» 1383-1375 قبل الميلاد، الذي تزوج بالأميرة الجميلة توتوخيبا، المعروفة في التاريخ بالملكة نفرتيتي، ومنحها لقب الوارثة العظيمة وأميرة جميع النساء وسيدة الجنوب والشمال، وبذلك أعطي الميدانيون الذين يمثلون أحد العناصر المكونة للشعب الأرمني ثلاث ملكات عظيمات.
ثم يقول السيد علي سري: «فهل لكم أن تتفضلوا بالإفادة عما إذا كان هناك نصيب من الصحة لما ذكره المؤلف أو سند من التاريخ؛ لأن المعروف عند أكثر الناس أن هذه الملكة فرعونية أصيلة لا أرمنية، ونرجو أن نقرأ جواب السيد الكريم في يوميات الأخبار لتعم الفائدة ولا تقتصر علي وحدي ...» •••
ونقول - فيما نعلم - إن اللبس في تحقيق نسب نفرتيتي ربما سرى إلى المؤرخ الأرمني من تاريخ الفترة التي تحدث عنها، وهي فترة مشهورة في تاريخ الشرق الأوسط القديم بكثرة علاقات المصاهرة بين الفراعنة وملوك الحيثيين والميتانيين، وغيرهم من شعوب الحدود بين آسيا الصغرى وما جاورها إلى الشرق وإلى الجنوب، ومن هؤلاء قبائل أرمنية إذا صح أن قبائل الحيثيين جميعا ترجع في أصولها إلى شواطئ بحر الخزر من مشرقه إلى مغربه؛ حيث تتلاقى الحدود بين تلك الأقاليم وبين الأقاليم الأرمنية إلى اليوم.
وقد كان الفراعنة - بعد إخراج الهكسوس (الرعاة) من وادي النيل - يطاردونهم إلى تلك الأقاليم ويتعمدون مصاهرة أمرائها؛ لتوثيق الصلة بين بلادهم وبلاد الوادي، والاحتفاظ ببعض الرهائن العزيزة ضمانا لدوام تلك الصلات.
وقد ذهب بعض المؤرخين من أجل ذلك إلى افتراض لا يؤيده الواقع؛ فزعموا أن إخناتون قد استعار إصلاحه الديني في التوحيد من ديانات الأميرات الغريبات، ومنهن - على القول المشهور - أمه «طاي»، التي يشك المؤرخون في نسبتها إلى البيوت المالكة، ويرجحون أنها إحدى الوصيفات المتنقلات مع بعض العرائس من بنات تلك البيوتات، ويقال أيضا إنها فرعونية لا تنتمي إلى أصل غريب.
ولكن المعروف المشهور عن نفرتيتي أنها بنت الحاجب الكاهن «آي»، وهو من سلالة الكهان والرؤساء الأقدمين بوادي النيل، وقد كانت نفرتيتي زوجة الملك إخناتون، ولم تكن بين زوجها وذلك الكاهن علاقة نسب أو مصاهرة من جانب الآباء أو جانب الأمهات، فلعل المؤرخ الأرمني يستند في روايته إلى تخمينات بعض المفسرين، الذين خيل إليهم - على سبيل الظن - أن «تادوخيبا» بنت الملك «توشراتا» الميتاني، التي كانت وصيفة بالقصر في انتظار عقد القران بينها وبين أمينوفيس الثالث قد انتقلت بعد وفاته، حسب العادة، إلى حريم ابنه وأصبحت هي زوجته المشهورة باسم نفرتيتي. وقد أشار أحدث المؤلفات في تاريخ الفراعنة في الصفحة ال (213) منه إلى هذه «التخمينة»، وعقب عليها قائلا: «إن هذه الفكرة يقوم في سبيلها عائق يحول دون قبولها، وهو أن المعروف أن نفرتيتي كانت لها أخت في مصر، وأن «تي» قرينة الحاجب الكبير كانت ترضعها وتربيها.»
ونعني بأحدث المؤلفات في تاريخ الفراعنة كتاب «مصر الفراعنة»، بقلم عالم المصريات الكبير سير «ألان جاردن»، الذي أصدرته مطبعة أوكسفورد هذه السنة قبل شهور.
أو لعل المؤرخ الأرمني يستند إلى مراجع في اللغة الأرمنية لا نعلمها ولا توافق المشهور عن تاريخ هذه الفترة، وأكثره - كما يعلم القراء - من كشوف الحفائر الحديثة لم يسجل باللغة الأرمنية قبل القرن العشرين.
والثابت في التاريخ المصري القديم أن عبادة «آتون» لم تكن مستعارة من القبائل الآسيوية في تلك الفترة؛ لأنها عرفت قبل عصر إخناتون بأكثر من ألف سنة، ومن هذا الاسم استعار اليونان اسم أدونيس كما استعاروا عادة أيزيس السرية، ومنه على الأرجح اسم أدوناي بالعبرية القديمة.
كذلك يظهر أن الملكة «طاي» أم إخناتون لم تكن هي صاحبة الرأي في نشر ديانته عن التوحيد؛ لأنها بقيت في طيبة ولم تشأ أن تصاحب ابنها إلى عاصمته الجديدة؛ حيث أعلن عبادة أتون وأمر بنشرها في سائر الديار المصرية.
وظهر أيضا من حفائر بوغاز كوي وغيرها من الحفائر الآسيوية أن الحيثيين كانوا ينقلون عباداتهم وأربابهم عن الحورانيين وجيرانهم في الجنوب بين بابل ودمشق القديمة، ولم يعرف من أرباب الحيثيين في الجنوب غير القليل الذي سمع به الجنوبيون دون أن تقترن به المراسم أو الشعائر المرعية في هياكل العبادة.
ويجوز أن تكون الملكة «طاي» من أصل أرمني قديم؛ لأن الأقوال كثيرة في انتسابها إلى الأقاليم الآسيوية.
أما الملكة «نفرتيتي»، فليس في تاريخها المعروف ولا في ملامحها الظاهرة من تمثالها، ما يؤيد القول بانتسابها إلى غير وادي النيل، إلا إذا كان في المراجع الأرمنية ما يؤيد هذه الرواية أو يرجحها، مما يعلمه المؤرخ ولم نعثر له على سند متين في التواريخ المشهورة.
اليوجا1
... إنني وطائفة من الزملاء لفي شدة الشوق إلى معرفة شيء عن مذهب «اليوجا» المعروف، وعما أشيع عنه من القدرة على السيطرة على النفس وعلى أجهزة الجسم المختلفة والسيطرة على الطبيعة وغيرها، وتعمد تناسي الزمن للاحتفاظ بالشباب والحيوية، مما يبدو لنا إغراقا في الخيال، وأرجو أن يتسع وقتكم للرد على تساؤلنا في يومياتكم بالأخبار.
مصطفى كمال أحمد
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
منذ سنوات غير بعيدة تلاقى العلم الطبيعي ومذهب «اليوجا» في حقيقة واحدة، لا تزال قابلة للتوسع في تفصيلاتها وفي تطبيقاتها العملية.
فالتجارب الجراحية، والتحليلية، قد أثبتت أخيرا أن وظائف الجسم كلها خاضعة لتأثير الدماغ عليها، وأن للدماغ سيطرة عليها من غير الخيوط العصبية، التي كان المفروض أنها الواسطة الوحيدة لتنظيم الفعل ورد الفعل بين الدماغ والأعضاء.
وكان المعتقد المقرر أن أعضاء الجسم تنقسم إلى قسمين: قسم مرتبط بحركة الدماغ، وقسم آخر مستقل عن هذه الحركة يشبه النبات في استجابته للمؤثرات وتسمى أعصابه من أجل ذلك بالجهاز العصبي النباتي
Vegetative nervous system .
ولكن هذا الاعتقاد قد تبدل كل التبدل بعد التجارب الكثيرة في حالات التخدير والانتباه، وتبين أن العلاقة بين الدماغ وبين جميع الوظائف الجسدية محكمة غاية الإحكام، وأن رد الفعل ينقطع على درجات إذا تعطل الدماغ عن الشعور وإرسال النذر والتنبيهات إلى الأعضاء، ولكن الأعضاء تؤدي وظائفها في أحوال الدماغ العادية، أيا كان حال الموصلات المألوفة بين الرأس وسائر الأعضاء.
وشوهد أن بعض الحيوانات التي تنخدر في فصل الشتاء تلتقط الجراثيم وهي نائمة، فلا تتأثر بها إلا إذا عادت إلى اليقظة، وأن بعض السموم يتوقف فعله في مثل هذه الحالة فلا يؤدي إلى الموت، وهو في العادة قاتل ذريع.
فإذا ثبت هذا علما وتجربة، فهو موافق لمذهب «اليوجا» في جانب مهم من دعوى أصحابه؛ وهو إمكان التأثير في الأمراض وحالات الأعضاء بقوة الإرادة واستخدام الرياضة النفسية لتركيز الذهن على اتجاه واحد، وإحداث ما يشبه الاستجابة المغناطيسية بين الفكر والوظائف الجسدية.
وإلى هنا لا صعوبة في تعليل المؤثرات الدماغية وآثارها على البنية الحية. وإذا كانت أدمغة الأحياء الدنيا التي تنخدر خلال بعض المواسم قادرة على وقاية جسمها بإمساك مؤثراتها أو إرسالها، فلا غرابة في قدرة الإنسان على مضاعفة هذه السيطرة بوحي الكلمات والمعاني التي يدركها الحيوان، فتعمل الكلمة ما يعمله السحر المزعوم، وما هو في الواقع غير عمل طبيعي مجهول العلاقة عند الذين ينسبونه إلى سيطرة خارجة عن الطبيعة.
وتحضرنا هنا القصة التي تروى عن الفيلسوف ابن سينا والقطب الصوفي سعيد أبي الخير، حين لاحظ هذا أن الفيلسوف يستنكر منه علاجه المريض بالعزائم والدعوات.
قال القطب الصوفي للفيلسوف: وماذا تدري أنت من هذه الأمور، إنك حمار!
فما سمعها الفيلسوف حتى بدا على وجهه الاحتقان الشديد، وصعد الدم إلى عينيه، ولاحت عليه أعراض الحالة المرضية التي يصاب بها المحموم.
وكان هذا هو المقصود بتلك الكلمة الجارحة؛ فإن أبا الخير بادر بإنقاذ ابن سينا من هذه الحالة المؤلمة قائلا: لا عليك مما سمعت، وإنما عليك أن تذكر أن الإنسان الذي تمرضه كلمة قد تشفيه كلمة، ولو كان من أعلم العلماء. أو قال له على الجملة كلاما بهذا المعنى.
ولكننا نقف عند هذا الحد ولا نخطو بعده خطوة واحدة إلى المؤثرات الطبيعية التي تأبى أن تعلل بأمثال هذه العلة؛ فكل ما قيل عن هذه المؤثرات كسيطرة اليوجا على عناصر الطبيعة وعلى مجرى الزمن وما شابه هذه الأقاويل، فهو إشاعات بغير برهان، وهو مما ينسب عندنا أحيانا إلى كرامات الأولياء الأحياء والأموات، ولا علاقة له باليوجا ولا بمذاهبها ودراويشها.
وكل ما استعصى تعليله بالعلل الطبيعية، فهو دعوى لا تنهض لها حجة غير الثقة العمياء والتسليم بغير تفكير.
الأسرار الخفية عند العلماء1
... قرأت الخبر الآتي في العدد الصادر يوم الأحد 3 سبتمبر في صحيفة الأهرام، وخلاصته أن الرئيس الأمريكي كنيدي أشاد بعلماء جامعة كليفورنيا ومن بينهم عالم يوجسلافي زائر؛ لاكتشافهم جسيمة جديدة، وقال إن هذا الاكتشاف يعتبر حدثا هاما في معرفة تركيب النواة الذرية.
وحيث إنني قد وصلت منذ حوالي عام إلى كشف جديد قد يضيف معلومات أخرى إلى ما هو معروف عن البناء الذري، ووجدت أن هناك جسيمات أخرى تدور حول الإلكترونات - الكهارب - فلا أعرف هل الخبر يشير إلى نفس الكشف أو إلى كشف آخر.
هذه هي خلاصة الرسالة التي تلقيناها من الأستاذ محمود سامي نوار المهندس، مساعد مدير الأعمال بإدارة مياه الجيزة والجزيرة، وقد شرح فيه كشفه، فأشار إلى تشبيه النواة بالمنظومة الشمسية، وقال إن هذا التشبيه يتم بتقدير وجود الأقمار حول سيارات المنظومة، وإن الجسيمات المكتشفة حديثا قد تكون من قبيل هذه الأقمار.
وقد قال الأستاذ المهندس: «وإني مستعد لزيادة التفسير والبرهان إذا لقيت هذه النظرية قبولا من الناحية العلمية. أما إذا كان رأيي هذا مخطئا، فهو اجتهاد على كل حال.»
ونقول إننا نراجع الصحف العلمية التي نعتمد عليها في الاطلاع على أخبار العلم المبسطة لغير المختصين، فلا نقف على تفصيل للخبر الذي نشرته صحيفة الأهرام، ولكننا نعلم من بسائط العلم التي قرأناها من قبل أن البحث اليوم جاد في معاهد الدراسات الطبيعية للوقوف على الأجزاء التي تسمى بالمادة الضد
Antimatter ، والتحقق من إمكان تركيب هذه المادة الضد كما تركب الذرة من محتوياتها، فإذا وجد البروتون الضد والكهرب المستقل - مثلا - فهل يمكن تركيب الجسيمات المستقلة منها كما تتركب من الأجزاء السلبية والإيجابية التي تتألف منها الذرة المادية الآن؟
إذا تم العثور على هذه الأجزاء، فالنتيجة عظيمة الشأن جدا في الاهتداء إلى مصادر الطاقة ومصادر المادة، بل إلى الطور السابق في وجود الكون كله لأطوار المادة السديمية وأطوار الغبار الكوني، الذي يملأ آفاق الفضاء ويرتبط بسر الخلق في مظاهره المحسوسة.
كذلك يجد العلماء الطبيعيون في البحث عن الأجزاء البدائية من المادة، التي لا تزال مجهولة
Elementary particles
ويتوقف على اكتشافها كل علم صحيح بحقيقة القول التي تمسك هذه الأجزاء الإيجابية والسلبية والمحايدة والضدية، ولا تزال أسرارا خفية عند علماء الطبيعة والكيمياء وعلماء الفلك والظواهر الجوية، وليس أجل من هذه الأسرار شأنا في كل ما عرف إلى اليوم عن أوصاف المادة وتفسيراتها، ومنها - بل في طليعتها جميعا - سر القوة المغناطيسية وإمكان التحويل بينها وبين القوة الكهربية والجاذبية.
وهذه دائرة من البحث تتسع للفروض والنظريات التي تتبدل حينا بعد حين، ويستطيع الاشتراك فيها كل دارس مختص يملك وسائل التجربة في معاملها العلمية. وليس من رأينا أن نستكثر على دارس من بيننا أن يهتدي إلى فرض أو إلى نظرية تساعد على تصحيح التفسير في أمر الجسيمات المعروفة أو المجهولة، ومن تابع الفروض والنظريات المتوالية في كشوف المادة لا يجهل مقدار الفائدة العملية التي استفادها الباحثون من فرض المشابهة بين النواة وبين المنظومة الشمسية، فليس مما يستخف به أن يضاف إلى هذا التشبيه اتساع النواة للأقمار التابعة للسيارات بعدد مقدور أو غير مقدور، وليس مما يستبعد أن تكون هذه الأقمار تفسيرا معقولا للجسيمات التي يجد العلماء في البحث عنها، ولهذا نقترح على المهندس الفاضل أن يبسط بحثه للمختصين ليقنعهم أو يقنعوه بنصيب نظريته من الصحة، ونرجو له التوفيق في انتظار جلية الخبر منه ومن جانب المصادر التي توافينا من الخارج بتفاصيل هذه الكشوف.
إخواننا في الكواكب
إن البحث في النواة، أو في المادة الأرضية على الإجمال، منفذ من منافذ الاطمئنان على مواقع أقدمنا - نحن بني آدم - في هذا الكون الفسيح المزدحم «بالمطبات» ومواضع العثرات.
وإن عبرة الفيلسوف القديم الذي مضى على رأسه يرقب أفلاك السماء حتى هوى إلى الحفرة التي تحت قدميه؛ لهي عبرة قائمة في زماننا هذا، وقد أوشكنا أن نعلق أنظارنا وأفكارنا بالفضاء وسكان الفضاء ورحلات الفضاء، حتى كدنا ننسى أننا «فضائيون» منذ نشأنا على هذه الكرة الأرضية، وأننا لا حق لنا في هذه «اللهفة» المحدثة على فضاء القرن العشرين!
وقد تعاودنا الطمأنينة بعد الحديث عن الذرة، فلا نرى حرجا من التطوح إلى وثبة أخرى من وثباتنا «الفضائية»؛ سعيا إلى إخواننا الغرباء في الكواكب العلوية: إخواننا الذين لم يسألوا عنا قط قبل أن نسأل عنهم، وليس لهم عذر قط في هذا الجفاء، إلا أن يكون ذلك العذر المعقول عذر المفقودين الذين ليس لهم وجود، أو ذلك العذر الآخر الذي نلام عليه نحن ولا يلامون عليه؛ وهو أننا - سامحنا الله - غير أهل للسؤال وغير مستحقين من إخواننا لتعب السعي واللقاء!
إلا أن المروءة الأرضية على ما يظهر قد بلغت حدها من الحنين والوفاء لإخواننا الغرباء في مجاهل الفضاء، وبين يدينا تعقيبان من كاتبين يراجعاننا، بل يكاد كلاهما أن يعتب علينا؛ لأننا أخلينا الكواكب العليا من السكان، كأننا نحن الذين نسكنهم أو نخرجهم من ذلك المكان!
وحجة الكاتبين الأديبين أن وسائل الاستكشاف الحديث لم تبق مجالا للشك فيما يصلح لتوليد الحياة من السيارات الشمسية، فإذا جاز الشك في أحوال الكواكب البعيدة من حيث الاستعداد لتوليد الأحياء عليها، فهذه السيارات الشمسية التي تشبه كرتنا الأرضية ليست من المجاهل الخفية في هذا الباب.
والذي نود أن نؤكده على سبيل اليقين أن الكشوف الأخيرة لم تتقدم بنا قيد شعرة في هذا المضمار السحيق، بل نود أن نذكر دائما أن زيادة المعلوم لا تنقص من المجهول كما يسبق إلى الخاطر لأول وهلة؛ بل يزيد المجهول كلما زاد المعلوم؛ لأن المعلوم يفتح أمامنا ميادين للبحث لم تكن مفتوحة قبل الآن، فنعلم بعد البحث أننا نجهل الشيء الكثير، وأننا أشد جهلا من آبائنا وأجدادنا بما يفوتنا علمه بعد افتتاح البحث فيه، وإنما الفارق بيننا وبينهم أننا نعلم مواضع جهلنا، وهم لا يعلمون!
وسنذكر مثالا قريبا من مبلغ علمنا بشروط الحياة في سيارات المنظومة الشمسية:
كانوا يرجحون ترجيحا يقرب من اليقين أن «المشتري» سيار مقفر من الحياة ومن النبات؛ لأنه بعيد من الشمس مغلف بطبقات تحجب عنه حرارة الشمس، فلا تزيد درجة الحرارة فوقه على مائتي درجة وعشر درجات فارنهيت تحت الصفر، وهي درجة تكفي لتجميد كل جرثومة تصل إليه من خارجه، وتكفي من باب أولى لمنع نشوئها عليه.
ولكن العالم الفلكي كارل ساجان، أحد علماء كليفورنيا، أيضا يرى الآن غير ذلك الرأي ويسأل: ماذا يمنع أن تكون تلك الطبقات التي تحيط بالسيار بمثابة مصيدة تلتقط الأشعة وتخزنها وتلقي من حرارتها على سطح السيار ما يكفي لحفظ الحياة عليها؟
إذا صح هذا الاحتمال، فالمشتري أصلح للحياة من الزهرة التي يقال عنها هي والمريخ أنهما أشبه الكواكب بالكرة الأرضية؛ لأن الأشعة والبروق كافية في البحار المترعة بالنشادر على ظهر المشتري لتكوين الجرثومة الحية وإمدادها بالغذاء.
وبهذا الاحتمال تضاف إلى المساكن العلوية أسرة أخرى من أقربائنا الذين لم يسألوا عنا ولا يريدون أن يعرفونا، أو لعلهم عرفونا فلم يسألوا عنا، غير ملومين.
وسلام عليهم يوم نلقاهم مكرهين، والسلام أمانة في ذمة السائلين عنهم من إخواننا الأرضيين!
حديث الحميراء1
تحية طيبة مباركة، وبعد، فقد ذكرتم في كلمتكم القيمة التي نشرت بجريدة الأخبار حديثا اشتهر بين الناس بأنه مرفوع إلى النبي - عليه السلام - وهو غير صحيح، وذلك هو حديث: خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء.
قال فيه الحافظ ابن حجر: لا أعرف له إسنادا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث، إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرجه، وسئل الحافظان المزي والذهبي فلم يعرفاه، ولا نستقصي أسماء من طعنوا فيه من أئمة الحديث.
وقد دعاني إلى بيان حقيقة هذا الحديث ما أعرفه من أن الناس يثقون بكل ما تنشرونه ولا يشكون فيه، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
محمود أبو رية
نشكر للأستاذ الفاضل استدراكه، ونود أن نقول - لهذه المناسبة - إن تحقيق الإسناد لم يكن حكرا للمشتغلين بالتحديث ونقل الروايات عن الأحاديث؛ لأننا جميعا نستند إلى أقوال ثقات اللغويين في تحقيق الشواهد اللغوية من قبل الإسلام في عصور اللغة الأولى، وقد روى صاحب لسان العرب هذا الحديث بهذه الصيغة: «خذوا شطر دينكم من الحميراء»، ثم قال: يعني عائشة. وكان يقول لها أحيانا: يا حميراء.
وقد تحقق في تاريخ الحديث والمحدثين أن الشيخين اتفقا على رواية مائة وأربعة وسبعين حديثا عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - وأن البخاري انفرد بأربعة وخمسين ومسلما بثمانية وستين. وقال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الأكابر يسألونها عن الفرائض. وفي الجزء الثالث من تيسير الوصول عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: ما أشكل علينا، أصحاب رسول الله، حديث قط فسألنا عائشة عنه إلا وجدنا عندها منه علما، وقد أخرجه الترمذي وصححه.
فالواقع أن صحابه النبي - عليه السلام - كانوا يأخذون أحكام الدين من السيدة عائشة، وأنها - رضي الله عنها - عاشت بعد النبي قرابة أربعين سنة يسألها الصحابة التابعون عن أحكام الدين فتجيب، ولم نسمع أن أحدا منهم شك في قبول حديث سمعه منها.
وقد جاء معنى الحديث في غير المراجع التي أشار إليها الأستاذ أبو رية ، مرويا في «كنوز الحقائق من حديث خير الخلائق» للإمام المناوي على هامش الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، ونصه هناك «خذوا ثلث دينكم من بيت عائشة.»
فأما الطعن في الحديث فلن يكون طعنا في صحة معناه ولا في صحة الواقع، وإنما يكون سكوتا عن السند أو عن تسلسل الرواية، ومثل هذا السكوت مما يحمد الرواة عليه؛ لأنه شاهد بأمانتهم في النقل وتحرجهم من نسبة الحديث إلى سند لا يعرفونه، ولكنه لا يبيح تكذيب الحديث ولا الجزم بامتناع صدوره عن النبي - صلوات الله عليه - إذ كان النبي لا يمنع سؤال السيدة عائشة عن شيء يستفسرونه من كلامه، وإن حدث هذا على فرض من الفروض البعيدة جدا، فلن يوجد من بين صحابته - رضوان الله عليهم - من يسأل بعد ذلك عن حكم واحد أو فريضة واحدة ترجع إلى سند منهي عنه.
وجوهر المسألة كلها أننا روينا عن السيدة عائشة إنكارها لقولهم: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وأنها تلت بعد ذلك آية الكتاب التي نصت على أن الإنسان لا يؤخذ بوزر غيره
ولا تزر وازرة وزر أخرى .
فالاستناد إلى إنكار السيدة عائشة لما نقل عن النبي بذلك النص، إنما هو الاستناد الصحيح الذي يدعمه نص الكتاب الكريم، وأخذ هذا الحكم عنها سبب من أسباب اليقين لا غبار عليه، ولا يبقي من موضع الخلاف بعد هذا إلا أن حديث الحميراء لم يسمعه بلفظه بعض الحفاظ، ولكنهم لا يقولون بامتناع وقوع الأخذ ولا بمنعه عقلا ولا نقلا على وجه من الوجوه.
ونعود أخيرا فنقول للأستاذ الأمين على تصحيح الأحاديث من مصادرها: إننا نتحرج غاية الحرج من نسبة أمر إلى صاحب الدعوة الإسلامية، لا يجوز صدوره منه، أو يجوز أن يكون فيه خلاف لكتاب الله وللمعهود المأثور من خلائق رسول الله، وإن الحديث المشهور الذي نستشهد به أحيانا قد يختلف الناقلون له بنصه كما تختلف النصوص في بعض الأحاديث المصححة باتفاق الثقات، ولكنه لا يختلف أبدا عن مدلول الأحاديث الأخرى التي تؤيده بمعانيها كما تؤيده بوقائع التاريخ وحجة العقل السليم.
وللسيد أبي رية حقه من الشكر على غيرته وحسن استدراكه في المبدأ والختام.
تقدير الأعمار1
... من المعضلات التي يلاقيها المرء في حياته «العقائدية»، مسألة التعمير وتكاثر النوع البشري في أيامنا هذه بصفة مدهشة، وصلتها بقوله جل شأنه:
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . والعلماء اليوم يعزون ظاهرة التعمير وتكاثر النوع البشري إلى تحسن الأحوال المعيشية وازدياد عدد المستشفيات في المرافق المتمدنة! فهل هناك تأويل آخر للآية الكريمة غير الذي ذهبت إليه جمهرة الفقهاء والمفسرين من أن آجال الناس محدودة؟ أرجوكم أن تقولوا قولا فاصلا في هذه المشكلة وما شابهها، وأن تنقذوا جيلا كاملا من الحيرة التي غزت عقولهم بتضارب هذه الآراء واختلافها.
وإني إذ أتقدم إليكم بهذا السؤال المتواضع، أشكركم جزيل الشكر على ما أسديتموه من أياد بيضاء للعالم الإسلامي والعربي، بما قدمتموه إليه وكشفتم له عن زيف الدعوات التبشيرية التي نشطت في هذه الأيام، واستغلت جهل الناس وسذاجتهم لتقويض دعائم العروبة والإسلام ...
عبد الرحمن بن عبد الله
الرباط، شارع بوقرون، المغرب الأقصى
هذا سؤال من أسئلة شتى في المسائل الدينية نتلقاها من ناشئة المتعلمين في أنحاء العالم الإسلامي ونغتبط بها أحيانا؛ لأنها، في بعض دلالاتها، قد تدل على علامات حسنة تدعو إلى التفاؤل وصدق الرجاء، بين العلامات الأخرى التي لا تندر في هذا العصر المضطرب، وفيها ما فيها من نذر التشاؤم والريبة.
فمن علامات التفاؤل أن تتفتح الأذهان الفتية للبحث في حقائق الكون وأسرار الحياة، ومنها أسرار الأعمار البشرية.
ويدعو إلى التفاؤل أن ينظر الشاب المتعلم في براهين عقيدته ولا يأخذها مأخذ التسليم الأعمى بما يجهله، ولو كان من المسائل التي تعلم بالدرس والمناقشة.
وأدعى من ذلك إلى التفاؤل أن يصون الشاب المتعلم عقله وضميره عن رعونة المذاهب الهدامة، التي يخيل إلى أصحابها المحدودين أن المسألة من الخفة والهوان بحيث تنصرف بكلمة إنكار وتسليم، وقد يكون هذا التسليم المنكر أحوج إلى الدليل من تسليم العجائز بأسخف الخرافات!
لكننا - على هذا - لا نحب أن يبلغ المبشرون غايتهم بهذه السهولة التي تيسر عليهم أداء رسالتهم الخبيثة من أهون سبيل.
فإن الأعمار تقصر وتطول لأسباب معروفة ومجهولة، ولا يلزم من العلم بأسباب قصرها وطولها أن يمتنع تقدير الأعمار على قول من أقوال المفسرين الأقدمين أو المحدثين.
وقد حدث في أيام الموت الأسود أن كان الناس يموتون بالألوف في سن الطفولة وسن الشباب وسن الشيخوخة، وعرف الناس لماذا قصرت أعمار صغارهم وكبارهم فلم يعترضوا بذلك على عقيدتهم في تحديد الآجال.
وتطول الأعمار اليوم مع توافر أسباب الصحة ويعلم الناس لماذا تطول؛ فلا يجوز أن يكون ذلك مبطلا لعقيدة من العقائد في تحديد الآجال.
وندع الأحياء وننظر في الجماد الذي لا يحيا ولا تعرف له روح باقية أو فانية بمعنى من معاني الروح، فإننا نعرف أن آنية الحديد يطول أجلها حيث تقصر آجال الآنية من الخزف أو الورق، ولا يلزم من ذلك أن نتجاهل أسباب التفاوت في هذه الآجال، بل لا يلزم منه أن يزيد عمر الحديد إذا تعرض للتلف على عمر الورقة المحفوظة في مكان أمين، أو عمر الورقة التي تعالج بالعقاقير لتحتمل العوارض الجوية التي تبلي صحائف المعدن المتين.
فالعلم بأسباب البقاء الطويل أو القصير لا ينفي صحة العلم بالطبائع التي تكتب لها الأعمار الطوال أو القصار؛ فإن تقدير الآجال شيء، وتعليل اختلافها بالسنوات والأيام شيء آخر.
على أن التعليلات العلمية الحديثة لم تكشف سرا واحدا من أسرار الأعمار الحيوانية في أصول تكوينها، بعد كل ما عرفه العلماء من أسرار الصحة والمرض وأسرار التعمير والاغتضار.
لماذا تعيش سمكة الشبوط مائة وخمسين سنة، ولا يعيش الحصان القوي حتى يبلغ الأربعين؟
ولماذا يزيد عمر الببغاء على عمر النعامة؟
ولماذا يزيد عمر السلحفاة على عمر الحوت؟
ولماذا تعيش شجرة من النبات ثلاثة آلاف سنة، ولا يعيش نبات آخر بعد عامه الذي يثمر فيه؟
إن العالم الذي يدعي علم أسرار العمر في حي من الأحياء يخرج نفسه من عداد العلماء، ويلحق بزمرة الأغرار الأدعياء.
وعلينا نحن أن نبحث عن هذه الأسرار، وأن نستمع إلى أقوال العارفين بقليلها وكثيرها، ولكننا نسهل للمبشرين مهمتهم إذا سمحنا للشكوك أن تتسرب إلى عقولنا وضمائرنا من ذلك اللغط الذي هو أولى بالشك، بل بالرفض القاطع، دون منافذ العقل والضمير.
بطلان علوم التنجيم1
كنت أطالع كتاب التنبؤ بالغيب عند مفكري الإسلام للسيد الدكتور توفيق الطويل، فقرأت في صفحة 134 منه أن هناك نوعا من التنبؤ بالغيب ينسب لأصحابه ويسمى بالزايرجة، ولا سيما تلك التي تنسب إلى محمد السبتي، أحد أعلام المتصوفه بالمغرب في أواخر المائة السادسة، ولا ينكرها بعض المفكرين استنادا إلى ما فيها من تناسب هو السر في الحصول على المجهول من المعلوم كما يحدث عند أهل الرياضة، ولهذا نسبت إليهم.
فما ترون في هذه الأقوال المنسوبة إلى طائفة من المفكرين والمستشرقين؟
محمد المهدي
هذه فاتحة خطاب السيد محمد المهدي، تليها شذرات مقتبسة من كتب الأقدمين والمحدثين عن بيوت الزايرجة وطوالع الفلك، تجري في مجرى تلك الفقرة المنقولة من كتاب الأستاذ الطويل، وخلاصة سؤال السيد «المهدي» عنها أنه يريد أن يتبين حكم العلوم العصرية في هذه الأقوال.
وليس السيد «المهدي» بالوحيد الذي يشغله هذا السؤال وأمثاله عن الطوالع السماوية وأثرها في الكائنات الأرضية، على رأي المنجمين الأقدمين ومن يقتفي أثرهم بين المحدثين في هذه المباحثات التي يطلقون عليها اسم العلوم.
ففي بلادنا وفي بلاد العالم ألوف يتطلعون إلى حقائق هذه العلوم المزعومة، وتتردد أخبارهم في صحف الغرب والشرق، ويبلغ الاهتمام بها عندهم ما لم يبلغ بعضه عندنا إلى الآن.
وقد عرضت إحدى مجلاتهم المشهورة - لايف - لهذه المسألة منذ شهور قريبة، فنشرت عنها البيانات المفصلة، التي يفهم منها أن «علماء» هذا التنجيم يفتحون المكاتب، وينشرون الصحف لتلقي الأسئلة والإجابة عنها؛ فيما يدور على الطوالع والنبوءات، وأسرار الغيوب عن السعود والنحوس، وموافقة الحساب الفلكي لما ينويه السائل أو يشرع فيه من أعمال التجارة أو السفر أو المشاركة أو الزواج وما إليها.
ويسبق إلى الظن أن الكشوف الفلكية الحديثة وعودة الناس إلى الكلام على علاقات السماء بالأرض والأرض بالسماء ، هي التي أثارت في الأذهان حب الاستطلاع عن حقائق التنجيم القديم، وكلها مما يدور على العلاقات المفروضة بين بني الإنسان فوق الأرض وتحت نجوم السماء.
ونحمد الله على أن حكاية التنجيم القديم يمتنع الخلاف عليها في العصر الحديث من الوجهة العقلية العلمية؛ لأن الخطأ فيها قد انتقل من دائرة البحوث والآراء إلى دائرة المشاهدة والعيان، فلن تبق عند العلماء المحدثين ذرة من الشك في بطلان كل أساس قامت عليه علوم التنجيم القديمة؛ لأن بطلان هذه الأسس ثابت كل الثبوت بحساب الأرصاد والأرقام، وثبوته هذا متكرر الشواهد في عدة مسائل مقررة لا تحتمل الجدال.
فلا خلاف في بطلان الدعاوي التي تقوم على معلومات الأقدمين عن السيارات والعناصر والبروج، وسائر هذه المعلومات التي ثبت اليوم أنها كانت ضربا من التخمين يصطدم بالواقع الحسي قبل اصطدامه بوقائع الرأي والتفكير. (1)
فالطوالع القديمة كانت كلها معلقة على اعتبار السيارات السماوية سبعا فقط، منها الشمس والقمر، وليست منها الكرة الأرضية.
والمحقق اليوم أن السيارات تزيد على العشر وليس منها الشمس ولا القمر، وأن السيارات الصغيرة لا يحصرها الحساب، وقد يزيد عددها إلى الآن على ألف وخمسمائة، وقد ظهرت إلى اليوم ثلاث سيارات كبار لم يكن يعرفها الأقدمون قبل منتصف القرن الثامن عشر، وهي أورانيوس ونبتون وبلونس الذي كان مجهولا منذ نحو ثلاثين سنة.
فإذا كان علم المنجمين الأقدمين قاصرا عن المعرفة بعدد السيارات نفسها فمن الوهم المطبق أن نستدل بطوالعهم الفلكية على الغيب المجهول. (2)
وكان علم التنجيم قائما على أربعة عناصر أرضية؛ هي النار والتراب والهواء والماء، وعلى هذه العناصر الأربعة تبنى تقسيمات المنجمين لأصحاب الأمزجة من الناريين أو الترابيين أو الهوائيين أو المائيين، وعلى صلاح هذه العناصر للاتفاق يبنون نبوءاتهم على اتفاق أصحاب الأمزجة، كاتفاق الترابيين والمائيين مثلا واختلاف الناريين والهوائيين.
ولكن الثابت المقرر اليوم أن العناصر تزيد على التسعين في الطبيعة وتزيد على المائة في المعمل، وأن التوافق بينها مبني على خصائص كيمية أخرى يعرفها علماء الكيمياء ولا يعرفها المنجمون.
فلا محل لسؤال المنجمين إذن عن التوافق المزعوم بين عناصر ليس لها وجود، وبخاصة حين يكون ذلك التوافق محسوبا بحروف الأسماء وليس محسوبا بفوارق الأمزجة المركبة في طبائع الأحياء. (3)
وقد كان الأقدمون يعلقون طوالع الناس بمنازل الفلك ويحسبون أن هذه المنازل صور حقيقية في السماء، وأنها مستقرة في أماكنها بالنسبة إلى الأرض وما عليها، وأن طبائعها وطوالعها تناسب أسماءها؛ كما يتناسب الري وماء الدلو، والبحر وطالع الحوت، والسم وطالع العقرب، إلى غير ذلك من التوفيقات والتلفيقات.
والمحقق اليوم أن هذه الصورة وهمية لا وجود لها في الواقع على الإطلاق، وأن بروج السماء سميت بأسماء حيوانات مختلفة في البلدان المختلفة، فليس لها طبع واحد مقرر لا يقع عليه الخلاف. وأدعى من كل ذلك إلى الجزم ببطلان العلاقة بين البروج وسكان الأرض، أن دائرة البروج تختلف في مواقعها من الأرض بين زمن وزمن؛ فلا تثبت ألف سنة متوالية على وضع واحد؛ فما يشاهد اليوم تحت برج الحوت كان يشاهد قبل بضعة قرون تحت برج الحمل، وهكذا يقال عن سائر البروج.
فليس أمامنا في هذا العصر علم يحتمل المناقشة العقلية لترجيح الآراء فيه بين الرفض والقبول، ولكننا أمام قاعدة منهارة على أساسها ينهار كل ما يقام عليها قديما وحديثا من محسوسات الواقع، فضلا عن نبوءات الغيب.
إنما الغيب لله
صدق الله العظيم.
الزهاوي ومذهب دارون1
... بمناسبة الحديث عن الإنسان في القرآن، دار الحديث بيني وبين صديق أديب عن مذهب دارون، وروى الصديق أبياتا مطلعها:
عاش في الغاب القرد دهرا طويلا
قبل أن يلقى للرقي سبيلا
وقال عنها إنها لأبي العلاء المعري بدليل قول المعري:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
ورفض أن يذعن حين قلت له: إن القصيدة لشاعر العراق الزهاوي بعنوان سليل القرد، فأجمعنا على أن نسألكم عن القصيدة وعن رأي المعري والزهاوي في مذهب النشوء والارتقاء.
أحمد الطايع محمد
منيحة، كوم أمبو ... إن قول المعري عن الحيوان إنه مستحدث من جماد لا يلزم منه القول بمذهب دارون؛ لأنه قد يصدق على خلق الإنسان من الطين أو خلق الأحياء من الماء، فلا يخالف القول بالخلق المباشر الذي يقول به غير النشوئيين.
وللمعري أبيات كثيرة تشبه في معناها نظريات النشوئيين كقوله بتنازع البقاء:
ولا يرى حيوان لا يكون له
فوق البسيطة أعداء وحساد
وقوله في تسليح الحيوان بالأعضاء واستعداد البنية الذي يساعده في ذلك النزاع:
وما جعلت لأسود العرين
أظافير إلا ابتغاء الظفر
أو قوله:
ولو ذهبت عينا هزبر مساور
لما راغ ضأنا في المراتع أو سربا
أو كقوله في غريزة حب البقاء:
أرى حيوان الأرض يرهب حتفه
ويفزعه رعد ويرهبه برق
ولكن القصيدة التي ذركرتموها لا يمكن أن تنسب إلى شاعر قبل العصر الحديث؛ لأن الكلام عن علاقة التطور بسكنى القرد للغابات وانتقاله من التسلق إلى المشي، مذهب حديث لم يعرف قبل القرن التاسع عشر.
وفي هذه القصيدة بيت يذكر فيه الشاعر رأي نيتشه في الإنسان المترقي على سنة التطور، أو السوبرمان باسمه الإنجليزي، حيث يقول:
وسيأتي باسم السبرمان نسل
هو أرقى منهم وأهدى سبيلا
فإذا كان صديقكم لم يطلع على القصيدة في ديوان الزهاوي، فالاطلاع على هذه الأبيات فيها كاف لنسبتها إلى أحد الشعراء المتأخرين وامتناع نسبتها إلى أبي العلاء.
ويكاد نظم القصيدة أن يخصصها بالشاعر الزهاوي، ولو لم يطلع عليها القارئ في ديوانه؛ لأنه ينم على طريقته في تفعيلات البحر الخفيف؛ إذ يجعل مستفعلن بدل متفعلن كما لاحظ صديقنا الأستاذ خليفة التونسي، مع التسكين والتحريك المختلف أحيانا في بعض الأسباب والأوتاد.
وقد كنت أعجب لتكرار هذا التجوز في جميع قصائده، حتى سمعته ينشدها على طريقة الإنشاد الفارسي، فعلمت أن الإنشاد هو الذي يداري عن أذنه وقع التفاعيل المختلة، ولا يبعد أن يكون إنشاد الشعر على طريقة من هذه الطرق هو الذي كان يداري ما فيه من الخلل عن آذان فحول الشعراء الجاهليين كما قال أبو العلاء:
وقد يخطئ الرأي الفتى وهو حازم
كما اختل في وزن القريض عبيد
يعني عبيد بن الأبرص صاحب المعلقة المعروفة، ولم يكن بالوحيد في اختلال الوزن، بل كان امرؤ القيس وغيره يشاركونه في شيء منه، ولم يكد يسلم منه غير الشعراء الذين نظموا الشعر بعد عصر الإنشاد والحداء.
يحمل منارة الجهل فوق رأسه1
... يظهر أن مؤلفي الغرب يتجاهلون هذه الحقيقة - حقيقة الحضارة العربية - بل يزيدون على التجاهل أنهم يقحمون في كتبهم لغير مناسبة مقالات ملأى بالهجوم على السليقة العربية وينعتونها بأحط الصفات، وإني أقرأ الآن كتابا لمؤلف إنجليزي اسمه هربرت كارسون عن وسائل التغلب على المنافسة، أقحم فيه المؤلف صفحتين حشاهما بالحملة على العرب ولا صلة لهما على الإطلاق بموضوع الكتاب، ومع هذا نسخة من كلامه راجيا منكم التعليق عليه ...
سعد زغلول محمود
مدير شركة الأفلام العربية المتحدة
هذه فاتحة الخطاب الذي تلقيناه من الأستاذ سعد زغلول محمود، واكتفينا منه بما نشرناه هنا؛ لأنه - مع الإجابة عليه - قد يغني عن نشر الخطاب بتفصيلاته.
وقد اطلعنا على الكلام المقتبس من كلام المؤلف كما نقله الأستاذ سعد، فوجدنا أنه قد جعل اسم «العرب» عنوانا للمنافسة الضارة في الأسواق، لزعمه أن العرب يحسنون التخريب ولا يحسنون الإنشا والتعمير، ومن كلامه عن أصل السليقة العربية ينكشف للقارئ - بغير عناء - كل ما انطوى عليه عقله الضيق من الجهالة والحمق، وقلة الأمانة الخلقية والفكرية التي ينعاها على تلك السليقة، ويضرب لها الأمثال - لسوء الحظ - ضربا ينقلب عليه، ولا يصدق إلا على سليقته هو وسليقة أمثاله من صرعى التعصب والغباء، الذين يقولون ما قالوه عن جهل أو ادعاء.
فهو يقول على هذه الرواية المقتبسة ما خلاصته: إننا نرثي للعرب لأنهم يعيشون في الصحراء القاحلة وننسى أن هؤلاء العرب هم صانعو الصحراء بأيديهم؛ لأنها كانت عامرة مخصبة قبل أن يسكنوها، فما زالوا بها حتى دمروا العمار فيها، وأحلوا الرمال والتلال محل المروج والبساتين. ثم يضرب المثل بمدينة قرطاجة، التي كانت آهلة بالسكان موفورة الثروة قبل أن ينزل العرب بالصحراء الكبرى، فأصبحت بعد نزولهم بها خرابا يبابا ينعى من بناه ...
إن أمثال هذا اللغط السخيف خطبه هين وسره مكشوف؛ لأن قائليه يحملون «منارة» الجهل على رءوسهم فلا يخفى أمرهم على أحد، ويدلون على سرهم فلا يحتاج أحد إلى البحث عنه؛ إذ هو ينادي على نفسه فيعلم من لا يعلم أنه هو سر التعصب الأعمى بجميع معانيه: تعصب الدين، أو تعصب الجنس، أو تعصب الغباء والادعاء.
فالرجل الذي يجهل أن الصحاري موجودة في القارات حيث وجد العرب وحيث ينقطع السبيل بين العرب وبينها؛ هو مخلوق منقطع النظير، يحمل على رأسه منارة من منارات الجهل، تملأ الجهات الأربع من حوله، ولا تحتاج إلى بحث عنها غير النظر إلى خريطة الكرة الأرضية وإلى الألوان الصفراء عليها بغير قراءة الأسماء.
وجهله بعوامل الجفاف على ظهر الكرة الأرضية هو من نوع الجهل الذي يكشفه اليوم كل تلميذ يقرأ مبادئ الجغرافية أو طبقات الأرض أو الظواهر الجوية في كتب الدراسة الأولية.
ولو أنه قال إن قبائل «الإسكيمو» غير أهل للرثاء لأنهم هم الذين خلقوا مناطق الجليد حول القطب، لما كان هذا أعجب من قوله إن العرب هم الذين خلقوا الصحراء، وإنهم من أجل ذلك لا يستحقون الرثاء!
ومنارة الجهل الكبرى فوق رأس المعلم كارسون هذا هو كلامه عن «قرطاجة»، كما سماها، في معرض الكلام عن المنافسة المخربة الضارة، وعن الفرق بينها وبين المنافسة المنشئة النافعة.
فإن حقيقة اسم «قرطاجة» المعروف أنها هي «قارة حداثة» أو القرية الحديثة، التي أنشأتها على باب الصحراء سلالة عربية قديمة كانت - كما هو ظاهر من اسم البلدة - تتكلم العربية التي كان العرب يتكلمونها قبل الميلاد بعدة قرون.
فما الذي حدث بعد ازدهار هذه المدينة ومنافستها للدولة الرومانية بين البحر والصحراء؟
المنافسة المخربة
الذي حدث أن المنافسة المخربة جاءت من جانب الرومان، فخربوها وحكموا على أهلها بأن يتركوا مكانها خلاء ولا يعيدوا بناءها إلا في داخل الصحراء على مسافة أميال. ثم تعقبوا سفنها وقوافلها حتى لحق بها الدمار - بفضل المنافسة الرومانية - وهي في جوف الرمال بعد أن لحق بها دمارهم وهي على شاطئ الماء.
فالسلالة العربية عمرت الصحراء وعمرت البحر بقوافل السفن، كما عمرت الرمال قبل ذلك بقوافل الجمال!
أما المنافسة المخربة - بل المنافسة الوقحة التي لا تبالي أن تعلن حسدها على ملأ من العالم وعلى مسمع من التاريخ - فهي تلك المنافسة التي أعلنها أجداد الأوربيين على أجداد العرب الأولين.
والمعلم كارسون - فيما نقل عنه - يحمل منارة الجهل فوق رأسه، فيطلب من القوم في هذا العصر أن يذكروا «قرطاجة» ليذكروا أنه جاهل أحمق، أو أنهم منافسون شرفاء على طراز من الشرف لا يحسدون عليه.
ولا يعدو كارسون هذا أن يكون سمسارا من سماسرة الصهيونية المحترفين، ولكنه هو وأمثاله طغمة لا تضرنا عداوتهم، ولم تلبث سهامهم أن ترتد إليهم عند قومهم قبل غيرهم. وإنما الخطب الذي يستحق العناية به والحذر منه، هو خطب السماسرة المقنعين، الذين يزجون أكاذيب الصهيونية بين سطور الكتب باسم العلم والدراسة، أو يزجونها بين أنباء الصحف باسم الفن والسياسة، ومنهم من يحاربنا في عقر دارنا حين يموه علينا أمور كتابنا ودعاة الفنون بين ظهرانينا؛ لأنهم يسكتون عن الصهيونية أو يخدمونها - من تحت لتحت - على هذه الطريقة المستورة.
إن الذي يقول لنا إن العرب خلقوا الصحراء خطبه هين وسره معلوم غير مجهول، ولكن الخطب الذي نغفل عنه هو خطب الدعاية الصهيونية التي تدس علينا بين صفوفنا.
فمن هذه الدعاية فلنحذر يا أستاذ سعد، ومنها يكون الحذر الأكبر في عالم الأفلام على الخصوص؛ لأن هذه الدعاية - فيما نعتقد - لا تخفى على المشتغلين بصناعة الأفلام، وينبغي ألا تخفى على إخوانهم المشتغلين بصناعة الأقلام!
المعرفة التامة مستحيلة1
... أستحلفكم أن تجيبوني على السؤال الآتي في يوميات الأخبار: إن الصراع في ميدان البحث الفلسفي يكاد يقضي على قيمة هذا البحث وعلى المتصارعين في نفس الوقت؛ إذ إن بعضهم يهجم في عناد على مباحث ما وراء الطبيعة؛ أي مباحث الميتافيزيقا، وبعضهم يرد هذا الهجوم بأعنف منه، ومنهم من يحاول تحطيم المنطق الصوري، والآخر يقف في وجه هذه المحاولة، حتى كاد الحق - وهو القيمة المقدسة - أن يذهب بينهم.
محمد محمد النجار
مدرس الفلسفة بخان يونس، قطاع غزة
هذه الأسطر من خطاب الأستاذ «النجار » كافية للدلالة على موضوع السؤال كله؛ وهو موضوع المعرفة وسبيل الوصول إليها، ونحمد الله على أن مسألة المعرفة، وهي أعضل مسائل الفلسفة، قد أصبحت من موضوعات الدراسة الثانوية والمطالعة الصحفية، وقد يكون ذلك خيرا كثيرا؛ لأنه يخفف شيئا ما من رعب بعض الناس من اسم الفلسفة، وهي عند النظر إلى حقائقها من وراء قشورها «الكرنبية» تقارب ألغاز الحروف المتقطعة الأشكال المتفرقة وأسرار النجوم والكواكب وراء الستار وأمام الستار، إن لم يكن أقرب منها إلى عقول طلاب الألغاز والأسرار.
إن الصراع الذي يتحدث عنه الأستاذ مدرس الفلسفة عنيف جدا كما يقول، وكثيرا ما يحدث بين أناس من المفكرين مشهود لهم بأصالة التفكير، وهذا يدل على أمر واحد سهل التفاهم عليه، وهو أنهم يختلفون في المقاصد وإن حصروا خلافهم في عنوان واحد وهو عنوان المعرفة، فلا يعني أحدهم بكلمة المعرفة ما يعنيه الآخرون، ولا يسهل عليهم الاتفاق على الدلول المشتركة؛ لأن المعرفة أوسع من أن تنحصر في جانب واحد أو تتيسر على درجة واحدة، أو تتساوى على حد واحد في جميع المعروفات وعند جميع العارفين.
ولكنني أجزم جزما، ولا أقول أزعم زعما، أن الاتفاق واجب على حقيقتين لا سبيل إلى الخلاف عليهما:
أولاهما:
أن المعرفة التامة المطلقة التي ينتفي معها الجهل كل الانتفاء؛ مستحيلة على العقل البشري كل الاستحالة.
وليست هي مستحيلة على العقل وحده، بل هي مستحيلة كذلك على الإدراك الحسي الذي يظن بعضهم أنه مقياس التحقيق والإدراك الصحيح؛ فإن القاتل الذي يبالغ في توكيد معرفته بشيء من الأشياء فيقول إنه رآه بعينه، إنما يدرك ذلك الشيء إدراك الحس الناقص الذي لا حيلة فيه؛ لأن الألوان التي تتمثل بها المرئيات للعينين لا وجود لها في الطبيعة، وليست معرفتنا الحسية لها غير المعرفة النسبية، التي تتيسر للمخلوق الآدمي ولا تتيسر أحيانا لغيره من المخلوقات على هذا المثال.
فإذا كانت المعرفة التامة المطلقة مستحيلة بالحس استحالتها بالعقل، فلا معنى لاختصاص «الميتافيزيقا» بالخروج من دائرة المعرفة الممكنة؛ لأن المعرفة الممكنة قاصرة عن المعرفة الكاملة المطلقة في جميع المعلومات وعلى جميع الأحوال.
والحقيقة الثانية:
التي أجزم بها جزما ولا أقول أزعم زعما، أن عملية التفكير غير عملية الحس والشعور.
فليكن الحس هو مصدر التفكير كله، وليكن العقل خاليا من كل إدراك غير الذي يتلقاه أصلا من الأعين والآذان والأنوف والأذواق والجلود، فالنتيجة أن العقل حين يفكر يقوم بعمل آخر غير أعمال تلك الحواس متفرقات أو مجتمعات.
وعلى هذا النحو يمكننا أن نقول إن الدم في الجسم يتكون من مواد غذائية على اختلافها، ولكنه يؤدي عملا في البنية لا يؤديه الخبز ولا اللحم ولا الثمرات النباتية أو المواد المعدنية التي يحتويها الغذاء، فليست وظيفة الدم محدودة بتحليل الأجزاء الكيمية أو الطبيعية في الأغذية التي تخلق داخل البنية، وليست وظيفة الفكر محدودة بالمنظومات والمسموعات وما يقترن بها من سائر المحسوسات.
وليس من المعقول فكرا، ولا حسا، أننا لا نفكر في شيء إلا إذا فكرنا فيه فوجدنا في النهاية أنه ينتهي إلى نتيجة قاطعة من المعرفة الكاملة المطلقة:
أولا:
لأن المعرفة الكاملة المطلقة ممتنعة في جميع المباحث والمدركات، فلا معنى لتخصيصها بنوع منها.
ثانيا:
لأن القول بأننا لا نفكر إلا إذا انتهينا بتفكيرنا إلى نتيجة قاطعة، كلام غير مفهوم ولا معقول؛ لأنه يمنع التفكير بعد نهاية التفكير.
ومن أين لنا أن عادة التفكير نفسها لا تزيد الفكر قوة ودراية، وتعطيه الوسيلة التي لن يصل إليها عند الانقطاع عن التفكير؟
إنني لأذكر في هذا السياق قصة لمجذوب من مجاذيب الطريق، كان يزورني بأسوان ويطيب لي أن أجاريه في أحاديته؛ لأنها لم تكن تخلو من ملحة أو عبرة.
وزارني ذلك المجذوب ذات يوم وأنا أكتب خطابا إلى الصديق المازني - رحمه الله - فسألني: ماذا تصنع؟
قلت: أكتب خطابا إلى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، هل قرأت له شيئا؟
قال: نعم، هذا الرجل قراءته حلوة، وصوته حلو، أين يسكن الآن بالله؟
قلت: في حي السيدة؟
قال: شيء لله يا أم هاشم. قل له بالله يقرأ لنا الفاتحة في مقامها!
قلت: وإذا أبى ولم يقرأ.
قال مدهوشا: إذا أبى فلا ترسل إليه الخطاب ... يا خال.
وكانت كلمة خال من لوازمه في نداء من يتحدث إليهم، فطاوعت وزدت القصة بتفصيلها في ذيل الخطاب، وقلت لأبي خليل: إن الخال عباسا لا يرسل إليك خطابه هذا إذا فاتك أن تقرأ الفاتحة باسم الشيخ «أحمد الحفار.» ومن طرائف المازني - رحمه الله - أنه أرسل بالرد إلى عنوان الحفار كما أعلمني بعد ذلك، ولكنني لم أعلم نبأ هذا الرد من الشيخ!
وإنني لا أذكر هذه القصة في هذا السياق؛ لأن نهي الحفار عن إرسال الخطاب الذي لا يستجاب شبيه جدا بالنهي عن التفكير في المسائل التي يؤدي التفكير فيها إلى غير نتيجة!
فمن أين لنا أن قوة التفكير المنتج لا تأتي من التفكير بغير نتيجة عشرات المرات أو مئات المرات؟
لقد حاولت الزواحف أن تطير قديما فلم تجد من يقول لها إن ارتفاع الجسم في الهواء مستحيل؛ لأنه هو أثقل من الهواء، ولم تجد من يقول لها: إن الطيران قوة لم توجد فيك أيتها الزواحف الهوجاء. ولم يكن الطيران نفسه شيئا معروفا للجناحين ولا لغير الجناحين، قبل أن يوجد الجناحان.
وليس من يمنع التفكير بغير قوة الحس إلا كمن يمنع الطيران بغير قوة جناح، بل لعله يمنع كل معرفة يؤدي إليها الفكر؛ لأن الوصول إلى نهاية المعرفة غير مستطاع.
ولسنا بحمد الله من اللاأدريين حين نقول إن المعرفة الكاملة ممنوعة؛ فإن الفرق ظاهر بين من يقول إنه لا يدري كثيرا ولا قليلا، وبين من يقول إنه يدري على التحقيق دراية محدودة معروفة الحدود، ولو في حدود واحد من المائة أو المليون.
ونعود فنقول إن الدراية الناقصة على التحقيق أمر نجزم به كل الجزم ولا نقول إننا نزعمه زعما على طريقة «هز الوسط» إلى اليمين وإلى الشمال؛ فإن هذه البهلوانية الفكرية أبغض ما نبغضه من جماعة الشكوكيين، و«المحققين» المتحذلقين!
الشخصية النرجسية1
... طالعنا في كتابكم الحسن بن هانئ تحليلا رائعا للنرجسية، محصله أنها صورة مريضة من شذوذات الغريزة الجنسية، ثم قرأت لفرويد رأيا مغايرا عن النرجسية في مجال القيادة؛ إذ قال إن الشخصية النرجسية تتميز بالاستقلال العظيم عن الغير، وتميل إلى البذل الوجداني أكثر من القبول. وطالعت في نفس الوقت للمؤرخ المشهور أرنولد توينبي كلاما، يقول فيه إن نجاح الحضارة يتوقف على وجود القلة المبدعة التي تتصف بالأنانية والزهو والغرور؛ فكيف يتسنى للمصاب بداء النرجسية أن يقود الغير قيادة سليمة مرضية؟
سيد أحمد ندا
شبرا، مصر
بغير حاجة إلى مراجعة النصوص المطولة في كلام العلامتين فرويد وتوينبي، يبدو أن هناك خلطا بين معنى الأنانية في النرجسية ومعنى الأنانية في فتنة العظمة
Megalomania .
فالنرجسية منسوبة إلى النرجس، وهو زهر نحيل يطل على الماء كأنما يطيل التأمل في صورته إعجابا بجسمه، وهي حالة لا تعترف بشعور القوة والعظمة؛ لأن النرجس الذي تنسب إليه نحيل هزيل، وغرامه بجسده فتنة نحيلة هزيلة لا تفتن بها عقول الأقوياء العظماء.
والنرجسيون من الناس هم الذين يفتتنون بأجسامهم ويشتهونها شهوة جنسية، ثم يحولونها إلى معشوق يتمثلونه كأنه صورة منهم ويتممون فيه ما يحسون أنه ناقص في تكوينهم، ويتخيلون أنهم يشبعون رغباتهم في أنفسهم حين تتم الصلة بينهم وبين ذلك المعشوق مرضاة لهواهم السقيم.
أما فتنة العظمة فهي شيء آخر بعيد جدا من هذه النرجسية، وبخاصة في أصحاب النفوس القوية والمطامح البعيدة؛ فإن حب الذات فيمن يوصفون به لا ينصرف إلى فتنة الجسد أو شهوة الجنس، ولكنه ينصرف إلى توسيع الذات وبسطها على ما حولها، ومن حولها، حتى تصبح الأنانية هنا متعلقة بعظائم الأعمال التي ترتبط بها مصالح الكثيرين؛ ولهذا لا يمتنع أن يكون «الأناني» بهذا المعنى خادما لأنانية الألوف والملايين؛ لأنه لا يحقق حبه لذاته إلا بتحقيق أعمال كبيرة شاملة، لا يستطيع أن يفرضها على الألوف والملايين - بداهة - إلا إذا وافقتهم هوى ومصلحة وإقناعا أو تأثيرا يقوم مقام الإقناع.
فلا تناقض بين ضخامة الذات في القيادة وبين منافع الناس؛ لأن الذات التي تعوزها الضخامة لا تقوم بعمل عظيم، إلا أن يكون الشعور بالعظمة وهما من ضروب الأوهام التي تعتري المخبولين، فلا حساب له في أعمال العظماء.
إنصاف1
... شكرت لك تحقيقك في إنصاف الأستاذ الإمام ... وأود لو قرأنا لك مثل هذا الإنصاف للزعيم أحمد عرابي - رحمه الله - فقد وصفوه بصفات تنفر المطلع واعتبروه شؤما على البلاد، ومع أن الأستاذ محمود الخفيف دافع عنه في كتابه عن «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» - شكر الله صنعه - نعتقد أن المجال متسع للدفاع عنه في الصحف السيارة؛ لأن الاطلاع على الكتب محدود، وقد رأيت الزعيم بعد أن عاد من المنفى ببضع سنوات في المسجد الحسيني سنة 1908، فرأيت شمائله تدل على الوطنية والإخلاص والفلاح، ولكن:
الناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
وإننا لفي انتظار بيانكم الوافي في هذا الموضوع.
سيد علي الطوبجي
إن إنصاف عرابي واجب على التاريخ، تلام على التقصير فيه الأمة بأسرها، ولكنه واجب قد تصدى له كثيرون من كتابنا الفضلاء، الذين عرضوا لحوادث الثورة إجمالا وتفصيلا في الصحف والمجلات أو الرسائل الموجزة والكتب المطولة، وأهمها - فيما نرى - كتاب المؤرخ الصادق الأستاذ محمود الخفيف، الذي أشار إليه صاحب الفضيلة الأستاذ الطوبجي، واطلع عليه القراء من جميع البيئات المثقفة، وقد صححنا ما اتسع المقام لتصحيحه من أقاويل المفترين على عرابي من المخلصين في النقد أو المسخرين للقصر الخديوي، واتفق أن الكتاب الذي صححنا فيه هذه الأقاويل - وهو كتاب 11 يوليو عن ضرب الإسكندرية - صودر عند ظهوره في هذا التاريخ من شهر يوليو سنة 1952، فلم يمض أسبوعان حتى كانت الثورة على حفيد إسماعيل إيذانا بالإفراج عن كتاب الثورة على ابن إسماعيل الكبير محمد توفيق ... ولم يكن في الكتاب عن تفاصيل الدسائس الخديوية غير القليل الذي يسمح به مع قيام الأسرة الخديوية على عرش البلاد، فلا يزال الكثير من خبايا ذلك العهد بحاجة إلى التصريح والتفصيل.
ولكننا نستطيع - في انتظار التفصيل الوافي - أن نجعل القاعدة التاريخية التي يقوم عليها تحقيق الرأي فيما ينسب إلى عرابي من المآخذ والأخطاء.
فهي على الجملة قسمان: قسم يتهمه في رأيه وتدبيره، وقسم يتهمه في أمانته وشرفه.
ولا حرج عندنا في اختلاف الرأي وإن أخطأ المخالفون؛ لأننا لا ندعي العصمة لعرابي ولا لأحد من زعماء ثورته أو خصومه، ولكن على شريطة الإخلاص في النقد والإنصاف بين الطرفين.
وعلامة الإخلاص واضحة لا تخفى؛ وهي ألا تكون أخطاء عرابي سترا لأخطاء الخديو أو الحاشية الخديوية على العموم. فإذا عيب على عرابي مثلا أنه لم يردم القناة، أو أنه لم يحسن الدفاع في المعركة الأخيرة، فمن الواجب أن نذكر - مع هذا - أن جواسيس الخديو كانوا يندسون في الجيش ويتسللون إلى خيام الصحراء لرشوة البدو وتحريضهم على العرابيين، وينقلون أخبار الحركات العسكرية إلى العدو قبل تنفيذ الخطط المنوية، ومنها خطة التجريدة التي تحركت لردم القناة في الموضع المتفق عليه، فوجدته محروسا محميا في اللحظة الأخيرة.
أما المتهمون لعرابي في أمانته وشرفه، فهم الآن قلة نادرة أو معدومة؛ لأنهم كانوا يشيعون عن الرجل أنه متواطئ مع الإنجليز قبل الثورة وبعد الثورة، فيجدون من يصغي إليهم ويتقبل دعواهم، وبلغت القحة بأحدهم أنه لقي الرجل بعد عودته من المنفى فتقدم إليه يسأله: أأنت عرابي؟ قال: نعم يا بني. فعاد يسأله: عرابي الخائن؟ فتألم الشيخ الضعيف وأجابه في ضجر وأسف: كلا يا بني ... أنا عرابي بغير لقب إن شئت وشاءوا ... ولكني لست بعرابي الخائن، سامحك الله!
فبصق الفتى الوقح في وجه الشيخ وتركه والدموع تتساقط من عينيه.
ولم يبق بحمد الله من يصدق اليوم أن زعيم الثورة تعمد أن يثور على الأمير ليفتح أبواب البلاد للاحتلال، بل علم الكثيرون اليوم أن الأمير هو الذي استعان على الثورة بالاحتلال، ودبر حريق الإسكندرية لتسويغ نزول الجيش البريطاني إلى البر بدعوى حماية الأجانب وحماية السلطة الشرعية، فإن مصلحة الخديو الشخصية ظاهرة في هذه الدسيسة، ولا مصلحة لعرابي في احتلال يقضي عليه.
وقد كانوا يروجون الغفلة على الجهلاء بإصرار الإنجليز بعد محاكمة عرابي على استبدال حكم النفي بحكم الإعدام، ولكن السياسة الإنجليزية كانت تقضي على الدولة في عهد حزب الأحرار أن تسلك هذا المسلك اضطرارا؛ لأنها كانت تتذرع بفساد الحكم وظلم الرعية في مصر للبقاء في البلد وإصلاح نظام الحكم فيه قبل الجلاء، فلم يكن في وسعهم أمام العالم المتمدن أن يعتبروا الثائر على الفساد والظلم مجرما يستحق عقوبة الإعدام، ولم يكن من خطة الاستعمار الإنجليزي قط في عهد الأحرار أو المحافظين أو العمال أن يعاقبوا كبار الزعماء الوطنيين بالإعدام؛ فلم يعدموا غاندي ولا طيلاق ولا نهرو في الهند، ولم يعدموا كروجر وزملاءه في الترنسفال، ولم يعدموا سعد زغلول وزملائه في مصر؛ لأنهم يعلمون أن قتل الزعماء يعقب الذكريات الدامية التي لا تنسى ويستثير الشعوب إلى الثأر، ولو بعد حين.
والتهم التي توجه إلى عرابي لا تخرج عن أحد هذين القسمين: قسم المتهمين له في رأيه وتدبيره، ولا حرج عليهم في اختلاف الآراء على شريطة الإنصاف بين الطرفين؛ وقسم المتهمين له في أمانته وشرفه، ولا وجود لهم الآن.
وقد يغني هذا عند إجمال القول كما تقدم، ولكنه لا يغني عن التفصيلات الوافية لشرح الحوادث وكشف الخبايا، مما لا يزال مطويا في أوراقه أو مجهولا لغير الباحثين عنه، ولا شك أنها - كسائر الخبايا التاريخية في الحوادث الكبرى - سر لا يطول عليه الكتمان.
تغيير البديهيات1
سؤال ما برح يتردد في خاطري؛ علكم تجيبون عليه في يومياتكم وهو: هل يمكن أن تتغير البديهيات بتغير عقل الإنسان وتغير الكون الذي يحيط به؟ وهل يمكن أن تؤدي نفس المقدمات إلى نتائج مخالفة بالنسبة لعقل بشري، وفي كون غير هذا الكون؟ أم أن البديهيات نشأت في وجود مطلق لا يتأثر بشيء؟ إنني في حيرة من هذا الأمر، وأرجو أن تتفضلوا بإبداء رأيكم مشكورين.
نصار محمد عبد الله البدراوي
مدرسة البداري الثانوية
من الخير أن يكون للفكر حقه في أذهان شبابنا المتعلمين، في زمن يوشك أن يقصر الدنيا كلها على عمل الحواس الجسدية، وأن يحرم العقل البشري كل مسوغات وجوده فيما عدا المأكول والمشروب، أو فيما عدا المعدودات بحساب النقود ودفاتر الربح والخسارة.
ويطيب لنا أن نحسب الكلام عن البديهيات بابا من أبواب هذه اليوميات ، فنقول للسيد نصار إن البديهيات التي تنشأ في الوجود المطلق لا تتغير ولا تختلف ولا يمكن أن تختلف؛ لأن الاختلاف إنما يحصل بين العقول الكثيرة، وليس العقل المطلق بقابل للتعدد والمخالفة.
ولكن أين نحن من هذا الوجود المطلق الذي لا يختلف ولا يقبل الاختلاف؟
إن وجودنا البشري محدود، وإن إدراك الإنسان لكل ما في هذا الكون محدود، وكل بديهية بالنسبة للعقل البشري فهي بديهية له على حسب إدراكه، وليس من اللازم أن تكون بديهية له إذا تغير ذلك الإدراك.
ونحن نقول مثلا إن وجود الإنسان في مكانين في زمن واحد مستحيل، ونحسبها بديهية من البديهيات التي لا ريب فيها؛ ولكن هل يبقى لهذه البديهية حكمها إذا تغير إدراكنا للإنسان وللزمن وللمكان؟ وهل يبقى لهذه البديهية حكمها إذا أدركنا الحقائق في الأبد المطلق ولم ندركها في الزمن المحدود وفي المكان المحدود؟
ونحن نقول إن الواحد والواحد اثنان، ولكن ما هو الواحد بالنسبة إلى غيره؟ وما هو الواحد المطلق بغير نسبة إلى شيء؟
ونحن نقول في العلم الرياضي المعترف به: إن الخط الهندسي مجموعة نقط هندسية متصلة. ولكننا نقول في هذا العلم نفسه إن النقطة شيء بغير طول ولا عرض ولا امتداد، فكيف يمكن أن يمتد الخط من شيء معدوم الامتداد؟
هذا مستحيل في عقولنا، ولكننا نجعله ممكنا - بل بديهيا - على فرض واحد؛ وهو أن إدراكنا للمكان الرياضي غير إدراكنا للمكان بالعقل والإحساس، ويسري هذا على جميع البديهيات كلما اختلفت أمامنا بديهيتان مسلمتان.
وما دام العقل البشري محدودا، فمن البديهي إذن أن يكون إدراكه مرتبطا بحدوده، وأن يكون عرضة للتغير كلما تغيرت تلك الحدود.
والوسيلة الوحيدة التي نستطيع أن نحقق بها معنى مطلقا هي أن ننفي ما عداه؛ فإذا عرفنا صفة ناقصة محدودة وسئلنا: وما هي الصفة الكاملة بغير حدود؟ جاز لنا أن نقول: «هي ما ليس كذلك»، ونحن في أمان.
الدين في القرن العشرين1
وجدت بعد عودتي من أسوان طائفة من المجاميع الدورية التي تصدر في لغات الغرب باسم التقاويم، ويغلب عليها في الزمن الأخير أن تسمى بالكتب السنوية، تمييزا لها من الكتب المخصصة لمباحث الفلك ومواعيد الفصول.
في هذه الكتب كثير من البيانات النافعة عن مجرى الأحوال خلال العام إلى شهوره الأخيرة، وقد تلم هذه البيانات بكل مسألة من المسائل العالمية في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والاختراع والحركات الاجتماعية والدراسات الثقافية على اختلافها، وقد تعنى بهذه الدراسات الثقافية في مقدمة أبوابها؛ لأنها مطالعات عامة يشترك في العناية بها معظم القراء.
وعلى حسب العادة، نظر نقاد الأدب والثقافة في حركة التأليف والنشر، وسجلوا أرقامهم وإحصاءاتهم التي تدل على أطوار الثقافة في بلادهم بمقدار إقبال القراء عليها وعناية المطابع الكبرى بنشرها وتنويع طبعاتها، ومهما يكن من القصور في دلالة الأرقام والإحصاءات على المسائل العقلية، فالأمر الذي لا خلاف عليه أنها لا تخلو من دلالة صحيحة على «سير الثقافة» بجملتها، وقد نعود إلى آراء النقاد الفنيين في غير هذا الأسبوع، ولكننا نقدم منها جانبها الخاص بالمسائل الروحية أو العقائد الدينية؛ لأنها أشبه بأحاديث رمضان الذاهب وأحاديث العيد المقبل، وأولى بالتقديم من ناحية الفكر فضلا عن ناحية الدين؛ لأنها تصحح نظرات المتعجلين الذين يلبسون ثياب «المادية» عندنا، ويحسبون أن حديث الدين بين أمم الحضارة العصرية قد ذهب إلى غير رجعة، فلا يلتفت إليه أحد من غير «الرجعيين» المنسيين، وما أقلهم عددا وشأنا في حساب الإحصاء والأرقام! ...
كان كتاب العام باتفاق كبار النقاد هو كتاب «العهد الجديد» في ترجمته الأخيرة إلى اللغة الإنجليزية، ويقول برنس هوايت أحد هؤلاء النقاد: بل لعله كتاب القرن العشرين!
بيع منه قبل انقضاء أربعة أشهر مليونان وخمسمائة ألف نسخة، منها خمسمائة ألف نسخة في جلد فاخر تباع النسخة منها بجنيه، وينظر طابعوه في زيادة هذا العدد إلى أضعافه، وزيادة النسخ الفاخرة منه للحفظ والصيانة، مع النسخ الأخرى التي يشتريها القراء للتداول بين الأيدي ومعاودة الاطلاع عليها من حين إلى حين.
ودلالة الاستعداد لإظهار هذه الترجمة أهم من دلالة الإقبال عليه بعد نشرها؛ لأن الناشرين المشهورين أكبروا أن تنفرد شركة واحدة من شركاتهم المعدودة بتحضير الترجمة وعرضها لطلابها، فاتفقت مطبعة أكسفورد ومطبعة كامبردج للتعاون بينهما على مهمة الترجمة والطبع والنشر، وتحرجت هاتان الشركتان الكبيرتان أن تسند إحداهما عمل الترجمة إلى خبرائها الأكفاء، فاتفقتا على اختيار المترجمين من كل طائفة مسيحية لها أتباع يقرءون هذه الترجمة بلغتهم، وخرجت الترجمة الدقيقة بعد العناء الطويل بإشراف عالم حجة في كل مذهب متبع في الغرب، ما عدا مذهب الكنيسة الكاثوليكية؛ لأن لها حكما في تفسير الكتب المقدسة يوشك أن يقصره على أقطاب الكنيسة، ويستوجب «تطويبه» بقرار من المرجع الأعلى يمنع التصرف فيه بغير مراجعة ذلك القرار.
إن الذين يحكمون على مسائل العقيدة بما يسمعونه من شقاشق الأقوال عن عصر «المادة»، يستفيدون لعقولهم - ولا نقول لضمائرهم فحسب - درسا في هذه الأرقام في صدق الحكم على الأمور الإنسانية الواسعة، ويتعلمون كيف يفهمون الظواهر الكبرى في حياة بني الإنسان بمقياس أصح وأسلم من شقاشق الألفاظ وصيحات القهوات وأشباه القهوات، ويعودون إلى أنفسهم ليحسنوا المقارنة بين العصر الحاضر وبين العصور الماضية على أساس التكافؤ في تقدير الظواهر التاريخية وتثبيت ألوانها ومعالمها على حقيقتها؛ فإن العادة السهلة تحول دون تثبيت الألوان في المناظر البعيدة والمناظر القريبة على صحتها، حتى في محسوسات العيان والسماع، وتجعلنا نتخيل الشيء البعيد على صورة غير صورته حين نقترب منه أو يقترب منا، فلا نزال متعجلين في الموازنة بين أزمنة التاريخ والزمن الذي نعيش فيه؛ لأننا ننظر إليهما على زاويتين مختلفين، ولكن توحيد الزاوية بينهما قد ينتهي بنا إلى أعجوبة من أعاجيب التناقض في الأحكام والآراء.
وليس بالبعيد في اعتقادنا - إذا وحدنا الزاوية - أن تكون جماهير الناس في القرون الوسطى أقل اهتماما بالدين من جماهيرهم في هذا القرن العشرين، وأن يكون سلطان الدين في تلك القرون دليلا على قلة اكتراث الجماهير للأمر كله، وإسناده بحذافيره إلى الذين احتكروه بحكم الصناعة، فإننا نستطيع أن نجزم بشهادة الأرقام وغير الأرقام أن القرون الوسطى كلها لم تقرأ من كتابها ما يعادل محصول القراءة في طبعته الجديدة خلال الأشهر الأربعة بعد صدورها. وكل شهادة غير شهادة الأرقام تؤكد لنا أن خلاعة الرجال والنساء في ظل السلطان المطلق للأقطاب الدينيين، قد تخجل خلعاء القرن العشرين وخليعاته في حلبات الأدب المكشوف، وقد يكون هذا «الأدب المكشوف» في العصر الأوربي الحديث أجدر باسم «الأدب المغطى»، إذا قيس إلى نوادر بوكاسو ورابليه، أو نوادر البورجيين في الهياكل والقصور.
وإذا كان صدق الحكم فضيلة يحمدها «المادي» لعقله، فليسأل نفسه ماذا استفاد من وسائل التفرقة بين الواقع والظن الخاطئ، بعد الاطلاع على حقائق الإحصاء والأرقام.
إذا صح تقديره، فمن الواجب أن يكون رقم الصفر (0) بديلا من تلك الأرقام التي تصعد إلى الملايين، وحسبه ميزانا لخلل تفكيره أنه آلة يختلط فيها التقدير بين الصفر وعشرات المئات من الألوف.
والحال «بعضه من بعض» إذا نقلنا دلالة الإحصاء والأرقام من الغرب إلى الشرق، ومن كتاب المسيحية إلى كتاب الإسلام؛ فإن «المادي» المتعجل عندنا لا يستطيع أن يعزي نفسه ببعد المسافة بين بلاد العربية وبلاد اللغة الإنجليزية؛ لأنه لو علم عدد الألوف من المصاحف التي تنفد من كل طبعة على أثر ظهورها، لما كان خلل «المكنة» العقلية عنده أهون من ذلك الخلل الذي يهبط بأرقام الملايين إلى رقم الصفر أو الأصفار الكثار، على أكبر تقدير!
الأيديولوجية1
... ما هي «الأيديولوجية»؟ إننا نقرأ عنها كثيرا في هذه الأيام، وقد قلتم في كتابكم عن الإنسان في القرآن الكريم: «إن القرن العشرين كان حقيقا أن يسمى بعصر الأيديولوجية أو عصر الحياة على مبدأ وعقيدة»، فما هي هذه الأيديولوجيات التي عمت في القرن العشرين؟ وهل منها الوجودية كما ينادي بها سارتر أن ينادي بها غيره من الفلاسفة الوجوديين؟
إسكندرية، مراد عزيز ... من هذه «الأيديولوجيات»؛ مذهب الشيوعية كما يطبق في البلاد الروسية، ومذهب الشيوعية كما يطبق في الصين، ومذهب الشيوعية كما تركه كارل ماركس وفردريك أنجلز، ومذهب الشيوعية كما يشرحه المنقحون
Revisionists ، ومذهب الحكومة الكلية
Totalitarian
ويعنون بها الحكومة التي تتولى جميع السلطات، ومذهب التأميم والتخطيط وهو ولاية الحكومة للمرافق العامة التي لا تترك للمنافسة الفردية أو الطائفية ، ومذهب الدكتاتورية العنصرية أو السلالية على مثال مذهب النازيين في عهد هتلر، ومذهب السوق الموحدة على طريقة بعض الدول في غرب القارة الأوربية.
ومن المصادفات أن يصل إلينا سؤال الأديب الإسكندري وقد وصل إلى القاهرة أحدث كتاب عن «الأيديولوجيات» السياسية المعاصرة، وفيه شروح مفصلة عن هذه المذاهب التي ذكرناها وعن مذاهب أخرى مضافة إليها؛ ومنها مذاهب الإصلاح في اليابان وإيطاليا والنمسا، ودعوة الصهيونية، ودعوة العنصرية في جنوب القارة الأفريقية.
ولكن مباحث الكتاب لم تشمل الوجودية، ونرى أن مؤلفيه على حق في استثنائها؛ لأنها مذهب «فردي» لا يجرى تطبيقه على نظم الحكومة أو نظم المجتمعات السياسية، وإنما يدين به الفرد في حياته الخاصة ليستقل به عن سلطان الجماعة في دساتيرها «العمومية».
تاريخ الأنباط1
قرأت في بعض الكتب المقررة على الصف الأول الإعدادي عن تاريخ الأنباط وحضارتهم، ولكننا نريد المزيد من تاريخ هذه الدولة ... وما مدى حكمها في بلاد الشام؟ وما هي اللغة التي تكلم بها الأنباط؟ وما دورهم في صد الرومان عن فلسطين؟
نرجو الإجابة؛ لأنني أجلت تدريس هذه الدولة إلى ما بعد ردكم على هذه الرسالة.
ف. ن. مدرسة
نشأ الأنباط على أشهر الأقوال عند بادية العراق، وتحولوا غربا إلى الأرض الواقعة بين فلسطين وشواطئ البحر الأحمر، فتغلبوا على قبائل الأدوميين التي كانت هناك وأسسوا لهم دولة كبيرة تولاها ملوك متتابعون، عرف الكثيرون منهم بأسماء الحارث وعبادة ومالك ورب أيل، وهم الذين تحرفت أسماؤهم باللغتين الرومانية واليونانية إلى أرتياس وأوبيدس ومليكوس وإربليه، وأشباه هذه التحريفات المعهودة في نقل الغربيين للأسماء العربية.
وهم عرب - كما يظهر من هذه الأسماء - ولكنهم كانوا يكتبون رسائلهم بالحروف الأرامية؛ لأنها كانت لغة الكتابة من وادي النهرين إلى حدود سينا.
وقد عاش منهم أناس في صحراء سينا، ووصل بعضهم في طلب المرعى إلى أقليم الشرقية وما جاوره من أقاليم الوجه البحري.
ولكنهم كانوا في مواطنهم بين البحر الأحمر وجنوب فلسطين ينحتون الصخر ويجوبون الكهوف في الجبال ويودعونها كنوزهم النفيسة، التي كانوا يجمعونها من قيامهم على نقل التجارة وحراستها بين العراق ومصر والشام.
وقد حاربوا إسرائيل زمنا وحاربوا قواد الإسكندر وحاربوا الرومان ثم حالفوهم، ولم يخضعهم أحد كل الخضوع في عهد من العهود، إلا ما كان من أداء الإتاوات للدولة الرومانية، ولهم نظيرها من أجور الحراسة على القوافل وحملات الطريق.
على أنهم لما نقموا من الرومان تأييدهم لدولة الهيروديين - وهم من الأدوميين - زحفوا على حدود الشام، واستولى أحد ملوكهم على دمشق، فانتزعها من ولاة الدولة الرومانية، وأشار إليه بولس الرسول في رسائله إلى أهل غلاطية وكوزشوس؛ أي بعد الميلاد بجيلين.
ولا يعرف لهم ملك مستقل بعد مالك الثالث الذي عاصر الإمبراطور طراجان، وفي أيامه ذهب استقلال هذه الدولة، وأصبحت منذ أوائل القرن الثاني للميلاد تابعه لولاية الشام.
وكل ما صنعه الأنباط بعد ذلك لإقصاء الدولة الرومانية عن الشام، فإنما صنعوه بحملات غير منظمة من العشائر المتفرقة، حالفوا بها كل من جاهر الرومان بالعداء إلى أواخر القرن الثاني للميلاد.
ويقول المؤرخون الأقدمون من العرب إن هذه العشائر سميت باسم «النبط» لوفرة الينابيع التي كانت «تنبط» في ديارهم الأولى عند بادية العراق، ولكن الأرجح في سبب تسميتهم أنهم ينتسبون إلى جد قديم أو رئيس باسم «نبات»، وهو اسم معروف في روايات العهد القديم، ولا يبعد أن يكون هو ابن إسماعيل، عليه السلام.
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه كان يقول: «نحن معاشر قريش نبط»، ويريد بذلك صلة من صلات النسب الذي ينتمي إليه العرب المستعربون.
ولا غرابة في هذه الصلة إذا نفينا من أذهاننا شبهات الصفة «النبطية»، التي لصقت «بالنبط» بعد الإسلام؛ فإن هذه الصفة لم يكن لها معنى «العجمة» أو اللغة المبهمة قبل الدعوة الإسلامية، ولكنها شاعت بعد ذلك على أثر التمييز بين أصول القبائل الأولى عند المقابلة بين لهجاتها ولهجة قريش الفصحى، ويومئذ عادت الحميرية فأصبحت مثلا من أمثلة العجمة وهي - كما هو معلوم - لغة العرب العاربة الأولين.
أبطال القصة العربية بين التاريخ والخيال1
قرأت أخيرا كتابا بعنوان الإسلام والعرب للكاتب الغربي روم لاندو ... ولفت نظري - مع إنصاف الكاتب - قوله إن الأدب العربي لم يخلق شخصيات فنية بارزة متفردة؛ مثل هاملت أو دون كيشوت أو إما بوفاري أو أنا كارنينا أو فاوست، إلخ من تلك الشخصيات التي إذا ذكر اسم واحدة منها طفرت إلى الذهن صفات خاصة ومدلولات معينة، وهو يعلل ذلك بأن الإسلام ينظر للإنسان نظرة جماعية مطلقة، بعيدة من تلك النظرة الفردية التي تنظر بها الأيديولوجيات الغربية إلى الإنسان، فهل أجد عند سيادتكم تفسيرا لهذا الرأي؟
محمد محمود شهاب
مصلحة الاستعلامات
إن «روم لاندو» من الكتاب الأوربيين القلائل الذين يكتبون في هذا العصر عن الإسلام والمسلمين وتخلو كتابتهم من سوء النية، ومن نزعة التعالي والاستغراب التي تشوب أقوال بعض السياح الأوربيين وهم يكتبون عن الأمم الشرقية.
ولكنه يخطئ إذا فهم أن الإسلام ينظر تلك النظرة إلى الشخصية الإنسانية؛ لأن تواريخ العرب تحفل بالشخصيات المتميزة، التي تعتبر كل شخصية منها عنوانا لخلق من الأخلاق أو لطائفة متعددة من الشمائل الإنسانية؛ فليس في تواريخ الغرب نماذج للأخلاق كنماذج الأحنف وحاتم وعنترة والشنفرى ومعن بن زائدة والحجاج وأشعب وحلاق بغداد، وغيرهم وغيرهم في الدلالة على الأطوار الإنسانية التي يتسم بها الفرد بين الجماعة.
ولما ظهرت القصص العربية قبل ظهور القصص عند الأوربيين، كانت شخصياتها الأسطورية أوفر وأوضح من شخصيات الأبطال في أمثال هذه القصص المتأخرة، كما يعرف كل من اطلع على حكايات ألف ليلة وسيف بن ذي يزن وذات الهمة وحمزة البهلوان والظاهر بيبرس وغزوات بني هلال، وسائر هذه القصص التي ازدحمت بنماذج الشخصيات في الشجاعة والدهاء والفكاهة وغرابة الأطوار، ومثلها تلك الشخصيات التي أبرزتها مقامات البديع والحريري، وعرضت فيها نماذج التجار والأمراء والأدباء المحتالين بالأدب على المعاش، ونماذج الأزواج والزوجات بين مختلف الطبقات.
وهناك نوع من «الشخوص» الفنية لا شك في كثرته وشيوعه بين الغربيين ولا في قلته وإهماله بين قراء العربية من أبناء الأجيال الماضية، ونعني بهذا النوع من «الشخوص» الفنية أبطال الملاحم الأسطوريين منذ أيام اليونان واللاتين، ولكن هذه الملاحم لم تظهر في اللغة العربية؛ لأن موضوعها لم يظهر في تاريخ العرب القديم، لا لنقص في الخيال ولا في التصوير النفساني كما خطر لبعض الواهمين من نقاد الآداب الأوربية.
وموضوع الملاحم - كما لا يخفى - هو موضوع الحروب «الأسطورية»، التي كانت تدور بين الأرباب وأبطال الإنس والجن من أنصاف الأرباب في عرف الأقدمين، وكلها حروب وقعت بين أمم الملاحم وبين الأمم «الأجنبية» عند اصطدام الفريقين، ولم تكن في تاريخ العرب الأوائل وقائع من هذا القبيل، ولا كانت لهم تواريخ خرافية توغل في القدم وتختلط بها الحوادث بتلفيقات الخيال، وإنما كانت أخبارهم كلها عن حروب قبائلهم، وعن الأزمنة التي يحفظها رواتهم ولا توغل وراء التاريخ إلى عهود الأسطورة والخرافة.
وقد يتبين خطأ القائلين بتقصير التاريخ الإسلامي في رسم الشخصيات من حقيقة قريبة المتناول، يدركها القارئ بعد تقليب صفحات قليلة من مراجعنا التاريخية؛ فإنها تذكر «الشخص» الذي تتحدث عنه، فلا تدع شيئا من عاداته وحركاته وإشاراته، ولا من لوازمه وهو يتكلم ويومئ بيده أو يشيح بوجهه أو يبتسم أو يداري ابتسامه، على أشكال شتى من التصريح والتلميح لا نرى لها نظيرا في مراجع التاريخ الأوربي قبل الزمن الأخير.
وغير صحيح إذن أن تقاليد الإسلام تمنع العناية بالشخصية الإنسانية، ولكنه خلط يدل عليه التناقص بين من يقولون بالنظرة الجماعية في الإسلام، ومن يقولون بأن الإسلام يعظم سلطان الفرد ويفني وجود الجماعة في ذوات حكامها المطلقين، وكلا القولين طرف من طرفي الخطأ البعيد في فهم الطبائع واستقصاء الأخبار.
اضمحلال الغرب1
كان كتاب «اضمحلال الغرب» نعيبا هائلا أطلقه المؤرخ الألماني «أز والد سبنجلر» قبل نحو خمسين سنة، في إبان اعتزاز الغرب بانتصاره على الدولة الألمانية.
وكانت للمؤرخ المتشائم دواعيه الفلسفية التي لم يحفل فيها كثيرا بأحوال السياسة والحرب في تلك الفترة، وكانت للأمة الألمانية كذلك دواعيها التي روجت فيها نعيب فيلسوفها المتشائم، فزاد عدد النسخ التي بيعت من كتابه في ألمانيا الفقيرة على ستين ألف نسخة؛ لأنها قد وجدت فيها عزاءها بعد هزيمتها وانتصار الدول الغربية عليها، فإنما هو انتصار كالهزيمة المبرمة كما أنبأها الفيلسوف الواثق من نعيبه الهائل ثقة المنجم البصير بساعة الكسوف.
أما دواعي «سبنجلر» للإنباء بذلك المصير المحتوم، فهو إيمانه بغرور المؤرخين الأوربيين الذين حصروا الحضارة الإنسانية بين آفاق قارتهم المحدودة، واعتقاده أن حضارة هذه القارة ومعها حضارة الغرب كله، إن هي إلا صفحة من صفحات تنتشر ثم تنطوي متى حان بها يومها المقدور بحساب التاريخ، ويومها المقدور لكل حضارة منها قرابة ألف عام.
وترتيب هذه الحضارة الأوربية بين الحضارات الإنسانية هو الدرجة الثامنة أو التاسعة؛ بعد حضارة مصر القديمة، وحضارة الصين، وحضارة بين النهرين، وحضارة المجوس، وحضارات أمريكا القديمة، وحضارة اليونان والرومان ويسميها الحضارة الأبولونية نسبة إلى أبولون رب الفن والفروسية، وحضارة الشرق الأوسط ومنها الحضارة الإسلامية، ثم هذه الحضارة الغربية الأخيرة واسمها عنده «الفاوستية»؛ نسبة إلى الساحر العالم «فاوست»، الذي اشترى الرجعة إلى الشباب ليبيع الروح والوجدان.
وليست الهزيمة علامة مهمة من علامات الاضمحلال في حساب سبنجلر؛ لأنه تنبأ للغرب بالاضمحلال وهو على قمة الضر بعد الحرب العالمية الأولى.
ولكن بوادر الاضمحلال عنده تظهر للعيان من أعراض ملموسة، تتكرر في كل حضارة على صور مختلفة، ولكنها متشابهة متقاربة، وتلك هي أعراض الانتقال من البساطة إلى البذخ، ومن حياة طبيعية إلى حياة مدنية، ومن البواعث الفطرية إلى بواعث التفكير بحساب المكسب والخسارة، ومن الخيال والبداهة الصادقة إلى حيل الذكاء وتنظيمات الآلة العلمية، ومن تقديس النبل والتضحية إلى تقديس الأثرة والمناورة.
والظاهرة الملحوظة في هذه الأيام الأخيرة هي عودة الاهتمام بنعيب سبنجلر إلى الشيوع في البيئات الغربية من أمريكا إلى ألمانيا؛ حيث ولد الفيلسوف قبل أكثر من ثمانين سنة، فتردد البحث في كتابه بين تعليقات المعاصرين على فلسفات التاريخ التي تقدمت هذا العصر، وتجددت المقارنة بينها وبين مباحث التاريخ العصري خلال هذه السنوات، وأعيد طبع كتابه كاملا، ثم ظهرت له اليوم طبعة مختصرة بالإنجليزية في مجلد متوسط بدلا من مجلديه الكبيرين.
وربما كان ختام الموسوعة التاريخية، التي أتمها المؤرخ المشهور «توينبي» في اثني عشر مجلدا منذ بضعة شهور، سببا لهذه الرجعة إلى مذهب سلفه الكبير عن مصير الحضارة الغربية، ولكنها رجعة غير محتومة ولا مطلوبة لو لم تكن هنالك أسباب لا تحصى للتشاؤم والحذر كلما تطلع الناس إلى المستقبل مشفقين من صراع المطامع والمذاهب والعصبيات، متوجسين من حروب الذرة والصواريخ وألغام الفضاء، ضعاف الرجاء في غلبة الأمل على اليأس، وغلبة الخير على الشر، وغلبة الوئام على العداء.
ومن الغلو في التفاؤل أن نزعم أن المتشائمين جميعا مخطئون، وأن الخطر الذي يتشاءمون به موهوم أو مختلق أو مبالغ فيه.
ومن الإفراط في تجاهل الدلالات التاريخية أن ننسى دلالة النعيب الهائل، الذي انطلق منذ نصف قرن من صفحات الفيلسوف الملهم، أو صفحات الكتاب الكثيرين الذين اتبعوه بالنذير بعد النذير، والتهويل وراء التهويل، فليست المسألة هنا مسألة الخطأ والصواب في التفكير، ولكنها قبل ذلك مسألة البواعث النفسية التي يدل عليها تحكم هذه الخواطر في تلك العقول، وليست هي بالعقول الضعاف، ولا هي بالعقول التي تخفى عليها سبل الصواب كل الخفاء إلى جانب سبيل الخطأ أو سبيل الخطر الموهوم.
والحق أن علامات الاضمحلال التي توالت بها النذر أظهر وأكثر من أن تحتاج إلى عناء طويل في البحث عنها، أو يتيسر للمتفائلين أن يهونوا من شأنها بعد العثور عليها.
فلا حاجة بالفيلسوف الناعب إلى أسباب تحقق له أسوأ ظنونه، على طريقته، ليضيفها إلى هذه الأسباب التي سنأخذ الآن في حسبانها ولا نمضي بها طويلا إلى نهايتها، تسويغا لتنفيذ حكمه الصارم على حضارته المتداعية.
ألا يكفيه - مثلا - مسخ الفن الجميل وشعوذة الممسوخين بالقبح الفاضح باسم الجمال؟
ألا يكفيه ضعف الثقة بالوجود كله ممثلا في ضعف الثقة بالدين والصدق ومكارم الأخلاق؟
ألا يكفيه تحويل المرأة من وظيفتها الاجتماعية ورسالتها الأموية؟
ألا يكفيه طغيان العرف الحيواني على معالم الشخصية الآدمية؟
ألا يكفيه ضياع التضامن «الآدمي» بين كفر الغالب بالله وكفر المغلوب بالإنسان؟
ألا تكفيه سيادة «السطحية» الرخيصة على كل قيمة إنسانية كانت من قبل ذات أعماق وآفاق؟
ألا يكفيه؟ ألا يكفيه؟ بلى يكفيه ويكفيه، ويكفيه، وحسبنا بعض هذا «التعداد» على الرجل في مأواه الذي آواه الموت إليه، قبل أن يتحقق نذيره بالموت لحضارة قومه الغربيين.
إن بعض ذلك يكفيه، وإن أكثر من ذلك من أسباب الاضمحلال لظاهر - غير خاف - حيث أنذر به في إبان حياته.
ولكنا نرجع به إلى فلسفته حين نرتاب في نبوءات تلك الفلسفة ومواعيدها، فإذا بقيت حضارة اليوم بعد أجلها، فإنما تبقى لأنها قد خرجت من حدود القارة الأوربية، وصارت إلى العالم الإنساني الرحيب الذي لا تحصره تلك الحدود.
إن باب الأمل الواسع في دوام هذه الحضارة العصرية أنها ملك بني آدم بحقهم في ميراثها وميراث الحضارات من قبلها.
ولو أنها كانت ملكا للقارة الأوربية وحدها، لما شككنا في مصيرها، ولا في عجز تلك القارة عن حمايتها من ذلك المصير، قبل أن تتداركها حماية الله عن أيدي الصالحين الراشدين من بني الإنسان.
تقويم الشخصيات التاريخية1
في خطاب الطالب الأديب «فتحي عبد الحميد مقلدي»، بكلية الطب في جامعة عين شمس، سؤال عن مصرع الحسين بن علي - رضي الله عنه - ينقل فيه كلاما لصديقنا المازني عن هذا الحادث التاريخي الجلل، خلاصته «أن الحسين قد تعمد أن يضحي بنفسه بعد أن حاول أمرا عرف مبلغ استحالته، وليس معه إلا النساء والأطفال وحفنة صغيرة من الرجال، فدفع بني أمية إلى قتله، قاصدا أن يحف المصرع الذي مضى إليه عامدا بكل عوامل الاستفزاز، ليكون مصرعه لغما ينسف الدولة الأموية وينتهي بالقضاء عليها.»
ويعقب الطالب الأديب على كلام صديقنا المازني بقوله إنه لم يقتنع تماما بهذا الرأي ويرجو إيضاحا وتفسيرا له في اليوميات.
والذي أذكره عن هذا الرأي أنه، كما قال السيد «فتحي عبد الحميد»، منسوب في مقال المازني إلى مصدره الأول: وهو كلام المستشرق الألماني صاحب كتاب السياسة الإسلامية، اطلعنا عليه - معا - في مكتب الدكتور محمد مهدي خان، صاحب مجلة «حكمت» الفارسية، لسان حال الإيرانيين الأحرار في ذلك الحين، حوالي سنة 1912، وهو - أي الدكتور محمد مهدي - من أكبر المطلعين على تواريخ الشيعة في هذا الحادث على الخصوص، وكان هو أحد الزعماء الفكريين الذين كانوا يشرفون على حفلة «عاشوراء» في كل سنة، وإليه كنا نرجع أحيانا فيما يلتبس علينا من أخطاء الترجمات الإنجليزية عن الآداب الفارسية، وأذكر أن صديقنا المازني رجع إليه في تحقيق بعض الرباعيات المنسوبة إلى عمر الخيام.
ورأي المستشرق الألماني هذا هو أحد الآراء التي أشرت إليها في كتابي عن أبي الشهداء، فقلت: إن بعض المؤرخين يرى أن حركة الحسين - رضي الله عنه - تدبير منه توخاه منذ اللحظة الأولى، فلم يخامره الشك في مقتله ذلك العام ولا في عاقبة هذه الفعلة، التي ستحيق لا محالة بقاتليه بعد أعوام. فقال ماربين الألماني: «إنها عزمة قلب كبير يحيي بها قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.»
ولكننا لم نعتقد الصواب - كل الصواب - في هذا الرأي، فعقبنا عليه بقولنا: «إنه إن لم يكن حقا كله فبعضه على الأقل حق لا شك فيه، ويصدق ذلك على حركة الحسين بعد أن حيل بينه وبين الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر الموت كيفما كان ولم يجهل ما يحيق ببني أمية من جراء قتله، وقد جرى ذكر الموت على لسانه من خطوته الأولى وهو يتهيأ للرحيل ويودع أصحابه في الحجاز، فقال: إن الموت خط على ولد آدم، ولم يخف عليه أنه يركب الخطة التي لا يبالي راكبها ما يصيبه من ذلك القضاء؟»
ولهذه المناسبة نقول للسيد «زاهر أحمد عبد الرحيم» إن هناك مسائل كثيرة تتفق عليها آراؤنا في الأدب ومذاهب الثقافة العامة نحن والزميلين المازني وشكري؛ سواء في مقالات الصحف والمجلات، أو فصول الكتب والمصنفات، ولا غرابة في هذا الاتفاق مع العلم باشتراكنا في دعوة واحدة، واطلاعنا على مراجع واحدة، وتبادلنا الأحاديث سنوات طوالا في مختلف الشئون وعوارض الأخبار والأفكار.
ولكن الآراء التي أقررها ولا أسندها إلى مرجع آخر هي آراء قائمة على أسبابي العقلية التي يجمعها أساس واحد من التفكير، فهي تتفق ببعض نتائجها مع آراء الزميلين الكريمين، ولكنها في جميع مقدماتها متفقة مع أساسها الذي لا تنفصل عنه، حيث تتلقى بنا مذاهب الفكر والذوق وحيث يطرأ الخلاف أحيانا على الأصول والتفصيلات.
صاحب فكرة «إسرائيل»1
اطلع الأديب «عبد الرءوف توفيق» بهندسة القاهرة على كتاب حديث عن تاريخ الشرق الأوسط في العصر الحاضر، يكثر فيه المؤلف من ذكر «تيود هرتزل»، ويقول عنه إنه كان له دوره الممتاز في تحويل الصهيونية من منظمة تعيش على التبرع والإحسان، إلى هيئة عالمية تعتمد على نظام أصيل، ويسأل الأديب «عبد الرءوف» عن الأدوار الأخرى التي ترتبط بهذا الدور؛ «لشغفه الشديد» بدراسة قضية فلسطين.
والسيد عبد الرءوف على حق حين يقرن بين ضرورة العلم بتاريخ «هرتزل» وترجمته الشخصية، وبين علاقة الصهيونية وأدوارها المختلفة بقضية فلسطين.
فالصهيونية كما تصدى لها هرتزل تحمل طابع هذا الرجل، وتشبهه في مولدها وفي نشأتها وفي وسائلها الظاهرة ودسائسها الخفية؛ لأن هرتزل قد استعار اسمه من اسم القلب
Herz
باللغة الألمانية، إشارة إلى مولده من علاقة غرامية، ونشأته بين أب وأم لم يرتبطا قبل مولده برابطة الزواج.
وسيرة الرجل كلها في دعوته على نصيب وافر من اسمه ومولده؛ لأنه لم يدع وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، ولا دسيسة مقبولة أو غير مقبولة، ولا علاقة «قلبية» أو «زوجية»؛ لم يستخدمها لخدمة مسعاه وترويج دعواه؛ فلجأ إلى السلطان عبد الحميد كما لجأ إلى الإمبراطور غليوم، وتزلف إلى الدولة البريطانية كما تزلف إلى الدولة الروسية، واستعان بمذاهب الهدم والفوضى كما استعان بمبادئ الحرية والديمقراطية، وتشفع إلى الشهوات كما تشفع إلى النخوة والبطولة، وعرض القضية على مسرح التمثيل كما عرضها بين المقاصير ومخادع القصور، وأثار الدهماء، من أبناء قومه على كبار المفكرين منهم كما أثارهم على الساسة والزعماء، من أبناء الأقوام «الغرباء».
ولم يكن أنصاره من عقلاء اليهود كثيرين يوم تصدى - أثناء النظر في قضية دريفوس المشهورة - للمطالبة بإقامة الدولة الصهيونية؛ لأن هؤلاء العقلاء قدروا سوء المصير من مواجهة العالم بالعصبية اليهودية، ممثلة في حكومة منفردة تضطرب بين خصومات الدول ومنازعاتها. وممن قاوموه في بداءة الأمر فيلسوف يهودي معروف هو الدكتور مارتن بيوبر
Buber ، الذي عارض أخيرا في تنفيذ حكم الإعدام على الزعيم النازي أيشمان؛ لأن الانتقام منه «ينجي الناشئين الألمان بضمير مستريح من الندم والتبكيت كلما تذكروا أن أيشمان قد لقي جزاءه الحق، وكفر عن تلك الأفاعيل التي أصيب بها الملايين من بني إسرائيل.» وقد طلب بن جوريون إلى التلفوب على أثر صدور الحكم في القضية ليزوره ويتحدث إليه في مسألة التنفيذ، فجامله رئيس الوزارة وقال له: «بل أنا قادم لأستمع إليك؛ لأنك تكبرني بالسن والقدر.» ثم خرج من حضرته وهو يبتسم لهذه السذاجة الفلسفية من ذلك الشيخ الذي لم يقعده وقار الهرم عن السبح في أجواء الخيال.
وقد كان من رأي بيوبر عند معارضته لهرتزل، أن حماية الأمة اليهودية بإحياء عقائدها وشعائرها والتوفيق بينها وبين ثقافة الزمن وأطواره السياسية والاجتماعية؛ هي سبيل الخلاص والتقارب بينها وبين أعداء السامية في بقاع الكرة الأرضية، وكان الجمع بين تطوير العقيدة الذي يسمونه «هاسديزم»، وتنوير الأذهان الذي يسمونه «هاسكلا»؛ هو قوام حركة الإصلاح على مذهب الفيلسوف بيوبر وأشياعه من المستنيرين الأوربيين، ولا سيما يهود الجرمان من الألمان والنمسويين، ولكن بيوبر قد آل به الأمر إلى الإقامة بإسرائيل، والكف عن كل عمل يخالف الصهيونية على أساسها الذي أقامه هرتزل واتبعه من بعده تلاميذه ومؤيدوه، وهكذا يصنع المفكرون الذين عارضوا الصهيونية بالأمس وأنذروها بسوء العاقبة، فإنهم كلهم صهيونيون صامتون، وإن لم يكونوا صهيونيين عاملين.
وقد ولد هرتزل قبل أكثر من مائة سنة بمدينة بودابست (1860)، وبدأ الدعوة للدولة الصهيونية بعد أن جاوز الثلاثين، ثم عقد مؤتمره الدولي الأول بمدينة بال السويسرية سنة 1897، وأعيد انتخابه لرئاسته ست مرات، ولم يقصر مساعيه على الشعوب والجماعات، ولا على جمهرة قومه مع سائر الجماهير، بل استطاع أن يصل إلى قصور الملوك كما استطاع أن يصل إلى عرش البابا قبيل موته ببضعة شهور، وقضى نحبه في صيف سنة 1904 بعد معركة حامية نشبت بينه وبين الصهيونيين أنفسهم، ومنهم أناس كانوا إلى زمن قريب من أكبر مؤيديه في المؤتمرات الدولية، وقد أوصى بنقل رفاته إلى أورشليم، فنقلها حكام إسرائيل من مدفنه بالنمسا سنة 1949. وقال مترجمه يعقوب دي هاس إنه واحد من أندر الأعلام في تاريخ إسرائيل خلال أربعة آلاف سنة، وإنه عاش حتى سمع عن نفسه أخبارا كأخبار الأساطير!
ولم تنقطع معارضة هرتزل إلى اليوم بين يهود العالم، ولكن الثابتين منهم على معارضته يتقبلون عمله ويغتبطون بما أصابه من نجاح في دعوته، فلا ينتظر من عقلائهم ولا من دهمائهم شيء يعربون به عن معارضتهم وراء السكوت والتأمين!
فلسفات كتابنا1
... سمعت من إذاعة البرنامج الثاني ندوة أدبية حول أدبنا المعاصر في ضوء التيارات الفلسفية، اشترك فيها الأساتذه لويس عوض وعبد الرحمن بدوي ونجيب محفوظ، وتحدث الدكتور لويس عوض عن فلسفات كتابنا الكبار، فذكر الدكتور طه حسين والأستاذ توفيق الحكيم، ثم قال: «أما العقاد فالحقيقة أن تبويبه صعب؛ لأنه بالرغم من أن ثقافته الأجنبية هي الإنجليزية، إلا أن أقرب شيء إليه هو في رأيي الفلسفة الألمانية، ولست بقادر على «تعليل هذه الظاهرة لدى العقاد».»
وقد امتلأت نفسي بضباب الحيرة؛ إذ لم أفهم العبارة، وفي الوقت نفسه لم أسأل أستاذي الدكتور لويس عوض أن يفسرها لي، ولكي يهدأ فكري كتبت إليك راجيا منك البيان ...
حسن توفيق محمود
كلية آداب القاهرة
إن الاعتماد على الثقافة الإنجليزية في قراءة الفلسفة هو تفسير الظاهرة التي قال الدكتور لويس عوض إنه غير قادر على تفسيرها؛ «بالرغم من أن ثقافة العقاد الأجنبية هي الإنجليزية.»
وقد أصاب الدكتور لويس عوض حين قال إن التبويب صعب في هذه الحالة، ولكنه استصعبه لأنه لم يحاول أن يعود به إلى الفرق بين فلاسفة الألمان وفلاسفة الإنجليز؛ وهو مفتاح السر في صعوبة التبويب.
فالمعلوم أن الفيلسوف الألماني، على الأغلب، صاحب مذهب شامل، يفسر الوجود كله ويحاول تطبيقه على جميع ظواهره، وأن يحصر كل تعليل من التعليلات العامة بين مقدماته ونتائجه؛ ولهذا يسهل تبويب الأفكار على حسب هذه المذاهب الشاملة التي تحيط بتفاصيل الرأي بغير استثناء، أو مع استثناء القليل.
أما فلاسفة الإنجليز، فالغالب فيهم أن يكون لكل منهم فكر يسمى باسمه، ويتحرج فيه من التعميم المحيط بجوانب الوجود كله؛ ولهذا تذكر عندهم المذاهب بأسماء أصحابها؛ فيقال: مذهب دارون ومذهب هيوم ومذهب لوك. في حين أن الأوربيين يذكرون هذه المذاهب بعينها فيقولون: مذهب التطور ومذهب الشكوكية ومذهب المعرفة التجريبية، إلى آخر هذه العناوين التي يسهل فيها التبويب والتقسيم.
وإنني على إجلالي لفلاسفة الألمان، لا أستطيع أن أتقيد بنظام فلسفي واحد يحيط بجميع العلل والتفسيرات، وأرى أن الحقيقة الكونية أوسع وأكبر من أن يحصرها تفكير ذهن واحد، بالغا ما بلغ من السعة والنفاذ، ولا غنى لنا عن التماس أجزاء الحقيقة حيث كانت هنا وهناك على تعدد المذاهب ومناهج التفكير.
ومع هذا لا أدين بكل ما في مذهب دارون، ولا بكل ما في مذهب هيوم، أو لوك أو بركلي أو سبنسر أو الإسكندر من المحدثين والأقدمين، فلا يسهل تبويب الرأي الذي أدين به على حسب الأسماء والعناوين.
ومن هنا أصاب الدكتور لويس حين تحدث عن صعوبة التبويب، ولكنه حار فيما هو موجب لزوال الحيرة؛ لأن طريقة الثقافة الإنجليزية في دراسة الفلسفة هي «السبب الذي يبطل العجب» كما يقال.
السوبرمان1
نقرأ عن السوبرمان في أعمال برناردشو وغيره، فما هي نظرية السوبرمان؟ وما هو نصيبها من الواقع؟ وما هي المصادر التي يمكن الاستزادة منها حول هذه النظرية؟
سامي عبد العزيز الكومي
ماجستير الصحافة، جامعة القاهرة
إن كان المقصود بالسوبرمان معناه «البيولوجي»، أو معناه المرتبط بما يعرض للأجسام الحية من التطور؛ فالنظرية كلها خطأ؛ لأنها قائمة على سوء فهم من «نيتشه» لمذهب النشوء والارتقاء؛ إذ خطر له أن هذا المذهب يقول بارتقاء الإنسان من سلالة القردة، فاعتقد أن دوام التطور يقضي بارتقاء الإنسان الأعلى - أو السوبرمان - من هذا الإنسان الأدنى الذي يعيش في الزمن الحاضر، وكلا الاعتقادين وهم لا أصل له من مذهب التطور ولا من شواهد التاريخ.
أما المعنى الآخر للسوبرمان، فهو معنى «الجنتلمان» في صورة أخرى غير صورة الجنتلمان على مذهب الطبقات «الأرستقراطية»؛ لأن مزايا هذا الجنتلمان الأرستقراطي تنحصر في صفات الكياسة والأناقة وآداب المعاشرة والمعاملة المفضلة في بعض البيئات الاجتماعية، ولكن «السوبرمان» يخالف الجنتلمان بأن المزايا التي يتسم بها إنسانية نفسية، وليست مقصورة على شارات المجتمع ومظاهر الطبقات، فهو إنسان ممتاز بأخلاقه العليا في كل طبقة وفي كل مظهر، وعلى كل حال من أحوال المجتمع الغني أو الفقير.
ويبالغ برناردشو بتركيزه للصفات الفردية في طبائع سوبرمانه؛ لأنه أراد أن يفرق بين خصائص الجنسين بإسناد وظائف النوع إلى المرأة وإسناد وظائف الإنسان الفرد إلى الرجل، وكاد أن يجعل قدرة الفرد الممتازة ممثلة في قدرته على الهرب من حبائل النوع كما تبسطها المرأة في طريقه، فهو «سوبرمان» مخصوص لتمثيل هذا الجانب من الصراع بين وظائف الجنسين، وليس سوبرمانا ممثلا للامتياز الإنساني المحض على اعتبار الرجل والمرأة على السواء صورتين من الإنسان كيفما كان، مع اختلاف محدود فيما ينفصل به الجنسان من الوظائف والتكاليف.
وكل دراسة وافية لآراء نيتشه وأعمال برناردشو ففيها الكفاية من شرح هذه النظرية، ولا سيما التعليقات على مسرحية الإنسان والسوبرمان والمقارنات اللغوية بين معنى الكلمة بالألمانية ومعناها بالإنجليزية، أو معنى البطولة على رأي كارليل
Heroism
ومعنى الإنسان المثالي على آراء الكماليين من علماء الأخلاق.
نشيد أخناتون1
درج المؤرخون على عقد مقارنة بين ما جاء في نشيد أخناتون، وبين ما جاء بالمزمور الرابع بعد المائة من مزامير داود، فهل معنى هذا أن أحدهما تأثر بالآخر، أو أن الأمر مجرد توارد أفكار؟
محمد عبد الحليم أحمد نور الدين
آداب القاهرة، قسم آثار
من المحقق أن العبرانيين وفدوا إلى مصر وأقاموا فيها منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - وأنهم ما زالوا إلى عهد موسى - عليه السلام - يرجعون إلى العبادات المصرية، ولو كانت على غير سنة التوحيد، كما فعلوا حين طلبوا العودة إلى عبادة العجل والرجعة إلى الديار المصرية، على ما هو مشهور في كتب التاريخ والأسفار الدينية.
والسؤال هنا عن المزامير التي وردت في كتاب العهد القديم، وقد نقلت إلى ذلك الكتاب بعد نظم أخناتون لنشيده في صلوات التوحيد بأكثر من ثلاثة قرون، فلا شك فيما هو الأسبق بين النشيدين . ولكن «أرثر ويجال»، مؤرخ المصريات المعروف، يرجع إلى التاريخ القديم قبل أيام أخناتون، ويظن أن آتون وآتوم إنما هما تصحيف لاسم «أدوناي»؛ بمعنى السيد أو الإله في اللغة العبرية، وأن أخناتون ورث آراءه من أمه الآسيوية! وذلك وهم سيق إليه ويجال لتشابه الأسماء مع الاختلاف البعيد بين صفات آتوم وصفات أدوناي؛ فإن آتوم من أقدم الأرباب المصرية في معابد رع، وقد جاء في الفقرة الرابعة عشرة من القسم الأول في كتاب الموتى على لسانه: «أنا آتوم منفردا في نون، وأنا رع حيث ينزع مع الفجر ليبسط يديه على الدنيا التي خلقها.» ولا شبه بينه وبين أدوناي وأدونيس في صيغته اليونانية؛ لأن أدونيس رب الربيع والغرام، ولا شيء من ذلك في خصائص آتوم، الذي يبدو على مثال الكهول ذوي اللحى ويتقلد مفاتيح الحكم والحكمة ويرجع إلى مبدأ الخليقة، حيث لا شيء غير الماء والظلام.
فإذا كانت المقارنة بين المزامير على رواية العهد القديم وبين أناشيد أخناتون، فلا محل للخلاف فيمن هو السابق منهما ومن هو اللاحق بعده، وقد كانت دعوة التوحيد في أناشيد أخناتون فترة من فترات العقائد المنزهة، لحقت بها فترات طويلة من الردة بين رعايا الفراعنة الأقدمين أبناء وادي النيل وأبناء إسرائيل.
التجارب الاجتماعية1
أشارت الأخبار بالأمس إلى سلسلة من التجارب الاجتماعية الأخلاقية، تجريها بعض الصحف في العالم الجديد، ويعتمد عليها طائفة من المؤلفين في حكمهم على الفضائل التي تروج أو لا تروج بين جمهرة من الناس في إحدى البيئات، ومنها البيئات التي يحسب أبناؤها بعشرات الملايين، كالبلاد الأمريكية.
وبين تلك التجارب «الإحصائية» تجربة أجراها بعض المؤلفين عن الوفاء بين الزوجين، يظهر منها أنه يقدر فضيلة الوفاء بمقدار طول الزمن الذي يقضيه الرجل أو المرأة في الحياة الزوجية، وخلاصة تجاربه أو إحصاءاته أن الوفاء صفة مؤقتة كالحب، تزول متى زالت العاطفة بين المحبين.
وطريقة الإحصاء في الحكم على شيوع الفضائل بين أبناء البيئة الاجتماعية طريقة سليمة لا غبار عليها، لولا أنها تتطلب الدقة البالغة في ضبط معاني الكلمات والتحقق من اتفاق المجيبين على معنى واحد عند فهم السؤال، وعند الإجابة عليه.
والظاهر من كلام المؤلف الباحث عن الزوج والزوجة أيهما أوفى لصاحبه، أنه جعل طول الرضى بالبقاء في الحياة الزوجية مرادفا لفضيلة الوفاء، ودليلا على ذلك الخلق النفساني الذي أحصى علاماته في عدد كثير من الأزواج بين الجنسين.
ولكن طول الرضى بالبقاء في عيشة معينة قد يكون عادة من عادات الألفة والامتثال للضرورة على غير علاقة بالفضائل النفسية؛ فإن الطائر الذي يطمئن إلى البقاء في قفصه، ويكف عن ضرب أسلاكه بجناحيه، والتطلع من فجواته للطيران منه؛ إنما يفعل ذلك بحكم العادة التي ترتبط بضرورات الواقع ولا علاقة لها بمعاني الفضيلة في الوجدان، ولا بتلك العلاقة في ضمير الإنسان.
فالاطمئنان إلى البقاء على معيشة واحدة إنما هو عادة تتساوى فيها ألفة الفضيلة والرذيلة، أو حالة القبول للأمر المحبوب وحالة القبول للأمر المكروه.
وإنما تتجلى فضيلة الوفاء عند المنازعة بين هوى النفس ودعوة الواجب، أو بين نزعة نطلبها ونميل إليها ونزعة نعرض عنها ونهم بالفرار منها، وإنما تسنح فرصة التحقيق في قوة هذه الفضيلة عندما يقف أحد الزوجين بين الإخلاص لصاحبه الذي أحبه من قبل، وبين مطاوعة الحب الجديد الذي قد يتعرض له بعد انقضاء عهد طويل أو قصير على الزواج، وقد تحدث هذه المحنة، وينفصم عقد الوفاء فيها مع رضى الزوجين بالبقاء في معيشة واحدة.
ويظهر كذلك أن المؤلف خلط بين عاطفة الحب وفضيلة الوفاء، فبدا له أن عمر العاطفة وعمر الفضيلة ينتهيان إلى أجل واحد، فلا دوام للوفاء بعد زوال المحبة بين الزوجين. وخطأ المؤلف واضح في خلطه بين الأمرين؛ ففي حالة الحب لا حاجة إلى السؤال عن الوفاء؛ لأنها حالة الرغبة التي يقبل فيها كل من المحبين على صاحبه باختياره، ويعارض كل ميل آخر يصرفه عن هذه الرغبة إلى غيرها؛ سواء كان من أهل الوفاء أو كان من أهل الخيانة التي لا تدين بمعنى من معاني الوفاء، وإذا حملت الرغبة في المال لصا سارقا، يكسر الخزينة ويتجشم الخطر في سبيل الوصول إلى المال الذي يشتهيه، فأي معنى للخلط هنا بين الرغبة في الشيء المحبوب وبين فضيلة الوفاء، ولو سميناه وفاء للمال؟
أصدق من حساب الإحصاء في امتحان الفضائل أن نعود إلى حساب قديم عندنا، يعرفه الذين عرفوا حكمة أبي بكر الصديق - رضوان الله عليه - فقد كان يقول ما فحواه إنه ما تردد قط بين واجبين إلا اختار أبعدهما من هواه.
وبهذه «الفرازة» المحكمة، نستطيع أن نعرف متى نبحث عن حقيقة الوفاء بين زوجين أو بين محبين.
موضع البحث عن هذه الحقيقة حين يختار صاحب العاطفة بين الإخلاص لحب كان يستهويه من قبل، والاندفاع مع هوى جديد لم يبلغ من النفس مبلغ الحب القديم، ولكنه يستطيع أن يشغلها عنه ولو بعض حين.
وصدق حساب الصديق، وكذب حساب الأرقام!
المنفلوطي والاشتراكية1
استمعنا إلى البرنامج العام لإذاعة القاهرة مساء يوم الأحد (16 / 9 / 1962) إلى حديث عن كتاب «المنفلوطي الأديب الاشتراكي»، قال فيه المتحدث إن المنفلوطي لم يعرف الاشتراكية بالمعنى العلمي الذي انتهت إليه الآن، ويرجع السبب إلى أن ثقافة المنفلوطي أزهرية إسلامية؛ وهذا يعني أن الاشتراكية بوجه عام أو الاشتراكية بمعناها العلمي الآن مذهب غريب عن الإسلام، فهل يتفق هذا مع ما نقرؤه من أن الإسلام دين الاشتراكية؟ أرجو جوابا شافيا في يومياتكم على صفحات الأخبار.
ج. م. ن.
بكفر الشيخ
إن الاشتراكية قد وجدت قبل أن يوجد اسم الاشتراكية.
وقد وجد اسم الاشتراكية قبل أن يوجد اسم الاشتراكية العلمية.
وأول من سمى مذهبه باسم الاشتراكية العلمية هو كارل ماركس، ولم يكن من العلماء بمعنى العلم المصطلح عليه في عصرنا، وهو ال «ساينس»
Science ؛ لأن الموضوع الذي نال به شهادة الدكتوراه بالمراسلة، إنما كان بحثا من بحوث الأدب اليوناني، ولم يكن بحثا في الكيمياء أو الطبيعة أو الرياضة أو الفلك، ولا بحثا في الاقتصاد أو الاجتماع على نهج قديم أو حديث.
وليس للاشتراكية مذهب واحد يقال إنه هو وحده المذهب العلمي وما عداه لا يوصف بهذه الصفة، وإنما الاشتراكية العلمية - على اختلاف المذاهب فيها - هي هي الاشتراكية العملية التي يمكن تطبيقها بتنظيم رأس المال وإنصاف العمال وتحريم احتكار الثروة العامة، وهذه كلها مبادئ كان يعرفها المنفلوطي وأبناء عصره المطلعون، بين الأزهريين وغير الأزهريين، وليس أكثر من كتاباته التي تندد باحتكار الثروة واستغلال الفقراء والعمال، وله عدا المنثور من مقالاته في هذا الغرض شعر يقول فيه على لسان العامل:
أقضي نهاري مقبلا مدبرا
كأنني الآلة في المعمل
وصاحب المعمل لا يرتضي
مني بغير الفادح المثقل
فإن شكوت النزر من أجره
برح بي شتما ولم يجمل
حتى إذا عدت إلى منزلي
وجدت سوء العيش في المنزل
وقد أكثر من ذلك حتى قال شوقي في رثائه كأنه يسأله:
من شوه الدنيا إليك فلم تجد
في الملك غير معذبين جياع؟
أبكل عين فيه، أو وجه، ترى
لمحات دمع أو رسوم دماع
لا الفقر بالعبرات خص ولا الغنى
غير الحياة لهن حكم مشاع
ما زال في الكوخ الوضيع بواعث
منها وفي القصر الرفيع دواعي
وليس في الاشتراكية قاعدة واحدة من قواعدها العامة كانت مجهولة في عصر المنفلوطي ومن في طبقته الثقافية بين أبناء جيله.
أما التطبيقات الحديثة، فتلك هي الاشتراكية العملية الواقعية، وليس المتحدث الذي أشرتم إليه بقادر على أن يزعم أنه يعرفها جميعا، فضلا عن معرفتها قبل اليوم بثلاثين أو أربعين سنة؛ لأن لهذه الاشتراكية - أو هذه الاشتراكيات على الأصح - عشرين تطبيقا على الأقل في أنحاء العالم لا يتشابه بينها تطبيقان على نحو واحد؛ إذ كل أمة يناسبها نظامها الحكومي وظروفها الاقتصادية وعلاقاتها الخارجية التي لا تناسب أمة غيرها، ولا يزال كل تطبيق من هذه التطبيقات قابلا للتعديل بين عام وآخر، إلى غير أمد محدود.
وإنما صاحبكم المتحدث المشار إليه كمن يقال له إن طبخ الأطعمة عملية كيماوية، وإن مزج الأصباغ عملية كيماوية، وإن غسل الملابس بالصابون عملية كيماوية، فيصيح بملء شدقيه: ومن أين للأقدمين ذلك وهذه معامل الكيمياء وأدواتها لم تعرف على الطريقة العملية قبل هذا العصر الأخير؟
عجز عقيم عند هؤلاء العلماء «اللقبيين» يضيعون به الحقيقة في سبيل الاسم، ويجهلون به الجوهر؛ لأنهم ينظرون إلى العرض، ويرفضون من جرائه البضاعة المطلوبة؛ لأنهم يفرزونها بالعناوين على الصناديق، ويوشك العجز أن يخيل إلى هؤلاء أن «اللقب» الذي جعلهم من العلماء كهنوت جديد، يخلف الكهنوت القديم في أسوأ عيوبه وهو عيب «البركات الكهنوتية»، فلا يؤذن لرأي أن يكون «علميا» بغير رخصة منهم، ولا تحسب الاشتراكية اشتراكية رسمية إن لم تحمل «الدمغة» التي دمغتهم، وهذه آفة من آفات التفكير، لا تقل الحاجة إلى التخلص منها في عصرنا هذا عن تلك الحاجة الملحة التي اضطرت الأقدمين إلى الخلاص من كهنوت البركات!
فإذا كانت الاشتراكية عقيدة وغاية، وكانت عقيدتها أن الأمة مسئولة عن فقرائها وأغنيائها، وأن الغاية منها كف الاستغلال وإنصاف العمال؛ فالاشتراكية التي آمن بها المنفلوطي، مائة في المائة، اشتراكية صحيحة ولا تفقد واحدا في المائة؛ لأن تطبيقاتها العملية كانت مجهولة عنده؛ إذ كانت تطبيقاتها العملية اليوم - ودع الغد وبعد الغد - مجهولة عند كثير من الأحياء، وممن يطبقونها اليوم من يجهل كيف يكون تعديلها بعد عشرة أعوام.
وليس متحدثكم بأهل للغبطة؛ لأنه يجهل الثقافة الأزهرية الإسلامية، فإنه لو عرف منها قراءة القرآن الكريم وحده لعرف قوله تعالى:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين .
ولا ريب أن «الإسلام» بحروفه العربية لم يكن معروفا بين العبرانيين أتباع إبراهيم، ولكنه كان مسلما بعقيدة الدين وغاياته، وهو المطلوب كما كان يقول لنا «العلم» بلسان «معلم» الحساب بعد كتابة الجواب.
اعرف نفسك ... سمعت في إحدى المناقشات بكلية الآداب من أستاذ من ثقات الفلسفة عندنا، أن سقراط لم يقل كلمة «اعرف نفسك» المنسوبة إليه، وأنه تأكد من ذلك بنفسه من زيارته الأخيرة لليونان، وكان هذا منه ردا على استشهاد باحث جاء ليناقش رسالة له للحصول على دكتوراه الفلسفة ... فهل لي إذن أن ألجأ إليكم راجيا توضيح هذا الأمر لنا، وأن تذكروا لنا هل كان سقراط هو صاحب هذه الكلمة حقا، أو أن الأمر كما يذهب إليه أستاذ الفلسفة بالجامعة ؟
محمد محمد مرشدي بركات
إذا كان مقصد الأستاذ أن الكلمة لم تثبت نسبتها إلى سقراط وحده، فهو على حق؛ لأنها قد نسبت كذلك إلى صولون وفيثاغوراس، ونسبها «ديوجين لايرتس» إلى طاليس.
وقد كانت هذه الكلمة «اعرف نفسك» شعار الرب الإغريقي أبولون في معبد دلفي، وقيل إن سقراط ذهب إلى المعبد ليسأل عن أحكم الناس، فقيل له هناك: «اعرف نفسك يا سقراط، فإنك أحكم الناس.»
ولكن الثابت من محاورات أفلاطون - باب المعذرة - أن شايرفون صديق سقراط هو الذي ذهب إلى الهيكل، وسأل عن أحكم الناس فقيل إنه هو سقراط، وقد جاءت الإشارة في الحوار إلى هذه القصة بعد وفاة شايرفون، ولكن في حياة أخيه الذي أحيل إليه السامع ليستوثق من صحة الرواية بهذا الإسناد.
ومما لا شك فيه أن «معرفة النفس» كانت هي لباب العلم والأخلاق في فلسفة سقراط، فلم يصل إلينا من أقوال الفلاسفة الذين نسبت إليهم الكلمة بحث أتم وأوفى من بحثها في محاورات أفلاطون منسوبا، كما هي عادته، إلى أستاذه سقراط؛ ولهذا شاع أنه كان أول من نطق بها وجعلها شعاره، وهي ولا ريب أقدم تاريخا من ذلك؛ لأنها سمعت من رب دلفي قبل ميلاد الفيلسوف.
دارون وحاسة الجمال1
قرأت لدارون قوله: أما البحث في حاسة الجمال ذاتها، ثم النظر في كيفية نشوئها ونمائها في عقل الإنسان وبعض الحيوان؛ فموضوع مغلق يحيط به الإبهام، وفي هذا الصدد أود أن أعرف هل حقيقة أن دارون مات وهو مؤمن بوجود قوة تتحكم في هذا الكون غير الطبيعة؟
علي غنيمي قمحاوي
بكالوريوس عمارة، القاهرة
إن دارون قال غير مرة إنه يشعر بأن وجود القدرة الإلهية أقرب الحلول إلى العقل عند النظر إلى قضية الوجود كله، ولكنه كان يقول أيضا إن شعوره هذا لا يلزم أحدا بموافقته؛ لأنه لا يملك البرهان القاطع الذي يلزمه غيره باعتقاده.
وكان يكرر أحيانا ذكر المتاعب والآلام وألوان الشقاء التي تحيط بالأحياء كافة في هذا الوجود، ثم يذكر معها أنها من أسباب الشك عند المترددين والمنكرين.
ولكنه كان يعود فيقول على أسلوبه في تفسير حقائق الحياة: إن بقاء أنواع الأحياء، ورغبة هذه الأنواع في التوالد، دليل قوي على أن الشر في الحياة لا يزيد على الخير، وأن أسباب الإقبال على الوجود لا تقل عن أسباب الإعراض عنه والنقمة عليه.
أما حاسة الجمال، فقد نظر إليها دارون وشريكه والاس نظرتين متقاربتين، فكان والاس يرى أنها من دلائل وجود الله، وأن الموسيقى خاصة، والعبقرية الفنية عامة، آيتان من آيات القدرة العلوية؛ لأن تفسيرهما بالضرورة المادية أو الاجتماعية غير مستطاع.
ويقف صاحبه دارون فيقول إن الجمال قيمة
Value
وليس بمقدار أو عدد، فلا يمكن أن يختبر بتجارب العلوم الطبيعية، ولكنه يختبر بحاسة، أو بذوق، لا تفسره قوانين المعمل والحساب.
وعلى ذكر التطور نعود إلى ترجمة بقاء الأنساب
Fittest
فنزيدها إيضاحا لما اعترضها من اللبس لدى بعض القراء.
2
فبقاء الأنسب غير بقاء الأصلح من وجهة الصلاح العامة بين جميع الأحياء والبيئات.
فالإنسان أصلح من الميكروب وأقوى منه وأقدر على المقاومة إذا نظرنا إلى الميكروب على انفراد، ولكن هذا الميكروب يبقى في المستنقع الموبوء؛ لأنه أنسب لوجوده حيث يتعرض الإنسان للموت والفناء إذا أقام بذلك المستنقع ولم يتخذ لنفسه وسائل الحيطة والوقاية.
وقياسا على هذا يصح أن يقال إن الرجل الشرير يعيش ويسعد بين أبناء البيئة الشريرة؛ لأنها بيئة تناسبه وتوافق استعداده لمجاراتها ولمقاومتها على السواء، ولكن الرجل الفاضل يهلك في تلك البيئة، ولا يوافق أهلها أو يوافقونه على شيء من أخلاقه ومطالبه، فهو أصلح من أهلها إذا نظرنا إلى الوجهة الإنسانية العامة، ولكنه ليس بأنسب من أهلها للبقاء فيها كما يبقون، وهذا هو الفارق بين الأنسب والأصلح في الترجمة، وهو كذلك مصدر الأخطاء الكثيرة عند من يحسبون أن مذهب التطور يرادف معناه مذهب التقدم والارتقاء.
اقتباس أو توارد خواطر؟1
... اطلعت على كتاب «وحدة المعرفة» للدكتور محمد كامل حسين، واطلعت من قبل على نظريات أبي الفلسفة المثالية التجريبية الفيلسوف ألكسندر صمويل، فوجدت أن هناك تشابها واضحا بين ما كتبه الدكتور محمد كامل حسين، وبين ما نادى به صمويل من قبل في كتبه التي تضمنت آراءه ومباحثه في الميدان الفلسفي ... ولما التبس علي الأمر حضرت إلى أستاذنا العقاد، طالبا من سيادته التفضل بتناول هذه القضية في يوميات الأخبار؛ وهي: هل هناك اقتباس أم أنه توارد خواطر؟ وقد أعياني التفكير فجئت إلى رجل التفكير طالبا البيان.
عبد العزيز البدري
ميت غمر، دقهلية
إن التشابه تام بين الأفكار في كتاب المعرفة وبين قواعد مذهب ألكسندر في التطور وأصول الأخلاق وصفات المادة والربوبية، وقد بسط الفيلسوف مذهبه هذا في كتابه الذي ألقاه محاضرات ثم نشره (سنة 1934) في مجلدين باسم «المكان والزمان والربوبية»
Space Time and Deity .
وبعض آراء الفيلسوف فيما يدور حول مبحث الجمال والفن مفصل في كتابه الآخر عن «الجمال وصور من القيم الأخرى».
وقد لخصنا مذهب الفيلسوف عن الربوبية ودرجات صفات المادة في كتبانا عن «الله» الذي ألفناه قبل ست عشرة سنة (ص252-254)، وهو الجانب الذي يتناول الربوبية وصفات المادة، وعدنا في كتاب عقائد المفكرين إلى بيان مذهبه وعقيدته ببعض الإيجاز.
أما السؤال عن توارد الخواطر، فالأستاذ المؤلف أولى منا بالإجابة عنه قبل تفصيل القول فيه.
اليهودي التائه ... جادلني بعض الأصدقاء في أسطورة اليهودي التائه، فزعم فريق أنها قصة حقيقية وقعت ولا يزال صاحبها يعيش خالدا في أرجاء المسكونة حاملا لعنته الأبدية، وزعم فريق آخر أنها أسطورة خرافية وهمية كأساطير الإغريق والرومان، وإني أتقدم بالرجاء إلى صاحب العبقريات أن يفيدني في يوميات الأربعاء عن ذلك.
سامي صليب
رئيس حسابات شركة الشحن، بنها
حديث اليهودي التائه يرجع إلى خرافة نشأت بعد سنة ألف للميلاد، خلاصتها أن حارسا يهوديا في قصر بيلاطس حاكم بيت المقدس مر به السيد المسيح وهو يحمل خشبته، فأراد الحارس أن يسخر منه وقال له: «لم تمشي هكذا على مهل، أسرع!» فأجابه - عليه السلام - وهو ماض في طريقه: «إنني سأصل إلى غايتي قريبا، ولكنك أنت ستظل في دنياك حائرا مضللا إلى يوم أعود ...»
وكان الشائع بين اليهود والمسحيين الأوائل أن المسيح الموعود سيظهر على رأس ألف سنة من تاريخ هدم الهيكل أو ألف سنة من تاريخ بعثة المسيح - عليه السلام - وأن ظهوره سيكون مسبوقا بظهور كثير من المسحاء والأنبياء الكذبة، يصنعون الأعاجيب والإرهاصات ويخدعون المؤمنين وغير المؤمنين، فلما اقتربت سنة ألف للميلاد أخذ هؤلاء الأدعياء يظهرون واحدا بعد واحد، ثم يتوارون بعد حين كلما حبطت دعواهم وعجزوا عن تحقيق العلامات المقرونة برجعة السيد المسيح وقيام القيامة بعد ذلك، ومن هؤلاء من ادعى أنه شهد محاكمة السيد المسيح وسمع منه أنه سيعيش في دنياه مشردا مطرودا حتى يعود - عليه السلام - إلى الأرض، وأنه يظهر ليتلقاه ويتوب على يديه.
ومن هؤلاء من كان يتقرب إلى رجال الكنيسة ليسكتوا عن دعواه، فيزعم أنه كان بمكة وشهد بعثة النبي العربي - صلوات الله عليه - وناقشه في مسألة صلب المسيح؛ لأنه حضرها واشترك فيها، فيغضي عنه بعضهم ويعرض عنه آخرون.
ولم يرد في أخبار الدعوة المسيحية قط خبر واحد عن حارس يهودي من حراس الحاكم الروماني بيلاطس، ولا كلمة واحدة قالها السيد المسيح لأحد من الحراس، وكل ما في الأناجيل من كلماته عن اقتراب ملكوت السماء أنه قال لتلاميذه - كما جاء في إنجيل متى: ... فحينئذ قال يسوع لتلاميذه: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني؛ فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها؛ لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟ فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازى كل واحد بحسب عمله. الحق أقول لكم، إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته.
وقد تكرر هذا الخبر في إنجيل لوقا بالصيغة الآتية: «حقا أقول لكم، إن من القيام ها هنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله.»
وفحوى الخبرين كما هو ظاهر أن ملكوت الله، أو ثبوت الدعوة المسيحية، سوف يتحقق في حياة أناس من المستمعين لتلك النبوءة، وليس في الخبرين ما يفيد أن يهوديا كافرا بتلك الدعوة سيظل بقيد الحياة ألوف السنين، حتى يبعث السيد المسيح بعثته الثانية، فيحله من ذنبه ويتقبله بين من يسرعون يومئذ إلى لقائه.
ولكن النبوءة استخدمت كثيرا لترويج دعوات المحتالين، وربما حصل من أضاحيك الدجل حول خرافة اليهودي التائه أن يلتقي اثنان من المحتالين بتلك الدعوى في وقت واحد؛ فيزعم أحدهما تأييدا لدعواه أنه حضر مجلسا من المجالس قبل بضعة أجيال، ويتصدى له الآخر فيكذبه ويثبت عليه التلفيق؛ لأنه أعلم منه بتاريخ الجلسة وحاضريها، ويبني تكذيبه أو تصحيحه المعزز بالأسانيد التاريخية على أنه هو قد حضر تلك الجلسة، ولم ير فيها هذا أو ذاك، ولم يسمع فيها بتلك النادرة أو تلك، ولكنه رأى وسمع ما هو أحق بالتصديق كما تؤيده أسانيد المؤرخين.
ثم شاعت الأسطورة شيوعا واسعا في المرددات الشعبية - الفولكلور - ونظمت فيها الأناشيد، ووضع الموسيقيون عنها أنغام التراتيل، ودخلت عليها تعديلات مختلفة من عمل الخيال كما تصورها ناظمو الأناشيد وواضعو الأنغام. ثم جاء عصر القصة الأوربية الحديثة، فكانت الأسطورة كلها في مقدمة الموضوعات التي اختارها القصاصون المحدثون لتجربة فنهم وإعادة المرويات القديمة بأساليبهم، بعد التصرف الكثير أو القليل من عمل قرائحهم، وكان أسبقهم في اللغة الألمانية ثيودور أولكر، الذي نشر قصته عن الأميرة مريم أو اليهودي التائه بمدينة ليبزج سنة 1848، وتلاه غيره من الكتاب الألمان؛ حيث يشتد الاهتمام بالقضية اليهودية. وسرت العدوى إلى الدانمارك، فألف كاتبها المشهور هانس أندرسون إحدى حكاياته في موضوع مقارب للأسطورة بعد التعديلات التي أدخلت عليها، وقد كان الإسكندر دوماس أول القصاصين الفرنسيين الذين طرقوا موضوعها، فألف فيها قصته بعنوان: «انتظر حتى أعود، أو اليهودي المؤبد»، وسمى هذا اليهودي باسمه العبري
Lakdama
بمعنى القديم. ولكن رواية أوجين سو، التي ظهرت باسم اليهودي التائه سنة 1844، قد استولت على هذه الأسطورة في عالم القصة الأوربية؛ فكانت هي مصدر المسرحيات والأفلام والصور التي نقلت وقائعها أو سجلتها بالريشة الفنية.
وقبل ظهور اليهودي التائه في عالم القصة الفرنسية أو الألمانية، ظهرت هذه الأسطورة في قصة إنجليزية باسم «سلاثئيل» أو قصة عن الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنها نشرت غفلا من اسم المؤلف، ونسبت إلى رجل من رجال الدين لم يعلن اسمه؛ لما فيها من التعريض ببعض المذاهب الدينية. ويقال إنه هو القس جورج كرولي المعروف.
آخر أبطال هذه الأقاصيص في القارة الأوروبية رجل تسمى باسم إسحاق القديم
Laguedem ، وفد على مدينة بروكسل في شهر أبريل 1774، وزعم رواة قصته أنه كان يتسمى باسم كارتفيلس يوم كان حارسا من حراس قصر بيلاطس، وقال كلمته التي استعجل بها السيد المسيح، ولم يسمع بعد إسحاق القديم هذا خبر عن أحد يدعي لنفسه أنه هو اليهودي المحكوم عليه بالتأبيد في حياة الضلالة والتشرد إلى اليوم الموعود. وتقدم الزمن فانتهت أيام الخرافات التي يستغلها الدجالون باسم الدين، وابتدأ عصر التحقيق العلمي والشكوك في خوارق العادات؛ فانتقل اليهودي التائه من عالم الأسطورة الدينية إلى عالم القصة الخيالية، وتعود الناس أن يسمعوا بحكاياتها مع حكايات المؤلفين الروائيين وأبطال الخيال، فزالت عنها تلك الصبغة وغلبت عليها صبغة التصوير الأدبي أو الفني، على المعهود في معروضات الصور المتحركة والأقاصيص الموضوعة، وإذا بقيت لها صبغة رمزية في إخلاد بعض المعاصرين، فإنما يحسبون أنها رمز للشعب الإسرائيلي كله وللقضاء الذي قضى عليه بالتفرق بين أرجاء الأرض إلى أن يشاء الله.
وعلى عادة الباحثين العلميين، قد فرغ للبحث عن أصول هذه الأسطورة قديما وحديثا جماعة من المشتغلين بالمقارنات الواقعية والخيالية في علم الإنسان، فتبين لهم أن للأسطورة أصولا سحيقة في جذور العقائد الأولى، تروى على روايات شتى في كل شعب من الشعوب الكبرى أو قبيلة من القبائل البدائية، فلم يخل منها تاريخ الهند والصين، ولا تاريخ مصر وبابل، ولا تواريخ القبائل المتفرقة بين قارات العالم المعمور، ومنها الجزيرة الأسترالية. وأوجز المؤلفات الحديثة التي ألمت بخلاصة تلك الأقاويل المطولة كتاب «أسطورة اليهودي التائه»، بقلم الكاتب الروسي جوزيف جابر، الذي تجنس بالجنسية الأمريكية بعد هجرته من وطنه، واشتغل بالمباحث الفلسفية والتاريخية عن نشأة الديانات، ولا سيما الديانات الكبرى، وكتابه عن اليهودي التائه يتتبع الأسطورة إلى السنة الماضية (1961)، ويمكن الحصول عليه من مكتبات القاهرة.
الأنسب والأصلح1
نقرأ في كتاب علم الأحياء للسنة الثالثة الثانوية صفحة 155 (سنة 1960) ما نصه: «يقصد بتنازع البقاء التنافس بين الأفراد المختلفة؛ فبينما نرى الحيوانات تتكاثر باستمرار، نلاحظ أن أفراد كل نوع لا تزداد ازديادا كبيرا إلا بقدر ما تسمح به الظروف المحيطة بها؛ إذ يهلك منها عدد كبير؛ إما لضعفه وإما لقلة حيلته في مكافحة عدائه، فلا يستطيع الحياة؛ لأن الحياة للأصلح دائما ...»
وفي يومياتكم قرأنا أخيرا أن بقاء الأنسب غير بقاء الأصلح من وجهة الصلاح العامة بين جميع الكائنات والبيئات.
فأيهما أصلح؟
عاطف عبد الباسط
طالب بمدرسة ملوي الثانوية
إن بقاء الأنسب أدق وأوفق لترجمة العبارة الإنجليزية:
Survival of the Fittest ؛ لأن المناسبة لبيئة من البيئات قد ترجع إلى نقيصة في الكائن الحي، ولا ترجع حتما إلى القوة أو الصلاح في غير تلك البيئة.
وقد تمثلت أكبر تجارب الحياة قبل ملايين السنين في أنواع من الزحافات الضخام، كانت إحداها تبلغ في الطول نحو ثلاثين مترا، وفي الوزن نحو أربعين طنا، وأشهرها «الدينصور» البيوض وأخواته من أكلات العشب، ثم انقرضت هذه الحيوانات، وكانت ضخامتها وقوتها من أسباب انقراضها وغلبة الحيوانات الصغيرة عليها؛ لأنها كانت تحتاج إلى مقادير هائلة من الطعام لتغذيتها، وكان اجتماع طائفة منها في مكان مزروع يستنفد كل ما فيه من النبات الصالح للغذاء بعد زمن قليل، ولم يكن لها من ضخامتها معين على الانتقال السريع إلى الأمكنة البعيدة للبحث فيها عن طعامها. وربما تحول بعضها في العصور المتطاولة إلى أكل اللحوم، فتعذر عليها أن تطارد الحيوانات الصغار، التي تخف إلى الهرب قبل أن تدركها وتتمكن من افتراسها، بل كان يحدث أن هذه الحيوانات الصغار تأتي من خلفها وتنهشها وتأكل من لحومها، ثم تفر ناجية بنفسها قبل أن تتمكن من الاستدارة إليها لمنعها واللحاق بها كلما فرت منها؛ ولهذا خلقت لها في الأزمنة المتطاولة مراكز مخية عند الذنب للإحساس بالحيوانات التي تهجم عليها من الخلف لافتراسها، ولكنها لم تكن مع هذا قادرة على اللحاق بها بعد هجومها وفرارها، وكانت هذه الحيوانات الضخام بيوضا كما تقدم، فكان ما تضعه من البيض طعاما سهلا للحيوانات الصغار كلما ابتعدت عنه، كما كان عقبة لها توقعها في الحيرة بين الابتعاد لطلب القوت وملازمة المكان لحماية البيض أو حماية ذريتها الصغار، وربما انتهى الأمر بفنائها في كارثة من الكوارث الطبيعية سمحت بدوام التناسل للأحياء الصغيرة ولم تسمح بدوام نسلها، فكانت ضخامتها وقوتها من أسباب فنائها.
فها هنا حيوان ضخم قوي ينافسه حيوان صغير ضعيف؛ فيبقى هذا لأنه «أنسب» لظروف الحياة في بيئته وزمنه، ويزول ذاك مع امتيازه بالقوة والضخامة، ولا ريب إذن من ضرورة شرط «المناسبة» للظروف لضمان البقاء؛ لأنه أضمن من القوة أو من الضخامة التي تفقد هذه المناسبة.
على أن المسألة لها اعتبار آخر إذا أردنا معنى الأصلح من وجهة الصلاح العامة بين جميع الكائنات والبيئات، وذلك عندما يكون التنازع واقعا بين ما يناسب الفرد وما يناسب الجماعة أو يناسب النوع الإنساني كله، فما الذي يبقى إذا تنازعت مصلحة الفرد الواحد ومصلحة الجماعة في حياتها الطويلة أو مصلحة النوع الإنساني كله على اختلاف الجماعات؟
لا خلاف في أن الجماعة أطول عمرا من الفرد، وأن النوع الإنساني كله أطول عمرا من كل جماعاته، فلابد في حالة التنازع بين الفرد والجماعة أن تبقى مصلحة الجماعة، وأن تبقى من بعدها مصلحة النوع، وكل ما كان محققا لمصلحة الجماعات الكثيرة فهو - ولا ريب - أصلح وأفضل مما يحقق مصلحة الفرد الواحد في حياته القصيرة، وبهذا المعنى دون غيره يتفق الأنسب والأصلح من الوجهة العامة؛ لأن ما يناسب الجماعة الكثيرة الخالدة صلاح محقق في جميع الأحوال.
ويجب أن نذكر أن الأنسب والأصلح يتفقان في هذه الحالة ولا يلزم أن يتفقا في الحالات الأخرى، وهي الحالات التي تنحصر في بيئة واحدة وظروف محدودة؛ فقد يكون الامتياز بالقوة والضخامة سببا من أسباب الهزيمة والفناء في هذه الأحوال.
مثل من التحقيق والخبرة للدراسة العلمية1
وحدة المعرفة، وهو العنوان الذي اختاره الدكتور محمد كامل حسين لكتابه المبتكر ، هي إحدى الآراء التفصيلية التي بسطها صمويل ألكسندر في كتاب المكان والزمان والربوبية، وليس في وسع الدكتور محمد كامل حسين أن يجزم باستحالة نسبة هذا الرأي إلى «هذا الصمويل»؛ لأنه قد أصبح من الإشاعات الذائعة التي نقلت عنه إلى لغتنا العربية ... وإحدى هذه الإشاعات مذكورة في كتاب يقرؤه طلاب الفلسفة بلغتنا في الجامعات وغير الجامعات، وهو كتاب نحو فلسفة علمية للدكتور زكي نجيب محمود؛ حيث يقول في مقدماته من الصفحة الخامسة عشرة بعد الكلام على هذا الصمويل: «فهو فيلسوف تجريبي تركيبي معا، وهو يعتقد بأن الفلسفة لا تختلف عن العلم إلا في كونها تبحث في مشكلات أهم من مشكلات العلم، لكنهما معا يدوران حول موضوعات بعينها.»
والدكتور محمد كامل حسين مولع بإعادة ابتكار الآراء التي يجهلها من آراء هذا الفيلسوف خاصة، ولكنه يطبقها كذلك على طريقة مبتكرة، بحق، لا يستطيع أن ينازعه فيها أحد غيره؛ لأنه يؤلف كتابا وافيا عن وحدة المعرفة كلها، ثم يقيم السدود بين أبواب المعرفة ويفرض الاختصاص في كل باب منها، ويحرم علينا نحن - بصفة خاصة - أن نميز بين مذاهب المفكرين؛ لأننا لا نحسنها كما يحسنها هو بمعرفته الشاملة الكاملة، ولا يجوز لنا أن نكتسب هذا التمييز بعد خمسين سنة في قراءة الفلسفة وعشرين سنة في تأليف الكتب المستقلة عن الفلاسفة: ومنها كتاب واحد عن عقائد المفكرين يميز بين مذاهب مائة مفكر على الأقل من أساطين الفلسفة الإلهية والفلسفة المادية، وبينهم من لا يستطيع الدكتور أن ينطق باسمه حقا، ولو على طريقة نطقه باسم هذا الصمويل!
وآية الابتكار في تطبيق الدكتور لقرار الاختصاص، الذي يسري على الناس ولا يسري عليه، أن اختصاصه هو - هو فقط - يضع يده على طلسم مسحور أشبه شيء بطلسم «افتح يا سمسم» الذي لا يغلق دونه باب من الأبواب، ولكنه إذا تحول إلى يد إنسان آخر، تساوى فيه «افتح يا سمسم» و«افتح يا حمص» و«افتح يا فول».
فالدكتور محمد كامل حسين طبيب مختص بعلاج العظام، وهذا اختصاص يجري تنفيذه على الآخرين فيمنعهم أن يشتغلوا مثلا بعلاج العيون أو بعلاج الأنف والحنجرة، أو بعلاج أمراض النساء وغيرها من فروع الطب، وكلها تنتمي إلى صناعة واحدة.
أما إذا كان الاختصاص اختصاصا للدكتور محمد كامل حسين، فذلك «اختصاص خاص» محجوز له لا يسمح به لغيره؛ لأنه يطلق له عنان الدعوى في جميع المعارف البشرية، ويجعله صاحب الرأي الأوحد بين الفلاسفة والأدباء، فلا يجوز لإنسان يتابع دراسات الفلسفة منذ أكثر من نصف قرن أن يناقشه في مسألة من مسائلها، ويستحيل على فكر خطرت له أن تخطر على بال أحد قبله ولا بعده، ولو كان ذاك الأوحد في طبقة ذلك الصمويل بين فلاسفة الجيل!
وهل من اللازم أن يتحقق هذا الاختصاص في الواقع، وبالفعل، كما يقولون؟
كلا! لا يلزم ذاك أبدا، لا يلزم ذلك على الإطلاق.
فالواقع - بشهادة الدكتور على نفسه - أنه، حماه الله، أبرأ خلق الله من ذلك الاختصاص؛ لأنه يقول: إنه يجهل كل الجهل مدارس الفلسفة الحديثة في القرن العشرين، وهي المدارس التي كتب عنها مؤرخوها باللغة العربية كالأستاذ يوسف كرم - مثلا - صاحب تاريخ الفلسفة الحديثة (صفحة 413)، وكتبنا عنها - نحن غير المختصين - قبل ست عشرة سنة، وقرأناها قبل ذلك بسنين. ولم يمض غير ثلاث سنوات على احتفال من أشهر احتفالاتها، اشتركت فيه محطات الإذاعة العالمية وصحافة العلم والفلسفة وأندية الجامعات والمجامع العلمية والأدبية، وذلك هو الاحتفال (سنة 1959) بانقضاء مائة سنة على مولد ذلك الصمويل النكرة جدا، على حسب قول الدكتور.
ويقول الدكتور إنه بحث عن معلومات - أي معلومات - عن هذا الفيلسوف فلم يجدها في دائرة المعارف البريطانية، فكان هذا دليلا آخر على نصيب الدكتور من الخبرة بالبحث ومن الاختصاص المزعوم الذي لا يدانيه العموم.
فدائرة المعارف البريطانية «أولا» ليست مرجع المختصين بدراسة الفلسفة؛ لأنها مرجع عام للمعارف البشرية تلم من كل معرفة منها بما تتطلبه الحاجة إلى المراجعة العامة، وإنما يعتمد المختصون على دوائر المعارف الفلسفية، ويعتمدون قبل ذلك على أمهات كتب الفلسفة وعلى مؤلفات الفلاسفة أنفسهم أو شروح المعلقين على مؤلفاتهم، ولو كان الدكتور يحسن البحث عن مراجعة لما احتاج إلى دائرة المعارف البريطانية في هذا الموضوع.
ودائرة المعارف البريطانية «ثانيا» لم تهمل ذلك الصمويل، كما قال الدكتور؛ لأنها ذكرته ولخصت مذهبه في أول جزء من أجزائها وأحدث طبعة من طبعاتها، فإذا كان الدكتور لا يحسن أن يستخرج موضوعا في الدائرة التي يراجعها «العموم»، فليس في نقص القدرة على البحث غاية بعد هذه الغاية، وإذا كان الدكتور يجزم بإهمال الدائرة؛ لأنه يملك طبعة منها غير الطبعة الحديثة، فليس للتعجل بالإثبات والإنكار غاية بعد هذه الغاية كذلك.
فكيف يجهل الدكتور، العليم بمراجع العلم، أن للدائرة طبعات تتجدد، وأن طبعتها قبل نيف وثلاثين سنة ليست هي أحدث الطبعات.
وكيف يرجع الدكتور إلى ترجمة حياة فيلسوف كان بقيد الحياة وظل بقيد الحياة بعد صدور الطبعة السابقة بعشر سنوات؟
وكيف يستطيل الدكتور باستقصاء مراجع البحث علينا ونحن نتابع هذه المراجع إلى أحدث تواريخها وهو لا يتابعها أو لا يحسن متابعتها؟
على أن الدكتور يقع في محظور أشد من هذا المحظور إذا قال إنه اعتمد على الطبعة الرابعة عشرة ولم يعتمد على أحدث الطبعات.
فهذه الطبعة لم تكتب للفيلسوف صمويل ألكسندر ترجمة حياة؛ لأنها صدرت وهو بقيد الحياة، ولكنها ذكرته في عدة مواضع وخصته بقسم مستقل من تقسيماتها لتاريخ الفلسفة، لخصت فيه مذهب الفيلسوف عن تفاضل القوانين باسمه الذي يقول الدكتور إنه «ابتكره» بعد ذلك بثلاثين سنة، ويقول بكل شجاعة إنه يقترحه ... نعم يقترحه لأول مرة ويسميه لأول مرة ولا يمكن - طبعا - أن يكون أحد قد ابتكره قبله وقبل هذه المرة، ونعني به اسم الهيرارشية
Hierarchy
باللغة الإنجليزية، وباللفظ الذي نقله الدكتور إلى اللغة العربية كما هو، حيث قال في (صفحة 57):
يقوم البناء الذي اقترحه للمعرفة على نظرية تفاضل القوانين؛ هيرارشية القوانين ...
أي والله هكذا قال الدكتور!
أما الذي قالته دائرة المعارف، فهو كما جاء في صفحة (758) من الجزء السابع عشر بترجمته الحرفية:
إن الموجودات تنبثق في أحوال معينة وتتكون منها هيرارشية.
إلى أن قالت: «وبهذه الهيرارشية تكون الموجودات العالية لها صفات ما دونها، ولكنها تتصرف فيها بخلاف تصرفها، فهي تستمتع بصفاتها العليا باطنيا ومباشرة، ولكنها تدرك صفاتها الدنيا خارجيا على درجات، ولنا بالقياس العقلي أن نقدر وجود صفات أعلى من ذلك في الربوبية، فكما أن الوعي المدرك هو أعلى صفة في الإنسان كذلك الربوبية أعلى صفات الإله، وكيانه هو الوجود كله يترقى إلى الوجود الإلهي، ولما كان الزمن لا يبلغ تمامه - أو نهايته - أبدا، فالصفات الأعلى فالأعلى لا تزال منبثقة على الدوام ... ولا يزال العالم في تطلعه إلى الربوبية يحفز فينا الشوق الدائم إلى الله.»
فيا عزيزنا الدكتور!
يا مقترح الهيرارشية لأول مرة ... ماذا قلت أنت في درجات الموجودات من المادة إلى العقل إلى الربوبية إلى الله غير ما قالته دائرتك المختارة عن ذلك «الصمويل» الذي أهملته ولم تعرفه؟ ولكنك أنت عرفته مبتكرا معرفته بعد ظهور تلك «الدائرة المعارف» بثلاثين سنة أو تزيد.
ونعود إلى كتاب وحدة المعرفة: وحدة المعرفة التي هي من مبتكرات الدكتور لحساب ذاك الصمويل أيضا، فلا نجد في فصل منه فكرة واحدة لم ترد في مذهب الفيلسوف «المجهول» لدى الدكتور، فليس هناك عبارة واحدة عن التطور الزمني، وعن ماهية الزمن، وعن التفكير الثنائي، وعن أصالة الصفات أو الأخلاق البيولوجية وعن القوانين والحوادث، وعن الحياة والوعي، وعن الربوبية والإله، لم يشرحها الفيلسوف المجهول ويتبرع له الدكتور بابتكارها مرة أخرى بعد سنين.
وليس في وسعنا هنا أن ننقل صفحات الكتاب كلها وننقل ما يقابلها من شروح فيلسوف المثالية التجريبية باتفاق الآراء، ولكننا لخصنا مذهب ألكسندر ومدرسته في كتابنا عن «الله» قبل ست عشرة سنة، ولا حاجة بالقراء إلى أكثر من بضعة شواهد من هذا التلخيص للحكم في مقام المقارنة بين ابتكار الصمويل وابتكار الدكتور.
في صفحة (253) لخصنا مذهب الفيلسوف في درجات الكائنات وتفاضلها بالصفات، وخلاصته كما ترجمناه يومئذ قبل أن نعلم أن الدكتور سيبتكره وأننا سنقيم الحجة له أو عليه:
إذا حدثت الحركة فذلك هو اتصال الزمان والمكان، وإذا وجدت الحركة وجد الإشعاع وتسلسلت الأشياء المادية من هذا الإشعاع، وهي تبدو على درجات، فأدنى طبقات المادة بعد صدورها من الفضاء والزمان هي المادة ذات الخصائص الأولية؛ وهي الحجم والشكل والعدد والحركة، ثم تعلوها طبقة الخصائص التي تترقى إلى اللون والصوت والرائحة ودرجة الحرارة، أو بعبارة أخرى أن الخصائص الأولية تدرك بجميع الحواس، وأن الخصائص التالية لها تحتاج إلى التخصيص فتدرك كل منها بإحدى الحواس، ولا تتم الخاصة للشيء إلا مع اتصاله بشيء آخر، كما يتم اللون مع اتصال الشيء بالنور، ويتم الصوت مع اتصال الشيء بالهواء، فلا بد له في هذه الحالة من بعض التركيب.
وخلاصة مذهب الفيلسوف عن النظام والمنظم: «أننا إذا استبدلنا كلمة النظام بكلمة المنظم، فلا نعدو بذلك أن نسمي هذه الحقيقة الواقعة؛ وهي أن العالم يجري على نسق يخرج منه النظام، وفي وسعنا أن نسمي العالم الذي ندركه على هذا النحو؛ إلها.»
وفي صفحة (254) نلخص كلامه عن العقل والربوبية وهو: «أن الكون لا يزال يعرض لنا انبثاقا بعد انبثاق بسلسلة من الكائنات المحدودة، يتسم كل منها بخصائصه وصفاته، وأرفع هذه الصفات المعروفة لدينا هو العقل أو الواعية، والإله هو الكائن الذي يعلو على أعلى ما عرفناه.»
وتتمة هذا الرأي قوله إنه: «لما كان الزمان أبديا بغير انتهاء، وكان هو مصدر النماء والارتقاء، فليس في استطاعتنا أن نتخيله واقفا عن إخراج تلك الكائنات المحدودة التي تتسم بسمة العقل أو الواعية، ولا بد لنا من أن نرسل الفكر على الاتجاه الذي ترسمناه من تجارب الانبثاق السابقة، التي تمخضت عن الصفات الرفيعة، فإن في الزمان والفضاء باعثا يدفع مخلوقاتهما إلى طبقة أرفع فأرفع، كما دفع بها إلى الطبقة العاقلة أو الواعية. وليس في العقل ما يدعونا إلى الوقوف عند حد من الحدود لنقول إنه هو الحد الأقصى لما يبثقه الزمان من الآن إلى أبد الآباد، بل يكرهنا الزمان نفسه على انتظار مولود آخر من مواليده، ومن ثم يسوغ لنا أن نتتبع سلسلة الصفات، ونتخيل تلك الكائنات المحدودة التي سميناها ملائكة، وهي كائنات تستمتع بوجودها «الملائكي»، ولكنها تتأمل العقل على نحو يعجز العقل عنه، كما نرى العقل يتأمل ما دونه من مراتب الحياة والموجودات السفلى ... وعلينا أن نسأل: كيف تكون العلاقة بين هذه الآلهة المحدودة المسماة بالملائكة، وبين الإله الذي ليست له حدود؟ ...
فالإله إذن هو الطبقة المثالية التي تعلو على طبقة العقل والواعية ... والإلهية.
صفة تتولى الصفات التي دونها من طبقة العقل الذي يقوم هو أيضا على ما دونه من صفات، وينبثق عندما تبلغ الكائنات مبلغا مقدورا من التركيب والتنسيق.
ويمضي الفيلسوف في التقدير والتخمين، فيقدر أن الإله الأعلى الذي ينبثق عنه العالم هو من معدن الروح والعقل؛ لأنهما الطريق التي تأدينا منها إليه، ولكنه يشارك الموجودات في خصائصها الكونية، كما يشترك الإنسان العاقل في خصائص المادة وخصائص سائر الأحياء على نحو من الأنحاء.»
ونختم التلخيص في صفحة (255) بما يلي:
فالوجود على رأي هذا الفيلسوف درجات، هي: (أولا) وجود الزمان والمكان. و(ثانيا) وجود المادة التي لا كيفية لها غير الشكل والحجم والعدد، وما لا يحتاج إلى علاقة بغيره ولا حاسة مميزة لإدراكه. و(ثالثا) وجود المادة التي تتكيف باللون والرائحة والصوت، ويبلغ بها التركيب مبلغ التمييز بالحاسة التي تناسبها. و(رابعا) وجود الحياة، وتبدأ بالاستجابة الحسية التي تشبه في ظاهرها استجابة بعض المواد غير العضوية لبعض المؤثرات. و(خامسا) وجود الحياة العاقلة الواعية. و(سادسا) وجود الإله الذي يعلو ويعلو مع الزمان الأبدي السرمدي بغير انتهاء.
وبعد الإلمام بهذه الملخصات، وقبل أن نتعلم شيئا من التواضع المبتكر الذي «يقترحه» علينا الدكتور، نسأله: ما رأيك في تلخيص هذا الكتاب الفضولي على علم تجبير العظام وملحقاته؟ وما رأيك فيه إلى جانب تلخيص دائرة المعارف السابقة واللاحقة للموضوع بذاته من مذهب الفيلسوف؟ أليس هو على الأقل مساويا لتلخيص الدائرة التي هي كل سندك في طلب المعلومات الفلسفية؟ أليس يحق لهذا الفضولي على فلسفة تجبير العظام وملحقاتها في حدود التواضع المحدود، أن يميز بين ما تبتكره أنت وبين ما يجترئ على ادعائه ذلك الصمويل؛ ذلك النكرة الذي أقدم على ابتكار شيء تنوي أنت أن تبتكره بعده بثلاثين سنة؟!
ونضع أمامك ما ابتكرته أنت حيث تقول: «نستطيع على ضوء هذا التعريف أن نقول إن رب أي شيء هو القوة العالمة القادرة، التي تمثل قانونا أعلى منه يؤثر في حياته دون أن تتغير بذلك قوانينه.»
وحيث تقول: «سبق لنا في شرح مذهب تفاضل القوانين أن بينا علاقة ما هو أعلى بما هو أدنى، ثم ذكرنا أنه قد يكون في هذا المذهب مفتاح نظرية الربوبية وموضعها العلمي من النظام الكوني.»
ونضع أمامك ما ابتكرته أنت حيث «وحدة المعرفة» بالعنوان المستعار من مذهب الصمويل في المعرفة الموحدة، ثم تفتح الكتاب بالهيرارشية التي تراها في دائرتك، ثم تختمه بنظام التطور الكوني من أدنى كل شيء إلى سماء الربوبية، ثم ماذا يا هذا؟ أو يا هؤلاء إكبارا لك عن ذاك وهذا؟!
نقول نحن إن التشابه تام بين مبتكراتك ومنتحلات الصمويل قبلك.
ثم تقول أنت إنه جهل منا بالتمييز بين المذاهب والآراء؛ لأن هذا التمييز يحتاج إلى زمن طويل ويشترط فيه البدء بالقدرة على تجبير العظام، ثم لا يكفي فيه أكثر من قراءة خمسين سنة، وأكثر من عشرين مبحثا وكتابا في مذاهب الفلاسفة والمفكرين، ثم لا غنى فيه عن طريقة واحدة من البحث؛ هي طريقتك في بحث دوائر المعارف ومراجع العلوم.
يا دكتور، إن كنت بعد هذا لا تحس حاجتك إلى التمييز الذي جردتنا منه، فأنت من أسعد خلق الله.
مثل في التواضع والخبرة بالدراسة1
سئلنا رأينا في التشابه بين مذهب ألكسندر وكتاب وحدة المعرفة للدكتور محمد كامل حسين، فقلنا إن التشابه تام بين الأفكار التي وردت في كتاب وحدة المعرفة، وبين تفصيلات مذهب ألكسندر التي بسطها - على الأخص - في كتابه عن المكان والزمان والربوبية، وأحلنا الرد في أمر الاقتباس وتوارد الخواطر إلى الدكتور محمد كامل حسين؛ مجاملة له وإبقاء على كرامته، إذا شاء أن يبقي عليها.
وبعد أسبوع من ظهور اليوميات نشر الدكتور رده، فإذا هو يقابل منا هذه الرعاية بما يدل على حقيقة حظه من البحث والعلم والخبرة بالدراسات الفكرية، كما يدل على حقيقة حظه من أصول المناقشة والمناظرة.
فمما قاله الأستاذ في رده: «لا أعرف هذا الصمويل ألكسندر الذي يصفه الأستاذ العقاد أنه أبو فلسفة بعينها في إنجلترا.»
ومما قاله عن هذا الفيلسوف: «ولم أعثر على معلومات عن هذا العلم من أعلام الفلسفة الإنجليزية، ودائرة المعارف البريطانية لا تعرفه، ولا أدري هل هو فيلسوف لجأ إلى العلوم ليثبت نظرياته، أم هو أصلا عالم طبيعي امتد به التفكير العلمي إلى أن شمل المباحث الفلسفية.»
وقال عن فلسفة ألكسندر أيضا: «ولو قرأ الأستاذ العقاد الكتاب كله، وعكف على تفهمه ودرسه درسا دقيقا - وهو كتاب عسير - لرأى فيه أشياء كثيرة لا يمكن أن تكون في كتاب صمويل هذا.»
أما نصيبنا نحن من تحقيق البحاثة وأسلوب مناقشاته، فمنه «أن الأستاذ العقاد ... ليس صادق الحس في البحوث العلمية وما يقوم عليها؛ لأن صدق الحس في العلوم ينشأ من ممارستها ممارسة طويلة، وقد خانه الحس حين ذكر أن التشابه تام بين كتابي وكتاب من يلحد إليه؛ لأن الفرق بين المذاهب العلمية قد يدق على من لا يحسن العلم بها.»
ومنه: «وإني أرجو الأستاذ العقاد رجاء حارا أن يقرأ كتاب وحدة المعرفة قراءة درس واستيعاب، وهو قد لخص كتاب صمويل وقد يرى أن يلخص كتابي أيضا، وهو قد شرح فلسفة صمويل في كتابه عن الله، ولعله يشرح فلسفتي في كتابه عن نفسه، وهو الكتاب الذي سيظهر قريبا، والذي سيكون عنوانه - من غير شك - التواضع.»
فنحن إذن من الناس الذين لا يحسنون التفرقة بين المذاهب العلمية؛ لأننا لم نمارسها ولم نمارس المباحث الفكرية كما مارسها الدكتور محمد كامل حسين، وهو كما يعلم القراء طبيب عظام.
ونحن إذن نحتاج إلى التواضع لنفهم فلسفة الدكتور، وليس مما يعطينا حق الدراسة الفلسفية عشرون كتابا ألفناها منذ عشرين سنة؛ في الفلسفة الإلهية، وفي عقائد المفكرين، وفي الفلسفة القرآنية، وفي فلسفة ابن سينا، وفلسفة ابن رشد، وفلسفة باكون، وفلسفة الحكم، وغيرها وغيرها من مذاهب الفلسفة في القديم والحديث.
ونحن إذن نفتقر إلى التواضع الذي يتحلى به الدكتور، وإلى تمحيص الدعاوي العلمية على طريقته التي يجيدها؛ ومنها ادعاؤه على كتاب يزعم أنه لم يقرأه أنه يستحيل أن تكون فيه تلك الآراء التي يجوز أن تخطر على بال أحد سواه!
وبغير دليل على الإطلاق يقول الدكتور ما قال، ولكننا بدليل من كلامه وشاهد من قلمه على نفسه نقول: إن الدكتور لا يحسن البحث والدعوى، ولا يحتاج إلى شيء كما يحتاج إلى التواضع، ولا يحق له أن يخوض في مسائل الفلسفة؛ لأنها شيء غريب عن تجبير العظام.
فالدكتور المجبر لم يمارس البحث مراسا طويلا ولا قصيرا، وإلا لما فاته أن يعرف صمويل ألكسندر، الذي عرفناه وشرحنا مذهبه منذ أكثر من ست عشرة سنة، ولو كان ممن يمارسون البحث لما قال عن صمويل ألكسندر «هذا الصمويل» أو صمويل هذا، أو أنه لم يعرفه ولم يسمع به وليس بين الفلاسفة المعاصرين من هو أشهر منه في عالم الثقافة الأوربية.
ومن طريقته، التي نجانا الله منها في حسن البحث، أنه يزعم أن دائرة المعارف البريطانية لا تعرف «صمويل هذا»، وهي قد عرفته وقالت عنه إنه أحد الفلاسفة القلائل الذين تمموا للفلسفة فيما وراء الطبيعة مذهبا كاملا ينسب إليه ...
ففي أول الصفحة (576) من أول جزء في الدائرة، يقول محررها الفلسفي:
إنه واحد من الفلاسفة البريطان القلائل في النصف الأول من القرن العشرين، أنشأ مذهبا كاملا محيطا فيما وراء الطبيعة:
Comprehensive System .
ثم يقول:
إنه نال جائزة جرين في الفلسفة الأخلاقية، وتطور اشتغاله بالفلسفة فوجد الحاجة ماسة إلى الربط بينها وبين علم السيكولوجي ... وفي خلال سنتي 1890-1891 درس السيكولوجية التجريبية في ألمانيا على الدكتور «هوجو منستربرج» ... وفي سنة 1893 بعد عودة قصيرة إلى أكسفورد، عين أستاذا
للفلسفة بجامعة مانشستر، وكان واحدا من نخبة أساتذتها النابهين.
ثم لخصت الدائرة فلسفته فقالت ما ترجمته حرفيا: «إن التقاء الزمان والمكان عنده كأنه رحم كوني تتولد منه طبقات من الكائنات، تشتمل على خصائص المادة والحياة والعقل، كل منها تحيط بما قبلها وتدل على اتجاه إلى ما هو فوقها، والربوبية دائما هي الطبقة الثانية بعد الطبقة التي اتجه إليها التطور الكوني.»
ثم تقول الدائرة: «إن ألكسندر منح وسام الاستحقاق سنة 1930، وإن تمثالا له من صنع أبشتين - أكبر المثالين في عصره - مقام على مدخل دار الفنون بجامعة منشستر.»
وقبل أن ننتقل إلى التعقيب إلى ما تقدم، نقول إن الأفكار التي سمح للدكتور محمد كامل حسين تحقيقه العلمي أن يقول باستحالة ورودها في كتاب الفيلسوف الكبير؛ قد احتواها كلها تلخيص دائرة المعارف البريطانية، التي يقول الدكتور إنها لا تعرفه، فلم يكن مستحيلا أن يشرح ألكسندر تفاضل القوانين من المادة إلى العقل قبل أن يبتكر الدكتور - على دعواه - هذا الترتيب في دراسة المعرفة والتطور كما قال على صفحته الثالثة: «وهي قوانين المادة، ثم تتلو ذلك قوانين الحياة ... ثم تأتي بعدها قوانين الإنسان وهي أخص وأرقى.»
وفي صفحة 161 - أي في أواخر الكتاب - يقول الدكتور: «إن لكل شيء ربا، وإن رب أي شيء هو القوة أو القانون الذي يعلوه ... وقد يكون في هذا المذهب مفتاح نظرية الربوبية وموضعها العلمي من النظام الكوني.»
فمن صفحة (3) إلى صفحة (161) في كتاب وحدة المعرفة يحكي الدكتور مذهب الفيلسوف، ولو اكتفينا منه بهذه الخلاصة في دائرة المعارف البريطانية التي تعرفه، ولكن العجب العجاب إنما يدرك القارئ من المراجعة بالكلمة والعبارة لما قد شرحه ذلك «الصمويل» - على حد قول الأستاذ المتواضع محمد كامل حسين!
وبالدليل القاطع يثبت إلى الآن نقيض كل ما ادعاه الأستاذ لنفسه وادعاه علينا.
فليس هو طويل الدراسة للمباحث الفكرية؛ لأن من كان طويل الدراسة لها لن يبلغ من جهله بفلسفة القرن العشرين القريبة أن يخفى عليه مذهب المثالية التجريبية وهو بهذه المكانة من عالم الثقافة.
وليس الدكتور بالرجل الذي يعلمنا أدب التواضع؛ لأن المتواضع يذكر الحياء الواجب حين تحدثه نفسه باحتقار هذا «الصمويل» لغير ذنب جناه غير فلسفته التي يتعالى بها السيد الهمام.
وليس الدكتور محققا في بحثه وتمحيصه؛ لأن الباحث المحقق لا يدعي على دائرة معارف تملأ الأرض أنها خالية من ذكر الفيلسوف، وهي تنوه بشأنه هذا التنويه.
ولا نريد بعد هذا كله أن نتعلم على يد الدكتور درسا في التواضع؛ لأننا قد نحس بعد مقالاته ودعاويه أننا بحاجة شديدة إلى درس آخر يعوزنا إلى الآن.
ذلك الدرس هو الكبرياء، التي كان ينبغي أن نتعلمها ليعلم الدكتور كيف يتواضع أمام من هم أخبر منه بما يدرسون، ولعله يراجع برنامج الدروس اللازمة لنا وله بعد استيفاء هذا البحث في اليوميات، التي «لا يستحيل» أن تبصره يومئذ بمواضع التبصير.
2
فن جديد من فنون الدعوة1
وربما صح أن يسمى فن الإقناع الآلي، أو فن الاضطرار إلى الاختيار، ولكن لا بد - على أية حال - من التفرقة بينه وبين ضروب أخرى من المعارف والفنون، تشاركه في الإقناع وتختلف أحيانا كثيرة في الوسيلة والأداة؛ ومنها علم المنطق وهو الإقناع بالبرهان، وفن الخطابة وهو الإقناع بالكلام المؤثر، وفن الدعاية وهو تصوير الأفكار والآراء على الصورة التي تسوق المخاطبين إلى القيام بعمل مرغوب فيه أو اجتناب عمل مرغوب عنه، فإن الفن الجديد من فنون الدعوة يعتمد على وسائل شتى للإقناع وتبديل الآراء والأخلاق غير البرهان والكلام المؤثر وأساليب العرض بالدعاية العامة، سواء منها أساليب الكتابة والخطاب وأساليب التصوير والتمثيل.
ويكفي أن نذكر فارقا واحدا تظهر منه سائر الفوارق بين هذا الفن الجديد وبين تلك الفنون، فنقول إن هذا الفن قد يصل إلى تبديل آراء الإنسان من النقيض إلى النقيض بعملية جراحية أو تبديل «الشخصية» في تكوينها العقلي، فلا يدري صاحب الشخصية كيف حدث التحول في تفكيره ومسلكه؛ لأنه من أثر علاج جسدي أو «دماغي»، كعلاج البتر وتبديل الأعضاء في بعض العمليات وأنماط العلاج بالعقاقير.
ويطلق أصحاب هذا الفن أسماء ثلاثة على هذه الدعوة الجديدة، تختلف باختلاف الوسيلة وقوة الفعل وحالة المعالج ومقدار خضوعه لمن يتولاه بالعلاج.
وهذه الأقسام الثلاثة هي:
أولا:
بث المذاهب والآراء، ويصح أن نسميه بالتلقين أو الإيحاء، ترجمة لكلمة
Indoctrintion ، ومعناها الحرفي «المذهبة» أو الإنظار من «النظر» أو النظرية.
ثانيا:
غسل الدماغ، ترجمة حرفية لكلمتي
Brain Washing .
ثالثا:
توجيه الأفكار، ترجمة لكلمتي
Thought Control ، وقد تترجم بالسيطرة أو الرقابة على الأفكار.
والتلقين هو أهون هذه الأساليب؛ لأنه يستخدم في الحالات التي تحاط فيها قدرة الملقن ببعض القيود، فلا يستطيع أن يتسلط كل التسلط على الشخصية التي يحاول تلقينها ما يريد، ويلجئون إليه أحيانا في معاملة الأسرى الذين يخشى آسروهم أن يشتدوا في معاملتهم؛ لأن أمثالهم من الأسرى موجودون في المعسكرات الأخرى، وقد ينتهي الأمر بعد فترة محدودة إلى تبادل الأسرى بين الطرفين. فإذا اشتد هذا الفريق في معاملة أسراه، فقد يشتد الفريق الآخر مثله أو يذيع الأمر في الهيئات الدولية إذا كان فيه شيء من المخالفة للمعاهدات والشرائع المتفق عليها.
وتقوم وسائل التلقين على الإكثار من الأسئلة، التي لا خطر لها في ظاهر الأمر غير استطلاع حالة المسئول والنفاذ إلى أسرار مزاجه؛ من مجرد ميله إلى التبسط في الكلام، أو إلى التحفظ في الجواب، أو إلى المراوغة التي يعرف لها سبب من الأجوبة نفسها، أو تدل على سبب يتيسر الوصول إليه من معاودة السؤال.
فإذا كتب السائل للمسئول مائة سؤال، فمنها السؤال عن اسمه وأسماء أبويه وإخوته، والسؤال عن معيشته الأولى وعن مسكنه وعن جيرانه وعشرائه في صباه، ومنها السؤال عن شعوره نحو نظام من النظم الاجتماعية أو نحو عظيم من عظماء قومه وعظماء الأقوام الآخرين، ومنها السؤال عن زواجه أو عن خطبته أو عن خطيبته أو عن أصهاره، ومنها السؤال عن علاقاته الجنسية، وعن رأيه في المحرم منها والمباح والمألوف منها وغير المألوف.
وقد يسأل الأسير عن أسباب وقوعه في الأسر، وعن الفرقة التي كان فيها عند أسره، وعن زملائه الذين وقعوا مثله في الأسر، أو تمكنوا من الهرب فهربوا ولم يستطع هو أن يهرب مثلهم لعجزه عن المقاومة أو قلة اكتراثه، أو غير ذلك من الأسباب التي تنم على معدنه ومزاجه، ولو عمد فيها إلى المغالطة واختلاق المعاذير.
فإذا اطلع الخبير النفساني على مائة جواب لمائة سؤال من هذا القبيل، لم يعسر عليه أن يتفهم طبيعة المسئول واستعداده لقبول بعض الآراء ونفوره من غيرها، وأن يتفهم منها مكامن الهوى الضعيف أو القوي، التي ينقاد منها للإغراء أو للخوف أو للتأثير أو للخداع أو للمطاوعة والنفاق؛ إيثارا للعافية واستخفافا بمسائل السؤال والجواب.
وهم يقسمون المسئولين إلى ثلاثة أقسام: أحدها عسير لا أمل في تحويله وقد يكون العناء في تحويله أكبر من الفائدة المرجوة من بذل ذلك العناء.
والقسم الثاني عسير يخضع للمعالجة بعد حين مع بذل بعض المجهود المستطاع.
والقسم الثالث سهل مطيع خاضع للإقناع والتأثير، وقد يبدو من أجوبته أنه راغب في التحول عن رأيه قليل المعارضة في موضوع السؤال، أو قليل المعارضة للمخالفين له على الإطلاق.
ومتى تم هذا التقسيم بدأت وسائل التأثير، واستخدمت فيها وسائل التخويف والإغراء؛ ومنها العزلة وزيادة المشقة والإذلال والتمييز في المعاملة، وأبلغ ما يكون الإغراء أثرا حين يلمس كوامن الأحقاد الاجتماعية، والعصبيات القومية والدينية، ونوازع الغرور والعاطفة، وأبلغ من ذلك أثرا حين يزلزل قواعد الثقة بالماضي والحاضر والمستقبل، ويعم فيه الشك والقلق حتى ينتزع من نفس الفرد كل طمأنينة إلى أمثاله وإلى المجتمع الذي نشأ فيه، وإلى الأمثلة العليا التي يعلق عليها آماله في الحياة، ويتم التحويل بمقدار نجاح الملقن في عزل «الشخصية» التي يعالج تحويلها، إلى أن تصبح هذه «الشخصية» على انفراد بينها وبين سائر الناس، فلا تنعقد الثقة بينها وبين أحد ممن حولها، ولا يكون العالم الإنساني في نظرها غير مجموعة من «النكرات» لا تتميز فيه الملامح والأشكال، ولهذا شوهد أن المقاومة تشتد وتستعصي على العلاج كلما بقيت للإنسان صلة دينية أو قومية أو فكرية على نحو من الأنحاء، وقد لوحظ أن الأسرى المسلمين في الحرب الكورية بطلت فيهم الحيل، فلم يفلح الملقن في استخلاص شيء منهم غير كلمات انتقاد لحكوماتهم، فاه بها اثنان بين مئات من الأسرى، وعاقبهما إخوانهما عليها بالمقاطعة والاحتقار، فندما على ما فاها به بعد أيام، وهذا مع نجاح الملقنين في تحويل ألوف من الأوربيين والأمريكيين، حتى رفض بعضهم أن يعود إلى وطنه بعد نهاية القتال.
أما وسيلة «غسل الدماغ»، فقد يقع فيها ما هو أعنف وأسرع وأبلغ أثرا من التلقين بالإيحاء، وبث الأفكار في الجماعة على انفراد، وقد تستلزم سحق الشخصية حتى تعجز عن المقاومة بل عن مجرد الرغبة فيها، فيتقبل الإنسان كل ما يلقى إليه، ثم يصدقه ويؤمن به ويتعصب له بعد معاودته لرغباته ونشاط فكره وجسده، ويخرج من العلاج مخلوقا آخر غير المخلوق الذي بدأت معه المحاولة أول الأمر على غير هواه.
ومن وسائل غسل الدماغ إجراء عملية جراحية في مقدم المخ على الطريقة التي اتبعها بعض الجراحين في ترويض الحيوان الشرس أو الحيوان المريض.
ومن وسائله استئصال الغدد وحقنها بما يضعفها تارة، ويضاعف نشاطها تارة أخرى.
ومنها المعالجة بالعقاقير التي تشل الإرادة، ولكنها لا تشل الدماغ عن العمل والاستماع إلى التلقين والتوكيد.
ومنها استخدام العقاقير لتخدير المصاب واستعادة بعض المزعجات التي تغلغلت في باطنه، ثم إطلاق العنان لها لكي تبلغ مداها من الثورة الشعورية، فيستريح المصاب من المزعجات المكتومة بتصريفها وتحويلها من الباطن المجهول إلى الظاهر المكشوف، وتنجح هذه المحاولة في أحوال الخوف والغضب، ولكنها لا تنجح مثل هذا النجاح في أحوال السآمة والكآبة والاستسلام، بل لا بد في هذه الأحوال من رد المصاب إلى النشاط النفساني، ولو بتعريضه لتيارات الكهرباء، أو نقص بعض المقادير من المواد الجسدية وزيادة بعضها، على نسب مقدورة يختارها الأطباء المختصون لكل مريض على حسب الضرورة.
وقد يعمدون فيما يسمونه غسل الدماغ إلى تحطيم المقاومة الشخصية بالتعب المفرط، أو التهويل المرعب، أو بالتجويع والإظماء إلى المدى الذي يبطل بعده كل ثبات على المقاومة، ثم يعمدون إلى علاج العقاقير والكهرباء والوسوسة بالأفكار والنوازع النفسية خلال ذلك بغير إكراه ولا إظهار للرغبة في الإقناع؛ لأن المصاب ينتهي بعد ضروب العلاج المتقدمة إلى حالة كحالة الطفل الذي يحكي كل ما يراه ويسمعه حكاية آلية لا تفكير فيها، ثم يرسخ في طويته كل ما رآه وسمعه كذلك بغير تفكير.
وقد امتلأت مكتبة الدراسات النفسية بمئات المؤلفات، التي يكتبها علماء النفس والأطباء الجراحون وأطباء الأمراض العصبية والباطنية في موضوع التلقين وموضوع غسل الأدمغة، فثبت من هذه المؤلفات أن كثيرا من التجارب التي أجريت بعد الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة، كان لها أثر فعال في انتزاع الأوهام التي غرستها مخاوف الحرب في أذهان المقاتلين وغير المقاتلين، وأنها قد يساء استخدامها في محاولات غير مشروعة لتخدير الإرادة وإملاء الخواطر التي يرفضها المصاب كل الرفض لو رجع الأمر إلى اختياره، وقد يعالج بمثلها للخلاص مما أقحم على ذهنه من الدوافع والخواطر؛ ليملك حريته في العودة إلى ما كان عليه قبل إخضاعه لذلك «الإقناع بالإكراه».
أما المقصد الثالث من هذا الفن الجديد، وهو توجيه الأفكار، فالجديد منه محدود بما حدث من المخترعات، أو بما تداوله الاصطلاح العصري من أسماء العلل وضروب العلاج، ولا نذكر فيما عدا ذلك كشفا جديدا يزيد به المعاصرون على فنون الدعاية التي عرفها الأقدمون، وبخاصة دعاة الدولة الفاطمية قبل ألف سنة، فليس في دعاية العصر من جديد ذي بال يضاف إلى دعاية السر والعلانية، التي حذقها أقطاب الدعوة الفاطمية في تخريج المريدين على درجات إلى التشويق بالأسرار والكنايات إلى اختراع النحل وتنظيم الندوات، وعرض المناقشات وتسيير المواكب وإقامة الموالد، واستغلال الخفايا والرموز، وتيسير وصول بعض الأفكار وتعسير وصول بعضها، أو الاحتيال على وصوله بعد إثارة الشكوك حوله وإحاطته بالتهم والشبهات.
وعلينا أن نذكر في هذا الصدد كما نذكر في كل معرض من معارض البحث ذلك السؤال الخالد: هل من جديد تحت الشمس؟
والجواب الخالد عن ذلك السؤال الخالد أنه لا جديد كل الجدة في أمر من أمور هذا العالم الإنساني المتكرر المتجدد المستعاد على شتى الوجوه والأشكال.
فماذا كان يصنع الوعاظ الأقدمون كلما أنذروا الناس وخوفوهم غضب السماء، أو شوقوهم إلى النعمة والغفران، أو استثاروا غضبهم على أعداء الحق وأشياع الباطل وفرقوا أمامهم بين حزب الله وحزب الشيطان؟
وماذا كان يصنع الناس والهداة كلما اعتصموا بالصيام والعزلة، وجاهدوا الجسم والنفس بالرياضة على الشدائد، والزهد في اللذة والراحة، والإعراض عن مزالق الإغراء ، والترغيب والصبر على ألوان التعذيب والترهيب؟
إنهم جميعا كانوا يعلمون أثر الخوف والغضب في تهيئة النفوس والأذهان للإصغاء إلى الوعد والوعيد، وكانوا يعلمون جميعا أن زمام الروح مرهون بزمام الجسد، وأن الفكرة التي تكسر الشرة وتقمع الشهوة ضرورة لازمة لتمهيد سبيل الاعتقاد وتغليب العزيمة على وساوس الشك والغوية.
وقديما عرف الهداة كيف يغسلون القلوب أو يغسلون «الأدمغة» إذا طاب لنا أن نتحدث برموز العصر الحديث، ولكنهم أقنعوا الناس كما أقنعوا أنفسهم ولم يجعلوهم آلات تدار إلى اليمين أو إلى اليسار.
الإيمان بين التفكير والفلسفة1
ينسب إلى المعري أنه قال في اللزوميات:
قلتم لنا خالق حكيم
صدقتم، هكذا نقول
زعمتموه بلا زمان
ولا مكان، ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء
معناه ليست لكم عقول
ويروى «قديم» بدلا من حكيم في البيت الأول، وهي رواية ضعيفة متناقضة؛ لأن من يقول بقدم الخالق لا يستغرب بعد ذلك أن يكون بلا زمان؛ فإن أقرب معاني القدم إلى الذهن ألا يكون مسبوقا بما هو أقدم منه، إن لم يكن سابقا للزمان.
ونحن على كلتا الروايتين نتردد في نسبة الأبيات إلى أبي العلاء؛ لسبب يتعلق بالصيغة في اللزوميات على الخصوص؛ فإن أبا العلاء إنما نظم قصائده التي التزم بها ما لا يلزم في القافية؛ ليتقيد بأكثر من حرف واحد في الروي، فليس من المناسب لهذا القيد أن ينظم ثلاثة أبيات: اثنان منها منتهيان بنقول وقولوا، وهما مضارع فعل واحد، ولم يكن عزيزا عليه أن يتجنب هذا الإيطاء الذي يتجنبه الشعراء ممن لا يلتزمون في الروى والقافية ما كان يلتزمه رهين المحبسين.
وأيا كان قائل الأبيات، فهو ولا ريب من المفكرين الذين يتعرضون للفلسفة بغير أداتها، وقديما كان التفكير والفلسفة لفظين بمعنى واحد، يحل أحدهما محل الآخر بلا اختلاف في رأي الكثيرين، ولكن موضوعات التفكير قد تخصصت بعد تصنيف العلوم على أوضاعها الحديثة، فتعددت ملكات التفكير على حسب الموضوعات والعلوم التي يتصدى لها المفكرون.
هناك التفكير العلمي، ويكفي فيه أن تكون للباحث قدرة على ملاحظة التجارب المحسوسة والمقابلة بين المتشابه منها والمختلف، والإفضاء من هذه المقابلة إلى نتيجة عامة محسوسة قلما تتعدى الوصف والإحصاء.
وهناك التفكير الرياضي، ويكفي فيه أن يتفهم الباحث علاقات المدركات الذهنية، التي يسلمها العقل فرضا وتقديرا ولو لم يكن لها وجود في الخارج، وأكثر ما تكون الحقائق الرياضية تقديرات ذهنية لا ترى بالحواس، بل لا يتصورها العقل إلا من قبيل التسليم بالفرض الذي لا بد منه، كالنقطة الهندسية التي لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا امتداد على الإطلاق، وكالبسيط الذي يخالف المركب في الأشكال والأبعاد، فإن الذهن الرياضي يعقل من هذه الفروض ما لا وجود له في الطبيعة، ولا دليل عليه، إلا أنه مستلزم بحكم البداهة، وليس هذا الفرض من ضروب التفكير التي يطبع عليها من طبع على جمع المعلومات بالمشاهدة والتجريب.
والتفكير الفلسفي ملكة أخرى لا تشبه كل الشبه ملكة العلم التجريبي وملكة الفروض الرياضية، ولكنها تشترك فيهما بنصيب لا غنى عنه، وقوامها الأكبر أن تحسن الفهم في المسائل المجردة، أو المفارقة، كما يقول المتقدمون. وهي بهذا قد تشبه الرياضة إلى حد بعيد، لولا أن الرياضة تنتهي إلى الفرض، ولا يعنيها أن تتصوره أو تحوم حوله بوجدان أو إلهام.
وصاحب الأبيات الثلاثة مفكر يعتمد على المشاهدة التجريبية في فهم الحقائق الفلسفية، فيستغرب البديهيات التي تنتفي بها الغرابة عند الفيلسوف، وهي استقلال وجود الخالق عن الزمان والمكان.
إن الذي استغربه قائل الأبيات الثلاثة هو الفهم الوحيد الذي يستطيع الفيلسوف أن يفهم به وجود الخالق المبدع لجميع الموجودات، ومنها الزمان.
فليس في وسع العقل الفلسفي أن يتصور خالقا يسبقه زمان ويحيط به مكان، ولا بد للخالق من استقلال عن الوقت وعن الحيز المحدود، ولن يكون الحيز إلا في حدود، ولن يكون الخالق الأبدي إلا منزها عن جميع الحدود.
وإنما استغرب قائل الأبيات أن يتنزه الخالق عن الزمان؛ لأنه لا يفهم بالمشاهدة الحسية كيف يفرق بين الوجود في الزمن وبين الوجود بلا زمن، وهو الوجود الأبدي السرمدي؛ وجود الخالق المنزه عن الحدود والأشكال.
أما العقل الفلسفي، فإنه يستطيع على الأقل أن يفرق بين الوجودين، وأن يدرك أنهما نقيضان متقابلان في أهم الصفات، ولا يلزم من إدراكه الفرق بينهما أنه يحيط بهما تصورا وتصويرا للحس أو للبديهة؛ لأن التناقض بين الوجود والعدم - مثلا - معقول، وإن لم يكن في وسع العقل أن يحيط بماهية الوجود كله أو يدرك العدم على أي حال من أحوال الإدراك، غير إدراك الفارق بينه وبين الوجود.
وكذلك الأبد والزمن نقيضان؛ فالأبد لا يتصور مع الحركة، ولكن الزمن لا يتصور إلا مع الحركة.
الأبد لا تعقل له حركة في مكان؛ لأنه بلا بداية ولا نهاية، وبلا أول ولا آخر، وبلا حيز ينتقل من بعد إلى بعد ومن موضع إلى موضع.
والزمن على نقيض ذلك؛ لا يتصوره العقل إلا مع الحركة التي لا يخلو منها مكان.
وهنا يشترك العقل الرياضي والعقل الفلسفي في ملكات التقدير الصحيح؛ فالعقل الرياضي يستلزم أن يفرق بين الزمن والأبد، ويستلزم أن يكون الزمن مبتدئا، وأن يكون الأبد بغير ابتداء، ولا يستلزم أن يكون معهما ثالث بين هذا وذاك.
وعلى هذا النحو يدركهما العقل الفلسفي كما أدركهما حجة الإسلام الغزالي - رضوان الله عليه - فإنه استلزم أن يكون أبد، وأن يكون زمن لا زمن قبله، ولم يستلزم بينهما شيئا ثالثا؛ لأن هذا الشيء المقتحم من أغاليط الأوهام، كما قال - رحمه الله.
ويقال عن المكان ما يقال عن الزمان، وغاية الفرق بينهما أن أحدهما امتداد مع الحركة، والآخر امتداد مع السكون. وإذا كان العقل الفلسفي لا يحيط بحقيقة المكان إدراكا وتصورا، فإنه ليستطيع أن يتبعها إلى مقتضاها فيغنيه ذلك بعض الغنى عن الإدراك الشامل والتصور المحيط؛ إذ هو يستطيع أن يتبعه فيدرك أن وراءه شيئا غير الامتداد الذي يتراءى للإنسان. فلا بد من شيء وراء النقطة الهندسية التي هي حقيقة من الحقائق، ولكننا لا نفرض لها امتدادا على على الإطلاق، وكذلك الخط الذي هو مجموعة من النقط على هذه الصفة، وكذلك النهاية الصغرى التي لا نصل إليها بالحساب في الأبعاد ولا في الأرقام.
هنالك شيء وراء امتداد الحركة ووراء امتداد السكون.
ما هو على التحقيق؟
لا ندري، ولا يمكن أن ندري، ولكنه هناك!
وننتهي الآن إلى السؤال الذي لا مناص منه؛ وهو: كيف إذن يكون الإيمان بالحقائق الأبدية؟ وكيف إذن يكون الإيمان بالخالق الذي لا أول له ولا آخر ولا زمان ولا مكان؟
إن العقل لا يستطيع أن يحيط به إدراكا وتصورا على وجه من الوجوه، ولكنه يستطيع أن يدرك ضرورة الإيمان بغير شك وبغير محال.
إن الخالق الذي يستحق أن نؤمن به لا تكون له حدود ولا يحصره إدراك، ومن كان كذلك فهو أعظم من أن تحيط به العقول.
فماذا يكون حكم العقل في هذه الحقيقة التي يقررها ولا يسعه أن يقرر غيرها؟
هل يكون سبب الإيمان مانعا للإيمان؟
هل تكون «الأبدية» مبطلة لوجود الخالق ومبطلة للإيمان به أو الإيمان بوجوده وهي شرطه وسببه وداعيه؟
العقل يدرك على الأقل أن الإيمان ضرورة «عقلية»؛ لأن سبب الشيء لا يكون مبطله وسبب إلغائه ونقضه.
والعقل إذن يستلزم التسليم بالإلهام والهداية الدينية في الأمور التي تمتنع الإحاطة بها؛ لأنها بطبيعتها وراء متناول العقول.
هل معنى ذلك أن العقل لا عمل له في الإيمان، ولا قدرة له على بلوغ الهداية؟
كلا! فإن القول بترك المجهود العقلي غير القول ببذل المجهود إلى غاية مداه والانتهاء من هذا المدى إلى ما يليه.
فرق بين أن يقال: إن الإيمان ضرورة عقلية، وأن يقال: إن الإيمان يناقض العقل، أو أن العقل لا يعمل شيئا في السعي إلى الإيمان.
وحسب العقل «أولا» أن يعلم أن الوجود الأبدي ضرورة عقلية، وأن الإيمان به كذلك ضرورة عقلية، وأن هناك مطلبا يسعى إليه ليدرك منه ما وسعه إدراكه وينتهي منه إلى الملكة التي تهدي إليه؛ فإنه يدرك هذه الحقائق «عقلا» ولا يتسنى له «عقلا» أن يهملها ويدع البحث عنها، ومتى آمن بذلك فقد أسقط الإنكار من حسابه، فليس في وسعه أن ينكر لسبب معقول، وقد جاء في الأثر أنه «كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك»، وما خطر على البال فهو موجود، وإن لم يكن له مثيل في الوجود.
البحث العلمي في تاريخ الأدب1
لنا رأي خاص حول فائدة البحث العلمي في تمحيص تاريخ الأدب، محصله أن استخدام هذا البحث قمين أن يبين لنا موضع الصحة وموضع التلفيق من كل خبر وكل رواية؛ لأنه يبين لنا صعوبة التلفيق، بل استحالته أحيانا على من يريده ويتعمده، إذا تكشفت المقابلة بين الأخبار والروايات عن حقيقة علمية كانت مجهولة في الزمن الذي ترجع إليه.
وتتكشف هذه المقابلة بين أخبار امرئ القيس - الملك الضليل ذي القروح - عن حقيقة القروح التي قيل إنه أصيب بها من أثر حلة مسمومة أرسلها إليه قيصر انتقاما منه - لمغازلته بعض حرمه - فإذا بالإصابة كلها تتمشى بأعراضها من أيام صباه؛ إذ كان له - كما قالت إحدى صواحبه - عرق يفوح برائحة كلب، وكانت تلازمه حالة من حالات الخلل الجنسي تشاهد مع حالات الالتهاب الجلدي، ولا بد أن تنتهي - مع إهمال العلاج - إلى عواقبها التي ظهرت قبيل وفاته.
ونود أن نتبسط الآن بعض التبسط في أمثال هذا الخبر عن موت امرئ القيس، فإنني تبينت بعد المقابلة بين أخبار الكثيرين ممن توسعت في درس سيرتهم، وقيل عنهم بإجماع الرواة إنهم ماتوا مسمومين؛ أن الآفة كلها في هذه الأخبار إنما هي آفة العجز عن تطبيق النقد العلمي والتعجل في صرف الحوادث التاريخية بالعلل القريبة، على مثال التحقيقات الجنائية التي تختم بإحالة الأمر على القضاء والقدر؛ إيثارا للسهولة وإخلادا إلى العفو والعافية.
ومن أصحاب السير التي توسعت في درسها وانتهت حياة أصحابها على قول المؤرخين بدس السم لهم في الطعام أو الدواء؛ سيرة ابن الرومي في الأقدمين، وسيرة جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي في المحدثين، فإن أيسر مراجعة علمية للأعراض التي صحبت وفاتهم خليقة أن توجه النظر إلى تعليل الوفاة بأسباب غير السم، وأن تصحح أخطاء المؤرخين في أمور كثيرة ترتبط بتاريخ العصر كله ولا تنحصر في سير أولئك الأدباء والزعماء.
فالمشهور عن وفاة ابن الرومي كما جاء في تاريخ ابن خلكان وغيره: «أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، وزير الإمام المعتضد، كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه ابن فراش فأطعمه خشكنانجة مسمومة وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له: سلم على والدي! قال له: ما طريقي على النار.»
وقد تداول المؤرخون من الشرقيين والمستشرقين هذه القصة، وأعجبهم موقع النكتة منها، مع وضوح الكذب فيها وسهولة الاهتداء إليه بالرجوع إلى تاريخ وفاة عبيد الله بن سليمان، الذي طلب الوزير إلى الشاعر أن يبلغه سلامه في العالم الآخر، فإنه كان حيا بعد آخر تاريخ ذكره الرواة لوفاة ابن الرومي بأربع سنوات؛ إذ مات سنة ثمان وثمانين ومائتين.
والعجيب في قصور وسائل التحقيق عند المؤرخين أنهم لو راجعوا شعر الشاعر لعلموا أنه عاش إلى ما بعد سنة ثمانين؛ لأنه بلغ الستين كما قال:
طربت ولم تطرب على حين مطرب
وكيف التصابي بابن ستين أشيب!
أما سبب الوفاة الصحيح فلا ريب عندنا فيه، وهو تسمم جرح فسد في جسم مريض مصاب بمرض السكر، وليس أوضح من ذلك عند مراجعة جملة الأخبار والحقائق التالية: (1)
كان ابن الرومي مشهورا بالنهم والإفراط في أكل الحلوى والدسم. (2)
أصيب بجرح غلط فيه الطبيب كما قال:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة الأقدار (3)
زاره صديقه الناجم في مرض وفاته فرآه يشكو من إلحاح البول وعنده ماء مثلوج، فلما لاحظ الناجم ذلك قال الشاعر:
غدا ينقطع البول
ويأتي الهول والغول
وجعل الشاعر يشرب من الماء المثلوج ولا يروى فقال:
وأراه زائدا في حرقتي
فكأن الماء للنار حطب
ولا حاجة إلى غير المقابلة بين هذه الأخبار والروايات لنعلم أننا أمام حالة مرضية معروفة لا شك فيها؛ حالة رجل منهوم مفرط منذ صباه إلى شيخوخته في أكل الحلوى والدسم، ففصده الطبيب وهو لا يعلم خطر الفصد في مثل حالته، ثم فسد الجرح فاعتراه كل ما يعتري مريض السكر؛ من شدة الظمأ وإلحاح البول والشعور بمثل ما يشعر به المسموم.
وليس بنا - هنا - أن نحاسب المؤرخين الأقدمين على قلة إدراكهم لهذه الحقيقة من جملة الأخبار التي رووها، ولكننا نستدل على صدق رواياتهم بهذه المطابقة بينها وبين الأسباب العلمية، ونخرج من ذلك إلى تحقيق جديد لرأي القائل: إن لسان الحال أصدق من لسان المقال، وإننا مطالبون بأن نستمع اليوم إلى لسان الحال قبل أن نستمع إلى أقوال المؤرخين وآرائهم فيما يقصدونه ويتعمدونه من العلل والتفسيرات. •••
ولقد شاع عن أسباب وفاة السيد جمال الدين الأفغاني أنه مات بمرض السرطان في فكه، وأن هذا المرض أصابه من يد طبيب مدسوس عليه من قبل السلطان أو من قبل رئيس الشرطة.
لكن السرطان لم تكن له جراثيم معروفة يلقح بها المريض في أوائل القرن العشرين، وقد أصيب السيد بآلام في فكه قبل أن يعرض حالته على الطبيب، وقبل أن يسوء علاجه عمدا أو خطأ، إن صح أنه ساء.
وليس من المستغرب أن يصاب السيد جمال الدين بالتهاب الفك مع إفراطه في تدخين التبغ الحار وإفراطه في تناول الشاي المرير، وأن يتعسر بعد ذلك علاج الداء كما تعسر علاج داء قريب من هذا في فك «أحمد فؤاد»، ملك مصر السابق، مع الفارق الكبير في العناية بالحالتين، ومع التقدم في فنون العلاج خلال ثلاثين سنة بعد أيام السيد جمال الدين. •••
وقد دعتني الكتابة عن الكواكبي إلى استقصاء الأخبار عن سبب وفاته، فكان أشهرها وأسبقها إلى خواطر أبناء عصره أنه مات مسموما، ولم يستطع شهود الوفاة من صحبه أن يعللوا وفاته بغير هذه العلة.
ولكنني راجعت تفصيلات الخبر في مراجع عدة، فرأيت الأستاذ محمد كرد علي يقول: «إنه شعر بالأمس بوجع في ذراعه وما عرف له تعليلا.»
ورأيت الأستاذ صالح عيسى يقول إن السيد عبد الرحمن «استدعاني إليه وكنت جالسا إلى قربه، وقال لي: أحس بوجع شديد في خاصرتي اليسرى.»
وجاء في خبر نشرته مجلة الحديث الحلبية «أنه شرب قهوة مرة، وبعد نصف ساعة أحس بألم في أمعائه، فقام للحال وقصد مع ابنه السيد كاظم في عربة حنطور إلى الدار، وظل يقيء حتى قارب الليل منتصفه، فأصيب بنوبة قلبية ضعيفة ...»
وليس يحق للمؤرخ أن يبعد من ذهنه علة الذبحة الصدرية وهو يقابل بين هذه الأعراض؛ من ألم الذراع وألم الخاصرة والنوبة القلبية على أثر القيء وألم الأمعاء. وقد ذكر الأستاذ محمد لطفي جمعة فعلا في مقال نشره بمجلة الحديث سنة 1937 أن الكواكبي «ذهب ضحية ذبحة صدرية.» •••
تلك سير ثلاث، لم أتعهد جمعها من عصر واحد، ولم أبحثها في وقت واحد، ولكنها مصادفات، تدل كل مصادفة منها على فائدة البحث العلمي للتمييز بين مواضع الصدق ومواضع التلفيق في أقوال المؤرخين، وأن التاريخ بحذافيره وشيك أن يتغير إذا عرضناه على ضوء المعارف التي كانت مجهولة من قبل، ثم انجلت عنها غشاوة الجهل شيئا فشيئا، حتى بلغت مداها من الوضوح والثبوت في العصر الحاضر. ونعود في ختام هذا المقال إلى رأينا في ضرر التخصص الضيق للأدب أو للعلم في الثقافة العصرية، فلا بد لميزان النقد اليوم من تمام الأداة التي ينتفع بها في هذه الصناعة، ولا غنى للأديب ولا للعالم عن الإلمام بغير ثقافته الخاصة، لتصحيح الحكم على حقيقة من حقائق المعرفة العامة.
عود إلى الثقافتين1
ليس في الإسلام مشكلة ثقافية
عرضنا في إحدى مقالاتنا بمجلة «الأزهر» لمشكلة الثقافتين عند الأمم الغربية، والمقصود بها مشكلة الانفصال بين ثقافة العلم وثقافة الأدب، واتساع الهاوية فترة بعد فترة بين تفكير العلماء وتفكير الأدباء وأصحاب الآراء النظرية، مما ينذر بإصابة «الشخصية الإنسانية» في هذا العصر بداء كداء الفصام، ويجعل الإنسان الناشئ على إحدى هاتين الثقافتين دون الأخرى كأنه نصف إنسان.
وقد كانت هذه المشكلة مدار البحث في سلسلة المحاضرات الفلسفية التي ألقاها الكاتب - العلمي الأدبي - الأستاذ سنو
Snow
في شهر مايو الماضي، فثارت حولها ضجة من النقاش والنقد والتعقيب لم تنقطع إلى هذه الأيام؛ لأن المشكلة - على ما هو ظاهر - ليست في المشكلات التي ينتهي الفصل فيها بسلسلة من المحاضرات، أو بطائفة من الآراء تنشر ثم تطوى بعد أسابيع أو شهور، ولا مناص فيها من اتباع القول بالعمل على منهاج متفق عليه، فإن لم يبلغ التفاهم عليه مبلغ الاتفاق فلا أقل من أن يكون صالحا للتنفيذ والتقرير.
وقد عاد الأستاذ «سنو» إلى بحثه في مقال نشرته مجلة المساجلة
Encounter
في عددها الصادر في شهر فبراير الماضي، وأراد بمقاله هذا أن يلم أطراف المناقشة ويعقب عليها بخلاصة رأيه، بعد عرض أقوال الموافقين والمخالفين من الباحثين قبله أو بعده في مشكلة الثقافتين، وقد قسمهم إلى طوائف ثلاث: موافقين في الرأي والنتيجة، وموافقين في الرأي مخالفين في النتيجة، ومخالفين يعارضون نظرته كل المعارضة في وصف المشكلة، ويرون أن العصر الحديث كالعصر القديم في تعدد الثقافات، مع اختلاف الموضوع والمقدار.
ولا يعنينا هنا تفصيل أسباب الخلاف بين آراء الموافقين والمعارضين، فذلك شرح يطول ولا علاقة له بالناحية التي نحول إليها البحث من أمر الثقافة الإسلامية.
ولكننا نجتزئ بالإشارة إلى رده المجمل على المخالفين، ثم بالإشارة إلى الحل الذي يقترحه لعلاج المشكلة من الوجهة العامة.
فالمخالفون يقولون: إن الحال لم تتغير في جوهرها من أيام عصر النهضة إلى اليوم، فلو تلاقى عالم فقيه وشاعر فنان قبيل القرن السادس عشر، لما كان بينهما من التفاهم والتقارب أكثر مما يكون بين علماء العصر الحاضر وأدبائه أو مفكريه النظريين.
وجواب الكاتب على هؤلاء أنه لا يسلم بأن المسافة بين الفريقين كانت على هذا البعد منذ ثلاثة قرون، ولا يقول إن العلم والأدب كانا قريبين متلاقيين في القرن السادس عشر، ولكنه يقول إن القنطرة بينهما كانت موجودة مستقرة وهي اليوم تتهدم شيئا فشيئا وتوشك أن تزول، وأنه على أية حال لا يريد أن تتوحد معرفة العالم ومعرفة الأديب، ولا أن يتم التفاهم على نمط واحد بين جميع المثقفين، وإنما يريد أن تقام القنطرة وتظل قائمة لمن يعبرها، ولا يعجز أحد عن عبورها إذا أراد.
أما حل مشكلة الثقافتين من الوجهة العامة عند الكاتب ، فهو تعميم التصنيع في المجتمعات الحديثة، ولا بد - على رأيه - من الاختيار بين البدائية الهمجية وبين تصنيع المجتمع وتعويد الناس جميعا أن يعيشوا معيشة الحضارة العلمية، فيصبح التثقف العلمي حقيقة واقعة يزاولها الناس في البيوت والأسواق وفي ميادين الرياضة البدنية والنفسية، وفي حينها تحول الإنسان بين العمل الصالح واللهو البريء، لاضطرارهم إلى استخدام الآلات.
والكاتب، فيما نعتقد، مصيب من الجانب الذي ينظر إليه، وهو جانب «الإنسان الغربي» وارث العلم والأدب في البلاد الأوربية أو الأمريكية من القرون الأولى بعد الميلاد.
فقد عاش هذا الإنسان على الدوام في ميدانين متقابلين من عالم الثقافة: ميدان الروح وميدان الجسد، أو ميدان ملكوت السماء وميدان ملكوت الأرض. وكان الانفصال بين الميدانين بعيد الأمد يكاد ينتهي إلى عالمين متناقضين؛ أحدهما ملعون منبوذ هو هذا العالم المشهود، والآخر مقدس مطلوب ولكنه غائب وراء الحواس، بل وراء العقول التي تتصرف في الأمور الدنيوية.
وليس الانفصال بين العلم والأدب في القرن التاسع عشر وما بعده إلا ميراثا منقولا من ذلك الفاصل القديم، ولا غنى في هذه الحالة عن تقريب القواعد قبل تقريب البناء الذي يقام عليها.
ولهذا لا غنى عن سؤال يجاب عليه قبل البحث في الحلول العامة المقترحة، سواء منها حل الكاتب الإنجليزي وحل غيره من المفكرين العلميين والنظريين.
هذا السؤال هو: ما الرأي في «الشخصية الإنسانية» على أي وضع من الأوضاع الاجتماعية في العصر الأخير؛ عصر الصناعة وحضارة العلم الحديث أو عصور الزراعة والعلاقات الاقتصادية على اختلافها؟
هل «الشخصية الإنسانية» هي موضع التربية والتثقيف وغرضهما ومدارهما في جميع الأحوال، أو أن موضع التربية والتثقيف وغرضهما ومدارهما شيء آخر لا يبالي مصير هذه الشخصية؟
إن الإسلام لا مشكلة فيه من جهة الثقافة على أنواعها؛ لأن «الضمير الإنساني» هو المسئول دنيا وأخرى عما يعمله الإنسان وما يعلمه، وعما يدين به في نجواه وما يدين به بينه وبين غيره.
والتربية في الإسلام هي تهذيب هذه «الشخصية»، وتزويد قواها الفكرية والبدنية معا بكل ما يصلحها للعلم والعمل.
وكل تربية ينالها الإنسان فهي امتداد لقوة من قواه؛ سواء منها قوة البدن وقوة الروح، وإنما تعرف قيمتها بميزان القوة التي تمدها وتزيدها وتهيئها للعمل في الحياة الخاصة أو الحياة الاجتماعية العامة.
فالتربية الصناعية تجعل للإنسان يدا أقوى من يده أو قدما أقوى من قدمه، أو بصرا أقوى من بصره، أو سمعا أقوى من سمعه، وهي تربية ضرورية نافعة لا غنى عن تعميمها بين الناس في المجتمعات الحديثة، ولا غنى لهذه المجتمعات عنها في عصر الصناعة والمخترعات.
هذه التربية الصناعية قوة تمنح الإصبع قدرة على أن يحرك الجبال بالضغط على زر صغير، وتمنع العين قدرة على النظر بالمجاهر والمناظر إلى دقائق الخفاء وإلى آفاق السماء.
ولكن هذه القوى جميعا لن تبلغ في القيم الإنسانية مبلغ القدرة التي ترفع ضميره وتوليه من الشعور والفكر وسيلة توسع أمامه آفاق الحياة، وتبسط بين يديه كونا أعظم من الكون الذي يعيش فيه جسده، ووجودا أتم من الوجود الذي يلابسه بأعضائه البدنية، ولو بلغت غاية مداها من بسطة وامتداد.
إن «زرا» يضغطه الإنسان بإصبعه قد يمنحه قوة ألف إصبع أو آلاف لأصابع تحسب بالملايين، ولكن «الشخصية الإنسانية» لا تتوقف عليه، وقد تصنعه للإنسان شخصية أخرى فيعمل به كل عمله المطلوب، فليس في الضروري أن يكون صانع الزر هو المنتفع به أو هو المتعلم لتركيبه واستخدامه، ولا شأن له في إتمام «كيانه الإنساني»، ولا في الارتفاع به إلى ما هو أهل له من مراتب الكمال.
ولكن القدرة الروحية إذا عرف بها الإنسان مزايا الخير والجمال، وتذوق بها محاسن الحياة الفكرية والعاطفية، تتوقف على «الشخصية» التي تستطيعها ولا تصنعها لها شخصية أخرى كما تصنع الأزرار والمجاهر والمناظير.
وهذا هو الفارق بين تربية وتربية، وبين إنسان مثقف وإنسان ناقص التثقيف، أيا كان نظام المجتمع، وأيا كان حظه من التصنيع.
فإذا وجب التصنيع، فإنما يجب لتمكين الإنسان من الانتفاع بصناعات عصره وتوزيع منافع الصناعات بين جميع أبناء المجتمع على سنة الإنصاف والتعاون في المصلحة والخير. ولكن المجتمع الذي سيصنع الأزرار والمحاجر والمناظير لأبنائه لا يعطيهم كل شيء، ولا يزودهم بمقومات الحياة التي يحتويها كل ضمير بينه وبين الله وبينه وبين الناس، ولا يستطيع أن يعول فيها على معمل من معامل التصنيع يتكفل بتوريد الضمائر لأبنائه كما تتكفل المعامل بتوريد هذه الأداة أو ذلك المخترع المصنوع.
ولن تتم في مجتمع من المجتمعات ثقافة عالية جديرة بأن تسمى ثقافة إنسان ما لم تكن ثقافة شاملة يتم بها قوام «الشخصية الإنسانية»، بريئة من داء الفصام موفورة الحظ من الضمير والجسد، ومن العلم والأدب، ومن مطالب الأذواق ومطالب العقول.
بين البحث والتخمين1
قرأت في عدد شهر ربيع الأول في منبر الإسلام مقالا لحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد اللطيف السبكي، بعنوان «تفسيرنا للقرآن لا يكون بالتخمين»، يقول فيه من مبادئ عامة يقررها: «إن القرآن عربي وأسلوبه خاضع للقواعد العربية.» ثم يقول عن قصة خلق آدم:
فالله تعالى يخبرنا في سورة «ص» بحديثه مع الملائكة:
إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين .
والمبدأ الأول الذي يقرره الأستاذ ويقرره مع فضيلته كل باحث في معاني القرآن الكريم، هو أن قواعد اللغة العربية تقضي «بأن اللفظ لا يصرف عن معناه الظاهر إلا لضرورة تقتضي ذلك»، وإلا كان صرف اللفظ عن معناه ضربا من التخمين.
وهذا - كما تقدم - مبدأ يقرره مع الأستاذ كل باحث في معاني القرآن الكريم وفي معاني اللغة في كل كلام مفيد.
وإنما يحتاج الأمر إلى التعريف بالتخمين ما هو، وما الفرق بينه وبين البحث عن المعاني في أخبار الوحي بالأمور الغيبية على التخصيص، وهي باتفاق الأقوال معلومة الكلمات مجهولة الكيفيات، وعلى الأخص فيما ينسب إلى الخالق - سبحانه وتعالى - من عمل أو كلام.
فالتخمين - قطعا - في معنى هذه الآية وسائر الآيات أن يزعم قارئ القرآن أن التسوية الإلهية كالتسوية التي نعهدها في أعمالنا نحن المخلوقين من الآدميين، وأن النفخ في خلق آدم من الطين كالنفخ عندنا بالأفواه، وأن طينة آدم كطينة التمثال الطيني الذي يصوره المثالون مشابها للإنسان بالأعضاء والوظائف بغير حراك .
إن الذي يزعم ذلك «يخمن» في فهم اللفظ والمعنى بلا جدال؛ لأن أعمال الإله - جل وعلا - تنزهت عن مشابهة الأعمال الآدمية، وعن كل عمل محدود عن أعمال المخلوقات.
فليست معاني الكلمات في المعجمات اللغوية هي مدار البحث عن تفسير هذه الآيات؛ لأن الأمر فيها يرجع إلى الكيفيات المجهولة التي نجزم بحقيقة واحدة منها، وهي أنها «كيفية» منزهة عن مشابهة أعمال المخلوق.
ما التسوية؟ وما النفخ؟ وما الروح؟ وما مدلول الآية الكريمة بعد التحقق من معاني هذه الكلمات؟
إذا كانت «الكيفيات» مجهولة هنا، فالمعلوم الذي لا خفاء به قطعا أنها ليست تسوية باليدين على مثال تسوية المصورين الآدميين، وأنها ليست نفخا بالأفواه كما ينفخ الإنسان الهواء في الطين أو غير الطين، وأن الروح ليست بالروح الإنسانية، وليست على أية حال بالكيفية المحدودة بالقواميس والمعاجم؛ لأن روح الإنسان المخلوق مجهولة يعلمها الله وحده كما نفهم من آي الكتاب، وندع الكلام فيما هو أعظم من ذلك وأخفى على العقل من معنى الروح منسوبا إلى الله.
كل ما يجوز أن نفهمه من معنى النفخ أنه بث قوة الحياة في الطين.
وفي كم من الوقت حدث هذا؟ أفي لمحة واحدة؟ أفي يوم واحد؟ أفي الدهر المتطاول؟
من جزم بشيء من ذلك، فإنما يخمن ويجزم على التخمين.
بل لو قيل إن هذا كله تم في وقت كلمح البصر، لما جاز لأحد أن يحصره في اللمحة المعهودة لدينا؛ لأن اللمحة عند الله يتم فيها أمر الساعة كله:
وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب .
وهذه اللمحة مقرون بها في القرآن الكريم خلق كل شيء وتقديره:
إنا كل شيء خلقناه بقدر * وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر .
وإذا قيل إن بث الحياة في طينة آدم تم في يوم واحد، فإن اليوم الواحد مجهول المقدار في علم الله:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ، وقد يكون اليوم خمسين ألف سنة كما جاء في قوله تعالى:
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
وهذا من حيث الموعد المقدور لبث الحياة في طينة آدم بعد تسويتها.
فما هي التسوية؟ وكم من الزمن قدره الله تعالى لإظهار هذه التسوية في خلق الطين وفي خلق البنية الآدمية منه؟
من جزم بوقت محدود لهذه التسوية، فذلك هو التخمين بغير دليل، ومثله في التخمين بغير دليل أن يزعم الزاعم كيفية لهذه التسوية يمتنع ما عداها ويحرم علينا أن نفهمه من مدلول الآيات.
وإذا كان هذا هو مدلول النفخ والتسوية والطينة، فالحقيقة التي هي أجل من ذلك قدرا وأخفى من ذلك سرا، هي حقيقة الروح ومعناها المقصود في قولة تعالى
ونفخت فيه من روحي .
فإن كلمة الروح قد وردت في عدة مواضع في القرآن الكريم:
منها قوله تعالى في سورة الشورى:
كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا .
ومنها قوله تعالى في سورة الشعراء:
وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين .
ومنها قوله تعالى في سورة النحل:
قل نزله روح القدس من ربك بالحق .
ومنها في سورة النساء:
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
ومنها في سورة مريم:
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا .
وفي سورة الأنبياء:
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين .
وكل كيفية يحدث بها نفخ الروح بالمعنى الذي وردت به في هذه الآيات، فهي كيفية مفروضة على التخمين، وكل جزم بإنكار ما عداها فهو جزم مفروض على التخمين، وقد كان نفخ الروح من قبيل ولادة عيسى - عليه السلام - وكان من آياته أن يتمثل بشرا سويا في غير هذا المقام، وكان الروح وحيا ومصدرا للوحي، وسرا محجوبا عن علم بني آدم في جميع هذه الأحوال.
ونعود بعد هذا البيان عن معاني الكلمات لنقرر مرة أخرى، كما قرر صاحب الفضيلة الأستاذ السبكي، أنها كلمات عربية، وأن الكلمات العربية جميعا خاضعة لقواعد اللغة تنصرف إلى معناها، ولا يجوز أن تؤخذ بالتخمين ، ولها معنى صريح في اللغة لا يجوز صرفها عنه إلى غيره.
نقرر هذا المبدأ مرة بعد مرة، ولكننا لا نراه في مرة من المرات يجيز للمفسر أن يقول إن تسوية الطين كانت على هذه الكيفية دون غيرها، وإن النفخ فيه على هذا النحو دون سواه، وإن روح الله يعمل عمله في بث الحياة وإخراج الأحياء من الطين على هذا المثال باستثناء كل مثال آخر، وإن التسوية والنفخ وخلق آدم - عليه السلام - قد تم كله في لحظة واحدة، وإن هذه اللحظة لا تكون ألف سنة ولا خمسين ألف سنة، ولا ألف ألف سنة؛ لأنها لحظة واحدة مما تلحظه العين الإنسانية، ولا تدل اللغة العربية على معنى معقول لها غير هذا المعنى.
إن هذا المبدأ لا يجيز للمفسر أن يجزم بقول من هذه الأقوال، إلا أن يكون قوله تخمينا يعوزه السند القاطع ولا يلزم أحدا غيره.
وعلى المسلم أن يؤمن بأن الله تعالى بث روح الحياة في الطين، وسوى الطين سلالة خرج منها آدم - عليه السلام - ولكن ليس لأحد أن يفرض عليه كيفية للتسوية والنفخ والخلق يلغي كل ما عداها، وأن يقرر للتسوية والنفخ والخلق وقتا محدودا باللمحة أو اليوم أو الدهر، ويكون بمقدار واحد ولا يكون بغير ذلك المقدار.
ومما روي عن أبي هريرة: «أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفر، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه.»
وأيا كان القول في سند هذا الحديث، فالمبدأ السليم الذي قرره صاحب الفضيلة الأستاذ السبكي ينهانا أن نقيد كلمة من كلمات الآية الكريمة بكيفية محدودة ووقت محدود، وما سوى ذلك فهو التخمين الذي ينهى عنه الأستاذ كما ينهى عنه كل مسلم غيور على القرآن وعلى عقائد الإسلام.
الصلاة والعلم1
يقول الأديب «مختار عبد القادر الفيل» الطالب بكلية الآداب:
إنني أومن بالله إيمانا قويا، وأؤدي فرائض الإسلام، ولكنني أوجه السؤال إليكم لرغبتي في المزيد من المعرفة عن أمور إسلامنا، وأسأل: ما هي فائدة الصلاة والدعاء إلى الله؟ وإنني لأعلم أن الصلاة رياضة وثقافة وصلة وثيقة بالله وعلاقة وثيقة لتقوية العطف بين الناس، وبث روح التعاون بينهم لاجتماعهم في بيت الله. ولكن كيف نفهم الدعاء إلى الله طلبا لشيء من الأشياء؟ فإن هذا الطلب إما أن يكون مطابقا لإرادة الله الثابتة فلا فائدة فيه، وإما أن يكون مخالفا للإرادة الإلهية فلا فائدة فيه كذلك، ولا يفعل - سبحانه وتعالى - غير العدل، فليس ثمة ما يدعو إلى مطالبته؛ لأننا في هذه الحالة كمن ينزله منزلة الحاكم الذي يقضي بقضاء، ثم يعدل عنه بعد التزلف والاستعطاف، وأرجو أن أقرأ رد سيادتكم لأعلم قبل كل شيء هل يحرم علينا الدين أن نبحث في هذه الأمور.
وأقول للطالب الأديب إنه أحسن فهم الصلاة كما أحسن وصفها حين قال إنها رياضة وصلة وثيقة بالله، وإن الأمر الذي أشكل عليه في فهم صلوات الدعاء قد أشكل على كثيرين، وورد عليهم الإشكال فيه على صور كثيرة بين جميع المتدينين في العصر الحديث من المسلمين وغير المسلمين، فحسب فريق منهم أن القول بجدوى الصلاة يناقض القول بالسنن الإلهية والقوانين الطبيعية التي أودعها الله طبائع الأشياء وبنى عليها نظام الكون كله، وحسب فريق آخرون - كما قال الطالب الأديب - أن تنزيه الإله، سبحانه وتعالى، عن تبديل كلماته وتعديل قضائه يوجب على الإنسان أن يتورع عن الطلب الذي يسأله فيه العدول عن قضاء قضاه.
ومن كبار علماء الطبيعة عند الغربيين أناس تصدوا للرد على هذا الاعتراض، وأجابوا عن أسئلته جوابا يوافق إيمانهم بالله وإيمانهم بالعلوم الطبيعية على السواء، وقد فرغ أحدهم لهذا البحث - وهو الطبيب الجراح الكبير ألكسيس كاريل
Carrel - فكتب فيه رسالة خاصة أجمل فيها صفوة تجاربه العلمية، وجعلها جوابا على قول فردريك نيتشه «إنه لشيء مخجل أن يبتهل الإنسان بالصلاة.»
فكان من مقرراته في هذه الرسالة أن نفع الصلاة قد ثبت له - علميا - كما تثبت التجارب الطبيعية، وأنه لا يفرق في هذا بين صلاة الإنسان لنفسه أو صلاته لغيره، ما دام صادق النية صادق الطلب في الحالتين.
وأحد هؤلاء العلماء الكبار - أوليفرلودج - وهو من أشهر علماء الرياضة والطبيعة، يرد على القائلين بمخالفة الصلاة للسنن الكونية فيقول:
إنهم يتوهمون ذلك؛ لأنهم يحكمون على الصلاة حكمهم على ظاهرة غير طبيعية خارجة من حدود الكون، ولكنه في الواقع ظاهرة كونية يحسب حسابها في أعمال الكون كما يحسب حسابها في سائر الحوادث التي تقع في حياتنا بغير صلاة. وإذا كانت الصلاة تربية نفسية، فلماذا يحسب المعترضون أن هذه التربية ليست سببا لتحقيق بعض الحوادث كما تسببها كل تربية يتم بها استعداد الإنسان لغاية من الغايات؟
والواقع التاريخي عن الصلاة - بمعنى الدعاء إلى الله - أنها ظاهرة روحية، تعرف في الديانات العليا ولا تعرف في الديانات البدائية على هذا المعنى، فهي نتيجة لترقي الإنسان في فهم وحدة الكون ووحدة القوة الإلهية التي تقوم بتدبيره، ولهذا تعرف في أديان الموحدين والمتحضرين، ولم تكن معروفة على هذا النحو بين الهمج الأولين الذين يعددون الأرباب ويوزعونها بين عناصر الطبيعة في الأرض والسماء، ويطلبون من كل منها ما يقدر عليه ولا يقدر على غيره، ويجعلون صلاتهم من قبيل المساومة على تبادل المنفعة، لاعتقادهم أن أربابهم تحتاج إلى دعواتهم وقرابينهم كما يحتاجون هم إلى نعمها وعطاياها، وقد بقيت من هذا الأسلوب في الصلاة بقية مشهودة بين الجهلاء، الذين يساومون الأولياء على الشموع والذبائح إذا استجابوا لما يدعونهم إليه من إغاثة الملهوف ورد المفقود وتحقيق الغرض المأمول، ولو لم يكن من الأغراض التي تحسن بالأولياء.
فالصلاة في الأديان العليا علامة من علامات التقدم الإنساني في فهم حقائق الكون وفهم الصفات الإلهية، ولا قوام لدين من الأديان بغير الإيمان بالصلاة على معنى الطلب والدعاء، مع الإيمان برياضتها الروحية وصلتها الوثيقة التي تربط عالم الشهادة بعالم الغيب، وتجعل وجود الإله حقيقة أعلى من حقيقة النواميس، أو حقيقة الحوادث الكونية التي تهم الإنسان في مطالب معيشته كما تهمه في مطالب ضميره.
فلا الدين ولا العلم يقضيان على الإنسان أن ينكر حقيقة النواميس الطبيعية، ولكن وجود الإله قائم في ضمائرنا على إيماننا بأن النواميس الطبيعية وحدها لا تغني الإنسان عن الاتصال بخالقها؛ لأن وجود النواميس لا يلغي عمل الإله، ولا يعني أن الاتصال به والانقطاع عنه سواء.
والذين يفهمون أن نواميس الطبيعة واقع مفروغ منه يخالفون العلم والفلسفة، وليس قصاراهم أنهم ينكرون الإرادة الإلهية من ورائها.
فمن المقررات العلمية التي اشتهرت حديثا باسم نظرية هيزنبرج
Heisenberg
أن العلم لا يستطيع أن يعرف مقدما كيف يتصرف كهرب واحد من كهارب الأجسام المادية، وأن الذي نعرفه من ذلك إنما هو حكم على الجملة يستحيل تطبيقه على الأجزاء المتفرقة، ومن المشاهدات التي يقربون بها هذا الرأي تقدير شركات التأمين لحوادث السيارات في البلد الواحد والسنة الواحدة، فإنهم يحسبون الحساب لإصابة عشرين سيارة من كل ألف سيارة - مثلا - فيصدق هذا التقدير وتنتظم عليه موارد الشركة ومصاريفها، ولكن أخبر الخبراء في الشركة لو سئل أن يدل على هذه السيارات العشرين أو على بعضها لما استطاع.
والعلماء الذين يعتقدون أن النواميس الكونية مسألة قديمة حصلت وفرغ الأمر منها، يتمثلون الكون كأنه مكنة صنعت وأرسلت في طريقها وانقطعت عوامل التكوين فيها، ولكن هذا الاعتقاد ضرب من التصور لا يوافقهم عليه كثير من العلماء والمفكرين، ومن هؤلاء المفكرين من يقول - كما قال بيرس:
إن المصادفات قد تكون اليوم قوانين في دور التكوين وليست شذوذا عن قوانين مبرمة منذ الأزل، وإن القوانين قد تكون مصادفات تكررت على وتيرة واحدة، ولكنها لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط الأسباب بالمسببات.
ومذهب بيرس هذا مطابق لقول الحكيم الإسلامي أبي حامد الغزالي، ومطابق للإجماع الذي انعقدت عليه آراء العلماء المحدثين، فإنهم يقولون إن التجارب العلمية إنما هي تجارب وصفية تسجل الواقع كما يتكرر أمام المجربين، ولكنها ليست بالتفسيرات التي تعلل الأسباب بعلة محققة غير علة التكرار والاستمرار.
ومن الأمثلة التي تضرب لتقريب هذا الرأي، أن الديكة تصيح قبل طلوع الشمس أبدا، وليست هي علة طلوعها، وأن جرس القطار يدق قبل وصوله إلى المحطة وليس هو سبب الوصول، وأن ضوء القذيفة يرى عند انفجارها قبل سماع صوتها، ولا علاقة بين سبب الرؤية وسبب السماع.
وأيا كان الرأي في السببية عند علماء العصر الحديث، فالقول الفصل الذي لا شك فيه أن قوانين الطبيعة لم تحصر جميع عواملها، وأن الحصر الذي وصلنا إليه قد يعين على تقدير الحوادث المترتبة عليها بالإجمال، ولا يعتمد عليه في تقدير حادثة واحدة بغير الظن والتقريب.
فإذا نظرنا إلى التقدير العلمي، فالباب مفتوح في الكون للعوامل التي لا تحصرها ضوابط القوانين والنواميس.
وإذا نظرنا إلى التقدير الديني، فالله تعالى فعال لما يريد، والخلق «عملية مستمرة» وليس بالعملية الآلية التي فرغت منها العناية الإلهية، وتركتها هملا بغير تبديل.
وسنة الله لا تبديل لها حقا، ولكننا لا نعلم من سنة الله إلا ما نهتدي إليه بعقولنا وهداية الله، وقد تكون سنة الله في نصيب الإنسان موقوفة على تربية نفسية تحققها الصلاة، وقد تكون هذه التربية النفسية سببا مشروطا للسنة الإلهية، لا يجوز للمؤمن تعطيله أو لا يجوز له أن يدعي القضاء فيه باسم الإله.
والطالب الأديب يرى للمسألة وجهين لا ثالث لهما من وجوه البحث في فائدة الصلاة: فإما أن يكون الطلب موافقا للإرادة الإلهية فهو محقق بغير طلب، وإما أن يكون مخالفا للإرادة الإلهية فلا معنى لطلبه؛ لأن الله يتنزه عن تغيير إرادته كما يغير الحاكم قضاءه بالملق والاستعطاف.
ولكن مسألة الصلاة لا تنحصر في وجه من هذين الوجهين؛ لأننا يجب أن نذكر أولا وآخرا أن إرادة الله متمثلة في طبيعة الإنسان، وأن من طبيعة الإنسان أن تطلب الغوث عند الحاجة إليه، وأن طلبه من غير الله عبث مع الإيمان بوجود الإله القادر على كل شيء، فإذا اندفعت طبيعة الإنسان إلى طلب الغوث من الله، فمن أين له إذا قمع هذه الطبيعة أنه لا يخالف إرادة الله، ومن أين له أن الاستجابة هي كل ما يرجى من الدعاء؟ ومن أين له أن الدعاء نفسه هو سبيل الاتصال بالله من جانب الإنسان؛ لأنه في ذاته عمل من أعمال النفس التي تدل على سجية من سجاياها وإن لم يكن لها جواب؟!
ونعود إلى رأي الرياضي الكبير أوليفرلودج؛ لأن الرياضيين من أقدر الناس على فرض الفروض التي تحل المجهولات، فنقول: لماذا نحسب الصلاة خارقة للنواميس الكونية وهي ظاهرة كونية كسائر الظواهر التي تحدث كل يوم في هذا الكون؟
وليكن الطالب الأديب على يقين أن سؤاله عن نفع الصلاة لا يمتنع في الدين الإسلامي، بل يجب عليه وجوب التفكير ووجوب سؤال أهل الذكر، وكلاهما فريضة من فرائض الإسلام، ولكن لمسألة الصلاة - كما قلنا - وجها آخر لا ضير من السؤال عنه؛ إذ كان السؤال عنه هو جوابه المريح: ألا يجوز للإنسان أن يكشف عن ذات نفسه أمام الله إلا أن يعلق هذه المكاشفة مقدما بضمان الجواب؟
الصيام في القرن العشرين1
من الإشاعات التي راجت زمنا عن القرن العشرين، أنه عصر الحس والمادة، أو أنه عصر المادة المحسوسة.
ونقول: إنها إشاعات؛ لأنها لا تحسب من الرأي الذي يقوم عليه الدليل، ولا من الخبر الذي تثبته المشاهدة، ولا من الواقع الذي يستغني بذاته عن الرأي والأخبار.
فالواقع في القرن العشرين أن المادة كلها قد انتقلت في البحث عن حقيقتها، من عالم الحس إلى عالم النظر أو عالم الغيب، وأن المباحث المادية قد رجعت إلى مجال من النظريات والغيبيات لا فرق بينه وبين مجال الروحيات في حكم الحس والمشاهدة، فلم نفهم من تسمية الكهارب والنوى بهذه الأسماء ما هو سر القوة التي تربط بينها، وما هو مكان المادة التي تستقل بوجودها عن الكهارب الموجبة والكهارب السالبة، أو الكهارب التي تتردد من عنصر إلى عنصر بين السلب والإيجاب، وما من فرض من فروض «العلماء المحققين» عن أصل المادة ينتهي إلى فهم أوضح من فهمنا لحقائق الروح أو العبادات الروحية، فقد أصبح العالم «المادي» الذي ينكر الغيب المجهول يحتكر لنفسه ما ينكره على طلاب المعرفة الروحية بغير مسوغ لهذا الإنكار يسوغه العلم أو التفكير.
وفي القرن العشرين قد ثبت للعبادات الروحية من الفضائل ما لم يثبت لها قبل القرن العشرين بغير فضيلة الطاعة الواجبة لأوامر الدين، أو بغير الأسباب التي ينفرد الدينيون بتفسيرها وإقامة الأدلة على لزومها، فلا تدخل في نطاق البحوث التي يتصدى لها علماء الماديات أو علماء المحسوسات.
والصيام في مقدمة هذه الأوامر الدينية التي أعيد فيها النظر على أيدي أبناء القرن العشرين، فظهرت لها مزاياها الكثيرة إلى جانب مزايا العبادة والإيمان بحقوق الغيب، مع حقوق الشهادة والعيان.
فقد أصبح أبناء القرن العشرين جميعا يزاولون نوعا من أنواع الصيام في وقت من الأوقات، لصلاح البنية أو صلاح الخلق أو صلاح الذوق والجمال.
ومعنى الصيام أنه هو الكف عن شهوات الطعام وسائر الشهوات الجسدية وقتا من الأوقات، وهذا هو الصيام الذي تدعو إليه الحاجة في تحقيق أغراض التربية النفسية والتربية الاجتماعية وسائر ضروب التربية النافعة على حالة من الحالات؛ فمن الصيام ما يتقرر اليوم لتربية الأخلاق الفدائية في الجنود، ومن يؤدون عملا يستدعى من الشجاعة ورياضة النفس على تقلبات الحياة ما تستدعيه أعمال الجنود الفدائيين.
وقد يستدعي عمل الجندي الفدائي أن يكف عن الطعام بضعة أيام، أو يستدعي أياما أن يقبل الطعام الذي تعافه نفسه في سائر أيامه، أو يستدعي أن يرفض الطعام الجيد المشتهى وهو حاضر بين يديه.
ومن الصيام الذي ثبت لزومه في هذا العصر صيام الرياضيين وهم يملكون بإرادتهم زمام وظائفهم الجسدية، ويتجنبون كل طعام يحول بينهم وبين رشاقة الحركة، أو يحول بينهم وبين الصبر على الحركة العنيفة والحركة التي تتعاقب على انتظام إلى مسافة طويلة من المكان أو من الزمن، ولا يستطيعها من يجهل نظام الصيام ولا يروض نفسه وجسده على نوع من أنواعه طوال الحياة.
ومن الصيام العصري صيام التجميل، وقد يصبر عليه من لا يصبرون عادة على صيام الرياضة النفسية أو صيام الرياضة البدنية، وقد يقضى على الصائم من الرجال أو النساء أن يلتزم الحمية في شرب الماء وغيره من السوائل المروية كما يلتزم الحمية في تناول الغذاء المستطاب، وإن يكن صالحا للتغذية موفور الفائدة للبنية الحية، ولكنه يؤخذ بمقدار لا يزيد عليه من يحرص على الوسامة واعتدال الأعضاء.
ومن الصيام الشائع في العصر الحديث صيام الاحتجاج على الظلم، والتنبيه إلى القضايا والحقوق التي يهملها الناس ولا يعطونها نصيبها الواجب من الفهم والعناية.
وهذه الأنواع من الصيام كلها صالحة لغرض من أغراض التربية العامة أو الخاصة، يهتدي إليه أبناء القرن العشرين، ويعلمون منه أن الآداب الدينية تسبق «التحقيق العلمي» إلى خلق العادات الصالحة، واشتراع الآداب الضرورية لمطالب الجسد والروح في الجانب الخاص أو الجانب العام في حياة الإنسان.
ولعل الفضيلة العصرية - فضيلة القرن العشرين - التي تحسب من الأخبار الصادقة ولا تحسب من الإشاعات المزجاة أنه يعرض مسائل الحياة للبحث والتقرير، ويجمع الأشتات المتفرقات من معلومات الأقدمين ليجري عليها حكم العقل والعلم في نسق جديد.
وعلى هذا النسق يتناول الباحثون العصريون أنواع الصيام، ويقسمونها إلى أقسامها على حسب أغراضها العامة أو الخاصة، من قديم العصور إلى العصر الحديث، وقد أحسنوا تقسيمها حقا حين حصروها في هذه الأقسام الخمسة، التي تحيط بها ولا تستثني نوعا منها على ما نعلم، وهي: (1)
صيام التطهير الذي يكف الصائم عن الإلمام بالخبائث والمحظورات من شهوات النفوس أو الأجسام. (2)
وصيام العطف، ومنه صيام الحداد في أوقات الحزن أو المحنة؛ ليشعر الصائم بأنه يذكر أحبابه الذاهبين أو الغائبين، ولا يبيح لنفسه ما حرموه بفقدان الحياة أو فقدان النعمة والحرية. (3)
وصيام التكفير عن الخطايا والذنوب؛ تطوعا من الصائم بعقاب نفسه على الذنب الذي يندم على وقوعه، ويعتزم التوبة منه والتماس العذر فيه. (4)
وصيام الاحتجاج والتنبيه، وهو صيام المظلومين وأصحاب القضايا العامة التي لا تلقى من الناس نصيبها الواجب من الاهتمام أو الإنصاف. (5)
وصيام الرياضة النفسية أو البدنية التي تمكن الصائم من السيطرة بإرادته على وظائف جسمه؛ تصحيحا لعزيمته أو طلبا للنشاط واعتدال الأعضاء.
وكل هذه الأنواع الصومية تستدعي الكف عن الطعام وشهوات الجسد؛ تارة بالامتناع عن الطعام كله بعض الوقت، وتارة بالامتناع عن بعضه في جميع الأوقات، وتارة بالإقلال من جميع مقاديره والمباعدة بين وجباته، أو بالقدرة على مخالفة العادات المتبعة في تقديره وتوقيته على جميع الأحوال.
وشريطته العامة التي تلاحظ في جميع أنواعه هي تحكيم الإرادة في شهوات النفس والجسد، أو تربية العزيمة على قيادة الإنسان لنفسه حيث يريد.
والمتواتر من أقوال الباحثين عن عادات الأجناس البشرية، أن الصيام بجميع أنواعه قديم في أمم العالمين؛ القديم والجديد.
ففي حضارات أمريكا الوسطى آثار تدل على قدم الصيام بين شعائر العبادة التي دان بها سكانها الأصلاء قبل ميلاد السيد المسيح، وقد اشتهر الصيام البرهمي والبوذي منذ أقدم العصور التاريخية، مع تحريم أكل اللحوم كما هو معلوم، واشتهر مثله صيام البابليين والأشوريين على نحو قريب من الصيام الذي تعلمه منهم اليهود أيام السبي، متابعة للشعائر الدينية التي جاء بها الرسل الأسبقون فيما بين النهرين، وأولهم نوح - عليه السلام - على القول المشهور.
وكان الصيام معروفا عند المجوس الزردشتيين، ولكنهم - أو طائفة منهم - حرموه أخيرا لثورتهم على العبادات البرهمية والعبادات الأشورية، بعد اصطدام العقائد الجديدة بالعقائد الموروثة السابقة عليها.
ولا يندر الصيام في أمة من الأمم الكبيرة غير الأمم التيوتونية من أبناء الشمال، فإنه قليل في تاريخها القديم وإن لم يكن مهملا كل الإهمال، ولعلهم أقلوا منه لصعوبة الاستغناء عن الطعام زمنا طويلا في البرد الشديد، أو لصعوبة توقيت المواعيد حيث تطول الفترة بين شروق الشمس وغروبها، فلا ينتظم التوفيق بينهما وبين وجبات الطعام.
وعند المقابلة بين أنواع الصيام نتبين مزايا الصيام الإسلامي بين جميع هذه الأنواع، فإنه واف بالشريطة العامة للصيام المفروض بحكم الدين أو المتبع لرياضة الأخلاق، وهو على ذلك صالح لمقاصد التطهير والعطف والتوبة، والتكفير. ولا جدال في رجحان الصيام بنظامه الإسلامي، على نظام الصيام الذي يتحرى الصائم فيه اجتناب بعض الألوان من الأطعمة الفاخرة أو الأطعمة الشهية، فإن اجتناب بعض الألوان لا يكفي لترويض وظائف الجسد وتغليب حكم الإرادة عليها؛ إذ كانت هذه الوظائف تؤدي عملها بكل لون من ألوان الطعام، وقد يكون فيه ترويض للذوق على اجتناب اللذائذ والشهوات الجسدية، ولكنه ترويض ينتفع به القادرون على تحصيل الطعام اللذيذ والطعام الثمين، ولا رياضة فيه - حتى للذوق - عند فقدان القدرة على تحصيل هذه الأطعمة في جميع الأوقات.
لا جرم كان الصيام في الإسلام نظاما لا يفضله نظام بين شتى الأنظمة التي تقدمت بها فرائض الصيام.
الكتب الدينية في الحضارة الحديثة1
من أبناء الشرق الذين لا يزالون على فتنتهم بالحضارة الأوربية، أناس يحسبون أنهم مطالبون بالرجوع إلى الغرب للعلم بسمت العصر في شئون الفكر والضمير، فلا يبيحون لأنفسهم أن يطلعوا على موضوع من موضوعات القراءة الجدية، أو قراءة التسلية وتزجية الوقت، غير الموضوعات التي يقرؤها الأوربيون المعاصرون، وقد يخجل أحدهم أن يرى في يده كتاب مما يسمونه بالطراز القديم، كما يخجله أن يرى وهو في زي «عتيق» غير أزياء «المتمدنين» العصريين.
والشائع بين هؤلاء «العصريين» على التقليد والسماع أن قراءة الكتب الدينية في هذا الزمن «تقليد» قديم، هجره أبناء المدنية الحاضرة وخلفوه وراءهم لأبناء القرون الوسطى؛ وهي التي تشتهر الآن باسم قرون الظلام، أو قرون الجهل والخرافة، ويظنون أنها من أجل ذلك كانت تقترب من موضوعات الدين، على قدر ابتعادها من موضوعات العلم الحديث، أو على قدر ابتعادها في الزمن من تفكير أبناء القرن العشرين.
وقد عناني هذا الظن الشائع فخطر لي منذ زمن بعيد أن أتحققه في مراجعه، التي تهيئها لنا الإحصاءات الكثيرة في سجلات عصرنا، وهو كما نعلم يعتمد في كل تقدير على مراجع الأرقام، وجعلت أحضر ذلك الظن في خلدي كلما اطلعت على بيان جديد عن المطالعات والتواليف عند القوم، فثبت لي ثبوت اليقين أن القراءة الدينية بين الغربيين المحدثين تأتي في المقدمة بين أنواع القراءات العامة بغير استثناء، وأن الفرق بينهم وبين أسلافهم من أبناء القرون الوسطى يوشك أن يعكس القضية الشائعة عن تدين الأوربي قبل بضعة قرون، وانصراف الأوربي المعاصر عن الدين، أو عن الشئون الدينية، بالقياس إليه.
وفي مقال قريب
2
أشرت إلى ذلك، لمناسبة البيانات السنوية التي تظهر في التقاويم، بالمقارنة بين موضوعات الطباعة والقراءة من عام إلى عام، فقد تبين أن الترجمة الأخيرة من كتاب العهد الجديد بيع منها مليونان ونصف مليون نسخة، قبل انقضاء أربعة أشهر من ظهورها في البلاد الإنجليزية، وأن الاستعداد لهذه الترجمة كلف الناشرين من الجهود العلمية والمالية أضعاف أضعاف ما تكلفته ترجمة هذا الكتاب، في عهد الملك جيمس، وفي عهود الترجمات التالية، سواء ظهرت باللغة الإنجليزية، أو بغيرها من اللغات الأوربية، ويدخل في تقدير هذا الفارق حساب الفوارق الكثيرة بين العصر القديم والعصر الحاضر، في انتشار القراءة والكتابة، وانتشار الطباعة، ووسائل التوزيع، وانتشار المعارف، التي يعول عليها في ترجمة كتب التوراة والإنجيل من لغاتها الشرقية أو اليونانية.
وتتبين هذه الحقيقة من مراجعة الصحافة، كما تتبين من مراجعة التقاويم السنوية، فإن الصحف التي تخصص بعض أبوابها لنقد الكتب والتواليف على العموم، تفرد في مواسم العام، لمناسبة الأعياد الدينية، أعدادا مستقلة لما يصدر خلال هذه المواسم من كتب الدين، ومباحث العقيدة، بأقلام المفكرين، وأقلام رجال الكنائس المختلفة، وتشترك في اتباع هذه السنة الدورية صحف مشهورة، لا يخطر على البال أنها تشتغل بهذه المباحث وتستعين - بين محرريها - بمن يحسن الكتابة فيها، إلى جانب المحررين المتخصصين، بشئون السياسية العامة، أو شئون الفن والأدب.
فصحيفة التيمس - مثلا - تخصص عددا من أعداد ملحقها الأدبي في شهر مارس الماضي للتعليق على الكتب الدينية، وتفتتحه بمقال ضاف عن: أثر العقائد في سياسة العصر الحاضر، وفي تطور الفكر الاجتماعي بين أمم القارة، التي يظن أنها أشد هذه الأمم إمعانا في محاولة الفصل بين الدين والسياسة، ويقول كاتب هذا المقال ما فحواه: إنه ما من أحد يفهم بواطن النزاع بين الطوائف السياسية والاجتماعية في فرنسا، ما لم يدخل في حسابه أسماء الدعاة والمفكرين، الذين تعرض أسماؤهم منقوشة على جدران الكنائس، تحت عنوان «الشهداء» وضحايا الزمن الأخير.
ومن موضوعات الكتب التي عرضت في هذه الصحيفة: موضوع عن القصة، في عصر الملكة فكتوريا، ينظر فيه مؤلف الكتاب إلى قصص ذلك العصر، من حيث هي «منابر للوعظ» و«كراسي للاعتراف».
وموضوع عن الخير الإلهي، ومشكلة الشر في العالم الإنساني.
وموضوع قريب منه عن «الحب الإلهي» في عصر الحروب العالمية.
وموضوع في تقديم إنجيل يوحنا، من كتب العهد الجديد.
وموضوع الرحلات، التي قام بها أحد القساوسة العلماء، في بلاد الصين والهند، وجاوة وإثيوبية، وأفريقيا الجنوبية.
وموضوع عن أعمال أحد الأطباء «التبشيريين» في أواسط القارة الأفريقية.
وموضوع الكتب المقدسة بالصور والرسوم، ومنها الصور الشمسية، والصور التي نقلت عن لوحات الفنانين الأقدمين والمتأخرين.
وموضوع حرية العبادة والدين في البلاد الروسية، والهرطقات القديمة والحديثة، واللفائف الأثرية التي كشفت أخيرا بوادي القمران، والقرى الاجتماعية والروحية والعودة إلى الينابيع، وتحرير المبادئ الخلقية على قواعد المسيحية، ووجهة النظر في الكتب المقدسة إلى مسألة «الجنس» ومسألة الزواج، وتاريخ البابوات مع الدعاة البروتستانتيين، وأشباه هذه المباحث من صميم «الموضوع الديني» كما تعالجه معاهد العبادة، ولا يلزم أن يكون من مباحاث المعلقين على شئون الدين بأسلوب العالم، أو أسلوب المؤرخ، الذي يعرض لمسائل العقيدة، كما يعرض لغيرها من المسائل «الدنيوية».
ولهذه المطالعات جميعا جمهورها الواسع بين طوائف المتدينين، والمهتمين بالعقيدة الدينية في حياتهم الخاصة، إلى جانب حياتهم الاجتماعية.
وهذا الاهتمام، هو الذي يفتح الباب للمقابلة بين العصر الحديث، وبين عهود القرون الوسطى، في القارة الأوربية.
فليس «الإخلاص الباطني» في الإيمان والعبادة موضوع ملاحظة تاريخية، تصلح للمقابلة بين العصور؛ لأن ظواهر التدين في الأمم هي في كل حال ظواهر الاهتمام التي تتراءى بعلاماتها المشهودة للعيان، وكل ما عداها من البواطن الخفية، فإنما هو سر للفرد في حياته الخاصة، لا يسهل الحكم على نصيبه من الإخلاص والصدق، أو نصيبه من النفاق والمداراة، ومن الموافقة والمجاراة.
وزيادة الاهتمام بالدين في العصر الحديث غير محتاجة إلى دليل من ناحية القراءة والقراء، أو النسخ المتداولة من الكتب المطبوعة، فإن الفارق هنا بين القرون الوسطى والقرن العشرين، هو الفارق بين عدد الأميين أمس وعدد الأميين اليوم، أو هو الفارق بين عدد المخطوطات المنقولة وبين ما تصدره المطابع السريعة في هذا العصر بالألوف والملايين؛ حيث كانت مطابع الأمس لا تقوى على إصدار عدد من الكتب في مثل هذا الوقت يزيد على المئات.
لكن هذا الفارق بين عدد الأميين بالأمس واليوم، يدل على درجة الاهتمام من جانب آخر، غير جانب المقدار المتداول من الكتب الدينية، وهو اضطرار «الجمهور» إلى ترك الأمر كله في فهم كتب الدين إلى رجال الكهنوت المنقطعين للاطلاع عليها، فلن يكون هذا الاهتمام غير نوع من التسليم، لا فرق فيه بين الإهمال والعناية؛ لأنها عناية بالاتكال على الآخرين.
وربما كان استبداد السلطان الديني بالأمر في القرون الوسطى، وقدرة المتسلطين على تعذيب المخالفين، والبطش بالمنازعين لهم في هذا السلطان؛ هو الذي خيل إلى الناس أن أبناء القرون الوسطى كانوا في أمور الدين أشد غيرة وأعمق إخلاصا من المعاصرين.
إلا أننا نخطئ إذا فهمنا ذلك من دلائل الاستبداد الذي اجتمعت قوته بين أيدي المتسلطين الدينيين، فإن استبدادا كهذا الاستبداد - أو أشد منه - كان مجتمعا بين أيدي المتسلطين من الملوك والأمراء، وأيدي الحكام على الإجمال، ولا يسوغ لنا أن نفهم منه أنه كان دليلا على اهتمام جمهور الناس بأحوال السياسة وقضايا الحكم في تلك العهود، بل لعل هذا هو الدليل على تهاونهم بتلك الأحوال وتلك القضايا، وتسليمهم فيها إلى الحاكمين المستبدين بغير سؤال.
وإذا أردنا أن نحكم على أبناء العصر الحاضر بالاستخفاف بأمر الدين من وفرة المقروءات في فنون الكتابة الخليعة، أو الحملة على العقائد الدينية، فالذي يلوح لنا أن أبناء القرون الوسطى أولى من المحدثين بتهمة الاستخفاف، وأوفر قسطا من القول الخليع، والتنديد بحياة التدين والمتدينين.
فإن المجون في أقاصيص القرون الوسطى لا نظير له في الأدب المعاصر، الذي يسمى بالأدب المكشوف، ولا يجرؤ أحد على نشره في غير الطبعات السرية.
وقد كانت حملة التحرير باسم الإنسانيين
Humanists
حربا صريحة على حياة التدين، أو حياة التقشف «الكهنوتية»، ودعوة جريئة إلى نبذ الفرائض والموانع المقررة في عرف رجال الدين ورجال الأخلاق، وإعطاء الضعف الإنساني حقه من مطاوعة اللذة الجسدية، والقصد في تكاليف الحياة الروحية؛ لأنها كمال منشود في الخيال، ولكنه يفوق طاقة اللحم والدم في جبلة الإنسان.
وربما كان استبداد السلطان الديني بالأمر في مسألة هامة كمسألة القراءة، أمرا تقتضيه أمانة الإنسان لعقله، إن لم يكن للدين شأن كبير في حسابه، ولكننا نصحح النظر إلى التاريخ الإنساني كله، إذا فهمنا أن زيادة رقم السنين على صفحة التقويم لا تعني حتما أنها نقص مطرد في العناية بأمر الدين.
دعوى في الميزان1
كتب إلينا السيد عبد المنعم محمد عبد الله بوزارة الأوقاف يقول:
ورد ما يلي بالعدد رقم 11 من سلسلة أعلام العرب، التي كان لكم فضل بدئها بالكتاب الرائع عن الإمام محمد عبده، ولم أقصد إلا الإيماء بما كتب حتى لا تكونوا عنه غافلين.
يقول مؤلف الكتاب إنه «ليس من التاريخ ولا العلم في شيء أن تسمى عبقريات محمد وفلان من أصحابه، ثم يكون الحديث عن فلان آخر من هؤلاء الصحابة، فإذا اسم الكتاب فلان في الميزان، وإنما الأمر أن الكل جميعا في الميزان.»
ويقول: «... لا تكون الترجمة مع شيء من هذا موضوعية، وعلى هذا الأصل تدرك ما تكون عبقرية عمر حين يقول السيد مؤلفها ... إلخ.»
ثم يقول: «من خفيف الملاحظة التي تغير سيرة المترجم له تغييرا عنيفا، وتتبين بها الحاجة الشديدة للأصول التاريخية في رسم الصورة الأدبية؛ أن عبقرية الإمام ... في طبعة الهلال تزين غلافها صورة فارس على جواده شاكي السلاح ... فكلمة التاريخ أن عليا ليس في خير أحواله فارسا - راجع الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان - فصورة الغلاف ضد هذه الحقيقة واحترام التاريخ يستبعدها.»
فهل يجوز لناقد نزيه أن يحكم على كتاب مثل عبقرية الإمام بصورة الغلاف؟ وهل يكون من التاريخ ومن العلم أن تتناول ترجمة ما الهجوم على العقاد، بينما المؤلف نفسه يقرر في صفحات الكتاب أنه ليس من العلم ولا من التاريخ أن تتناول الترجمة دفاعا عن المترجم له وردا لهجوم الهاجمين عليه؟
ثم لماذا العقاد بالذات والدنيا مملوءة بالكتاب والنقاد؟ هل هي الشهوة الجامحة لتجريح العظيم؟ أو هو شيء آخر في الصدور؟
ومن خطاب للسيد زايد أحمد حسن المنوفي، يسأل بعد تمهيد وتلخيص لما كتب في هذا الموضوع:
ألا نقرأ في صفحة اليوميات كلمة ملجمة في إيضاح هذا الذي يسمونه بالأصالة وهم يتطاولون إلى نقد مؤلفاتكم ؟
ويقول الطالب الأديب خميس سعد الكنيدي بكلية التربية جامعة عين شمس:
طالعت أخيرا كتاب الأستاذ أمين الخولي، يصف في مقدمته العبقريات بأنها ليست تاريخية علمية ... فهل ينطبق هذا على ما طالعته سابقا في الصفحة السابعة من عبقرية الصديق طبعة الهلال؛ حيث تقولون ما نصه: «في تقديم كتابي هذا عن عبقرية الصديق أقول ما قلته في عبقرية محمد وعبقرية عمر وكل كتاب من هذا القبيل، وفحواه أنني لا أكتب ترجمة للصديق - رضي الله عنه - ولا أكتب تاريخا لخلافته وحوادث عصره ... ولكنني أقصد أن أرسم للصديق صورة نفسية تعرفنا به، وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله كما تجلو الصورة ملامح من تراه العين.»
وإنني لفي عجب ودهشة ... أرجو أن أجد جوابا شافيا بمتابعتي يومياتكم بالأخبار.
والقراء الكرام مشكورون على غيرتهم، وإن كان لي عتب على هذه الغيرة؛ أنها كلفتهم سؤالا في أمر غني عن السؤال!
فقد مرت بي أقاويل قديمة وحديثة من قبيل هذه الأقاويل، يسميها الشيخ أمين الخولي نقدا موضوعيا أو علميا أو منهجيا، إلى آخر هذه المحفوظات المتواترة بغير معنى، فعودتنى أن أحسبها في عداد القراءات التي لا تحتمل المناقشة؛ لأنها مما يتهافت بعضه على بعض بغير حاجة إلى جواب، ولست أغير رأيي فيها بعد هذه الإضافة الجديدة التي تفضلوا بنقلها إلينا، ولكنني أجيبهم هم ولا أرى الأمر يحتاج إلى إفاضة في الجواب لجلاء الحقيقة في قيمة كل ذلك الفراغ، الذي ينطوي تحت فقاعة الموضوعية أو المنهجية أو العلمية أو الواقعية أو التحليلية أو أشباهها من فقاقيع المصطلحات الخاوية، وهي لو كانت مسبحة ألفية يكرون حباتها كل يوم وكل ساعة، لما خلقت في عالم الفكر باحثا من غير باحث، ولا حجبت فضلا يعرفه ذووه.
وما رأيت أحدا يأخذ الشيخ أمين الخولي مأخذ الجد فيما يدعيه لنفسه وما يدعيه على غيره، بل ما عرفت إنسانا يتعالم على الناس وهو أحوج منه إلى أن يتعلم ممن يتعالم عليهم، وليس أضيع من كلام يذهب في مناقشة صاحب دعوى يحسب أن اللياقة تسمح له أن يقدم كتابا، فلا تكون مقدمته إلا عرضا رخيصا قصاراه أن يقول فيه: هذه هي الترجمة وإلا فلا ... فاقرءوني ولا تقرءوا أحدا سواي!
وليس أضيع من كلام يقال لمن يدعي أنه هو وحده قد اختصه الله بحق الكتابة في العلم والتاريخ والأدب، فإذا سمحت رخصة من عنده بالمشاركة في فضلات هذا الحق فعلى شرط واحد؛ وهو استثناء من يسمى عباس العقاد، بعد أن جرده من كل قدرة على كتابة الكتب، حتى العنوان والغلاف!
فإذا تناولنا أول حبة من حبات الموضوعية، فعلامة التحقيق فيها أن هذا «الموضوعي الوحيد» يقرأ الكتاب ويلغيه، وهو لا يفهم موضوعه.
فما كان موضوع العبقريات، كما يدل عليه عنوانها، إلا دراسة نفسية ووصفا لصاحب العبقرية. فإن لم يستطع الناقد من العنوان أن يفهم الفرق بين وصف الملكات والأخلاق وبين سرد الأرقام والأخبار، فقد يفهمه من الموضوع الذي بيناه وفصلناه وقلنا إننا نقصده ولا نقصد ما عداه؛ وهو كما نقله الطالب الأديب رسم صورة نفسية وليست «سيرة للصديق أو تاريخا لخلافته».
وما قلناه وكررناه عن العبقريات يكفي لفهم الموضوع المقصود، ولكنه مع هذا لم يكن بالتعريف الوحيد للترجمة كما نعنيها، بل ذكرناه مرات قبل ذلك وسبقنا إلى تقريره قبل العبقريات بأكثر من عشر سنوات؛ حيث نقول في مقدمة كتابنا عن ابن الرومي: «إنها ترجمة وليست ترجمة؛ لأن الترجمة يغلب أن تكون قصة حياة، ولأن تكون ترجمة ابن الرومي صورة خير من أن تكون قصة.»
وربما خلت العبقرية بجملتها من ذكر رقم من أرقام السنين، بل ربما خلت من ذكر رقم السنة التي ولد فيها صاحب العبقرية أو تولى فيها أو حانت فيها وفاته بتاريخها المعروف، وما من أحد يستطيع أن يزعم - ولو كان من طراز الشيخ الموضوعي - أن ذكر هذه السنين أمر يعجز عنه كاتب سيرة، ولو كان من أجهل الجهلاء بين أصحاب الجزازات والفهارس والهوامش والعنعنات؛ فهي متروكة لأنها غير لازمة لجلاء الملكات والأخلاق، وليست متروكة لأنها منهج غير مستطاع من مناهج التأليف.
وهذه هي الحبة الأولى من المسبحة الطويلة.
والحبة الثانية لا تزال واقفة منا عند العنوان: إن الناقد الموضوعي صاحب التمييز الدقيق الذي وهبه الله له وحرمنا نحن وحدنا منه على الخصوص ...
صاحب التمييز هذا يتساءل لماذا يسمى بعض الكتب باسم العبقريات ويسمي بعضها الآخر باسم فلان في الميزان، وكلهم جميعا في الميزان ...
والناقد «الموضوعي» الذي يفوته التمييز بين العنوانين ينبغي أن يكف لسانه على الأقل عن التعالم على الأولين والآخرين، كلهم جميعا، باسم التمييز.
فالحكاية، كلها جميعا، أن العباقرة ومن هم في الميزان هم كلهم جميعا في الميزان.
نعم، ولكن الذين هم في الميزان ليسوا كلهم جميعا عباقرة ...
أفمفهوم هذا؟ إن لم يكن مفهوما، فالحق على المنهجية والموضوعية، ولا علينا ولا على اسم العبقرية والميزانية.
وهبهم سواء بلا خلاف كثير ولا قليل، فمن أين للتاريخ أن يحرم على المؤلف تنويع العناوين بين كتاب وكتاب، ولو كانت كلها عبقريات وكلها موازين؟
أما الحبة الثالثة من المسبحة الألفية، فلا تنتقل بنا من صفحة الغلاف؛ لأنها تلغي العبقرية كلها جميعا إكراما لصورة عليه، ومما يسقط العبقرية كلها جميعا أن يتحلى الغلاف بصورة علي بن أبي طالب على ظهر فرس شاكي السلاح، وقد كان راجلا خيرا منه فارسا، كما جاء في رواية أبي حيان.
ولقد ظهرت من عبقرية الإمام ثلاث طبعات قبل طبعة الصورة، فهل كانت العبقرية في طبعاتها الأولى موضوعية منهجية، ثم جاءت صورة الغلاف على الطبعة الرابعة فخرجت بها عن الموضوع؟
منهجيا يجوز ...
ومنهجيا أيضا يجوز أن يحسب على المؤلف عمل الفنان الذي يسند إليه الطابعون والناشرون تحضير الغلاف.
ولكن المنهجية - لسوء الحظ - مطية جامحة أصعب مراسا من كل فرس على كل غلاف، ويوشك أن ترمي براكبها تحت قدميها وتنطلق بعنانها حين يرمي هو بهذا العنان بين يدي أبي حيان.
ومن أبو حيان هذا فيما يجهله الموضوعيون المحققون؟
أبو حيان هذا هو الرجل الذي جعل همه تلفيق القصص على الإمام علي بن أبي طالب، وافتراء الأحاديث عنه ؛ ليوقع بها بين الطالبيين، وهو مشهور بين أهل السنة والشيعة بأنه أكبر زنادقة الإسلام. ويقول عنه عالم من فضلاء علماء الشيعة، هو ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة: إنه ملحد زنديق، لفق حديث المفاضلة بين علي وأخيه جعفر ليوقع بين الطالبيين.
فهل هناك حبة رابعة أو خامسة من حبات المسبحة الألفية لهذه التحقيقات «العلمية» في إسناد الروايات إلى الرواة الثقات؟
آخر الروايات في أمر علي بن أبي طالب رواية يعتمدها أبو حيان.
وآخر الناقلين حقا في النقل عن أبي حيان من ينقله فلا يصيب ولا يفقه مرماه.
فحقيقة الخبر على خلاف ما نقله الناقد الناقل الأمين، ونص الخبر من كتاب الإمتاع والمؤانسة: «إن عليا قال للمقداد: أعطني فرسك أركبه. فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أنت تقاتل راجلا خير منك فارسا. قال: فركبه ووتر قوسه ورمى فأصاب أذن الفرس فخرمه، فضحك النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى أمسك على فيه، فلما رأى علي ضحكه غضب، فسل سيفه ثم شد على المشركين فقتل ثمانية قبل أن يرجع، فقال علي ... لو أصابني شر من هذا كنت أهله حين يقول: أنت تقاتل راجلا خير منك فارسا.»
وكفى بهذه الرواية عن ضحك النبي في ذلك الموقف وعن اضطراب معناها دليلا على قيمة الخبر في ذمة أبي حيان؛ فإنه على هذه الرواية يثبت أن عليا يقاتل فارسا فيقتل ثمانية في كرة واحدة. وأدعى من الكلام عن ضحك النبي إلى الشك في قيمة الخبر أن يقال: إن عليا - رضي الله عنه - يعصيه ثم يقول عن قتله ثمانية من المشركين: إنه شر أصابه.
ولكن ... فليكن الخبر صحيحا على علاته، فهل معنى ذلك أن عليا لم يكن فارسا، وأن تصويره على ظهر فرس يهدم التاريخ؟
لقد كانت وقائع صفين تشهد بفروسية علي وغلبته على أنداده، وكان في وقعة الجمل يواصل ركوب الفرس حتى يرنق على قربوس سرجه كما جاء في مروج الذهب. ولئن صح أن النبي - صلوات الله عليه - نهاه عن خوض المعركة فارسا، فقد نهاه بعد ذلك عن الخروج راجلا لنزال عمرو بن ود، فهل كلمة التاريخ في ذلك أنه ليس بفارس ولا راجل؟ وقد كان علي - كرم الله وجهه - يخلع درعه أحيانا، فهل كلمة التاريخ فيه أنه كذلك ليس بدارع ولا صاحب عدة للقتال؟
على أن المؤرخ الذي يهمل أثر المترجم له في نفوس الناس غير جدير بكتابة التاريخ، وقد كان أثر علي الفارس في نفوس الناس أبلغ الآثار، فكان السعدي شاعر قومه يسميه فارسا وهو يركب الدلدل بغلته الموروثة، كما جاء في قصائد البستان الفارسي، وقد ذكره حافظ في العمرية فسماه فارس عدنان:
ما كان غير أبي حفص يفوه بها
أمام فارس عدنان وحاميها
وما كان لقب الفارس أولى بذي شجاعة من قاتل عمرو بن ود فارس الفرسان، أو قائد خيل المسلمين إلى اليمن، وهي أول خيل لهم دخلت تلك البلاد. ومن جاز أن يكون قائد حملة الخيل وفيها خالد بن الوليد، جاز أن يرسم على ظهر فرس في صفحة غلاف.
وبعد، فلماذا نمسك بحبات المسبحة، ولا نمسك بتلابيب الموضوع واقعيا منهجيا ذاتيا مع الشاهد الحي من شخص الشيخ أمين؟
لقد رأينا الشيخ بخمسة أزياء في مدى شهرين اثنين: رأيناه يلبس الفيصلية والقميص المفتوح والسروال القصير، ورأيناه يلبس الجبة على «الياقة» المنشاة وفي يده أساور النشا بالأزرار الذهبية، ورأيناه يلبس الجلباب البلدي والصندل في قدميه، ورأيناه يلبس الجاكتة والبنطلون عاري الرأس أو لابس العمامة، ورأيناه ورأيناه ورآه مثلنا الطلاب والأساتذة في الجامعة كما رأيناه ...
فمن من هؤلاء هو «الخولي العلمي التاريخي الموضوعي»؟ ومن منهم يبيح التاريخ وضع صورته على غلاف ترجمته؟ ومن منهم تبطله كلمة التاريخ؟
يأيتها المسبحة المنهجية الطويلة، الألفية!
كفاية ...
كفاية قلبة دماغ بهذه الفقاقيع، وكفاية على ما نظن جوابا لقرائنا الكرام عما تحت هذه الفقاقيع، وليسرح بها من يحتاج إليها موضوعيا كان أو غير ذي موضوع.
عبث لا يسكت عليه1
وصلت إلينا تعليقات شتى على اليوميات، يتندر أصحابها بتلك الدعاوي التي يدعيها لنفسه الشيخ أمين الخولي متعالما بها على خلق الله أجمعين، من الأولين والآخرين.
وكتب إلينا السيد «محمد نجيب المطيعي » صاحب مكتبة المطيعي بشارع العباسية - وهو كما ينبئ عنه خطابه من المتتبعين لمراجع الأحاديث - خطابا مطولا عن أقاويل منسوبة إلى النبي - صلوات الله عليه - وإلى الإمام مالك وإلى الخليفة هارون الرشيد، يجترئ بها الشيخ أمين الخولي على حقائق التاريخ وعلى دعائم الإسناد، اجتراء لا يقل ما فيه من دلائل الجهل بالتاريخ على ما فيه من مساوئ التبديل والتحريف.
والحق أنه عبث لا يسكت عليه لأحد، ولا يسكت عليه - خاصة - لإنسان لم يكتب صفحة إلا ليتعالم بها على الناس؛ بدعوى التحقيق والتصحيح والفهم النافذ والعقل الرجيح، وليس يحتاج الناس إلى التحذير من أحد كما يحتاجون إلى التحذير من إنسان يتطاول ويتعالى باسم الأسانيد والمراجع، وهو بهذه الجرأة على ما يجهل وبهذه الجرأة على ما يعلمه، ثم يستطيل عليه بالتبديل والتحريف.
ومن الموضوعات التي تلقينا الرسائل في التنبيه إليها، ما ورد في باب «السياسة ومالك»؛ حيث يقول الشيخ أمين الخولي ما ننقله بحرفه:
وكذلك الأمر مع الرشيد، يوشك أن يشد فيتردد في إتيانه حينما دعاه وهو بالمدينة ثم يرخي ويأتيه أخيرا، لكنه يشد في الحديث السفرجل؛ إذ أرسل إليه الرشيد ينهاه أن يحدث بحديث معاوية في السفرجل، وهي الشنشنة الحمقاء من الحكام دائما؛ إذ يحسبون أنهم يطمسون الحقيقة ويمحون ما في الكتب، وذلك أن حديث السفرجل هذا يذكر أنه أهدي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سفرجل، فأعطى أصحابه واحدة واحدة، وأعطى معاوية ثلاث سفرجلات، وقال له: القني بهن في الجنة ... وهو وجه من الفضل لمعاوية؛ رأس الأمويين أعداء العباسيين. فلما جاء النهي مالكا تلا قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون).
ثم قال: والله لأخبرن بها في هذه العرصة، حدثني نافع بن عمر قال: «كنت عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأهدي إليه سفرجل ...» الحديث.
انتهى كلام الشيخ أمين الخولي سند الأسانيد ومعلم المؤرخين.
انتهى كلام الشيخ في خبر من أخباره المحققة، وأوجز ما يقال فيه أنه مكذوب على كل من ذكر فيه: مكذوب على الله، وعلى النبي، وعلى مالك، وعلى هارون الرشيد، وعلى نافع، وعلى ابن عمر، وعلى المذكورين والمحذوفين ممن ينسب إليه.
نعم، كل من ذكر في هذا الخبر مكذوب عليه، حتى الله - جل وعلا - وحتى النبي - صلوات الله عليه. «أولا» حذف الشيخ أمين جزءا في وسط الآية الكريمة التي نقلها، وهو قوله تعالى: «في الكتاب» بعد «ما بيناه للناس.»
وتمام الآية الكريمة بنصها هو:
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون .
وإنما حذف هذا الجزء من الآية الكريمة وليس هو في نهاية الكلام؛ لأنه لو ذكر كما جاء في القرآن الكريم، لثبت افتراء الخبر على مالك - رضي الله عنه - لأن مالكا يعف عن الخلط بين الحديث والكتاب، فلا يجترئ على جعل الحديث من الآيات المنزلة في القرآن.
وهذا هو الكذب على الله.
أما الكذب على النبي - صلوات الله عليه - فهو ثابت من الروايات الصحيحة جميعا، وهو أثبت من ذلك بسند التاريخ الذي لا شك فيه.
فليس في روايات الحديث الصحيحة خبر عن هذه القصة بحذافيرها، وجميع المصادر المعول عليها التي ألفها الثقات عن الأحاديث الموضوعة قد ذكرتها بين الأحاديث المكذوبة، وعقب عليها بعضهم بلعن الكاذبين.
على أن كذب الخبر بالسند الذي لا شك فيه من التاريخ يغني عن النظر في أقوال الرواة الثقات وغير الثقات؛ فإن الخبر يروى عن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه أهدى السفارج إلى النبي - صلوات الله عليه - والمعلوم علم اليقين أن جعفرا قتل في غزوة «مؤتة» في شهر جمادى الأولى، ومعاوية بن أبي سفيان أسلم بعد فتح مكة في شهر رمضان، فبين مقتل جعفر وإسلام معاوية أكثر من خمسة شهور، ولا محل بعد ذلك للسؤال عن صدق الرواة للأحاديث؛ فإن كذب الخبر بالتاريخ المحقق ثابت ثبوت اليقين الذي لا يحتمل الخلاف.
والشيخ أمين الخولي - الذي وضع التاريخ كله جميعا تحت حمايته - يحذف اسم جعفر من الخبر، فيقول إن النبي أهدي إليه السفرجل بصيغة المجهول، فلماذا يختزل اختزاله حتى في نقله للخبر المكذوب؟! أيحذف الاسم هنا كما حذف الكلمتين من الآية الكريمة؛ لأن ذكر اسم جعفر قاطع في تكذيب ما رواه؟
قال الشوكاني في كتاب «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» بعد إيراد ذلك الحديث المكذوب: «وجعفر قتل في مؤتة، ومعاوية إنما أسلم عام الفتح، فلعن الله الكذابين.» •••
أما الكذب على الإمام مالك، فشاهده الذي لا حاجة إلى شاهد غيره أن «موطأ مالك» خال من ذكره ومن الإشارة إليه.
وشاهده الذي هو أقوى من كل شاهد آخر، أن مالكا - رضي الله عنه - لا يجعل الحديث من الآيات البينات المنزلة في القرآن الكريم.
ولا محل للإفاضة في بيان الكذب على الخليفة هارون الرشيد، الذي رماه الرجل الثبت المتحرج بالحماقة وهو يستند إلى كل تلك الأباطيل، فإن مالكا - رضي الله عنه - لم يرو الحديث ولم يكن للرشيد من داع إلى الحجر على روايته، وليس الرشيد بالذي يجهل الخبر عن مقتل جعفر بن أبي طالب وهو على علمه وعلم عترته بتاريخ أهل البيت. •••
وأما الكذب على نافع وابن عمر، فيكفي في إثباته أن الخبر لم يرد في موطأ مالك، ولم يأت له ذكر في غير رواية يعيش بن هشام.
والدارقطني يقول عن يعيش هذا: «إنه يروي الغرائب»، وكل أفراد إسناده بين ضعيف ومجهول.
والخليل يقول عن هذا الحديث: «إنه منكر جدا.»
والحافظ الذهبي يقول إنه موضوع.
والسيوطي يقول إنه لا أصل له.
ولم ترد الإشارة إليه حيث وردت من كتب التحقيق إلا ليتبع بإبطاله أو بتضعيفه أو بلعن راويه.
وهذه هي الأسانيد التي يحققها الشيخ أمين، ويحتكر من أجلها أن يلقن التاريخ كلمته الأخيرة في التراجم، ويتخذها قدوة للذين ينعى عليهم «الحاجة الشديدة للأصول التاريخية»، «والتغيير العنيف لصور المترجمين». •••
نعم، هذه هي الأسانيد عند الشيخ أمين الخولي فيما يرجع إلى تحقيق النصوص، حتى نصوص القرآن الكريم.
والمسألة أعنف من هذا عند البحث عن «الحاجة الشديدة إلى الفهم» مع امتناع الأصول التاريخية.
فروايته عن أبي حيان ظاهرة التلفيق من كل خبر ورد فيها، بغير حاجة شديدة إلى إطالة التفكير أو إطالة النظر في مراجع التاريخ.
وهذه هي الرواية كما نقلها الشيخ أمين في تعليقاته على عبقرية الإمام: «لكن التاريخ ينكر هذه الصورة؛ إذ يعلن حكم الرسول - عليه السلام - أن عليا راجلا - من المشاة - خير منه فارسا. ويروي ذلك في حادثة كانت يوم بدر؛ إذ قال علي للمقداد: أعطني فرسك أركبه. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أنت تقاتل راجلا خير منك فارسا. فركب علي الفرس ووتر قوسه ورمى فأصاب أذن فرسه هو، فصرمه، فضحك النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى أمسك على فيه، فلما رأى علي ضحكه غضب، فسل سيفه ثم شد على المشركين فقتل ثمانية قبل أن يرجع، فقال علي: «لو أصابني شر من هذا كنت أهله».»
وبهذا السند، يثبت «حامي التاريخ وملقنه» أن النبي حكم على الإمام علي بن أبي طالب بأنه راجل وليس بفارس مقدم، وأن هذه هي كلمة التاريخ التي لا مراجعة فيها.
والتاريخ يطأ هذه القصة بنعليه سبع مرات، إن كان له نعلان، أو بقدميه إن كان حافيا، كما ينبغي أن يكون في صورة الغلاف، إذا كتب على هذا المنوال!
التاريخ يطؤها بنعليه، أو بقدميه سبع مرات، إن لم يشأ أن يزيد:
الأولى:
هي الشك في رواية أبي حيان الذي اشتهر بين ثقات أهل السنة والشيعة بأنه ملحد زنديق. فإن كانت شهرته باطلة، فالصحيح الذي لا ريب فيه أن هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - لم يرد قط في سند صحيح.
والثانية:
أن حكم النبي للإمام علي بالفروسية نعرفه في توليته إياه قائدا للفرسان في خيل اليمن - وفيهم خالد بن الوليد - بل نعرف أن النبي لا يحكم عليه بنقص الفروسية من رواية أبي حيان نفسه؛ لأن من يقتل ثمانية في كرة واحدة يصنع غاية ما يصنعه الفارس القادر على القتال.
والثالثة:
أن الرواية تنفي عن علي أنه واتر إن صح ما زعمه راويها ، فماذا بقي له بعد نفي الفروسية والرماية عنه؟ ولماذا يوتر الفارس القوس وهو على ظهر فرس يعدو به إلى ملتقى الصفوف؟
والرابعة:
أن راكب الفرس لا يستطيع - حتى لو أراد - أن يصيب أذنه بوتر يطلقه من قوسه على أي وضع من الأوضاع؛ لأنه يرفع القوس ويمد يده مدا يجاوز المسافة بين مكانه على ظهر الفرس وموضع أذنيه، اللهم إلا إذا كان علي قد أراد أن يضحك رسول الله عليه، فيستهدف الأذن عامدا، وليست أذن الفرس من الطول بحيث تبلغ آذان الحمير.
والخامسة:
أن عليا لا يعصي النبي، وأن النبي لا يستهزئ به، ولا يبلغ من استهزائه به أن يضحك منه حتى يمسك على فمه بيديه.
والسادسة:
أن الإجماع متفق على أن النبي - صلوات الله عليه - لم يكن في وقعة بدر بالحالة التي يفرغ فيها لهذا الضحك وهذا الاستهزاء؛ فقد كان، كما جاء في أخبار السيرة، يواصل الدعاء ويرفع يديه بالابتهال إلى السماء، ولا يني عن ذلك حتى قال له الصديق: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله ... إلى آخر ما جاء عن موقفه بالعريش، وبعد هزيمة المشركين.
والسابعة:
أن عليا لا يقول «إنه لو أصابه شر مما أصابه لكان أهلا له»؛ فإنه لم يصبه شر في تلك الكرة التي كرها على المشركين، وإنما أصاب المشركين هذا الشر بعد أن قتل منهم ثمانية في كرة واحدة!
هذه سبع مرات يطأ فيها التاريخ رواية أبي حيان، ونحن الذين نملي على التاريخ هنا عدد المرات كما نختارها نحن؛ لأننا لم نسلم بعد للشيخ أمين بالحق الوحيد في احتكار الإملاء على التاريخ المسكين، ولأننا سنعود إلى رسم الصور على الغلاف، بغير رخصة من فن الخولي أو فن أبي حيان. •••
والحق - مرة أخرى - إنه لعبث لا يسكت عليه، ولا يسكت عليه - خاصة - لإنسان هو من أحوج خلق الله إلى العلم بقدره والعلم بأقدار الناس. ولن يحتاج الناس إلى تحذير من كلام أحد في التاريخ وفي العلم، كحاجتهم إلى التحذير من مؤرخ يتعالى بدعواه ويحكم على الناس «بالحاجة الشديدة» إلى الأصول التاريخية، وهو يقرر رواياته فإذا بالرواية الواحدة تجمع الأكاذيب على كل من ذكر فيها، ولا تسلم منها حتى أرقام السنين والشهور في التاريخ.
نطق دهرا وسكت قهرا1
قضى الشيخ أمين الخولي نحو عشرين سنة، يكتب ويشطب ثم يشطب ويكتب فيما يسميه نقدا تارة، وفيما يسميه تحليلا موضوعيا تارة أخرى، ومداره كله على موضوعات من الأدب الغربي والثقافة العصرية، أوجز ما يقال عنها إننا قرأنا فيها كتب النقد والتحليل أكثر مما يحفظ الشيخ أمين من أبيات ألفية ابن مالك، مع التواضع الكثير!
وكنا نقرأ بعض ما كتب وشطب، ونسمع ببعضه ولا نقرؤه، ثم نشطبه جميعا ولا نرى فيه ما يحتمل المناقشة ... ولعلنا وغيرنا سواء في النظرة إلى كل ما يكتبه الشيخ أمين نقدا لموضوعات الأدب الحديث! هل رأيتم الريفي الذي يدخل المطعم مرة أو مرتين وينطلق بعدها إلى مجالس الحاضرة ليعلم الناس كيف يأكلون بالشوكة والسكين؟
من لم يره فقد رأى الشيخ في نقده «الموضوعي» لتلك الموضوعات، وعرف لكل منهما حقه في المناقشة والتعليق.
ثم ألف الشيخ أمين، أو أعاد تأليف كتابه عن الإمام مالك، فقدم له بفصل طويل في الموضوع أو في النقد الموضوعي ولا مؤاخذة ... وما هذا الموضوع يا ترى؟ ليس مالكا ولا ابن مالك، ولا هو ذلك، ولا شبيه ذلك ...
كلا ... ولكنه هو الموضوع الذي خلاصته على لسان الشيخ أمين:
أنا الموضوع، أنا التاريخ، أنا السند، أنا الموضوعية ... أنا العلم ... أنا العلماء ... أنا أنا أنا الأمناء ... أنا كذلك وكل ذلك، ولكن من هو العقاد موضوع المقدمة دون مالك وأهل مالك؟ هو بالإيجاز: ما ليس كذلك!
ولقد كان في وسع الشيخ أمين أن يحمل شوكته وسكينه كما يشاء ليعلم بها الحضريين السذج كيف يأكلون، بل كيف يشربون الماء بالشوك والسكاكين.
كان في وسعه ذلك «كله جميعا» دون أن نحاسبه على لقمة واحدة، غصت بها حلوق المساكين على هذه المائدة!
ولكننا سئلنا عما يخصنا منها وجاءنا السؤال ممن يستحقون الجواب، فسمعنا وأجبنا، وانكسرت الشوكة والسكين في يمين الشيخ أمين!
ولقد صاح التاريخ والموضوع والسند و«الأنا» المكررة مرات عداد الأسطر في الصفحات، ولقد صاح معها «الأمناء» الذين يتعددون بعدد الأشكال والأزياء، ولجوا في الصياح وهم يعلنون السكوت عن المباح وغير المباح.
إن اللامفهومية - على ما يظهر - مذهب «لدني» لمن يخرج عن كل موضوع في الكتابة الموضوعية.
فمن المفهوم أن يعتصم بالسكوت من تحرش به الناس وألحوا عليه بالتحرش ليتكلم على كره منه، فإذا سيق إلى الكلام مرة بعد مرة قالها مرة واحدة ليعلن النية على السكوت الطويل أو القصير.
ولكن هذا غير مفهوم ممن يتصدى للكلام ويعيد الكلام ويعود إلى الإعادة والناس معرضون عنه لا يلتفتون إليه، فإذا تكلم دهرا ثم سكت قهرا، فمعنى ذلك أنه قد عرف أخيرا أن الله حق وأن الكلام باطل لا يغني عن الحق، وأن أعلم الخلق، ومعلم الغرب والشرق، خليق أن يخفي الشوكة والسكين، في موضع «موضوعي» أمين! •••
وحسن على كل حال أن يسكت المتكلم إذا كان يتكلم ليقول ما تمجه الأسماع وتأباه العقول.
حسن أن يسكت وليس بالحسن أن يتكلم ليتمسح بصفاف الحروف، ويزعم أن الكلمتين «في الكتاب» سقطتا من المطبعة ولم تسقطا من قلمه، ثم يعود القارئ إلى طبعة الكتاب الأولى، فيرى أن المؤلف الأمين مصر على إسقاط الكلمتين من الآية القرآنية؛ لأنه في الصفحة ال (329) من تلك الطبعة يقول عن الإمام مالك: إنه في حديث السفرجل تلا قوله تعالى:
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس ... الآية!
هكذا بغير إتمام الآية وبغير ذكر «بيناه للناس في الكتاب»، وآية الآيات في النقل الصحيح أن المؤلف الذي يضن على الشواهد القرآنية بالتمام يفسح الصفحات لأكذوبة أبي حيان من الألف إلى الياء، ويفسحها للواهن الضعيف من الأحاديث المكذوبة ثم يعيدها من طبعة إلى طبعة ومن صفحة إلى صفحة بغير اقتضاب، إلا لإخفاء المصدر المدعى عليه!
يفعل هذا ويكرر فعله ويحرم علينا أن نحاسبه على الحذف من القرآن أو على اقتضاب الإشارة إليه، وإنه ليبيح لنفسه من رواية أبي حيان أن يحاسبنا على صورة غلاف، وأن يجعل تلك الرواية سندا قاطعا يحرم على المصورين والمؤلفين رسم علي بن أبي طالب على ظهر حصان.
وإنه ليكمل الحديث الواهن ويعترف بتوهينه، ثم يقول إن مالكا يعتبره في حكم القرآن الكريم الذي يلعن الله واللاعنون من يكتمونه، ثم هو يبني على هذا السند الواهن وصف الرشيد بالحماقة وإقدامه على محو الثابت في الكتاب؟ وما الثابت في الكتاب؟ الثابت في الكتاب هو ذلك الحديث غير الثابت وغير الجدير بالذكر في صفحة بعد صفحة وطبعة بعد طبعة، حيث تضن الصفحات على آيات القرآن بالإتمام.
وأعبث العبث أن يقرر توهين الحديث، ثم يبلغ من ثقته به أن يحسبه من الأحاديث التي أسقطت من «الموطأ»، وهو لا يدري أن إثبات الأحاديث في الموطأ إنما يستشهد به على الأحكام الفقهية في الكتاب والسنة؛ لأنه كتاب فقه وليس بكتاب حديث. •••
وإن أحرى الناس أن يسكت ولا يجري القلم بكلمة في أمر الأحاديث النبوية، من يتكلم في أمر كتب الأحاديث، فيسمعنا العجب من تقسيمها إلى شائع وغير شائع وعادي وفوق العادة. فما علمنا أن كتب الأحاديث تنقسم إلى شيء غير كتب الصحيح وغير الصحيح؛ فليست هي بشيء منقوش وشيء آخر غير منقوش، وليست هي بتحفة في متحف المخطوطات أو سلعة في أسواق المطبوعات، فإنما هو تقسيم لم يذكره غير إنسان واحد نسيج وحده في أمثال هذه التقسيمات، وإنما هو تقسيم يعرفه الذين يقسمون أزياء الرجال بين «الكرافتة» وطوقها المنشى، أو بين اللاسة والطاقية على الجلباب والجاكتة الرياضية، أو بين الصندل المخروق في الترام وفي السوق، أو بين الفيصلية على الجبة والقفطان، أو بين الجبة والقفطان بالرأس العريان!
كلا! ليس بالحسن أن يتكلم الإنسان ليميز بين كتب الحديث بغرائب الأزياء، وإنما تتميز كتب الحديث بصحة السند وصدق الرواة، ولا تمييز لها غير ذلك عند طلاب الحقائق من الأحاديث. فإذا جاز هذا التمييز لأحد يستجيز ما لا يجوز، فليس بالجائز في العقول أن يكون القاضي عياض قد نقل حديثا بالسند الصحيح عن نافع عن عبد الله بن عمر ثم حكم عليه بالتوهين. فمن الجهل المحض أن ينسب هذا إلى القاضي عياض وهو يعلم أن هذا السند هو أصح الصحيح.
هذا أيضا من البعد عن العقول في حكم المستحيل، ثم نعود بالمسألة فوق ذلك إلى سند يغني عن إسناد الرواة كلهم أجمعين، صادقين أو غير صادقين، وذلك هو سند الواقع الذي لا شك فيه من خبر التاريخ.
مات جعفر بن أبي طالب قبل إسلام معاوية ببضعة شهور، فمن المستحيل أن يكون حاضرا يهدي السفرجل إلى رسول الله بعد إسلام معاوية بزمن يقصر أو يطول.
من المستحيل هذا إلا إذا صح عند الشيخ أمين فرض واحد وسند واحد، لا يستغرب منه أن يعتمد عليه، فقد كان جعفر - رضي الله عنه - يلقب بالطيار بين أهل الجنة، ومن الجنة حمل السفرجل إلى الأرض، ثم عاد سالما إلى قواعده في السماء.
إن كان هذا سند الشيخ أمين - أو الشيخ أمناء بالجملة - فليبينه لنا من مصادره «غير العادية» ... ولن يكون في هذا البيان أغرب في الافتتان من مصادره عن أبي حيان عن فلان، ولا فلان ...
بل لن يكون أغرب من تعرضه لتمحيص الثقة بالرواة والثقة بنافع مولى ابن عمر على الخصوص، وإنه ليجهل تاريخه ويقول عنه في طبعته المطولة إن الخليفة بعثه إلى مصر «يعلم الناس الحديث وفيها مات سنة 117 هجرية»، ولو راجع تاريخه - وهو بعض ما يلزم لتحقيق سند الرواة - لعلم كما جاء في التجريد أنه مات بالمدينة!
كل هذا جميعه ليس بحسن ولا شبيه بالحسن، وأسوأ من هذا «كله جميعه» أن يأخذ بتلابيب مالك المظلوم، وهو يتصدى لتمحيص تاريخه، فلا يزال هذا الإمام المظلوم موعودا من الشيخ بإسناد الأحاديث الباطلة إليه في كل خبر يعترضه اسم من أسماء الجعافرة، كائنا من كان، لا فرق بين جعفر بن أبي طالب وجعفر الصادق وأبي جعفر المنصور.
فنحن لم نقرأ من قبل كتاب الشيخ أمين عن مالك في طبعته الأولى ولا في طبعته الثانية، ولكن فاضلا مطلعا نبهنا فانتبهنا إلى هذه «الموضوعية» الطريفة في الشيخ أمين، وقال لنا:
إنها ليست أولى أفاعليه بالإمام المظلوم - رضوان الله عليه - لأنه روى عنه في الصفحة (160) من طبعته الأولى أنه قال عن أهل العراق إنهم أهل كذب وباطل وزور، وإنه تحدث في ذلك مع الإمام جعفر الصادق - رضوان الله عليه - ولم يحصل من ذلك شيء، غفر الله له ذنوبه مع الإمامين الجليلين. والشاهد على ذلك هو نفس الشاهد الذي يشير إليه الشيخ أمين الخولي، المحقق المدقق السند الأوحد في فهم ما يطلع عليه، وهو الزواوي؛ حيث يقول بالحرف الواحد من الصفحة (24):
قال مالك: قال لي جعفر يوما: أعلى ظهرها أحد أعلم منك؟ قلت: بلى. قال: فسمهم لي. قلت: لا أحفظ أسماءهم. قال: قد طلبت هذا الشأن في زمن بني أمية وقد عرفته؛ أما أهل العراق فأهل كذب وزور، وأما أهل الشام فأهل جهاد ليس عندهم كبير علم، وأما أهل الحجاز ففيهم بقية العلم، وأنت عليم الحجاز فلا تردن على أمير المؤمنين قوله. قال مالك: ثم قال لي: قد أردت أن أجعل هذا علما واحدا أكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعملون به، فمن خالف ضربت عنقه.
وبعد هذا الكلام في الأسانيد «فوق العادة»، أسانيد غير شائعة يطلع عليها الشيخ أمين، يكتب كتابه ويرفع حجابه ليعلم الناس فهم السير وتحقيقها، فينسب إلى مالك - الذي ابتلاه الله به - حديث أبي جعفر المنصور، ويفهم أن جعفرا الذي كان يتحدث إلى مالك المظلوم هو الإمام جعفر الصادق، وليس في يده الكتابة إلى الأجناد والقضاة ولا ضرب الأعناق وزجر العصاة ... ويفهم أن الإمام جعفرا يسأل مالكا تلميذه: أعلى ظهر الأرض من هو أعلم منك؟ ثم يفهم أن الأستاذ يسأل التلميذ عمن هو أعلم منه، فيجيبه التلميذ بأنه مجهول!
يفهم «كل ذلك جميعه»، ويخفى على فهمه وتحقيقه واستنباطه وتوفيقه أن الذي يقدر على الكتابة إلى قادة الجند وولاة الحكم وعلى ضرب أعناق المخالفين وتوحيد الشرائع والقوانين، لن يكون جعفرا الصادق، ولن يكون في ذلك العصر غير رجل واحد هو الخليفة أبو جعفر المنصور.
إنه ليس بالحسن أبدا أن يكون هذا هو مبلغ المؤلف من فهم الأسانيد، ثم يتعرض بعد ذلك لخبر عن اسم فيه جيم أو عين أو فاء أو راء؛ لا فرق بين جعفر الطيار شهيد السفرجل في تحقيقات الشيخ أمين، أو جعفر الصادق شهيد التهم والأقاويل، أو جعفر الخليفة، أو أبناء أبي جعفر أجمعين؛ في تلك التحقيقات أو تلك التخامين.
وأعجب العجب أن يؤجل القائل بهذا سكوته يوما واحدا بعد ذلك، وأن يتكلم فلا يقول شيئا إلا ليبسط كمه ويحمل شوكته وسكينه، ويجعل صناعته تعليم خلق الله كيف يفهمون وكيف يسندون وكيف يحققون وكيف يتموضعون ولا يتواضعون؛ لأنه هو وحده يلقن التاريخ كيف يقول كلمة التاريخ.
وإن الأشياء التي يحسن بالمتكلم أن يجتنب الكلام فيها لكثيرة، يبحث عنها الشيخ أمين إذا شاء وإذا استطاع، فلا نحصيها في هذا المقال، ولكننا نضيف إليها من باب الملاحظات الخفيفة ملاحظة أو اثنتين.
فليس بالحسن أن يكتب المعتذر ليعتذر فيقول إنه يذكر الملاحظة الخفيفة في هامش الكتاب ولا يسوقها مساق الجد في نقد الفن والتاريخ؛ فإن الاعتذار بالعبث لا يبيح له أن يرتب على ذلك العبث جدا أكبر من كل جد يستند إليه قائل في الكلام على الأنبياء والأئمة وسائر خلق الله.
إذ أي جد أكبر من الجد الذي يحتاج إليه الناقد، ليكون سندا له، حين يقول إن النبي في وقعة بدر كان يضحك حتى يمسك بيده على فمه استهزاء بالإمام؟ وأي جد أكبر من الجد الذي يحتاج إليه محقق الأسانيد ليجرد عليا، فارس عدنان، من كل وصف بالفروسية ومن حق الظهور على ظهر حصان؟ وأي جد أكبر من الجد الذي يسول لهذا الموضوعي السندي أن يرمي المؤلف بالحاجة الشديدة للأصول التاريخية، وأنه يغير الترجمة تغييرا عنيفا وينقض كلمة التاريخ؟
فالذين يرتبون على ملاحظات «الهامش» أمثال هذه الأحكام القاطعة الصادعة، يعبثون بالجد عبثا يحرم عليهم أن يتناولوا قلما ليكتبوا في صميم العلم والتاريخ، ما داموا يجهلون موضع الجد والوقار وموضع الخفة والعبث في وصف الحقائق وتقدير الرجال. فإذا تكلم المجترئ على هذا العبث، فإنما يحسن به أن ينطق ليعلن توبته عن اللفظ الهازل في غير موضعه، فليست قصة أبي حيان إذن بالسند الثابت الذي ينقب عنه المؤرخ حين يكون الأمر أمر الجد من النبي وأمر الفروسية من الإمام، وليست عبقرية الإمام إذن في حاجة شديدة إلى الأصول التاريخية، وليست صورة الفارس إذن تغييرا عنيفا للتاريخ، وليس التاريخ إذن بقائل تلك الكلمة الحاسمة التي تسجل علينا من أجل تلك الصورة - وحدها - أننا ننقض الحقيقة ونهدم التاريخ.
وليس من الحسن أن يتكلم المتكلم، فيدخل بالمناقشة العلمية في باب من أبواب الفهاهة الصبيانية.
قال شيخ لطفلة يوما: إنك صغير لا تحتمل هذا الطعام. فكان جواب الطفل الصغير لشيخه الكبير: بل أنت الطفل الذي لا يحتمل ذلك الطعام!
واحدة بواحدة، وخالصين؟!
أهذا هو الحوار؟ أهذه هي المناقشة الموضوعية؟
إننا، إذ نأخذ العبث على الشيخ أمين، لا نحتاج إلى كلمة واحدة في وصف عبثه غير كلامه الذي يسجله على نفسه بلسانه، فليس أعبث عبثا من هذا الولع بالتفتيش عن الأقاويل الواهنة من كل كاذب أو مكذوب عليه، ثم الاعتذار عنها مع الاعتراف بوهنها ليقيم عليها ما يقيم من تقدير الأقدار والحكم على الحوادث والرجال، وذلك هو العبث الذي أبينا السكوت عليه.
فما هو عبثنا نحن حين نأخذ عليه عبثه من كلامه بشهادة قلمه ولسانه؟ - أنت «كخة». - لا، أنت أنت الكخة!
مثل هذا الحوار «كخة» في الغاية من «الكخية»، وبخاصة حين يصدر من شيخ يداول بين أغطية الرءوس جمعاء؛ من العمامة إلى القلنسوة إلى الطاقية إلى الطربوش إلى الرأس المكشوف ظاهرا وباطنا بغير غطاء!
وكثير من الأشياء يبلغ هذا المبلغ من «الكخية»، ويفرض الجد على الشيخ أن يتجنب الكلام فيه، ولكن الأخير منها في هذا المقال كلامه الذي لا ينتهي عن «الأصالة» المحتكرة، وعن «أصالته» هو التي لا فرق بينها حين يتصدى لما لا يحسنه، وبين حمل الشوكة والسكين لتعليم الآكلين والشاربين .
إنك يا مولانا لن تدعي أصالة أقرب إلى دعواك من الكتابة في الفقه وعن الفقهاء.
أليس كذلك؟
بلى كذلك!
وإذا كان كذلك، وكان ذلك ما تتعلمه من العقاد في الكتابة عن الفقه والفقهاء؛ فاحذر على أصالتك كل الحذر، واعرف قدرك وأقدار غيرك؛ فقد عرفها الناس بغير حاجة إلى أصالتك. فإذا حسن لديك أن تنطق بعد أن حسن لديك أن تسكت، فلن يفوتك ولن يفوت قراءنا الذين هم أحق منك بجوابنا أن يعرفوا المزيد، إن كان متسع لمزيد.
المتهافت بأنفاسه1
حكاية الأزياء الخمسة التي يتزيى بها الشيخ أمين الخولي، أو الشيخ «أمناء بالجملة»، كانت معروفة بين ركاب الترام بمصر الجديدة، وطلاب الجامعة الذين سعدوا بتمثيل هذا المخزن المسرحي المجتمع في شخص واحد، ولكنها قد تكون اليوم معروفة بين الكثيرين من قراء هذه المقالات، ثم تظل معرفتهم بها محتاجة إلى بقية موجزة للاستفادة منها في المعرض الوحيد، الذي يجعلها حقيقة بأن تذكر وتفيد.
وهو موضع الدراسة النفسية في تلك الحالة التي تغني - إذا هي عرفت على حقيقتها - عن إضاعة الوقت في أخذها مأخذ الجد، وتحميل «الموضوع» ما لا يطيق من مناقشات العلم ومساجلات الأدب والتاريخ.
فالقصة التي أصبحت مشهورة الآن عن أزياء الشيخ الخمسة: كرافتة على الجبة والقفطان، وعمامة على «الشورت» والقميص المفتوح، وصندل إفرنجي - بدل القبقاب - مع الطاقية البلدية، ورأس عار مع القفطان الفضفاض، ولاسة مع البدلة الإفرنجية تارة والجلباب «المنزلي» تارة أخرى. ... قصة هذه الأزياء هي - من الوجهة الفنية الموضوعية - قصة مقتضبة، إن لم تلحق بها لواحقها وسوابقها من أزياء الشيخ «الموضوعية والوضعية»، منذ أيام طاقية الطفولة، إلى أيام طيلسان الأستاذية في الكهولة. ولا حاجة هنا إلى سند أو إسناد من الأحاديث العادية أو الأحاديث «فوق العادة»، غير عادات الشيخ فيما يكتبه بقلمه أو يصنعه بنفسه غير مكره عليه، أو يفتح منافذه لمفتاح شخصيته بيديه؟
فالشيخ الموقر هو الذي كتب عن نفسه في صباه، فقال إنه كان في الثانية عشرة أو الحادية عشرة يعجب كلما سمع فقيه المكتب يقول له وهو يطيل التأمل في عينيه: يا خوفي من هاتين العينين!
والشيخ هو الذي قضى بعد ذلك أربعين أو نيفا وأربعين سنة وهو يطيل التأمل في شخصه، ولا يرى في الوجود شخصا يجوز النظر إليه أو التحدث عنه غير أمين ثم أمين ثم أمين ثم أمين ثم أمين ... خمسة أمناء على خمسة أزياء، أو على خمسين من الأزياء. فإذا اجتمع حوله نفر ممن يجتمعون على أمثاله، فليست لهم أسماء ولا صفات ولا ملامح ولا ذوات، ولكنهم حسبة مكونة من أمين واحد مضروبا في خمسة أو خمسين. وهذه إذن - يكرم الله السامعين - هي جمعية الأمناء المكررين المعطرين المنجرين؛ وقاية لهم - بعيد الشر - من حسد الحاسدين.
والمقصود من هذه الحكاية «الموضوعية» في الصميم، أن قصة الفقيه الذي أطال التأمل في عيني الشيخ، مضافة إلى قصة الأزياء الخمسة، مضافة إلى قصة الدنيا التي خلت من كل شيء غير أمين واحد ومضروب فيما شاء من الأرقام، مضافة إلى طول الأنفاس، في تسويد القرطاس بعد القرطاس، والهبوط إلى الأساس، أو الصعود إلى السقف بالسند والقياس، مضافة إلى كثير من صنف هذه الأشكال والأجناس! «كل ذلك جميعه» إنما ينجلي عن حكاية كاملة شاملة، خلاصتها أننا أمام «ظاهرة نفسية» ينبغي أن تفهم فهمها وتوضع في موضعها، ولا حاجة بعد ذلك إلى إضاعة الوقت في معاملة لها غير هذه المعاملة؛ فإنها هي - دون غيرها - وجه الفائدة في الكلام عنها.
والأمر الذي يعنينا فيما نحن بصدده ملاحظتان:
إحداهما:
أن أصحاب هذه الظاهرة لهم غصة واحدة تهون إلى جانبها «كل الغصص جميعها»؛ وهي أن يوجد في الدنيا إنسان يتحدث عنه الناس ويشغل الأسماع - كثيرا أو قليلا - عن مهمة التأمل الطويل في عينيها - أي عيني تلك الظاهرة - أو يشغلها عن مهمة تكرار الأمناء إلى غير انتهاء، أو يشغلها بزي واحد منظور أو مفهوم، لا تستغرقه تلك الأزياء!
ولسوء حظ «الظاهرة إياها» أن كاتب هذه السطور كان ممن يذكرون على ألسنة الناس ولا يزال، فكان من اعترافات الشيخ الأخيرة أنه غص بذكره منذ ثلاثين سنة، وكتب إليه وكتب عنه طوال تلك السنين، وهو لا يلتفت إليه ...
والملاحظة الثانية:
أن الظاهرة النفسية التي يستغرقها الولع بلفت الأنظار إليها موكلة بالظواهر والقشور تعيش فيها ومنها وعليها، ولا تنفذ من ورائها إلى أمر ذي طائل، فإنها كلما تجاوزت الظواهر إلى ما وراءها تهافتت بأنفاسها لاضطرابها وتناقصها وغلبة القشور عليها، وهذه هي الخصلة التي عرفناها من خصال الشيخ فأهملنا الرد عليه، وعلمنا أن كلام أمثاله «مردود عليه منه فيه»، فلا حاجة بنا ولا بالقراء إلى إضاعة الوقت في التعليق عليه، إلا أن يكون الكلام عنه فائدة للقراء على هذا المنوال.
والشيخ - عافاه الله - كفيل بإعفاء كل ذي قول من مؤنة الرد عليه في كل صفحة يسطرها بيمينه، فهو موفق أسوأ التوفيق لإثبات ما يؤخذ عليه من الخطأ والعبث والجهالة، وكل ما نحسبه قدرة عندنا على إقامة الحجة يتقاصر دون قدرته المعكوسة على إقامة حجتنا، تبرعا منه غير مشكور عليه!
فهو - عافاه الله - ولسنا نحن، يثبت على نفسه بما يكتبه بقلمه:
أولا:
أنه يتصدى لتحقيق الأسانيد وهو يجهل تاريخ الرواة، وأولهم الراوي الذي اتهمه بالحديث المكذوب، وهو لم يروه قطعا كما اعترف الشيخ عند حكمه على الحديث بالتوهين؛ وأسخف السخف أنه يتهجم على الراوية الأمين بالتلفيق عليه وهو يجهل تاريخه ويزعم أنه مات - محدثا - بمصر، وقد مات بالمدينة.
وثانيا:
أنه يتعمد حذف كلمتي «في الكتاب» من الآية القرآنية في الطبعتين، وهو ما يستحيل في الأخطاء المطبعية التي يتمسح بها، ولو لم يكرر هذا الحذف لما استطاع غيره أن يسجل نية الحذف عليه.
وثالثا:
أنه - وهو يتعالم - على الناس بفهم النصوص، يستند إلى حديث لأبي حيان ليس له من سند، وليس فيه خبر واحد لم يناقض الخبر الذي يليه.
ورابعا:
هو الذي يحيلنا على الكتب المخطوطة ليدعي على القاضي عياض ما ليس بالمعقول في حقه؛ وهو الشك في حديث يرويه نافع عن عبد الله بن عمر، وليس في علم القاضي عياض سند أقوى من هذا السند، حتى عرف عن الرواة جميعا بأنه أصح الصحيح؛ وأنه السلسلة الذهبية بإضافة الإمام الشافعي إليه.
وخامسا:
هو الذي أثبت على نفسه العجز عن فهم النصوص، عجزا يقع به في الخلط بين جعفر الصادق وأبي جعفر المنصور، وأعجز الناس عن فهم النصوص - ودع عنك صدق الأسانيد - إنسان يفهم أن جعفر الصادق يأمر الأجناد والقضاة، ويضرب الأعناق، ويسأل الإمام مالكا - تلميذه - عمن هو أعلم منه على ظهر الأرض؛ ويفوته أن الذي يفعل ذلك جعفر واحد ليس هو بجعفر الصادق؛ ولكنه أبو جعفر المنصور.
وسادسا:
هو الذي يثبت على نفسه أنه يلح إلحاحا غريبا في طلب المصادر الواهنة وتعزيزها بالأدلة التي تدفع الوهن عنها، ولو اقتضاه الأمر أن يسكت عن كلمات في الكتاب الكريم.
وأعجب العجب في هذا كله جميعه، وإن لم يكن عجيبا من تلك الظاهرة النفسية، أنه يبذل هذا الجهد لحمل القراء على تصديق الأكاذيب، ثم يعود فيعترف عليها بالتوهين، ويكرر هذا الاعتراف وهو يحاول إنقاذها من الشبهات.
وسابعا:
تتم هذه الأعاجيب، أو هذه النقائض، عندما يتكلم الشيخ أخيرا لينفي الوهن عن الحديث الذي اعترف بتوهينه غير مرة، فيعمد إلى المغالطة الذميمة في أخبار صحيحة واضحة، لا تقبل المغالطة ولا التجاهل عند أقل الناس علما بمصادر الأخبار ...
قلنا له أولا وأخرا إن حديث السفرجل باطل بطلانا لا يقبل الشك ولا الريب ولا التردد ولا المحال ولا المحاولة؛ لأنه يسند إلى جعفر بن أبي طالب واقعة حدثت بعد مقتله ببضعة شهور. فمهما يكن من تلفيق الرواة، فالتاريخ الثابت يمنع أن يكون جعفر بن أبي طالب قد أهدى إلى النبي - عليه السلام - سفرجلا يوزعه على المسلمين، ومنهم معاوية بن أبي سفيان.
ولو كانت «الظاهرة النفسية إياها» تستطيع أن تكف عن التناقض، لعرف صاحبنا هذه الحقيقة، وعلم أن تسليمها واجب عليه بعد تكراره القول ببطلان حديث السفرجل المزعوم.
ولكنه يكتب بعد ذلك كأنه يقرر الحديث ولا يبطله، ويقدم على كل ما يستطيع من المغالطة ليقول إنه صواب غير مكذوب.
وكذلك قال في الأخبار بنص كلامه: «إن هذا الذي لا شك فيه من خبر التاريخ فيه الشك كل الشك، بالذي يرويه ابن حجر في كتابه الإصابة من أن معاوية أسلم بعد الحديبية. ولو كان هذا كله خبرا، أي خبر، لما جاز لذي ضمير أن يجترئ هذه الجرأة المريضة ...»
والمسكين يتكلم عن الجرأة المريضة على الضمائر وهو يلطخ الصحيفة بهذه الجرأة التي جاوزت حد المرض إلى عفونة الموت، ويحذف ما شاء كما حذف من الآيات والبينات، ليحمل على ابن حجر وزره هو في الجهل والتلفيق.
ويعود القارئ إلى ابن حجر، فيعلم علم اليقين أن أخباره جميعا تثبت الثبوت الذي لا شك فيه ولا ريب ولا تردد ولا محال ولا محاولة؛ أن حديث السفرجل مكذوب جد مكذوب.
فابن حجر يقرر أن «معاوية» من مسلمة الفتح؛ ويقرر أن الصحابة كانوا يصفونه بالكفر بعد الحديبية ...
ويقرر أنه إذا صح ما يدعى عن إسلامه قبل الفتح، فهو شيء مجهول كتمه معاوية وأخفاه.
وهذا ما قاله ابن حجر عن معاوية بالحرف الواحد: ... حكي الواقدي أنه أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى أظهره عام الفتح؛ وأنه كان في عمرة القضاء مسلما، وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج: فعلناها وهذا يومئذ كافر. ويحتمل - إن ثبت الأول - أن يكون سعد أطلق ذلك بحسب ما استصحب من حاله ولم يطلع على أنه كان أسلم لإخفائه لإسلامه، وقد أخرج أحمد من طريق محمد بن علي بن الحسين عن ابن عباس أن معاوية قال: قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عند المروة ...
فهذه هي طريقة المسكين الذي يتكلم عن الضمائر المريضة في نقل الأخبار من مصادرها المعروضة عن الناس، وهذا كل ما يثبت عنده أن خبر السفرجل غير باطل وغير واهن؛ وأن توهينه يجوز الشك فيه.
وكل كلمة في كتاب الإصابة تنادي إن حديث السفرجل مستحيل على كل حال.
مستحيل؛ لأن معاوية أسلم في عام الفتح، كما هو الصحيح ...
ومستحيل؛ لأنه - على فرض إسلامه قبل ذلك - قد كان يخفي إسلامه، فيكذب من قال إنه كان بين المسلمين جهارا نهارا توزع عليه سفرجلات ثلاث، وتوزع على الآخرين واحدة لكل صحابي من الظاهرين بالإسلام في مجلس النبي - عليه السلام.
وإذا بقيت في النصوص بقية بجهلها الشيخ من مصادره «فوق العادة»، فقد فاته أن يجترئ اجتراءة أخرى على ابن حجر، فينسى أو يتناسى أن أستاذه الخطيب هو حجة الرواة في لعن الكاذبين بعد نقل حديث السفرجل، وينسى مصدرا آخر من أهم المصادر عن الصحابة الذين أسلموا قبل الفتح؛ وذاك هو مصدر طبقات ابن السعد، وهي خالية من كل إشارة إلى معاوية في هذا الباب.
ولو لم يكن خلط الشيخ واضحا كل الوضوح من النص الصريح في كتاب الإصابة وسائر مصادره، لوضح من الفهم السليم أن معاوية الذي كان يرجع إلى أبيه في لطمة تصيبه لا يعتزل أباه وأهله ليسلم وحده قبل إسلامهم، ووضح من الفهم السليم أنه لو أسلم قبل الفتح لكان من المهاجرين كغيره من الصحابة، ولم يكن بعد ذلك من المؤلفة قلوبهم، «وإذا لم يكن من المهاجرين فكيف لقي النبي ومعه جعفر بن أبي طالب في المدينة قبل فتح مكة؟» ووضح من الفهم السليم أن كلمة «مسلمة الفتح» كانت لقبا يخجل منه الملقبون به؛ لأنه يسجل عليهم التأخر عن السابقين بإحسان، كما يسجل عليهم الإسلام خضوعا للقوة، وهو أمر كان الكثيرون غير معاوية يدفعونه عنهم بما تحدثوا به عن إسلامهم في الخفاء، وشأنهم في ذلك شأن «المؤلفة قلوبهم» سواء. •••
ونعود فنقول إن «الظاهرة النفسية» هي التي تلغو بمثل ذلك اللغو في مقام الجد والبحث عن الحقيقة، وإنها منذ الثانية عشرة هي التي تبيح لنفسها أن تطبطب على جانبيها، لتقول إن صحيفتها وحدها دون غيرها هي الصحيفة الباقية، وأما غيرها فلا تستحق أن يتأمل في عينيها الفقهاء ...
والظاهرة النفسية هي التي تتوهم أننا نهملها ثلاثين سنة، لنكتب بعد ذلك في صحيفتها الباقية ما يكشفها لقرائها المعدودين، وأن من كان منهم أهلا للقراءة لهو كاشف منها ما لا خفاء به ولا خير فيه.
والظاهرة النفسية هي التي تسول لصاحبها أن يعلن نفسه حاميا للتاريخ، وحاميا للعلم، وحاميا للناشئة، وواعظا للكتاب، ومعلما لهم كيف يكتبون ويقصدون في المقال.
وبعض ما قال الشيخ، صاحب الظاهرة إياها، في مقاله الأخير إننا «نشيع الضلال»، وإننا نتلقى سياط الحق - حقه هو بسلامته - من يد التاريخ، وإننا مصابون بالجرأة المريضة، وإننا «غير ذوي الضمير»، وإنه ينشر كلام المنقود بطينه، وإننا وإنه على ما قال من هذا القبيل في الصحف «غير الباقية» وفي مقدمة كتابه، وله طول البقاء!
إن «الظاهرة النفسية» هي التي تحسب أن هذا الأسلوب هو العفة وهو الأدب وهو التهذيب والنقاوة من الطراز الممتاز؛ لأنها هي - بسلامتها - تكتبه، وهي بسلامتها مسموح لها بما يسمح به «للمحروسين» في أعين الفقه والفقهاء.
ذلك هو الأدب المخصوص!
وما هو الأدب «العادي» الذي تولى صاحبنا حماية التاريخ والناشئين منه؟ هو ما ليس كذلك؛ لأنه هو الأدب الذي يضعه في موضعه بين الظواهر النفسية! بغير خروج من الموضوعية أو الموضوع!
مؤرخ الغد شقي1
تصفحت اليوم عدد شهر مارس من مجلة الهلال، وقرأت في مقال منها للأديب العراقي حارث طه الراوي، هذه العبارة، منقولة عن كلام الدكتور زكي مبارك - رحمه الله:
من ذلك روايته عن جهل رشدي باشا بالصلاة، والحرج الذي عاناه عندما كان يتحتم عليه أن يصلي مع فؤاد الأول، وكيف يتوسل إلى سعد زغلول قائلا: الحقني يا سعد! الله يسترك، أنت يا حبيبي كنت في الأزهر وصليت على الأقل مليون صلاة، وما أظن أنك نسيت، فما رأيك فيمن يريد أن يتتلمذ لك حتى يتعلم فروض الصلاة. وكانت كما يقول زكي مبارك ضحكات وفكاهات، فقد أخذ سعد يعلم زميله الفاتحة والتحيات، ولكن ذلك لم ينفع؛ لضعف ذاكرة رشدي باشا ولصعوبة الموضوع، وأخيرا قال سعد باشا لزميله: ما عليك! أنت ستصلي بجواري وتصنع كما أصنع، وهذه كل الحكاية. وقد ذهبوا بالفعل للصلاة، غير أنه لسوء الحظ كان الإمام يطيل الركوع والسجود، فقال رشدي باشا بالفرنسية وهو ساجد: شيء ثقيل. وفي ذلك الحادث الطريف قال حافظ إبراهيم:
سعد يصلي ورشدي
آمنت بالله ربي
يا رب أبق فؤادا
حتى يصلي اللنبي!
قرأت هذه العبارة فزادتني إيمانا بسوء حظ المؤرخ الشقي، الذي يقضى عليه غدا أن يعتمد في تاريخ مصر الحديث على روايات الأدباء والصحفيين، ولا يكلف نفسه عناء المراجعة والتثبت من صحة الرواية، وصحة المناسبة قبل ذلك.
فالبيتان كما قالهما حافظ إبراهيم لم يرد فيهما ذكر سعد، وإنما قالهما عن الوزارة التي اشترك فيها عدلي ورشدي في عهد أحمد فؤاد بتوصية من اللورد اللنبي، بعد إسناد وظيفة المندوب السامي البريطاني إليه؛ فكان عدلي ورشدي يدعيان لمصاحبة الملك إلى المساجد التي يختارها لصلاة الجمعة، وفي ذلك قال حافظ ملمحا إلى يد اللورد اللنبي في تأليف هذه الوزارة ...
فلم يبق إلا أن يصلي معها:
عدلي يصلي ورشدي
آمنت بالله ربي
يا رب أبق فؤادا
حتى يصلي اللنبي
والبيتان من شعر حافظ الذي كان بعض أصحابه يسميه بالديوان الشفوي، ومنه أبياته التي يقول منها عن الملك فؤاد:
يا مليكا برغمه يلبس التا
ج ويرقى لعرشه مملوكا
إن تتمم يداك تخريب مصر
فلقد مهد الخراب أبوكا
ومنها القصيدة التي اشتهرت بين متداوليها باسم «عام سعاد» لقوله في مطلعها:
قد مر عام يا سعاد وعام
وابن الكنانة في حماه يضام
وفيها يشير إلى الوزارة الصدقية قائلا عن رئيسها:
يا آلة للقاسطين ودمية
في قبضتيها النقض والإبرام
لا هم: أحي ضميره ليذوقها
غصصا وتقلق نومه الأحلام
وقد يعذر الراوي الذي تختلف روايته لأكثر هذه القصائد «الشفوية»، التي كانت تنتقل من فم إلى فم ولا تكتب في الأوراق؛ خوفا من حملات التفتيش والتحقيق، ولكن لا عذر لمن يخطئ في رواية البيتين اللذين أقحم فيهما اسم سعد بدلا من اسم عدلي؛ لأن المناسبات الواقعية خليقة أن تصحح له خطأه أو سهوه، وخليقة أن تفضح كذبه إن كان متعمدا ولم يكن ساهيا ولا مخطئا في الرواية.
فلم يجتمع سعد ورشدي قط في وزارة واحدة لعهد أحمد فؤاد.
ولم يكن سعد من الرؤساء الحكوميين الذين يدعون لشهود صلاة الجمعة مع الملك أو رئيس الدولة؛ لأنه كان على رأس المعارضة القومية للوزارة، أو كان خارج الوزارة كلها رئيسا لمجلس النواب، وفي هذه الفترة أيضا كان رشدي رئيسا لمجلس الشيوخ، ولم تكن دعوته إلى صلاة الجمعة أول عهده بالصلاة مع رئيس الدولة في المساجد، إذا فرضنا أنه دعي إلى مصاحبة الملك وهو رئيس لمجلس الشيوخ؛ إذ كان قد حضر الصلاة الجامعة مرات في عهود عباس الثاني وحسين كامل وأحمد فؤاد.
والمناسبة لذكر اللنبي مع عدلي ورشدي مفهومة؛ لتشكيل الوزارة كلها برأي المندوب السامي بعد ثورة سنة 1919، وقد كان سعد أبعد الناس عن القصر في ذلك الحين، وكان اللنبي يخاطب حكومته في محاكمة سعد بتهمة الخروج على العرش وتوجيه «التهديد الشخصي» إلى السلطان، فلا محل لاقتران اسمه باسم عدلي ورشدي عند ذكر الوزارة.
والرواية المنقولة عن الدكتور زكي مبارك كافية وحدها لنفي العجب عن صلاة سعد؛ لأنها تقول إنه قد أقام الصلاة مليون مرة قبل هذا الحادث.
على أن سقوط الرواية كلها ظاهر من سياقها المضطرب المتناقض؛ لأن تعليم رشدي كيف يشترك في صلاة الجمعة لم يكن يقتضي حفظه لسورة الفاتحة ولا حفظه للتحيات وعدد الركعات؛ فإنه لا يجهر بهما في صلاة الجمعة، ولا يصعب عليه أن يركع ويسجد مع مئات المصلين أمامه ومن حوله، بغير حاجة إلى مصاحبة سعد أو سواه.
وهكذا تروى أخبار الأدب، وهكذا تروى حوادث التاريخ، وهي على مدى أعمار الأحياء من أبناء الجيل!
الفابية بين المذاهب الاشتراكية
2
قرأنا في الأسابيع الماضية مناقشات حول الفكر الاشتراكي، اختلفوا فيها حول آراء كينز في الإصلاح، وحول مناقشات الفابيين في الفكر الاشتراكي، ولم نقرأ رأيكم في هذه الموضوعات، فهل يجد القارئ العربي رأيكم على صفحات الأخبار؟ ولكم الشكر والتقدير والاحترام.
حامد زيدان
المحرر بالأخبار
يقال عن الزوبعة في غير طائل إنها زوبعة في فنجان، ولكن هذه الزوبعة التي أشرتم إليها ليست بزوبعة وليس لها فنجان، وهي أولى أن يقال فيها ما كان يقول فقيد الجيل في أمثالها: إنها غير ذات موضوع!
فليس في الجماعات الاشتراكية العالمية جماعة أوضح تاريخا وأدق تسجيلا وتدوينا من جماعة الفابيين، وليس في دعوتها ولا في أسلوبها ولا في أعمالها وتطبيقاتها صفحة واحدة مجهولة أو مذهب واحد غير مدروس بتفصيلاته، منذ قامت في أواخر القرن التاسع عشر (1884) إلى اليوم.
والفوارق بينها وبين مذهب كارل ماركس وغيره من مذاهب الشيوعية والاشتراكية، معروفة الأصول والحدود بلا اختلاف وبغير لبس أو غموض.
وأهم الفوارق بينها وبين الشيوعية، أنها لا تؤمن بحرب الطبقات، ولا بضرورة الانقلاب الدموي؛ لتحسين أحوال الأجراء، وتعميم العدالة، وتمكين الجميع في فرص المساواة.
وربما كان أهم من ذلك أن مبادئ الجماعة تقوم على الأسس الأخلاقية قبل قيامها على الأسس المادية الاقتصادية، ووجهتها الكبرى هي بناء المجتمع على أرفع المثل العليا في الآداب الإنسانية، ويرجع ذلك على الأكثر إلى قيامها على آثار الجماعة الخلقية، التي كانت تسمى بجماعة «الحياة الحقة»، وكان يبشر بها توماس دافيدسون المشهور.
والفابيون «تطوريون» وليسوا بانقلابيين. وعندهم أن نشر المعرفة، وتأليب الأنصار من جميع الطبقات، والتوسل بالوسائل الديمقراطية إلى ولاية الحكومة للمرافق العامة؛ أصلح لتحقيق الغرض المقصود من الاشتراكية؛ وهو منع الاستغلال والاحتكار، والتسوية بين الناس في فرص الأعمال، والمشاركة في إدارة الأداة الحكومية.
وإمام هذه الطائفة جون ستيوارت مل، وليس لكارل ماركس إمامة فكرية أو اجتماعية بينهم، بل هم يناقضون فلسفته المادية ولا يكلفون أنفسهم مشقة تعديلها وتنقيحها كما يفعل الماركسيون الذين اشتهروا حديثا باسم المنقحين، ولا يخفى أن المتصوفة الروحية المعروفة «آن بيزانت» كانت من أوائل الفابيين، كما كان منهم كثير من المفكرين الروحيين غير الماديين.
وقد كان للفابيين الفضل الأول في تأسيس حزب العمال البريطاني، بعد استبطاء العمل على إقناع المحافظين والأحرار بالمبادئ التي تؤدي إلى الملكية العامة وإلغاء الاحتكار، ويعزى إلى سدني وب وزوجته بياتريس بوتار أكبر الفضل في التقريب بين الجماعة والمشرفين على نقابات العمال، وقد كان سدني وب وزوجته وبرنارد شو وولز من طلائع الفابيين العاملين في البحث ونشر الدعوة والتوفيق بين طوائف العمال، ولهذا أرادت وزارة العمال أن ترفع برنارد شو إلى رتبة من رتب النبلاء، فكان جوابه على أسلوبه المعهود من التهكم والاستعلاء إنه لا يرتضي لقبا أقل من لقب «الدوق»، ولا يقنع بهذا اللقب لو كان لقب البرنس مما يمنح لغير أفراد الأسرة المالكة، فلا داعية - إذن - للإنعام عليه بما هو دون قدره!
واسم جماعة «الفابيين» يدل على خطتها في الإصلاح؛ لأنها استعارت اسمها من اسم القائد الروماني «فابيوس»، واتبعت في خطتها الاجتماعية خطة هذا القائد في حرب هانيبال. وكان مدار هذه الخطة كلها، على المناوشة والمفاجأة والإرهاق واجتناب اللقاء مع العدو في معركة واحدة، مما يسمونه في تاريخ الحروب بالمعركة الحاسمة، وشعارهم: «إلى الساعة الملائمة فلتنتظر، فإذا حانت هذه الساعة فاضرب.»
وقد ظهر دستور الفابيين في مجموعة من المقالات سميت بالمقالات الفابية، وطبعت سنة 1889 وراجت في البلاد الأوربية رواجا واسعا مطردا، إلى أن صدرت المجموعة الثانية بعد ذلك بنيف وستين سنة (1952).
ولم يكن في الدستور الأخير شيء ينقض دستورها الأول، ولكنها أعادت دراساتها ومباحثها على أضواء التطبيقات الواقعية، بعد قيام الثورة الروسية وظهور التنقيحات العملية والفكرية لفلسفة كارل ماركس والمنشقين عليه، وكان من حجتها القوية أن تجربة الخطة التي اتبعتها فعلا في الإصلاح والبحث ونشر الدعوة، كانت أوفى بتحقيق الأغراض الاشتراكية من خطط الهدم والانقلاب، وأوفق للديمقراطية الصحيحة من التجارب الأخرى في القارة الأوربية وسواها.
ولقد كانت الاشتراكية الفابية نصب عيني حين كتبت في تعزيز الفلسفة الاشتراكية والرد على خصومها قبل أكثر من خمسين سنة، ولا تزال الفابية كما بقيت إلى اليوم أقرب إلى اعتقادي من سائر الجماعات.
مذهب كينز
أما مذهب كينز فهو من مباحث الاقتصاد ولا يحسب من المذاهب الاشتراكية، إلا من بعض نواحيه التي يتناول بها مسألة البطالة ومسألة الادخار ومبلغ أثره في تعريض المجتمعات لمساوئ رأس المال. وقوانينه المشهورة، عن البطالة والاستهلاك والادخار وصك العملة، يمكن أن توضع عند الاشتراكيين وغير الاشتراكيين موضع التطبيق، وليس للقواعد الأخلاقية في مذهبه ذلك الشأن الأصيل في قواعد الآراء الفابية.
ونظن أن الفنجان قد يسلم من الرجرجة - فضلا عن الزوبعة - إذا احتوى جملة هذه الآراء، إلا نقطة أو نقطتين لا تسقطان بعيدا عن طبق الفنجان!
تاريخ عهد الاحتلال
مسودة تحت التبييض والتعديل
على أكبر قدر من الإغضاء والتسامح، لا يسعنا أن نعتبر رواياتنا المكتوبة عن عهد الاحتلال الأخير أكثر من «كناشة مسودة» في حقيبة سائح مستعجل، تجمع بين الخبر والإشاعة، وبين الحكاية الواقعية والأسطورة الخيالية، وبين المبالغة والانتقاص، وبين التلفيق عن جهل وعجلة والاختلاق عن قصد وسوء نية، وبين ما يستحق الإثبات بعد مراجعة كثيرة وما يستحق المحو والإهمال بعد مراجعة واحدة، ولا بد لها من إعادة بعد إعادة بعد ثالثة بعد رابعة، قبل أن تخرج من مكتب التحرير إلى صفاف الحروف، ثم تعرض بعد ذلك لدور آخر من أدوار الحذف والتصحيح.
والقصة الأخيرة التي عرضنا لها في اليوميات الماضية عن صلاة «حسين رشدي باشا وزملائه»، ليست إلا مثلا واحدا من أمثال كثيرة، لا تقل عنها في التلفيق الواضح والحاجة الشديدة إلى المراجعة والتحقيق.
يذكر راو في العراق أبيات حافظ كما أثبتها الدكتور زكي مبارك في بعض كتبه وهو يقحم اسم سعد في الأبيات لغير مناسبة، بل على خلاف كل مناسبة، فينقل الأبيات على الرواية التالية:
سعد يصلي ورشدي
آمنت بالله ربي
يا رب أبق فؤادا
حتى يصلي اللنبي
ولا حاجة إلى مراجعة طويلة لإظهار ما في رواية الدكتور زكي مبارك من خطأ لا يحتمل الخلاف؛ فإن سعدا لم يكن من الرؤساء الذين يدعون إلى المساجد لصلاة الجمعة مع الملك أحمد فؤاد في صحبة حسين رشدي، ولم تكن صلاة رشدي مع أحمد فؤاد أول صلاة له في المساجد حتى يضطر إلى تعلم الفاتحة والتحيات من سعد، ولم تكن هناك ضرورة تدعوه إلى حفظ الفاتحة والتحيات؛ لأنه لا يجهر بهما في صلاة الجمعة. وقد عرف حركات الصلاة قبل ذلك عشرات المرات، منذ كان يصلي مع الخديو عباس الثاني إلى أن تولى رئاسة الوزارة مرة أخرى بعد إعلان الحماية ، إلى أن دخل الوزارة مع عدلي بعد موت حسين كامل وتولية أحمد فؤاد.
ولكن الروايات عن صلاة حسين رشدي في المساجد لا تنتهي بهذه القصة، ولا يكتفي رواة أخبارها باستجهال الرجل وعجزه عن حفظ الفاتحة والتحيات ... ولكنهم يتقولون في هذه الأحدوثة أقاويل شتى، سمعنا بعضها وننقل بعضها كما ورد إلينا في إحدى رسائل اليوميات من الأديب «شوقي عطية»، الطالب الحقوقي بجامعة عين شمس، وقد سمعناها بشيء من التحريف لا يخرج بها عن فحواها المقصود.
قال الطالب الأديب مما تواتر على سمعه: «إن المرحوم حسين رشدي» حضر إحدى الصلوات بمسجد الرفاعي لمناسبة دينية، فلما أقيمت الصلاة قام مع القائمين وسجد مع الساجدين، حتى إذا حان وقت التسليم الأخير لم يذكر «السلام عليكم ورحمة الله»، ولم يجد مخرجا من حرجه إلا أن يقول: بونسوار مسيو، يمينا وشمالا! وراجعه الوزير الجالس إلى جواره فأجابه: «إن الفرنسية لغة دولية، ولا بد أنها محترمة في السماء كما هي في الأرض، فهل كان رشدي على هذا الجهل بلغة بلاده؟ ...»
ونقول للطالب الأديب: كلا! لم يكن رشدي على هذا الجهل في معرفته باللغة العربية، بل كان نطقه المفخم للقاف والطاء والظاء وما إليها، مفارقة من المفارقات التي يتندر بها حافظ إبراهيم - أيضا - في معرض الحديث عن المفارقات المصرية، إذ كان يقارن بين قاف رشدي ابن الترك وقاف سعد ابن الفلاحين، وهي كما يذكر سامعوه قريبة من الكاف، فيقول: آمنت أننا في بلد المفارقات!
ولن يبلغ من جهل أحد - كائنا من كان - بعد أن عاش في مصر أكثر من نصف قرن أن يجهل كلمة «السلام عليكم ورحمة الله»، وهي مما يسمع في كل يوم وفي كل مكان ومن جميع الطبقات، مئات المرات.
ومهما يبلغ من ضعف الذكاء - وقد كان حسين رشدي من أصحاب الذكاء المتوقد - فليس بالعسير على أحد أن يحتال بالتمتمة التي لا تسمع مع أصوات الناطقين بالتسليم، ولا أن يفهم أن التسليم باللغة الفرنسية المسموعة ليس بالمخرج المقبول من الحرج الذي يخشاه، بل هو الحرج كل الحرج؛ إذ لا حرج على الإطلاق في السكوت أو في التمتمة والغمغمة بغير صوت مسموع.
ورواية أخرى من روايات الأبيات المنسوبة إلى حافظ ينبهنا إليها الأديب «شريف سامي»، طالب الهندسة بجامعة أسيوط، وخلاصتها أنه يتذكر أنه قرأ هذه الأبيات بعبارة أخرى، وأنه بالرجوع إلى هلال نوفمبر سنة 1948 وجد النبذة التالية مكتوبة إلى جانب مقال الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني بعنوان: صديقي حافظ إبراهيم. وقد جاء في النبذة أن جمعا من الوزراء ذهبوا للصلاة مع الملك أحمد فؤاد في جامع القلعة، عقب المناداة باستقلال مصر في سنة 1922، وكان منهم أحمد مظلوم وحسين رشدي وإبراهيم فتحي، فأراد حافظ إبراهيم أن يداعبهم لهذه المناسبة فقال:
مظلوم صلى ورشدي
آمنت بالله ربي
وجاء فتحي يصلي
بغير سيف وضرب
يا رب أبق فؤادنا
حتى يصلي اللنبي
قال الطالب الأديب: «وإني أبعث إليكم بمقالي هذا عله يسهم في الوصول إلى الرواية الصحيحة.»
ونقول للطالب المهندس إن «هندسة البيت» الأول قد تقنعه بأن اسم «عدلي» أحق هنا بأن يقرن إلى اسم رشدي، لأسباب كثيرة غير النسق الصوتي؛ وأهمها أنه كان معه في الوزارة من قبل ولاية أحمد فؤاد، وأن صلاة أحمد مظلوم - الذي كان يقال عنه إنه من وزراء «الدقة القديمة» أو وزراء «الالاتركا» - لم يكن فيها من الغرابة ما يدعو حافظا إلى إثبات اسمه ونسيان اسم عدلي في هذا المقام.
وأصاب الطالب المهندس حين قال إن رواية هذه الأبيات بالصيغة التي نقلها عن الهلال، قد تسهم في الوصول إلى الرواية الصحيحة؛ فإنها على الأقل تبعد اسم سعد غاية الإبعاد في هذه المناسبة، وهي مناسبة إعلان الاستقلال في سنة 1922؛ فإن سعدا كان على رأس المنادين بنقص هذا الاستقلال، وكانت مناداته بنقصه سببا لنفيه إلى جزائر سيشل قبل إعلانه. •••
ومما ورد إلينا تعليقا على قصة هذه الأبيات، خطاب مفصل من الأستاذ حسين غالب رشدي، سفير الجمهورية العربية المتحدة سابقا، يعتب فيه على الذين يتجاهلون تاريخ والده هذا التجاهل، وينسون في سبيل النكتة سيرته الحافلة بالجد والفخار في خدمة بلده وقيادة حكومته، مع ما اشتهر به من النزاهة النادرة التي أجمع أصدقاؤه وخصومه على الشهادة بها، والتنويه بالثناء عليها «حتى مات فقيرا من المادة، غنيا بما أسداه لوطنه من جليل الخدمات، فدخل بذلك التاريخ من أوسع أبوابه، واستحق تقدير الوطن.»
ويشير السيد السفير السابق إلى صداقة سعد ورشدي، ثم إلى الخصومة بينهما فيقول: «إن الهجوم من زعيم المعارضة على رئيس الحكومة كثيرا ما كان مدبرا ومتفقا عليه؛ تسهيلا لمأمورية الوزارة، وتمكينا لها من الوصول إلى أهدافها.»
وقد كنا نود أن ننشر هذا الخطاب من «الابن البار»؛ إنصافا لوالده مما يفترى عليه جدا أو هزلا، وقصدا أو على غير قصد، لولا أن صفحة اليوميات تضيق عنه، ولولا أن هذه الإشاعات وما هو من قبيلها جميعا ستظل بحاجة إلى التصحيح الشامل في مقام أوسع من هذا المقام.
ولن يفوت التاريخ إنصاف الوزير رشدي في كل ما هو من حقه، وهو كثير، ولكن العزاء للصابرين على أباطيل هذه الأقاويل أن علاقتها «بالقافية» التي تهذر ولا تعذر في عرف البلد ليست مجهولة عند بنيه!
المسلمون والنظام العسكري
قرأت للأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات، في كتابه تاريخ الأدب العربي، أن «النظام العسكري حتى بعد الإسلام كان غير ثابت ولا منظم؛ لأن المرءوسية والتجرد عن الشخصية، وهما الركنان الأساسيان في العسكرية، يتضادان مع إعجاب العربي بنفسه واعتداده بشخصه.»
وعلى الرغم من مكانة المؤلف، قد ساورني شك في صحة هذا الكلام؛ لأن التاريخ يحدثنا أن المسلمين تناسوا ما بينهم من فروق شخصية ... وكانوا يدينون بالولاء التام لقائدهم الأعلى صاحب الدعوة الإسلامية، ألم يقل له زعيم منهم: «لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك»؟! أليس في قبول خالد العزل ورجوعه إلى صفوف الجند دلالة واضحة على مدى فهم المسلمين للروح العسكرية؟
لقد أثير جدل كثير حول ما كتبه الأستاذ الزيات، ونحن مترقبون قولكم في هذا الخلاف ...
عبد العظيم إبراهيم المطعني
كلية الدراسات العربية
إن ما قرره الأستاذ الزيات صحيح، ولا يغض من صحته ما ذكرتموه من الوقائع والأدلة التاريخية؛ لأن الرياضة على الطاعة بسلطان الدين تثبت النزعة المستقلة في طبائع الأفراد المتفرقة، وكفى بهذه النزعة قوة أن تحتاج إلى رياضة لا تقل في قوتها عن سلطان الإيمان.
لكن «المضادة» بين الطبائع البدوية في الجاهلية وبين النظام الجندي، ليست من الظواهر التاريخية المقصورة على بادية الجاهلية وبادية الإسلام؛ فإن قبائل الترك والجرمان الأقدمين كانوا أهل قتال وحرب، ولم يراضوا على النظام المطاع إلا بعد مئات السنين، وقد كان جنود السلاطين العثمانيين إلى القرن التاسع عشر يثورون على الأوامر العليا كلما خالفت أهواء قادتهم أو تقاليد عسكرهم على العموم، وكانت الفتن والقلاقل بين طوائف الغالبين مضرب المثل على عهد القادة الرومان، وعلى عهود القادة الأسبقين من صميم الجرمان.
ولا يزال الشقاق في صفوف المقاتلين سنة معهودة بين شعوب اللاتين وجيرانهم من أبناء أمريكا الجنوبية.
وربما كان النظام «القبلي» أو نظام العشيرة بين العرب الأولين أسبق نظام عسكري في تواريخ الأمم القديمة قبل الإسلام أو المسيحية، وقد كانت عقوبة «الخلع» حقا على كل من يخرج على النظام في قتاله للجماعات أو للأفراد من أبناء العشائر الأخرى؛ فلا يؤخذ بثأر الخليع ولا يحسب وزره على القبيلة، وقد كان خوف البدوي من الخلع أشد من خوف الجندي العصري من الطرد أو الجزاءات البدنية.
Unknown page