فالحياة التي كان يشاركهم فيها يوم الخميس كانوا هم يعيشون فيها كل أيام الحياة، وربما استثنى بعض منهم شهرا أو شهرين قبيل الامتحان، ولكن الحياة الطبيعية كانت هذه المتعة التي يعيشون بها ولها، والتي خاف بهجت أن يشاركهم فيها بأيام الخميس فتصبح كل أيامه خميسا.
ليس يدري من أين واتته هذه الحكمة التي لا تتفق مع طبيعة الشباب، والتي تختلف بالذات مع طبيعته هو؛ فقد تنسجم مع فتى غير راغب في العربدة، أما هو فيعبد هذه العربدة، ومع ذلك استطاع أن يكون هذا الفتى المثابر في المذاكرة والحريص على النجاح.
ولا يدري أيضا من أين جاءه حبه للتمثيل؛ هذا الحب الذي جعله يواظب على حضور المسرح كل خميس في أيام المذاكرة وكل يوم في أيام الإجازة.
وقد حاول أن يحلل هذا الشغف بالمسرح، فعجز وأسلم نفسه إليه في نشوة وبغير تحفظ.
ربما كان حرصه على المذاكرة وليد ما كانت أمه تنبهه إليه؛ فقد مات أبوه وهو بعد في المراحل الأولى من الدراسة. وقد كان أبوه غنيا واسع الغنى، ولكنه كان يريد هذا الغنى أن يتسع ويزداد ولا تقف به نهاية، فكان يدخل في مشروعات مالية لا آخر لها. ونجحت بعض هذه المشروعات فكان جنون المال عنده يزداد. وهكذا أصبح المال عند أبيه غاية لا وسيلة؛ فكان عنده ما يستطيع أن يحيا به في خفض من العيش وفي بحبوحة ورغد. وكان عنده ما لو تركه لولده لأصبح من الأغنياء الذين تذكر أسماؤهم إذا ذكر الغنى. ولكن لم يكن هدف شاكر أن يصيب المال ليأمن الفقر، ولا أن يصيب المال ليهيئ لابنه أمانا من الحياة. لقد أصبح جمع المال في ذاته هو الغاية والهدف. وحين يصبح الأمر كذلك يصبح من الطبيعي أن يندفع شاكر منتهبا أيام عمره في تحقيق هذا الهدف، وهو لا يدري ما يدريه كل الناس أن هذا هدف لا يمكن أن يتحقق؛ فإنه لا نهاية للأرقام.
ومثلما تستطيع هذه الأرقام أن ترسل الأمن والنشوة الطاغية المتفجرة إلى النفوس، تستطيع أن ترسل الألم المرير واليأس القاتل، وتستطيع أن تصبح ركاما من الثلوج بلا دفء ولا رحمة، فالأرقام التي لا تعرف النهاية لا تعرف الرحمة أيضا.
وحين مات الأب كانت ثروته كلها قد استنزفت في محاولة إنشاء ثروة أضخم، وبقي لزوجته بعض مال يشكل فقرا أكثر مما يشكل سترا، وبقي لها أيضا بهجت في أول حياته، فمستقبله جميعا عبء على أكتافها، وعلى أكتاف هذه الصبابة الضئيلة التي بقيت لها من أموال زوجها.
وكانت تفيدة تعلم أنه لا أمل لها في أن تنال شيئا من عون خيري عم بهجت وأخي زوجها؛ فقد كان الأخوان متنافرين، وربما كان سعار شاكر في جمع المال يرجع إلى غنى أخيه الفاحش؛ فقد كان تاجرا يحسن العمل في تجارته، ولم يكن يتجاوز مجال نجاحه هذا إلى أي مجال آخر؛ فقد كان يتاجر في الفاكهة، والموز بوجه خاص، وقد اشترى من تجارته أرضا زراعية واسعة ولم يزرع فيها إلا الموز؛ فهو في زراعته وتجارته خبير قل أن يلحق به لاحق. وقد حاول شاكر أن يشاركه ولكنه أبى عليه هذا، مدعيا أنه تعود أن يكون منفردا بتجارته وبرأيه فيها، ويخشى إذا شارك أحدا حتى ولو كان أخاه أن يتعثر به الرأي. ولم يكن هذا الطلب من شاكر وهذا الرفض من خيري هو أول الخلاف ولا كان آخره، وإنما هو خلاف نشب بينهما منذ الطفولة، ونما معهما واشتد مع الزمان، وكأنه كائن حي تزيده الأيام قوة وصلابة. وكانت تفيدة على ثقة من أن شاكر لو كان قدر له أن يعيش حتى يبلغ الشيخوخة، لما استطاع وهن الشيخوخة أن ينال من عنف الخلاف بين الأخوين؛ فهو خلاف من ذلك النوع الذي تغذيه الأيام وتزيده مرارة وشرا وقتامة.
أدركت تفيدة منذ بدأت تفكر بعد موت زوجها وهو مفلس، أن ليس لها إلا هذا المال القليل الذي خلفه لها ولابنها. وحين زارها خيري لينبئها أنه تحت أمرها لم تحاول أن تطلب منه شيئا؛ فهي تعرف أن الأخ الذي يريد أن يقدم عونا لا يعرض قولا وإنما عملا، وما دام لم يفعل فالأمر إذن كما توقعته.
واجهت الأيام، ونشأ بهجت في هذه الضائقة، وكان يعرف ما تعانيه أمه وما كان له ألا يعرفه، وكيف وهو لا يسمع من أمه إلا عن هذا العناء. ولعله في نفسه البعيدة كان يرد نفسه عما تشتهيه حتى لا يزيد عبء أمه أعباء.
Unknown page