الحفظ أفقر؛ فإذا استكشفْت عن هذه الحالة وحدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يمكنه تناولُ ألفاظ العرب، إلا رِواية؛ ولا طريقَ للرواية إلا السمع؛ وملاكُ الرواية الحفظ، وقد كانت العرب تروي وتحفظ، ويُعرف بعضها برواية شعرِ بعض؛ كما قيل: إن زهيرًا كان راوية أوْس، وإن الحُطيْئَة راوية زهير، وإن أبا ذؤيب راوية ساعدة بن جؤيّة؛ فبلغ هؤلاء في الشعر حيثُ تراهم، وكان عبيد راوية الأعشى ولم تُسمَع له كلمة تامة، كما لم يسمع لحسين راوية جرير، ومحمد بن سهل راوية الكميت، والسائب راوية كثيّر؛ غير أنها كانت بالطبع أشدّ ثقة وإليه أكثر استئناسًا؛ وأنت تعلم أن العرب مشتركة في اللغة واللسان، وأنها سواء في المنطق والعبارة، وإنما تَفضُل القبيلةُ أختها بشيء من الفصاحة. ثم تجد الرجل منها شاعرًا مُفْلقًا، وابنَ عمه وجار جَنابه ولصيقَ طُنُبه بكيئًا مفحَمًا؛ وتجد فيها الشاعرَ أشعرَ من الشاعر، والخطيبَ أبلغَ من الخطيب؛ فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدّة القريحة والفِطنة!
وهذه أمور عامة في جنس البشر لا تخصيص لها بالأعْصار، ولا يتّصف بها دهر دون دهر. فإن قلت: فما بالُ المتقدمين خُصّوا بمتانة الكلام وجزالة المنطق وفخامة الشعر، حتى إن أعْلَمَنا باللغة وأكثرَنا رِواية للغريب لو حفظ كلّ ما ضمّت الدواوينُ المرويّة، والكتبُ المصنفة من شعر فحْل، وخبر فصيح، ولفظ رائع - ونحن نعلم أن معظم هذه اللغة مضبوط مرويّ، وجلّ الغريب محفوظ منقول - ثم أعانه الله بأصحّ طبع وأثقب ذهن وأنفذ قريحة، ثم حاول أن يقول قصيدة، أو يقرضَ بيتًا يُقارب شعر امرئ القيس وزهير، في فخامته وقوة أسْره، وصلابة معجَمه لوجده أبعد من العيّوق مُتناولًا، وأصعبَ من الكبريت الأحمر مطلبًا؟ قلت: أحلتُك
1 / 16