تحليل الفكرة القديمة بعد تخليصها من شوائبها الحضارية وإعادة بنائها في الشعور وإطلاق معناها إلى أقصى حد حتى يمكن أن تصبح نموذجا للفكر، وموضوعا مثاليا يمكن أن يكون نسقا لغيره من الموضوعات، ومعرفة احتمالاتها المختلفة، وأوجه ظهورها، ومن ثم يصبح التراث معقولا، وليس مجرد موروث منقول من الماضي، لنا فيه رؤية واضحة، ونكون على علم تام به. (ب)
تحليل الواقع المعاصر وذلك عن طريق التنظير المباشر للواقع وإدراك روح العصر من الأمثال العامية والنكات الشعبية والأعمال الأدبية، خاصة شعر الأدباء الشبان وقصصهم والملاحظة المباشرة على رجل الشارع وعلى سلوك الجماهير، والمعاناة من مآسي العصر والعيش في مآسيه، والانفعال بأحزانه وأفراحه، فالباحث ابن عصره كما كان الصوفي ابن وقته، والاستعانة بالإحصائيات، وتحويل الواقع إلى لغة كمية ولو أن الإدراك المباشر للواقع يكون مطابقا أيضا للتحلي الإحصائي الكمي، أي أن الباحث هنا هو ابن البلد بذكائه ولمحاته، وبصيرته وحسه المباشر، وإدراكه الفطري. (ج)
مقابلة الأولى بالثانية من أجل إيقاف الفكرة الأولى على أحد أوجهها طبقا لروح العصر، أو تركيب الأولى على الثانية وتأسيس الموضوع المثالي على الواقع العصري، وإعطاء النفس بدنا، والروح طبيعة، والفكر واقعا، والله عالما، وهنا لا يخطئ الباحث فهو ليس مسئولا عن الموضوع المثالي ولا عن روح العصر، وإنما مسئوليته في توجيه أحدهما بالثانية والربط بين القديم والجديد، وإحياء التراث، وتأصيل العصر.
خامسا: موضوعات التجديد (إعادة بناء العلوم)
وبالإضافة إلى طرق تجديد التراث التي تعم العلوم الدينية العقلية جميعا، هناك طرق أخرى خاصة يمكن بها إعادة بناء كل علم على حدة، وهذه العلوم هي موضوعات التجديد، وإعادة بنائها هو التجديد، ويمكن إجمال هذه الطرق في الآتي: (أ)
وصف كيفية خروج كل علم منها من النص الديني عن طريق الفهم بالحدس المباشر للنصوص المحكمة أو التفسير اللغوي أو الشعوري للنصوص المتشابهة طبقا لظروف العصر التي سببتها، وهو ما يمكن تسميته «بمنطق التفسير». (ب)
وصف العمليات العقلية التي حددت طبيعة الظواهر الفكرية والتي هي وراء بناء العلوم، وهي عمليات عقلية واحدة تنشأ في كل حضارة تبدأ من معطى مركزي هو الوحي، وبمعرفتها يمكن إعادتها من جديد ابتداء من العصر الحاضر، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق الظواهر». (ج)
تحديد الظواهر الإيجابية والسلبية في كل علم، وفهم البناء النظري للظاهرة الإيجابية؛ إذ إنها هي التي تحدد البناء النظري العام للعلم نفسه، وكذلك فهم مصدر الظاهرة السلبية، وأسباب نشأتها، ومدى غربتها عن النصوص، ومقدار بعدها عن الظواهر الإيجابية، وبيان أوجه النقص في المغالاة الفكرية أو في اختلال توازن الظاهرة، ثم محاولة تحويلها إلى ظاهرة إيجابية أو تلاشيها تماما، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق التقييم». (د)
نقل كل البناء النظري السابق بعد نقده وتمحيصه على أساس نظري جديد لإعطائه أبعادا جديدة سواء من حيث اللغة التي يعبر بها، ومن حيث الكشف عن مستويات جديدة للتحليل، أو من حيث المادة التي يقدمها الواقع الجديد، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق التجديد».
وإعادة بناء العلوم تتجاوز مجرد إصدار أحكام خاصة أو عامة على مشكلة أو على موضوع أو على علم من العلوم، فبدل إصدار الأحكام يقوم الوصف بمهمة تفسير نشأة هذه العلوم وتطورها واكتمالها في بناء نظري محكم، وبذلك يمكن تجنب الأحكام الجزئية والتعسفية والشخصية، وينفذ الحاكم إلى صميم الموضوع بل ويتحد معه ويعاصره في نشأته وتكوينه، ويمكن أن يقال إن كل حكم هو نقص في الوصف.
Unknown page