الشعر، فتصفّح شعر جرير وذي الرّمة في القدماء، والبحتري في المتأخرين، وتتبّع نسيب متيّمي العرب، ومتغزّلي أهلِ الحجاز؛ كعُمر، وكُثيّر، وجميل، ونُصَيب، وأضرابهم، وقسْهم بمَن هو أجود منهم شعرًا، وأفصح لفظًا وسبكًا؛ ثم انظر واحكم وأنْصف، ودعْني من قولك: هل زاد على كذا! وهل قال إلا ما قاله فلان! فإن روعة اللفظ تسبق بك الى الحكم، وإنما تفضي الى المعنى عند التفتيش والكشف. ومِلاكُ الأمر في هذا الباب خاصة تركُ التكلّف ورفضُ التعمّل والاسترسالُ للطبع، وتجنّب الحمْل عليه والعنف به؛ ولستُ أعني بهذا كلّ طبْع، بل المهذّب الذي قد صقله الأدب، وشحذَتْه الرّواية، وجلَتْه الفِطنة، وأُلْهِمَ الفصل بين الرديء والجيد، وتصوّرَ أمثلة الحسن والقبح.
السهل الممتنع من شعر البحتري
ومتى أردت أن تعرف ذلك عِيانًا، وتستثبته مُواجهة، فتعرفَ فرق ما بين المصنوع والمطبوع، وفضْل ما بين السمْح المنقاد والعَصيّ المستكرَه فاعمِد الى شعر البحتري، ودعْ ما يصدر به الاختيار، ويُعَدّ في أول مراتب الجودة، ويتبيّن فيه أثرُ الاحتفال، وعليك بما قاله عن عفْو خاطره، وأوّل فكرته، كقوله:
أُلامُ على هواكِ وليس عدلًا ... إذا أحببْتُ مثلكِ أنْ أُلاما
أَعيدي فيّ نظرةَ مُستَثيبٍ ... توخّى الأجْرَ أو كرِه الأثاما
تَريْ كبِدًا محرّقةً وعينا ... مؤرّقة وقلبًا مستهاما
تناءت دارُ عَلْوة بعد قُرْبٍ ... فهل ركْبٌ يبلِّغُها السّلاما
وجدّد طيفُها عتْبًا علينا ... فما يعْتادُنا إلا لِماما
1 / 25