صدقوني أو احسدوني، أو تزمتوا وتظاهروا بالنفاق والورع، ولكنها راحت مرة أخرى ترجوني أن ترافقني - وليس أن أرافقها أنا - إلى حيث «أضيع وقتي!» بعض الوقت كي أساعدها في إيجاد المكان المناسب، في الفندق المناسب، وبالسعر المناسب؛ فهي تمقت الهيلتون والشيراتون والأماكن الخاصة بالأغنياء؛ لأنهم عواجيز، أو العواجيز؛ لأنهم أغنياء، وتعبد الفنادق ذات الطابع! حبذا لو كان لدينا فنادق في الهواء الطلق، أو فيللات غرفها خيام وفناؤها الصحراء، وطعامها يشوى في العراء على النار، والنار يقلبها بدوي بلحيته السوداء، وشبابه الأسمر وعقاله المدلى - إهمالا أو أناقة - إلى جانب! حبذا لو يشوي لها اللحم ومعها يلتهمه، في ليلة تحت خيمة، ليلة لا يشهدها سوى القمر.
حين رأيتها قادمة في الممر، ودون أن أدري، كنت من فرط طولها وهيبة الأنوثة المكتملة في القوام الكامل، قد أعطيتها خمسة وثلاثين عاما أو شيئا من هذا القبيل، وحين اقتربت بدا لي عمرها الحقيقي في حدود الثلاثين، وحين ابتسمت وجلست وتحادثنا؛ بالذات حين بدأت تغمغم حلمها اليقظ، وكشافات حمرتها تزداد توهجا، وكل نمشة في وجهها تكتظ انفعالا، وتصنع من مكانها وبسمتها إلى جارتها، وعلاقتها بالجارة الأخرى كلمة؛ سر جمالي خاص تبوح به عن نفسها وتنكشف، وعمرها يتناقص، بحيث قرب النهاية، ولولا أنها لا تصح إلا لمن جاوزت الطفولة، إلا لصبية تدرك وعن يقين تلمس لماذا المرأة مطلوبة؟ لماذا يتقاتل عليها الرجال؟ لماذا تضن بالحب؟ لأنها هي الحب - كل الحب - حين تحب؟ لولا هذا لارتدت إلى العاشرة، وكلماتها تتحشرج بالحلم وبالنهاية حلما. ما أجملكن أيتها الغربيات في شيء واحد، حين لا تجعلن ألسنتكن تنفرد وحدها بكل الحديث، حين نالت أجسادكن معكن الحرية، وأصبح لها ومع العقل والقلب حق التعبير؛ تحلمن، أو حتى تتكلمن أحلاما، فتستحلن جميعا حلما بالصدق، وليس بالتمثيل!
وما أبشعك أيتها البافارية الألمانية، كأنك من قبيلة جن أحمر انحدرت! كنت تحلمين، وتقتربين مني تريدينني مشاركة لك في حلمك. تحلمين ويزداد كشافك الأبدي احمرارا، وبنفس حلمك، «النفس حلمك» ينصب - من حيث لا أدري - على ملامحي ذلك الاصفرار المتغامق الفضاح، فحلمك تبنينه كنت تقوضين حلما لي مذ رأيتك، وبقاهرة تضعينها في خيالك وصحراء، وباللحم البدوي، كنت تقتلين قاهرة أجمل أعرفها وأحفظ أركانها، وصحراء أروع ما فيها أنها ليست من رمال، وببدويك الأسمر ولحيته وشاربه كنت تنزعين عني - كما يفعل بعض مخرجينا بقساوة - دوري؛ دور البطل، فلا بدوي أنا ولا لحية لي، وبلون جلدي لا أمت إلى الصحراء، أو حتى إلى محافظات بحري، عيناي مصيبتهما السوداء أنهما ليستا سوداوين كما بطلك، ذلك الذي لم أشعر نحوه بذرة تفسير لحماسك هذا الفائر المتوحش.
وأيضا كما يفعل ممثلونا والرواية تقرأ، حيث لا أحد إلا الملقن يصغي إلى الموضوع، وإنما الكل وبلا وعي يبحث عن أكثر الأدوار صلاحية له، أغناها «بالإفيهات والنكات» أطولها، أبطلها كما يحدث هناك، وحلمي يتحطم، ولونك يحمر، وحلمي يتحطم، ولون البطل يسود، ولوني أنا يصفر! كنت وقد فقدت الدور الرئيسي أبحث - بغير ما لهفة - عن الدور الذي أعددته لي في حلمك ذاك.
فجأة ضحكت.
وبانزعاج مؤدب سريع، توقفت عن الحديث وسألتني: ماذا حدث؟ هل أخطأت في شيء؟
كان انزعاجها حقيقيا؛ فالضحك في ألمانيا ليس كالضحك هنا؛ فمن حقك المطلق هنا أن تضحك في أي وقت تشاء، ولأي كلام يقال، حتى لو كان الكلام جادا، ليس فيه ما يضحك؛ بل بالذات لو كان الكلام جادا حقيقة، وليس فيه ما يضحك، الضحك هناك - كأي شيء - لا بد أن يتوفر لحدوثه أسباب وجيهة قوية، مقنعة جدا، وواضحة جدا، ولا يختلف عليها اثنان. حتى في بعض الروايات مثلا ممكن أن تحدث مواقف تدفعك دفعا للضحك، ولكن لأن النص لم ينص على الضحك هنا، فإن أحدا لا يضحك! الضحك هناك نظام، وكأي شيء لا بد أن يتم بنظام، فإذا فعل إنسان فعلتي، وفي نهاية كنهاية حلمها في لحظة تحشرج فيها صوتها، ضحك، فلا بد أن شيئا قد اختل في النظام العام؛ جننت أنا، أو جنت هي، أو تسرب مع فتحات الهواء في الطائرة شيء من الغاز الضاحك!
انزعجت، وبلهفة تساءلت مروعة: لماذا أضحك؟
وكنت أضحك لأني اكتشفت أن دوري في حلمها، هو الدور الذي نحتفظ به في الرواية للرجل الطيب الذي يقود الناس لتحقيق أحلامهم؛ للقادة.
كنت أضحك للكم الهائل من خيبة الأمل التي أحسست بها؛ فليس لشخصي اختارتني ملكتي البافارية، وفضلت المقعد الخالي بجواري على كل ما عداه من مقاعد خالية، وإنما لمؤهلاتي تلك التي يتطلبها دوري، واضح أني عربي مثقف، أعرف لغات، وأعرف النساء أيضا، وأحب - كما رأت كل أمثالي في بيروت وغير بيروت - أن أساعد السيدة، أي سيدة؛ فما بالك بجنية ملتهبة الأنوثة صاخبة الاحمرار؟!
Unknown page