الرّسم، وانتسخت هذه السنة، واحتذَوا بشعرهم هذا المثال، وترقّقوا ما أمكن، وكسَوا معانيَهم ألطفَ ما سنح من الألفاظ، فصارت إذا قيسَت بذلك الكلام الأول يتبيّن فيها اللين، فيُظَنّ ضعفًا، فإذ أُفرِد عاد ذلك اللّين صفاءً ورونقًا، وصار ما تخيلته ضعفًا رشاقة ولُطفًا؛ فإن رام أحدُهم الإغراب والاقتداءَ بمَن مضى من القدماء لم يتمكن من بعض ما يرومه إلا بأشدّ تكلّف، وأتم تضنع؛ ومع التكلف المقْت، وللنفس عن التصنّع نُفْرة، وفي مفارقة الطبع قلةُ الحلاوة وذهاب الرونق، وإخلاقُ الديباجة.
وربما كان ذلك سببًا لطَمْس المحاسن؛ كالذي نجده كثيرًا في شعر أبي تمام، فإنه حاول من بين المحدَثين الاقتداءَ بالأوائل في كثير من ألفاظه، فحصل منه على توعير اللفظ، فقبح في غير موضع من شعره، فقال:
فكأنّما هي في السّماع جنادِلٌ ... وكأنّما هي في القلوب كَواكبُ
فتعسّف ما أمكن، وتغلغل في التصعّب كيف قدر، ثم لم يرضَ بذلك حتى أضاف إليه طلَب البديع، فتحمّله من كل وجْه، وتوصّل إليه بكل سبب، ولم يرض بهاتين الخَلتين حتى اجتلب المعاني الغامضة، وقصد الأغراض الخفيّة، فاحتمل فيها كل غثٍّ ثقيل، وأرْصد لها الأفكار بكل سبيل؛ فصار هذا الجنسُ من شعره إذا قرع السمعَ لم يصل الى القلب إلا بعد إتعاب الفِكْر، وكدّ الخاطر، والحَمْل على القريحة؛ فإن ظفر به فذلك من بعد العناء والمشقة، وحين حسَره الإعياء، وأوْهن قوّتَه الكَلال. وتلك حالٌ لا تهَشّ فيها النفس للاستماع بحسَن، أو الالتذاذُ بمُستظرف؛ وهذه جريرةُ التكلف! ولست أقول هذا غضًّا من أبي تمام، ولا تهْجينًا لشعره، ولا عصبيّة عليه لغيره. فكيف وأنا أدينُ بتفضيله وتقديمه، وأنتحلُ موالاتَه وتعظيمه، وأراه قِبْلة
1 / 19