يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النيروسنير حتى يريا كفرسي رهان.
ثم يعقب الدكتور على هذه الشذرة، فيقول: «أما أنا فما أشك في أن أبا العلاء قد قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأي من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطرا؛ وهو إنكار العلة الغائية، وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية معينة من هذه الغايات التي نعرفها نحن، ونزعم أن الأشياء قد خلقت لتحقيقها.»
وعندنا نحن أن سماع الإنسان بيده، أو شمه الروائح بمنكبه لا ينفي العلة الغائية؛ لأن الوسيلة والغاية هنا موجودتان، ولم تختلف إلا الوسيلة التي تتحقق بها الغاية.
وأصوب من هذا أن يقال: إن رأي المعري شبيه برأي المعاصرين الذين يقولون: «إن الوظيفة تسبق العضو، وإن القوة تسبق الظاهرة.»
فإذا وجدت الرغبة في الحركة أو في هضم الطعام وجدت الأعضاء التي تتكفل بأداء هذه الوظيفة على اختلاف الأشكال والأوضاع في أجناس الحيوان.
وللشاعر الإنجليزي «كولردج» - على ما أذكر - كلمة في مصور عظيم يقول فيها: «إنه لمصور ولو خلق بغير ذراعين.» مريدا بذلك أن التصوير وظيفة قبل أن يكون عضوا من الأعضاء، فلو خلق المصورون بغير أذرع لخلقت لهم وسائل أخرى لإبداع ما لا بد أن يبدعوه. •••
وقال الدكتور يخاطب أبا العلاء: ... أنت لا تعرف ما باريس وما أظنها قادرة على أن تصرفك عن حزنك وتشاؤمك، بل أنا واثق بأنك لو عرفتها لأمعنت في حزنك وتشاؤمك كشأنك حين عرفت بغداد، أما أنا فإن باريس تصرفني عن الحزن والتشاؤم، وتثير في نفسي لذات عقلية ليست أقل من هذه اللذات التي أجدها في الحديث إليك والحديث عنك، وهي على كل حال تزعجني عن سجنك الذي كنت أود لو أطيل المقام فيه: ومن يدري لعلي أسأم لذات باريس، فأفزع منها إليك من حين إلى حين، فليكن وداعي لك الآن موقوتا، ولأقل لك في لهجة المحب المشفق الوامق: إلى اللقاء.
فالدكتور واثق بأن أبا العلاء لن يكون في باريس إلا كما كان في بغداد.
فما باله أراد مني أن أجعل أبا العلاء يرى في باريس ما يراه السائحون، ويقول فيها ما يقوله أولئك السائحون؟
في هذه أنا أيضا أقرب إلى وفاق الصداقة من الدكتور.
Unknown page