وقد تركت أمل القيادة العسكرية منذ الصبا الباكر، ولكني لم أتركه إلا في الظاهر الذي لا يتعدى الملابس والأزياء.
فما هو إلا أن أسلمتني المناوشات الصبيانية إلى نظم الشعر للتحدي والمناجزة، حتى انتقلت إلى عالم التعبير والكتابة، وانتقلت إلى هذا العالم الأدبي لأناضل، وأقضي العمر كله في نضال باطن بيني وبين نفسي ونضال ظاهر بيني وبين الآخرين.
فما الغرابة في التوفيق بين هذه الأماني؟ وما الصعوبة في هذا التوفيق؟ وأيهما سهل وأدنى إلى القبول: تعليل كل أمنية بالطموح وليس هو بالتعليل الشافي ولا بالتعليل الصحيح، أو النظر إلى ما وراء الطموح من بواعث متقاربات تتلاقى عندها الظواهر المتباعدات؟
الراحة الكبرى تنال على جسر من التعب كما قال أبو تمام، والسهولة الكبرى في تعليل الحقائق تنال بعد خطوات من السهولة العارضة على وجه الأمور، ولكنها بعد اجتياز هذه الخطوات أسهل من كل سهل قريب؛ لأن هذا السهل القريب لا يؤدي إلى شيء، ولا يستريح الواقف لديه.
الفصل الرابع والعشرون
التلباثي (1)
سألني أحد الأدباء أن أشرح «التلباثي» الذي ورد في كتاب عبقرية عمر. •••
والإشارة إلى التلباثي في كتاب «عبقرية عمر» قد جاءت في سياق الكلام على قصة سارية، حيث روينا أنه «كان - رضي الله عنه - يخطب بالمدينة خطبة الجمعة، فالتفت من الخطبة ونادى: يا سارية بن حصن ... الجبل الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.» «فلم يفهم السامعون مراده، وقضى صلاته فسأله علي رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أوسمعته؟ قال: نعم، أنا وكل من في المسجد، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج مني هذا الكلام.»
وإنه «جاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتا يشبه صوت عمر يقول: يا سارية بن حصن ... الجبل الجبل! فعدلنا إليه ففتح الله علينا.»
ثم عقبنا على القصة قائلين: «إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهورا بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية؛ إما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد.»
Unknown page