بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
التفاضل - أطال الله بقاءك - داعيةُ التنافس؛ والتنافسُ سبب التحاسد؛ وأهل النقص رجلان: رجل أتاه التقصيرُ من قبَله، وقعَد به عن الكمال اختيارُه، فهو يساهم الفضلاءَ بطبعه، ويحنو علي الفضل بقدر سهمهِ؛ وآخرُ رأى النقص ممتزجًا بخِلقَته، ومؤثّلًا في تركيب فطرته، فاستشْعر اليأس من زواله، وقصُرتْ به الهمةُ عن انتقاله؛ فلجأ الى حسَد الأفاضل، واستغاث بانتقاص الأماثل؛ يرى أن أبلغَ الأمور في جبر نقيصته، وستْر ما كشفه العجزُ عن عورته اجتذابُهم الى مُشاركته، ووسمُهم بمثل سِمَتِه، وقد قيل:
وإذا أرادَ اللهُ نشْرَ فضيلةٍ ... طُوِيَت أتاحَ لها لِسانَ حسودِ
صدق والله وأحسن! كم من فضيلة لو لم تستَتِرْها المحاسد لم تبرحْ في الصدور كامنة، ومنقبةٍ لو لم تُزْعِجْها المنافسة لبقيت على حالها ساكنة! لكنها برزتْ فتناولتْها ألسنُ الحسَّد تجلوها، وهي تظن أنها تمحوها، وتشهَرُها وهي تحاول
1 / 1
أن تستُرَها؛ حتى عثَر بها مَن يعرف حقها، واهتدى إليها مَنْ هو أولى بها، فظهرت على لسانه في أحسن معرِض، واكتست من فضله أزينَ ملبس؛ فعادت بعد الخمول نابهة، وبعد الذبول ناضرة، وتمكنت من برِّ والدها فنوّهت بذكره، وقدَرت على قضاء حقِّ صاحبها فرفعت من قَدْره (وعَسى أن تكْرَهوا شيْئًا وهُوَ خيرٌ لكُم) .
ولم تزَل العلومُ - أيّدك الله - لأهلها أنسابًا تتناصرُ بها، والآدابُ لأبنائها أرحامًا تتواصل عليها، وأدنى الشِّرك في نسب جوار، وأول حقوق الجار الامتعاضُ له، والمحاماةُ دونه، وما مَنْ حفظ دمه أن يُسفك، بأولى ممّن رَعى حريمه أن يهتك ولا حرمةَ أولى بالعناية، وأحقُّ بالحماية، وأجدر أن يبذل الكريمُ دونها عِرضَه، ويمتهن في إعزازها مالَه ونفسَه من حُرمة العلم الذي هو روْنَق وجْهه، ووقاية قدْره، ومَنار اسمه، ومَطيّة ذِكره.
وبحَسَب عِظَم مزيته وعلوّ مرتبته يعظم حقّ التشارك فيه، وكما تجب حياطتُه، تجب حياطة المتّصل به وبسببه، وما عقوق الوالد البَرّ، وقطيعةُ الأخ المشفِق، بأشنعَ ذِكرًا، ولا أقبح وسْمًا من عقوق من ناسبَك الى أكرم آبائك، وشاركك في أفخر أنسابك، وقاسمك في أزين أوصافك، ومتَّى إليك بما هو حظّك من الشرف، وذريعتُك الى الفخر.
وكما ليس من شرْط صِلَة رحمك أن تحيف لها على الحق، أو تميلَ في نصرها عن القصد، فكذلك ليس من حُكم مراعاة الأدب أن تعدِل لأجله عن الإنصاف، أو تخرج في بابه الى الإسراف، بل تتصرّف على حكم العدل كيف صرَفك، وتقف على رسْمه كيف وقفَك، فتنتَصِف تارة وتعتذر أخرى، وتجعل الإقرار بالحق عليك
1 / 2
شاهدًا لك إذا أنكرت، وتقيم الاستسلام للحجة - إذا قامت - محتجًا عنك إذا خالَفْت، فإنه لا حال أشدّ استعطافًا للقلوب المنحرفة، وأكثر استمالةً للنفوس المشمئزة، من توقّفك عند الشُبهة إذا عرَضت، واسترسالِك للحجة إذا قهرت، والحكمِ على نفسك إذا تحققت الدعوى عليها، وتنبيه خصمك على مكامن حيَلك إذا ذهب عنها؛ ومت عُرفْت بذلك صار قولُك برهانًا مسلَّمًا، ورأيك دليلًا قاطعًا، واتهم خصمُك ما علمه وتيقنه، وشكّ فيما حفظه وأتقنه، وارتاب بشهوده وإن عدّلتهم المحبة، وجَبُن عن إظهار حُججه وإن لم تكن فيها غميزة، وتحامتك الخواطر فلم تقدم عليك إلا بعد الثقة، وهابتك الألسُن فلم تعرض لك إلا في الفَرْط والنُدرة.
وما زلتُ أرى أهل الأدب - منذ ألحقتني الرغبةُ بجملتهم، ووصلَت العنايةُ بيني وبينهم - في أبي الطيب أحمد بنِ الحسين المتنبي فئتين: من مُطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته، منحطّ في هواه بلسانه وقلبه، يلتقي مناقِبَه إذا ذُكِرت بالتعظيم، ويُشيع محاسنه إذا حُكيت بالتفخيم، ويُعجَب ويعيد ويكرر، ويميل على من عابه بالزِّراية والتقصير، ويتناول من ينقصُه بالاستحقار والتجهيل؛ فإن عثَر على بيت مختلّ النظام، أو نِبَه على لفظ ناقص عن التمام التزم من نُصرة خطئه، وتحسين زلَله ما يُزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقام المنتصر. وعائبٍ يروم إزالتَه عن رُتبته، فلم يسلّم له فضله، ويحاول حطّه عن منزلةٍ بوّأه إياها أدبُه؛ فهو يجتهدُ في إخفاء فضائله، وإظهار مَعايبه، وتتبع سقطاتِه، وإذاعة غَفلاته.
وكلا الفريقين إما ظالمٌ له أو للأدب فيه؛ وكما أن الانتصار جانبٌ من العدْل لا يسدّه الاعتذار؛ فكذلك الاعتذار جانب هو أولى به من الانتصار، ومَن لم يفرِّق
1 / 3
بينهما وقفت به المَلامةُ بين تفريط المقصّر، وإسراف المفرِط؛ وقد جعل الله لكل شيء قدْرًا، وأقام بين كل حديث فصْلًا؛ وليس يطالَب البَشر بما ليس في طبع البشر، ولا يُلتَمس عند الآدميّ إلا ما كان من طبيعة ولدِ آدم؛ وإذا كانت الخلقة مبنيةً على السهو وممزوجة بالنسيان؛ فاستسقاط من عزّ حالُه حيْف، والتحامُل على من وُجِّه إليه ظلم.
وللفضل آثارٌ ظاهرة، وللتقدم شواهدُ صادقة، فمتى وجِدتْ تلك الآثار، وشوهدت هذه الشواهد فصاحبُها فاضل متقدم؛ فإن عُثِر له من بعدُ على زلّة، ووحدت له بعَقِب الإحسان هفْوة انتُحِل له عذرٌ صادق، أو رُخصة سائِغة؛ فإن أعوز قيل: زلّة عالم، وقلّ من خَلا منها، وأيُّ الرجال المهذب! ولولا هذه الحكومة لبطل التفضيل، ولزال الجَرْح ولم يكن لقولنا فاضل معنى يوجد أبدًا، ولم نسِمْ به إذا أردنا حقيقة أحدًا، وأي عالم سمعت به ولم يزلّ ويغلط! أو شاعر انتهى إليك ذكره لم يهْفُ ولم يسقط!
أغاليط الشعراء
ودونك هذه الدواوين الجاهلية والإسلامية فانظر هل تجد فيها قصيدة تسلم من بيت أو أكثر لا يمكن لعائب القدْح فيه؛ إما في لفظه ونظمه، أو ترتيبه وتقسيمه، أو معناه، أو إعرابه؟ ولولا أن أهلَ الجاهلية جُدّوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة، والأعلام والحجة، لوجدتَ كثيرًا من أشعارهم معيبة مسترذَلة، ومردودة منفية، لكن هذا الظنّ الجميل والاعتقاد الحسن ستر عليهم، ونفى الظِّنة عنهم، فذهبت الخواطر في الذبّ عنهم كلّ مذهب، وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام،
1 / 4
وما أراك - أدام الله توفيقك - إذا سمعتَ قول امرئ القيس:
أيا راكبًا بلّغَ إخواننا ... مَن كان من كِندَة أو وائل
فنصب بلغ، وقوله:
فاليوْم أشْرَبْ غيرَ مُستَحقِبٍ ... إثْمًا من الله ولا واغِلِ
فسكن أشرب، وقوله:
لَها مَتْنَتان خَظاتا كمًا ... أكبّ على ساعدَيْه النّمِرْ
فأسقط النون من خَظاتَا لغير إضافة ظاهرة.
وقول لبيد:
تَرّاكَ أمكنة إذا لم أرْضَها ... أو يرتَبطْ بعض النّفوسِ حِمامُها
فسكن يرتبطْ ولا عمل فيها للَم. وقول طرفة:
قد رُفِع الفَخّ فماذا تحذَري
فحذف النون. وقول الأسدي:
1 / 5
كنا نرقّعها وقد مُزِّقت ... واتسع الخرْق على الراقع
فسكن نرقّعها. وقال الآخر:
تأبى قُضاعة أن تعْرِفْ لكمْ نسَبًا ... وابْنا نِزار وأنتُم بيضَةُ البَلَدِ
فسكن تعرف، وقول الآخر:
يا عَجَبًا والدهر جمٌ عجبُهْ ... من عَنْزيٍّ سبّني لم أضرِبُهْ
فرفع أضربه. وقول الفرزدق:
وعضُّ زمانٍ يا بْنَ مرْوانَ لم يدَعْ ... من المالِ إلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ
فضم مجلَّفًا. وقول ذي الخِرَق الطُّهَوي:
يقول الخَنى وأبغَضُ العُجْم ناطِقًا ... الى ربنا صُوْتُ الحمار اليُجَدَّعُ
فأدخل الألف واللام على الفعل. وقول رؤبة:
1 / 6
أقْفرَتِ الوعْثاء والعُثاعثُ ... من بعْدهم والبُرَق البَرارِثُ
وإنما هي البِراث جمع برَث؛ وهي الأماكن السهلة من الأرض، وروى البَوارث وكأنه جمع بارثة.
وقول بعض الرّجّاز؛ أنشده المفضّل:
كانت عجوزًا عُمِّرتْ زمانا ... وهي ترى سَيْئَها إحسانا
تعرفُ منها الأنفَ والعَينانا
ففتح النون من العينانا. وقول آخر منهم - أنشده أبو زيد:
طاروا عليهنّ فطِرْ عَلاها ... واشدُدْ بمَثنى حَقَب حَقواها
ناجيةً وناجيًا أباها
فرفع حَقواها، وحقّه النصب، كما قد نصب أباها، وحقّه الرفع. وقول الأقيشر:
وقد بَدا هَنْك من المئْزرِ
1 / 7
وقول نقيع بن جُرموز:
أطوّفُ ما أطوفُ ثم آوي ... الى أمَّى ويرويني النقيعُ
فأدخل الألف في أمّى لغير نداء ولا ضرورة.
وغيرُ هذا مما هو أسهلُ منه قول امرئ القيس:
كأن ثَبيرًا من عَرانين وبْلهِ ... كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مزمَّلِ
فخفض مُزَمّلا، وهو وصفُ كبير. وقول الفرزدق:
بخيْرِ يَدَيْ منْ كان بعد محمّدٍ ... وجارَيْه والمقتولِ للهِ صائمِ
فخفض صائم. وقول رؤبة:
قد شفّها النوح بمأزولٍ ضيَقْ
ففتح الياء. ومثال ذلك مما يُخرِج الكتاب عن غرضه.
ثم اسعرضتَ إنْكارَ الأصمعي وأبي زيد وغيرهما هذه الأبيات وأشباهها، وما جرى بين عبد الله بن أبي إسحاق الحضرَمي والفرزدق في أقواله ولحنه في قوله:
1 / 8
فلوْ كانَ عبدُ اللهِ موْلًى هجوتُهُ ... ولكنّ عبدَ الله موْلى مَوالِيا
ففتح الياء من موالي في حال الجر، وما جرى له مع عنْبَسَة الفيل النحوي حتى قال فيه:
لقد كان في معْدان والفيل شاغل ... لعنبَسَة الرّاوي عليّ القصائدا
وما كان القدماء يتّبعونه في أشعار الأوائل من لحن وغلط وإحالة وفساد معنى؛ حتى قال البرْدَخْت لبعض النحويين:
لقد كان في عينيك يا حفصُ شاغل ... وأنف كمثلِ العودِ مما تتبَّعُ
تتبّع لحنًا في كلام مرقّشٍ ... وخلْقُك مبنيٌّ على اللحن أجمع
فعيناك إقواء وأنفك مكْفأ ... ووجهُك إيطاء فأنت المرقّع
1 / 9
وقول الأصمعي في الكميت: جُرمُقانيّ من جَراميق الشام لا يُحتجّ بشعره، وما أنكره من شعر الطّرمّاح، ولحّن فيه ذا الرُمّة.
ثم تصفحتَ مع ذلك ما تكلّفه النحويون لهم من الاحتجاج إذا أمكن: تارة بطلب التخفيف عند توالي الحركات، ومرة بالإتباع والمجاورة؛ وما شاكلَ ذلك من المعاذير المتمحَّلة، وتغيير الرواية إذا ضاقت الحجّة؛ وتبيّنتَ ما راموه في ذلك من المَرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصّعبة، التي يشهد القلب أن المحرّك لها، والباعث عليها شدةُ إعظام المتقدم، والكلَفُ بنُصرة ما سبق إليه الاعتقاد، وألِفته النفس.
عود إلى أغاليط الشعراء
ثم عدتَ الى ما عدّده العلماء من أغاليطهم في المعاني، كقول امرئ القيس:
وأركبُ في الرّوع خيْفانةً ... كسا وجْهَها شعرٌ مُنتشِرْ
وهذا عيبٌ في الخيل. وقول زهير:
يخرُجن من شرَباتٍ ماؤها طحِلٌ ... على الجذوع يخفن الغمّ والغرقا
1 / 10
والضفادع لا تخاف شيئًا من ذلك. وقول سلَمة بن الخُرشُب:
إذا كان الحِزامُ لقُصرَيَيْها ... أمامًا حيث يمتسِك البَريم
يقول: إن الحزامَ يقرب في جولانه إذا أكثر من عدْوِه فيصير أمام القصريين.
قال الأصمعي: أخطأ في الوصف؛ لأن خيرَ جرْي الإناث الخُضوع، وإنما يُختار الإشراف في جرْي الذكور، فإذا اختضعت تقدّم الحزام، كما قال بِشر بن أبي خازم:
نَسوفٍ للحِزامِ بمرفَقَيها ... يسدّ خَواء طُبْيَيْها الغُبارُ
وقد ساعد متمِّمُ بن نويرة على هذا الوصف سلَمة فقال:
وكأنه فوتَ الجوالِب جانِئًا ... رِئْمٌ تضايَفَه كلابٌ أخضَع
1 / 11
فوصف الذكر بالخضوع، وإنما يُختار له الإشتراف. وكقول الجعْدي:
كأن تواليهما بالضّحى ... نواعم جَعْل من الأثْأبِ
والجَعْل: صغار النخل، وإنما المراد الكبار، وبه يصحّ الوصفُ فيما زعموا.
وقول أبي ذؤيب يصف الفرس:
قصَرَ الصّبوحَ لها فشُرِّجَ لحمُها ... بالنِّيّ فهْي تَثوخُ فيها الإصبَعُ
قال الأصمعي: حمارُ القصّار خيرٌ من هذا، وإنما يوصف الفرسُ بصلابة اللحم وقول أبي النّجم:
تسبح أُخْراه ويطفو أوّله
واضطراب مآخيرِ الفرس قبيح. وقول المسيّب بن علَس:
وكأنّ غارِبَها رباوة مخرِمٍ ... وتَمُدّ ثِنْي جديلها بشَراع
أراد تشبيه العُنق بالدّقل فغلط، كما غلط طرَفة في السُكان فقال:
كسُكّان بوصيّ بدَجْلَة مُصعِد
1 / 12
وإنما يريد الدّقَل. وقول امرئ القيس:
إذا ما الثّريا في السماءِ تعرّضَتْ ... تعرُّضَ أثناء الوِشاحِ المفصَّلِ
والثريا لا تتعرّض، وإنما تتعرض الجوزاء. وقول رؤبة:
كنتم كمن أدخل في جُحْر يَدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
فجعل الأفعى دون الأسود، وهي أشدّ نكاية منه. وقول زهير:
كأحْمرِ عادٍ ثم تُرضِعْ فتَفطِم
وإنما هي أحْمر ثمود. وقول ليلى، ويروى لحُمَيد:
لما تخايلت الحُمول حسبتها ... دومًا بأيلَة ناعمًا مكْموما
والدّوْم لا أكمام له.
هذا ما يعرفونه صباحًا مساءً. ويمارسونه على طول الدهر؛ فدعْ ما يخفى عليهم ويبعُد عن أبصارهم. كقول أبي ذؤيب في الدُرّة:
فجاءَ بها ما شِئتَ من لطَميّة ... يدور الفراتُ حولَها ويموجُ
1 / 13
فالفرات هو العذْب، والدرُّ، لا يوجد إلا في المِلْح. وقول الآخر:
فيه الرماحُ وفيه كلّ سابغة ... جدْلاء مُحكَمةٍ من نسْجِ سلاّمِ
وقول الآخر:
وكلّ صَموتٍ نثْلَةٍ تُبّعيّةٍ ... ونسْجُ سُلَيمٍ كلّ قضّاء ذائِل
أرادا داود فغلطا الى سليمان، ثم حرّفا اسمه فقال أحدهما: سلاّم وقال الآخر سُلَيم، كما قال الآخر: والشيخ عثمان بن عف أراد ابن عفان. وقال الآخر:
ومحوَرٍ أُخلِص من ماء اليَلَبْ
جعل اليَلَب حديدًا وإنما هي سُيور؛ كما قال غيره:
لم تدْرِ ما نسجُ اليرَنْدَج قبْلَها
فإنه ظن أن اليرندج نسج، وإنما اليرَندَج جلود. وقول الآخر:
1 / 14
برّيّة لم تأكل المرَقّقا ... ولم تذُقْ من البُقول الفُستُقا
فجعل الفُستُق بقْلًا.
وأشبه ذلك مما يكثر تعقبه، ولم نذكر إلا اليسيرَ منه فيما نريده - شككتَ في أن نفْعَ هذا الحكم عام، وجدْواه شامل، وأن المتقدم يضْرب فيه بسهم المتأخر، والجاهليّ يأخذ منه ما يأخذ الإسلامي، وأنه قول لا حظّ له في العصبية، ولا نسبَ بينه وبين التحامل.
وليس يجب إذا رأيتني أمدح محدَثًا أو أذكر محاسن حضَريّ أن تظن بي الانحرافَ عن متقدم، أو تنسُبني الى الغضّ من بدوي؛ بل يجب أن تنظر مغْزاي فيه، وأن تكشف عن مقصدي منه، ثم تحكم عليّ حكم المنصف المتثبت، وتقضي قضاء المُقسِط المتوقّف.
الشعر
أنا أقول - أيدك الله - إن الشعر علمٌ من علوم العرب يشترك فيه الطبعُ والرّواية والذكاء، ثم تكون الدُّرْبَة مادةً له، وقوة لكل واحد من أسبابه؛ فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرِّز؛ وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان، ولست أفضّل في هذه القضية بين القديم والمحدث، والجاهلي والمُخضرِم، والأعرابي والمولَّد؛ إلا أنني أرى حاجة المحْدَث الى الرواية أمَسّ، وأجده الى كثرة
1 / 15
الحفظ أفقر؛ فإذا استكشفْت عن هذه الحالة وحدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يمكنه تناولُ ألفاظ العرب، إلا رِواية؛ ولا طريقَ للرواية إلا السمع؛ وملاكُ الرواية الحفظ، وقد كانت العرب تروي وتحفظ، ويُعرف بعضها برواية شعرِ بعض؛ كما قيل: إن زهيرًا كان راوية أوْس، وإن الحُطيْئَة راوية زهير، وإن أبا ذؤيب راوية ساعدة بن جؤيّة؛ فبلغ هؤلاء في الشعر حيثُ تراهم، وكان عبيد راوية الأعشى ولم تُسمَع له كلمة تامة، كما لم يسمع لحسين راوية جرير، ومحمد بن سهل راوية الكميت، والسائب راوية كثيّر؛ غير أنها كانت بالطبع أشدّ ثقة وإليه أكثر استئناسًا؛ وأنت تعلم أن العرب مشتركة في اللغة واللسان، وأنها سواء في المنطق والعبارة، وإنما تَفضُل القبيلةُ أختها بشيء من الفصاحة. ثم تجد الرجل منها شاعرًا مُفْلقًا، وابنَ عمه وجار جَنابه ولصيقَ طُنُبه بكيئًا مفحَمًا؛ وتجد فيها الشاعرَ أشعرَ من الشاعر، والخطيبَ أبلغَ من الخطيب؛ فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدّة القريحة والفِطنة!
وهذه أمور عامة في جنس البشر لا تخصيص لها بالأعْصار، ولا يتّصف بها دهر دون دهر. فإن قلت: فما بالُ المتقدمين خُصّوا بمتانة الكلام وجزالة المنطق وفخامة الشعر، حتى إن أعْلَمَنا باللغة وأكثرَنا رِواية للغريب لو حفظ كلّ ما ضمّت الدواوينُ المرويّة، والكتبُ المصنفة من شعر فحْل، وخبر فصيح، ولفظ رائع - ونحن نعلم أن معظم هذه اللغة مضبوط مرويّ، وجلّ الغريب محفوظ منقول - ثم أعانه الله بأصحّ طبع وأثقب ذهن وأنفذ قريحة، ثم حاول أن يقول قصيدة، أو يقرضَ بيتًا يُقارب شعر امرئ القيس وزهير، في فخامته وقوة أسْره، وصلابة معجَمه لوجده أبعد من العيّوق مُتناولًا، وأصعبَ من الكبريت الأحمر مطلبًا؟ قلت: أحلتُك
1 / 16
على ما قالت العلماء في حمّاد وخلَف وابن دأْب وأضرابِهم، ممن نحلَ القدماء شعرَه فاندمج في أثناء شعرهم، وغلب في أضعافه، وصعُب على أهل العناية إفرادُه وتعسّر، مع شدة الصعوبة حتى تكلّف فلْي الدواوين واستقراءُ القصائد فنُفِي منها ما لعلّه أمتن وأفخم، وأجمع لوجوه الجوْدة وأسباب الاختيار مما أثبت وقُبِل. وهؤلاء مُحدثون حضريّون، وفي العصر الذي فسد فيه اللسان، واختلطت اللغة وحُظِر الاحتجاجُ بالشعر، وانقضى مَنْ جعله الرواة ساقة الشعراء.
فإن قلت: فما بالُ هذا النّمط والطريقة، وهذه المنقَبة والفضيلة ينفردُ بها الواحد في العصر وهو مشحون بالشعر، وكان فيما مضى يشمل الدّهْماء ويعم الكافة؟ قلت لك: كانت العرب ومَنْ تبعها من السلَف تجري على عادةٍ في تفخيم اللفظ وجمال المنطق لم تألفْ غيرَه، ولا أنِسها سواه، وكان الشعرُ أحدَ أقسام منطقها، ومن حقّه أن يُختص بفضل تهذيب، ويُفرَد بزيادة عناية، فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة، وانضاف إليها التعمّل والصنعة خرج كما تراه فخمًا جزْلًا قويًا متينًا.
وقد كان القومُ يختلفون في ذلك، وتتباينُ فيه أحوالهم، فيرقّ شعرُ أحدهم، ويصلُب شعرُ الآخر، ويسهل لفظُ أحدهم، ويتوعّر منطقُ غيره؛ وإنما ذلك بحسَبِ
1 / 17
اختلاف الطبائع، وتركيب الخلْق؛ فإن سلامةَ اللفظ تتبعُ سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخِلقة. وأنت تجدُ ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجافي الجِلْف منهم كزّ الألفاظ، معقّد الكلام، وعْر الخطاب؛ حتى إنك ربما وجدتَ ألفاظه في صوته ونغمته، وفي جرْسه ولهجته. ومن شأن البداوة أن تُحْدث بعض ذلك؛ ولأجله قال النبي ﷺ: مَنْ بَدا جَفا. ولذلك تجد شعر عَديّ - وهو جاهلي - أسلسَ من شعر الفرزدق ورجَز رؤبة وهما آهلان؛ لملازمة عديّ الحاضرة وإيطانه الريف، وبُعده عن جلافة البدْو وجفاء الأعراب، وترى رقةَ الشعر أكثرَ ما تأتيك من قِبَل العاشق المتيّم، والغزِل المتهالك؛ فإن اتفقت لك الدماثةُ والصّبابة، وانضاف الطبعُ الى الغزل؛ فقد جُمِعت لك الرقةُ من أطرافها.
فلما ضرب الإسلام بجِرانه، واتسعت ممالك العرب، وكثُرت الحواضر، ونزعت البوادي الى القرى، وفشا التأدّب والتظرّف اختار الناسُ من الكلام ألينَه وأمهَله، وعمَدوا الى كل شيء ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنَها سمعًا، وألطفها من القلب موقِعًا؛ والى ما للعرب فيه لغاتٌ فاقتصروا على أسلسها وأشرفها؛ كما رأيتهم يختصرون ألفاظ الطويل؛ فإنهم وجدوا للعرب فيه نحوًا من ستين لفظة؛ أكثرها بشِع شنع؛ كالعشنّط والعنَطْنَط والعشنّق، والجسْرَب والشّوْقَب والسّلْهب والشّوْذب، والطّاط والطّوط، والقاق والقوق، فنبذوا جميع ذلك وتركوه، واكتَفوا بالطويل لخفّته على اللّسان، وقلة نبُوّ السمع عنه. وتجاوزوا الحدّ في طلب التسهيل حتى تسمّحوا ببعض اللّحن، وحتى خالطتهم الركاكة والعُجْمة، وأعلنهم على ذلك لينُ الحضارة وسهولةُ طباع الأخلاق، فانتقلت العادة، وتغير
1 / 18
الرّسم، وانتسخت هذه السنة، واحتذَوا بشعرهم هذا المثال، وترقّقوا ما أمكن، وكسَوا معانيَهم ألطفَ ما سنح من الألفاظ، فصارت إذا قيسَت بذلك الكلام الأول يتبيّن فيها اللين، فيُظَنّ ضعفًا، فإذ أُفرِد عاد ذلك اللّين صفاءً ورونقًا، وصار ما تخيلته ضعفًا رشاقة ولُطفًا؛ فإن رام أحدُهم الإغراب والاقتداءَ بمَن مضى من القدماء لم يتمكن من بعض ما يرومه إلا بأشدّ تكلّف، وأتم تضنع؛ ومع التكلف المقْت، وللنفس عن التصنّع نُفْرة، وفي مفارقة الطبع قلةُ الحلاوة وذهاب الرونق، وإخلاقُ الديباجة.
وربما كان ذلك سببًا لطَمْس المحاسن؛ كالذي نجده كثيرًا في شعر أبي تمام، فإنه حاول من بين المحدَثين الاقتداءَ بالأوائل في كثير من ألفاظه، فحصل منه على توعير اللفظ، فقبح في غير موضع من شعره، فقال:
فكأنّما هي في السّماع جنادِلٌ ... وكأنّما هي في القلوب كَواكبُ
فتعسّف ما أمكن، وتغلغل في التصعّب كيف قدر، ثم لم يرضَ بذلك حتى أضاف إليه طلَب البديع، فتحمّله من كل وجْه، وتوصّل إليه بكل سبب، ولم يرض بهاتين الخَلتين حتى اجتلب المعاني الغامضة، وقصد الأغراض الخفيّة، فاحتمل فيها كل غثٍّ ثقيل، وأرْصد لها الأفكار بكل سبيل؛ فصار هذا الجنسُ من شعره إذا قرع السمعَ لم يصل الى القلب إلا بعد إتعاب الفِكْر، وكدّ الخاطر، والحَمْل على القريحة؛ فإن ظفر به فذلك من بعد العناء والمشقة، وحين حسَره الإعياء، وأوْهن قوّتَه الكَلال. وتلك حالٌ لا تهَشّ فيها النفس للاستماع بحسَن، أو الالتذاذُ بمُستظرف؛ وهذه جريرةُ التكلف! ولست أقول هذا غضًّا من أبي تمام، ولا تهْجينًا لشعره، ولا عصبيّة عليه لغيره. فكيف وأنا أدينُ بتفضيله وتقديمه، وأنتحلُ موالاتَه وتعظيمه، وأراه قِبْلة
1 / 19
أصحاب المعاني، وقُدْوة أهلِ البديع! لكن ما سمعتني أشترطُه في صدْر هذه الرسالة أنه يُحْظر إلا إتباع الحق وتحرّي العدل والحكم به لي أو عليّ. وما عدوْت في هذا الفصل قضية أبي تمام، ولا خرجت عن شرطه أن يقول في يوصف السراج شاعر مصر في وقته:
فلو تُبش المقابر عن زهير ... لعوّل بالبكاء وبالنّحيب
متى كانت مَعانيه عِيالًا ... على تفسير بُقراط الطبيب
وكيف لم يزل للشعر ماءٌ ... يرِفّ عليه ريحانُ القُلوبِ
فخبّرني هل تعرفُ شعرًا أحوج الى تفسير بقراط وتأويل أرسطوليس من قوله:
جهميّةُ الأوصاف إلا أنهم ... قد لقّبوها جوْهَرَ الأشياء
وقوله:
يومٌ أفاض جوى أغاضَ تعزِّيا ... خاض الموى بحْرَيْ حجاه المزبِد
وأيّ شعر أقلّ ماء، وأبعد من أن يرِفّ عليه رَيْحان القلوب من قوله:
خشُنْتِ عليه أخت بني الخُشَيْن ... وأنجح فيك قول العاذِلَيْنِ
ألمْ يُقْنعك فيه الهجرُ حتى ... بكَلْت لقلبه هجرا ببَيْن
1 / 20