وحيث إنها سمحت له بالذهاب إلى المسرح، إلا أنه لم يكن يقول لأمه إنه في أغلب الأيام التي يذهب فيها إلى المسرح كان يشاهد روايات سبق له أن شاهدها مرات ومرات، وكان في أول هوايته يعجب من نفسه ومن جنونه هذا الذي يجعله يذهب ليرى شيئا شاهده وعرف كل أسراره، بل إنه في بعض الروايات كان يسبق الممثلين بجمل الحوار، وراح يمعن النظر في شأن نفسه، فتخادعه نفسه عن نفسه ولا يدري سر هوايته. ولكن سرعان ما تكشفت له الحقيقة؛ إنه يحب التمثيل أكثر مما يحب المسرح. إنه يتمنى أن يكون ممثلا، ولا شك في هذا. كانت نفسه تطوي عنه هذه الحقيقة، ولم تكن تعترف بها حتى حين يعود من المسرح، ويقف أمام المرآة ليمثل الأدوار، حتى أدوار النساء والخدم.
أمل لا سبيل إلى تحقيقه؛ فهذه مهنة قد يعترف بها مثقف، ولكن هيهات أن تقبلها أمه له، لقاء ما عانت من حرمان وشظف عيش.
إنها ستقول: أهذا جزائي؟! وفكر أن يحاول، وخاف واستجمع بعض شجاعته ثم لم يستطع. كان امتحان الثانوية العامة قد اقترب وكان قد اختار القسم الأدبي؛ لأنه كان يعرف أنه أقوى في المواد النظرية. وكانت أمه دائما تقول إنها تحب أن تراه وكيل نيابة وقاضيا، فلم تكن تسأله عن الكلية التي يريد الالتحاق بها مفترضة أنها الحقوق؛ فما تعود أن يخذل لها رغبة فكيف إذا كانت أمنية!
للأمومة عند تفيدة لحظات تفيض فيها وتنسى أن ابنها أصبح شابا، وتحب أن تحتوي هذا الابن وتجلسه على ركبتيها وتهزه بهما، وكأنه ما زال ذلك الطفل الوليد. وكانت تفيدة في كثير من الأحيان تحب أن تزيل عن ولدها ما كانت ترسبه في نفسه من مشاعر فقر وحاجة، تربت ظهره وتقبله وتنظر إليه، ويسمع من عينيها أن هذه النظرة حبها من الدنيا، وأنها تجد فيها أعظم مكافأة على ما بذلت من سنوات عمر شداد.
في مرة من المرات ظن بهجت أن الأمومة تستطيع أن تقبل منه أي شيء حتى رغبته في أن يكون ممثلا. - هل أعجبك الفيلم الذي شاهدناه؟ - متى؟ - الشهر الفائت. - ولماذا تذكرته؟ - فقط أسأل. - لقد قلت لك إنه أعجبني ساعتها. - ألم يعجبك الممثل؟ - وكيف لا يعجبني؟! إنه أحسن ممثل في مصر وربما في الشرق الأوسط. - أريد أن أكون مثله. - لقد كان يمثل دور طبيب، وأنت أدبي . - أريد أن أكون ممثلا.
لو كان قد أخرج مسدسا ووضع فوهته أمام عينيها، ما أصابها هذا الذي طفح على وجهها. أخذت، صمتت، انفتحت عيناها حتى أوشكتا أن تنفجرا، إنهما بركانان صغيران بل كبيران هاتان العينان. وجهها صفرة، جبهتها غضون، الابتسامة صارت يأسا، الحنان أصبح هلعا، نور الصباح انقلب في سمتها ظلاما قاتما. لحظات، وطفرت دموع أمسكت بها لن تسيل، فيرتد البكاء إلى صوتها لتقول، فينحبس القول وتبتلعه فيستعصي، وبهجت يتمنى لو لم يكن قال ما قال، ويهم بأن يدعي شيئا يزيل هذا الهول الذي ألم بها فتردعه نفسه. لقد قال، فلينتظر إلى أي مدى تصل به تجربته. واستجمعت الأم نفسها آخر الأمر، وصرخت في صوت مكبوت لا ترتفع نبراته، وإن كان الصياح منه يطرق أبواب السماء. - لو عرفت الأيام التي عشتها أو التي متها من أجلك! الذعر من الغد، واليأس يمسك به بعض الأمل، فإننا بينهما خرقة ممزقة متهرئة لا ترتاح إلى اليأس فتسقط وتنتهي، ولا تتعلق من الأمل بأسباب تتيح لها أسباب البقاء. حياتي خوف راجف بعض منه يزلزل الجبال، والحياة حولي متاهة كبيرة لا أجد أحدا أسأله الطريق، بل لا أجد أحدا أشكو له التيه. أخاف عليك الشتاء يأتي فلا أكسوك، وأخاف عليك أن يجرحك زميل بامتهان. طفولتك شيخوختي وأنا في ربيع الشباب، وشبابك أعبائي وأنا في خريف من الكهولة.
أكل الذي بذلت لتكون ممثلا؟! آمالي ونفسي وطمأنينتي من أجل ... - كفى، كفى، وهل أصبحت ممثلا فعلا؟! - يكفي أن تريد. - كلمة جرها حديث. - بل أنت الذي خلقت الحديث. - ربما أردت أن أمزح. - ليس في القتل مزاح.
طوى أمله في ذلك المكان من نفسه الذي تعود فيه أن يكبح رغباته. ولو أن هذا الأمل كان جامحا لا يتيح له أن يهدأ أو يرتاح إلى يأس.
دخل كلية الحقوق وسار حياته كما تعود أن يسيرها، واطمأنت أمه فلم تصبح تخشى عليه أن يذهب إلى المسرح في كل أسبوع كما تعود. وانتهت السنوات حتى صار إلى السنة النهائية، ثم حدث حادث.
كان عمه يزور مزرعته ومعه زوجته وابنه الوحيد عاصم، وكان لا بد للعم أن يعود إلى القاهرة في المساء، وكانت السماء تمطر ذلك المطر المصري الهين، الذي يجعل الطريق صعيدا زلقا، والذي يجعل السيارات معرضة لخطورة بالغة. ولولا أن خيري كان واثقا من مهارة سائقه لاتخذ في السفر وسيلة أخرى غير السيارة. ولكن كيف إذن تنقلب حياة بهجت؟! انقلبت سيارة خيري في النيل ومات الأربعة جميعا، وفجأة أصبح بهجت الوارث الوحيد لعمه.
Unknown page