al-wiʿāʾ al-marmarī
الوعاء المرمري
Genres
وعلا صوت يكسوم قائلا: دعوه فإن لي معه شأنا.
وقام من مجلسه متجها إلى سيف بنظرة فيها سخط وفيها وعيد، وقال في حقد: ما زلت تملأ شدقيك غرورا وعداوة، ولولا أن يقول الناس إنني بدأت بأخ لمسروق وبابن لريحانة لما أبقيت عليك ساعة، ولكن مهلا حتى ترى مصارع أصحابك. لست أدعوك إلى التجمل ولا إلى الموادعة، اذهب إلى من تسميهم قومك فانظر ما تستطيع أن تصنع بهم، وابحث فيهم عمن تحمله على غرورك. لن أعيد عليك بعد اليوم لفظا. أو عد إلى مجالسك حيث كنت مع النساء.
ثم قهقه ساخرا وسار خارجا من الإيوان، وحراسه يسيرون وراءه ومن حوله سراعا، وبقي سيف واقفا في مكانه يحس قدميه ثقيلتين كأنه في كابوس. ودار به رأسه فلم يدر أين هو، وغابت عنه أشخاص القوم وراء الأروقة، وسأل نفسه وهو يسير كالمذهول: «أحقا هذه الحوادث التي أشهدها؟ أحقا ودعت خيلاء آخر الدهر؟ ورأيت صاحبي الشيخ يحجل في قيوده بين الجنود الغلاظ، وسمعت يكسوم يسخر مني ويقهقه متحديا؟» ولمس سيفه فوجد مقبضه باردا في قبضته المحمومة، وجذبه من قرابه فخرج منه مقدار شبر تتردد فيه لمعة زرقاء صارمة، وقال في مرارة: «لم يبق لي غير هذا.» •••
وخرج في أصيل اليوم التالي يودع خيلاء عند باب صنعاء، فلو وقف رجل على شاطئ بحر هائج في يوم عاصف وحول يديه ورجليه أغلال وقيود ثقيلة من الفولاذ، ورأى أعز الناس عنده يجاهد الموج المفترس حتى تخور قواه، ويغيب تحت الماء بغير أن يستطيع أن يمد إليه يدا أو يخطو نحوه خطوة، لما كان أشد من سيف يأسا وحنقا وحزنا في موقفه وهو ينظر إلى ركب الراهبات اللاتي ذهبن بخيلاء على طريق نجران. وهم بالسير وراء الركب، فأشارت كبرى الراهبات إليه أن يبقى حيث هو، وكانت إشارتها هادئة وديعة، ولكنها صارمة. ونظر نحو هودج خيلاء يحاول أن يلاقي نظرة منها، يتخذ منها آخر ذخيرة للذكرى، فرآها مطرقة تضم الصليب إلى جبينها وتميل برأسها في خشوع تصلي، ولا ترفع بصرها إلى شيء. وكاد يصيح صارخا يدعوها دعوة يائسة إلى البقاء، ولكن صوته لم يطاوعه، وسارت الإبل تميل بهوادجها على رسلها لا تبالي شيئا من أمامها ولا من ورائها. وأخذ النسيم يرف بأستار المحامل كأنه يلوح بتحية حائرة مضطربة، حتى غاب الركب وراء ثنية الطريق. وبقي سيف في موقفه حينا ينظر في الفراغ الصامت، وفي قلبه حرقة طفل ينزع من بين ذراعي أمه، ويعجزه الضعف أن يلحق بها. ولم يدر كم مضى عليه من الوقت وهو هناك ثابتا لاهيا عن كل شيء سوى حزنه. ثم تنبه إلى نفسه يسألها كأنه لا يعرف الحقيقة، فكأن مسالك الفضاء قد سدت دونه، وكأن نور الأصيل قد خبا فعاد ظلاما، وكأن الربيع قد تعطل من محاسنه وشحب لون زهره، وكأن أشعة الشمس الخابية تقذف شررا. وتلفت إلى ورائه نحو القصر الكئيب، وهمت به دفعة أن يهرب منه كما يهرب المخبول من الأشباح التي تطارده، ولكن إلى أين؟ واقتلع قدميه يسير على غير هدى، فإذا هو يعود إلى القصر، حتى إذا بلغه ذهب إلى البهو، ووقف عند الوعاء المرمري، ولكنه وجده صامتا جامدا فاترا، لا يزيد على قطعة من الحجر. وذهب إلى حجرة خيلاء لعله يتنسم من قبلها أنفاسا تبعث إليه شيئا من السلام، ولكنها كانت مثل طلل في صحراء مقفرة بعد أن غادرتها خيلاء، فعاد نحو حجرته. وكان لا يزداد مع كل خطوة إلا ضيقا، حتى أفاق على الحارس الحبشي يعترضه مثل تمثال من نحاس قائلا: لا يؤذن لأحد في الدخول إلى هنا.
فلم يجبه ولم ينظر إليه، ومضى في سيره كالحالم، حتى أعاد عليه الحبشي قوله مرتين، ثم رآه يسد طريقه بسنان الحربة، فنظر سيف إليه في سخط، ثم سار خارجا حتى بلغ مرابط الخيل، فأخذ مهره الأبيض وخرج من الباب الخلفي إلى طريق الشمال، «إلى أين؟» لم يدر سيف إلى أين يتجه بعد أن وجد نفسه فجأة على الطريق الخالية، فإنه كان إلى تلك اللحظة منقطعا إلى نفسه وأحلامها وخواطرها وأشجانها وأحاديثها المختلفة، فلم يفكر ساعة واحدة في خطة لحياته، ولم يصرف ذهنه مرة واحدة إلى الحقائق التي كان لا بد له من مقابلتها. أهكذا يخرج من حياة إلى حياة أخرى، كمن يلقي بنفسه إلى البحر عندما يجد نفسه على شاطئه؟ وتذكر قول أمه إذ قالت له: «إنك أسلمت نفسك للخيال، حتى إذا عدت إلى الحقائق وجدتها تصدمك وتهزمك وتجرفك.» نعم، كانت الحقيقة تجرفه وهو لا يدري إلى أين.
وجاء الليل على بطء يستصحب مرارة العجز وحر القيظ، وضيق الوحشة، وخلف سيف المدينة وراء ظهره، يرى من أمامه ظلاما ومن خلفه ظلاما، وفي قلبه ما هو أشد سوادا من الظلام. وأخذت النجوم تلمع من فوقه صامتة هادئة لا تبالي شيئا من الهموم التي تثقل قلوب البشر.
أهكذا خرج أبو مرة في ظلام الليل وحيدا لا يعرف قرارا يستقر فيه؟ وأين ذهب؟ أما زال حيا؟ أم قضى عليه الهم والأسى؟
وكان النسيم يهب من الجنوب يحمل عطر أزهار الربيع، كأن ليس على الأرض طريد محروم يهيم على وجهه وحيدا. وعاد فكره إلى خيلاء في شيء من العتب، كأنها قد تخلفت عنه وقطعت ما بينهما عمدا. أكانت في تلك الساعة تنظر مثله إلى السماء، وترى النجوم البعيدة تومض إليها كما تومض إليه غامضة رهيبة؟ أما يتجه فكرها إليه كما يتجه هو بكل قلبه إليها؟ أم هي تصرف عنه فكرها خشية الخطيئة؟
وكانت الآكام تحف بطريقه من جانبيه، والطريق ينفرج في الضوء المنبعث من النجوم، والجواد يسير على رسله والعنان مرخى على كاهله، وقال في نفسه: «أيها الجواد، سر أين شئت، فأنت أهدى مني.» ومسح على معرفته في عطف وشكر.
لم يدر كم مضى عليه في سيره، ثم أحس بالجواد يصعد في أرض صلبة، وتلفت فإذا عن يمينه وشماله هوتان عميقتان مظلمتان، ومن أمامه قصر عال يقطع صفحة السماء عابسا، «إنه قصر ذي جدن!» ونزل كأنه يتحرك في نومه متجها نحو الباب المغلق وطرقه، فجاء إليه الحارس بعد حين يطل من كوة صغيرة قائلا في نغمة جافية: من أنت؟
Unknown page