الإهداء
مقدمة الطبعة الرابعة
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
أولا: ماذا يعني «التراث والتجديد»؟
ثانيا: أزمة التغير الاجتماعي
ثالثا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية
رابعا: طرق التجديد
خامسا: موضوعات التجديد (إعادة بناء العلوم)
الإهداء
مقدمة الطبعة الرابعة
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
أولا: ماذا يعني «التراث والتجديد»؟
ثانيا: أزمة التغير الاجتماعي
ثالثا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية
رابعا: طرق التجديد
خامسا: موضوعات التجديد (إعادة بناء العلوم)
التراث والتجديد
التراث والتجديد
موقفنا من التراث القديم
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى كل من يساهم في صياغة مشروعنا القومي.
د. حسن حنفي
مقدمة الطبعة الرابعة
ما زال هذا البيان النظري لمشروع «التراث والتجديد» من جهته الأولى «موقفنا من التراث القديم» يمثل فكرا حيا، ما زال غضا وكأنه كتب اليوم، بالرغم من مرور عشر سنوات على إصدار الطبعة المصرية الأولى عام 1980م في المركز العربي للبحث والنشر، وهذه هي الطبعة الرابعة، تظهر مواكبة لصدور البيان النظري الثاني للمشروع ذاته من جهته الثانية «موقفنا من التراث الغربي» بعنوان «مقدمة في علم الاستغراب». بقي البيان النظري الثالث للمشروع من جهته الثالثة والأخيرة «موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير» الذي قد يظهر بعد عشر سنوات أخرى وفي نهاية هذا القرن، وبعد تحقيق باقي أجزاء الجبهتين الأولى والثانية.
تحية إلى «المؤسسة الجامعية» التي تقوم الآن في إعداد الطبعة العربية لمشروع «التراث والتجديد» بعد الطبعة المصرية.
د. حسن حنفي
القاهرة، 1991م
مقدمة الطبعة الثالثة
صدرت الطبعة الأولى من «التراث والتجديد» في «المركز العربي للبحث والنشر»، القاهرة 1980م، وصدرت الطبعة الثانية (الطبعة العربية الأولى) في دار التنوير، بيروت 1981م، وهذه هي الطبعة الثالثة تصدر عن مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1987م، بعد أن نفدت الطبعتان الأوليان.
وما زال الكتاب يثير ردود أفعال عديدة ويحظى بقبول عام، بصرف النظر عن اختلاف وجهات النظر حوله، وقد صدرت عدة مقالات لمراجعته،
1
كما صدرت مؤلفات بأكملها حول موضوع الكتاب وعدة أعمال أخرى
2
وتم إعداد رسالتين للماجستير الأولى في جامعة أمستردام بهولندا والثانية بالجامعة الأردنية في المملكة الأردنية الهاشمية حول نفس الموضوع.
3
و«التراث والتجديد» هو مقدمة نظرية عامة للقسم الأول من المشروع «موقفنا من التراث القديم»، ويصدر الآن الجزء الأول منه «من العقيدة إلى الثورة» محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، في خمسة أجزاء، والذي انتهينا منه في صيف 1984م.
والنص نفسه لم يتغير منذ الطبعة الأولى، وما زال يحتفظ بجدته وأصالته وقدرته على إثارة الأذهان والدعوة للحوار، إني أتوجه بالشكر الخالص لكل الذين قبلوا الدعوة ولهم وافر التعظيم والاحترام.
د. حسن حنفي
القاهرة في أغسطس 1987م
مقدمة الطبعة الأولى
لقد تأخر «التراث والتجديد» أكثر مما يجب، ولكن آن الأوان لظهوره في مطلع القرن الخامس عشر الهجري وإبان يقظة الإسلام الحديثة.
وتصدر هذه «المقدمات» العامة أولا قبل الجزء الأول منه «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين التقليدي كأيديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية تمدها بأسسها النظرية العامة وتعطيها موجهات السلوك.
وأرجو أن تصدر باقي الأجزاء على التوالي حتى يتحول الإصلاح الديني إلى نهضة شاملة.
وعلى هذا النحو يمثل جيلنا نقطة تحول في تاريخنا.
د. حسن حنفي
مصر الجديدة
ربيع الأول 1400ه/ يناير 1980م
أولا: ماذا يعني «التراث والتجديد»؟
ماذا يعني «التراث والتجديد»؟ التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة؛ فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات.
وليست القضية هي «تجديد التراث» أو «التراث والتجديد» لأن البداية هي «التراث» وليس «التجديد» من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية، وتأصيل الحاضر، ودفعه نحو التقدم، والمشاركة في قضايا التغيير الاجتماعي، التراث هو نقطة البداية كمسئولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر؛ فالقديم يسبق الجديد، والأصالة أساس المعاصرة، والوسيلة تؤدي إلى الغاية. التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية، وهي المساهمة في تطوير الواقع وحل مشكلاته، والقضاء على أسباب معوقاته، وفتح مغاليقه التي تمنع أي محاولة لتطويره. والتراث ليس قيمة في ذاته إلا بقدر ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره؛ فهو ليس متحفا للأفكار نفخر بها وننظر إليها بإعجاب، ونقف أمامها في انبهار وندعو العالم معنا للمشاهدة والسياحة الفكرية، بل هو نظرية للعمل، وموجه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، وهما حجرا العثرة اللذان تتحطم عليهما كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية؛ فالتصنيع والإصلاح الزراعي قد يتحطمان؛ لأن الإنسان وهو العامل والفلاح، لم تتم إعادة بنائه ووضعه في العالم، وظل متخلفا عن مظاهر التقدم، فالثورة الصناعية والزراعية في البلاد النامية لا تتم إلا بعد القيام بثورة إنسانية سابقة عليها وشرط لها؛ لذلك تعثر العمل السياسي في البلاد النامية وفشلت الجهود لقيام أحزاب تقدمية وتنظيمات شعبية تملأ الفراغ بين السلطة والجماهير، فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها، والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه. «التراث والتجديد» إذن يحاول تأسيس قضايا التغير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط قبل المؤسس والمشروط. (1) تحديد معنى التراث (1-1) مستويات التراث
يوجد التراث على عدة مستويات؛ فهو أولا تراث موجود في المكتبات والمخازن والمساجد والدور الخاصة يعمل على نشره؛ فهو تراث مكتوب، مخطوط أو مطبوع، له وجود مادي على مستوى أولي، مستوى الأشياء، وتعقد المؤتمرات، وتقام المعاهد، وتنشر الفهارس، وتعد الإحصائيات عن الموجود منه في مكتبات العالم، ما نشر وما لم ينشر بعد، ما بقي منه وما ضاع.
وهي قضية مثارة في عصرنا على هذا المستوى المادي عندما يكثر الحديث عن إحياء التراث، وبعث التراث، ونشر التراث، وتحقيق التراث، وترسل البعثات في شتى مكتبات العالم لجمعه وتصويره وتخزينه، وتصدر السلاسل التي قد تستمر وقد تتوقف، وترصد الأموال، ويوظف الباحثون، وتكثر الدعايات حول نشر التراث، وكأن البعث والإحياء والنشر يعني إعادة طبع القديم طبعات عدة، واختيار ما وافق هوى العصر دون متطلباته، فإذا لجأ العصر إلى التصوف تعويضا عن روح الهزيمة أو طلبا للنصر، فإنه يعاد نشر المؤلفات الصوفية، وإذا تشوف العصر إلى المدينة الفاضلة وتطلع إلى المجتمع الجديد تعويضا عن الفساد الخلقي والانحراف السياسي نشرت المؤلفات عن فضائل الصحابة، وعن العشرة المبشرين بالجنة، وإذا شاعت الخرافة في الناس، وساد الانفعال على العقل، واشتدت الحاجة، وزاد الضنك، نشرت المؤلفات عن المعاد وعن عالم العدل القادم الذي تملأ فيه الأرض عدلا كما ملئت جورا، وانقلب أهل السنة إلى شيعة بأحد ما يكون التشخيص، وإذا قيل إن السبب في الهزيمة هو البعد عن الكتاب والسنة أعيد نشر الكتاب والسنة في طبعات مذهبة، منمقة مزركشة، لزيادة ثروات التجار، وليتبرك بها الناس وهم في بيوتهم، تقيهم الشر، وتمنعهم الحسد، وتجلب لهم الخير، ويتبادلها رؤساء الدول هدايا فيما بينهم، وترسلها المؤتمرات والجمعيات الإسلامية إلى الدول الإسلامية غير الناطقة بالعربية لنشر الوعي الإسلامي، ونكون جميعا كالحمار يحمل أسفارا.
ولكن هذا التراث ليس مخزونا ماديا فحسب، هذا الكم الهائل من المخطوطات القديمة المنشور منها وغير المنشور، والذي حرر في عصور لم توجد فيها المطابع بعد، ولكنه أيضا ليس كيانا مستقلا بذاته يدافع عنه وكأنه يحتوي على حقائق نظرية مسبقة توجد بذاتها، مهددة بالضياع إن غابت، وتحشد لها العقول في مرحلة الخطر، حقيقيا أم وهميا. ليس التراث موجودا صوريا له استقلال عن الواقع الذي نشأ فيه وبصرف النظر عن الواقع الذي يهدف إلى تطويره، بل هو تراث يعبر عن الواقع الأول الذي هو جزء من مكوناته. وإن ما عبر عنه القدماء باسم «أسباب النزول» لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر، ومناداته له، كما أن ما عبر عنه القدماء باسم «الناسخ والمنسوخ» ليدل على أن الفكر يتحدد طبقا لقدرات الواقع وبناء على متطلباته. إن تراخى الواقع تراخى الفكر وإن اشتد الواقع اشتد الفكر؛ فالتراث إذن ليس له وجود مستقل عن واقع حي يتغير ويتبدل، يعبر عن روح العصر، وتكوين الجيل، ومرحلة التطور التاريخي. التراث إذن هو مجموعة التفاسير التي يعطيها كل جيل بناء على متطلباته، خاصة أن الأصول الأولى التي صدر منها التراث تسمح بهذا التعدد لأن الواقع هو أساسها الذي تكونت عليه. ليس التراث مجموعة من العقائد النظرية الثابتة والحقائق الدائمة التي لا تتغير، بل هو مجموع تحققات هذه النظريات في ظرف معين، وفي موقف تاريخي محدد، وعند جماعة خاصة تضع رؤيتها، وتكون تصوراتها للعالم.
لما كان التراث إذن ليس مخزونا ماديا في المكتبات، وليس كيانا نظريا مستقلا بذاته؛ فالأول وجود على المستوى المادي، والثاني وجود على المستوى الصوري، فإن التراث في الحقيقة مخزون نفسي عند الجماهير.
1
فالتراث القديم ليس قضية دراسة للماضي العتيق، فحسب، الذي ولى وطواه النسيان، ولا يزار إلا في المتاحف، ولا ينقب عنه إلا علماء الآثار، بل هو أيضا جزء من الواقع ومكوناته النفسية، ما زال التراث القديم بأفكاره وتصوراته ومثله موجها لسلوك الجماهير في حياتها اليومية إما بعاطفة التقديس في عصر لا يسلك الإنسان فيه إلا مداحا، أو بالارتكان إلى ماض زاهر تجد فيه الجماهير عزاء عن واقعها المضني.
وإذا كانت البداية العلمية للتغيير تعني البدء بالواقع واعتباره هو المصدر الأول والأخير لكل فكر فإن القيم القديمة التي حواها التراث جزء من هذا الواقع؛ فنحن مثلا نئن تحت الإيمان بالقضاء والقدر الموروث من أهل السلف، ونفسر هزيمتنا بأنه «لا يغني حذر من قدر»، والذي حاولت الحركات الإصلاحية الحديثة الخف من حدته، كما نرهق عقولنا بالتشبيه والتشخيص سواء في الأوليات - أي العقليات - مثل وجود حقيقة أولى أو أفكار عامة أو في الأخرويات فيما يتعلق بنهاية العالم، ونجد في ذلك عزاء عن عدم الوعي بأنفسنا إما من حيث النشأة أو من حيث المصير. كما أننا نلحق عقولنا بالنصوص، ونقع في التأويلات، ونقطع الصلة بين العقل والتحليل المباشر للواقع باعتباره مصدرا للنص، ونقبل الإمام بالتعيين، ونطيع له خانعين، ضعفاء أو خائفين، ثم ننتقي من التراث ما يدعم هذا الوضع. كما أننا نقف أمام الطبيعة سالبين عنها استقلالها، وعادمين وجودها، وقاضين على قوانينها، ونصفها بالشر والوبال، وندعو للخلاص منها، ومتهمين كل اتجاه طبيعي بالمادية والإلحاد، وحاكمين عليه بالانحلال والسفور دون دراية منا بأن هذا الموقف يعبر عن تطهير أو حرمان أو نفاق. كما أننا نقطع وجودنا إلى جزأين؛ واحد نقذف به تحت التراب والآخر نرفعه إلى عنان السماء، متطهرين أو عاجزين أو منافقين، ومعاقبين البدن وهو لم يحصل على حقه منا، ومزكين النفس وهي عاجزة عن فعل شيء، ذاك بعض الموروث النفسي القديم من علم أصول الدين، أو يسمى بعلم التوحيد.
فإذا أخذنا موروثا نفسيا ثانيا وجدنا أننا ما زلنا نعيش التصور الثنائي للعالم كما ورثناه من الكندي، وآثار ذلك على وحدة السلوك وما يترتب عنه من تطهير وتبرير للنفس، ونفاق وتغطية وتعمية وازدواجية، كما أننا نسلك طبقا للتصور الهرمي للعالم الذي ورثناه من الفارابي خاصة في تصور مجتمعنا ومؤسساته التي يقوم كل منها على الرئيس الذي هو وحده الملهم والقائد والمعلم والكامل والمقدس والمعبود، ثم تقل مراتب الشرف والكمال حتى نصل إلى المرءوسين الذين عليهم إما الطاعة والولاء وإما السجن والعقاب. وإذا كنا نخلط بين العقل والوجدان في فكرنا المعاصر، فنخطب ونظن أننا نفكر، وننفعل ونظن أننا نفعل فذلك لأن العقل في التراث القديم وما ورثناه من السلف كانت مهمته تبرير الدين على الأقل في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة، وأن العقل لم يستقل على الإطلاق ولم يوجه نحو الواقع وهو طرفه الأصيل إلا في علم أصول الفقه الذي انتهى أيضا إلى الثبات وتحجير الأصول وتغليبها على الواقع حتى إنه لم يبق إلا التقليد.
وإن كنا نقاسي في عالمنا المعاصر من إعطاء الأولوية للكليات النظرية على الكليات العملية، واعتبار الجامعات أعلى من المعاهد العليا والمدارس الفنية المتخصصة، وأن الذي يعمل بعقله أفضل قيمة وأعلى شرفا وأزهر منصبا من الذي يعمل بيده، وأن الموظف أفضل من العامل، والمثقف أعلى من الفلاح، فإن ذلك كله قد يرجع إلى إعطاء الأولوية في تراثنا القديم للفضائل النظرية على الفضائل العملية، واعتبار التأمل قمة الفضائل النظرية. وإذا كنا نبغي تغيير واقعنا بين يوم وليلة، وطرد المحتل في التو واللحظة فقد يرجع ذلك إلى نقص في إحساسنا بالتاريخ لغياب البعد التاريخي في تراثنا القديم الذي غرق في البعد الرأسي واضعا الإنسان في طرف مقابل مع الله دون وضعه في التاريخ وفي طرف مقابل مع الجماهير، بل إن علم أصول الفقه الذي حوى بوادر لإمكانية قيام فلسفة في التاريخ من خلال الإجماع والاجتهاد قد انطوى على نفسه وغلب الكتاب والسنة، ولحق بالبعد الرأسي مع علم أصول الدين وعلوم الحكمة وعلوم التصوف.
2
وإذا كان الإنسان بيننا يخرج من منزله في الصباح ولا يعود في المساء، ولا يعلم أحد عنه شيئا، وإذا كان الإنسان يحشر في المركبات وفي المكاتب وفي الطرقات، وإذا كنا نبني ونعمر ثم ينهدم البناء ويخرب العمار فإن ذلك قد يرجع إلى غياب الإنسان كبعد مستقل في تراثنا القديم وحصاره بين الإلهيات والطبيعيات في علوم الحكمة، وابتلاعه في علم التوحيد، وفنائه في علوم التصوف، ومحقه في علوم التشريع؛ فالأفكار إذن ليست مجرد آراء فارغة أو تصورات مجردة بل هي أنماط حياة، ومناهج سلوك، فنحن نعمل بالكندي في كل يوم، ونتنفس الفارابي في كل لحظة، ونرى ابن سينا في كل الطرقات؛ وبالتالي يكون تراثنا القديم حيا يرزق يوجه حياتنا اليومية ونحن نظن أننا نبحث عن الرزق، ونلهث وراء قوتنا اليومي!
والأمثلة كثيرة أيضا من تراثنا الصوفي: فكما نشأ هذا التراث كمقاومة سلبية لانحرافات في الحياة أصبح هو ذاته تقويما لهذا الانحراف بانحراف آخر، ودفاعا بالرجوع إلى الوراء، فكل القيم الصوفية السلبية التي تدعو إلى الفقر والخوف والجوع والصبر والتوكل والرضا والقناعة والتسليم كلها دفاع عن النفس، ولكنه دفاع العاجز الضعيف الذي لا يرى فضائله إلا في أنه صاحب الحق الضائع، هذه القيم ما زالت تفعل في سلوك الجماهير، يذكرها في معازيه، ويعلق على جدران محاله العامة «الصبر مفتاح الفرج»، «توكلت على الله»، وتغنى المواويل الشعبية وكلها يدور حول فضائل الصبر، والتحليلات الصوفية لعالم القلب ولأنواع المعرفة الإلهية يأس من العقل ومن تحليل الواقع، وإيثار لعلم آخر حيث يغيب العلم، ولمعرفة حيث تشح المعرفة، وما زلنا نأخذ بالعلم اللدني، ونقيم عليه حياتنا، ونطمع في الكشف وفي رفع الحجاب إلى درجة السفور، وأخيرا تخيلنا الغاية وقد تحققت بالفعل، والعالم وقد أصبح واحدا، والحقيقة وقد صارت واقعة، ورأينا وحدة الشهود رؤيا ذاتية خالصة تقرب من الوهم، وتحققنا بوحدة الوجود عن طريق الخيال، ومغرقين في عالم التمنيات، وكل ذلك لا يزيد على مجرد انفعال، وإحساس ذاتي بالانتصار، وشتان ما بين الإحساس والواقع، وفرق بين الانفعال الذاتي والحقيقة الموضوعية، فالقيم السلبية تسلبنا المقاومة الفعلية، ويقضي الحب على الصراع بين الأضداد، ويهدم العقل تحت وطأة الانفعال، يحول الواقع إلى مثال، وهو ما زال الواقع المضني.
والأمثلة كثيرة أيضا مما ورثناه من فقهنا القديم، إذ تتشعب المناقشات النظرية التي لا تغير من الواقع شيئا، ويشتد الجدل الذي لا يدل إلا على احتراف أو تعصب أو ادعاء، وكأن المعركة الحقيقية هي معركة الفكر مع نفسه كما هو الحال في فقهنا الافتراضي القديم، تكثر الأحاديث حول النظريات وتتصارع الآراء، والواقع لم يتغير، وتظهر مهارة المفكرين والكتاب في عبقرية الصياغات، وتتناثر الشعارات عن العدل والظلم سائد، وتكثر الخطب عن الفضيلة، والرذيلة هي الأساس، فواقعنا المنهار وجد في تراثنا القديم ما يبرر له انهياره ويؤكده، وكأننا لا نختار من القديم إلا ما نريد ونبغي، وإذا طبقنا الإسلام، وأردنا إعادة الدولة الإسلامية بدأنا بقانون العقوبات، وكأن الغاية هي العقوبة وليست الوسيلة، وكأن المسلم يعاقب وهو لا يعيش في دولة إسلامية، ولم ينشأ نشأة إسلامية، نطلب منه واجباته قبل أن تعطى إليه حقوقه، وإذا أردنا تطبيق الإسلام بدأنا بالمحرمات، ونادينا بتحريم الخمور، أما الرقص الشرقي، والعري، والأغاني الفاضحة، والمسارح العابثة، وأفلام الجنس فنتمتع بها، وكأن الإسلام أساسا هو دولة المحرمات دون أن نبدأ بالمبيحات حتى ينعم الناس بالعالم ويبتهجوا بالطبيعة، وإذا طبقنا الإسلام بدأنا بقانون الأحوال الشخصية، الزواج والطلاق، والخطوبة والمهر، والخلوة والمحارم، أما النظام الاقتصادي السياسي الإسلامي فنطويه إلى ما وراء ظهورنا ونترك للحاكم أن يفعل ما يشاء، ونرضى بأي حكم، ونطيع أي نظام، وكأن الدولة الإسلامية هي الأسرة، وكأن المسلم هو رب الأسرة وليس المواطن الذي يعيش في دولة.
التراث إذن ما زال قيمة حية في وجدان العصر يمكن أن يؤثر فيهم، ويكون باعثا على السلوك، تجديد التراث إذن ضرورة واقعية، ورؤية صائبة للواقع، فالتراث جزء من مكونات الواقع وليس دفاعا عن موروث قديم، التراث حي يفعل في الناس ويوجه سلوكهم، وبالتالي يكون تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغييره لصالح قضية التغير الاجتماعي، تجديد التراث هو إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير بدلا من وجود التراث كمصدر لطاقة مختزنة، لا تستعمل أو تصرف بطرق غير سوية على دفعات عشوائية في سلوك قائم على التعصب أو الجهل أو الحمية الدينية والإيمان الأعمى، أو يستعملها أنصار تثبيت الأوضاع القائمة لحسابهم الخاص من أجل الدفاع عن الثبات الاجتماعي، وقد لجأ الثوريون المعاصرون إلى المأثورات الشعبية وإلى تراث الجماعة الممثل في أمثلتها العامية ودياناتها القديمة من أجل تجنيد الجماهير، وصب طاقتها في واقعها المعاصر،
3
تجديد التراث هو حل لطلاسم القديم وللعقد الموروثة، وقضاء على معوقات التطور والتنمية والتمهيد لكل تغيير جذري للواقع، فهو عمل لا بد للثوري من أن يقوم به وإلا ظل القديم شبحا ماثلا أمام الأعين يمثل أرواح الأسلاف التي تبعث من جديد، تتربص بالأبناء شرا إذا هم خرجوا من جبتهم، ورفضوا سلطانهم، ولم يدينوا لهم بالطاعة والولاء أو يقوم أنصار المحافظة والإبقاء على الأوضاع القائمة باستغلال هذا المخزون لصالحهم، وأخذ الجماهير من جانبهم، وقطع خط الرجعة على أنصار التغيير والتقدم، وسحب البساط من تحت أرجلهم.
والتراث والتجديد يعبران عن موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر، إسقاطا من الماضي أو رؤية للحاضر، فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث لما كان التراث القديم مكونا رئيسيا في عقليتنا المعاصرة، ومن ثم يسهل علينا رؤية الحاضر في الماضي، ورؤية الماضي في الحاضر، فالتراث والتجديد يؤسسان معا علما جديدا هو وصف للحاضر وكأنه ماضي يتحرك، ووصف للماضي على أنه حاضر معاش، خاصة في بيئة كتلك التي نعيشها حيث الحضارة فيها ما زالت قيمة، وحيث الموروث ما زال مقبولا، فالحديث عن القديم يمكن من رؤية العصر فيه، وكلما أوغل الباحث في القديم وفك رموزه، وحل طلاسمه، أمكن رؤية العصر، والقضاء على المعوقات في القديم إلى الأبد، وإبراز مواطن القوة والأصالة لتأسيس نهضتنا المعاصرة، ولما كان التراث يشير إلى الماضي، والتجديد يشير إلى الحاضر فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان، وربط الماضي بالحاضر، وإيجاد وحدة التاريخ، فكثيرا ما سمعنا في عصرنا هذا عن انفصال الماضي عن الحاضر أو عن قطع جذور الحاضر من الماضي أو عن ماضي عظيم ولى ولن يعود أو عن حاضر أصيل جديد عبقري المثال لا أصول له إلا من ذاته، ربط الماضي بالحاضر إذن ضرورة ملحة حتى لا يشعر الإنسان بغربة عن الماضي أو بغربة عن الحاضر أو بوضع طبقة من الجديد فوق طبقة من القديم مما ينشأ عنه في كثير من الأحيان لفظ القديم للجديد، ورجوع للقديم كرفض العضو للجسم الغريب،
4
فهي إذن مشكلة واقعة تبدأ بمعطى واقعي، وهي كيف يمكن لشعب من الشعوب تحقيق تجانسه في الزمان والبحث عن مسار طبيعي لتطوره، والإبقاء على الاستمرارية في تاريخه، قضية التراث والتجديد إذن هي قضية التجانس الحضاري لشعب من الشعوب، فلا يعني انتقال شعب ما من مرحلة إلى أخرى حدوث قطع أو انفصال حضاري بل يعني استمرار الحضارة ولكن على أساس جديد من احتياجات العصر،
5
قضية التراث والتجديد هي إذن الكفيلة بإظهار البعد التاريخي في وجداننا المعاصر، واكتشاف جذورنا في القديم حتى يمكننا الإجابة على سؤال: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ وحتى نعود إلى تطورنا الحضاري الطبيعي، فتحل مشكلة الجمود والتوقف من ناحية، وتحل مسألة التقليد للآخرين والتبعية لهم من ناحية أخرى.
التراث والتجديد يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ، وهو حاجة ملحة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر، كما يكشفان عن قضية «البحث عن الهوية» عن طريق الغوص في الحاضر إجابة على سؤال: من نحن؟ واكتشاف أن الحاضر ما هو إلا تراكمات للماضي بالإضافة إلى واقع جديد هو نفسه نتيجة لضياع الجهاد القديم، والتخلف قد يكون لضياع النظرة العلمية الحضارية القديمة، والفقر قد يكون نتيجة لغياب النظم الاقتصادية القديمة، وإذا كان البحث عن الهوية يأتي عن طريق تحديد الصلة بين الأنا والآخر فإن عملية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بتحقيق ذلك؛ لأنها اكتشاف الأنا وتأصيلها وتحريرها من سيطرة الثقافات الغازية، مناهجها، وتصوراتها، ومذاهبها، ونظمها الفكرية، وتساعد أيضا على مواجهة التحديات الحضارية والغزوات الثقافية التي نحن ضحية لها في هذا القرن، وتنقلنا من وضع التحصيل والنقل إلى وضع النقد والخلق والابتكار.
6 (1-2) إعادة الاختيار بين البدائل
قضية «التراث والتجديد» هي أيضا قضية إعادة كل الاحتمالات في المسائل المطروحة، وإعادة الاختيار طبقا لحاجات العصر، فلم يعد الدفاع عن التوحيد بالطريقة القديمة مفيدا ولا مطلوبا، فكلنا موجدون منزهون، ولكن الدفاع عن التوحيد يأتي عن طريق ربطه بالأرض، وهي أزمتنا المعاصرة.
فالتجسيم، وهو الاختيار القديم المرفوض، قد يثير الأذهان حاليا في الربط بين الله وسيناء، بين التوحيد وفلسطين، فالفصل القديم بين الخالق والمخلوق كان دفاعا عن الخالق ضد ثقافات المخلوق القديمة، ولكن الحال قد تغير الآن، وأصبحت مأساتنا هي مكاسبنا القديمة، الفصل بين الخالق والمخلوق، ومطلبنا هو ما هاجمناه قديما، الربط بين الله والعالم، لقد ساد الاختيار الأشعري أكثر من عشرة قرون، وقد تكون هذه السيادة إحدى معوقات العصر لأنها تعطي الأولوية لله في الفعل وفي العلم وفي الحكم وفي التقييم في حين أن وجداننا المعاصر يعاني من ضياع أخذ زمام المبادرة منه باسم الله مرة، وباسم السلطان مرة أخرى، ومن ثم فالاختيار البديل، الاختيار الاعتزالي، الذي لم يسد لسوء الحظ إلا قرنا أو قرنين من الزمان، بلغت الحضارة الإسلامية فيهما الذروة، هذا الاختيار قد يكون أكثر تعبيرا عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه، ما رفضناه قديما قد نقبله حديثا، وما قبلناه قديما قد نرفضه حديثا، وما قبلناه قديما قد نرفضه حديثا ، فكل الاحتمالات أمامنا متساوية كما كان الحال عند القدماء، فقبلوا منها ما عبر عن حاجات عصرهم، وخطؤنا نحن أننا نأخذ نفس الاختيار بالرغم من تغير حاجات العصر، فقد رفض المذهب الطبيعي قديما لأنه كان خطرا على التوحيد وفاعليته،
7
ولكنه قد يقبل حاليا لأن فيه عود الإنسان إلى الطبيعة منظرا إياها، وفاعلا فيها، ومكتشفا لقوانينها بدلا من فصم نفسه عنها، وإسقاطها من حسابه بالتركيز على التوحيد القديم، مهمة «التراث والتجديد» إذن هي إعادة كل الاحتمالات القديمة بل ووضع احتمالات جديدة، واختيار أنسبها لحاجات العصر، إذ لا يوجد مقياس صواب وخطأ نظري للحكم عليها، بل لا يوجد إلا مقياس عملي، فاختيار المنتج الفعال المجيب لمطالب العصر هو الاختيار المطلوب، ولا يعني ذلك أن باقي الاختيارات خاطئة، بل يعني أنها تظل تفسيرات محتملة لظروف أخرى، وعصور أخرى ولت أو ما زالت قادمة، وهذا لا يعني أن أصول الدين واحدة في كل زمان ومكان لا تتغير وإلا خلطنا بين الأصول والفروع، بين الدين والفقه، فالتوحيد ثابت ولكن تختلف أوجه فهمه طبقا لحاجات العصر، وحرية الإنسان وعقله ومسئوليته ثابتة أيضا، ولكن تختلف طرق ممارستها من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، ومن وضع اجتماعي إلى وضع اجتماعي آخر، والتصور الدينامي للأصول هو أيضا احتمال مع التصور الثابت لها، والتصور العملي للعقائد هو أيضا احتمال أمام التصور النظري لها، ومن ثم يكون اتهام حضارتنا بأنها حضارة وحدة لا تعدد، وبأنها حضارة اتفاق لا اختلاف اتهاما باطلا؛ لأن أهم ما يميز تراثنا القديم هو أنه أعطى مجموعة من الاحتمالات المتعددة تطايرت من أجلها الرقاب حين الاختيار بينها،
8
فالاجتهاد ليس فقط منهجا في أصول الفقه، بل هو أيضا منهج في أصول الدين، وليست وظيفته فقط هي القياس في الأحكام، وهي أفعال السلوك، بل أيضا في اختيار النظريات وأنسبها طبقا لحاجات العصر، فالاجتهاد يقوم بالتأسيس العلمي في علم أصول الفقه طبقا لقدرات الفرد ويقوم بالتأسيس النظري في علم أصول الدين طبقا لمتطلبات العصر.
وعندما نقول روح العصر أو احتياجات العصر أو واقعنا المعاصر، فإننا لا نشير إلى أية جماعة بشرية تنتمي إلى جنس معين، فالبشر لا تصنف إلى أجناس أو إلى جماعات بيولوجية بل تشير إلى أبنية نفسية ولأوضاع اجتماعية وهذه الأبنية والأوضاع هي التي تحدد الهوية،
9
وأي تفسير عنصري أو قومي أو جنسي للوقائع هو تفسير يخضع للأهواء والأمزجة ولا يخضع للعلم ولتحليل الواقع، أو يكون تفسيرا ناشئا عن انحراف في الموقف الحضاري، وتبعية لمسار الحضارة الغربية وبيئتها.
ومن الصعب تناول قضية «التراث والتجديد» والاستقرار على أسلوب متسق للتحليل، فقد يغلب أحيانا تحليل القديم مما يؤدي إلى الأكاديمية الخاصة، وما تتصف به من برودة، وتعالم، وانعزال عن الواقع، وقد يغلب أحيانا أخرى تحليل الواقع المعاصر؛ مما يعطي البحث طابع التحليل الاجتماعي الذي لا شأن له بالتراث القديم، والواقع أنها معادلة صعبة في النظر إلى الواقع كحصيلة للتراث القديم، والنظر إلى التراث القديم من خلال الواقع، قد يقع الباحث في عيب الثقل الأكاديمي الذي يصل إلى حد التعالم، ولكن هذا العيب أخف كثيرا من ترك القديم بطلاسمه ورموزه، وقد يقع الباحث في عيب الوصف الاجتماعي للواقع المعاصر، ولكن هذا العيب أيضا أخف كثيرا من الثقل الأكاديمي وانعزال التراث عن واقعه الذي يتحرك بفعل التراث. (1-3) التراث قضية وطنية
وتراثنا القديم ليس قضية دينية لانطباعه بصبغة دينية، ولأنه قام ابتداء من الدين، ولكنه قضية وطنية تمس حياة المواطنين وتتدخل في شقائهم أو سعادتهم، والدافع على التجديد ليس عاطفة التقديس والاحترام والتبجيل الواجبة لكل موروث ديني بل انتساب الإنسان المجدد إلى أرض وانتماؤه إلى شعب،
10
قضية «التراث والتجديد» قضية وطنية لأنها جزء من واقعنا، نحن مسئولون عنه كما أننا مسئولون عن الشعب والأرض والثروة، وكما أننا مسئولون عن الآثار القديمة والمأثورات الشعبية؛ لذلك آثرنا لفظ «التراث» وليس «الدين»، فالدين جزء من التراث، وليس التراث جزءا من الدين، ويمكن التعامل مع التراث كما نتعامل مع المأثورات الشعبية بتطويرها، وصياغتها، وإبرازها تعبيرا عن روح الشعب وتاريخه، القضية إذن ليست قضية دينية بل قضية اجتماعية أو سياسية أو فنية أو تاريخية، تجديد التراث إذن ليس غاية في ذاته، بل وسيلة للبحث عن روح الشعب وتطويرها كوسيلة لتطوير الواقع ذاته ولحل مشاكله، تجديد التراث هو دراسة للبعد الاجتماعي لقضية الموروث أو دراسة للموروث في بعده الاجتماعي، فهو أدخل في علم الاجتماع الديني أو علم الاجتماع الحضاري، ومن ثم كان أحد مشاكل العلوم الإنسانية، الحديث عن التراث إذن ليس حديثا عن الدين، فالتراث حضارة، والحضارة ناشئة بفعل الزمان والمكان، وكل ما في التراث ليس في الدين، وكل ما في الدين ليس في التراث، فقد ظهر التأليه والتجسيم والتشبيه في التراث ولم يظهر في الدين، وظهر الجبر في التراث ولم يظهر في الدين، وظهرت دعوات في التراث إلى الخنوع والاستكانة والرضا والقناعة والخوف ولم تظهر في الدين، فالتراث إن هو إلا عطاء زماني أو مكاني، يحمل في طياته كل شيء، «ودين الثورة» موجود في الدين وليس موجودا في التراث، «ودين التحرر» موجود في الدين وليس موجودا في التراث، والنزعة اليسارية موجودة في الدين وليست موجودة في التراث، والتاريخ موجود في الدين وليس موجودا في التراث، والإنسان موجود في الدين وليس موجودا في التراث، ومن ثم كانت أحكامنا على التراث بالرفض أو القبول أحكاما لا تمس الدين في كثير أو في قليل، وكان اختيارنا من التراث لا يؤدي إلى تكفير أو تضليل في الدين، فالدين ذاته أصبح تراثنا؛ لأن الدين قد تمثلته جماعة وحولته إلى ثقافة طبقا لمتطلبات العصر، لا يوجد «دين في ذاته»، بل يوجد تراث لجماعة معينة ظهر في لحظة تاريخية محددة ويمكن تطويرها طبقا للحظة تاريخية قادمة.
لذلك تحاشينا استعمال لفظ «إسلامية» كوصف للحضارة لأنه لفظ ديني والقضية حضارية بالأصالة تفرض أسلوبها العلمي الذي يمكن التعامل به مع عديد من الباحثين، وفي حالات الاضطرار القصوى فإن أمثال هذه الألفاظ الدينية لا تدل على أي معنى ديني بل تعني وصفا حضاريا صرفا، أي الحضارة التي نشأت حول الإسلام باعتباره معطى تاريخيا وليس باعتباره دينا، ولا يعني كونه معطى تاريخيا إنكارا للوحي؛ فالإسلام هنا واقعة حضارية حدثت في التاريخ، ويهمنا ما نشأ منه كحضارة وليس مصدره من أين أتى، تهمنا حضارته بعد حدوثه بالفعل، تجديد التراث لا يبحث عن النشأة بل عن التطور، والمجدد هنا كعالم الحديث مهمته البحث عن صحة الحديث في التاريخ وليس عن مصدر الحديث في النبوة وصدقها.
والتراث أيضا قضية شخصية؛ لأننا نتعامل مع موروث شخصي يربطنا به، وهو موصوف بنفس الصفة، فهو «إسلامي» ونحن «مسلمون»، والنسبة تشير إلى الحضارة أكثر مما تشير إلى الدين، وتعني أننا والتراث من منطقة حضارية معينة كما يعيش الغربي في تراث مسيحي ولا يكون هو مسيحيا، أو كما يعيش الهندي في تراث هندي ولا يكون هندوكيا أو بوذيا، التراث قضية شخصية نلتزم بها، وتختلف دراستنا له عن دراستنا مثلا للتراث الهندي أو الفارسي أو الصيني أو الغربي؛ لأننا في هذه الحالة نكون مجرد باحثين، في حين أننا في الحالة الأولى نكون أكثر من باحثين، بل نكون ملتزمين بقضية شخصية، تجديد التراث هو حياة المجدد نفسه، وجزء من التحليل النفسي لشخصيته الوطنية؛ من أجل التعرف على مكوناته النفسية. فتراث المجدد في نفس الوقت ذات وموضوع؛ لأن موضوع البحث هو ذاته أي وجوده التاريخي في اللحظة الحاضرة بين الماضي والمستقبل، لا ينظر الباحث إلى التراث إذن نظرة سائح إلى عالم غريب؛ لأن التراث جزء من ثقافة الباحث الوطنية، والباحث مسئول عنه مسئولية قومية، فالأحكام الخاطئة لا ترصد بل يعاد صياغتها، وأوجه النقص في التراث لا تبرر أو تنقد بل تكمل وتزاد، فالباحث عن نفس مستوى مسئولية المفكرين القدماء وهم أترابه وليسوا غرباء عنه، فإذا انفصل الباحث عنهم وقع في الغربة، وأصبحت مسئوليته هو وليست مسئولية التراث أن يقضي على اغترابه حتى يشعر بالانتماء وبأنه جزء من التراث وبأن التراث جزء منه،
11
ولا ينقص الالتزام بالقضية من حياد الباحث أو من نزاهته أو من موضوعيته، فلا تعني الموضوعية التخلي عن الحكم أو عدم الغوص في الأشياء وأخذ موقف، فالباحث عالم ملتزم، والتزامه أساس علمه ويقوم على علم، بل إن علمه هو التزامه بقضايا التغيير الاجتماعي، وهذا الالتزام هو نفس موضوع العلم، وبتعبير معاصر نقول: الأيديولوجية هي العلم والعلم هو الأيديولوجية؛
12
ولذلك تتكشف المشاكل القديمة في شعور الباحث المعاصر كمشاكل شخصية في حياته، وحيوية لثقافته الوطنية، ويتحول التراث القديم بالفعل إلى مشكلة الثقافة الوطنية، فهو مصدر الثقافة باعتباره مخزونا نفسيا موجها لسلوك الجماهير، وهو موجه نحو الواقع باعتباره أسسا لنظرية ممكنة للتغير والتنمية، وإذا كانت ثقافتنا الوطنية ما زالت تتأرجح بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، فإن تجديد التراث يعطي لثقافتنا الوطنية وحدتها الضائعة، وتجانسها المفقود؛ ولذلك نستعمل ضمير المتكلم الجمع في «واقعنا» و«حضارتنا» و«موقعنا» و«عصرنا»، لا لندل على موقف حضاري خاص، أو على أسلوب شخصي جماعي، بل للإشارة إلى الحضارة كموقف شعوري، وإلى أن الغاية هو البحث عن أسباب التوقف التاريخي أو الانحراف الفكري أو الاغتراب الوجداني أو التغير الحضاري، وهو ما يحدث في كل حضارة تصنع نفسها موضع البحث، وتجدد صلتها بالتراث القديم والواقع المعاصر.
13
فإن قيل: هل «التراث والتجديد» يقدم منهجا أم يؤسس علما أم يكشف ميدانا؟ قيل: إن كل تجديد يصعب تصنيفه إلى منهج أو علم أو ميدان، فالمنهج هو ذاته علم لأنه تأسيس للعلم، والعلم إذا كان تأسيسا للعلم فهو ميدان، ميدان التأسيس، فتحليل الواقع المباشر ورؤية التراث فيه، أو تحليل التراث على أنه مخزون نفسي عند الجماهير، هو في نفس الوقت منهج نفسي اجتماعي، نفسي لأنه يقوم على تحليل شعور الناس وسلوكهم، واجتماعي لأنه يهدف إلى تحليل الواقع وإلى أي حد ترتكز هذه الأبنية على أبنية نفسية أخرى عند الجماهير، ولما كانت هذه الأسس النفسية ذاتها ناشئة من موروث حضاري، فإنه يتعين تحليل هذا الموروث ومعرفة ظروف نشأته، «التراث والتجديد» إذن يغطي ميادين ثلاثة: (1)
تحليل الموروث القديم وظروف نشأته ومعرفة مساره في الشعور الحضاري. (2)
تحليل الأبنية النفسية للجماهير وإلى أي حد هي ناتجة عن الموروث القديم أو من الأوضاع الاجتماعية الحالية. (3)
تحليل أبنية الواقع وإلى أي حد هي ناشئة من الواقع ذاته ودرجة تطوره أم أنها ناشئة من الأبنية النفسية للجماهير، الناشئة بدورها عن الموروث القديم، وإن شئنا، فالتراث والتجديد يود الانتقال من علم اجتماع المعرفة إلى تحليل سلوك الجماهير، أي من العلوم الإنسانية إلى الثقافة الوطنية، ومن الثقافة الوطنية إلى الثورة الاجتماعية والسياسية.
والموضوع ليس جديدا بل هو ما يتحادث فيه العامة والخاصة، وما تتناوله الجماهير والمثقفون، ويكاد يجمع الكل على أن هذا موضوع العصر، وأن البداية في شق طريقه هو سبيل الخلاص، وهو الموضوع الذي بدأه المصلحون الدينيون كما سار فيه بعض الباحثين المعاصرين، ولكن التحليلات كلها إما جزئية ولا تشمل الكل، وإما تكتفي بمجرد التعبير عن الأماني والنيات الحسنة في تجديد التراث، وإما تعبيرات خطابية وأساليب بيانية تلهب حماس الناس وتعلن عن الكاتب أكثر مما تكشف شيئا، وإما أسيرة قوالب التراث الغربي تجدد من خلاله، فهو تجديد من خارج التراث وليس من داخله.
وهذه مهمة جيل واحد، هو جيلنا، بعدها يكون المخزون من الطاقة قد تصرف أو يكون المنصرف منها قد توجه إلى تغيير الواقع، ولكن بعد أن يتم البناء الفكري والشعوري لا يعود لتجديد التراث القديم أي معنى لأن الموروث القديم قد تحول إلى تحليل مباشر للواقع، بل يكون التراث كله قد تحول إلى طاقة عملية ولم يعد له وجود مخزون، قد تطول المدة إلى جيلين أو ثلاث، خاصة لو ركز كل جيل على جانب، ولكن بعدها يأتي التحليل المباشر للواقع، ويكون التراث حينذاك هو أيديولوجية الجماهير، وروحها المعنوية، وطاقاتها النضالية، وهذا ما لا ينتهي بانتهاء الأجيال.
ومهمة التجديد لا تقع على عاتق فرد واحد، بل هي مهمة طليعة المثقفين، وجمهور الباحثين نظرا لتعدد جوانب التراث وحاجته إلى باحثين متخصصين، كل في ميدانه، ولما كانت المهمة سياسية بالأصالة فإنها تقع على عاتق الحزب التقدمي الوطني، فالحزب هو عصب الجماهير وروحها الذي يعبر عن متطلباتها، وهو الذي يرث الماضي ويعبر عن وجدان العصر، الحزب هو الذي يقوم بتجديد التراث لأنه هو المعبر عن الجيل - والممثل لروح العصر، لا تقع مهمة التجديد على عاتق فرد بعينه - وإن كان الفرد يستطيع إعطاء وحدة العلوم، ووحدة النظرة، ووحدة المنهج - فهو ليس عملا بطوليا يعبر عن عبقرية فردية، بل هو عمل جماعي يقوم به من يتحمل تبعة تغيير الواقع، ومن هم هؤلاء إن لم يكونوا طليعة الجماهير، وما هي الجماهير إن لم توجد نفسها بإيجاد الحزب؟ (2) الوضع الحالي للمشكلة
وقضية «التراث والتجديد» حتى الآن تتنازعها حلول ثلاث: (2-1) الاكتفاء الذاتي للتراث
وذلك يعني أن تراثنا القديم حوى كل شيء مما مضى أو مما هو آت، وهو فخرنا وعزنا، وتراث الآباء والأجداد، علينا الرجوع إليه ففيه حل لجميع مشاكلنا الحاضرة، وتبرز معان كثيرة من الأحاديث مثل: «لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها»، أو حديث: «خير القرون قرني ثم الذي تلاني»، فلا يتقدم الحاضر إلا بالرجوع إلى الماضي، وأن التاريخ يسير في تدهور مستمر، وأن قمة التاريخ كانت في عصر ذهبي في الماضي، وأنه لا يمكن اللحاق بهذه القمة من جديد، فذاك عصر الطهارة قد انقضى وولى، ليس التراث قضية فخر واعتزاز بالماضي، بما تركه الآباء والأجداد لأن الاعتزاز بالماضي إسقاط من الحاضر عليه بمعنى أنه تعويض عن قصور جيلنا بالهروب إلى الماضي، وتخل عن معارك العصر، كما أن الاعتزاز بالماضي انصياع للعواطف القومية المعاصرة التي تقوم على بعث النعرة القومية التي تسربت إلينا من مسار الحضارة الغربية في القرن الماضي، الاعتزاز بالماضي استسلام للنزعة الخطابية السائدة في عصرنا والتي تغطي الواقع بسيل من الخطب الحماسية، وفي غياب العقل يسود الانفعال، ولا يمكن تسمية هذا الموقف بالموقف المحافظ، فالموقف المحافظ يدل على وعي فكري بالقضية واختيار لأحد الحلول الثلاثة، وهو موقف اليمين الواعي، ولكن هذا الموقف يكشف عن وضع اجتماعي لفئة معينة من الناس، تبغي المحافظة على مكاسبها والبقاء في مناصبها أو ترنو إلى مكاسب أعظم ومناصب أعلى عن طريق المزايدة في الدين، والحمية في الدفاع عنه، فهي ظاهرة اجتماعية أكثر منها ظاهرة فكرية، وكثيرا ما تحدد الظواهر ببنائها الاجتماعي، ويكشف هذا الموقف عن الآتي:
النفاق؛ وذلك لأن أصحاب دعوة الاكتفاء الذاتي للتراث لا يؤمنون بشيء، ولا يبغون إلا المحافظة على مصالحهم الخاصة، فبما أنهم رجال الدين، وحملة العمائم، فإن التأكيد على الماضي كقيمة مطلقة فيه تثبيت لمناصبهم، وتأكيد لسلطانهم، متسترين وراء العلم، والدعوة إلى نصرة القديم ضد البدع المستحدثة، فهو إذن موقف يقوم على النفاق، ولا يبغي إلا المحافظة على المصالح الشخصية، ويكفي إقامة جدول إحصائي لجماعة العلماء والهيئات الدينية، والمبشرين بهذه الدعوة في أجهزة الإعلام لمعرفة نسبة دخولها من المناصب الدينية والمواقف السلفية والمزايدة على بعضهم البعض وكأنهم في حلبة سباق!
العجز، ولما كانت هذه الفئة بطبعها إحدى طفيليات المجتمع المتخلف فإنها تتعيش عليه، وتستمد وجودها من وجوده، ويستغلها الوضع السياسي القائم من أجل إضفاء الشرعية على نفسه، وتبرير وجوده أمام الجماهير، فهي إذن عاجزة عن فعل شيء، ولو كانت قادرة لفعلت، وتعويضا عن هذا العجز تقيم معركتها في الهواء، وتبعد أنظار الحاضرين عن واقعهم، وتجعلهم يعيشون في الماضي، يجدون فيه عزاء عن واقعهم المرير، وهو عجز فكري لأنها فئة غير قادرة على القيام بأي دور في قضية التغير الاجتماعي، مع أنها زالت مرتبطة بالشعب في المواسم والأعياد والمآتم ودروس العصر والمغرب والعشاء.
النرجسية، وعلى أحسن تقدير، ومع افتراض الأمانة في مثل هذا الموقف، وأنه يعبر عن قضية، ويلتزم بمبدأ، فإن هذا الموقف ذاتي خالص تنقصه الموضوعية ويكشف عن ذاتية فارغة خالية من أي مضمون، هو موقف نرجسي لا يرى فيه الإنسان أبعد من مصالحه الخاصة، يعيش ويدور في فلك أهوائه، ولا ينكشف إلا بتأثر من خلاله وهو ما يسمى بالمصلح الديني الذي يرفض النفاق، ويكشف عن الدين في نقائه وصفائه، أو بتأثير من الجماعة العريضة، وهو ما يسمى بالمصطلح الاجتماعي أو إن شئنا بالثائر الذي يغير من بناء الواقع نفسه، فتتغير أبنيته الطفيلية التي تعيش عليه، وهذه النرجسية ناشئة في الحقيقة إما عن نفاق وتستر ومساومة وممالأة كما هو الحال في الأول، أو عن عجز وضعف وخنوع واستكانة كما هو الحال في الثاني. (2-2) الاكتفاء الذاتي للجديد
وذلك يعني أن التراث القديم لا قيمة له في ذاته، كغاية أو وسيلة ولا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم، وبأنه جزء من تاريخ التخلف أو أحد مظاهره، وأن الارتباط به نوع من الاغتراب ونقص في الشجاعة، وتخل عن الموقف الجذري، ونسيان للبناء الاجتماعي الذي هو إفراز منه في حين أن الجديد علمي عالمي، يمكن زرعه في كل بيئة، والحقيقة أن هذا الموقف يكشف أيضا عن وجود فئة من الناس استطاعت أن تتحقق بما لم يصل إليه سائر أفراد المجتمع من علم وحماسة وشجاعة ورغبة في التغيير وجذرية ونقاء، ولكنها تسبق الغالبية العظمى بمراحل، وتنتهي إلى العزلة، فهي على حق من حيث المبدأ وعلى خطأ من حيث الواقع، فتسرع بإعادة البناء والقديم ما زال قائما بعد، تبني فوق بنيان متهدم قائم دون أن تكمل الهدم لتعيد البناء من جديد، وحياة الشعوب لا تتغير في لحظة، ولربما يستغرق التغير أجيالا وأجيالا لو أردنا للتغير أن يكون جذريا من الأساس وليس تغيرا سطحيا متسرعا، ويكشف هذا الموقف عن الآتي:
قصور النظرة العلمية، فليس التراث بغير ذي قيمة، إن لم يكن كغاية في ذاته فعلى الأقل كوسيلة، فالتراث جزء من المخزون النفسي للمعاصرين، فهو إذن إحدى مكونات الواقع، كالعادات والتقاليد والأمثلة الشعبية، وهذه لا تلغي أو تسقط من الحساب بل تستخدم ويعاد صياغتها، وتغيير الجماهير وتطوير الواقع لا يتم بطريقة آلية عن طريق استبدال جماهير بأخرى أفضل، وواقع بواقع آخر أكمل بل بتطوير الموجود بالفعل دون نظر إلى التكاليف أو الوقت أو الجهد، فهذا هو البناء الأبقى، وأنه ليمكن بسهولة تصنيع الريف عن طريق وضع آلة في القرية تدخل من جانب الفاكهة وتخرجها من جانب آخر معلبات، فينظر إليها الريفي بعين الدهشة والإعجاب وينقل نظرته إلى الضريح، القادر على القيام بالمعجزات، وإلى الولي القادر على القيام بالكرامات - ينقل نظرته هذه إلى الآلة، فالكل بالنسبة إليه شيء يثير الدهشة في غياب الرابطة بين العلة والمعلول، فبتغير البناء التحتي لا يتغير البناء الفوقي آليا بل لا بد من عملية إعادة تفسير القديم من أجل تغير النظرة للعالم، وهذا هو شرط التصنيع وأساس التقدم.
التقليد، تخاطر هذه الفئة بالوقوع في التقليد، وباستعارة تجارب سابقة، وبالوقوع في العمومية ونسيان الخصوصية - وقد يصل الأمر إلى حد الخيانة للواقع بالإضافة إلى التبعية الفكرية التي قد تصل أيضا إلى حد العمالة، ذلك لصدور الجديد عن بيئة ثقافية مغايرة لبيئة الثقافة الوطنية، وهي في الغالب البيئة الأوروبية سواء كانت الدعوة إلى النظم الليبرالية أم إلى النظم الاشتراكية؛ لذلك كان أنصار التجديد متأوروبون، سلوكيا أم ثقافيا، وقد نبهت حركات الإصلاح الحديثة على خطورة التقليد والتبعية، ولكن دون جدوى، فنظرا لانفصام عديد من المثقفين عن التراث القديم نتيجة للاغتراب الحضاري فإنهم لا يجدون بديلا إلا في التراث الغربي الذي كانت له الريادة منذ أربعة قرون دون وعي منهم بانحسار هذه الريادة الآن، ودون دراية بأن هذه الثقافة التي ينهلون منها الثقافة محلية صرفة، وليس فيها أي أثر لدعوى العالمية والشمول.
14
الازدواجية، وذلك أن أكثرية هذه الفئة تربطها بأوروبا أوشاج ثقافية أو دينية، فقد تربت في مدارس غربية خاصة، دينية أم علمانية، كما نشأت في الغرب وتكونت ثقافيا فيه، وتظن أن التراث القديم تراث إسلامي لا يرتبطون به دينيا أو ثقافيا،
15
ومن ثم، وجدت هذه الفئة نفسها تدعو للحديث وترك القديم «الإسلامي» ولكنها بينها وبين نفسها تحرص على القديم «المسيحي» وترى في تاريخ الكنيسة القبطية تاريخا لمصر، وفي تاريخ الكنيسة المارونية تاريخا للبنيان ... إلخ، فهي تدعي الإلحاد أمام المسلمين، وتؤمن بالله بينها وبين نفسها، تريد للمسلمين المواقف الجذرية، وتعيب عليهم الأساطير والغيبيات، وسيادة الوهم والخرافة، ثم تتعبد لله وتنشط داخل الكنيسة، تريد منهجا اجتماعيا جذريا يحدد العلاقة بين الإنسان والإنسان، وتؤمن بمنهج صوفي خالص يحدد العلاقة بين الإنسان والله في حين أن النظرة العلمية تحتم عليهم وحدة المنهج ، هذا بالإضافة إلى أن التراث القديم تراث سامي لا فرق فيه بين لحظاته الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام بل إنه يجمع كل التراث السامي القديم، الفرعوني والأشوري والبابلي والكلداني.
الثقافة العصرية ليست غاية في ذاتها يمكن الكتابة عنها، والتعرف بها، وتقديمها والدعوة لها، فذلك ما تم منذ أكثر من قرنين من الزمان منذ بداية عصر الترجمة الثاني،
16
الثقافة العصرية هي ما سماه القدماء علوم الوسائل من أجل علوم الغايات، وأفضل المؤلفات في مذاهبها لن تغير الواقع قيد أنملة بل على العكس قد تطمس معالمه، وتكدس عليه معلومات قد لا يحتاجها كلها، وقد لا يحتاجها على الإطلاق، فانشغال الباحثين بعلوم الوسائل ضياع للوقت والجهد والعمر، وترسيخ للاغتراب الحضاري في شعور الناس، إن لم تستغل لتجديد القديم، وفك عقد الناس منه، الثقافة العصرية واردة من حضارة غازية، وهي ثقافة بيئية مغايرة لواقعنا المعاصر، فهي تعمي أكثر مما تكشف، وتغلف أكثر مما تبين،
17
موقفنا من الثقافة العصرية لا يكون فقط باستعمالها كعلوم للوسائل بل أيضا بأن نأخذ منا موقفا وردها إلى بيئتها المحلية، واكتشاف أوجه قصورها في تحليل واقعها المحلي بشعور محايد هو شعورنا، ويكون هذا أكبر إضافة جديدة منا على الحضارة البشرية والاكتفاء بين الحضارات. (2-3) التوفيق بين التراث والتجديد
ويعني هذا الموقف الثالث الأخذ من القديم ما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمقاييس القديم، فهو موقف شرعي من الناحية النظرية يود أن يستوعب مزايا كلا الموقفين السابقين وأن يتخلى عن عيوبهما، وقد عبر الكثيرون عن نواياهم للقيام بهذا الدور، ولكن إعلان النوايا شيء، وتحقيقها شيء آخر خاصة ولو تم ذلك بأسلوب خطابي، فإذا تم شيء فإما يتم لحساب القديم وبذلك يرجع إلى الموقف الأول وإما لحساب الجديد وبذلك يرجع إلى الموقف الثاني؛ لذلك بقت المشكلة تحتاج إلى دراسة وإلى تحديد الصلة الدقيقة بين التراث والتجديد بنظرة علمية بعيدة عن كل خطابة أو عن تحقيق أية مصلحة شخصية، وقد ظهرت عدة محاولات جادة للتراث والتجديد تتم بطريقتين:
التجديد من الخارج، وذلك عن طريق انتقاء مذهب أوروبي حديث أو معاصر ثم قياس التراث عليه ، ورؤية هذا المذهب المنقول في تراثنا القديم وقد تحقق من قبل، ومن ثم نفتخر بأننا وصلنا إلى ما وصل إليه الأوروبيون المعاصرون بعشرة قرون أو أكثر من قبل، فهناك أرسطية ليبرالية، ومادية اشتراكية، وديكارتية إصلاحية وكانطية أخلاقية، وماركسية غربية، وشخصانية إسلامية، ووضعية أصولية
18 ... إلخ وهي اتجاهات نشأت بعد أن استطاع عدد من الباحثين الذهاب إلى الخارج في بعثات أولى، وتعلموا المذاهب السائدة في ذلك الوقت أو نقلوها طبقا للمزاج والبيئة والثقافة، ثم رجعوا يروجون للمنقول، وبعد حين وجدوا أنفسهم أيضا في بيئتهم المحلية فلم يتنكروا لها منذ البداية أو تنكروا لها ثم عادوهم الحنين إلى الماضي بعد اكتشاف اغترابهم وانعزالهم عن الثقافة القومية أو ربما على أسوء تقدير تبعا للتيار ودخولا في التيار الثقافي الوطني، أخذوها في الاعتبار، ودرسوا التراث بمنظور مذهبهم المنقول ولكن النية لم تكن معقودة أولا للتراث والتجديد بل خضعت إما للتطور الفكري للباحث أو لتنوع كتاباته أو رغبة منه في إعادة التأقلم مع بيئته الثقافية ورفضه أن يكون دائرة منعزلة هامشية غريبة على التراث القديم، ويكون الكاتب دخيلا على مجتمعه وقومه، وفي كل الحالات ينشأ التجديد من الخارج عرضا وليس قصدا، وما زال هدفه هو الإعلان عن الباحث والدعاية للكاتب، وأخذ شرف التجديد والمعاصرة.
التجديد من الداخل، وذلك عن طريق إبراز أهم الجوانب التقدمية في تراثنا القديم، وإبرازها تلبية لحاجات العصر من تقدم وتغير اجتماعي، فتبرز الاتجاهات الاقتصادية في الملكية العامة وفي تنظيم الزكاة، أو نظرياته القانونية في التشريع بوجه عام، ولكنها جميعا محاولات جزئية تبرز بعض الجوانب التقدمية الأصلية، في تراثنا القديم، ولا تعطي صورة عامة للتراث كله وإعادة بنائه طبقا لحاجات العصر، في حين أن المطلوب تطويرها وتوسيعها حتى تكون هي روح العصر، وإعطاء نظرة متكاملة للتراث، كما أنها تقع في الانتقائية وأخذ ما تريد وترك ما لا تريد، فالمحافظ له نفس الحق الذي للتقدمي في انتقاء بعض الجوانب المحافظة في تراثنا القديم والاعتماد عليها في الحد من التغيرات الاجتماعية، ويكون كلاهما على صواب ينتسب إلى التراث، ويحافظ عليه، ويربطه بحاجات العصر، والمطلوب هو إعادة تفسيرها لمعرفة أسباب وجودها في تراثنا القديم وكيف أنها كانت قديما تمثل جوانب تقدمية بالنسبة للعصر الذي نشأت فيه، كما يغلب على هذه المحاولات أحيانا الطابع الخطابي الحماسي الدفاعي تعبيرا عن الإحساس بالنقص وتعويضا عن ذلك بالعظمة بالنسبة للغير، فهي قد ترضي الأذواق وإن لم تكن كافية لإقناع العقول، ولا توجد إلا محاولات معدودة لإعادة بناء علم بأكمله أو العثور على محور أساسي للقديم كله.
قضية التراث والتجديد هي في الحقيقة قضية «التنظير المباشر للواقع» ضد خطأين شائعين: الأول الذي يتحدث عن العصر وكأن العصر يحتوي على حلوله في ذاته وأنه يكفي مجرد إجابة متطلباته حتى تحل مشاكله، ويتحرك بعد ركود، ولكن العصر ذاته يحتوي على المخزون النفسي القديم باعتباره أحد مكونات الواقع، أما الدخول في الواقع مباشرة ومحاولة تنظيره فهو نقص في النظرة الموضوعية، وإغفال للأساس النفسي لسلوك الجماهير، والتعامل مع الظواهر الإنسانية وكأنها ظواهر طبيعية خالصة، وقد تتضارب التفسيرات للواقع الواحد بناء على الاختلاف النظري المسبق لدى الباحثين، ولو أخذ الواقع النفسي في الحسبان لتكاملت نظرتهم، واتفقت تفسيراتهم، إنه لمن السهل على أي باحث أن يحلل الواقع المسطح مباشرة، فما أسهل على القارئ أن يسمع تحليلا لواقعه مباشرة، ولكن الواقع أكثر تعقيدا؛ لأنه يقوم على الزمان وعلى التراكم الزماني، الواقع تاريخ ممتد كميدان للفعل، ولا يمكن فهمه إلا داخل مسار التاريخ - الوحدة الكلية، وقد يود الباحث إظهار براعته في التحليل ووصف الواقع المسطح للإعلان عن نفسه متوشحا بالأسلوب، ولكنه إن لم يأخذ الواقع ذاته بجميع مكوناته مكان الصدارة، وتخفى الباحث وراءه، فإن الواقع سيظل عنيدا مقاوما لا يتغير، إن التحليل المباشر للواقع بلا تنظير ما راجع إلى نقص أيديولوجي عند الباحث، ناشئ عن نقص في الوعي النظري أو عن خوف من الانتساب إلى نظرية، أو عن تراجع في الإعلان عن موقفه بالرغم من رؤيته بينه وبين نفسه مدى صدق أيديولوجية ما، ويظل الباحث يتخبط في كل اتجاه فهذا أسلم له من أخذ موقف معين، وهنا يكون الموقف هو عدم اتخاذ موقف.
والخطأ الثاني هو الذي يبدأ باستنباط الواقع من نظرية مسبقة سواء كانت موروثة أو منقولة أو عصرية تجمع بين الموروث والمنقول، فالتراث والتجديد ليس المقصود منه التعامل مع معطيات ثقافية والإصلاح بينها بل المقصود منه إدراك الواقع بنظرية علمية، ويقوم أصحاب الموروث وأصحاب المنقول في نفس الخطأ وهو البدء بنظرية مسبقة وعلى الواقع أن يتكيف طبقا لها، وإن اختلفا معا في مصدر هذه النظرية وليس في أسسها وصلاحيتها، فكلاهما يدافعان عن فكر لا عن واقع وكلاهما من أنصار التراث وليس من أنصار التغيير، أما محاولات التجديد فإنها أيضا تتم عن طريق الجمع بين التراثين الموروث والمنقول من أجل التوفيق بينهما وكأن العصرية تعني اتفاق التراث القديم مع التراث العصري، فهي محاولات فكرية وإن كان الواقع هو المقصود، أما «التراث والتجديد» فهو القادر على التنظير المباشر للواقع لأنه يمد الواقع بنظريته التي تفسره، وقادرة على تغييره، فالتراث هو نظرية الواقع، والتجديد هو إعادة فهم التراث حتى يمكن رؤية الواقع ومكوناته، وسواء بدأنا من التراث لفهم الواقع أو التنظير المباشر للواقع، فكلا المنهجين، النازل والصاعد، يؤديان إلى نفس النتيجة، ويصلان إلى نفس التحليل إن تم تطبيقهما معا وليس كلا منهما على انفراد، فلا الواقع يستنبط من الفكر، ولا الفكر يأتي من الواقع المسطح الجزئي وإن كان يأتي من الواقع العريض، وذلك راجع إلى واقعة الوحي الذي هو مصدر التراث، وكيف أنه جاء تلبية لنداء الواقع، وتكيف على أساسه.
ثانيا: أزمة التغير الاجتماعي
(1) أزمة التغيير في واقعنا المعاصر
والتراث والتجديد رد فعل على أزمة التغيير للواقع الاجتماعي؛ نظرا لتعثر محاولات التغيير واصطدامها جميعا بقضية التراث كمخزون نفسي عند الجماهير، وكما أن هناك اتجاهات ثلاثة في مشكلة التراث والتجديد على المستوى النظري؛ فإن نفس الاتجاهات الثلاثة موجودة أيضا على المستوى العملي، وهي المسئولة عن أزمة التغيير. (1-1) التغيير بواسطة القديم
يحاول البعض التغيير بالتكالب على قيم التراث القديم، والرغبة في تحقيقها ككل، واعتبار الواقع عالما جاهلا إما يتقبل هذه القيم ككل أو يرفضها ككل، فإذا قبلها فهو المجتمع المؤمن، وإن لم يقبلها فهو المجتمع الكافر الذي يجب الخروج عليه، وغالبا ما تصطدم هذه المحاولات بالسلطة فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع القرآن، وتتعثر هذه المحاولات للأسباب الآتية: (1)
سيادة النظرية الإلهية على الفكر النظري؛ ولذلك خرج تصور أنصارها لنظام الواقع على أنه حكم إلهي، فالحاكمية لله بصرف النظر عن طبيعة هذا الواقع وعن مكوناته، وارتبط التغيير المنشود في أذهان المثقفين بالدعوة إلى الحكم الثيوقراطي وهو ما ناهضت الإنسانية في التراث الغربي من أجل التخلص منه إلى الحكم الديموقراطي وهو التفسير العقلي الواقعي لحاكمية الله بفعل الشورى، وبدا أن الغاية هو الدفاع عن الله وليس التغيير الاجتماعي، وبدت الدعوة دينية متطاولة على السياسة، وغير قادرة على ممارسة قضايا التغير الاجتماعي التي تحتاج إلى علم دون دين، وإلى واقعية دون إيمانية مسبقة، وكانت النتيجة أن ابتلاع العالم كله داخل الإلهيات، كما أصبح العدل جزءا من التوحيد في فكرنا الديني المتأخر، ولم تستطع هذه المحاولات تفسير الإلهيات على أنها اجتماعيات، وتحويل الدين من علم للعقائد إلى علم إنساني. (2)
وقف تطور هذه الدعوة فكريا، ووقوفها عند مرحلة معينة من مراحلها، وعدم الأخذ في الاعتبار التطورات الجديدة والمستمرة التي تطرأ على الواقع والتي تحتم على الفكر النظري اللحاق بها؛ ومن ثم تأخر الفكر الإصلاحي الحديث عن مستوى التطور للواقع المعاصر وبدا متخلفا، لم يزد على الحركات الإصلاحية الحديثة شيئا، ولم يدفع الفكر الإصلاحي الحديث خطوة أخرى إلى الإمام إن لم يكن قد تأخر خطوات، دون استثمار للإحياء الاعتزالي، والتأكيد على استقلال العقل والإرادة، ودون تطوير ل «لاهوت الثورة»، ودون معالجة لقضايا الأرض، ودون تجنيد للجماهير، ودون إصلاح للتعليم أو للقضاء من داخله، وهي المحاولات التي بدأها فكرنا الإصلاحي وتركناها بلا تطوير. (3)
عدم القدرة على تحويل الإلهيات إلى فكر نظري ثم تحويل الفكر النظري إلى أيديولوجية سياسية اقتصادية واضحة المعالم يمكن صياغتها بطريقة عقلية عملية صرفة، ووضع برنامج شامل تتحقق فيه الأيديولوجية، ويصبح هذا البرنامج دليلا للعمل الثوري؛ ومن ثم كانت الرغبة ما زالت ملحة على فكرنا المعاصر في البحث عن أيديولوجية «إسلامية» في مقابل الأيديولوجيات المعاصرة، وستستمر هذه المحاولات لتغيير الواقع في تعثرها طالما أنه لا توجد أيديولوجية لها واضحة المعالم يجد فيها الواقع تعبيرا عن ذاته، وتجد فيها الجماهير تحقيقا لمصالحها. ولا يكفي هنا إعلان النوايا الطيبة، وإثبات حقائق بلا برهان، والفخر بأن لدينا كل شيء، فالمهم هو عرض ما لدينا بصورة علمية متكاملة ومقبولة كافتراض نظري يثبت صدقه عند التحقيق، ويدخل ضمن أيديولوجيات العصر.
1 (4)
سيادة التصور الرأسمالي للدين، وهو التصور الطبقي له؛ نتيجة للإيمان بالتصور الهرمي للعالم، وهو ما ورثناه قديما من نظرية الفيض أو الصدور، الذي يرتب الكون طبقا لمراتب الشرف والكمال، كلما صعدنا إلى أعلى زادت مراتب الشرف، وكلما نزلنا إلى أسفل قلت مراتب الشرف، هذا التصور الذي يضع الناس والطبقات الاجتماعية ويرتبها بين الأعلى والأدنى لا بين الأمام والخلف، هو التصور الرأسي للعالم وليس التصور الأفقي، وهو ما تابعنا فيه التراث الغربي أيضا الذي ينشر لهذا النوع من الفكر الديني؛ لأن فيه إرساء للنظام الرأسمالي وتأسيسا له على أسس نظرية ووجدانية للشعوب المستعمرة وللبلاد المتخلفة؛ لذلك انحاز أنصار هذا الفكر إلى الرأسمالية وعادوا الاشتراكية، ولو أنهم كانوا مناهضين للاستعمار والملكية ومظاهر الإقطاع والفساد الاجتماعي، فهم يؤمنون بالملكية والتفاوت في الرزق، ويدافعون عن الغيبيات والقضاء والقدر، كما يؤمنون بالثنائية التقليدية بين الروح والبدن، الدنيا والآخرة، الجنة والنار، الملاك والشيطان؛ مما يسبب فصما في حياة الفرد بين عالمين يعيشهما متجاورين أو متمايزين أو مخلوطين أحدهما بالآخر، يعيش الفرد دنياه ويدعي أخرته أو يعيش آخرته ستارا لدنياه، هذه الثنائية التي هي أساس كل مظاهر الازدواجية في سلوكنا القومي.
2 (5)
معاداة كل محاولات التجديد على المستوى النظري، واتهام كل محاولة جريئة بالإلحاد والشيوعية والماركسية، واتهام كل محاولة لتغيير الأساس النظري الهرمي أو الثنائي إلى أساس واحدي طبيعي بالمادية والكفر، مع أن الفكر الطبيعي كان موجودا في تراثنا القديم عند الطبائعيين، ولا ضير أن يبدأ الفكر الديني بتبني الواقع والبداية منه ورفض كل المحاولات لتعميته والإقلال من شأنه والقضاء عليه وتحويله إلى شيء مخالف له في الوهم أو الخيال أو التمني، والتوحيد في النهاية يشير إلى وحدانية النظرة، ووحدانية الطبيعة، ووحدانية العالم، ووحدانية الوجود الإنساني، التجديد إذن كان قاصرا مترددا، ولم تكن به الجرأة النظرية الكافية كما هو الحال في «لاهوت الثورة» في البلاد النامية.
3 (6)
سيادة التعصب بدل الوعي الفكري، وسيطرة الحمية الدينية بدل الالتزام الواعي خاصة إذا انضم الشباب، وعمت الدعوة قطاعات الشعب جميعا، فالأيديولوجية مجموعة من الأفكار المستقاة من الواقع والتي تنظر الواقع، وتقبل التغيير والتعديل طبقا لتطورات الواقع، ومن ثم فهي ضد القطعية الجازمة، وعلى نقيض الروح الدجماطيقية، وهنا تأتي أهمية التنوير العقلي حتى تظهر الدعوة في قالبها الفكري، والانفعال في النهاية هو قصر نظر إن لم يكن غيبة النظر على الإطلاق، ونقص في الوعي الفكري، وعدم القدرة على الإحساس بالآخر، وعدم قدرة على التحقيق والإنجاز وكأن الانفعال يخلق واقعه من خلال ذاته ولا يحتاج إلى واقع آخر تتحقق فيه أماني الانفعال ورغباته. (7)
جدل الكل أو لا شيء عند الممارسة، فالناس إما مؤمنون بانتسابهم إلى الجماعة أو كافرون بخروجهم عليها، فهم صنفان، صنف مع وصنف ضد، والأيديولوجية كل لا يتجزأ إما تطبق أو لا تطبق، وليس هناك مجال لأي تطبيق جزئي، أو أي زيادة أو نقص في الإيمان كما كان يقال في تراثنا القديم، في حين أن الواقع هو الواقع، لا هو بالمؤمن ولا بالكافر، قد يتجه نحو الأيديولوجية وقد يبتعد عنها ولكنه لا يكون أبدا خاليا منها أو مطابقا لها، وواقعية أية دعوة في تبنيها نظم الواقع المتفقة معها وتكملتها وتطوير ما يحتاج إلى تطوير منها، فالدعوة لا تأتي على لا شيء، وقد جاء الوحي قديما على تراث سابق أكده وطوره إلى مرحلة جديدة، وتخطئ الثورات الحديثة عندما تظن أنها تبدأ من لا شيء وتجب ما قبلها، فالغلظة منافية لتجنيد الجماهير، والاتهام للناس مناف للعمل معهم، وإلا يكون الداعي كمن يقطع أنفه. (8)
تغيير الواقع بالقوة دون انتظار لتجنيد الجماهير، واستعمال العنف ضد الجماعات، وليس ضد الطبقات، فالصراع يتم على المستوى الرأسي لا على المستوى الأفقي، والعنف الثوري لا يحدث إلا إذا وثقت الجماعة الثورية أن الجماهير كلها معها، وأنه لا أمل في تغيير الأوضاع الاجتماعية عن طريق نشر الوعي الجماهيري، إنه ليصعب استعمال العنف الثوري في بيئة تعتبر نفسها أمة واحدة، ومع جماعة ترتبط فيما بينها بالعروة الوثقى، وفي شعب يجمعه الحصير والمصطبة، ويستمعون للراوي ولأخبار البلد، وفي النهاية، قد يكون المخزون النفسي عند الجماهير، طبقات وأفرادا، هو الموجه الأول للسلوك الذي يجب المصلحة الخاصة، وقد يكون في إلقاء التحية على قوم - تحية السلام في «السلام عليكم» - مذهبة لغضب أو إعلانا لثورة أو تأكيدا على وحدة الجماعة أو إبرازا للمصلحة العامة، واغتيال الأفراد لا يقضي على الأفكار. (9)
تغيير الواقع بالوثوب على السلطة دون انتظار لتجنيد الجماهير، مصدر السلطة، ومن ثم كانت مثل هذه الدعوات أقرب إلى محاولات الانقلابات منها إلى تغيير اجتماعي بالفعل، وقد ينشأ هذا الأسلوب من ذهن يسيطر عليه التصور الهرمي المركزي للعالم، ويعطي الأولوية والفاعلية والحكم للقمة على القاعدة وللمركز المحيط، وكان السبب في القضاء على هذه المحاولات هو اصطدامها مع السلطة واتهامها بالوثوب عليها وتدبير المؤامرات لقلب نظام الحكم الشرعي، في حين أن إعداد الجماهير للثورة الشعبية هو العمل الثوري الباقي، وما السلطة السياسية إلا نتيجة لوعي الجماهير، ولا تأتي إلا في نهاية المطاف لا في أوله، وتأتي الرقابة على السلطة من القاعدة إلى القمة وتشارك في الحكم. (10)
الاعتماد على التنظيمات السرية وغالبا ما تكون مسلحة مما يقوي العقلية المتآمرة، والإحساس بالاضطهاد، والانفصال عن الآخرين، والرغبة في السيطرة، في حين أن الحق يعلن عن نفسه خاصة في هذه المرحلة التي يتم فيها تجنيد الجماهير، واجتماعهم على مبادئ بسيطة واضحة، إن السر ضد العلن، والأيديولوجية الواضحة تمارس في العلن في حين أن أيديولوجية السر تمارس في السر، وتدعو في الخفاء ، كما هو الحال في الدعوة الشيعية التقليدية، ولماذا السر والوحي يعلن عن نفسه، والجماهير والسلطة، الحاكم والمحكومون، الكل يبدأ من الوحي كمعطى نظري ووجداني، ولا يرفض أحد توجيه الوحي للواقع، والاختلاف في التفسير حسمه بمصلحة الجماهير؟ وقد تبدأ الدعوة الاجتماعية كلما زاد الإعلان عن العلن.
4 (11)
تنظيم الجماهير في جماعات مغلقة ينقصها الحوار، والإيمان بأنهم وحدهم على حق والآخرون على باطل كمعظم التنظيمات العنصرية، ولكنها عنصرية فكرية ومنهجية وعملية وعقائدية، اقتربت الدعوة إلى المجتمع المغلق الذي يتحدث لنفسه، ولا يسمع إلا ما يريد، غاب الحوار، وأصبح الخلاف في الرأي انشقاقا، وأصبح التصلب سمة في الممارسة، وجرت العادة على تصنيف الآخرين في قوالب جامدة يستحيل بعدها الحوار معهم، وبالرغم مما كانت لهذه الجماعات المغلقة من شعبية وآثار على مستوى التربية القومية إلا أنها - نظرا لطبيعتها المغلقة - ساهمت في تحديد الأفق وصعوبة الحوار مع الآخرين، وإن حدث فبنية الدفاع أو التفنيد دون الاستعداد للتخلي عن أي من المسلمات. (12)
مطالبة الجماهير المنتسبة للدعوة بالطاعة المطلقة، وغياب الطابع الديمقراطي الحر داخل الجماعة مما يسهل الانشقاق عليها من أجنحتها المختلفة، صحيح أن ذلك يدل على دقة التنظيم ومدى استعداد أنصاره للتضحية، ولكنه يجعله أشبه بالنظام العسكري الذي لا تجوز فيه المراجعة، وتجعل الأفراد مجرد أدوات للتنفيذ، مما يرجعنا للنموذج الشيعي للدعوة والطاعة الواجبة للإمام. والخطورة أن تنفصل القادة عن جماهيرها العريضة، وأن تكون في قرارتها أقرب إلى المناورة السياسية والممارسة الحزبية منها إلى تحقيق مصلحة الدعوة، وتكون مهمة الكوادر تبرير القرارات للقواعد العريضة فيبلغ الجميع ما تقرره القيادة، وقد ينتهي البناء كله إلى الضياع، وتكون الجماهير هي الضحية. (13)
سيادة التصور الجنسي للعالم، والبداية بالحجاب، وعدم الاختلاط، والأمر بغض النظر، وخفض الصوت، وكلما ازداد الحجاب ازدادت الرغبة في معرفة المستور، والدعوة السياسية الاجتماعية أرحب نطاقا وأوسع من هذا التصور الجنسي للعلاقات الاجتماعية، ولماذا يصنف المواطن إلى رجل وامرأة؟ ولماذا ينظر إلى الإنسان باعتباره ذكرا أم أنثى؟ إن تأكيد النظرة الإنسانية أو الإعلان عن الثورة السياسية من شأنه إحداث ثورة في السلوك الفردي دون ما حاجة إلى اللجوء إلى التصنيف الجنسي للمواطنين، خاصة وإن كان لا يدل على فضيلة بل يدل على رغبة جنسية مكبوتة أو حرمان جنسي في حالة من التسامي والإعلاء.
5 (14)
البداية بالمحرمات، والتشديد في العقوبات، وإصدار قوائم للممنوعات، وجعل السلوك الإنساني تحقيقا للنواهي دون ذكر للمباحات التي يمكن للإنسان أن يتصل من خلالها بالطبيعة، وجعل العالم مواطن للشبهات لا يجوز للإنسان أن يحوم حولها خشية التردي فيها؛ هذا كله يمنع الثقة بين الإنسان والعالم، ويضع في الإنسان الخوف بدل الشجاعة، والإحجام بدل الإقدام، ويجعل الإنسان متشككا في سلوكه، متهما لنفسه، نادما باستمرار على ما فعل مما يرسخ في نفسه الإحساس بالذنب الناتج عن الاقتراب من «التابو» أو من مجرد التفكير فيه، والوعي السياسي يتطلب القضاء على كل هذه المحرمات التي تخضع لتحليل العقل ولوصف الواقع، مما يعيد الثقة للإنسان بينه وبين سلوكه وبينه وبين العالم. (15)
البداية بقوانين العقوبات أو بتطبيق الحدود وكأن الإسلام يأتي أولا بالرجم والقتل وقطع اليد والتعذيب لأناس لا يعيشون في بيئة إسلامية، ولم يتربوا التربية الإسلامية، ولم يأخذوا حقوقهم التي أعطتها لهم الدولة الإسلامية، بل هم يعيشون في مجتمع الاستغلال والفقر، ومن ثم يسقط حد القطع بالشبهة، ويواجهون بالإثارة الجنسية في كل مظهر من مظاهر الحياة، ومن ثم يسقط حد الرجم بالشبهة. وقد وصف الأصوليون أحكام الوضع وجعلوها قائمة على السبب والشرط والمانع، بالإضافة إلى العزيمة والرخصة، والصحة والبطلان، فكل حد لا بد أن يتوافر فيه سببه، ويتحقق شرطه، ولا يوجد مانع من تحقيقه؛ فشرط تطبيق حد القطع هو السرقة عن شبع لا عن جوع، وسبب تطبيق الحد هو توافر الأهلية وليس وجود مواطن في مجتمع يقوم على السرقة والنهب والتطلع للكسب بشتى الطرق، فالجوع مانع من تطبيق الحد. وإن تصوير أي دعوة للناس على أنها تعاقب وتهدد لهي دعوة منفرة لا تنتشر إلا بين الصبية والمراهقين.
أما الأخطاء الناتجة عن التحليل السياسي للموقف فهي ليست أخطاء جوهرية، قد يقع فيها أي تنظيم، وهي في معظمها أخطاء ناتجة عن المنظور الفكري للجماعة وعن تكوينها الفكري والديني، فهي ليست أخطاء من حيث المبدأ، ولكنه فقط سوء تصرف من حيث الممارسة. (1-2) التغيير بواسطة الجديد
ويقع أنصار الجديد في أزمة مماثلة وهو بصدد تغيير الواقع، وتنتهي محاولاتهم أيضا إلى الفشل للأسباب الآتية: (1)
التشدق بألفاظ صعبة على الجمهور، تضفي على القائلين بها صفة التعالم وكأن الإنسان لا يغير واقعه ولا يثور عليه إلا بهذه الجعبة من الألفاظ، صحيح أن الأساس النظري لكل تغير ضروري، ولكن الواقع الفج في كثير من الأحيان يكون بديلا عن الأساس النظري أو بإمكانه أن يتحول إلى أساس نظري مباشر في بيئة تغلب عليها بساطة العمال والفلاحين وتعمها الأمية؛ لذلك لم تنتشر إلا في بعض أوساط المثقفين، وانحسرت عن الجماهير العريضة وعن الأوساط التي يمكنها فهم الألفاظ عن حقيقة واقتناع لا عن تعالم وترديد، وكأن الثورة السياسية محتاجة إلى هذه الجعبة الطويلة من الألفاظ التي تغني عنها الأمثال العامية والمأثورات الشعبية. (2)
التبعية لفكر الغرب، والوقوع ضحية عالمية الثقافة، وهو ما يضر أيضا بأيديولوجيتهم وبقضيتهم التي يعملون لها، وهذا لا ينفي عالمية النضال على المستوى العملي، وتبلغ هذه التبعية أحيانا درجة التقليد الأعمى والعمالة الفكرية وكأن النظرية المقروءة والتي نشأت من واقع غربي خاص لها من العموم والشمول ما يمكن به أن تنطبق على واقع آخر مغاير وخاص، فنقل الفكر ضار بالفكر المنقول لأنه يفصله عن واقعه الخاص، وضار بالواقع الجديد الذي له نظريته الخاصة، والفكر ليس كالمتاع ينقل من بيئة إلى أخرى بل هو المعبر النظري عن واقع خاص. (3)
معاداة التراث القومي للجماهير واستبداله بتراث آخر منقول لا تجد فيه الجماهير ذاتها، ومن ثم تظل دوائر منعزلة يسهل جرفها أمام تيار ثقافي قومي؛ لذلك يسهل اتهامهم بأنهم دخلاء ويصل الاتهام إلى حد الخيانة والتكفير وإهدار الدم، في حين أن الثورة السياسية هي تلك التي تقوم على أساس من الثقافة الوطنية للشعب، والتي تقوم بدورها على ما يفرزه الشعب من ثقافة تلقائية طبيعية ممثلة في أمثلته وحكاياته وأساطيره ودياناته، ولا يكفي إبراز الفنون الشعبية من رقص وموسيقى حتى تصبح الدعوة شعبية، ولكنها تصبح كذلك بالفكر الشعبي الممثل في الدين والأمثال، أي في المخزون النفسي عند الجماهير، لا فرق في ذلك بين ثقافة المفكرين وثقافة الجماهير. (4)
نقصان التنظير المباشر للواقع واستبدال نظريات مفروضة عليه به مع أن الرؤية الحسية المباشرة غالبا ما تكون أوضح من كل النظريات الجدلية الممكنة، ومن ثم تكون الدعوة القائمة على النظرة العلمية للواقع قاصرة على تحقيق ما تطلب؛ لأن الواقع ليس هو نقطة البداية بل هو ميدان لتحقيق النظرية، ولو لم تتحقق النظرية فإن الخطأ يكون في تركيب الواقع وليس في مراجعة النظرية، وهذا ضد المنهج العلمي الذي يغير من البناء النظري من حيث هو مجموعة من الافتراضات وطبقا لبناء الواقع الذي هو معطى لا بديل عنه ولا تغيير له، وبالرغم من ظهور الواقعية في الفن إلا أنها لم تظهر في الفكر ولا في المنهج ولا في الممارسة. (5)
عدم وجود برنامج ثوري قائم على تحليل إحصائي للواقع يعبر عن مصلحة الجماهير وتتقبله الناس، أما البرامج العامة، مثل الملكية العامة لوسائل الإنتاج، والتسيير الذاتي، والمزارع الجماعية أو الجمعيات التعاونية، فإنها لا تكفي كدليل للعمل الثوري، إن الواقع الخاص يفرض نظريته الثورية بطريقة أكثر وضوحا وسفورا من تطبيق البرامج الثورية النظرية، ففي بيئة تتكون من ثمانية عشر مليونا من الفلاحين يعيشون على ستة ملايين فدان، لا يكون الحد الأعلى للملكية فيها أكثر من ثلث فدان، وفي بيئة يكون متوسط الدخل القومي فيها للفرد لا يتجاوز مائة وعشرين جنيها سنويا لا يسمح بنظام للأجور تتفاوت فيه الدخول من واحد إلى خمسين، إن الواقع الثوري هو مصدر البرنامج لا النظرية الثورية.
6 (6)
الانتظار الطويل حتى تتقبل الجماهير الدعوة وحتى يمكن إقناعها بالأيديولوجية وحتى يتم تحزيبها بفضل الطليعة الثورية، وقد لا يحدث ذلك في جيل واحد، وتدل التجارب المماثلة على أن الجهد المبذول كان أكثر من النتيجة التي حصل عليها، وكأن الطليعة تتحدث مع نفسها والجماهير تهز رءوسها حيرة وتململا في حين أنها قد تهرع إلى مصطبة أو إلى حصير لسماع الراوي أو المقرئ في الأفراح والمآتم، ومن ثم يحدث الفصل بين الطليعة وجماهيرها، وتتحول الدعوة إلى أندية فكرية يعلم أفرادها بعضهم بعضا، ولا تخرج إلى الجماهير العريضة التي تلتف في الموالد حول الأعلام والبيارق. (7)
الاستيلاء على السلطة إيمانا بأن السلطة هي السبيل لتغيير الواقع، وتكون النتيجة أيضا كما هو الحال عند أنصار القديم الاصطدام بالسلطة والانعزال عن الجماهير، وفرق بين العقلية الثورية والعقلية الانقلابية، الأولى هي التي تبدأ من الجماهير حتى تنحاز إلى الدعوة أو على الأقل في أغلبيتها، والثانية هي التي تبدأ من السلطة وتفرض الدعوة على الجماهير، وفي هذا لا تفترق الدعوة عن أي نظام تسلطي، وتكون ضحية لنظام تسلطي آخر عن طريق انقلاب مضاد، ولم يأت الوحي - من حيث هو دعوة - إجبارا للناس بل كان تلبية لنداء الواقع، وتعبيرا عن أشواق الجماهير المعذبة، المضطهدة والمستغلة، وتظل عقلية القفز على السلطة عقلية موروثة تحتاج إلى إعادة بناء فكري، وتغيير منهجي، وذلك بإعادة بناء التصور الهرمي للعالم والتصور الذي يجعل القمة دون القاعدة مصدر السلطة. (8)
العمل السري من أجل تحقيق الهدف كما هو الحال عند أنصار القديم وكأن التعبير عن مصلحة الجماهير بالأساليب العلنية غير شرعي، والحقيقة أن العمل السري هو العمل غير الشرعي من حيث بناء الدولة، ومنهج الفكر، والقاعدة الجماهيرية، إن قضايا التغيير الاجتماعي، والعمل السياسي المستنير ليس تلصصا ولا هو تجارة للمخدرات، بل هو مفتوح حتى ولو كان ضد السلطة القائمة، فالكلمة قد تكون أكثر مضاء من السيوف، ولكنها شرعية، وتعبر عن أسلوب جماهيري وبطولة شعبية تراها الناس في ثقافتها الدينية مثل «الدين النصيحة»، وأن الشهادة في قول كلمة حق في وجه حاكم ظالم، وهنا تخلق القيادات الشعبية التلقائية عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يمارسه الشعب كل يوم في نطاق ضيق، نطاق الأخلاق. (9)
استعمال العنف ليس فقط ضد السلطة، ولكن ضد الدعوات المعارضة، ومن ثم الاصطدام بالجماهير التي هي مضمون العمل السياسي وركيزته، وهنا لا فرق بين أنصار التغيير بواسطة القديم أو الجديد؛ لذلك نشأ التطاحن بينهما، وفرق بين العنف والعنف الثوري، فالأول أقرب إلى الجرائم السياسية منها إلى الثورة الاجتماعية، أما الثاني فقد يحدث بعد استنفاد وسائل التغيير الاجتماعي وتحقيق مصلحة الأغلبية وتجنيد الجماهير أي حصول الأغلبية الثورية، ثم محاولة الأقلية السيطرة عليها وقهرها بالعنف، هنا يكون العنف الثوري رد فعل على العنف الذي تمارسه الأقلية، وشتان ما بين حال الجماهير الآن وسلبيتها أمام أية دعوة سياسية وبين تجنيدها لصالح الأغلبية الثورية.
7 (10)
تفتيت الوحدة الوطنية بتفضيل الصراع الطبقي على الوحدة، والوقوع في التفسير الحرفي للأيديولوجية المنقولة دون ما علم بتطوراتها وتأقلمها طبقا لواقع العالم الثالث الذي تكون فيه الأمة أو الجماعة أو الأسرة، هو الأساس الحضاري والنفسي للتغير الاجتماعي، ويكفي وعي الأغلبية بمصالحها وسيطرتها على وسائل الرقابة الشعبية وترشيد سبل الحياة، وإعادة تخطيط الاقتصاد والسياسة القومية على أساس عقلاني حتى تتحقق مصلحة الأغلبية، وفي مرحلة النضال الوطني تبرز وحدة الشعب، وفي مرحلة الثورة الاجتماعية قد تبرز أيضا وحدة الشعب، ولكن المهم هو كيفية التعامل معه، وتنشيط مخزونه النفسي، وتراثه القديم حتى يكون موجها للسلوك. (11)
إذا ما استحال الاستيلاء على السلطة، فإنه يمكن مصالحتها على أساس اتفاق يقوم على تنفيذ الحد الأدنى من مطالب الدعوة، ولكن ينتهي الأمر بأن تصبح الدعوة تابعة للسلطة ومبررة لأخطائها، وينتهي الأمر بابتلاع السلطة لها، واعتمادها عليها، وإضفاء الشرعية على قيادتها الوطنية وثورتها الاجتماعية بدليل تأييدها من الجماعات الثورية، وعمل هذه لحسابها، فإذا عصت هذه الجماعات غضبت السلطة عليها حتى تتم التوبة ويعلن عن الصفح والغفران، ويعود الوئام، والكل مخدوع، فلا السلطة تؤكد وجودها الشرعي من تبرير فئة لها، ولا الجماعة تنال من تحقيق أهدافها شيئا بتبعيتها للسلطة وتبريرها المنظم لقراراتها، وينتهي الأمر في النهاية إلى التعايشية. (12)
الفصل بين الأيديولوجية والأخلاق مما يجعل الجماهير التي ما زالت تربط بين الحق والخير نافرة من الانتساب إلى الجماعة الثورية والتوجه إليها بقلبها ، فالمقياس الخلقي عند الجماهير هو في الحقيقة مقدمة للانتماء الفكري والانضمام السياسي للجماعة الثورية، الجماهير ما زالت تؤمن بالقدوة الحسنة، وبالفعل الطيب وبطاعة أوامر الدين، واجتناب نواهيه، ومن ثم كان من السهل أن تخرج قياداتها الوطنية من أئمة المساجد وفتوات الحارات، فالقدوة الحسنة هي الرباط بين الجماهير وقيادتها، وهي في الغالب قدوة حسنة خلقية، فهي جماهير سنية أي تتبع سنن السابقين وتتأسى برسول، وتتبع سنته، ولا عذر لهذه الدعوة في ارتكاب أخطاء سياسية في تحليل الموقف لأنهم أهل دراية بالتحليل السياسي، وأي خطأ في المبادئ ذاتها أو في درجة الالتزام بها. (1-3) التغيير بواسطة القديم والجديد
يقع أنصار هذا الأسلوب في التغيير في أزمة مماثلة للفريقين السابقين وذلك راجع للأسباب الآتية: (1)
عدم وجود أساس نظري واضح يمكن قيام التغيير الاجتماعي طبقا له، ومهما كانت هناك من محاولات لإرساء مثل هذه الأسس فإنها انتهت إما إلى الميوعة الفكرية، أو إلى مجرد إعلان النوايا، أو إلى العواطف الطيبة النبيلة، أو إلى العبارات الحسنة أو إلى الخطابة الجوفاء، وكأن الأساس النظري لا يمكن التوفيق فيه، بل لا بد من تأسيسه ابتداء من إعادة تفسير القديم والتنظير المباشر للواقع، فالقديم يعطي الهدف، والتنظير يعطي الوسيلة، لا يعني التوفيق المصالحة بين المحافظة والتقدمية، أو الإبقاء على مصالح الأغلبية والأقلية معا، فهذه الميوعة هي السبب في الغموض النظري، وما أوضح أن تكون الأرض لمن يفلحها، والمصنع لمن يعمل فيه، والجامعة لمن يتعلم فيها. (2)
القيام بالتغير الاجتماعي لصالح طبقة معينة، هي الطبقة المتوسطة، وهي القادرة على تمثيلها لمصلحة الجماهير، بعد أن قادت نضالها الوطني سلما أم حربا، وهي الطبقة التي بيدها صنع القرارات السياسية، حتى شعرت الجماهير أمامها بأنها أمام نوع من الإقطاع الجديد أكثر انتشارا، وأوسع رفعة، وأفصح لسانا، وأبلغ خطابة، وأمكر أسلوبا من الإقطاع القديم، فانحسرت عن عملية التغير، بعد أن اكتسبت مناعة ضد قاموس المصطلحات السياسية من اتحادات، وهيئات، ومنابر، وتنظيمات، وتحالفات، وهي الألفاظ الرائجة التي لم تعد تشير إلى أي معنى أو تدل على أي مضمون، وأصبح الشعب نافرا من الشعارات الرنانة، وهو يعلم أنها لا تهدف إلا لملء فراغ أجهزة الإعلام. (3)
معاداة أصحاب التغيير الجذري، أنصار القديم أو أنصار الجديد معا، وضرب جميع القوى الوطنية التي أفرزها الواقع تلقائيا حتى تتم للدعوة الجديدة السيادة باعتبار أنها ممثلة للوسط دون التطرف ناحية اليمين أو اليسار، والاستئثار بالسلطة، ورفص أي مشاركة شعبية جادة، فتم إلغاء كل شيء لحساب لا شيء، ومن ثم استحال بناء شيء وسط هذا الدمار الشامل، وظلت السلطة تشكو من الفراغ السياسي، كما ظلت تبني في الهواء، وتخشى على البناء الذي لا يدعمه الشعب بتنظيماته ومؤسساته، وكان يكفي لزوابع السياسة أن تهب فتهدم البناء ولا تجد من يدافع عنه أو حتى من يبكي على الأطلال.
8 (4)
انتهاء الجماهير العريضة إلى السلبية التامة واللامبالاة المطلقة، تقرر لها السلطة الحرب والسلام، وتقوم بدلا عنها بالهزيمة والنصر، وتنظمها في هيئات واتحادات وتنظيمات ومنابر، وتستنكف من الأحزاب وهو النشاط التلقائي الطبيعي للقواعد الجماهيرية، وعكفت على أزماتها اليومية، تفرغ كل طاقاتها بها أو في مظاهر مفتعلة للنشاط كالنوادي الرياضية والليلية، أو في التصوف والجنس، أو في السفر والهجرة، أو في المعارك في المركبات العامة، أو في الموالد والأعياد، واستحال قيام ثورة بلا جماهير ثورية، وكانت البارقة الوحيدة الانتفاضات الطلابية والشعبية الأخيرة التي تعيد إلى الأذهان حيوية الجماهير وارتباطها بالقضايا المصيرية مهما طالت استكانتها، وعمت سلبيتها، ورضيت بواقع أمرها. (5)
الترقيع في عملية التغيير الاجتماعي، وترك الأساس كما هو خاضعا للأمر الواقع، وتغيير الجزء وترك الكل، وتحريك السطح وترك الأعماق، فالتغير الاجتماعي لم يتعد إعادة التوزيع على قاعدة أعرض كما هو الحال في الإصلاح الزراعي دون إعطاء الأرض لمن يفلحها، وإعطاء العامل حقه في حدود قيمة العمل اليدوي بالنسبة لقيمة العمل الإداري، وإعطاء الطالب استقلاله ورفع الوصاية عنه في حدود طاعته للإدارة الجامعية وأخذه موافقتها على نشاطاته الاتحادية ومطالبه الفئوية، بل وضرب الفئات بعضها ببعض، وخلق المنافسة بينها في الأجور حتى تجاب المطالب، وتحقيق التغيير الجزئي دون المساس بجوهر القضية وهي: لصالح من يخطط الاقتصاد القومي؟ (6)
لما كانت السلطة الوطنية من أنصار التوفيق بين القديم والجديد كان التغيير يحدث من السلطة وباسمها وكأنها عملية مفروضة بالرغم من تلبيتها لحاجات الجماهير، وكان قبول الناس لها طاعة للسلطة وليس تحقيقا لمطالبهم، حتى أصبحت السلطة هي القادرة على فعل كل شيء، وعانى الناس من المركزية وضاع من الجماهير مبادرتها واعتمادها على الحلول الذاتية، وأصبح الرئيس هو شيخ القبيلة، ورب الأسرة، والأب الروحي، وكبير العائلة الذي يلجأ إليه الناس عند الشدة لفض الخصومات، ولحل المشاكل، وهو يطابق المخزون النفسي عند الجماهير وتصوراتها الهرمية والمركزية للعالم.
أما أخطاء السلطة في التحليل السياسي، فهي أخطاء لا تغتفر؛ لأن بيدها مقاليد الأمور وباستطاعتها الاستعانة بما تريد من إرشاد ونصح وتوجيه لسلامة القرار، فإن لم تفعل وجب محاكمتها أمام الشعب، خاصة ولو أدت هذه الأخطاء إلى احتلال جزء من الأراضي الوطنية، وتبديد الثروة القومية. (2) قضية البلاد النامية
وقضية التراث والتجديد جزء من العمل الأيديولوجي للبلاد النامية، إذ إنه عمل على الواقع، ومحاولة للتعرف على مكوناته الفكرية والنفسية والعملية، هي قضية تصفية المعوقات الفكرية للتنمية، ووضع أسس فكرية جديدة لتطوير الواقع، فإذا كان ما تشكو منه البلاد النامية على المستوى الأيديولوجي هو عدم الوضوح النظري، والتذبذب بين أيديولوجيات الغرب والشرق معا فإن عملية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بتحقيق هذا الوضوح النظري، وإعطاء أيديولوجية قومية للبلاد النامية تنبع من أرضها، وتمتد جذورها في تاريخها، وتجيب متطلبات واقعها، تكون الأيديولوجية حينئذ تعبيرا عن الثقافة الوطنية للشعوب، وتأكيدا لذاتيتها وإبقاء على هويتها.
9
قضية التراث والتجديد هي القضية الجوهرية للبلاد النامية، إذ إنها تتناول البحث عن الشروط الأولية للتنمية، وتلبي حاجة ملحة لها، وتكمل نقصا بدأت تشعر به البلاد النامية الآن، وهو عدم الاعتناء بتنمية العنصر البشري، فليست التنمية مجرد استثمار للموارد الوطنية أو الأجنبية، وزيادة في عدد المصانع المستوردة أو في تأسيس للقطاع العام، بل هي استثمار بشري يهدف إلى خلق عنصر جديد قادر على التنمية، ومؤهل للقيام بعمليات التطور، وإذا كان عديد من قادة البلاد النامية ومفكريها يشعرون الآن بأن التنمية وإن كانت قد تمت في الاقتصاد، إلا أنها لم تتم بعد في الإنسان فإن قضية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بإعادة بناء الإنسان في البلاد النامية عن طريق اكتشافه لبعده التاريخي، وإعطائه أساسا نظريا للتغيير، وتفجير طاقاته المخزونة، وخلق ثقافته الوطنية، وتحريك الجماهير السلبية، وإنزالها بكل ثقلها إلى ميدان التطور والتنمية. «التراث والتجديد» محاولة لتحقيق متطلبات العصر للبلاد النامية من الناحية النظرية والعملية والتغلب على مآسيه وهزائمه، ودفع التنمية خطوة أخرى حتى تكون نهضة شاملة تمكنها من أخذ زمام الريادة في العالم، أيديولوجيا وفعليا، معنويا وماديا، وأهم هذه المتطلبات: (1)
التحرر من الاحتلال، وكل صور الاستعمار المباشر بالاحتلال العسكري أو غير المباشر بالقواعد العسكرية والمعونات الاقتصادية وجيوش السلام والجماعات التبشيرية والمؤسسات والهيئات والمدارس والمعاهد الأجنبية، إذ يختلف باحث اليوم عن باحث الأمس، فبينما كان باحث الأمس مستقلا، فاتحا للأرض، ناشرا لواء الثقافة، مؤثرا في الحضارات المجاورة مكتشفا للعلوم وواضعا للنظريات، ومصدر حضارة للآخرين، فإن باحث اليوم محتل، ضاعت الأرض من تحت قدميه، مستعمر ثقافيا، يخضع لآثار الحضارة الغربية ناقل للعلم، طالب للعون، سائل المساعدة، متسول في الأسواق، هذا الاختلاف يفرض على باحث اليوم اختيارا لا مناص منه، وهو إيثار الأرض على كل ما عداها خاصة إذا كان الفكر الذي تمثله حضارته لا يبغي إلا استقلال الأرض وتحرير من عليها، حينئذ يصبح استقلال الأرض للباحث المعاصر هدفه وغايته، وتتحول الأرض في شعوره إلى ميتافيزيقا وشعر، ورواية وقصة، إلى حنان وشوق، بعد أن أصبحت بكاء ودموعا، مرارة وأسى، ذلا وعارا،
10
فإذا كان هناك لاهوت فهو «لاهوت الأرض»، وإذا كانت هناك فلسفة فهي فلسفة الأرض، وإذا كان هناك تصوف فهو تصوف الأرض، وإذا كان هناك شعر فهو شعر الأرض، أو رواية فهي رواية الأرض، أو فقه فهو فقه الأرض، وإذا أسسنا لاهوتا فهو «لاهوت التحرر» وإذا أقمنا فلسفة فهي فلسفة التحرر، وإذا أنشأنا تصوفا فهو تصوف الثورة، وإذا شرعنا فقها فهو فقه النضال، وإذا فسرنا دينا فهو دين التنمية، وقد كثر فيما حولنا لاهوت الأرض وشعر الأرض من أجل سلب أرضنا، فالصهيونية هي لا هوت الأرض، والاستعمار هو أيديولوجية الأرض، ونحن ما زلنا في نضالنا ضد الصهيونية والاستعمار، لا نقيم وزنا في فكرنا الوطني إلى لاهوت الأرض وشعر الأرض، ومن ثم كان فكرنا الوطني على المستوى النظري متخلفا عن أيديولوجيات التحرر الوطني المعاصرة. (2)
التنمية ضد التخلف، وهي مأساة العصر الثانية، والتخلف يشمل الجوع، وسوء التغذية، والفقر، والمرض، والأمية، والجهل، وعدم استغلال الثروات الطبيعية، وغياب التخطيط طويل المدى، وضعف المؤسسات، فالتخلف يشمل التخلف المادي والمعنوي على السواء، المعنوي مثل سيادة الأسطورة، والخرافة، والانفعال، وعبادة الشخص، والنفاق، والتملق، والزلفى، والخوف، والسلبية، والاستكانة، والقضاء، والقدر، فانتساب الباحث للتراث القديم، ووعيه بدوره كمفكر طليعي يجعله يرى أنه يعيش في مرحلة من تطور حضارته، يحكم عليها بالتخلف، وهو نفسه يعاني منه، ويفكر فيه كمشكلة، بالإضافة إلى موروثه القديم، ويجد نفسه في موقف إعادة بناء القديم أمام قضية التخلف وهي قضية العصر الثانية، يرى في القديم صورة العمران ومظاهر الازدهار والتقدم، ويرى في واقعه صور الفقر وجوانب التخلف والنكوص، حينئذ يجد الباحث نفسه مضطرا لإسقاط مفاهيم التخلف والتنمية على البناء الفكري في التراث القديم، ولا يستطيع الباحث إلا أن يفعل ذلك وإلا لكان طائرا في الهواء يحط بجناحيه على أية شجرة يصيبها، قضية التنمية تفرض نفسها على الباحث ولا يستطيع إلا أخذها في الاعتبار وهو بصدد صياغاته الفكرية وإقامة نظرياته لتطوير الواقع، وقد تخلف فكرنا الديني، ونحن في قلب البلاد النامية، عن الفكر الديني في بلاد نامية أخرى، أمريكا اللاتينية مثلا، ولم نربط بعد بين الدين والتنمية، بين الإيمان والتقدم، بين اللاهوت والتغيير الاجتماعي، وما زلنا نضع الدين في جانب الإيمان والتنمية في جانب الاقتصاد. (3)
التقدم ضد الركود الفكري، والنهضة ضد توقف الحضارة عن مسيرتها، وهي مأساة العصر الثالثة، إذ إننا نعيش في عصر من البلادة الفكرية لم يشهد التاريخ لنا بمثله ، حتى في عصر الشروح والملخصات كان المؤلفون يحفظون التراث بالشرح والتلخيص والتجميع في الموسوعات، والتأريخ لتراثهم ولروحهم، فالقديم كما هو بثقله يكتم الأنفاس، والجديد كما هو بتغطيته للواقع أكداسا فوق أكداس، والتبريرات للأوضاع القائمة هو الفكر الشامل، ثم يشتكي المبررون من البلاد، ويتضجرون من الركود، مهمة «التراث والتجديد» القضاء على هذه الحالة من الركود الفكري الذي يسود عصرنا الحاضر، فكلنا نشكو من عدم وجود تيارات فكرية أو اتجاهات فلسفية، وأنه يغلب علينا النقل والتجميع والعرض من أجل التعريف بالتيارات القديمة أو المعاصرة أو من أجل دفع كتاب مقرر يدرس بالجامعات، الحركة الفكرية لدينا هذه الأيام إما اجترار للقديم وتكرار لما وصل إليه من صياغات فكرية وعلوم عقلية أو نقلية حتى طغى الموروث على واقعنا المعاصر، وأصبح فكرنا مشدودا للقديم وفي حركة واثبة إلى الوراء بالنسبة لواقع في تقدم وتغير مستمر، وأصبح من الصعب على الفكر في وقوفه اللحاق بالواقع في مساره، وإما نقل وترجمة عن التراث الغربي أو تعريف بمذاهبه حتى سرت فوق الواقع طبقات سميكة من المذاهب الأوروبية تغلفه ولا تطوره، تطمس معالمه ولا تظهره، فإذا كانت الحركة الثانية طغيانا للجديد على القديم فكلاهما طغيان على الواقع، «التراث والتجديد» هو السبيل إذن لقيام حركة فكرية أصيلة يمكنها الوقوف موقفا نقديا من القديم الموروث، ومن الجديد المنقول بناء على متطلبات الواقع، والقضاء على الركود والبلادة العقلية اللذين لم يتركا للشباب إلا أن ينحصر في الوظيفة أو المكسب، فإن ضاقت اليد فالهجرة، فإن تأزم الفكر فالدين والجنس، إثارة قضية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بخلق جو ثقافي حضاري يساعد على ظهور فريق من الباحثين والمفكرين بدلا من هذا الجدب الثقافي الذي نعيش فيه، والتباكي على ثقافتنا المعاصرة بأنها قد خلت من كل فكر جاد، ولم يظهر فيها أي عمل فلسفي شق طريقا أو أرسى بداية، وبأننا ما زلنا ننتظر فيلسوف العصر كما ننتظر الأنبياء.
مهمة «التراث والتجديد» حل طلاسم الماضي مرة واحدة وإلى الأبد، وفك أسرار الموروث حتى لا تعود إلى الظهور أحيانا على السطح وكثيرا من القاع، مهمته هو القضاء على معوقات التحرر واستئصالها من جذورها، وما لم تتغير جذور التخلف النفسية كالخرافة والأسطورة والانفعال والتأليه وعبادة الأشخاص والسلبية والخنوع فإن الواقع لن يتغير، وما أسهل أن يتبدل الشبح بالآلة والعفريت بالمحرك فكلاهما يؤدي نفس الغرض، فاستعمال الساذج للآلة لن يقضي على إيمانه بالجن والأشباح إلا إذا أعيد بناؤه النفسي، ومن ثم القضاء على طلاسم الماضي وأسراره إلى الأبد. مهمة «التراث والتجديد» التحرر من السلطة بكل أنواعها، سلطة الماضي وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه، وتحرير وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة والطاعة للسلطة سواء كانت الموروث أو سلطة المنقول، سواء كانت سلطة التقاليد أم السلطة السياسية. مهمة «التراث والتجديد» هو تفجير طاقات الإنسان المختزنة المحاصرة بين القديم والجديد كحصار الإنسان في اللاهوت المسيحي بين آدم والمسيح، بين الخطيئة والفداء. (3) شبهات ومخاوف
كثيرا ما أثيرت بعض الشبهات حول «التراث والتجديد» وبعض المخاوف منه، ولكنها في الحقيقة لا أساس لها، وتظل الفائدة أكثر من الخسارة إن كانت هناك خسارة على الإطلاق، والشبهات في المقدمات والمخاوف من النتائج: (3-1) شبهات في المقدمات (1)
لا يعني هذا العلم الجديد أو إن شئنا هذا المنهج في تحليل الظواهر بإرجاعها إلى المخزون النفسي القديم التخلي عن أية نظرة علمية أساسية على أساس أن الواقع ذاته لا صلة له بمخزون نفسي أو بماضي موروث، وأن الواقع له مقوماته من ذاته في أبنيته الاجتماعية ووسائل إنتاجه، وطبيعة علاقاته؛ لأن الاتجاه النفسي للبشر جزء من تصورهم للواقع، بل جزء من الواقع ذاته، فالواقع أبنية وسلوك، مواقف واتجاهات، بل إن الاتجاه النفسي هو الواقع كله سواء من قبل الجماهير المكونة للواقع، أو من قبل المحلل الذي تتحدد رؤيته للواقع باتجاهه النفسي مهما قيل في الموضوعية والحياد، تتحقق الموضوعية كاملة لو كان الاتجاه النفسي للباحث مطابقا للواقع النفسي ولمقتضيات سلوك الجماهير، فالواقع الحي، واقع الناس، واقع الجماهير، قبل أن يكون هو الواقع المصمت، والواقع المصمت لا يتحول إلى واقع اجتماعي إلا من خلال سلوك الجماهير واتجاهاتها وموافقتها. الواقع الحي أبنية نفسية، وعلاقات اجتماعية، وتصورات للعالم، وهو الواقع الجديد الذي تعطيه تجارب البلاد النامية، وإضافة جديدة تعطيها الشعوب المتحررة حديثا، قد لا يكون هذا هو الواقع ماثلا الآن في الشعوب الأوروبية الغربية نظرا لسيادة الواقع الكمي الإحصائي، ولكن الواقع في البلاد النامية - طبقا لنظرة علمية متكاملة - هو الواقع البشري وهو الواقع الكيفي الذي ما زال هو المحرك للجماهير، والحامل لأفكارها والخالق لقيمها. (2)
ولا يعني هذا المنهج الوقوع في نظرة مثالية تود تغيير الواقع بتغيير الأفكار، وتفسير الظواهر الاجتماعية بتغيير أبنيتها الفوقية؛ وذلك لأن التراث القديم ما زال حيا في وجدان الجماهير وما زالت القيم الموروثة هي الموجهة لسلوكها، والحقيقة أن هذه المشاكل المنهجية مثل: أيهما هو العامل الموجه، البناء الفوقي؟ أيهما له الأولوية الأبنية الاجتماعية أم النظريات؟ هذه المقابلات كلها تنتج عن وضع صوري للمسائل، وهو الوضع الذي يفصل بين جانبي الظاهرة الواحدة، الصوري والمادي، نتيجة لفقدان التوازن في شعور الباحث، وتعوده على تفسير الظواهر بعامل واحد، وهو من آثار الاتصال بالحضارة الأوروبية التي فقدت شعورها المحايد ووعيها المتزن.
11
والحقيقة أن الظاهرة لا هي صورية ولا هي مادية بل هي ظاهرة شعورية، أي أن الأبنية - اجتماعية وسياسية واقتصادية - والأبنية الفوقية من نظريات وآراء وموروثات تم توحيدها في الأبنية الشعورية، وهي الأبنية الفعلية التي تحدد سلوك الجماهير، فالواقع خارج الشعور خواء، والنظرية خارج القصد لا فعل لها، بل تتحدد الأفعال والوقائع بكونها أبنية للشعور، فالتراث القديم جزء من أبنية وجداننا المعاصر وأحد مكوناته كما أن الواقع جزء آخر وأحد مكوناته الأخرى، والفكرة التي تؤمن بها الجماهير تتحول إلى سلوك، والواقع الذي يعيشه الناس يتحول إلى مشاركة، وهذه أيضا إضافة نظرية تعطيها البلاد النامية طبقا لتجاربها الثورية المعاصرة في مقابل النظرية الآلية أحادية الطرف في الشعور الغربي.
ومع ذلك، إذا قيل إن منهج تغيير الواقع بتغيير الأفكار أولا هو منهج مثالي؛ لأنه يرى أنه لا يتغير شيء في الواقع ما لم يتغير في الفكر أولا، قيل: حتى ولو كان هذا منهجا مثاليا إلا أنه ليست به عيوب المثالية التقليدية وذلك للأسباب الآتية: (أ)
ليس الفكر الذي نتعامل معه مجردا بل هو فكر حي يوجه سلوك الناس أي أنه مجموعة بواعث للسلوك أو تصورات للعالم توجه الناس في حياتهم العملية، فنحن لا نتعامل مع أفكار مجردة بل مع سلوك حي للناس تمثله هذه الأفكار. (ب)
الفكر موروث نفسي عند الجماهير، تفسر به ظواهرها تفسيرا غيبيا، ويسهل به خداعها وتعميتها عن واقعها باللجوء مثلا إلى الله كمصدر للسلطة وكأساس للمحرمات مثل الدين والسلطة والجنس، فتعاملنا مع الأفكار هو في الحقيقة تعامل مع تصورات الناس للعالم، أي مع واقع حي وليس مع فكر مجرد. (ج)
العمل هو الواجهة الأخرى للفكر، والحزب هو الطريق لتحقيق الأفكار، ولا تغير يحدث في الواقع إلا إذا كان مبنيا على أساس فكري، وهذا يحدث في الطليعة أولا، ثم في الجماهير ثانيا، لا يحدث التغير إلا بعد حدوث الوعي بالتغير، والوعي بالتغير هو وعي سياسي أو وعي حضاري، وهذا لا يحدث إلا بوعي أيديولوجي. (د)
العمل الأيديولوجي جزء من تغير الواقع وأساسه النظري، ولن يتغير الواقع إلا بعد عمل أيديولوجي، وهذه إضافة البلاد النامية على الرصيد الثوري البشري، وتحريك الجماهير ليس فقط عن طريق ثورتها على الأوضاع القائمة، بل أيضا ثورتها من أجل تحقيق قيمتها التي أخذت مدلولات جديدة قادرة على تحريك الجماهير، ومن ثم تأتي مصلحة الجماهير بالتبعية لا بالأصالة، وفي الدرجة الثانية لا في الدرجة الأولى، وفي النهاية لا في البداية. (ه)
المثالية بطبيعتها دعوة إلى الثورة والتغيير، خاصة إذا كانت تيارا للشباب، فقد فهمت المثالية خطأ عن قصد، وذلك باتهامها بأنها انعزال عن الواقع، وقضاء عليه، وتحويله إلى فكر، في مقابل الواقعية الملتزمة بالواقع، والبادئة منه، والتي تعيش عليه، في حين أن العكس هو الصحيح، فالمثالية حركة رفض للواقع، ومناداة بواقع أفضل، وثورة على الوضع القائم، وتطلع نحو المستقبل، في حين أن الواقعية تسليم بالأمر الواقع، وإبقاء على الأوضاع القائمة، وفهم لما هو موجود دون وضع احتمالات أخرى لما يمكن أن يكون موجودا، وهذا الفهم الجديد للثورية الكامنة في المثالية إضافة من التجارب الثورية للبلدان المتحررة حديثا والتي نحن جزء منها. (3)
لا يهدف «التراث والتجديد» إلى مجرد القيام بحركة «تكتيكية» عملية، تهدف إلى تحقيق غاية نفعية عاجلة بلا أساس نظري دائم وبلا مقياس أصدق، بل هو تطور طبيعي للمجتمعات على مستوى الفكر، صحيح أن تجديد التراث قائم على منفعة خالصة وهو استعمال طاقة مخزونة غير مستغلة عند الجماهير ونحن بصدد تحريكها وتغيير قيمها وتوجيهها نحو الثورة وتحقيق مصالحها، ولكن الأمر يتعدى «التكتيك» بل ويتجاوز «الاستراتيجية». تجديد التراث أمر حقيقي على مستوى نظري، وتطور طبيعي للمجتمعات في تعاملها مع حضاراتها، ومصير التراث كمصير المجتمعات يتطور ويتحول، وينتقل من عصر إلى عصر، يضع فيه كل روحه فيتشكل بفعل روح العصر، تجديد التراث عملية فكرية استقلالية تهدف إلى غرض نفعي خالص، هي جزء من عملية التطور والتنمية أو هي شرطها ودلالتها، هي عملية تتم فيها وحدة الشعوب وتجانسها في الزمان، وتتجاوز بها مخاطر الفصم بين ماضيها وحاضرها، وهي عملية تسمح بها أصول التراث ذاتها، والمنبع الذي صدر منه، أعني الوحي الذي حوى الواقع في باطنه، والذي تكيف طبقا لتطوره، وهو ما وضح أساسا في علم أصول الفقه في الأصل الرابع من أصول الشريعة، أعني الاجتهاد الذي جعلته الحركات الإصلاحية مبدأ الحركة في التراث، لا يعني التراث والتجديد أية نزعة «برجماتية» بمعنى استغلال الدين لصالح الثورة، بل هي عملية نظرية تحتوي على مقاييس صدقها النظري، صحيح أن مقياس صدق الفكرة هو تغييرها للواقع ومدى أثرها في الحياة العملية، ولكن ينتج عن تحليل خاص للواقع، وأيضا من تحليل لمضمونه القديم الذي يحتوي على هذا المقياس، الصدق النظري موجود في أنماط فكرية ثابتة سماها الأصوليون المناط، وتحقيقه هو المتغير من عصر إلى عصر، وإن أهم ما يميز التراث في أصوله وفي نشأته وتطوره هو حركته وعدم ثباته، فالوحي قد تغير طبقا لحاجات الواقع، والتشريع يتغير طبقا لتغيرات العصر، ومصادر الشرع الثالث والرابع أعني الإجماع والقياس من أجل تحقيق التغير في كل عصر، والفرق الإسلامية وتعددها ناشئة عن اختلاف الأوضاع الثقافية وردود الفعل عليها بالمذاهب الكلامية، والتصوف أساسا منهج حركي وطريقة عملية، ومن ثم فاتهام التراث بأنه يمثل عنصر الثبات في واقع متحول ومتغير اتهام لا أساس له لأن التراث يمثل عنصري الثبات والحركة معا، كما أن الواقع يمثل عنصري الثبات والحركة معا، فهو ثابت لأنه واقع يفرض نفسه على أشكال الفكر، وهو متحرك لأنه يسمح بعدة أنظمة فكرية تتلاءم مع تطوره،
12
الصدق النظري والأثر العملي واحد في التراث لأنه واحد في أصول التراث، أعني الوحي، ومن ثم لا يصدق على «التراث والتجديد» أنه نزعة برجماتية كما لا يصدق عليه أنه نزعة مثالية. (4)
لا يعني «التراث والتجديد» إصلاحا نظريا للقديم، بل يعني تغيير الواقع تغيرا جذريا بالقضاء على أسباب التخلف من جذوره النفسية. مهمة التجديد إذن عملية لا نظرية، وهي المساهمة في البناء النظري للواقع، وذلك بالقضاء على الأفكار الثابتة فيه والأحكام المسبقة التي لا يمكن أن تكون أساسا نظريا لتغيير الواقع، التجديد جزء من البناء النظري للواقع وجانب من الإيضاح للسلوك، فالتراث ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتحريك الجماهير وتغيير الواقع، وليس موضوعا في ذاته نفخر به وبمعاصرته، ولكن معاصرة الناس هي المطلوب تحقيقه، التراث لا يحتوي على أنساق نظرية خالصة يهمنا الاكتشاف عنها، بل يحتوي على إمكانيات عملية يكشف عنها المفكر بإعادة تفسيره طبقا لمصلحة الجماهير، وهذا لا يمنع من وجود حقائق نظرية واحدة هي قوانين التاريخ، ولكنها أيضا واقع تحول إلى مستوى النظر، وأصبح نمطا نظريا مثاليا أساسه تجربة واقعية، وقد احتوى مصدر التراث الأول - أعني الوحي - هذه المجموعة من الحقائق النظرية التي قامت في الأصل من مجموعة مماثلة من التجارب الحية في الواقع، ثم تحولت إلى حكمة شعبية تتناقلها الأجيال كجزء من ثقافتها الوطنية، لا يعني تجديد التراث محاولة إصلاح القديم وترميمه حتى لا يمكن الإبقاء عليه كموضوع مستقل يلبس ثوب العصر، بل يعني عرض الموروث القديم على احتياجات العصر ومطالبه، فهي التي تفسر القديم، ليس القديم هو موضوع البحث، بل واقعنا المعاصر، وليست الغاية هو البحث عن معان في القديم حديثة لا تعارض العقل أو العلم أو التقدم، بل المساهمة الفعلية في تطوير الواقع الذي نعيشه بما أن مشكلة التطوير هي مشكلة العصر، والدافع على التجديد ليس ترميم الماضي، بل تغيير الحاضر، ولا يقال إن ذلك مضيعة للجهد والوقت، فلماذا الترميم والإصلاح وإعادة التفسير دون استبدال بالقديم كله أساس نظري جديد، فهذا أوفر جهدا وأقصر وقتا؛ وذلك لأن الحضارات لا تستبدل ولا تنقل، وأن الثقافات لا تستعار، وأن تطور الشيء الطبيعي هو وجوده، ومن ثم فالوجود لا ينتزع ثم يزرع، ولكنه يتطور تطورا طبيعيا، هذا هو التغيير الأبقى وليس زرع الأعضاء التي لا تتطور، بل قد تلفظ باعتبارها جسما غريبا. (5)
لا يعني «التراث والتجديد» القيام بحركة إصلاح كما كان موجودا لدينا في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، مجرد تغيير في معاني الأشياء مثل أن تكون الصلاة بهذا الشكل وليس بذلك النحو، أي مجرد تغيير نظري دون التنظيم الفعلي لهذا التغيير أو تغيير دون قيامه على تغيير نظري مواكب، «التراث والتجديد» يهدف إلى تكوين حركة جماهيرية شعبية وإلى حزب ثوري يكون هو المحقق للثقافة الوطنية الموجهة لسلوك الجماهير، كما يهدف إلى تغيير الأطر النظرية الموروثة طبقا لحاجات العصر ابتداء من «علم أصول الدين» الذي يعطي الجماهير الأسس النظرية العامة التي تحدد تصوراتنا للكون، وابتداء من إعادة بناء الأصول تتغير أشكال الفروع بطبيعتها، الانتقال مثلا من العقل إلى الطبيعة، ومن الروح إلى المادة، ومن الله إلى العالم، ومن النفس إلى البدن، ومن وحدة العقيدة إلى وحدة السلوك،
13
لقد كانت معظم الحركات الإصلاحية القديمة حركات سلفية تحافظ على القديم أكثر مما تبغي من تحليل الواقع، فقد كان الواقع جزءا من القديم لأننا جميعا مسلمون، كانت الحركات الإصلاحية القديمة دفاعا عن القديم ضد الجديد الممثل في النظريات الجذرية للتغير سواء في الفكر مثل التيارات العلمية والمادية أو في الواقع مثل النظم الاشتراكية، واتهامها بالإلحاد والشيوع. «التراث والتجديد» يود تطوير الفكر الإصلاحي القديم ودفعه خطوة أخرى نحو الإصلاح، والانتقال به من الإصلاح إلى النهضة، ومن إعادة التفسير إلى تأسيس العلم، ومن الإصلاح النسبي إلى التغيير الجذري. «التراث والتجديد» دفاع عن واقع الناس العريض، ومصلحة المسلمين، وليس دفاعا عن الماضي، بل دفاع عن المستقبل باسم الماضي، وتهيئة العيش للخلف باسم السلف، ومع ذلك، فالإشارات إلى الفكر الإصلاحي مستمرة لا من أجل الاعتماد عليها، وأخذ البراهين منها بل لتطويرها واعتبارها آخر ما وصل إليه المعاصرون من تجديد. إن «التراث والتجديد» هو الوريث لحركات الإصلاح الديني الحديثة التي بدأت منذ أكثر من قرن من الزمان، وهي العملية التي تصب فيها كل محاولات التغيير الجذري للقديم إما على مستوى الفكر أو مستوى الواقع، وهي التي تضم في باطنها كل محاولات الفهم الجزئية لجوانب مختارة من القديم، وهي التي تعود إلى الأساس، إلى نشأة العلوم الدينية العقلية ذاتها، وإعادة بنائها من المنبع وإذا كان التجديد في تراثنا القديم، على الأقل في علوم الحكمة وفي بعض حركاتنا الإصلاحية الحديثة، إذا كان التجديد قد تم باسم العقل أو باسم الشرع فإن التجديد الحالي يتم باسم الواقع ومن أجل التغيير، لم يكن الواقع غريبا على التراث القديم لأن أصول التراث نفسه - وهو الوحي - مبنية على الواقع، وتغيرت وتكيفت طبقا له، وأصول التشريع كلها تعقيل للواقع وتنظير له، ولكن الواقع القديم تخطته الشريعة، وجاوزه التشريع إلى واقع أكثر تقدما في حين أن واقعنا الحالي الذي يقام التجديد عليه لم يتخطه أي تشريع بعد، وتظل كل التشريعات أقل مما يحتاجه، ويظل هو متطلبا لأكثر مما تعطيه التشريعات، التجديد إذن تطوير للواقع أساسا، وهو ذاته تطوير للتشريع، وهو أيضا نظرية في العقل لأنه يحلل الواقع أساسا، وينتهي إلى مكونات بديهية له وأنظمة واضحة يجد فيها الواقع مطلبه، فالبداية هي الرؤية المباشرة للواقع التي تدرك بالوجدان ثم تصديق العقل لحدث الوجدان ثم تصديق الشرع على الاثنين معا. (6)
لا يعني «التراث والتجديد» أية نزعة توفيقية بين القديم والجديد لأن التوفيق بهذا المعنى عمل غير علمي يخضع لمزاج شخصي للباحث أو لاختيار مسبق للفيلسوف أو يقوم على هوى يقضي على موضوعية القديم والجديد على السواء، وهو الطرف الثالث الذي يتم التوفيق بناء عليه، فعندما وفق الفارابي بين أفلاطون وأرسطو خضع لمزاجه الشخصي واختياره الفلسفي المسبق وهو مزاجه الإشراقي وتصوره الهرمي للعالم، ولكن يعني «التراث والتجديد» إعادة بناء علوم الغايات بكل الوسائل التي يتيحها العصر، وهي وسائل بيئية خالصة ناتجة عن ثقافتنا المعاصرة، وحاجات العصر، فإذا كان التوفيق يتعامل مع شيئين هما موضوعا التوفيق، كان «التراث والتجديد» يتعامل مع شيء واحد وهو التراث القديم، وإن عرض هذا التراث على حاجات العصر لا يعني توفيقا بين الاثنين وأخذ جزء من هذا مرة وجزء من ذاك مرة أخرى، بل يعني أن مطالب العصر هي أساس التفسير فلا توجد علاقة تساوي بين طرفين، ولكن توجد علاقة أساس بمؤسس، أي أنها ليست علاقة أفقية يوضع فيها الطرفان على نفس المستوى بل هي علاقة رأسية توضع فيها حاجات العصر كأساس تحتي ثم التراث كمؤسس فوقي، وغالبا ما يكون التوفيق في صف طرف على حساب الطرف الآخر فقد كان توفيق الفارابي لحساب أفلاطون، وأصبح أرسطو أفلاطونيا، وكان توفيق إخوان الصفا بين الفلسفة العقلية والفلسفة الإشراقية لحساب الفلسفة الإشراقية، أما «التراث والتجديد» فإنه يأخذ التراث على أنه أصل لأنه هو الواقع النفسي للجماهير ثم يقاس التجديد عليه وهي التفسيرات المحتملة له أو أخذ التجديد على أنه أصل، وهي متطلبات الواقع ثم يقاس التراث عليه، وهو الأساس النظري لفهم الواقع، إن التوفيق القديم بمعنى أخذ حضارتين، كل منهما في يد، قضاء على مهمة «التراث والتجديد» الأساسية وهي اتحادهما معا من أجل تطوير الواقع أو وجودهما في طرف ثالث وهو الواقع المراد تغييره. كان الواقع في التوفيق القديم هو الواقع الفكري في حين أن الواقع في عملية «التراث والتجديد» الحالية هو الواقع الاجتماعي بمعناه العريض الذي يعبر عنه في مصلحة المسلمين. كان التوفيق القديم عملية حضارية من أجل تمثيل الحضارات الغازية في حين أن «التراث والتجديد» عملية اجتماعية من أجل تغيير الأوضاع القائمة. (7)
لا يدل «التراث والتجديد» على أي أثر خارجي من بيئة ثقافية أجنبية، وإلا وقع ضمن محاولات التجديد الحالية القائمة على العقلنة من الخارج،
14
ولكنه يعني إعادة بناء للتراث من داخله بما أتيح للباحث من وسائل عصرية، مناهج أو تصورات أو لغة، وهي مشاعة عند المثقف العادي لا تنتسب إلى بيئة ثقافية دون غيرها، ولقد اتهم فلاسفة المسلمين من قبل في كل محاولاتهم لتجديد الفكر الديني بالأثر الخارجي تحت خدعة الألفاظ المستعملة وتشابهها مع ألفاظ الثقافة العصرية.
ودعوى الأثر الخارجي لا تنطبق إلا على الفكر المنقول، وفي هذه الحالة لا يكون أثرا خارجيا بل يكون فكرا منقولا قلبا وقالبا، شكلا وموضوعا حتى ولو ظهر في ثوب الثقافة الوطنية من أجل حسن القبول، كزينة شرقية على واردات غربية، أما الأثر الخارجي فتهمة تلقى على كل فكر أصيل يطور القديم وينحو نحو العصر من أجل تفريغ القديم من كل محتوى تقدمي له ووضعه في إطار الموروث المتخلف عن العصر الذي لا يحتوي على أي عنصر من عناصر تطوره من داخله ومن أجل إثبات أن التطور لا يأتي إلا بفضل قوالب أو مناهج أو تصورات من ثقافة مغايرة هي الثقافة الغربية التي تحوي من داخلها على كل مقومات التطور والمعاصرة، فالأثر الخارجي كتهمة تشير إلى عقلية غربية ممركزة على الذات، تجعل نفسها الأصل وغيرها الفرع، وتنظر إلى ذاتها باعتبارها حاملة التقدم لغيرها المتخلف، وهي عقلية تصل إلى حد العنصرية الثقافية والقبلية الحضارية، والتي تقوم في أساسها على عنصرية وقبلية عرقية تظهر على مستوى الثقافة والتقاء الحضارات تسقط ذاتها على الآخرين، فلأنها كانت بفعل أثر خارجي - يوناني روماني عربي - فإنها تظن أن أية محاولة للتجديد لا بد وأن تكون خاضعة لنفس النمط ويكون هذه المرة، يونانيا رومانيا هنديا فارسيا في القديم أو غربيا في الحديث.
15 (8)
ولا يعني «التراث والتجديد» أخيرا محاولة تقوم بها الطبقة البرجوازية أو من ينتمي إليها والتي تشغل نفسها بالثقافة دون الواقع بعد أن اطمأنت لكفايتها المادية منه والتي تشغل نفسها بالنظر دون الممارسة العملية بعد أن جعلت نفسها ممثلة لثقافة الجماعة والحريصة على حقها، وذلك لأن العمل الثقافي جزء من بناء الواقع وفهم له، وهو ليس عملا للبرجوازية حتى ولو كانت وطنية، بل هو عملية لطليعة الطبقة العاملة؛ لأنه إعادة لتفسيرات التاريخ من وجهة نظرها وبناء على متطلباتها، والمثقفون جزء من الطبقة العاملة فالعمل هو الممارسة العامة لكل فعل يهدف إلى تغيير الواقع، ومهما يكن من شيء فنحن مثقفي هذا العصر ما زلنا ننتسب إلى الطبقة المتوسطة، ولكنها طبقة وطنية تنتسب إليها ببنائها النفسي وتكوينها الثقافي ولكن اختيارها من الطبقة العاملة، وما زال أمامها دور لم تؤده بعد،
16
والذي يقود العصر الآن هو يمين البرجوازية لا يسارها أي البرجوازية التي ورثت الإقطاع القديم، وترفع الشعارات، وتتستر وراءها من أجل الحصول على مكاسب خاصة بطبقتها متمثلة ثقافة وطنية تفسرها لمصلحتها الخاصة، ودون تبني أي ثقافة خارجية، بل تتهم كل ثقافة خارجية تهدد مكاسبها الطبقية بالأفكار المستوردة الهدامة، ويمين البرجوازية هو الجناح الخائن من الطبقة المتوسطة، ولا يقل خيانة عن الجناح العميل المباشر، أما طليعة الطبقة المتوسطة التي تنتسب نفسيا ونضاليا إلى الطبقة العاملة فإن بإمكانها أن تقوم بعملها النظري في «التراث والتجديد» وأن تناضل بالفعل، وأن تجند الجماهير، وأن تمارس السياسة يوميا من أجل تحقيق أيديولوجيتها، النظر والعمل واجهتان لشيء واحد ويمكن القيام بالمهمتين معصا، ولو استعصت الممارسة في وقت ما، فعلى الأقل يتم البناء النظري من خلال التراث والتجديد، وهو الوقت الذي تحتكر فيه السلطة في البلاد النامية العمل السياسي، وتجعل من ممارسة الشعب له ضربا من الخيانة والخروج على نظام الدولة.
17 (3-2) مخاوف من النتائج
وبالإضافة إلى هذه الشبهات توجد أيضا عدة مخاوف من بعض النتائج التي قد يحدثها «التراث والتجديد» مما تجعل الناس يتحرزون منه منذ البداية، والكف عما لا تحمد عقباه مدعاة للأمان، وهي في الحقيقة مخاوف وهمية لا حقيقة لها، بالإضافة إلى أنها ستنتج ضرورة بتطور الحضارة الطبيعي عاجلا أو آجلا، والأفضل أن تنتج عن عملية حضارية واعية لا عن نفضة ادعائية، وضجة مفتعلة، وصخب لا ينتج عنه شيء. (1)
فإن قيل: إن «التراث والتجديد» سيؤدي لا محالة إلى الإلحاد لأنه يعني إعطاء الأولوية للواقع على الفكر، وإعطاء التاريخ الصدارة على الوحي، والقضاء على استقلال العقائد كموضوعات لها صدقها الداخلي النظري بصرف النظر عن صلتها بالواقع العملي، قلنا: إن مقولتي الإلحاد والإيمان مقولتان نظريتان لا تعبران عن شيء واقعي لأن ما يظنه البعض على أنه إلحاد قد يكون هو جوهر الإيمان، وما يظنه البعض الآخر على أنه إيمان قد يكون هو الإلحاد بعينه، بالإضافة إلى أن مقولات الإلحاد والعلمانية التي نشأت في حضارات أخرى ورفضها تراثنا القديم وبعض الحركات الإصلاحية الحديثة هي في صميمها التجديد الذي هو مضمون تراثنا القديم، فمعنى الإلحاد في الحضارة الغربية يعني الإيمان في تراثنا القديم، ويكفي أن نعلم: (أ)
ليس للعقائد صدق داخلي في ذاته، بل صدقها هو مدى أثرها في الحياة العملية وتغييرها للواقع، فالعقائد هي موجهات للسلوك، وبواعث عليه لا أكثر، وليس لها أي مقابل مادي في العالم الخارجي كحوادث تاريخية أو أشخاص أو مؤسسات إلا من الواقع العريض الذي هو حامل للمعاني وميدان للفعل، فالإلحاد بهذا المعنى رغبة في بيان الأثر العملي للأفكار ورد فعل على الإيمان المتحجر المكتفي بذاته الذي يكفي المؤمنين شر القتال. (ب)
ليس المقصود من الوحي إثبات موجود مطلق غني لا يحتاج إلى الغير، بل المقصود منه تطوير الواقع في اللحظة التاريخية التي نمر بها، والتي تحتاج إلى من يساعدها على التطور، وإذا كان التراث القديم قد غرق في مثل هذا الإثبات فلأن هذا الإثبات كان موضعا للشك أو للهجوم من الحضارات المجاورة، ولم تكن هناك حاجة إلى التطور لأن المجتمع كان متطورا ومنتصرا لا يهاجم في الأرض والثروات - كما هو الحال حاليا - بل في الفكر والتصورات، وهو أيضا موضوع هجوم حالي، فلا نحن أنشأنا فكر المقاومة ونظريات التحرر، ولا نحن عبرنا عن الأصالة، وقلبنا الآية، وبينا حدود الثقافة الغربية، وأخذنا منها موقفا نقديا شاملا، فالإلحاد بهذا المعنى تطابق مع الواقع، ووعي بالحاضر، ودرء للأخطار، ومرونة في الفكر، وفضح لشتى ألوان الاستعمار والسيطرة على كل المستويات، ويسعد الغرب اتهام كل محاولة للتوعية الثقافية وللمواقف الحضارية المستنيرة بالإلحاد لأنه يبغي المحافظة على الإيمان القديم، ويزايد على أهل الدار، فذاك يسهل عليه ما يريد، ويحقق له أهدافه في السيطرة. (ج)
ليس المقصود من الوحي هو التحول النظري والإعلان باللسان، فالإيمان بناء نفسي للفرد وبناء اجتماعي للواقع، والحكم على شخص أو على واقع بالإيمان هو حكم مضمون وليس حكم صورة صوتية أو مرئية، وهي مسألة عرض لها تراثنا القديم، وساد الإيمان بالقول على الإيمان بالعمل، ومن ثم يكون الإلحاد بهذا المعنى هو تحول للاختيار القديم من القول إلى العمل، ومن النظر إلى السلوك، ومن الفكر إلى الواقع، واختيار الطريق الصعب، طريق الشهادة، وترك طريق الادعاء والمنصب والمزايدة، يكون الإلحاد هو انتقال من الصورة إلى المضمون، ومن الشكل إلى الجوهر. (د)
نظرا لطول الألفة للمعاني الشائعة للإيمان فإن كل ما يخرج عليه يوصف بالإلحاد، وهذا غير صحيح، فمنذ متى كانت المعاني الشائعة أساسا للمعاني المضبوطة ويحكم العرف استعمال اللغة؟ إن مهمة المفكر الواعي هو هذا التمييز بين المعاني الأصلية والمعاني العرفية، وإلا تركنا اللغة يتحكم فيها العرف، ويضيع الفكر، وتتوقف عملية التطور الحضاري، لطالما تضيع المعاني بكثرة الاستعمال، حتى تتحول إلى المعاني المضادة ومن ثم تفقد الألفاظ قدرتها على التعبير، وتكون حينئذ مسئولية المفكر العودة إلى المعاني الأصلية، فالإلحاد هو المعنى الأصلي للإيمان لا المعنى المضاد، والإيمان هو المعنى الذي توارده العرف حتى أصبح بعيدا للغاية عن المعنى الأصلي، إن لم يكن فقدا له. (ه)
نظرا لخروجنا حديثا من المجتمع الإقطاعي، ووجودنا في مجتمع برجوازي فإن تصورنا بإيمان يخضع لتصور المجتمع الإقطاعي القديم والبرجوازي الجديد، وهو أن الإيمان هو الحفاظ على الموروث، والإبقاء على الوضع الراهن، والدفاع عن التقليد، وحماية مصالح الطبقة ، ونظرا لضياع الدولة الإسلامية ينشأ التعويض في التطرح بالبياض أو التلحف بالسواد، ونظرا لغياب الممارسة ترتفع مكبرات الصوت في الآذان، وتكثر البرامج الدينية في أجهزة الإعلام جنبا إلى جنب بجوار فن الإثارة والجنس، وهكذا يكون الإيمان تغطية وتعمية عن شيء آخر مخالف لمضمون الإيمان، ويكون الإلحاد هو كشف القناع، وفضح النفاق، وتعرية الواقع، وعود إلى المعنى الأصلي، ورفض للتواطؤ، وقبول للشهادة. (و)
نظرا لاتصالنا بالحضارة الغربية، فإن تصورنا للإيمان والإلحاد يخضع لما يفد علينا من تصورات المجتمع الرأسمالي للدين في حين أن حركات الإلحاد في الفكر الغربي أقرب إلى جوهر الإيمان، ولكننا نظرا لتقليدنا للغرب، وتبعيتنا الثقافية له، نردد مفاهيمه ونظرياته، ونفصلها عن محليتها وظروفها ومادتها العلمية، ونعممها على غيرها، ونحن ضمن هذا الغير، فنضع أنفسنا تحت غطائه النظري في حين أن واقعنا مخالف، ومادتنا العلمية مغايرة، وظرفنا التاريخي مختلف، فما اعتبروه إيمانا هو في الحقيقة بالنسبة لنا إلحاد، وما اعتبره إلحادا هو بالنسبة لنا إيمان.
18 (ز)
الاتهام بالإلحاد هو في نهاية الأمر دفاع السلطة الدينية والسلطة السياسية عن أوضاعهما الخاصة، ومعارضة كل منهما لأي تغير جذري ينشأ من الثقافة الوطنية، يبغي تغيير الواقع العريض الذي تعيش عليه الأغلبية، فالسلطة سياسية أم دينية تعلم أن الجماهير متدينة، ومن ثم تقوم بتملقها ونفاقها واتهام كل من يريد الدفاع عن مصالحها بالإلحاد حتى تنقلب الجماهير عليه وتظهر السلطة على أنها المدافعة عن مصالحها! وفي تراثنا القديم شواهد على ذلك، فكل دعوة إلى الطبيعة المستقلة، والعقل المدرك، والفعل الحر، ومسئولية الإنسان، والعدل الاجتماعي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كانت تتهم أيضا بالإلحاد والكفر، و«التراث والتجديد» هو محاولة لإعادة الاختيار في فكرنا القديم. (2)
فإن قيل: إن «التراث والتجديد» سيؤدي حتما إلى حركة علمانية، وفي العلمانية قضاء على تراثنا القديم، وموروثاتنا الروحية، وآثارنا الدينية، وقد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوى طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية، وقسمة الحياة إلى قسمين، واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير، وتواطؤها مع السلطة، وحفاظها على الأنظمة القائمة، نشأت العلمانية استردادا للإنسان لحريته في السلوك والتعبير، وحريته في الفهم والإدراك، ورفضه لكل أشكال الوصاية عليه، ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير، العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته، وإلى الإنسان دون غيره، العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور، وما شأننا بالكهنوت، والعلمانية ما هي إلا رفض له؟ العلمانية في تراثنا وواقعنا هو الأساس واتهامها باللادينية تبعية لفكر غريب، وتراث مغاير، وحضارة أخرى. (3)
فإن قيل: إن «التراث والتجديد» يتحدث عن التحليل الطبقي للمجتمع، ويرفض سلطة الطبقة وفكر الطبقة، كما يهدف إلى تغيير الواقع العريض، والدفاع عن مصالح الجماهير، وهي الطبقة العاملة، وهذه هي «الماركسية» بعينها، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فما زالت مأساتنا في الاتصال بالتراث الغربي هو أننا نأخذ تياراته واتجاهاته ونفصلها عن واقعها ثم نقذف بها خارج الحضارة الغربية إلى الحضارات الأخرى ونعممها وكأنها نتائج العلم التي لا ترد، الماركسية تحليل صائب للمجتمع الأوروبي الرأسمالي في القرن التاسع عشر، وحركة تغيير جذري له كذلك، ففكر الطبقة وثقافتها أمر واقع بيننا نلمسه، وسلطة الطبقة في مجتمعنا أمر نعاني منه كل يوم، ومصلحة الطبقة هو الموجه لسلوك السلطة، فهذه وقائع بديهية من واقعنا المعاصر لا تحتاج إلى نقل حضاري أو إلى صفات وأسماء مستعارة، ونخطئ أشد الخطأ في أبسط القواعد العلمية عندما نظن أن العلم ينقل ولا ينشأ، وأن العالم يستعير ولا يحلل، والمخطئ في ذلك إما إنسان تعفن في القديم ولا مخرج له منه أو جهل الحضارات الأخرى ولم يعرفها إلا بالدعاية أو انفصل عن واقعه ولم يعلم مكوناته، واتهام «الماركسية» مثل اتهام «الفينومينولوجية» ما دامت الظواهر يتم تحليلها على مستوى الشعور وكأن كل ما يحدث في فكرنا القومي لاحق بفكر غيره، وأننا سنكون باستمرار مهمشين على نصوص غيرنا ولسنا مؤلفين لنصوص. (4)
فإن قيل: إن «التراث والتجديد » يقضي على موضوعية الأصول وعلى استقلالها عن الزمان والمكان، والعقائد دائمة ثابتة لا تتغير، وتصور «الله» لا يتأثر ولا يتغير بتغير الظروف الاجتماعية، وهذا التخوف أيضا لا أساس له لأن «التراث والتجديد» عملية حضارية تلقائية مهمتها إعادة التفسير، ولا تتحدث عن الأشياء في ذاتها مثل «الله»، لا يخرج «التراث والتجديد» عن التصورات العقلية المحتملة للموضوعات، أما الموضوعات نفسها فموضوعه بين قوسين، التفسير عملية تغيير المعاني طبقا للمعنيات، وتغيير الدلالات بتغير المدلولات، وهي عملية ذاتية خالصة لا تهدف إلى إصدار أحكام على الوقائع، بل هو عمل أيديولوجي خالص لا يخرج عن نطاق الأفكار، هي عملية إحداث تغيير في تصورات العالم وتغيير مواقف واتجاهات إنسانية، «التراث والتجديد» يتعامل مع العالم الإنساني وحده، بل إنه يمكن اتهام «التراث والتجديد» بأنه عملية ذاتية خالصة لا تخرج عن نطاق النظرة الإنسانية، ولكن الاتهام مردود لأن إحداث التغيير في النظرة الإنسانية هو بداية إحداث التغير في العالم.
إن قضية «التراث والتجديد» قضية عامة لا تخص حضارة بعينها، وإن كانت هنا مطبقة على تراثنا القديم، وقد حدث ذلك في التراث الأوروبي في كل عصر خاصة في العصر الحديث، كما تحدث في كل جيل تقريبا عندما يحاول إيجاد الأساس الشعوري للظواهر، وفي التراث الأوروبي المعاصر نشأت نزعات التجديد باكتشاف الذاتية، واكتشاف الأساس الذاتي للظواهر الدينية الموضوعية، وتتعرض الآن كل المجتمعات النامية لهذه العملية، ولا يعني أن هناك نموذجا واحدا لها بل تقوم كل حضارة بها طبقا لما لديها من تراث وما تبتغيه من تجديد، وما توجد فيه من واقع تعيش عليه، وهي الآن مسئولية جيلنا.
ثالثا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية
«التراث والتجديد» أيضا تعبير عن أزمة أخرى، وهي أزمة الدراسات الإسلامية في الجامعات والمعاهد العليا، فإذا كانت أزمة التغيير أزمة الثورة في واقعنا، فإن أزمة الدراسات الإسلامية هي أزمة البحث العلمي؛ لذلك كان «التراث والتجديد» تعبيرا عن أزمتين: أزمة التغيير الثوري، وأزمة البحث العلمي.
وترجع أزمة الدراسات الإسلامية إلى انفصال في شخصية الباحث بين المسلم والباحث، فهو مسلم من ناحية بمعنى أنه مستسلم للواقع الذي يعيش فيه، وهو باحث من ناحية أخرى يدرس التراث بنظرة محايدة، وكأنه يدرس ظواهر تاريخية خالصة لا شأن له بها في حين أن التراث، كما عرضنا، قضية شخصية للباحث لأنه ينتمي إليه فكرا وحضارة ولغة ومصدرا ومصيرا، ويحدث هذا الانفصام إما عن تصور للإسلام على أنه مجموعة من العقائد لا شأن لها بالبحث العملي مما يجعل الباحث العلمي يتبنى أي منهج علمي من الخارج، أو من عدم إحساس بالإسلام كلية واعتبار أنه هو الباحث العلمي وأن الإسلام لا يعطيه شيئا، وقد ينشأ ذلك من التغرب (انحراف الشعور نحو الغرب) وتقليد مناهجه العلمية التي نشأت كرد فعل على معطاها الديني الخالص وهو المسيحية، أو من حالة الركود العامة في التصور الإسلامي للحياة وفي الدراسات الإسلامية التي لم تستطع أن تعطي الباحث مقابلا للمناهج الغربية، ينشأ هذا الموقف الثالث في الانفصال عن تراثنا القديم وتبعيتنا للتراث الغربي، وتكون النتيجة أن يتخرج مئات الشباب وهم مشتتون حانقون غاضبون لم تحل مشاكلهم في البحث عن منهج يمكنهم بواسطته حل جميع مشاكلهم الوطنية والثقافية والعلمية، ويتخرجون والقديم ما زال طلاسم لم تنفك عقده، والجديد ما زال معروضا كرقائق من الفطائر، كل منهم يسرع بشفقة يعلن عن وجوده من خلالها، وتشتد الحيرة، ويزداد التخبط، وتنتهي الثقافة، وينتهي بهم الحال إما إلى الرجوع إلى الماضي بعبله، والتزمت، والتشدد، والتعصب، والتصوف أو الذهاب إلى الجديد بعبله دون فهم منه له، ويكتفي بترديده دون مراعاة لاختلاف البيئة والظروف واللحظات التاريخية، ويتنصل الإنسان من ماضيه خاصة إذا لم يشعر بأنه جزء منه لاختلاف دينه مع تراثه، وكثيرا ما يؤدي التغرب الثقافي إلى الهجرة الفعلية - بعد هجرة الشعور - أو يظل مشتتا بينهما دون القدرة على أخذ موقف حضاري له، فهو ملفق مرة وخالط مرة، ويظل خائفا بين الاثنين.
ولما كان كل خطأ في الحكم ينتج أساسا عن خطأ في المنهج، وكل كشف جديد يأتي أيضا عن كشف في المنهج فإن الحالة الحاضرة للدراسات الإسلامية والأحكام التي تصدر عليها تكشف عن أزمة في مناهج الدراسة، وتتلخص هذه الأزمة أساسا في عدم تطابق المنهج المتبع مع موضوع الدراسة نفسه خاصة إذا كان الموضوع نفسه منهجا أو يحتوي على منهج كامن فيه، وإن الغالب على هذه المناهج المتبعة أنها إن لم تكن مضادة تماما لطبيعة الموضوع ومنهجه فإنها على الأقل لا تتفق معه، هذه المناهج ليست مدروسة من قبل، وليست مطبقة عن وعي كامل، ولكنها شائعة بين المشتغلين بالدراسات الإسلامية، ورثوها إما عن طريق التقليد للدراسات الموجودة حاليا سواء من المستشرقين أو الدارسين المسلمين أو عن طريق الاستسلام للعادة والأخذ بأضعف الإيمان أو رغبة في الحصول على ركن من أركان العلم يستأثر به صاحبه ويعلن عن نفسه من خلاله ويمنع الآخرين من الاقتراب منه بعد أن أصبح حكرا عليه، أو رغبة في كسب، أو طمعا في منصب، أو حصولا على درجة بديلا عن الفكر في صورة كتاب مقرر، وهنا يسقط شرط العلم الأساسي وهو البحث، ويتحول التأليف إلى ظاهرة غير علمية دون تفكير جدي في المنهج المتبع للباحث، ماذا يريد بدراسته وإلى أي شيء يهدف؟ لذلك فإن إعادة طرح مسألة التفكير المنهجي فيما يتعلق بالدراسات الإسلامية يمكن بواسطته إحياؤها من جديد لتجنب الأحكام الخاطئة الشائعة ولربطها بحياة الدارسين القدماء أو الجدد، ما دام التراث قضية وطنية، وبالتالي قضية شخصية وجماعية، ولصبها داخل الثقافة الوطنية وعلى هذا النحو تتحرك قضية الموروث، وتحيي في أذهان الباحثين شبابهم، وذلك بالبدء بالتفكير المنهجي.
وترجع أزمة المناهج الحالية إلى خطأين: النعرة العلمية، والنزعة الخطابية، الأولى تسود معظم دراسات المستشرقين، والثانية تسود معظم دراسات المسلمين، وقد تعم النزعة الخطابية بعض دراسات المستشرقين عندما يقومون بتقريظ في الحضارات التي يدرسونها، كما قد تعم النعرة العلمية دراسات المسلمين نظرا لتبعيتهم للمستشرقين أو لاستعمالهم الشائع والمشهور دون تفكير منهجي أولي، وكلا الخطأين راجعان إلى الطابع الحضاري لكل فئة من الباحثين. (1) النعرة العلمية
تنشأ النعرة العلمية أساسا من استعمال منهج أو طريقة أو عادة تخالف تماما موضوع البحث؛ لأنها «مادية» ترمي إلى دراسة الفكر عن طريق الحوادث التاريخية أو الوقائع الاجتماعية، أو ترجعه إلى الإبداع الشخصي أو الأثر الخارجي، وهذا مناقض تماما لطبيعة موضوع البحث باعتباره ظاهرة نشأت من مصدر قبلي وهو الوحي، وبعد تحول نصوصه إلى معاني، والمعاني إلى أبنية نظرية، فوصف الظاهرة الفكرية هي محاولة للعثور على كيفية تحويل النص إلى معنى عن طريق منهج في التفسير والفهم وكيفية تحويل المعنى إلى نظرية عن طريق البناء العقلي لها، وبعد ذلك تقيم الظاهرة الفكرية بإرجاعها إلى مصدرها الأول وهو النص، والحكم عليها بأنها إيجابية أي من النص أو سلبية أي من الخارج، فإذا كانت الظاهرة الفكرية تعبيرا حضاريا عن الوحي، فالمنهج الذي يمكن اتباعه هو منهج ذو جانبين؛ الأول يتابع خروج الظاهرة الفكرية من النص، وهذا هو الوصف الظاهري التكويني الذي يبين النشأة والتطور. والثاني يرجع الظاهرة الفكرية إلى النص من جديد لتصفية ما يمكن أن يعلق به من آثار ثقافية أخرى أو من بناءات وأحكام بيئية، وهذا هو الوصف الظاهري الارتدادي. الظاهرة الفكرية إذن مثالية، مصدرها الوحي، وأساسها العقل، وقوامها الواقع. فالنعرة العلمية التي تقوم عليها مناهج المستشرقين تعني دراسة الظاهرة الفكرية كظاهرة مادية خالصة، وكتاريخ خالص مكون من شخصيات وأنظمة اجتماعية وحوادث تاريخية محضة، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها، وتحاول ابتداء من هذه العوامل المتفرقة تركيب الظاهرة بدعوى تفسيرها. وهكذا تفقد الظاهرة طابعها المثالي، وتنقطع عن أصلها في الوحي، وعن أساسها في الفكر والواقع، وتصبح ظاهرة مادية خالصة لها أصلها في التاريخ الذي أعطاها أساسها، وفي المجتمع الذي أعطاها طبيعتها.
ويرجع هذا الخطأ نسبيا إلى أن جميع المستشرقين أو جلهم من أهل الكتاب ينكرون الوحي الإسلامي، ومن المستحيل بالنسبة إليهم إرجاع الظواهر الفكرية التي يدرسونها إلى أصولها في الكتاب والسنة عن اعتقاد أو عن تعود، بل يرون أن الوحي ذاته نتاج التاريخ، واتصال المبلغ إليه بالبيئات اليهودية والنصرانية المعاصرة له، بل إنه لم يحسن فهمها، وجمعها بلا ترتيب أو منطق. قد يفترض البعض منا سوء النية في ذلك؛ لأن المستشرق يعرف في قرارة نفسه أن التفسير الوحيد للظاهرة هو إرجاعها إلى أصولها في الوحي، ومع ذلك يدير ظهره، ويحاول إيجاد أصول تاريخية واجتماعية لها. لا يعني ذلك توجيه نداء للباحثين لتراثنا القديم أن يؤمنوا أولا بالوحي الإسلامي، ثم يبحثوا ثانيا تراثنا القديم، بل يعني أن الباحث يمكنه أن يصف نشأة التراث وتطوره، وكيفية خروجه من مصادره الأولى، فهو يقرر واقعا لا يحتاج إلى إيمان مسبق بالأصول، وتسمح بعض المناهج الغربية المعاصرة بذلك،
1
ويقع الباحثون المسلمون أيضا في نفس الخطأ، وهم مؤمنون بالوحي، المسألة إذن هي الوعي بطبيعة التراث ونوعيته ونشأته وبنائه.
وقد يكون السبب أيضا خلود النفس البشرية بطبعها إلى ترك النظرة المثالية للظواهر إن لم يكن الحافز الديني أو الحساسية الفكرية متغلبا على شخصية الباحث، وهو ما يمكن تسميته بالمادية المقنعة دون ما تبن لمذهب فكري معين مما يوجد في بيئة ثقافية. وقد يكون السبب أيضا نوعا من التعود على السهولة؛ إذ إن جمع المواد من أسماء أشخاص وتواريخ وتقلبات الدول أسهل بكثير من الانتظار حتى يمكن إدراك الظاهرة الفكرية وفهمها من خلال هذه المواد التاريخية المتناثرة، خاصة إذا كان الباحث ليس على قسط كبير من الوعي الفلسفي، وليس لديه القدرة على الرؤية والقراءة للمواد الخالصة ثم يعوض هذا النقص الكيفي بالكم التاريخي، ويبهر العالم بقدراته على جمع المعلومات.
2
وقد يكون السبب عدم تخصص المستشرق في ميدانه منذ البداية؛ فغالبا ما يبدأ بالتاريخ العام أو بتاريخ علم من العلوم، اللغة أو الأدب أو الفقه، أو الفرق الكلامية، ثم يصل إلى الاستشراق بعد تطور طويل تعود فيه على سرد الوقائع والأحداث، وقد حدث ذلك في الجامعات الغربية حيث توضع الحضارة الإسلامية داخل الحضارات السامية القديمة أو اللغات الشرقية، ولنقص في المستشرقين فإن عالم اللغة يحيل على الفكر، والمؤرخ يشطح على الفقه، فلم ينشأ الاستشراق على الإطلاق كميدان مستقل أو كعلم متخصص، بل كان ملحقا بالتاريخ أو الجغرافيا أو اللغة أو الدين أو الحضارة أو الفلسفة، وكانت النتيجة أن فقد التراث وحدته، وتنازعته العلوم الإنسانية المختلفة، كل علم يتناوله بمنهجه وموضوعه وغايته.
3
وقد يكون السبب الرئيسي هو البيئة الأوروبية نفسها التي تربى فيها المستشرق، والتي أخذ منها مناهجه؛ وذلك لأن البيئة الأوروبية نفسها قد مرت بظروف خاصة حددتها طبيعة مصدرها، وتطور حضارتها، ومنذ عصر النهضة وإبان العصر الحديث تطورت الحضارة بفعل قوة الرفض للقديم بعد أن عانت منه تاريخيا وفكريا وإنسانيا وعقليا واجتماعيا، ورفض كل مصدر سابق للمعرفة نظرا لخيبة الأمل التي حصلت من كشف أخطاء الموروث وكل مصدر سابق للمعرفة باسم الوحي أو الدين أو الحدس أو المثال، أو استبدال بذلك كله الإيمان المطلق بالعقل البشري وقدرته، وبالثقة التي لا حدود لها بالفكر الإنساني وإمكانية وصوله إلى الحقيقة بالجهد الإنساني وإمكانية وصوله بنفسه دون الاعتماد على أي مصدر مسبق. والفكر الإنساني بالرغم من أنه باستطاعته الوصول إلى الحقيقة بمحض الجهد الإنساني إلا أنه قد تكون في ظروف هيأت لظهوره؛ ولهذا قامت المذاهب المادية على شتى أنواعها؛ حسية، وشكية، ونسبية، وتطورية، واجتماعية، وجغرافية، وتاريخية، وفردية، تخلط بين الفكر والظروف التي هيأت لظهوره، وتدرس الظروف التي هيأت لنشأة الأفكار، كما اتضح أخيرا في فلسفة تصورات العالم وفي علم اجتماع المعرفة. كل فكر أصبح تاريخا، وكل وحي أصبح من نتائج البيئة وفعل الأساطير وإسقاط الشعوب، وكل قيمة أصبحت متغيرة خاضعة لتحديات الزمان والمكان، كل شيء يتغير ولا ثبات هناك إلا التغير نفسه،
4
وأصبح من السهولة بمكان إعادة تفسير الحضارة الأوروبية والمذاهب التي نشأت فيها بالرجوع إلى ظروفها التاريخية، ثم يتحول ذلك إلى عادة تطبع عقليات الباحثين الأوروبيين، يعممونها في كل حضارة حتى تلك التي لم يحدث فيها بعد هذا الرفض للموروث القديم كما حدث في الحضارة الأوروبية. في تلك البيئة درس المستشرق، فهو باحث أوروبي بثقافته وتكوينه، وبطبعه ومزاجه، وهو باحث أوروبي إذ لم يستطع أن يتخلص من تحيزات بيئته الثقافية، ولم يستطع تجاوزها وتحييد أحكامها، وعدم الوقوع في أخطائها، وربما يصعب ذلك للغاية ولا يقدر عليه إلا باحث غير أوروبي استطاع أن يعي حضارته ويدرس الحضارة الأوروبية بإرجاعها إلى بيئتها وظروفها التاريخية دون أن تصيبه عدواها.
لذلك فإن دراسات المستشرقين ليست «دراسات موضوعات» بل «موضوعات دراسة»، أي أنه لا يمكن استعمالها كمصادر علمية أو كبراهين يمكن الاستدلال بها والاعتماد عليها قبل تمحيصها أولا والتحقق من صدقها، وبيان ما يرجع منها للباحث المستشرق بتكوينه وثقافته ومزاجه وما يرجع منها إلى الظاهرة نفسها، وإبعاد كل التحليلات التي من شأنها إما القضاء عليها أو إفراغها من مضمونها أو تحليلها تحليلا صناعيا أو إرجاعها كلية إلى التاريخ، ونظرا لطول المهمة ونشأة الاستشراق منذ بداية العصر الحديث فإن دراساتهم تصبح موضوع دراسة مستقل، إذ إن الجهد المبذول في تمحصيها يكون أكثر بكثير من النتيجة التي يمكن الحصول عليها منها والاستفادة بها، وتكون النتائج التي تدل على موقف المستشرق بالنسبة للظاهرة ومنهجه في دراستها أكثر وأعظم وأدل؛
5
لذلك، فالاستشراق ليس جزءا من الحضارة الإسلامية ولا يرتبط بها ولا يفيد شيئا، بل هو جزء من الحضارة الغربية يكشف عن تكوين الباحث الأوروبي ومزاجه، ويكشف عن حقيقة ما يسمى بالموضوعية أو العلمية، كما يبين عمل شعور الباحث الأوروبي في دراساته لحضارات أخرى غير حضارته ويعرض تحيزاته.
6
ولما ظهرت معظم المناهج الاستشراقية في القرن التاسع عشر الأوروبي فقد سادها المذهب الوضعي السائد، فخرجت وضعية تاريخية إلى أقصى حد، واستقر المستشرق في القرن العشرين على هذا المذهب ولم يفارقه، أصبح متخلفا عن زميله الباحث الأوروبي في العلوم الإنسانية، وإذا كان الباحثون الأوروبيون قد ثاروا على المناهج الوضعية في القرن التاسع عشر، فإن زملاءهم المستشرقين لم يفعلوا بالمثل، وظلوا متخلفين فكريا ومنهجيا؛ لأن الدوافع ثابتة، وأهداف الاستشراق لم تتغير، ووجدوا المناهج الوضعية في القرن التاسع عشر أكثر استعدادا لتحقيق هذه الأهداف، ولم يخرج على هذا إلا القليل الذي تابع تطور مناهج العلوم الإنسانية.
7
ويمكن الكشف عن النعرة العلمية في مناهج أربعة يستعملها المستشرقون إما على حدة أو مجتمعة، وهي إما شعورية يعيها المستشرقون أو لا شعورية كامنة وراء عمل المستشرق وتحدد اتجاهاته أمام الظاهرة.
وهذه المناهج هي: المنهج التاريخي، والمنهج التحليلي، والمنهج الإسقاطي، ومنهج الأثر والتأثر.
8 (1-1) المنهج التاريخي
وهو المنهج الأول المعبر عن النعرة العلمية، ويتكون هذا المنهج أساسا من البحث عن الوقائع التاريخية أو الاجتماعية ووضعها بجوار بعضها البعض وترتيبها ثم الإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها الظاهرة الفكرية ذاتها، تاركا كلية أصول الظاهرة في الوحي أو في الشعور، وخاليا من كل تفسير أو فهم أو تأويل أو بحث عن دلالة أو تعرف على قانون، والتاريخ قد يكون تاريخا سياسيا عن طريق رصد الأسر الحاكمة وتقلبات بيوت الأمراء والملوك، أو تاريخا اجتماعيا ووصف المؤسسات والنظم وكأن كل ما في الواقع مبني على أصول، أو تاريخا عاما يجمع كل شيء من سياسة واقتصاد واجتماع وقانون، مجرد دائرة معارف تعطي كل شيء ولا تعطي أي شيء، فإذا كان الموضوع علم التوحيد سردت الوقائع التاريخية كما يحلو للبعض أن يصفها وكأن علم التوحيد جزء من التاريخ العام، فإذا ذكرت المعتزلة ذكرت حادثة واصل بن عطاء مع الحسن البصري ونشأة المعتزلة باعتزاله مجلسه، وإذا ذكر خلق القرآن ذكرت محنة المعتزلة وعصر المأمون والمعتصم والمتوكل، وإذا ذكرت الشيعة ذكرت أسماء الأعلام والأئمة، وتنسب المذاهب والأفكار إلى الأماكن، فهناك الحرورية والبصريون والبغداديون والكوفيون في حين أن الأفكار مستقلة عن الأماكن ولها وجودها الخاص في الشعور، وإن كانت محمولة على الواقع وتظهر فيه في صورة حركات واتجاهات ونظم، فإذا جاءت الفلسفة وعصر الترجمة ذكرت أسماء مراكز الترجمة ودور الحكمة، وأسماء المترجمين وأسماء ترجماتهم، أما فن الترجمة ذاته وصلته بالفكر، ونشأة الألفاظ والمعاني والجدل بينهما فلا شيء منه يذكر، وإذا جاء الفقه والأصول ذكرت الحجاز والعراق ومصر، وذكر الأوزاعي وأبو يوسف وكأن مناهج التشريع من عمل الأمصار ومن وضع الفقهاء، وإذا جاء التصوف ذكرت البصرة وبغداد، وفارس والأندلس، ومصر والشام، وتناثرت القصص والحكايات، والنوادر والفكاهات، ولكن كيف نشأ التصوف في شعور الجماعة، فذلك ما لم يعلمه أحد .
وقد يبدو التاريخ على أنه تاريخ حياة المفكرين وأنسابهم، مولدهم وثقافتهم، ميولهم وأهواؤهم، مذاهبهم وأفكارهم، وظائفهم ومناصبهم مع أن الفكر الإسلامي لا يضع أفكارا بل يعرض طريقة في تفسير النصوص الدينية وفهمها وتحويلها إلى معان وأبنية نظرية، فلا يأتي علم التوحيد من دراسة الشخصيات لأن عالم التوحيد لا يضع حقائق من اكتشافه الخاص لم تكن معروفة من قبل، بل هو عارض لموضوعات الوحي على مستواه الثقافي وبلغة العصر، ليس هناك نظريات للنظام، وأخرى للجويني، وثالثة للغزالي، بل هناك نظريات الكمون، ونقد العلية، صحيح أن الأفكار الفلسفية قد ارتبطت في تاريخ علم الكلام بأصحابها، فهناك الكرامية والهذيلية والأشعرية والجهمية والواصلية ... إلخ ولكنها مهمتنا نحن في القضاء على الشخص لإبراز الفكرة اللاشخصية حتى يمكن التعامل مع الظواهر الفكرية باعتبارها مستقلة عن القائلين بها،
9
ويقال أيضا السينوية والرشدية وكأن ابن سينا وابن رشد قد أبدعا ما لديها من مذاهب ولم يعرضا أنماطا حضارية مستقلة عن أشخاصهما، ولو لم يظهر ابن سينا وابن رشد لظهر غيرهما بنفس الأنماط الحضارية، وكذلك في التصوف يقال مذهب ابن الفارض أو ابن عربي، وكلاهما لم يبدعا مذهبا بل ظهرت وحدة الشهود ووحدة الوجود من خلالهما، وإن لم يظهرا فيها لظهرا في غيرهما، وما الأشخاص إلا عوامل للأفكار وليست مصدرا لها.
لقد نشأ المستشرق في الغرب، وتعود على بيئة ثقافية يضع فيها المفكر فكرا أو يبني مذهبا ثم ينسب هذا المذهب إليه، فبعد أن أسقط عصر النهضة كل الأنماط النظرية القديمة للواقع، وأصبح الواقع عاريا من كل أساس نظري، اضطر المفكرون إلى البحث عن نظريات يفهم الواقع على أساسها، فنشأت المذاهب الفلسفية والتيارات الفكرية كي تسد هذا النقص النظري، ونسبت الأفكار إلى الذين صاغوها، ومن ثم ظن المستشرق أن كل حضارة لا بد وقد نشأت بالضرورة على نمط الحضارة الغربية، ونسب إلى كل من ابن سينا والفارابي وابن رشد مذهبا، وتحدث عن السنيوية والرشدية، ونسب إلى الأشعري مذهبا وتحدث عن «الأشعرية»، بل إن معاصرينا رغبة منهم في التشدق بالخلق الفني والفكري فإنهم يحولون اسمهم ويجعلونه عنوانا لمذهب.
10
وفي كثير من الأحيان لا يكون للمؤلف الإسلامي مذهب واحد، فمثلا ما هو مذهب الغزالي؟ هل هو التصوف أم الفلسفة أم الأصول أم المنطق أم الأخلاق أم السحر والطلسمات؟ وما هو مذهب ابن سينا؟ هل هي الفلسفة أم التصوف أم العلم؟ وما هو مذهب ابن رشد؟ هل هو الفقه أم الكلام أم الفلسفة أم العلم؟ هناك إذن تيارات فكرية تتخلل المؤلف ولا يكون هو إلا عارضا لها. هناك علوم عامة تنشأ من الوحي بتحوله إلى حضارة تتخلل المؤلف ولا يكون هو إلا مصنف فيها، ومن هنا ظهر التكرار والنقل والاستعارة من المؤلفين بعضهم من البعض الآخر لأن العلم موضوعي، مشاع للجميع، لا ينتسب إلى فرد دون فرد، وكأن المؤلفين كلهم فريق يعملون في موضوع واحد مستقل، وفي أحسن الأحوال يكون التاريخ تاريخا للمذاهب والتيارات الفكرية، ولكنها أيضا ترد إلى التاريخ العام والأحداث الجارية، وتصبح تاريخا للفرق أو الجماعات أو الجمعيات مع إغفال تام للأساس النظري الذي تقوم عليه وربطه بالأصول، وفي هذه الحالة لا ينسب التيار أو المذهب إلى الفرق مثل المعتزلة والشيعة والسنة، فالمذهب فكرة يتحدد باسمها مثل التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه في التوحيد أو الجبر والكسب والاختيار في الأفعال، فالصلاح والأصلح واللطف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوعات مستقلة عند المعتزلة، والطبيعة والكمون والتوليد موضوعات مستقلة عند الجاحظ والنظام ومعمر وثمامة وباقي أصحاب الطبائع، والإشراقية والعقلانية موضوعان مستقلان عن الفارابي وابن سينا أولا وعن ابن رشد ثانيا، والقول بالرأي والقول بالأثر منهجان مستقلان عن العراق والحجاز، ووحدة الشهود ووحدة الوجود والوحدة المطلقة كلها مستقلة عن ابن الفارض وابن عربي وابن سبعين.
ولا يعني ذلك تحريم دراسة المفكرين الإسلاميين،
11
بل يمكن دراستهم ليس باعتبارهم مؤلفين، بل باعتبارهم كتابا، فإذا كان المؤلف هو الذي يضع فكرا، بل ويخلقه ويبدعه بجهده الشخصي وبصرف النظر عن أي مصدر له خارج جهده العقلي المحض، فالكاتب هو الذي يعرض الفكر ابتداء من مصدر معين هي النصوص الموحاة،
12
فدراسة المفكر على هذا الأساس ليست دراسة لتاريخ حياته الشخصية: مولده ونشأته، طفولته وصباه، رجولته وكهولته، مرضه، ووفاته، علاقاته، آثاره الاجتماعية، بل عن طريق إعادة بناء موقفه الفكري الذي يتلخص أساسا في كيفية فهم النص الموحى به والتعبير عنه إزاء معطيات ثقافية في ظرف معين، فإذا تمت إعادة بناء الموقف الفكري للكاتب، خاصة إذا كان كاتبا بادئا مثل الشافعي وعلم الأصول، وأبو حنيفة وعلم أصول الدين، والكندي والفلسفة، وليس مضيفا، يمكن بعد ذلك رؤية منهج فكري من خلال هذا الموقف، فإذا تمت إعادة بناء الموقف الفكري للشافعي مثلا يمكن تلمس جوانب المنهج الأصولي، خاصة مناهج الرواية، ومن ثم احتمال وجود منهج إسلامي متميز في النقد التاريخي للنصوص، وإذا تمت إعادة بناء الموقف الفكري لمالك مثلا أو لأبي حنيفة أو لابن حنبل أمكن أيضا تلمس بعض خصائص فكرية من كل مفكر، وكيف أن كلا منهم، طبقا لثقافته وبيئته، قد حاول بيان جانب من جوانب منهج واحد يحاول الكل الوصول إليه والتعبير عنه: الواقع عند مالك، والفكر عند أبي حنيفة، ووحدة الواقع والفكر عند الشافعي، ثم اللجوء إلى النصوص الموحى بها باعتبارها المصدر الأول للفكر عند ابن حنبل خشية استبدال الناس الحضارة بالوحي، وترك الأصول وأخذ الفروع، ويمكن إعادة بناء الموقف بصورة كاملة إذا كان للباحث موقف مشابه، فالباحث ليس دارسا مخبرا فقط أو دارسا مجددا فقط، بل هو باحث له أيضا موقف فكري ابتداء من النص - وهو موضوع فكره - في ظروف مشابهة أيضا.
والتشابه يوجد في أن كلا من الموقفين، القديم للفكر والجديد للباحث يتلخص في كيفية حل النص الموحى به للمشاكل الجديدة الموجودة أمامه ويكون السؤال: ما هو الاتجاه الفكري للمفكر أو الباحث ابتداء من النص الموحى به في فهمه له وفي تحليله للعوامل السائدة في موقفه؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكن للنص الموحى به السيادة على الموقف وابتلاعه وتحويله إلى حالة فرعية بالنسبة له وهو الأصل؟ فإذا تشابه الموقفان يمكن للباحث الحالي أن يسقط تحليلاته لموقفه على المفكر القديم مما يساعده على سرعة الفهم ووضوح الرؤية، إذ إنه يعيش الموقف من جديد، هذا الموقف الذي عاشه المؤلف القديم، فالمواقف واحدة والاتجاهات منها واحدة إذا تشابهت الظروف وتقاربت الاحتياجات.
الفلسفة الإسلامية ليست مجرد تاريخ للتراث القديم، بل هو موقف للباحث المعاصر، فالباحث المعاصر غالبا ما يكون باحثا مسلما وفيلسوفا في نفس الوقت؛ ولذلك فإنه لا يستطيع أن يبحث محايدا بل يبحث ملتزما وآخذا لموقف، فلا يكفيه أن يقرر ما قاله مفكرو التراث، بل عليه أن يدخل في مشكلاتهم التي يصنعونها بوصف الموقف القديم وتقييمه ثم إعادة بناء هذه المشكلة أو تلك في الثقافات المعاصرة، تلك هي مهمة الباحث أساسا، والاكتفاء بالتقرير أو بالنقد الخارجي الذي يعتمد على قضايا الدين ومسلماته أو على المزاج الشخصي، هذا النقد الذي يلحق بنهاية البحث لا يكفي لإعادة بناء الموقف القديم، فالباحث المسلم يختلف عن المستشرق في أنه داخل في التراث، والتراث جزء منه، وهو مسئول عنه مسئولية قومية، ولا يستطيع أن ينظر إليه نظرة السائح الغريب الذي يعجب ويتأمل عالما غريبا عنه بل هو مسئول فكريا وقوميا عن موضوع دراسته، وله الحق في تغييره بالزيادة أو النقص، وفي تأويله وتفسيره طبقا لحاجات عصره، وفي إكماله وتطويره طبقا لظروف العصر، وهكذا كانت علاقة المفكرين بعضهم ببعض، فلم يكتب الفارابي كتابا عن الكندي عارضا آراءه، ولم يكتب ابن سينا كتابا عن الفارابي أو الكندي محللا لنظرياتهما، ولم يكتب ابن رشد كتابا عن الفارابي أو الكندي عارضا لوجهة نظرهما، بل كان كل منهم مسئولا فكريا وحضاريا (أي قوميا بلغة عصرنا) عن أعمال سابقيه، فطورها ناقدا ومغيرا ومكملا، بل إن كل عالم من علماء أصول الدين أو أصول الفقه كان يضع العلم ويعيد تأسيسه ولا يكاد يذكر سابقيه لأن العلم مستقل عن واضعيه، وكان لا يذكر إلا من ينفرد بموقف خاص يخرج من البناء للعلم. ولم يكن موقف علماء الأصول من بعضهم البعض موقف الشرح والعرض بل كان موقف الند للند: الحوار، والجدل، والنقاش، والنقد، والتفنيد، والهدم، وإعادة البناء، ولم يقم أحد بما نقوم نحن به الآن من تكرار لمادة قديمة نعيد عرضها، ونبيعها، ونتعالم بها بغزارة العلم واتساع الاطلاع وكثرة المراجع ووفرة الاقتباسات الصريحة منها والضمنية، المعلن عنها وغير المعلن حتى لقد أصبح تراثنا القديم تاريخا للمعارك الفكرية وليس مجرد متحف للأفكار يتنقل بينها السائح وهو غريب عنها، كان الصوفي يأخذ من الصوفي السابق، ويتمثله، ويزيد عليه، ولم يكن مجرد عارض لآرائه محللا لها، بل إنه حتى في عصر الشروح والملخصات كان الشرح زيادة على القديم، وكان التلخيص تركيزا على الأبنية العامة للقديم دون أطرافها، فكان أيضا عملا إيجابيا، ولم يكن مجرد إخبار وتعريف وتكرار وعرض، وكان الفقهاء أيضا يكملون بعضهم البعض أو يختلف بعضهم مع البعض الآخر، والجميع على نفس المستوى من المسئولية الفكرية والقومية، ولم تكن تعني التلمذة على شيخ والريادة عليه تكرار المريد للشيخ في التصوف أو الفقه أو الأصول، بل كانت تعني رد فعل ومعارضة ومناقضة، فإذا شب المريد فإنه يعيد بناء مذهب الشيخ قبل أن يعد فضائله ويذكر مناقبه، ويتضح ذلك أكثر في الفلسفة، فالفلسفة ليست مذاهب للكندي أو الفارابي أو ابن سينا أو إخوان الصفا أو ابن رشد بل هي قسمة عامة للفلسفة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات، ويمكن زيادة قسم آخر وهو النفسانيات كما هو الحال عند إخوان الصفا، وهناك في الإلهيات نظريات عامة تحدد الصلة بين الإلهيات والطبيعيات، هناك أيضا موضوعات عامة مثل استقلال قوانين الطبيعة أو عدم استقلالها بصرف النظر عن المفكرين الذين قالوا بالأول أو بالثاني، وكان يمكن أن تتغير الأسماء، ولكن لا تتغير الأبنية الفلسفية أو علوم الحكمة أو النظريات أو النتائج أو الموضوعات أو المسائل، قد يكون هدف المستشرق من نسبة الفكر إلى القائل به هو إثبات جدب الحضارة، وصمت الوحي، وأنه لولا الفيلسوف أو العالم لما ظهر الفكر، فالإنسان هو خالق الفكر وليس الوحي هو مصدر الفكر، فإذا كان هؤلاء المفكرون والعلماء معظمهم غير عرب وإن كانوا مسلمين، فإن المستشرق بذلك يكون قد حقق هدفه من إثبات نظرته القومية على الحضارة الإسلامية، وإرجاع الإبداع إلى الخصائص القومية للحضارة وحتى لا تكون هي الحضارة العربية.
وقد كان العمل الفكري في تراثنا القديم عملا جماعيا لم يحدث باجتماع المفكرين معا في حلقة بحث واحدة كما يحدث في العصر الحالي، مع أن هذا قد حدث عند إخوان الصفا وفي حلقات الكلام والفقه والتصوف، بل عمل جماعي قامت به الحضارة الناشئة من مركز واحد وهو الوحي، وكأن الوحي المتحول إلى حضارة هو الذي يضفي على المؤلفين من وحدتهم، ويجعلهم جميعا وسائل يظهر هو فيها من خلالهم، للفكر مساره في التاريخ وما الأفراد إلا حوامل له، ومؤلفات أصول الفقه أبنية عقلية خالصة ومناهج تاريخية ولغوية وعقلية لا شأن لها بالقائلين بها، بل هي تعبير عن أنساق عقلية خالصة وكأنها موضوعة بفعل كلي شامل.
13
فإن قيل: إن الهدف من المنهج التاريخي هو الإخبار، والحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الحضارة موضوع الدراسة، فكيف يتأتى الفهم المطلوب لها إن لم تكن هناك المادة المفسرة أو المفهومة، وإن لم يتم البحث والتنقيب عنها والتعريف بها؟ قيل: كل هذا ليس مهمة المفكر بل مهمة المحقق والناشر والمؤرخ، ولكن الباحث يأتي بعد ذلك لفهم ما جمعه المؤرخ وتفسيره وبيان دلالته، ليست مهمة الباحث هي الإخبار والتعريف، أي أن يروي لنا ما حدث بالفعل لأن روايته لا تؤدي في الغالب إلى شيء جديد لأن الفكر لا يمكن تحويله إلى وقائع يمكن سردها خاصة إذا كان ناشئا من وحي يتحول هو إلى فكر، ويتشكل في صورة علوم حضارية محددة، هدف الباحث إذن ليس الإخبار والتعريف، بل إرجاع الظواهر الفكرية إلى أصولها الأولى التي خرجت منها - الكتاب والسنة - لمعرفة كيفية خروجها منها ومحاولة العثور على منهج أو مناهج دائمة ومتكررة يمكن بواسطتها العثور على منهج إسلامي عام، فإذا كان الهدف من الإخبار هو إيصال المعاني فإن المعاني لا توجد في الوقائع التاريخية بل توجد حين توجد الوقائع في النفس وذلك عن طريق التوحيد بين التجارب الشعورية للنفس وبين الوقائع الماضية باعتبارها تجارب شعورية أيضا، يتم إيصال المعاني عن طريق قراءة الحاضر في الماضي، والشعور بالماضي في الحاضر، وليس عن طريق «الإخبار» المادي، فالوقائع المادية مصمتة لا تحمل أي معنى، لقد أدى الإخبار دوره، وهو مرحلة تمت وانتهت، فقد عرفنا ما حدث في التاريخ وتكرر ذلك حتى أصبح معادا مرددا بل منقولا من باحث إلى آخر، والآن بعد إرجاع المواضيع إلى أصول في الوحي يمكن إعادة بنائها وإعطائها أسسا عقلية يمكن أن تعطيها أبنية مستقلة بذاتها لها براهينها وصدقها ووضوحها في ذاتها، ليس المطلوب الآن هو الإخبار بل اكتشاف «تصورات العالم» في علومنا القديمة التي تحدد نظرتنا إلى واقعنا المعاصر والبحث عن موجهات سلوكنا في أبنيتنا النفسية القديمة التي ورثناها.
لقد نشأ الاستشراق لهذه الغاية، وهي الرغبة في الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن البلاد الأخرى التي وقعت تحت الاحتلال الأوروبي حتى تستغل هذه المعلومات في فهم روح الشعوب القاطنة هناك حتى تسهل السيطرة عليها ومخاطبتها بلغتها، كانت الغاية جمع المعلومات إلى الوطن الأم وهي أوروبا، عندما كانت دولها سيدة البحار، وكان المستشرقون هم الوسيلة لذلك،
14
تبعناهم نحن وظننا أن حضارتنا هي مجرد إخبار عن ماضي ووقائع نستعيد ذكراها وكأننا نعرف أنفسنا بما نجهل، ولكن هذه المرحلة انتهت أو قاربت على الانتهاء، يحاول بعض المستشرقين النفاذ إلى جوهر الفكر دون التاريخ ونتلمس نحن ذلك ولكن على استيحاء، ولكن لم يحاول معظمهم حتى الآن تمثل روح القرن العشرين، روح التحرر في البلاد النامية لأنه ما زال غريبا في عقليته وفي بنائه النفسي، وفي أهدافه وبواعثه؛ ولذلك نشأ صراع خفي أو معلن بين المستشرقين والباحثين الوطنيين في البلاد النامية الذين استطاعوا فهم لعبة الاستشراق وإقامة بديل عنه، وتأسيس علوم إنسانية وطنية، خاصة علم الاجتماع، ولكن ما زال المستشرقون يجدون من يفتح لهم ذراعهم من الباحثين الذين هم امتداد الاستشراق في بلادهم، والذين وقعوا ضحية مناهجهم، والذين لم يبلغوا بعد درجة الوعي القومي، والذين ما زالوا يسلكون «بعقدة الخواجة» أو الذين تربطهم بالاستشراق الغربي مصالح مشتركة من مناصب أو درجات أو دعوات أو مؤتمرات.
والبحث التقريري يرى نوعا لم يعرفه تراثنا بل إن الشروح والملخصات ذاتها لم تكن مجرد جمع مادة أو إسقاط أخرى، بل كانت محاولات فلسفية تزيد من نطاق التحليل الفعلي وبيان أسسها النظرية، وهذا هو الشرح، أو أن تركز على الأفكار الأساسية التي تبرز من خلال التحليلات والبراهين، وهذا هو التلخيص، أما التقرير المحض الذي يجعل من الفكر مجرد تاريخ ويصبح لدينا «تاريخ الفلسفة الإسلامية» أو «تاريخ علم الكلام» أو «تاريخ التصوف الإسلامي» أو «تاريخ الفقه الإسلامي»، فهذا تناقض لأن الفكر موضوعات مستقلة عن التاريخ، والتاريخ لا يدرس إلا الموضوعات في عالم الأعيان، فالتاريخ والفكر من طبيعتين مختلفتين، ولقد ظهرت في التراث القديم محاولات لتاريخ الفكر، ولكنها كانت محاولات فلسفية، فابن تيمية يؤرخ للفكر الإسلامي ولكنه يؤرخ له كفيلسوف، وابن رشد يبحث في علم الكلام، ولكنه لا يقرر فقط بل يفكر على ما يقرر، وينقد ويغير، ومحمد عبده في رسالته عن التوحيد لم يقرر فحسب، بل حاول إعادة بناء العلم نفسه، والأمثلة كثيرة في التراث على أن الباحث هو فيلسوف، والدارس هو مفكر، أما هذا النوع من البحث التقريري الصرف في تاريخ العلوم العقلية أو تاريخ المشاكل فهو نوع غريب كل الغرابة عن روح التراث، فضلا عن الخلط بين التاريخ والفكر، وهو خطأ لا يتبدد إلا بعد دراسة مناهج العلوم الإنسانية أولا، وتجديد الباحث لهدفه وفهمه لطبيعة التراث وخاصيته الأولى ثانيا، وهو أنه وحي يتحول إلى حضارة، وموضع مثالي يتحول إلى علوم مثالية ومناهج فكرية خالصة.
المنهج التاريخي إذن يقضي على وحدة الظاهرة واستقلالها، ويرجعها إلى عناصر مادية وإلى عوامل تاريخية مع أن هذه العناصر المادية إن هي إلا عوامل للفكر، وليست مصدرا لموضوعاته، فالطبيعة لا تنتج فكرا، بل هي محررة للفكر، ففي مقابل التفكير العلمي يوجد التفكير الماهوي، الأول يعتبر الموضوعات الفكرية معلومات والعوامل التاريخية عللا، والثاني يعتبر موضوعات الفكر مستقلة ويتعامل معها كموضوعات مستقلة أو كماهيات أو معاني، كما نضع في مقابل التفكير النشوئي التاريخي الذي يتتبع نشأة الأفكار في الظروف التاريخية التفكير التكويني الشعوري الذي يتتبع نشأة الأفكار في الشعور، وكلاهما المنهج العلمي والمنهج النشوئي التاريخي خطآن من أخطاء العصر، ونقص في تكوين عقلية الباحث الفلسفية، خاصة أمام تراث ماهوي يعطي موضوعات مثالية، مهمة الباحث إذن تحويل الموضوع من أساسه المادي كتاريخ أو حادثة أو واقعة أو فرقة إلى أساسه الفكري الشعوري من أجل تحديد تصورات العالم، مهمته وضع الحوادث التاريخية خارج دائرة الاهتمام ورؤية ماهية الفكر ونشأته في الشعور، ولا يعني تحليل الظواهر الفكرية باعتبارها موضوعات مستقلة عن التاريخ الوقوع في مثالية مغرقة؛ وذلك لأن التاريخ سيظل الحامل للأفكار وستظل المواقف الاجتماعية هي المهيئة لظهور الفكر من خلال الشعور، أي أن الموقف هو الموقف النفسي الاجتماعي، الفكر لا يظهر إلا في التاريخ وفي الموقف الاجتماعي، ولكنه لا يتأسس إلا في الشعور، ولكن في التاريخ هناك فرق بين الوقائع الدالة والوقائع المصمتة التي لا دلالة لها، فالأولى هي التي تثير الفكر، وهي التي يمكن رصدها لأنها تبين مسار الفكر في الواقع ونشأته فيه، في حين أن الثانية مجرد تجميع لوقائع لا تعني شيئا، وكأن التاريخ ما هو إلا مجموعة من الحوادث المتراصة الخالية من أي معنى.
ولما كانت الفلسفة الإسلامية ذات طابع عارض وليست ذات طابع مشكل، فالفيلسوف يعرض نظرياته وآراءه مرة واحدة، ويعبر عن تصور للعالم، ولا يفكر محللا مشكلة ما وعارضا لأوجه حلولها المختلفة؛ ولذلك كان على الباحث أن يتجه بفكره نحو المشاكل نفسها التي تكمن وراء العرض، يعرضها في صيغة تساؤلات مفتوحة دون أن يكررها في قوالب ونظريات مغلقة حتى يستطيع السامع أو القارئ أن يساهم في حلها، يمكن عرض التساؤلات في صيغة توحي بأن هناك حلين متعارضين مثل: هل المنطق يرد إلى الإلهيات أم الإلهيات إلى المنطق؟ هل السياسة عند الفارابي في تصوره للمدينة الفاضلة ترد إلى الإلهيات أم إلى بناء الدولة الحمدانية؟ هل الطبيعيات تحليل للطبيعة أم إلهيات مقنعة؟ هل الله مفارق كما هو الحال عند الفلاسفة أم حال كما هو الحال عند الصوفية؟ هل الوحي تنزيل أم تأويل؟ ميزة هذا العرض أنه يحيي الفكر ويجعله مشكلة، بل ومشكلة شخصية للطالب أو السامع أو القارئ، إذ عليه أن يختار أحد حلين أو أن يرفضهما معا أو يقيم حلا ثالثا لو استطاع ذلك،
15
لا بد للفلسفة الإسلامية إذن من الفكرة الموجهة ومن فرض أولي حتى يمكن إحياء المادة وفهمها وعدم تكرارها، فكما أن الطبيعة لا تتحدث بل يشع فيها نور العقل فتصبح معقولة، كذلك مادة الفلسفة الإسلامية لا تعرض نفسها وتحتاج إلى فرض يمكن شرحها وبيانها وإلا لصارت جزءا من التاريخ العام أو تاريخ الفرق، ويصبح الفلاسفة مادة في كتب الطبقات، مهمة التجديد أنه باستطاعته اقتراح الفروض، وإلقاء وجهات النظر التي يمكن العثور عليها إما من الوحي وهو المصدر أو من العقل وهو الأساس أو من الواقع وهو المحك أو القياس.
وفي النهاية، يمكن للباحث ابتداء من الإخبار أن يقوم بإعادة البناء، فإذا استطاع بالإخبار أن يحصل على مادة مثالية للحضارة وليس على مجرد وقائع تاريخية لا دلالة لها فإنه يمكنه بعد ذلك أن يقوم بالخطوات الثلاث الآتية: (1)
أن يقوم الباحث بجمع المادة الفكرية اللازمة إما لإرجاعها إلى أصولها في الوحي أو لإعادة بنائها في العقل دون نقد أو تمحيص أو تدخل شخصي من الباحث، خاصة إذا كان مجددا همه الأول هو عرض الموضوعات أو النظريات أو العلوم وترتيبها وتصنيفها دون أدنى تفسير من جانبه، يكفيه لذلك أقل درجات الوضوح العقلي وهذا ممكن بالرجوع إلى الوحي كنقطة ارتكاز. (2)
أن يقوم الباحث بتجاوز الترتيب والعرض إلى النقد والتمحيص محللا وناقدا، عارضا ومقترحا، مؤيدا ومهاجما إما بالنظر إلى الأصول في الوحي أو بالنظر إلى الفهم الشخصي للباحث أو ذوقه الفلسفي أو اتجاهه العلمي أو واقعه الاجتماعي، وغالبا ما يتعرض هذا النوع إلى خلط بين الأصول نفسها وبين المزاج الشخصي للباحث أو انتسابه المذهبي، وفرق بين النقد والتجديد، فكثيرا ما يتوجه الباحث في آخر مشكلة بعد أن يعرضها عرضا تاريخيا - مقررا بذلك مادة محايدة لا دخل له فيها - كثيرا ما يتوجه بالنقد المعتمد على قضايا الدين ومسلماته، وفي أحسن الأحوال على النظر العقلي والذوق السليم، كما يعتمد أحيانا على الذوق الفلسفي والمذهب الفكري الذي ينتسب إليه الباحث، وهذا ليس هو المطلوب إذ إن هذه الطريقة التي تقرر مادة محايدة وهي في الحقيقة ليست كذلك، والتي يلحق بها نقد خارجي لا يجدي تقع في خطأين: خطأ التقرير وخطأ النقد الخارجي. (3)
أن يقوم الباحث بعمل موضوعه من جديد باعتباره مفكرا أو فيلسوفا أو عالما، يحاول أن يبنيه من أساسه مستنيرا بالأصول ومستعينا بالمادة العلمية التي عرضها الباحث الأول، والتي نقدها الباحث الثاني، ولكن جهده يتركز أساسا على تكوين الموضوع وبنائه باعتباره مؤلفا كالمؤلفين السابقين، المطلوب من الباحث الدخول في المشكلة القديمة وإعادة وضعها كموقف التزم فيه بفكر التراث وأخذ موقفا منه، وبذلك يبدو الباحث متسقا مع نفسه، وممثلا لحضارته، يحاول الباحث المجدد أن يعيد بناء الموقف القديم بثقافة العصر، وسرعان ما يجد موقفا يحتمه عليه فهمه الجديد للوحي يستطيع بعد ذلك أن يقارن بين حلول التراث وأن يبني مواقفه من جديد؛ لأن الحدوس الفلسفية واحدة تتكرر في كل عصر وبكل لغة وفي كل ثقافة، وهي معادلة صعبة أن يجمع الباحث بين التاريخ والفكر فلا تهمنا الوقائع التاريخية بقدر ما يهمنا الفكر والتحليل النفسي للأفكار ومدى أثرها وفاعليتها في الجماهير عن طريق إعادة بناء الموضوع نفسه في الشعور وتجربته على الباحث - نفسه؛ وعلى هذا النحو يتم الخلاص من عيوب المنهج التاريخي.
16 (1-2) المنهج التحليلي
يقوم هذا المنهج على تفتيت الظاهرة الفكرية إلى مجموعة من العناصر يتم التأليف بينها في حزمة لا متجانسة من الوقائع أو العوامل التي أنشأتها، فالظاهرة الفكرية ظاهرة مركبة تركيبا صناعيا يمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية حتى يتم توضيحها وفهمها، فإذا كان المنهج التاريخي يقوم باستبدال واقعة مادية بالظاهرة الفكرية، فإن المنهج التحليلي يقوم بعد ذلك بتفتيت هذه الواقعة الصناعية وردها إلى عناصرها الأولية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، وهكذا أصبح العنصر الديني مع أنه هو الدافع الأول لتكوين الظاهرة عنصرا مساعدا لبقية العناصر، ضامرا، متقوقعا على نفسه، يتدخل فيما لا يعنيه.
وهذا المنهج مخالف تماما لطبيعة الظاهرة الفكرية المدروسة التي تكونت أساسا من تحويل النص الموحى به إلى معنى، والمعنى إلى بناء نظري؛ ففكرة العوامل التي تحدد تكوين الظاهرة وتتحكم فيها وفكرة العناصر التي تتكون منها مادة الظاهرة لا يمكن أن تساعد على فهم الظاهرة الفكرية التي نشأت طبقا لمنهج في تفسير النصوص، أي طبقا لمنطق في فهم الوحي، وحسب منطق عقلي آخر حدد طبيعة البناء النظري للظاهرة الفكرية الناشئة من تحول الوحي إلى حضارة ليست ظاهرة مركبة تركيبا صناعيا من عناصر ووقائع مادية أنشأتها عوامل تاريخية، بل ظاهرة معنوية نشأت من تحول النص الديني في شعور المفكر إلى المعنى، فهي امتداد للنص الديني على مستوى الفكر.
والأمثلة كثيرة على ذلك؛ فعديد من الدراسات عن المسائل الجزئية في علم الكلام لا تعطي نظرة شاملة على أساس هذا العلم ولا تدرك جوهره، فيمكن دراسة عدة جوانب من التوحيد كالتأليه أو التجسيم أو التشبيه أو التنزيه مع إعطاء مئات من الآراء عن كل منها، ولكن ذلك كله لا يجعلنا ندرك ماهية التوحيد أو عملية التوحيد أو عمليات الشعور التي وراء النظريات الجزئية. كذلك عديد من الدراسات الجزئية عن عصر الترجمة وأسماء المترجمين وعناوين ترجماتهم لا تعطي كلا شاملا عن معنى الترجمة والدور الثقافي الذي قامت به في تمثيل الفكر الأجنبي وتمثله واحتوائه داخل لغة الحضارة الجديدة، ونشأة لغة جديدة للتعبير بها عن المعاني الواردة. ونظريات متفرقة من هذا الفيلسوف أو ذاك في علمه أو فلسفته أو طبه أو رياضياته لا تكشف عن حدس الفيلسوف ومنهجه وتصوره الذي يحاول به التعبير عن الوحي. وتحليلات متفرقة عن القيم الصوفية والأحوال والمقامات لا تكشف عن التصوف كقصد عام وموقف كلي من الحياة وتيار خاضع لظروف اجتماعية ينشأ بوجودها ويختفي بعدمها. وتحليلات جزئية لمناهج الرواية لا تكشف عن المناهج العامة للنقد التاريخي التي وضعها علماء الحديث والأصول، وتفريعات متناثرة عن اللغة لا تكشف عن منطق اللغة والصلة بين اللفظ والمعنى والشيء، وتقسيمات لا تنتهي لأنواع العلل لا تكشف عن الصلة بين الوحي والواقع أو بين النص والعالم، ونظريات متناثرة عن العلوم العقلية الإسلامية لا تكشف عن بناء عام للحضارة الإسلامية وتطورها، تظهر فيه الحضارة كوحدة عضوية واحدة.
وقد نشأ تفتيت الظواهر إلى عناصرها الأولية من عقلية الباحث الغربي ومزاجه وثقافته وبيئته وطبيعة الدين الذي نشأ فيه وطريقة تحوله إلى حضارة عن طريق الرفض وردود الفعل؛ فطبقا للمسيحية التي يعتنقها عديد من المستشرقين يمكن تقسيم الظاهرة إلى عوامل دينية وأخرى غير دينية؛ لأن الدين لا ينظم إلا جانبا خاصا من جوانب الحياة وهو الجانب الروحي، وما سوى ذلك فهو الجانب المادي لا شأن للدين به. هناك إذن عامل ديني وعامل غير ديني يشمل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فإذا نظر المستشرق إلى نشأة الفرق الإسلامية فإنه يحكم بأن هذه النشأة سياسية وليست دينية، في حين أن الوحي الإسلامي بطبيعته لا يفرق بين الدين والواقع، والعامل السياسي عامل ديني، والعامل الديني عامل سياسي واقتصادي واجتماعي ... إلخ. وعندما رفضت العصور الحديثة في الغرب كل الموروث القديم عن طريق رد فعل هائل ضد السلطة الموروثة، ظهرت الأفكار الجديدة من خلال ظروفها الاجتماعية وبيئتها الثقافية؛ فمنها ما نشأ نشأة سياسية، ومنها ما نشأ نشأة اجتماعية، ومنها ما نشأ نشأة اقتصادية. وهكذا يمكن تفسير نشأة الأفكار وتطورها منذ عصر النهضة حتى الآن في الثقافة الغربية عن طريق البحث عن العوامل التي سببت نشأتها. ويجوز في كثير من الأحيان تفسير الظاهرة بعامل واحد، وبذلك تنشأ العقلية أحادية الطرف تتقلب على العوامل، واحدا تلو الآخر، لا تستقر على حال، وانتقلت الثورة على الموروث إلى هذا الموروث ذاته تبحث عن مصادره فتحللت النصوص الدينية وتفتت إلى مصادرها في تاريخ الأديان أو تاريخ المجتمعات القديمة، وثبت أن ما ظنه الناس قرونا طويلة وحيا أنه ليس كذلك، بل مجموعة من كتب التاريخ القصصي والأساطير. تحللت النصوص ورجعت كل فقرة إلى مصادرها في بابل أو آسيا الصغرى أو مصر، وظهرت بواعث التأليف سياسية واقتصادية واجتماعية. ولما أثبت التحليل جدارته في النصوص الدينية في الغرب ولما كان المستشرق في النهاية باحثا غربيا نشأ وتكون في الثقافة الغربية ظن أن ما حدث في بيئته لا بد وأن يكون قد حدث ضرورة في كل بيئة أخرى، وهذا هو خطر تعميم الجزء على الكل. لقد سارت العقلية الأوروبية في المناهج التحليلية لأنها اصطدمت بمعطيات مركبة أضرت بها وبواقعها، وكان لزاما عليها تحليلها للكشف عما إذا كانت معطيات صحيحة أو باطلة، فالتحليل باعث في الشعور الأوروبي كوسيلة للكشف عن الزيف والبطلان.
وقد يستعمل التحليل عمدا للقضاء على الطابع الكلي الشامل، وهو أهم ما يميز الحضارة الإسلامية التي قامت أيضا على وحي كلي شامل؛ فبتفتيت الكل لا يرى أحد الأجزاء المتناثرة، ومن ثم لا تختلف الحضارة الإسلامية عن الغربية في شيء، فكلاهما مجموعة متناثرة من الأجزاء. وقد يستعمل التحليل بطريق لا شعوري تعبيرا عن رغبة دفينة في الهدم وقضاء على الموضوع؛ فالتحليل تفتيت وسحق، يحقق للباحث ما يريد من القضاء على الظاهرة إن أراد، وقد يستعمل التحليل حتى يمكن رد كل جزء إلى أجزاء شبيهة في حضارات معاصرة، ومن ثم يكون التحليل مقدمة لإثبات الأثر الخارجي وتفريغ الحضارة من مضمونها الأصيل.
وقد حاولت المناهج الغربية المعاصرة استدراك الأمر، فظهرت المناهج التكاملية التي تبغي أخذ العوامل كلها مرة واحدة، واستبعاد التفسير الأحادي للظاهرة، كما ظهرت مناهج «الجشطلت» تعطي الأولوية للكل على الأجزاء، ونشأ منهج وصف الظواهر يعطي أيضا الأولوية للكل على الأجزاء، ويجعل من الظواهر الفكرية ماهيات مستقلة عن عواملها المادية، بل ونشأت مذاهب فلسفية كاملة، مثل مذهب هيجل تقوم على وصف الكل وأن الأجزاء ما هي إلا تعيينات للكل الذي يتطور ويظهر في الأجزاء، ويتجلى وينكشف على مسار التاريخ، ولكن المستشرق نادرا ما يأخذ بيئته الثقافية موضعا للدراسة والتأمل، ونادرا ما يحلل شعورها الخاص لرؤية عملياته، يخضع لمؤثرات بيئته، ولا يحاول التحرر منها بالرغم من النداءات المعاصرة والتنبيه على الأخطار، ولكن في الشرق، وفي رحلاته إليه، بل وفي رغبته في التخصص الدقيق، والبحث المنمق، ينسى الكل وراءه أو فوقه، لم يتابع المستشرق في منهجه التحليلي أي مناهج تحليلية في القرن العشرين، تحليل اللغة، تحليل المفاهيم والتصورات، تحليل المنطق، تحليل الرموز، تحليل المعطيات الحسية، تحليل التجارب الشعورية، التحليل النفسي، التحليل العاملي ... إلخ، أي أنه حتى في تحليله التاريخي انعزل عن الفلسفة التحليلية، وهي إحدى فلسفات العصر الرئيسية، كرد فعل على المناهج التركيبية والنظرات الشمولية والمذاهب الشامخة التي سادت القرن التاسع عشر، وكان بإمكانه الاستفادة من كل هذه المناهج التحليلية الفلسفية؛ لأنها أكثر قدرة على تحقيق أهدافه الثابتة وأكثر تعبيرا عن عقليته الغربية، وقد تكون المناهج التحليلية المعاصرة على مشارف الانتهاء بحدوث رد فعل عليها والعودة إلى النظرة الشاملة للأمور، ولكن المنهج التحليلي الاستشراقي باق لا يتغير، ومستمر منذ نشأة الاستشراق حتى الآن، فالاستشراق لا يحدث ردود فعل على نفسه، فهو الفعل ورد الفعل معا، وأي مستشرق يرفض المناهج التحليلية ويحاول إعطاء نظرة شاملة، فإنه يتعسف في النظرة، يركبها طبقا لهواه أو لأحكام عامة على الحضارة بالجدب، وعلى الدين بالجمود، وعلى الوحي بالاضطراب والاختلاط، وعلى التوحيد بالتجريد، وعلى العقائد بالقضاء والقدر، وعلى الشعوب بالتخلف.
وليس معنى ذلك أن المنهج التحليلي في ذاته عقيم، ففي تراثنا القديم نماذج من التحليلات التي تكشف عن البناء الكلي، بل إن التراث كله قائم على نظرية في التحليل، تحليل الوحي إلى مراحل، وتحليل العقائد إلى أصول، وتحليل أصول الفقه إلى أدلة، كل علم يقوم على تحليل، وأوضح مثل على ذلك علم أصول الفقه وعلوم التصوف، ففي علم أصول الفقه تحليل الشعور التاريخي، وتحليل مناهج الرواية، وتحليل الألفاظ، وتحليل الأحكام، وفي علوم التصوف تحليل الأحوال والمقامات، وتحليل مراحل الطريق الصوفي، ولكن التحليل هنا هو التحليل التكويني الذي يكشف عن البناء العام أو التحليل الارتقائي الذي يبين مراحل التكوين، وليس التحليل التجزيئي الذي يقضي على بناء الظاهرة وينفي وجودها. (1-3) المنهج الإسقاطي
ويقوم هذا المنهج، وهو في الغالب لا شعوري باستبدال الظاهرة المدروسة بظواهر أخرى هي أشكال الأبنية النظرية الموجودة في ذهن المستشرق، يراها في الواقع مخفيا بذلك الظاهرة الموضوعية التي أمامه، والتي كان في نيته دراستها، قد يكون الإسقاط مطلقا عندما لا يرى المستشرق من الظاهرة التي أمامه شيئا ولا يرى فيها إلا صورته الذهنية، وقد يكون نسبيا عندما يرى الظاهرة ولكن يضيع منه تفسيرها الحقيقي وكيفية خروجها من النص الديني، ويعطي بدلا عنه تفسيرا آخر يخضع للأبنية النظرية لصوره الذهنية، فالظاهرة الموجودة بالفعل بما أنها لا توجد كصورة عقلية في ذهن المستشرق فإنه يحكم عليها بالنفي، والظاهرة التي لا وجود لها بالفعل ولكنها توجد كصورة ذهنية عند المستشرق فإنه يحكم عليها بالوجود الفعلي، والشيء الوحيد الموجود بالفعل يصبح خلطا؛ لأن البناء النظري في ذهن المستشرق بناء ثنائي، والشيء المتميز الموجود بالفعل يصبح تفرقة لأن صورته الذهنية في ذهن المستشرق صورة متفرقة، وهكذا يصدر المنهج الإسقاطي أحكاما قيمة يعلي فيها من شأن هذه الصور الذهنية ويقلل من شأن الموضوعات المدركة بالفعل، ويتضح هذا باستمرار خاصة إذا كان موضوع الدراسة نفسه باعتباره مقياسا للظواهر الفكرية يمكن أن يكون مرآة تعكس الصور الذهنية المسقطة عليها من شعور المستشرق، وأن يردها من جديد إلى ذهنه، الإسقاط إذن خطأ في الإدراك يجعل المستشرق في عزلة ذهنية، ويضعه في موقف نرجسي خالص عندما لا يرى في العالم الخارجي من موضوعات إلا ما هو موجود في نفسه كصور ذهنية.
فمثلا يقال عن الإسلام إنه «المحمدية» أو «الإسلامية» في حين أن «الإسلام» اسم لا يحتاج إلى وصف آخر، وقد سماه المستشرق المحمدية كما تنسب المسيحية إلى المسيح، والبوذية إلى بوذا، والكونفوشيوسية إلى كونفوشيوس، والتاوية إلى تاو، وكما يسمى مذهب هيجل الهيجلية، ومذهب ماركس الماركسية، كما ركز المستشرقون كثيرا على حياة محمد، وحاولوا كتابة عدة تواريخ لحياته كما حدث في العصر الحديث بالنسبة لحياة المسيح يميزون فيها بين الواقع والأسطورة، بين محمد التاريخي ومحمد الإيماني، وكثيرا ما تحدث المستشرقون عن الكنيسة الإسلامية أو السلطة الدينية وعلاقاتها بالدولة وعن أن سبب تأخر العالم الإسلامي اليوم هو عدم الفصل بين الدين والدولة مع أن هذا إسقاط من ذهن المستشرق المسيحي من تاريخ الغرب المسيحي ومكاسبه التي نالها من الفصل بين الكنيسة والدولة وتحرر الجماعات من سلطة الكنيسة، وأخذ النمط الغربي على أنه هو النمط العام الذي على أساسه يعاد بناء كل الأنظمة الأخرى، أو اتهام التوحيد الإسلامي بأنه تجريدي خالص لا يمكن فهمه ولا يقاد إليه الذهن ابتداء من رموز حسية وهي الأيقونات، وهذا إسقاط من ذهن المستشرق المسيحي، والحكم على التنويه بالتجريد إسقاطا من التجسيم والتشبيه الذي تعود عليه؛ ولذلك عندما يؤيد التصور الشيعي القائم على التجسيم والتأليه على التصور السني القائم على التنزيه الخالص فإنه إنما يسقط من نفسه مقياس الاختيار، وهو المقياس المسيحي العقائدي، وعندما يقال إن الإسلام دين قوة أو دين مذكر أو دين رجولة أو دين حرب فإن المستشرق إنما يسقط من نفسه تصوره للمسيحية على الأقل نظرا على أنها دين تسامح وحب، ودين سلام وإيمان، فكل حكم نفي يقوم به المستشرق يوم على نفي لما لا يوجد في ذهنه، وكل حكم إيجاب يقوم على إثبات لما يقوم ذهنه، وإذا ما ظهرت حركات تجديد تدعو إلى تغيير الواقع أو إلى إعادة فهم التراث فهما عقلانيا قيل علمانية وإلحادا، وقد نشأ المستشرق في بيئة كهنوتية وينتسب إلى دين كهنوتي فكل ثورة ضد الكهنوت الدخيل على عقليتنا المعاصرة يكون علمانية، كما تعود على تصور أن الله متجسد فكل رفض لهذا التصور لله يعتبره إلحادا! وإذا ما نشأت حركات أخرى تدعو إلى البدء بالواقع وإلى فهم حياة الناس قيل مادية وماركسية؛ وذلك لأن الباحث الغربي تعود على أن الروح شيء وأن المادة شيء آخر، وعلى أن كل من يبدأ من العالم يكون ماديا وكل من يبدأ بحياة الناس وصراعهم يكون ماركسيا، في حين أن تراثنا القديم قد قدم لنا هذا النمط الفكري عند أصحاب الطبائع من علماء الكلام وعند ابن رشد من الفلاسفة، كما أن عديدا من الثورات في تاريخنا القديم مثل ثورة الزنج وثورة القرامطة قد نشأت بدءا بالواقع من أجل تغييره تغييرا جذريا، ولا يحدث هذا الإسقاط من الباحث الأوروبي فحسب، بل قد يحدث أيضا من باحث ينتسب إلى الحضارة الإسلامية ولكنه مثقف ثقافة غربية، ويتبع منطق الغرب في تفكيره، ولم يحاول التنصل منها أو وعي ذاته ومنطق حضارته، فيصير الإسلام في ذهنهم دينا مثل غيره من الأديان، ويقاس على المسيحية، وتنقل دعوات الإصلاح على النمط المسيحي الغربي.
17
وينشأ المنهج الإسقاطي من خضوع الباحث لهواه وعدم استطاعته التخلص من الانطباعات التي تركتها لديه بيئته الثقافية المعينة مع أن التحرر من الأحكام المسبقة العقلية والانفعالية معا هو الشرط الأول للبحث العلمي، وذلك ناشئ عن إيمان المستشرق بثقافته وأنها هي النموذج الوحيد لكل الثقافات وأنه ينتسب إلى حضارة هي مركز العالم، ومحور التاريخ ومصدر الحقائق ومنبع المناهج، ومهد العلوم، قد يرجع ذلك إلى تضخم في الذات الحضارية لدى المستشرق، ونعرة غربية تجعله ينظر إلى الظواهر المدروسة من عل ولا يضعها على نفس المستوى مما يسهل الإسقاط، فالإسقاط في نهاية الأمر هو وضع الآخر في قالب الذات، والحكم بالسواد على ما ليس بأبيض، وكأن العقلية الغربية بإسقاطها في جوهرها عقلية عنصرية هي الأساس للثقافة والدين والفن والعلم والحضارة.
ليس معنى ذلك أن الإسقاط في ذاته لا يؤسس منهجا ولا يعطي رؤية، بل الإسقاط من حيث هو إسقاط لهوى أو مصلحة أو صورة ذهنية بيئية هي الذاتية عندما تتوقف عن أداء دورها في كشف الموضوع، ولكن الذاتية يمكنها أن تتجه نحو الموضوع وتنيره، وتحيله إلى معنى، وفي هذه الحالة تكون الذاتية مصدرا لحدس وأساسا لرؤية وتكون هي الذاتية الخالصة المتجردة عن أي هوى أو مصلحة أو صور ذهنية بيئية، وتراثنا القديم قد مارس هذا التوجه من الذات نحو الموضوع كما هو واضح في علوم التصوف واعتمادها على الرؤية والحدس والإدراك المباشر، وكما هو واضح أيضا في علم أصول الفقه عندما يقوم النص الذي يحتوي على الأصل بتوجيه الشعور نحو العلة المشتركة مع الفرع من أجل تعدية حكم الأصل إلى الفرع، ومناهج الأصوليين في تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط كلها قائمة على البداية بالذاتية النصية، والقياس الشرعي أيضا يبدأ بتوجيه النص نحو الواقع من أجل رؤيته، والضامن لموضوعية الذاتية هو أنها تعتمد على الوحي باعتباره حقيقة موضوعية مستقلة غير موضوعة من الأفراد الذين قد تغلب عليهم وجهات النظر والمصالح والأهواء والنظريات الأحادية الطرف، كما أن براءة الشعور الأصلية قادرة على توجيه الذات نحو الموضوع دون قضاء عليه أو تزييف له، وهي البراءة التي تعبر عن النية الخالصة من حيث وظيفتها المعرفية. (1-4) منهج الأثر والتأثر
بعد أن يقوم المنهج التاريخي بمهمة الفصم بين مصدر الظاهرة الفكرية، وهو النص الديني، وبين هذه الظاهرة نفسها مرجعا إياها إلى مصدر تاريخي محض، وبعد أن يقوم المنهج التحليلي بمهمة تفتيت الظاهرة الفكرية إلى عناصر وعوامل تاريخية تكون موضوعا اصطناعيا يعادل الظاهرة الفكرية مدعيا تمثيلا لها أو بديلا عنها، وبعد أن يقوم المنهج الإسقاطي بمهمة تفسير الظاهرة الفكرية ابتداء من الصور الذهنية المماثلة أو المخالفة والتي ليس لها إلا وجود ذهني خالص في نفس المستشرق، يقوم منهج الأثر والتأثر بالمهمة الباقية وهي القضاء التام على ما تبقى من الظاهرة مفرغا إياها في مضمونها، ومرجعا إياها إلى مصادر خارجية في بيئات ثقافية أخرى دون وضع أي منطق سابق لمفهوم الأثر والتأثر، بل بإصدار هذا الحكم دائما بمجرد وجود اتصال بين بيئتين ثقافيتين وظهور تشابه بينهما مع أن هذا التشابه قد يكون كاذبا وقد يكون حقيقيا، وقد يكون لفظيا، وقد يكون معنويا، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد قيل عن الفلسفة الإسلامية بوجه خاص أنها فلسفة يونانية مقنعة وأنها ترديد لما قاله اليونان من قبل، بل ترديد خاطئ يسوده عدم الفهم والخلط التاريخي، وهذا غير صحيح على الإطلاق، بل ويدل على عدم علم بطبيعة العمليات الحضارية التي تحدث كلما تلتقي حضارتان، فالفلسفة الإسلامية لم تأخذ من الحضارة اليونانية إلا اللغة ولكن المعاني المعبر عنها ظلت هي المعاني الإسلامية، فالكندي يرفض قدم العالم ويقول بالخلق، ويرفض استراحة الإله ويقول بالعناية الإلهية، ويرفض الواحد الرياضي ويقول بالتوحيد، ويرفض فناء النفس ويقول بخلودها، وإذا كان الفارابي وابن سينا قد قالا بالفيض فإنهما لم يفعلا ذلك ابتاعا لأفلوطين، بل لاتجاههما الصوفي ونظريتهما الإشراقية التي تؤثر فيها الوحدة على الكثرة والتي يسود فيها القلب على العقل والتي يكون الأولوية فيها للروح على البدن، وابن رشد في قوله بقدم العالم في شروحه على أرسطو يقول بالخلق في التوحيد، ولا يقول بقدم العالم إلا دفاعا عن حرية الفكر واستقلاله ضد إشراقيات الفيض، ويقول بخلود النفس الكلية لا تبعية لأرسطو وخلود العقل الفعال، بل رفضا للتصور الفردي للخلود، وإيثارا للروح الجماعية، وإذا كان الفلاسفة والأخلاقيون قد انتهوا في تعريفهم للفضيلة بأنها وسط بين طرفين أو في تعريفهم للحياة الخلقية بأنها حياة التوازن بين قوى النفس، وهذه هي العدالة، فإنهم لم يفعلوا ذلك اتباعا لأرسطو أو لأفلاطون بل فهما لجوهر الوحي ووضع الفضيلة وتصور الحياة الخلقية فيه، وما دامت الظواهر تفسر من داخلها فلماذا اللجوء إلى الخارج؟ وما دام يفسر وجودها بالعلل القريبة فلماذا اللجوء إلى العلل البعيدة؟
وقد قيل عن التصوف أيضا إنه ناشئ من مصدر خارجي، فهو إيراني نظرا لوجود التشابه بين عناصر التصوف الإسلامي وعناصر أخرى في التصوف الإيراني مثل صور النار، والصراع بين النور والظلمة والمعرفة الإشراقية، وهو هندي أيضا لوجود تشابه بين عناصر التصوف الهندي والإسلامي، مثل الفقر والزهد والورع أو تناسخ الأرواح أو الفناء الكلي، وهو يوناني لوجود تشابه بين بعض الاتجاهات الصوفية في الحضارة اليونانية وعناصر مشابهة في التصوف الإسلامي، مثل النحلة الأورفية والتطهير الفيثاغورسي، وإشراقيات أفلاطون وتأملات طاليس، وشيطان سقراط، وهو أخيرا نصراني؛ لوجود عناصر مشابهة بين التصوف الإسلامي والأخلاق واللاهوت المسيحي مثل الطهارة والتقوى والمحبة والإحسان والدعوة إلى الزهد والتقشف والرهبنة واحتقار الدنيا أو بالقول بالحلول والتجسد، في حين أن التصوف وكل التصوف إن هو إلا رد فعل اجتماعي على مظاهر البذخ والترف في المجتمع، ومقاومة سلبية لحب الدنيا وسيادة الطمع والرغبة في الاستحواذ على كل شيء، وكأن وجود مجرد صلات تاريخية بين الحضارة الإسلامية، وكل هذه الحضارات المجاورة يؤكد هذا الأثر والتأثر، وقد قيل عن أصول الفقه إنه أيضا أثر من آثار المنطق اليوناني، وإن الشافعي، واضع علم الأصول، تعلم اليونانية لهذا الغرض في حين أنه شتان ما بين المنطق اليوناني والمنطق الأصولي، فالمنطق الأصولي يشمل أولا مناهج للنقد التاريخي،
18
ومناهج اللغة في الأصول مرتبطة أشد الارتباط باللغة ولا شأن لها بأبحاث المقولات أو العبارة في المنطق اليوناني، ومباحث القياس الفقهي لا صلة لها بالقياس أو البرهان الأرسطي، فالقياس الفقهي منتج خاص يقوم على التجربة وقياس العلة، في حين أن القياس الأرسطي غير منتج صوري عام، أما منطق الأحكام فليس له ما يرادفه على الإطلاق في المنطق اليوناني الذي هو منطق صوري خالص لا شأن له بالفعل الإنساني، ولكن المستشرق لمجرد أنه رأى منطقا وهو يعلم أن اليونان هم أصحاب المنطق، فإنه يتسرع في حكمه أو يلحق الظاهرة التي يدرسها بالمنبع الذي خرجت منه الثقافات الأوروبية والتي هو جزء منها.
19
وفي علم أصول الدين قيل إنه خضع للأثر والتأثر مع أنه أبعد العلوم عن ذلك؛ لأنه أولها في النشأة قبل عصر الترجمة، وهو أول محاولة للتعبير عن النصوص وفهمها فهما عقليا خالصا، وتحويلها إلى معاني، قيل مثلا إن الأحوال الثلاث، العلم والقدرة والحياة، عند أبي هاشم لا تبتعد كثيرا عن الأقانيم الثلاثة في النصرانية، كما قيل إن الطبع والطباع والطبائع عند الجاحظ والنظام وثمامة وجعفر من آثار الدهرية الفرس، مع أن علم الكلام يفرد أبوابا خاصة للفرق غير الإسلامية ويرد عليها، فأحوال أبي هاشم صفات مطلقة منزهة غير مجسمة أو مشخصة، والطبع عند القائلين به أكبر رد فعلي على تشخيص الطبيعة عند الأشاعرة.
ويرجع منهج الأثر والتأثر إلى نشأة المستشرق في بيئة ثقافية خاصة، هي البيئة الأوروبية التي تخضع ثقافتها للأثر والتأثر ، فقد نشأت الحضارة الأوروبية ابتداء بالبعث اليوناني في أوائل عصر النهضة وإحياء التراث العقلي القديم لإنقاذها من قطعية اللاهوت وسلطان الكنيسة، فكل مذهب فكري حديث له ما يقابله في الفكر اليوناني القديم، ولا يتضح ذلك في الفكر فحسب، بل يتضح أيضا في الأدب والفن والشعر والنثر والخطابة والعمارة والمسرح، فظن المستشرق بانطباعاته الثقافية وتكوينه الفكري أن اليونان هم مصدر كل حضارة، وأن الحضارة اليونانية هي السحر الذي يسري في كل حضارة تتصل به في حين أن علاقتها بالحضارة الإسلامية كانت علاقة رفض أكثر منها علاقة قبول، وإذا قبلت الحضارة الإسلامية منها شيئا فإنما تفعل ذلك بعد عرضه على العقل وإثبات اتفاقه معه، والعقل أساس النقل، ومن ثم فهي تقبل ما يمليه العقل أولا، وكذلك لما توالدت المذاهب الفلسفية في الغرب بعضها من البعض الآخر، وتأثر الفلاسفة بعضهم بالبعض ظن المستشرق أن كل حضارة إنما تنسج على المنوال الغربي وغالبا ما يكون الأثر الغربي هو الأثر الغربي الجيد من منطق وعقلانية وفكر منهجي أو تقوى باطنية وتحليل للأخلاق أو تصور علمي للعالم يقوم على إثبات قوانين الطبيعة واستقلال العقل، كل ذلك أتى من الخارج، ولم ينتج من الداخل إلا الأفكار التقليدية الشائعة التي تعبر عن التخلف الفكري والركود العقلي، وكأن الثقافة لشعب ما وما تنتجه من جديد لا تكون إلا عميلة للغرب وتابعة له وامتدادا لسلطانه، خطأ هذا المنهج إذن هو تفريغ الثقافة المدروسة من مضمونها، وإرجاع الداخل إلى الخارج، والقضاء على جدتها وإبداعها، وهو خطأ ناتج عن تصور العلاقة بين الثقافات على أنها أحادية الطرف، الأولى معطية منتجة مبدعة وهي الثقافة الأوروبية والثانية مستقبلة مجدية فارغة خاوية وهي الثقافة غير الأوروبية، وتعبر هذه العلاقة أحادية الطرف عن عقلية عنصرية، وشعور متمركز على الذات، ورغبة في السيطرة والهيمنة على ثقافات الشعوب وأقدارها.
كما يقوم منهج الأثر والتأثر على خطأ في فهم التأثر نفسه والحكم به بمجرد وجوه تشابه بين ظاهرتين في بيئتين مختلفتين بينهما اتصال تاريخي، وهذا غير صحيح على الإطلاق ، فالأثر والتأثر عملية حضارية معقدة تتم على مستويات عدة: اللغة والمعنى، والشيء، فلو كان هناك اتصال تاريخي بين حضارتين، وظهر تشابه بين ظاهرتين، فإن التشابه قد يكون في اللغة، وفي هذه الحالة لا يكون أثرا بل هي استعارة، ولا يكون في المعنى أو في الشيء بل يكون في الشكل أو في الصورة، واللغة هي صورة الفكر وشكله ووسيلة التعبير عنه، إذ إنه يحدث بنشأة حضارة ما وتطورها أنها تمتد حتى تصل إلى حدود حضارات أخرى سابقة عليها في الزمان، أي أنها أسبق منها نشأة وأكثر منها تطورا فيحدث أن تسقط الحضارة الناشئة ألفاظها القديمة وتستعير ألفاظ الحضارة المجاورة وتستخدمها للتعبير بها عن المضمون القديم، وهذا هو ما يسمى بالتجديد، وهذه هي إحدى طرقه بالاستعارة اللغوية، خاصة إذا كانت اللغة المستعارة عقلية وعامة ومفتوحة، فهي استعارة للشكل دون المضمون، وتجديد للصورة دون الفحوى، قد يحدث تجديد داخلي للمضمون والفحوى بفعل اللغة الجديدة ولكنه تجديد داخلي بتفاعل المعنى القديم مع اللفظ الجديد الذي يبرز جوانب من المعاني كانت خافية تحت اللفظ القديم أو يركز على جوانب أخرى كانت مهملة باللفظ القديم، وهذه الاستعارة اللغوية عملية طبيعية تحدث في كل لحظة تاريخية تتقابل فيها حضارتان معا، الأولى ناشئة والثانية متطورة حتى تنتقل الحضارة من الخاص إلى العام بفعل التطور، والاستعارة اللغوية على هذا النحو ليست أثرا أو تأثرا لأن الألفاظ مشاع بين الجميع يتداولها الناس، فهناك استعارة لغوية من الألفاظ الفارسية في الوحي لأنها كانت مشاعا قبل ذلك في الشعور العربي، كما نشأت ألفاظ العام والخاص والمطلق والمقيد وسائر مصطلحات علم الأصول في الرسالة للشافعي نشأة تلقائية لأنها لغة العقل البسيط.
20
أما إذا حدث تشابه في المضمون بين ظاهرتين من حضارتين مختلفتين فإن ذلك أيضا لا يمكن تسميته أثرا أو تأثرا دون تحديد لمعنى الأثر لأن إمكانية التأثر من اللاحق بالسابق موجودة، أي أن الشيء نفسه موجود ضمنا في الظاهرة اللاحقة، وما كانت الظاهرة السابقة إلا مثيرا أو مقويا ووجود الباعث أو المثير أو المقوي لا يعني وجود الشيء نفسه، بل العامل المساعد الخارجي على إظهاره، فالصلة التاريخية لا تدل على أثر أو تأثر بقدر ما تدل على إظهار إمكانيات جديدة للحضارات الناشئة وتحويلها إلى ظواهر بالفعل بفضل الوسائل الجديدة المتاحة للتعبير، وكثيرا ما تؤثر الحضارة الجديدة الناشئة بمعانيها في الحضارة القديمة، فإذا استعارت الحضارة الناشئة ألفاظ الحضارة القديمة في التعبير بها عن معانيها الخاصة أخذت هذه الألفاظ معاني جديدة لم تكن فيها من قبل، واكتشفت في الحضارة القديمة أبعاد جديدة لم تكن معروفة من قبل ولم تعرف إلا بفعل الحضارة الجديدة الناشئة وبمعانيها الشابة.
21
ويجوز أيضا أن يوجد تشابه بين ظاهرتين من حضارتين مختلفتين، سواء وجد اتصال تاريخي بينهما أم لم يوجد، ويجوز أن يرجع هذا التشابه إلى تشابه في نفس الظروف التي أدت إلى ظهور نفس الأفكار ما دامت واحدة، والذهن الإنساني واحد، والحقائق واحدة، فهناك حقائق إنسانية عامة وثابتة تظهر هنا وهناك دون أن يكون هناك أدنى أثر من هذه الحضارة أو من تلك، فكلاهما راجعان إلى نفس المصدر، حقائق موجودة، وأذهان متفتحة تدركها، فالصلة التاريخية، وجودا وعدما، لا تدل على شيء من أثر أو تأثر، بل تدل على إمكانيات الحقائق الشاملة التي توجد في كل عصر، والتي تظهر في كل حضارة، منهج الأثر والتأثر يقضي على هذه الإمكانيات وينكر وجود معاني مستقلة عن التاريخ.
إن الحضارة الإسلامية قادرة على تمثل ثقافات الشعوب المجاورة ووضعها في قالبها؛ لأنه القالب الأوسع شمولا والأكثر عقلانية، ومن ثم لا يؤثر الجزء على الكل، بل يدخل الجزء ضمن الكل ويصبح متضمنا فيه، ومن ثم كان منهج الأثر والتأثر يهدف أساسا إلى القضاء على أصالة الحضارات وقدرتها على التمثيل والتعبير والخلق، وإلى القضاء على الظواهر المستقلة وقيامها من ذاتها، وإلى إرجاع كل شيء إلى مصادر خارجية، ومن ثم يقضي على فعل الروح وعمل الذهن، وهذا ما يهدف إليه المستشرق الغربي. (2) النزعة الخطابية
وهي النزعة التي تسود معظم الدراسات التي يقوم بها الباحثون الذين ينتسبون إلى نفس الحضارة، وهو الخطأ المضاد للنعرة العلمية السائدة في معظم دراسات المستشرقين. وبالرغم من أن النزعة الخطابية تعطي الأولوية للوحي على التاريخ، إلا أن الاتجاه اتجاه ساذج يعبر عن نوع من المراهقة الفكرية، حيث تسود العاطفة والانفعال، ويصدر الفكر مندفعا في حمية دون وضوح نظري؛ فهو ناتج عن أزمة أكثر من صدوره عن موقف فكري، أزمة الحق الضائع، والعجز العقلي، والتخلف الجماهيري، ويأخذ في الأحيان موقف المدافع والمقرظ لما يقول ولما يعبر عنه. قد يكون ذلك موقفا طبيعيا بالنسبة لمواقف الهجوم التي يتخذها إما بعض المستشرقين أو بعض الباحثين الإسلاميين التابعين لهم، ولكنه هجوم مؤقت انفعالي لا يرد على الحجة بالحجة، ومما يساعد النعرة الخطابية على الظهور هو نوع من الشهرة الإعلامية التي يتشوق إليها الباحث الذي في الغالب ما يكون مدعيا للتجديد أو متملقا لعواطف الجمهور رغبة في الانتصار الديني لدرجة أنه ينقلب أحيانا إلى نوع من الاستهلاك المحلي الصرف، خاصة إذا احتاجته السلطات السياسية لتعمية الموقف السياسي وملء الفراغ بالعواطف الدينية. النعرة الخطابية إذن نقص في الجدية بل ونقص في الوعي الإدراكي للمشاكل، يساعد على ذلك نقص في التكوين النظري للباحث فهو يعبر عن المستوى الثقافي الحالي من تطور الحضارة، ولكنه متخلف عن المستوى الثقافي للتراث القديم الذي استطاع دفع المشاكل وإيجاد حلول عقلانية لها، وقد بلغ التعقيل في تراثنا القديم درجة أن التراث كله أصبح نظرية في العقل.
وتظهر النعرة الخطابية في عدة مناهج، هي في الحقيقة تنويعات مختلفة على الخطابة دون أن تكون مناهج محكمة ذات أصول وقواعد وأهمها: التكرار أو تحصيل الحاصل، والتقريظ أو الدفاع، والجدال والمهاترات، والرؤية الحدسية قصيرة المدى. (أ)
التكرار أو تحصيل الحاصل: إن كان الصعب تسمية هذه الخاصية منهجا فإنها على الأقل تسود كثيرا من الدراسات وتغلب على عقلية كثير من الباحثين، وهي تكرار مضمون النصوص المدروسة دون الإدلاء بأي فهم أو تفسير لها، أي أنها تنقل بصورة أخرى مسهبة أو موجزة الموضوعات التقليدية كما هي معروضة في التراث القديم وكما تفعل الشروح القديمة التي لا تتعدى حدود الألفاظ والمصطلحات القديمة وتفسير الماء بالماء، فالعبارة هي نفسها العبارة مكررة في صور عديدة تفقدها تركيزها بل ومضمونها؛ إذ تحمل الفكرة الحواشي والشروح أكثر مما تستطيع لدرجة أنها تفقدها استقلالها ودلالتها. وغالبا ما يكون المنهج التاريخي وتحصيل الحاصل نفس المنهج؛ فالذي يقرر الوقائع التاريخية لم يفعل إلا أنه كرر ما هو معروف، ولكن المنهج التاريخي يستعمله المستشرق والتكرار يقوم به الباحث الذي ينتسب إلى نفس الحضارة. وكثيرا ما يعتمد التكرار على اقتباس النصوص ووضعها في صلب البحث حتى يتضخم، وغالبا ما تذكر المراجع ويضع الباحث المادة القديمة دون ذكر لمصادره، ويتعيش المعاصرون على السابقين، ويأكل الخلف على موائد السلف، ويتسطح الفكر ويمتط. لقد حدث هذا في عصر الموسوعات والشروح والملخصات خشية على التراث من الضياع تحت تأثير هجمات التتار والمغول. حفظ التراث ودون في موسوعات عامة كما يحدث في كل تراث، وكما حدث في التراث اليهودي في القرن السادس قبل الميلاد أثناء الأسر البابلي، ولكننا الآن، والحمد لله، لا نواجه هذا الخطر، فالتراث محفوظ ومدون بل ومنشور منه قسط كبير، ولكننا نواجه الخطر الآخر وهو خطر التكرار بلا فهم، والترديد بلا وعي، وعدم وجود تفسير معاصر لتراث قديم.
وإذا كان بعض التكرار موجودا في المؤلفات القديمة في علم أصول الدين وعلم أصول الفقه خاصة، بل وفي علوم الحكمة أيضا، إلا أن كل مؤلف يحاول بناء العلم من الأساس؛ لذلك يبدأ من الألف إلى الياء ثم يضيف جزءا في بناء العلم، فعلم أصول الدين المتأخر مثلا يأخذ طابعا نظريا خالصا، ويتحول التوحيد فيه إلى نظرية في العلم ونظرية في الوجود بخلاف علم أصول الدين المتقدم الذي تسوده خلافات الفرق والمشاكل الجزئية، والتصوف المتأخر عند ابن سبعين إضافة أساسية على التجارب الصوفية المبكرة، وفي أصول الفقه المتأخر عند الشاطبي إضافات أساسية بتحليل المقاصد، مقاصد الشارع ومقاصد المكلف على الأفكار الأصولية الأولى عند الشافعي أو الدبوسي أو السرخسي، أما تكرار المعاصرين فإنه لا يضيف شيئا ولا يفعل أكثر من نسخ القديم مع أن هناك أجزاء كثيرة من العلم لم تبن بعد مثل «الإنسان» في علم التوحيد وفي الفلسفة، ووصف عملية السلوك وتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم في أصول الفقه،
22
ومسار التاريخ وتحويل البعد الرأسي إلى بعد أفقي في التصوف، التكرار في التراث القديم لم يكن تكرارا خالصا محايدا، بل كان مقارنات ونقدا وأحكاما، فمتأخرو الأشاعرة ينقدون أوائلهم كما يفعل الرازي مع الأشعري، ومتأخرو الفلاسفة ينقدون متقدميهم كما يفعل ابن رشد مع الفارابي وابن سينا، ومتأخرو الصوفية ينقدون أسلافهم كما فعل السهروردي مع الحلاج والغزالي، فالتكرار هنا هو تفسير كل عصر للعلم وإعادة بناء العلم طبقا لحاجات العصر ومتطلباته، وهو ما يحاول «التراث والتجديد» القيام به بالنسبة إلى العلوم العقلية التقليدية القديمة.
والتكرار هو سبب الأزمة الواقعة في الفلسفة الإسلامية عند المشتغلين بها، فماذا يقول الباحث بعد شرح نظريات الفلاسفة؟ وإذا كان الفلاسفة أنفسهم يعيدون شرح نظريات أخرى، أو هكذا يبدون، فيتحول التدريس إذن إلى شرح على شرح، ويقع الفكر في شروح على متون ثم يضيع الفكر، وتشتد الأزمة عندما ينتهي الشرح، ثم يتساءل السامع: ولكن ما صلة هذا كله بالفلسفة الإسلامية خاصة إذا كان على دراسة بالفلسفة اليونانية والحديثة والمعاصرة، حيث يرى السامع فيها المشاكل المعروضة والحلول المقترحة على مستوى إنساني وبلغة العقل؟ تلك إذن هي مهمة الباحث المعاصر في أخذ المواقف بالنسبة للقديم وعرض ما قاله القدماء على حاجات العصر ومتطلباته، يمكن للباحث المعاصر أن يبين كيف نشأ القديم، ولماذا ظهر على هذا النحو ثم يعيد البناء من جديد وتستأنف عملية التكوين من جديد. لقد نشأ التكرار من فقدان الهدف عند الباحث، فالباحث لم يحدد له هدفا من قبل، عن أي شيء يبحث حتى يجد أو لا يجد، ولم يحركه حدس مسبق، ولم تدفعه غاية معينة، ينشأ التكرار من أن الباحث يتحول إلى مجرد موظف وليس صاحب رسالة، وينقلب إلى صاحب مهمة وليس صاحب دعوة ، قد يكون هناك تكرار للحدس ولرؤية الكاتب، وفي هذه الحالة لا يكون التكرار مجرد تحصيل حاصل بل يكون تعبيرا عن الحدس بعديد من الصور وببراهين مختلفة، فالكاتب الهادف ليس له في الحقيقة إلا حدس واحد يعبر عنه بطرق شتى؛ وذلك لأن الحدس هو رؤية للواقع، ومن ثم فالواقع ذاته لا بد أن ينكشف على مستويات عدة وفي جوانب مختلفة، وغالبا ما يكون للكاتب حدس واحد يأخذ صورا عدة، وتطبيقات مختلفة، ويعبر عنه بلغات عدة، ولكن ذلك ليس تكرارا بل بيان وحدة الحدس بالرغم من اختلاف المواضع. (ب)
التقريظ أو الدفاع: وتظهر النزعة الخطابية أيضا كتقريظ للتراث أو لمصدره ثم الدفاع عنه والدعوة له، والدفاع في الحقيقة خلط بين التبرير والتفكير، فهو يقبل موضوعه ثم يبرره ويدافع عنه دون أن يضعه موضوع التساؤل ودون أن يحاول معرفة أي بناء نظري له أو أي أسس عقلية يقوم عليها، وقد يقوم التقريظ على الدفاع عن التراث كله، بكل ما فيه وعن التاريخ كله دون تمحيص سابق لما يمكن إرجاعه منه إلى المصادر الأولى في الوحي، ولما يمكن إرجاعه إلى التاريخ المحض، قد يكون التقريظ قائما أيضا على أسس خاطئة في الفهم أو مناهج خاطئة في التفسير خلفها التاريخ وراءه واقتضت الظروف استعمالها.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلا في التوحيد ندافع عن التنزيه دون أن نتحقق من سوء فهم التنزيه عندما يتحول إلى وظيفة نفسية تساعد على الدفاع عن السلطة، وندافع عن إثبات الصفات دون أن نحاول معرفة سوء استخدام ذلك الإثبات في ضياع استقلال قوانين الطبيعة وحرية الإنسان، وندافع عن الكسب دون أن نفهم ماذا يعني ولكن من أجل إثبات حق الله كما هو الحال في التراث القديم، وفي الفلسفة ندافع عن الخلق ونهاجم الفيض والقدم دون أن نحلل ما ينتج عن الخلق أحيانا من آثار على السلوك إما في النفاق أو التستر أو الانحلال، وندافع عن الإلهيات وكأنها هي الصياغة الوحيدة للتوحيد، وندافع عن خلود النفس وانفصالها عن البدن وكأن هذا الخلود التطهري الفردي هو الوسيلة الوحيدة لإثبات البقاء والاستمرار، وفي التصوف ندافع عن الإلهام والكشف والكرامة والولاية ونعلي من شأن الرضا والتوكل والخشية والخوف والحزن والبكاء، ولا نتحقق من خطورة هذه القيم السلبية في سلوك الناس وعلى عقولهم وعلى حريتهم، وندافع عن الفقه القديم وكأن الوقائع وحياة الناس يمكن صياغتها بالنصوص.
والدفاع هو غياب لكل وجهة نظر نقدية للموروث، وتقبل لكل الماضي بلا نقد أو تمحيص، الدفاع هدم للعقل، وضياع للواقع، وسيادة للانفعال، الدفاع هو إعلان بالعاطفة لما يجب أن يقوم العقل بتحليله، واستمرار في التخلف النفسي، وتعويض ذلك بالحماس وتملق مشاعر الجماهير، الدفاع رفض للعقل، ينشأ عن جهل أو تعصب، يتبارى المدافعون كما يتبارى المحامون، الدفاع إثبات للهوية وللذات عن طريق إقامة معركة في الهواء وتعويض نفسي عن هزائم القوم وتخلف الباحثين واستسهال الأمور وطلب المراكز، تستخدمه السلطة السياسية لتغطية الواقع ومآسيه، فإذا كان الحاضر قد ضاع فعلى الأقل لنا عزاء في الماضي، وعادة ما يكون الدفاع هو دفاع عن النفس، ودفاع عن المنصب، ورغبة في الشهرة، ودخول في المزايدة، فأشد المدافعين حمية هو الذي يحصل على الغنيمة، ومن ثم ينقلب الفكر إلى تجارة، والأمانة إلى خيانة، وكثيرا ما يكون الدفاع عن نفاق لا عن إيمان واقتناع، ما دام الأمر كله تسابقا على الإعلان عن الذات وجريا وراء المغانم، يخدم الدفاع أغراض الرضا عن النفس، فالدفاع تبرئة للذمة، وتغطية للواقع، إذ يسير الواقع في تياره ونظمه بعيدا عن الوحي، ويأتي الدفاع ليحول الدين إلى ستار للواقع، وكلما ازداد الدفاع سمك الستار، الدفاع عن الدين في الحقيقة ليس فيه إثبات للدين، بل فيه تغطية على واقع لا ديني، والدفاع عن الإيمان تغطية لشعور لا إيمان فيه.
وقد نشأ الدفاع في وجداننا المعاصر كحيلة العاجز الذي لا يقدر على البرهنة عقلا ولا على إثبات واقعا، كما أنه لا يقدر على وضع هدف أمامه ثم التخطيط من أجل تحقيقه، ويظن أن الدفاع عن الشعار هو تحقيق له حتى لقد تحول فكرنا المعاصر إلى مجرد أبواق تدافع دون أن تدري عن أي شيء تدافع، وكأن الدفاع يصبح ذاتا وموضوعا في آن واحد، لقد كان الدفاع في تراثنا القديم من مواطن قوة، واستطاع أن يبرهن وأن يحاجج وأن يستدل، وانتهى الدفاع إلى إثبات حقائق الوحي على أسس عقلية كما انتهى إلى استقرار الوحي كثقافة وكحضارة، وعلم أصول الدين كله قد قام بمنهج الدفاع فتأسس العلم واكتمل بناؤه، وظهر العقل والبرهان كمحك للنظر.
ولا يعني عدم الدفاع غياب الهدف والمحايدة أمام الموضوعات، وبرودة الفكر، والتعامل مع جمادات، ولكن فرق بين الدفاع عن الهدف وتحقيق الهدف، فأكبر دفاع يمكن أن يقام لفكرة هو تحقيقها في العقل بالبرهان أو في الواقع بالفعل، بل إن الدفاع عن الهدف لا يحق هدفا بالمرة إذ يكتفي بالفكر بكونه عواطف وجدانية تتطاير فوق الواقع وتحجبه، ويظل الواقع ذاته أسير أبنيته الخاصة محجوبا عن أثر الفكر، فالدفاع حماية الواقع من كل توجيه للفكر، إن الإحساس بالرسالة هو الذي يجعل الباحث هادفا ملتزما مع القدرة على تحقيقها بالفعل ومن ثم تتحول الذات إلى موضوع، ويتم التوحيد بين الذاتية والموضوعية، وبين العقل والوجدان، وبين الحدس والبرهان. (ج)
الجدل والمهاترات: يؤدي الدفاع والتقريظ إلى الجدل والمهاترات ذلك لأن التقريظ والدفاع يؤديان إلى المقارنة ثم إلى الهجوم إما بين الباحثين أنفسهم أو بينهم وبين باحثين آخرين من حضارة أخرى، فإن كان في التقريظ والدفاع بقايا من وجود فكري للموضوع، فإن هذه البقايا تمحى كلية في الجدل والمهاترات، فالجدل لا يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، بل يهدف إلى الانتصار على الخصم، وبدل أن تتوحد جهود الباحثين في عمل مشترك تتعارض وتتنافر ويلغي بعضها البعض أو ينتصر واحد على حساب هزائم الآخرين، المجادل لا يفكر، بل يريد هزيمة الآخر حتى ولو كان على حساب موضوعه ومنطقه ومواقفه الفكرية، ولا يرى غضاضة في البدء بالأفكار المسبقة وفي استعمال المغالطات، والتسليم بمقدمات الخصم وهو لا يؤمن بها، فالمجادل لا يفكر ولا يحايد، بل يعارك ويحارب، وهنا أيضا يضيع العقل، وتسود العاطفة والانفعال، ونكون أمام الفن الأدبي القديم، فن المناقضات الأدبية ، ولسنا أمام فكر موضوعي، ويتحول الباحثون إلى شعراء لا يقرضون شعرا.
والأمثلة على ذلك كثيرة، يثار بيننا الجدل عن الحكومة الدينية، خلافة أم علمانية، وتتصارع الأهواء، وتتضارب الغايات دون أن يحاول أحد تحليل الواقع الذي يمكنه أن يبدد كل هذا الجدل، فالواقع لا يوصف بما هو أقل منه، كما أن له بناءه المثالي في الوحي، والوحي ليس دينا بل هو البناء المثالي للعالم، ويثار جدل آخر حول الفلسفة الإسلامية يونانية أم إسلامية، تابعة أم أصلية، وتتضارب الأهواء وتتبارز الأقلام، ولا يحاول أحد وصف العمليات الحضارية الناشئة من التقاء حضارتين، وهي عمليات واقعة بالفعل ترفض أن يلصق عليها أي وصف خارجي، ويثار جدل ثالث، وما زال يثار بين شيعة وسنة حول الإمامة والتوحيد وأي الأئمة كان أحق بالإمامة منذ أربعة عشر قرنا مضت، وهل الإله مجسم أم منزه، ولا يحاول أحد أخذ الواقع ذاته والاحتكام إليه، إن حال الناس اليوم في إيران أو مصر لا يختلف فكلاهما يعاني من التسلط والبؤس والتخلف، ولا يحاول تفسير نشأة الأفكار الدينية بالرجوع إلى الظروف النفسية والاجتماعية التي سببتها، وربما يكون التوحيد لا هذا ولا ذاك، ويثار جدل رابع حول التصوف من أي مصدر هو خارجي من فارس أو الهند أو اليونان أو الرومان أو داخلي من الكتاب والسنة وحياة الرسول والصحابة والتابعين، ولا يحاول أحد الرجوع إلى الواقع الذي نشأ فيه التصوف وكيف أنه كان رد فعل على حركة البذخ الترف، ومقاومة سلبية فردية انعزالية لقلب القيم، ويثار جدل خامس عن حياة الناس أتخضع لقانون ديني أم قانون مدني، وكأن حياة الناس ذاتها ليس لها الأولوية على كل قانون.
والجدل والمهاترات ينشآن من إحساس رهيب بذاتية كل كاتب تصل إلى درجة المرض، فهو يدافع عن ذاته وعلمه ومذهبه وصدارته من خلال القضايا، والغاية هي الذات وليست القضية، خاصة في مجتمع لم يتعود على العمل الجماعي، وعلى النظرة الموضوعية، وعلى الفصل بين الوقائع وبين القائلين بها ، الجدل هو انفصال الماضي والحاضر على السواء، فالموروث لم يقم على جدل ومهاترات بل على تحليل وبرهان، والواقع لا يصاغ بالجدل وبالآراء بل بتحليل المعطيات والمكونات، الجدل بين الكتاب نوع من المراهقة المتأخرة وضجة بلا أساس، وفرقعة بلا سلاح، ومعركة بلا ميدان، هذا بالإضافة إلى أن الجدل يمكنه إثبات الشيء ونقيضه ما دام الأمر يتوقف على البراعة، فقد يثبت الجدل أفضلية التوحيد على التثليث كما قد يثبت أفضلية التثليث على التوحيد بنفس البراعة، وقد تبارى علماء الجدل القدماء في ذلك، فالجدل مهارة وليس معرفة، وهو فن لا علم، هو ظن لا يقين، والعجيب أن التراث القديم ذاته قد أدان الجدل بوضعه داخل منطق الظن وخارج منطق البرهان، والجدل مع السفسطة والخطابة والشعر على نفس المستوى، ولكننا لم نع درس التراث وتجادلنا بيننا من أجل إثبات ذواتنا الضائعة، ومن أجل افتعال معارك، والمعركة الحقيقية في طي النسيان، الجدل مثل التحزب للأندية الرياضية في غياب تصريف الطاقات الطبيعية للناس، فيتجادلون إعلانا عن نفوسهم الضائعة ووجودهم المنسي، ورغبة في إلحاق الهزيمة بعدو مفتعل، والحصول على النصر بأجر زهيد، كلمات معدودات.
ولا يعني نقد الجدل والمهاترات غياب المعارك الفكرية من واقعنا الثقافي، فالجدل شيء والتنوير شيء آخر، فصراع الآراء حول الواقع، وتضارب التحليلات حول الموضوعات جزء من عملية التنوير ولكنها خالية من الانفعال والذاتية، يمكن للجدل أن يكون منهجا سليما للحوار المفتوح، وتبادل الآراء، وعرض وجهات النظر المختلفة، والتعلم المشترك، فقد نشأ علم أصول الدين كله على هذا النحو بالجدل بين الأفكار، ولكن ليس الجدل العقيم بل الجدل الخصب الذي يدل على حيوية الفكر والقدرة على أخذ المواقف، كما نشأ عند الصوفية الجدل بين العواطف والانفعالات جدل بناء وليس جدلا هداما، وفي أصول الفقه ظهر جدل بين الفقهاء يدل على جدل آخر بين النص والواقع، وهو جدل منطقي سلوكي من أجل توجيه الوحي لحياة الناس، فالجدل ليس مدانا بذاته بل هو مدان إذا تحول إلى مهاترات وسفسطة، في حين أنه يمكن أن يكون دليلا على الحوار وعلى خصوبة الفكر. (د)
الحدس قصير المدى : إذا كان بالإمكان تسمية النزعة الخطابية منهجا فذلك لأنها استطاعت أن تتحول إلى منهج في الدراسة قائم على الحدس قصير المدى في الاتجاهات التجديدية الحالية، ويقصد بالحدس قصير المدى ما يلاحظه بعض الباحثين من حقائق في التراث توصف ابتداء من نشأتها من الوحي، هو حدس لأنه قائم على إدراك مباشر لبعض حقائق في التراث وهو قصير المدى؛ لأنه لم يتعد نظرات متفرقة هنا وهناك دون أن تتجمع في بناء نظري كامل يمكن أن يكون نموذجا لوصف الظواهر الفكرية أو منطقا لتفسير الوحي؛ ولذلك ظل محدودا، سواء في تكوينه النظري أو في تطبيقه في الواقع، وهو أيضا حدس جزئي استطاع أن يصور جانبا في التراث بصدق ولكنه لم يتجاوز هذا الجانب إلى أن يعطي صورة عن التراث ككل.
والأمثلة على ذلك كثيرة من داخل حركات التجديد المعاصرة التي أعطت حدوسا لم تطورها في دراساتنا على التراث القديم، فالتوحيد كما يصوره الأفغاني وإقبال مثلا ليس علم الكلام الموروث من نظرية في الذات والصفات والأفعال، بل هو حياة وحركة وقوة على الأرض، وحياة في الشعور، وتحرير للإنسان، وتأسيس للمجتمع الواحد ذي الطبقة الواحدة، وتوحيد للشعور بين القول والعمل والوجدان والفكر، وتوحيد للبشر بلا لون أو دين أو جنس أو لغة أو منطقة، والتوحيد كما يصوره الشهيد سيد قطب تحرر الوجدان الإنساني من كل القيود وتأسيس لمجتمع العدل والإخاء، والتوحيد عند الكواكبي هو أيضا إثبات لحرية الإنسان ومقاومة لقوى الاستعباد والاستبداد والظلم والطغيان، وهنا يتحول تنزيه الله إلى حرية الإنسان، ونحن الآن نتحدث في التوحيد دون الحرية، كما أعطى رشيد رضا تفسيرا اجتماعيا للقرآن موجها النصوص ضد أبنية الواقع المخلخلة من أجل التغيير، تغيير هذا الواقع المخلخل إلى واقع مثالي راسخ، ولكن لم يسر أحد بعد ذلك في هذا التفسير الموجه، واستعمال النصوص استعمالا وظيفيا خالصا، وما زلنا نفسر النصوص تفسيرا نظريا خالصا،
23
كما ظهر لدى الأفغاني وعثمان دنقة والشهيد سيد قطب وحدة النظر والعمل وأن الفكرة الإسلامية ليست نظرية بل هي ممكنة التحقيق وواقع يتحرك، ثم رجعنا عن ذلك إلى الدراسات التي تظهر فيها الأفكار مجرد آراء لا تتعدى ما بين السطور.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة على حدوس في تراثنا القديم نكررها بعد أن ظهرت دقائقها في التراث دون تطويرها وإحيائها وتوجيه الواقع بها، فقد ظهر أن العقل هو أساس النقل وأن كل ما عارض العقل فإنه يعارض النقل، وكل ما وافق العقل فإنه يوافق النقل، ظهر ذلك لدى المعتزلة وعند الفلاسفة، وظهرت لغة التخييل في الوحي ومنطق البرهان في الفكر، ولكننا لم نسر في هذه الرؤية، ورجعنا إلى التشبيه والتجسيم والتقليد، وجعلنا النقل أساس العقل، وآمنا بالوقائع الحسية المادية وراء التصوير الفني، واعتمدنا على سلطة الكتاب في البرهان، وظهر الواقع في علم الأصول، ورأينا المصالح المرسلة والاجتهاد، وأن «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن»، وأن الواقع له الأولوية على كل نص في «لا ضرر ولا ضرار»، ولكننا لم نسر في هذا الحدس، ورجعنا إلى النص الأول نعطي له الأولوية على الواقع، احتمينا بالنصوص فجاء اللصوص،
24
وظهرت الشورى في شروحنا على نظم الحكم وحرية الإنسان في مجتمع حر، ولكننا أسقطنا الرؤية بل وبدلناها إلى الإعلان عن مخاطر الحرية لمن يسيء استغلالها وعن مآسي الشورى في مجتمع لم يتعود على حكم نفسه بنفسه، وقلبنا الباطل حقا والحق باطلا، كأننا ندعو الطاغية للظهور، ونسلم له الرقاب.
وقد كان الحدس قصير المدى لضعف في التكوين الثقافي لصاحب الحدس، فلو أنه استمر فيه وطوره، وبرهن عليه، وأعطى له تطبيقات أكثر، وأدخله ضمن العلوم الإنسانية لقدر له البقاء والاستمرار، ولتحول إلى نظرية عامة بل وإلى أساس نظري لسلوك الناس، وربما أيضا غاب النفس الطويل عن الكاتب، وأسرع في التعبير عن حدسه ولم يصبر حتى يتحول إلى بناء نظري عام في مجتمع يريد الشهرة ويفرح بالأبطال الذين يلوحون بالفكر، وكيف يسقط الزمان من الحساب وهو الحامل للاختمار؟ وقد يكون السبب أيضا عدم تكوين مدرسة فكرية تتبنى الحدس الأول وتطوره حتى يمكن أن يظهر من خلالها مفكرون يحولون الحدس إلى تيار فلسفي وبالتالي إلى حركة في الواقع وإلى مسار تاريخي، وربما لأن صاحب الحدس ما زال فردا، وما زال يسري عليه ما يسري على الآخرين من اعتزاز بالشخص وبالعبقرية الفردية لنقص في المعرفة بدور المفكر في التاريخ، وبطريقة سري الأفكار وتحقيقها وانتشارها، وربما لعدم إنشاء حزب يكون مهدا للفكر، ومحققا للحدس في التاريخ يتربى من خلاله الناس، وينشأ فيه المفكرون والكتاب، وربما لتخوف المفكرين وتنصل الكتاب من تبعة المسئولية، فتطوير الحدوس يلزم المفكر بالواقع وهو لا يريد إلا أن يكون عارض نظريات؛ لذلك يؤثر المفكرون السلامة وحسن العاقبة.
وكما أن دراسات المستشرقين ليست «دراسات موضوعات» بل «موضوعات دراسة»، فكذلك دراسات الباحثين المعاصرين الذين ينتسبون إلى نفس الحضارة ليست دراسات لموضوعات بل موضوعات لدراسة، وكما أن دراسات المستشرقين تكشف عن التكوين الثقافي والنفسي للباحث أكثر مما تكشف عن واقع مدروس فكذلك دراسات الباحثين المسلمين تكشف عن ثقافتهم وتكوينهم وواقعهم النفسي والاجتماعي أكثر مما تكشف عن واقع مدروس، وكما أننا لم نستعمل دراسات المستشرقين كمصادر للتراث والتجديد لأنها تحتاج إلى فحص سابق، والجهد المبذول في ذلك أكثر بكثير من النتائج المرجو الحصول عليها، فكذلك لم تستعمل دراسات الباحثين المسلمين لأن الجهد المبذول في إعادة تحقيقها أكبر بكثير من النتائج المرجوة منها؛ وذلك لأنها تكرار وترديد أو مسخ وتشويه للقديم، ولأننا نريد إعادة بناء القديم الخام وتطويره دون المرور بالدراسات الثانوية، والأسهل مضغ اللقمة مباشرة ثم ابتلاعها بدلا من ابتلاع لقمة من مضغ الغير، ومع ذلك فالدراسات الثانوية يمكن أخذها كمؤشر على عقليتنا المعاصرة وكنموذج لما وصلت إليه دراساتنا حول التراث، فهي تكشف عن واقعنا أكثر مما تكشف عن القديم.
وإذا كان خطأ النعرة العلمية أنها تعرف «كيف تقول» دون أن تعرف «ماذا تقول»، «فإن خطأ النزعة الخطابية» أنها تعرف «ماذا تقول» دون أن تعرف «كيف تقول»، والتراث والتجديد محاولة لتفادي الخطأين معا؛ إذ يحاول أن يعرف «ماذا يقول» وهو التراث، و «كيف يقول» وهو التجديد.
رابعا: طرق التجديد
يحدث التجديد بعدة طرق، بعضها خاص باللغة، والبعض الآخر خاص بالمعاني والبعض الثالث خاص بالأشياء ذاتها طبقا لأبعاد الفكر الثلاث: اللفظ، والمعنى، والشيء. (1) منطق التجديد اللغوي
إن اكتشاف لغة جديدة هو اكتشاف للعلم، وطالما تأسس العلم بتأسيس لغته أولا، بل إن تطور العلوم وانفراج أزمتها يحدث باكتشاف اللفظ أو المفهوم، ومن ثم يصبح التجديد عن طريق اللغة هو بداية العلم الجديد.
واللغة وسيلة للتعبير، ويمكن لفكرة صحيحة أن يعبر عنها بلغة غير محكمة ثم تضيع الفكرة، كما يمكن لفكرة غير صحيحة أن يعبر عنها بلغة محكمة فتثبت الفكرة وتنتشر ويعتنقها الناس؛ ومن ثم كانت أهمية اللغة كوسيلة للتعبير والإيصال. وقد فرض كل فكر جديد لغته، وبدأت كل حركة جديدة بتجديد اللغة أولا، إذ يحدث أحيانا عندما تطور الحضارة وتمتد وتتسع معانيها أن تضيق بلغتها القديمة الخاصة التي لم تعد قادرة على إيصال أكبر قدر ممكن من المعاني لأكبر عدد ممكن من الناس، فتنشأ حركة تجديد لغوية، وتسقط فيها الحضارة لغتها القديمة الخاصة وتضع لغة جديدة أكثر قدرة على التعبير.
1
إن العلوم الأساسية في تراثنا القديم ما زالت تعبر عن نفسها بالألفاظ والمصطلحات التقليدية التي نشأت بها هذه العلوم، والتي تقضي في الوقت نفسه على مضمونها ودلالتها المستقلة، والتي تمنع أيضا إعادة فهمها وتطويرها، يسيطر على هذه اللغة القديمة الألفاظ والمصطلحات الدينية مثل: الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب، كما هو الحال في علم أصول الدين، أو القانونية مثل: الحلال، الحرام، الواجب، المكروه، كما هو الحال في علم أصول الفقه، أو التاريخية الملتصقة ببيئة ثقافية معينة مثل: الجوهر، العرض، الممكن، الواجب، الضروري، الحادث، العقل الفعال، العقل المنفعل كما هو الحال في الفلسفة، أو الرضا، التوكل، والورع، الصبر، الخشية، الخوف، الحزن، البكاء كما هو الحال في التصوف. هذه اللغة لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقا لمتطلبات العصر نظرا لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي نريد التخلص منها، ومهما أعطيناها معاني جديدة فإنها لا تؤدي غرضها لسيادة المعنى العرفي الشائع على المعنى الاصطلاحي الجديد، ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن الأداء بمهمتيها في التعبير والإيصال.
ولا يتم التجديد بطريقة آلية، بإسقاط لفظ ووضع أي لفظ آخر محله، مرادفا أو شبيها، بل بطريقة تلقائية صرفة يرجع فيها الشعور من اللفظ التقليدي إلى المعنى الأصلي الذي يفيده ثم يحاول التعبير من جديد عن هذا المعنى الأصلي بلفظ ينشأ من اللغة المتداولة كما كان اللفظ التقليدي متداولا شائعا في العصر القديم. وهذه عملية طبيعية تحدث في أوقات تجديد الحضارات ومرورها بمراحل جديدة في تطورها؛ إذ يقبض الشعور على المعاني الأولية وهي جوهر الحضارة، ويخشى عليها من الضياع والجرف إبان التغير اللغوي، ثم يعبر عن هذه المعاني بلغة من واقعه الذي يعيش فيه؛ فالمعاني هي معان التراث، واللغة لغة التجديد. إن تجديد اللغة ليس عملا إداريا يتم والباحث على مكتبه يغير اللغة التقليدية كيف يشاء، بل هو عمل تلقائي يتم في شعور الباحث الذي يجد نفسه غير قادر على التعبير عن المعاني الكامنة في اللغة التقليدية نظرا لثقافته الحديثة ولبيئته الثقافية الجديدة؛ وعلى هذا يتم التجديد اللغوي وكأن اللغة تنشأ من جديد، ولكنها تكون لغة ثانية لها طراز في اللغة التقليدية؛ ولذلك أمكن تسمية هذا التغيير تجديدا لغويا باعتبار النشأة الأولى التي تمت في المرحلة التقليدية، وذلك لأن المعاني الكامنة والتي لا يتم التعبير عنها بسهولة في اللغة التقليدية قد تأتي لحظة إما تتفجر فيها، وتصبح ثورة فكرية بلا قيود لغوية وبلا استمرار حضاري، أو تلفظ كلية وتصبح انقطاعا وتحولا عن التراث التقليدي كله. إن اللغة الجديدة من شأنها السماح لهذه المعاني بالتعبير، وتكشف عن أشياء كانت خافية في بطن اللغة التقليدية، والتجديد اللغوي لا يتلخص فقط من ركود اللغة التقليدية وقصورها في التعبير عن المعاني، ولكنه يتخلص أيضا من بعض القلق وعدم الوضوح في الاستعمال لبعض ألفاظ اللغة الجديدة؛ فألفاظ الشعور، والزمان والفعل والقصد كلها ألفاظ عائمة لا تفيد معنى محددا، بل تفيد عدة معان وربما متعارضة بل ومتضادة، فنظرا للمذاهب الفكرية التي نشأت فيها هذه اللغة وبيئاتها الثقافية، ونظرا لأن المعاني الكامنة في اللغة التقليدية لها من الاستقرار والأصالة، لأنها خارجة من الوحي، مما يؤهلها لتكون عاملا للاستقرار اللغوي للغة الجديدة؛ فإن التجديد اللغوي يصبح ضرورة طبيعية تستبدل فيها اللغة القديمة بلغة جديدة من أجل التعبير عن المعاني المتجددة طبقا لمقتضيات الواقع.
ولما كانت اللغة صورة الفكر فإن التجديد اللغوي ليس تغييرا لمضمون الفكر بل تجديد لصورته وهي اللغة، اللفظ ليس إلا حاملا للمعنى وموصلا له، ولكن المعنى مستقل عن اللفظ، وقد كان الإحساس في تراثنا القديم باستقلال المعاني عن الألفاظ إحساسا قويا، ولا يوجد متكلم أو فيلسوف أو فقيه أو صوفي إلا ونبه على أنه لا مشاحة في الألفاظ، وأن صلة المعنى باللفظ كصلة النفس بالبدن أي صلة تميز واستقلال.
2
ومع أن اللغة لا تمس مضمون الفكر إلا أن مجرد تجديد اللفظ وإعطاء فرصة للفكر كي يعبر عن نفسه بلفظ جديد يكشف عن مواطن في الفكر أخفاها اللفظ القديم. قد لا يكون المعنى المكتشف في الفكر موجودا بالفعل في الفكر القديم، بل قد يكون إسقاطا من الروح المعاصرة على اللفظ القديم؛ إذ لم تجده فيه أي قراءة جديدة لهذا اللفظ القديم، فلو حدث ذلك لكان أيضا شيئا طبيعيا، فاللغة كالحضارة متطورة، وبتطور الأفكار وتجددها تتطور الألفاظ وتتجدد. فالتجديد عن طريق اللغة ليس عملا شكليا بل هو عمل يمس المضمون في إعطائه أكبر قدر ممكن من القدرة على التعبير والكشف عن كل إمكانياته، والحقيقة أن اللغة تلعب دورا كبيرا في نشأة العلم وفي بنائه، بل إن مصطلحات العلوم هي التي تحدد بناءها؛ فألفاظ التواتر والآحاد، والعام والخاص، والأمر والنهي، والحلال والحرام هي التي حددت نشأة علم أصول الفقه، وهي ألفاظ عادية مستعارة من اللغة العادية وتعبر عن مضمون فكري وبناء نظري لعلم أصول الفقه. وكذلك ألفاظ الممكن والواجب والمستحيل أو الذات والصفات والأفعال، كلها ألفاظ مستعارة من اللغة تعبر عن مضمون آخر وبناء نظري آخر لعلم أصول الدين. وكل مصطلحات الصوفية؛ الحال والمقام ، الوجد والفقد، البعد والقرب، الغيبة والحضور، الصحو والسكر، الكشف والمشاهدة، الحلول والاتحاد كلها تعبر أيضا عن مضمون آخر وبناء وجداني آخر. والألفاظ المتعلقة بواجب الموجود، وممكن الوجود والمطلق والنسبي، والجزئي والكلي، والقديم والحادث، والجوهر والروض، والكيف والكم تحدد بناء نظريا آخر وهو الفلسفة. دور اللغة إذن في بناء العلم أو في إعادة بنائه دور أساسي وأولي، بل إنه يمكن القول بلا أدنى مبالغة إن العلم هو لغة وإن تأسيس العلم هو إنشاء اللغة. (1-1) قصور اللغة التقليدية
وتغير اللغة التقليدية لا يحدث حبا في التجديد أو تعالما من محدث، بل هو ضرورة لغوية وفكرية معا؛ وذلك لأن اللغة التقليدية تصل إلى مرحلة من تطور الحضارة لا تستطيع معها أن تؤدي وظيفتها في التعبير عن المراد أو في إيصاله إلى الآخرين، وذلك للفرق الزماني الشاسع بين اللغة التقليدية وبين الباحث الحديث والقارئ المعاصر، تبدو اللغة التقليدية وكأنها تسودها بعض العيوب التي تعوقها عن أداء وظيفتها في التعبير والإيصال، وهذه العيوب تظهر حاليا على أنها عيوب، مع أنها كانت قديما خصائص مميزة أدت دورها في التعبير والإيصال وأهمها: (1)
أنها لغة إلهية تدور الألفاظ فيها حول «الله»، ولو أنه يأخذ دلالات متعددة حسب كل علم فهو «الشارع» في علم أصول الفقه، وهو «الحكيم» في علم أصول الدين، وهو الموجود الأول في الفلسفة، وهو «الواحد» في التصوف، فلفظ «الله» يستعمله الجميع دون تحديد سابق لمعنى اللفظ إن كان له معنى مستقل أو لما يقصده المتكلم من استعماله له، بل إن لفظ «الله» يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات، وباعتباره معنى مطلقا يراد التعبير عنه بلفظ محدود وذلك لأنه: (أ)
يعبر عن اقتضاء أو مطلب، ولا يعبر عن معنى معين أي أنه صرخة وجودية أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة أو بتصور من العقل، هو رد فعل على حالة نفسية أو عن إحساس أكثر منه تعبيرا عن قصد أو إيصال لمعنى معين، فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضا عن فقد، يكون في الحس الشعبي هو الله، وكل ما نصبو إليه ولا نستطيع تحقيقه فهو أيضا في الشعور الجماهيري هو الله، وكلما حصلنا على تجربة جمالية قلنا: الله! الله! وكلما حفت بنا المصائب دعونا الله، وكلما أردنا ضمانا ويقينا حلفنا الآخر بالله وحلفنا له أيضا بالله، فالله لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، أي أنه تعبير أدبي أكثر منه وصفا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفا خبريا، وما زالت الإنسانية كلها تحاول البحث عن معنى للفظ «الله»، وكلما أمضت في البحث ازدادت الآراء تشعبا وتضاربا، فكل عصر يضع من روحه في اللفظ، ويعطي من بنائه للمعنى، وتتغير المعاني والأبنية بتغير العصور والمجتمعات، فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبد هو الحرية، وعند المظلوم هو العدل، وعند المحروم عاطفيا هو الحب وعند المكبوت هو الإشباع، أي أنه في معظم الحالات «صرخة المضطهدين»، والله في مجتمع يخرج من الخرافة هو العلم، وفي مجتمع آخر يخرج من التخلف هو التقدم، فإذا كان الله هو أعز ما لدينا وأغلى ما لدينا فهو الأرض، والتحرر، والتنمية، والعدل، وإذا كان الله هو ما يقيم أودنا وأساس وجودنا ويحفظنا فهو الخبز، والرزق، والقوت، والإرادة، والحرية، وإذا كان الله ما نلجأ إليه حين الضر، وما نستعيذ به من الشر، فهو القوة، والعتاد، والعدة، والاستعداد، كل إنسان وكل جماعة تسقط من احتياجاتها عليه، ويمكن التعرف على تاريخ احتياجات البشر بتتبع معاني لفظ «الله» على مختلف العصور.
3 (ب)
من المستحيل تعلق لفظ محدود بحروفه وتركيبه وتكوينه في الجملة ووضعه في الصياغة ودلالته على معنى معين من مؤلف معين لقارئ في عصر محدد ليدل على معنى مطلق غير محدود ولا يماثله أي تصور محسوس يند عن حدود اللغة والتركيب والصياغات ويشمل كل العصور والأوطان، وجود مطلق أزلي أبدي إلى آخر ما يقال دائما في تصور الله بعد سماع لفظ «الله»، من المستحيل منطقيا التعبير بالأكثر تحديدا عن الأقل تحديدا أو بالأقل وجودا على الأكثر وجودا، إنه ادعاء بشري ونقص في الأمانة أن يقول كاتب واحد إنه يعني بلفظ «الله» ما يريد إلا عن طريق التقريب، ولماذا استعملت الصور الذهنية إذن؟ ولماذا اختلفت من عصر إلى عصر، إذا كانت اللغة هي مجرد حامل للمعنى، والمعنى مستقل، فإنه يمكن التعبير عنه بأي لفظ آخر من أي عصر آخر ومن أي بيئة ثقافية أخرى، فلفظ «الله» لا يساوي معناه بأي حال، صحيح أن اللفظ ورد في الوحي ولكن الإشكال هو في فهم اللفظ في عصر معين لجماعة معينة من أجل الحصول على معنى حضاري للفظ، وما زال علماء أصول الدين يحاولون فهم مدلول اللفظ حتى الآن دون الوصول إلى مدلول واحد يتفق عليه الجميع، بل إن الوحي نفسه موجود في زمان ومكان معينين، وبالتالي فهو أيضا قد تحول في لحظة الإعلان إلى حضارة، أي إلى مفهوم بشري يختلف باختلاف البشر. (ج)
هناك استحالة في تحديد جامع مانع للفظ إذ إن التعريف بطبيعته قائم على التحديد، والمعنى المراد التعبير عنه والموجود المراد الإشارة إليه قائم على الإطلاق وليس على التحديد، والتحديد قائم على أساس قطع جزء من الواقع ثم تصويره والإشارة إليه عن طريق التصور، أما الإطلاق فلا يمكن تحديده على هذا النحو، ولما كان «الله» لا يمكن تصوره فكيف يمكن التعبير عنه بلغة قائمة على التصور؟ (د)
لما كان الوجود وجودا جزئيا خاصا يمكن الإشارة إليه والتحقق منه فإنه لا يمكن أن يكون مطابقا لوجود الله في التصور المقصود له كوجود عام، وإذا كان الله ليس وجودا ذهنيا فحسب، بل وجود واقعي أيضا فكيف يشار إليه وكيف يعبر عنه في اللغة؟ من الصعب إذن وجود ما صدق للفظ «الله» كما وضح أنه من الصعب وجود مفهوم له، ولا ينفع هنا أي دليل أنطولوجي لإثبات وجود الله لأن الانتقال من الذهن إلى الواقع هو خروج من القوة إلى الفعل يحتاج إلى تحقيق ونشاط وحركة وفاعلية لا يعطيها الدليل العقلي الذي لا يتجاوز مجرد الافتراض والتسليم جدلا، وكيف يوجد في الواقع من مجرد وجوده في الذهن، وهو في كلتا الحالتين وجود جزئي متعين؟ فالتصور محدود بالذهن لأن التصور ينال بالحد، والوجود متعين جزئي وهو على خلاف الافتراض. (ه)
ولا يمكن إيصال أي معنى بلفظ «الله»؛ لأن اللفظ حوى كثرة من المعاني لدرجة أنه يدل على معان متعارضة، فهو الأزلي، المطلق، الشامل، الكلي، وهو عند البعض الآخر الزمني، النسبي، الجزئي، المتحرك، المتغير، وهو عند فريق ثالث الدافع الحيوي، والاندفاع، والعاطفة، وعند فريق رابع التاريخ والصيرورة، فإذا استعمل البعض لفظ «الله» وهو يقصد معنى معينا فلربما فهم المستمع معنى آخر، والمعنيان كلاهما واردان في اللفظ، وكل من يجادل في الله، فإنه لا يزيد على إقامة حوار بين صم.
لقد ظهرت اللغة إلهية في أول انتشار الحضارة لتعبر عن الدين الجديد، فقد كان لفظ «الله» له مدلوله الشعوري المثالي في الشعور العربي القديم، ولكن ما إن بدأت الحضارة في التطور حتى بدأت اللغة الإلهية في التراجع وحلت محلها لغة عقلية خالصة كما اتضح ذلك في علم أصول الدين المتأخر، وكما وضح بصورة أوضح في علوم الحكمة. (2)
واللغة القديمة لغة دينية تسودها ألفاظ تشير إلى موضوعات دينية خالصة مثل: دين، ورسول معجزة، نبوة، وهي لغة عاجزة عن إيصال مضمونها للعصر الحاضر، فاللفظ التقليدي «دين» لا يؤدي وظيفته في الإيصال، فإذا كان لفظ «الله» يحتوي على تناقض داخلي في الإيصال بالإضافة إلى تضارب معانيه، وكلها قد تعارض المقصود منه، فإن لفظ «دين» وإن كان يمكن التعبير به عن المقصود منه، إلا أنه لا يمكن أداء وظيفته في الإيصال نظرا للمعاني العديدة التي التصقت به طول تاريخ استعماله، بل والتي تتعارض أحيانا مع المعنى الأصلي له الموجود في المعنى الاشتقاقي أو في المعنى الاصطلاحي الشرعي، وهو المعنى الأصلي القبلي الذي أتى به الوحي، فنظرا لهذه الشحنة من المعاني الغريبة عن اللفظ والملصقة به فإن اللفظ يفقد معناه الأصلي، بل ويفقد كل قدرته على إيصال أي معنى حتى ولو كان المعنى الأولي له لما يلتصق به من معاني مضادة، بل ويستحيل إعطاء أي معنى جديد له لأن هذا المعنى الجديد بمفرده لا يمكنه مقاومة تاريخ طويل من المعاني الوافدة عليه، ولفظ «دين» أصبح لفظا «منعرجا» ذا طرف واحد لا يوصل إلا معنى واحدا وهو الغالب أي أنه لا يوصل إلا أحد الجوانب في صورته المتطرفة، وهو الجانب الإلهي أو الخارق للعادة أو الأخرويات أو ما وراء الطبيعة، فكل دين بالضرورة يفيد هذا المعنى، وكل «مادة» للدين تكون من هذه العينة، كلها تشير إلى هذا الجانب الواحد، بل وأصبحت هذه المادة عينة مختارة ونموذجا لكل الأديان الممكنة دون أي تصنيف لنوعيات الأديان إلى دين تاريخ ودين وحي، دين ما وراء طبيعة ودين طبيعة، دين سر ودين علن، دين لا عقل ودين عقل، دين سلطة ودين فرد، دين خطيئة ودين براءة، دين طقس ودين تقوى، دين كهنوت ودين عالم، دين إله ودين إنسان ... إلخ، ودون أي مراعاة لتطور الدين في مراحله المختلفة، فنظرا لأن لفظ «دين» له استعمالات كثيرة، ويفيد معاني متناقضة فإنه أصبح يشير إلى ما لا يقصد به، فهو يشير إلى التاريخ أكثر مما يشير إلى الوحي، ويشير إلى التاريخ السياسي والاجتماعي للدول المعتنقة لهذا الدين أو إلى العلوم الدينية التي نشأت منه أو إلى المذاهب والتيارات الفكرية التي أسسها بعض المعتقدين به أو إلى مجموعة من العقائد التي نشأت من تصورات معينة في مرحلة محدودة من تطور الحضارة التي نشأ فيها هذا الدين، وهي كلها لا تفيد معنى الدين والمقصود منه في الوحي أو في عصرنا الحاضر طبقا لمتطلباتنا الحالية، لقد كانت اللغة الدينية ضرورة أولى في نشأة الحضارة، ولكن ما إن تقدمت الحضارة حتى بدأت اللغة الدينية تتراجع وتأتي محلها لغة عقلية خالصة كما هو الحال في علم أصول الدين المتأخر، ولما كان لفظ «دين» قاصرا عن أداء المعنى فإن لفظ «أيديولوجية» أقدر منه على التعبير عن الدين المعني وهو الإسلام، وإيصال معناه لأن الوحي مجموعة من الأفكار والتصورات تصدر منها أنظمة وشرائع خرجت من الواقع «بأسباب النزول» وتكيفت حسب الواقع «بالناسخ والمنسوخ» وهدفها تغيير الواقع إلى واقع أفضل منه، فالحاكمية لله تعني تحقيق الوحي كنظام اجتماعي وإنشاء الدولة التي تعبر عن الكيان السياسي للأمة، وذلك عن طريق المؤمنين وهم الحزب الطليعي، أو بمعنى معاصر هم الحزب «البروليتاري» الذي يقوم بتحقيق الأيديولوجية في التاريخ.
4
وكذلك لفظ «الإسلام» مشحون بعديد من المعاني كلفظ «دين» فإن أمكن، من الناحية النظرية على الأقل التعبير به عن معنى فإنه لا يمكن ذلك من الناحية العملية، وذلك لأنه أصبح هو أيضا محملا بما لا حصر له من المعاني التي قد تتفق أحيانا مع المعنى الأصلي للفظ، وليس من الضروري أن تقوم هذه المعاني في ذهن المتعلم أو السامع، ولكن يكفي أن تكون شائعة في الجو الثقافي كي يستحيل بعدها استعمال اللفظ للتعبير به عن المعنى الأصلي وإيصاله، فهو أساسا مصطلح يشير إلى دين معين وإلى ميدان معين وليس لفظا عاما يدل على معنى مستقل عن كل ميدان مثل: حرية، تحرر، مساواة، إنسانية، وحتى لو استعمل اللفظ ابتداء من معناه الاشتقاقي فإن معناه التاريخي يكون أقوى وأمثل للأذهان، ومن الصعب تجريد الذهن وتخليصه من المعنى الشائع وإلزامه بالمعنى الاشتقاقي الأول، فلفظ «التحرر» هو اللفظ الجديد الذي يعبر عن مضمون «الإسلام» أكثر من اللفظ القديم، فالذي يسلم لله يتخلص أولا من كل ما يكبل الإنسان من القيود وهو فعل التحرر الذي يبدأ بالنصف الأول من الشهادة «لا إله»، فإذا تحرر الإنسان من القيود فإنه يقوم بالفعل الثاني وهو الإثبات «إلا الله» فيسلم لله؛ فالإسلام هو تحرر الشعور الإنساني من كل قيود القهر والطغيان مادية أو سياسية،
5
ولفظ «السلام» أيضا يعبر أكثر عن مضمون «الإسلام» من اللفظ ذاته؛ لأن الإسلام هو الذي يحقق السلام الداخلي للإنسان بعد تحرره من كل قيود القهر والاستعباد، ثم هو الذي حقق المجتمع الواحد الذي لا طبقات فيه ولا استغلال ولا احتكار؛ ومن ثم ينشأ السلام في المجتمع، وهو أيضا الذي نظم علاقات الأمم، بعضها مع البعض الآخر على أساس من السيادة المتبادلة وأحلاف السلام. (3)
واللغة في تراثنا القديم لغة تاريخية تعبر عن وقائع تاريخية أكثر من تعبيرها عن الفكر، فهناك الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية في أصول الفقه، والمعتزلة والأشاعرة والخوارج والشيعة في أصول الدين، والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد في الفلسفة، ورابعة والحسن البصري والحلاج والغزالي وابن الفارض والسهروردي وابن عربي وابن سبعين في التصوف، وكل هذه الألفاظ لا تشير إلا إلى وقائع تاريخية، وأشخاص أو حوادث أو مناطق جغرافية، وليست مفاهيم علمية لها دلالتها المستقلة، صحيح أن العلوم العقلية القديمة نشأت في أحضان التاريخ وفي بيئات جغرافية، وحسب مقتضيات الظروف، فارتبطت العلوم بأسمائها، وارتبطت العلوم بأسماء من اشتغلوا بها، والتيارات الفكرية بأسماء من اعتنقوها، وإذا كان تراثنا القديم قد وقع بذلك فيما وقع فيه التراث الغربي فإن مهمتنا هي القضاء على تشخيص الأفكار، فالأفكار لا أسماء لها، بل هي أفكار عامة شائعة في كل زمان ومكان، وتظهر في كل حضارة، ونحن نعاني من نسبة الأفكار إلى أشخاص، ونخلط بين الصراع الفكري والصراع الشخصي، وينقلب الحوار بين الأفكار إلى صراع بين الأشخاص، وإلا لكان الإسلام محمديا، والعقل معتزليا، والنقل أشعريا، والطبيعة نظامية أو جاحظية والشورى سنية، إن التشبيه والتنزيه لا شأن لهما بالأشاعرة والمعتزلة بل هما موضوع شعوري مستقل، وقد اقترب تراثنا القديم من ذلك عندما ضم كل مجموعة من العلماء تحت الفكرة التي يدافعون عنها فهناك «أصحاب الطبائع» معمر الجاحظ وثمامة والنظام ضمن أهل التوحيد والعدل وهم المعتزلة، وهناك المشبهة والمعطلة، والمجسمة، والقدرية، والمرجئة، والإمامية، والشيعة، والمعتزلة، والخوارج، وأهل السنة ... إلخ، فالفكرة هي الأساس، ومهمتنا نحن إبراز استقلال الفكرة عن قائليها وعن الأماكن التي ظهرت فيها مثل الحرورية، وعن الحوادث التاريخية التي بدأت فيها مثل المعتزلة والشيعة والخوارج، فيبقى لدينا التجسيم والتشبيه والتعطيل، والقدر، والإرجاء، والإمامة، ومهمتنا إحياء الأفكار من منازل الموتى. (4)
واللغة في تراثنا القديم لغة تقنينية، تضم الوجود وتضعه في قوالب، فهناك قانونية المصطلحات في أصول الفقه، والتقسيمات العقلية في أصول الدين والفلسفة على السواء، وكلها تبدأ بعبارات مثل «يجب على» أو «من الواجب أن»، وكأن الحياة يمكن أن يفرض عليها قانون من الخارج، وكأن الإنسان ما هو إلا مستقبل لتشريعات مفروضة عليه من كل علم، باستثناء أصحاب الطبائع الذين أرادوا فهم كل شيء على أنه طبيعة، لقد كانت اللغة القديمة على اتفاق تام مع نشأة الدين، وتلائم طبيعة الظروف التي نشأت فيها العلوم التقليدية وتطورت، فالدين أتى مشرعا للواقع، ومصدرا للأحكام ولكن لغة التقنين لا تصح لكل عصر، فعصرنا مشابه لعصر الوحي القديم وقت نزوله، واقعنا مشكل ينادي على حل، واقعنا مأزوم يبغي الفرج، ولا يأتي ذلك إلا بإطلاق قواه، فالواقع يقتضي فكرة كما اقتضى الواقع القديم الوحي، صحيح أن تقنين الثورة من قاموسنا المعاصر، ولكنه لا يعني فرض قوانين على الواقع بقدر ما يعني تنظيم ما يفرضه الواقع من تغير ثوري حتى لا يجهض أحد ما هذه التغيرات أو يستغلها لحسابه الخاص، «فالواجب» مثلا لفظ مستعمل في أصول الدين، النظر أول الواجبات، ومستعمل أيضا في أصول الفقه، الواجب أول الأحكام الخمسة: الواجب، والحرام، والمندوب، والمكروه، والمباح، فهي ألفاظ توحي بأن الإنسان ما هو إلا آلة للتطبيق، وأنه فاقد حريته، في حين أن التعبير بألفاظ أخرى مثل الطبيعة، والانطلاق، والازدهار فيها تأكيد للذات، وإثبات لحريتها، وتحقيق لوجودها. (5)
واللغة في تراثنا القديم لغة صورية مجردة، فهناك تقسيمات عدة للوجود إلى ممكن، وواجب، ومستحيل، وجوهر، وعرض في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة، وهناك أيضا تفريعات عدة يفتقد الموضوع خلالها، وفي علم أصول الفقه هناك تقسيمات عدة لأنواع العلل إلى موجبة، وقاصرة، ومؤثرة، ومناسبة، وملائمة، دون أن ندري ما هو الواقع وراءها، وفي التصوف هناك تقسيمات أخرى للطبيعة ولمقولات الطبيعة، ولكنها تتحول كلها إلى تجريد خالص فتفقد اللغة المستعملة مباشرتها وواقعيتها وإنسانيتها، أما ألفاظ التاريخ، والجماهير، والأنا، والآخر، والإنسان، والعالم، والتقدم، والتخلف، فهي أكثر إيحاء للمعاني، وهي تمثل أيضا منطقا عمليا أو جدلا تاريخيا أو بناء اجتماعيا، وهو أسلوب العصر ولغة الجيل، إن التجريد ينشأ بعد نشأة العلم، كموضوع وكمنهج وكبناء، ونحن الآن بصدد إعادة بناء العلوم من حيث النشأة، ومن ثم فمستوى التجريد في العلوم لا يلائم مرحلتنا الحالية في إعادة بنائنا للعلم ووصف نشأته وتكوينه من جديد. (6)
واللغة التي يرفضها العصر حتى ولو كانت لغة قديمة لا يمكن استعمالها من جديد، فمهما أمكن إبراز معنى الخلافة أو الإمامة من شورى، وبيعة، واختيار إلا أن اللفظ لا يستعمل نظرا للشحنات التاريخية، والخلافات المذهبية التي تشع منه، فلو حاول أحد الآن عمل نظرية في الخلافة لوجد آذانا صماء، كما لو حاول أحد أن يعمل نظرية في التجسيم أو في التشبيه لوجد عداء وتكفيرا، كما لو استعمل أحد لفظ الإلحاد «والكفر» لكان أشبه بمن يرطم رأسه بصخر، ويقف الهدف من «التراث والتجديد» وهو عمل ثقافة وطنية يمكن التعبير عنها بلغة يقبلها الشعور العامي، فالألفاظ التي يتقبلها العصر هي التي يمكن استعمالها، بل إن في العصر ألفاظا تجري مجرى النار في الهشيم مثل: الأيديولوجية، التقدم، الحركة، التغير، التحرر، الجماهير، العدالة، وهي الألفاظ التي لها رصيد نفسي عند الجماهير، والتي يمكن أن تعبر عن ثقافة وطنية يمكن تكوينها، لا يعني ذلك تملق الجماهير أو اللعب على أوتارها الحساسة، بل تعني أخذ العرف في الاعتبار، والمعنى العرفي جزء من معنى اللفظ عند علماء اللغة القدماء، كما جرت العادة على نقل العرف من المعنى إلى اللفظ، ويعني أيضا تطويع اللغة في نشأتها واختيار ألفاظها إلى متطلبات الواقع حتى لا تقع في انعزالية الثقافة بصورية اللغة.
اللغة التقليدية إذن قاصرة عن أداء وظيفتها في إيصال المعاني التي يمكن للباحث أن يعبر عنها للآخرين، فإذا بدأ الباحث برؤية الشيء، وفهمه لمعناه ثم وضعه في اللفظ المناسب للتعبير فإن السامع يبدأ بسماع اللفظ ثم يتحدد معناه ثم يرى الشيء الذي رآه الباحث أولا، فإذا كان تجديد اللغة مهما بالنسبة للباحث بإعطائه المعنى وإشارته إلى الشيء، فإنه مهم أيضا بالنسبة للآخر باستقباله المعنى ورؤيته للشيء . (1-2) مميزات اللغة الجديدة
واللغة الجديدة تحاول أن تتلافى عيوب اللغة التقليدية التي تعوق التعبير والإيصال وتحاول أن تستبدل بخصائصها خصائص أخرى يمكن بواسطتها سهولة التعبير عن المضمون ودقة إيصال المعنى المطلوب، وأهم هذه الخصائص هي: (1)
أن تكون اللغة الجديدة عامة، بل وأكثر درجات اللغة عموما حتى يمكن بها مخاطبة كافة الأذهان؛ فمثلا لفظا عام وخاص في أصول الفقه لفظان عامان يمكن لكافة الأذهان فهم المراد منهما، بل ومناقشة المضمون واقتراح تغيير أحدهما أو تغييرهما تغييرا كاملا. وكل مصطلحات أصول الفقه - خاصة فيما يتعلق بمناهج الرواية أو بمناهج اللغة ألفاظ عامة - يمكن أن تنطبق على أي تراث وعلى أي نص ديني.
6
وفي أصول الدين، النظر والعمل لفظان عامان يمكن لكل الأفهام أن تحصل على المراد منها، وكذلك ألفاظ الحرية والاختيار، العقل والنقل، كلها ألفاظ عامة لا تخص حضارة بعينها، وتعبر عن أكبر قدر من العمومية لأكبر عدد ممكن من الناس، بل إن من خصائص لغة العلم المحكم هي أنها تكون عامة، حيث يمكن العلماء في أي مكان وفي أي عصر التعامل بها، بذلك يفضل العلم اللغة الرياضية والرموز. أما مصطلحات الصوفية فإنها تحتوي من قبل على درجة كبيرة من العمومية نظرا لأنها تعبير مباشر عن الوجدان، والوجدان واحد عند كل الناس، ومن ثم تصبح عملية «التراث والتجديد» عملية جماهيرية وثقافية وطنية يقرؤها الجميع وتسد فيهم النقص النظري في فكرنا المعاصر، كما تستطيع أن تصوغ لغة واحدة يستعملها المثقفون بصرف النظر عن تخصصاتهم ومواقفهم الفكرية، وتكون اللغة المشتركة، وكثيرا ما ضاع الفكر من أجل خصوصية اللغة كما هو الحال في الفكر المسيحي الذي يصر على استخدام لغته الخاصة في العقائد، وكثيرا ما ثبت الفكر بفضل عمومية اللغة كما هو الحال في بعض جوانب تراثنا القديم. (2)
أن تكون اللغة الجديدة مفتوحة، تقبل التغيير والتبديل إما في مفاهيمها أو في معانيها أو حتى في وجودها، وإما بإبقائه أو بإلغائه كلية. اللغة المفتوحة ليست جامدة محددة، بل تقبل إضافات وتغييرات كل خبرة إنسانية فردية أو مشتركة، فيمكن النقاش مثلا في العام والخاص هل هما الكلي والجزئي المنطقيان أم هما الكلي والجزئي في الفلسفة أم هما مقولتان سلوكيتان. فالخاص خطاب للفرد والعام خطاب للناس جميعا، ويمكن النقاش أيضا في علم أصول الدين إذا كان النظر والعمل وجهين لشيء واحد أم شيئين مستقلين وإذا كانا يوازيان اليقيني والظني أم لا؟ أو التساؤل عن النقل والعقل هل هما شيء واحد أم شيئان مختلفان، وإلى أي حد هناك اختلاف، وما هي وظيفة كل منهما؟ وكذلك يمكن التساؤل في الفلسفة عن قسمة الوجود إلى واجب وممكن، أو إلى جوهر وعرض، أو إلى موجود بذاته وموجود بغيره، وإلى أي حد يمكن قبول هذه القسمة أو رفضها؟ وفي التصوف يمكن أيضا الاستفسار عن معنى الأنس، والوجد، والقرب، والبعد، والهجر، والوصال ... إلخ، ومناقشة التجارب النفسية التي وراءها، ومن ثم يمحى خطر التعقيد اللغوي السائد في فكرنا المعاصر، والتشدق بالألفاظ والمفاهيم الصعبة، وكلما ازدادت اللغة صعوبة عظم الفكر عمقا، وصرخ الباحث أن اللغة العربية غير طيعة للتعبير عن هذه المفاهيم الحديثة والتصورات العصرية والعلوم اللسنية كما يحدث أحيانا عند إخواننا الباحثين الشوام والمفكرين المغاربة لزيادة في تغربهم ونقص في تعربهم. (3)
أن تكون اللغة عقلية حتى يمكن التعامل بها في إيصال المعنى، وأية لغة قطعية لن تعبر عن شيء لأنها مغلقة على نفسها، ولا تكون لغة اصطلاحية لأن هذه هي ما اصطلح عليه الناس. واللغة القطعية لغة توقيفية خالصة، إما أن تقبل أو ترفض، ولكن لا يمكن تغييرها أو إعطاؤها معاني جديدة. اللغة العقلية هي التي يفهمها كل الناس بلا شرح أو تعليق أو سؤال أو استفسار، بل يفهمها العقل بطبيعته، ويتعامل معها كأنها منه؛ فالعمل، والحرية، والشورى، والطبيعة، والعقل، كلها ألفاظ عقلية في علم التوحيد لا يمكن للعقل أن يرفضها، أما ألفاظ الله، والجنة، والنار، والآخرة، والحساب، العقاب، والصراط، والميزان، والحوض، فهي ألفاظ قطعية صرفة لا يمكن للعقل أن يتعامل معها دون فهم أو تفسير أو تأويل؛ لذلك سماها تراثنا القديم السمعيات وأخرجها من العقليات، لذلك لا يمكن استعمالها استعمالا شائعا عاديا مثل لغة الخطيئة، والتجسد، والخلاص، والفداء، والسر، والشخص، والأقنوم. صحيح أن تراثنا الإسلامي أقل إيغالا بكثير من أي تراث آخر مسيحي أو يهودي أو بوذي، وأن كثيرا من الألفاظ السياسية المعاصرة لترقى إلى الكهنوت، ومن ثم استحال أيضا استعمالها مثل: تحالف قوى الشعب العامل، الاشتراكية، الاتحاد الاشتراكي، والرأسمالية الوطنية منذ عشر سنوات، والإيمان، وسيادة القانون، وأخلاق القرية هذه الأيام، وكما هو الحال أيضا عند بعض الماركسيين المحدثين الذين لا يعبرون عن فكرهم إلا بمقولات الجدل، والكيف، والكم، والتناقض، والسلب، والنفي، والمادية، والتاريخية، والصراع، والطبقات، وملكية وسائل الإنتاج، ونمط الإنتاج، والقيمة، وفائض القيمة ... إلخ، والنتيجة هي نفور الشعب من قاموس السياسة؛ فمصطلحاته القديمة بالرغم مما فيها من عيوب يدركها المستنيرون، أكثر تعبيرا عن أشواقه وتطلعاته. (4)
أن تكون اللغة لها ما يقابلها في الحس والمشاهدة والتجربة حتى يمكن ضبط معانيها والرجوع إلى واقع واحد يكون محكما للمعاني ومراجعا إذا تضاربت وتعارضت؛ فألفاظ الجن والملائكة والشياطين، بل والخلق والبعث والقيامة كلها ألفاظ تجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس، ولا تؤدي دور الإيصال، وكذلك ألفاظ العقل الفعال، والعقل المنفعل، والعقول العشرة، وأرواح الأفلاك، والروح؛ كلها ألفاظ لا تشير إلى أشياء في الواقع وتجسيمات لمعاني إنسانية خالصة يمكن التعبير فيها بلغة عقلية تشير إلى شيء موجود بالفعل في الحس والمشاهدة. وكذلك ألفاظ عين الله، ويد الله، وقلب الله ووجه الله، وصعود الله، ونزوله، وجلوسه، وقيامه؛ كلها ألفاظ لا يمكن استعمالها لأنها أقرب إلى الصور الفنية منها إلى ألفاظ إخبارية. وكذلك الميزان والصراط والأعراف والحوض ومنكر ونكير وكل ما أطلق عليه العلماء القدماء السمعيات لا تشير إلى حس ومشاهدة إلا عن طريق تأويل معاني الألفاظ واستعارة الألفاظ الحسية للدلالة بها على معان إنسانية. وإن اللغة بطبيعتها من خلال المعاني الاشتقاقية للألفاظ تنشأ من الحس وتخرج من الواقع، ولا يوجد معنى للفظ إلا وقد نشأ أولا من التربة والطين والأرض ، ويظل هذا المعنى هو أساس المعنى الاصطلاحي، وقد بدأ الأصوليون تجديد معاني مصطلحاتهم بالبحث عن المعنى الاشتقاقي للفظ؛ فهو المعنى الأول والأصيل والذي يكون ركيزة المعنى الاصطلاحي، ولا يكون المعنى الاصطلاحي في الحقيقة إلا تصحيحا للمعنى الاشتقاقي ونقله من التربة والأرض إلى العلاقات الإنسانية؛ فالزكاة في أصلها النماء، والصلاة في أصلها العلو، والشهادة أصلها الحس والواقع والرؤية، وبالتالي يمكن حماية فكرنا المعاصر من جعبة ألفاظه التي تدل على شيء كما يمكن بذلك القضاء على انعزالية الفكر وعزلة المفكرين. (5)
أن تكون اللغة إنسانية لا تعبر عن مقولة إنسانية كالنظر، والعمل، والظن، واليقين، والقصد، والفعل، والزمان، والباعث، فهي كلها ألفاظ تشير إلى جوانب من السلوك الإنساني لواقع في الحياة اليومية، يقابلها كل إنسان ويستعملها مهما كانت عقيدته أو مذهبه أو تياره الفكري، أما ألفاظ القديم، والحادث، والجوهر، والعرض، والوجود، والماهية، والجهة، والإضافة، فكلها ألفاظ وإن كانت عقلية عامة إلا أنها لا تستعمل لوصف سلوكنا اليومي بالإضافة إلى أن طابعها المجرد قضى على الموضوع ذاته، واللغة هي تعبير وإيصال للمعنى وليست قضاء عليه ومحو الشيء المشار إليه، أما اللغة التي لا تعبر عن مقولات إنسانية مثل «الله» والجواهر المفارقة، والشيطان، والملاك، فهي لغة اصطلاحية عقائدية تشير إلى مقولات غير إنسانية إلا إذا أولناها وفسرناها وأعطيناها مدلولات إنسانية، فالله يصبح هدف الإنسان وغايته ورسالته ودعوته في الحياة، والشيطان يصبح هو المعارض الذي يمثل الغواية والخطأ والحافز، والملاك يصبح هو ما يرجوه الإنسان من طمأنينة وخير ورحمة وأمن واستقرار ودعة، وبالتالي يمكن نقل عصرنا من مرحلة التمركز حول الله وهي المرحلة القديمة إلى مرحلة التمركز حول الإنسان وهي المرحلة الحالية، كما يمكن اكتشاف الإنسان الغائب في تراثنا القديم والممحو في وجداننا المعاصر، والإنسان كامن في تراثنا القديم ولكنه مغطى ومستور، وعصرنا الحالي هو عصر الإنسان، وبالتالي تكون مهمة عصرنا إبراز المستور، والكشف عن الإنسان، وتلك هي مهمة «التراث والتجديد» في أول محاولاته من أجل إعادة بناء علم أصول الدين على أنه «علم الإنسان». (6)
أن تكون لغة عربية وليست مستعربة أو معربة عن طريق النقل الصوتي للغات والألفاظ الأجنبية بدعوى قصور اللغة العربية عن الإمداد بمفاهيم حديثة تعبر عن مضمون العصر واكتشافاته، وقد وقع إخواننا الشوام والمغاربة في هذه الألفاظ المستهجنة بدعوى التحديث، والخطورة هي جعل الحديث من الخارج وليس من الداخل، وبفضل وسائل دخيلة وليس عن طريق تطور طبيعي لثقافتنا القديمة، فاللفظ الأجنبي قد يكون له لفظ عربي يعبر عن مضمونه وإن كان مختلفا عنه في الشكل، صحيح أن في تراثنا القديم عديدا من الألفاظ المستعربة مثل موسيقى، وأنالوطيقا، وأوثولوجيا، ولكن ذلك قد حدث في أوائل عصر الترجمة، ولكن بعد أن استقرت المعاني خرجت الألفاظ العربية لتعبر عنها مثل الألحان، والتحليلات، والإلهيات، والموضوع ليس شكليا صوريا بل يتعلق بالمضمون، فاللغة هي الثقافة ونشر اللغة بألفاظها هو في نفس الوقت نشر لثقافة، والألفاظ المستعربة دعوة إلى تبني الثقافة الدخيلة وترك الثقافة الأصيلة وكأن مفاتيح العلوم والفكر والثقافة هي عند الثقافات الأخرى وليست في ثقافتنا الخاصة؛ لذلك حرص «التراث والتجديد» على تجنب الألفاظ المستعربة من أجل المحافظة على الأصالة اللغوية، فهي شرط التعبير عن أصالة الفكر. (1-3) اللفظ والمعنى والشيء
ويمكن إخضاع التجديد اللغوي إلى منطق محكم يقوم على التعبير المطابق للمعنى والذي يقوم بوظيفته في الإيصال، فالمنطق اللغوي يشمل جانبين: جانب التعبير وجانب الإيصال، وهما لا ينفصلان بل يشيران معا إلى حياة اللفظ ودورانه بين المتحدث والسامع، ويمكن وصف هذا المنطق لتجديد اللغة بطرق ثلاث: إما بالانتقال من اللفظ التقليدي إلى معناه، وإما بالانتقال إلى معنى اللفظ التقليدي إلى لفظ جديد، وإما بالانتقال من الشيء نفسه الذي يشير إليه اللفظ التقليدي إلى لفظ جديد. (1)
من اللفظ التقليدي إلى لفظ جديد: نظرا لنقصان اللغة التقليدية في التعبير عن كل محتويات اللفظ من معان أصلية وفرعية، أو أشياء تشير إليها هذه المعاني، ونظرا لأن هذه المعاني وهذه الأشياء تكون دائما منطوية على نفسها داخل اللفظ التقليدي الذي يفقدها حيويتها وجدتها بل وواقعيتها ووجودها فإنه يمكن الانتقال من لفظ تقليدي إلى لفظ جديد له قدرة أكثر على التعبير وعلى إظهار المعاني وعلى الإشارة إلى الأشياء نفسها، والألفاظ التقليدية ليست معيبة في ذاتها باعتبارها ألفاظا أي ليست إلهية أو دينية أو تاريخية أو تقنينية أو مجردة، كما أنها ليست محدودة مغلقة صورية، بل هي ألفاظ عامة، مفتوحة، عقلية، إنسانية، تشير إلى واقع حسي مباشر ولكن ليس بما فيه الكفاية؛ لأنها لا تعبر عن مضمونها ولا توحي بالأشياء التي تشير إليها حتى ولو كان اللفظ التقليدي صالحا للاستعمال مثل لفظ «الإجماع» أو «الاجتهاد»، فإنه نظرا لأنهما أصبحا يعبران عن مذاهب فقهية تاريخية محدودة ويشيران إلى بيئة ثقافية معينة بل وإلى جدل ومهاترات يتحول مضمونها إلى قضايا، فإنه من المستحيل استعمالها من جديد بعد تجريدها من كل ما علق بها من تاريخ جدل طويل، أما لفظ الخبرة بين الذوات أو «التجربة المشتركة» فهو لفظ معاصر يثير وجدان المعاصرين، ويدل على نفس مفهوم اللفظ القديم دون أن يثير عيوبه، وكذلك لفظ «شرعي» ولو أنه لفظ عقلي، فالفكر يشرع للواقع، إلا أنه ما زال لفظا دينيا، وقانونيا، وتاريخيا، ويمكن التعبير عن معناه بلفظ «قبلي» وهو المعطى السابق، فهو لفظ أعم، ويركز المعنى في اتجاه واحد وهو الطابع القبلي للوحي، على الأقل من حيث مصدره لا من حيث باعثه أو محك صدقه؛ لأن باعثه ومحك صدقه هو الواقع.
والانتقال من لفظ تقليدي إلى لفظ تقليدي آخر مشابه لن يقدم شيئا؛ لأن المشكلة تظل باقية وهي استحالة التعبير عن المعاني الأولية بالألفاظ التقليدية، وإلا وقعنا في الشروح على المتون عندما كانت تستبدل ألفاظ قديمة بألفاظ أخرى قديمة، فالله والخالق يدلان على نفس المفهوم، والألفاظ العقلية والتقليدية مثل الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، إلى آخر ما هو معروف من أسماء الله كلها ألفاظ تقليدية لا يفيد تبديل أحدهما بالآخر، ولكن الانتقال من «الله» إلى «الإنسان الكامل» يعبر عن كل مضمون الله، فكل صفات الله: العلم، والقدرة، الحياة، والسمع، البصر، والكلام، والإرادة كلها هي صفات الإنسان الكامل، وكل أسماء الله الحسنى تعني آمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها، «فالإنسان الكامل» أكثر تعبيرا عن المضمون من لفظ «الله».
7
وعلم أصول الفقه مثلا يدور ثلثه على الرواية سند ومتن، تواتر وآحاد للسند، ونص ومعنى للمتن، ولكن لفظ الرواية له معنى ضيق وهو العنعنة كما في علوم الحديث، ولا يشير إلا إلى طرق الرواية المعروفة في علوم الحديث من تواتر وآحاد ومرسل ومنقطع ومشهور مع أن الرواية هي نص الوحي، ويشير إلى التاريخ باعتباره زمانا للانتشار وإلى المنطق باعتباره منهجا للنقل، فالتاريخ هو العصر ليس فترة محدودة تحديدا تعسفيا بقرن أو بغيره، ولكن بالوجود الزماني للفرد، فالعصر هو الجيل، هناك العصر الأول، والثاني، والثالث، والرابع، أي الجيل الأول، والثاني، والثالث، والرابع، ومناهج النقل من تواتر وآحاد إن هما إلا طبيعة العلاقات بين الرواة من حيث اتصالهم واستقلالهم، فلفظ «منطق التاريخ» يفيد معاني أعم وأعمق، ويشير إلى موضوعات أكثر وأوقع مما يفيد لفظ الرواية.
والثلث الثاني من علم أصول الفقه خاص بمبحث الألفاظ، فهذا التعبير يشير إلى دراسات لفظية محضة متناثرة دون أن يكون بينها ترابط منطقي أو بناء عام، فهناك الحقيقة والمجاز، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول دون أن يجمع هذه الثنائيات اللفظية أي جامع بينهما، أما لفظ «منطق اللغة» فإنه يشير إلى إمكانية دراسة هذه القسمة كلها في منطق واحد باحثا عن دلالتها ومعناها، فالحقيقة والمجاز يشيران إلى موضوع التصوير الفني باعتباره أسلوب الوحي في الخطاب، والمحكم والمتشابه يشيران إلى ثنائية المعنى للفظ الواحد، والظاهر والمؤول يشيران إلى إمكانية فهم المعنى على مستويات مختلفة من العمق، والمجمل والمبين يشيران إلى ثنائية المعنى مع اختيار أحدهما كأساس نظري للسلوك، والخاص والعام يشيران إلى مبحث لفظي أو منطقي أو فلسفي دون أن يشيرا إلى موضوعهما وهو البعد الفردي داخل اللغة، وجود الإنسان والجماعة، الأنا والآخرون داخل الخطاب.
والثلث الأخير من علم أصول الفقه هو الأحكام، ولفظ «الأحكام» يفيد قضايا عقلية خاصة بالمنطق أو قانونية خاصة بالقضاء، ولا تشير إلا إلى هذه القضايا الصادرة إما لوجودها المنطقي أو لوجودها اللغوي، وفي بعض الأحيان إلى تطبيقاتها الفعلية، في حين أن هذا اللفظ في الأصول يفيد الفعل، ويشير إلى «منطق السلوك»، فدراسة الأحكام باعتبارها منطقا للسلوك تثير كل معاني المنطق العملي، وتبرز موضوعاته الخاصة بالقصد والنية، والنظر والعمل، والباعث والمانع ... إلخ، وكذلك لفظا «مقاصد الشارع» يفيدان مقاصد الوحي وهي المحافظة على الوجود الإنساني في شتى صوره، فالابتداء هي الحياة، والأفهام تشير إلى العقل، والتكليف يشير إلى الفعل، والامتثال يدل على الدعوة في الحياة، وكذلك لفظا «أحكام الوضع» لا يفيدان ولا يشيران إلى شيء لأنه مصطلح يعبر عن وصف موضوعي لميدان السلوك أو موقف معين للفعل، فهناك السبب وهي الإرادة، والشرط وهي القدرة، والمانع وهي العقبة أو الصعوبة، والعزيمة والرخصة وهما صورتا الفعل المطلق والنسبي أو المثالية والواقعية، وأخيرا الصحة والبطلان أي صدق الفعل أو كذبه من ناحية الموقف كله وعلى وجه الخصوص من ناحية النية.
8 (2)
من المعنى الضمني إلى لفظ جديد: إذا كان الانتقال من لفظ جديد قائما أساسا على أن اللفظ التقليدي لا يعبر بما فيه الكفاية عن المعنى الكامن فيه ولا يشير بوضوح أو لا يشير تماما إلى الموضوع المراد فإنه في بعض الأحيان يكون اللفظ التقليدي لفظا سلبيا مطلقا ومعيبا في ذاته، ولا يؤدي وظيفته غما في التعبير أو في الإيصال، فيترك تماما ثم يعبر عن معناه الضمني بلفظ آخر جديد يكون أكثر قدرة على التعبير عن هذا المعنى الضمني وإيصاله، فمثلا لفظا الكفارة والحد لفظان سلبيان لأنهما يشيران إلى جزاء، في حين أن الكفارة هو نوع من إعادة بناء شعور الفرد بعد قيامه بفعل سلبي وأثره على نفسه ومعنوياته، فهو نوع من رد الاعتبار لكيان الفرد المثالي، أما الحد فهو إعادة بناء لشعور الفرد بعد قيامه بفعل سلبي عن طريق تأكيده لفعل إيجابي آخر لإثبات حسن النية، فالكفارة اعتراف من جانب الفرد بعمل سلبي وتأكيد هذا الاعتراف بعمل إيجابي، أما الحد فإنه باعث على كشف الموقف نفسه الذي قام فيه الفرد بعمل سلبي على نفسه وعلى الغير، فبعد تحليل المعنى والكشف عن المواضع التي يثيرها اللفظ التقليدي يمكن بعد ذلك اختيار أحسن الألفاظ التي يمكن بواسطته التعبير عن التحليلات التجديدية، وكذلك لفظا المصلحة والمفسدة كأساس للشرع، فإن جلب المصلحة ودفع الضرر يخشى منهما أن تفسر المصلحة والمفسدة تفسيرا نفعيا محضا دون اعتبار للأساس النظري؛ ولذلك يمكن التعبير عن معنييهما بالإيجاب والسلب، وبذلك يحصل المعنى على أكبر درجة من العمومية، وكذلك لفظ «الأمر والنهي» فإنهما يدلان على قوانين مفروضة في صيغة افعل أو لا تفعل، مع أن الموضوع هو تحليل الزمان كموطن للفعل وكمقام له، ثم تحليل استمرار الفعل بتكراره، فيمكن إذن البحث عن لفظ جديد يتحاشى المعنى الذي يثيره اللفظ التقليدي والتعبير عن الموضوع نفسه، وأخيرا فألفاظ «أحكام التكليف الخمسة» ألفاظ سلبية لا تعبر عن معناها ولا توصله أو أنها ألفاظ قانونية توحي بشيء مفروض من الخارج مثل واجب، وحرام، ومكروه، ومندوب، وحلال، مع أن هذه الألفاظ تشير إلى وضع الإنسان في العالم وإلى المستويات المختلفة للسلوك التي تتدرج بين قطب موجب وهو الواجب وقطب سالب وهو الحرام، أما وسط القطبين فهو الحلال الذي يمحى فيه السالب والموجب والذي يفيد بأن شرعية الأشياء في وجودها الطبيعي، أما الواجب فيفيد فعلا ضروريا إيجابيا والحرام يفيد فعلا ضروريا سلبيا، أما المندوب فهو وسط بين الواجب والحلال يفيد فعلا ممكنا إيجابيا والمكروه فعل وسط بين الحرام والحلال يفيد فعلا ممكنا سلبيا،
9
وفي أصول الدين نجد أن لفظي «ثواب وعقاب» لفظان سلبيان لأنهما قائمان على الجزاء والعقاب، فالثواب هو نتيجة إيجابية للفعل والعقاب نتيجة سلبية له، فخلود الفكر أو الفنان أو الشهيد عن طريق عمله هو ثوابه، وفناء الإنسان العادي ونسيان الآخرين له وكأنه لم يوجد هو عقابه؛ ولذلك يحتاج هذا المعنى إلى لفظ جديد يعبر عنه دون لفظي ثواب وعقاب، وكذلك لفظا «الدنيا والآخرة» لفظان سلبيان خاصة اللفظ الثاني لأنه لا يعبر عن شيء محسوس يمكن التحقق منه في الحياة العملية، فالدنيا هي الوجود الزماني للفرد والآخرة هي الوجود كحضور في شعور الآخرين، ومن ثم يحتاج هذا المعنى إلى لفظين آخرين غير اللفظين التقليديين. (3)
من الشيء المشار إليه إلى لفظ جديد: إذا كان الانتقال من لفظ تقليدي إلى لفظ جديد سببه هو النقص النسبي في اللفظ التقليدي في قدرته على التعبير عن المعنى وإيصال الشيء المراد، وإذا كان الانتقال من المعنى الضمني إلى اللفظ الجديد سببه هو النقص الكامل للفظ التقليدي في التعبير عن المعنى والإشارة إلى الموضوع، فإن هذا الطريق الثالث هو الانتقال من الشيء المشار إليه لفظ جديد يبدأ من الشيء نفسه، ثم يعبر عنه بلفظ تلقائي، وأنه من التجاوز أن يسمى هذا اللفظ جديدا؛ لأن ليس له مقابل تقليدي يعادله أو يوازيه، بل نشأ نشأة تلقائية للتعبير عن الموضوع والإشارة إليه، فمثلا ألفاظ مثل «صورة» و«مضمون» و«موضوعية»، ألفاظ جديدة يمكن بواسطتها التعبير عن الهيكل العام لعلم أصول الفقه، فمثلا في دراسة «الأخبار» أي في تحليل منطق التاريخ، تدرس مناهج الرواية باعتبار أنها صور للشعور التاريخي، والمصادر الأربعة للشرع باعتبارها مضمونا له، وأخيرا شروط الرواية والراوي اعتبارها موضوعية له، وكذلك الحال في منطق اللغة، فإن الألفاظ تكون صورة للشعور العقلي، ومباحث العلة تكون مضمونا له، ثم شروط المفتي والمستفتي تكون موضوعيته، وفي دراسة الأحكام يكون الفعل صورة للشعور العملي والقصد يكون مضمونا له ثم تحقق الوعي كنظام مثالي للعالم يكون موضوعيته، وكذلك استعمال لفظ «منهج» للإشارة إلى موضوع التواتر والآحاد باعتبارها مناهج للنقل الشفاهي أو لفظ «قطب» للتعبير عن قطبي الشعور العملي الإيجابي والسلبي أو الواجب والحرام أو لفظ «مستوى» للإشارة إلى الأحكام الخمسة باعتبارها مستويات مختلفة للسلوك، أو بناء نظري للإشارة إلى الأسس العقلية التي يقوم عليها أي موضوع.
10
ويعبر لفظ «الإنسان الكامل» عن علم التوحيد وعلم التصوف معا، فمع أن علماء أصول الدين يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله، فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن الإنسان الكامل، فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكبر إلى أقصى حدوده، وكذلك الصوفية عندما عبروا عن ذلك بأنفسهم ووصفوا الإنسان الكامل على أنه الإنسان المعتمد بالله،
11
وتأتي معظم هذه الألفاظ من اللغة العادية الشائعة تلقائيا بلا تكلف أو تعمد، وقد نشأ علم أصول الفقه نشأة تلقائية عندما استعمل الشافعي ألفاظ العام والخاص، ونشأ علم أصول الدين نشأة تلقائية بظهور ألفاظ التجسيم والتشبيه والتنزيه والجبر والأفعال، والعقل والنقل، والوعد والوعيد، والحسن والقبيح، والإيمان والعمل، والإمامة والشورى والتعيين. (1-4) مخاطر واشتباهات
ويثير منطق التجديد اللغوي عدة تحفظات لا في شرعيته بل في نتائجه؛ وذلك لأنه قد يتعرض إلى مخاطر حقيقية تجعله مجرد عبث وتلاعب بالألفاظ لا يغير شيئا، وأهم هذه المخاطر هي: (1)
التعالم والحذلقة بالمفاهيم الجديدة دون فهم لمضمونها ودون تحقيق لمصادرها ودون معرفة عما إذا كان يمكن استخدامها بدلا من اللفظ التقليدي المعيب أو للتعبير عن المعنى الكامن للفظ التقليدي أو للإشارة إلى الموضوع نفسه الغائب تماما في الألفاظ والمصطلحات التقليدية، فالمتعالم أو المتحذلق ليس باحثا ولا مجددا، بل مراهق فكري تستهويه بعض الألفاظ الجارية على الألسن، خاصة في أجهزة الإعلام والمترجمات ويستعملها مدعيا الثقافة الحديثة أو التجديد للقديم، ويوهم العلم الحديث بالجرأة على القديم وهو لا يعلم هذا ولا ذاك، ولكن يخفف من هذه الخطورة أن القائم بالتجديد هو عالم أمين لا يبغي حذلقة ولا يدعي علما، بل إنه ذو شعور صادق يحلل تجاربه المعاصرة التي يتحد فيها القديم والجديد معا ويعبر عنها باللغة المتداولة، لغة العصر، وتظهر الحذلقة أو التعالم إلا في غياب العمل الرصين الجاد. (2)
التعصب المذهبي الذي يؤدي إلى نوع من التعسف في عمليات التجديد اللغوي عن طريق اختيار نوع واحد من الألفاظ المغلقة للتعبير بها عن معنى واحد مما يشير إليه اللفظ التقليدي كي يطبع الفكر الجديد بطابع مذهبي خاص، وبذلك تفقد اللغة الجديدة مميزاتها الأساسية وهي أنها ألفاظ عامة وإنسانية مفتوحة، وتصبح ألفاظا خاصة بمذهب معين ومغلقة على فكر خاص وتصدق على ميدان معين، ويتم هذا عن نقص في الوعي بالقديم أو عن شك فيه أو عن إنكار له أو عن إيمان به على الإطلاق ، والباحث من هذا النوع يكون غير قادر على التراث والتجديد؛ لأنه لا يؤمن بالتراث ولا يقف منه موقفا محايدا خالصا على الأقل، بل ولا تتوافر فيه شروط الباحث أي باحث لأنه بدأ بأفكار مسبقة ومواقف مبتسرة وهي انتسابه إلى مذهب فكري معين، كما أنه لا يؤمن بالتجديد، فالتجديد بالنسبة له هو استعارة الجديد وهو مذهب الفكر الذي ينتسب إليه، والذي يخفف من هذا الخطر أن القائم بالتجديد لا ينتسب إلى مذهب فكري معين ولا عقيدة فلسفية خاصة بل هو الشعور المحايد يعي الأفكار كلها في وقت واحد دون ما تحيز أو ميل أو هوى، وهو شعور عام يستطيع أن يرى كل المذاهب الفكرية وقد انضوت تحت بناء فكري واحد كوجهات نظر متعددة لحقيقة واحدة أو كتفسيرات مختلفة لموضوع واحد، فحياد الشعور وشموله هما الضمان. (3)
سوء النية وهو تطرف في التعصب المذهبي إلى أقصى حد، يكون الباحث على وعي بذلك، ويقوم به مع سبق الإصرار والتعمد، يعبر الباحث عن المعاني القديمة بألفاظ جديدة من مذهب آخر لتحويل التراث كله من طابع إلى طابع آخر تعصبا أو هادما التراث كله يريد حاقد بيان سطحيته أو زيفه، الباحث هنا ليست لديه الشجاعة الأدبية الكافية لرفض القديم وهو موقفه الشعوري والدعوة للجديد وهو موقفه المستتر تملقا للجماهير أو خوفا من السلطة أو جريا على العادة وعلى أسلوب العصر، إن لوي التراث بطريقة تعسفية لا يفيد شيئا لأن التجديد على هذا النحو لن يكون مقروءا لا من القدماء ولا من المحدثين، ويكون عملا متحجرا لا ينبت منه لأنه مجتث الجذور ولا يزيد عن كونه هوامش حضارية ودوائر منعزلة لا أثر لها، ويكون الأثر للتراث القديم أو لتجديد التراث الذي يقوم على حسن النية، وهذه ليست فقط قيمة خلقية بل هي شرط أساسي للمعرفة وأساس للعلم، ويخفف من هذا الخطر أن الباحث يبدأ بالتراث كقيمة وبالتجديد كقيمة، ومن ثم فهو لا يدافع عن قيمة ضد قيمة أخرى ولا يبقي على التراث باسم التجديد أو يبقي على التجديد باسم التراث، ولكنه يقوم بتجديد التراث أي ضم قيمة إلى قيمة وإلا وقعنا فيما نحن فيه الآن من محاولات للعقلنة من الخارج، والتي تسقط على التراث مقاييس من خارجه.
وهناك عدة اشتباهات أخرى تحوم حول منطق التجديد اللغوي وهي مخاطر محايدة يمكن تفاديها لو استطاع الباحث المجدد أن يحكم منطقه في التجديد اللغوي، أي أنها اشتباهات تتبدد بقدرة الباحث وأصالته ووعيه واستعداده وثقافته ونوعيته، وأهم هذه الاشتباهات هي: (1)
الشذوذ اللغوي؛ وذلك لأن الألفاظ الجديدة قد ينتابها بعض الاستهجان إن لم يحترس الباحث الجديد في اختيار الألفاظ الجديدة الشائعة والمتداولة، قد يكون اللفظ غريبا غير مألوف، ولكن مما يقلل من هذه الغرابة اللغوية تحاشي النقل الصوتي للألفاظ من اللغات الأجنبية إلا ما هو شائع منها ومتداول، وما تحول منها إلى ألفاظ معربة شائعة في الاستعمال؛ وذلك لأن العثور على ألفاظ جديدة إنما يتم بصورة تلقائية دون تعسف أو تكلف، وقد يوفق الباحث أو يتعثر، وقد نشأت الألفاظ التقليدية ذاتها نشأة تلقائية من الألفاظ الشائعة والمتداولة في البيئة الثقافية التقليدية، فإذا كان عيب اللفظ التقليدي هو عدم قدرته على التعبير عن المعنى والإشارة إلى الموضوع المراد، فإن عيب اللفظ المستهجن هو عدم استساغته وصعوبة تحويله إلى لغة عادية ضمن التراث اللغوي الطويل، وأهم شيء في اللفظ الجديد هو طواعيته للفكر وسهولته في الاستعمال وتعبيره عن المضمون النفسي للناس وللتراث. (2)
الغموض وعدم الدقة؛ وذلك لأن التجديد اللغوي يتطلب معرفة تامة بالألفاظ الجديدة ومعانيها والموضوعات التي تشير إليها، وذلك لا يتأتى لكثير من الباحثين لما يتطلبه من اطلاع ومعرفة تامة بثقافتين أو بأكثر، وهذا هو سبب الغموض في التجديد اللغوي الذي يرجع أساسا إلى غموض الباحث نفسه، ويمكن الإقلال من هذا الاشتباه التام عن طريق التحليل المستمر للألفاظ، والعثور على منطق محكم للانتقال من لفظ إلى لفظ أو من معنى إلى لفظ أو من شيء إلى لفظ، كما يخفف من هذا الغموض حرية الباحث في عدم التقيد بأي معنى اصطلاحي للفظ واستعماله بالمعنى الشائع الذي يتبادر لذهن السامع لأول مرة، وإعطاء الألفاظ معاني العصر وهي المعاني العرفية، وهذا ما يحدث أيضا في تطور الحضارة وتغير معنى الألفاظ طبقا للعصور وتبعا لاستعمالات المفكرين. (3)
الأثر الخارجي؛ وذلك لأنه كثيرا ما تثير الألفاظ الجديدة شبهة التأثر الخارجي، فكثير من الألفاظ الشائعة والمتداولة في البيئة الثقافية الحالية قد يكون مصدرها بيئات ثقافية أخرى خاصة البيئة الأوروبية، ولكن نظرا لتداول هذه الألفاظ وشيوعها فقد أصبحت جزءا من الثقافة الوطنية المعاصرة، بل وتراثا إنسانيا عاما لسعة انتشارها، فألفاظ التقدم، والإنسان، والزمان، والفعل، والجماهير، والسلوك، والصراع، والطبقة، والتاريخ، والتحرر، والشعب، والعالم الثالث ... إلخ ليست خاصة ببيئة ثقافية معينة أو بمذهب فكري أو سياسي معين، بل هي ألفاظ تعبر عن ثقافة العصر ومطالبه، كما تعبر عن روح العصر، بالإضافة إلى أنه نظرا لوجود الباحث على حافة عدة بيئات ثقافية، وعلى وعي تام بالمستويات الثلاثة لكل بيئة: اللفظ والمعنى والشيء، فإن التأثر لا يتعدى الاستعارة اللفظية، وهي ليست استعارة إرادية بل تطور طبيعي عندما يسقط اللفظ القديم ويحل اللفظ الجديد مكانه؛ لأنه أكثر قدرة على التعبير عن المعنى وإيصاله،
12
وإذا كانت هناك بعض الإشارات إلى تيارات العصر أو ما يظن أنه ثقافة أجنبية أو حضارة أخرى، فهذا يحدث كموقف طبيعي لباحث ينتمي إلى حضارته وفي عصر تغزوها حضارات أخرى، كانت حضاراتنا القديمة مفتوحة أيضا على الحضارات الأخرى، وبعد عصر الترجمة استعملت لغة الثقافات المعاصرة ومذاهبها الفكرية كوسائل للتعبير، وهذا ما يحدث الآن من جديد بعد عصر الترجمة الثاني والغزو الثقافي الواقع علينا الآن منذ قرنين من الزمان، فسواء أراد الباحث أم لم يرد فإنه يستعمل لغة الثقافة المعاصرة كوسيلة للتعبير بعد أن أصبحت شائعة ومتداولة وأصبحت جزءا من ثقافة العصر يعلمها الجميع، لقد حدث نفس الشيء في الفلسفة الإسلامية قديما عندما كان فلاسفة المسلمين، الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، ذوي ثقافتين إسلامية ويونانية، وعبروا عن القديم بلغة الجديد، وقاموا بعملية التراث والتجديد التي تتم الآن مرة ثانية مع ثقافة العصر وهي الثقافة الأوروبية.
13
ولكن بالرغم من كل المخاطر والاشتباهات التي قد تحوط بمنطق التجديد اللغوي، فإن له نتائج إيجابية حاسمة، أهمها: (1)
التجديد، فبالرغم من أن حركات التجديد لم تتوقف سواء في الماضي أو في العصر الحديث إلا أنها كلها ما زالت نسبية ولم تؤد إلى نتائج حاسمة، سواء على المستوى النظري أو في التطبيق العملي، واللغة من أسباب هذا الإخفاق؛ وذلك لأن لغة المجدد ما زالت إلهية، دينية، تاريخية، قانونية، مجردة، وما زالت اللغة التقليدية تستعمل للتعبير عن المعاني الضمنية مما يؤدي إلى نقص في التعبير وفي الإيصال، لن تتحول حركات التجديد المعاصرة إلى حركات جذرية إلا بتجديد اللغة، ولن يتحول الإصلاح إلى ثورة إلا بالتخلي عن اللغة التقليدية، والتعبير عن المضمون الموروث سواء في المعنى أو في الشيء المشار إليه بلغة جديدة تتوافر فيها شروط العصر، وعلى رأسها لغة العلم التي يمكن للآخرين التعامل بها، وتحقيق ما نصبو إليه جميعا من قيام حركات للتجديد، كلية شاملة، جذرية أصلية، تكوينية جادة، لا تهدف إلا لنقل حضارتنا من طور قديم إلى طور جديد. (2)
الاتجاه الإنساني؛ نظرا لأن اللغة الجديدة تتميز بأنها عامة ومفتوحة وإنسانية فإن هذه الخصائص تتأكد أيضا في المعاني الكامنة في اللغة التقليدية وفي المواضع التي تشير إليها والتي يتم التعبير عنها باللغة الجديدة، فيظهر الجانب الإنساني العام الذي هو صفة الوحي، ومحل قصده، إن اللغة التقليدية لن تكون قادرة على التعبير عن روح العصر العامة التي تتجاوز فيها الأفكار والأبنية الاجتماعية حدود الحضارات والأوطان، وأقصى ما تستطيعه اللغة الخاصة هو استعمالها داخل الحضارة ولكن ليس خارجها، اللغة الجديدة هي الوحيدة القادرة على إيصال معاني الحضارة وأبنيتها إلى خارجها، فهي الوسيلة لتجاوز حدود الذات، وبالتالي نستطيع الكشف عما نصبو إليه من الكشف عن الإنسان في تراثنا القديم، وتحقيق مطلبنا المعاصر من الدفاع عن الإنسان والحرص على حياته وكرامته. (3)
الانتقال إلى طور جديد من أطوار الحضارة؛ وذلك لأن هدف ومنطق التجديد اللغوي هو نقل الحضارة كلها من طور إلى طور ، وذلك بالعثور على المعاني الكامنة في اللغة التقليدية والأبنية المثالية المشار إليها، والتعبير عنها بلغة العصر التي تقدمها البيئة الثقافية الحالية، وبذلك تأخذ الحضارة طورا جديدا، ونسير على سنتها منذ نشأتها، وقد تطورت الحضارات الإنسانية، وانتقلت من طور إلى آخر بفعل منطق التجديد اللغوي، فإذا كان اكتشاف العلم وحده مرهونا بنشأة اللغة فإن تاريخ الإنسانية كله مرهون بتجديد اللغة، وبالتالي نكون قد حققنا مسئوليتنا القومية تجاه الحضارة التي تشمل القديم والجديد معا ويكون المحدثون بذلك ليسوا بأقل إثباتا لمسئولياتهم القومية من القدماء. (2) اكتشاف مستويات حديثة للتحليل (الشعور)
ويمكن تجديد الموروث القديم عن طريق كشف مستويات حديثة للتحليل ما زالت مطوية فيه. هناك مستويات عامة مشتركة بين العلوم الموروثة يمكن الكشف عنها وهي في نفس الوقت إحدى مقتضيات العصر، فإذا كان منطق التجديد اللغوي قد أعطى لنا قدرة هائلة على التعبير عن المعاني والأبنية المثالية الموروثة المغلفة باللغة التقليدية فإن المستويات الحديثة للتحليل تعطينا ميدانا خصبا تظهر فيه خصوبة التراث، وأعني بمستوى التحليل المنظور الذي ينظر منه إلى التراث، وهذا لا يتم إلا برؤيا معاصرة له؛ فالتراث يمكن قراءته بمنظورات عدة كلها ممكنة، والتجديد هو إعادة قراءة التراث بمنظور العصر. ليس معنى ذلك أن القراءات القديمة له خاطئة أو أن القراءات المستقبلة له غير واردة، بل كلها صحيحة، ولكن الخطأ هو قراءة التراث من المعاصرين بمنظور غير عصري، هنا يكمن الخطأ، خطأ عدم المعاصرة.
وأهم هذه المستويات هو الشعور، والشعور مستوى أخص من الإنسان، وأهم من العقل، وأدق من القلب، وأكثر حيادا من الوعي، يكشف عن مستوى حديث للتحليل موجود ضمنا داخل العلوم التقليدية نفسها، ولكن نظرا لظروف نشأتها لم يوضع في مكان الصدارة، ولم يعط له الأولوية الواجبة، ولكن يفهم ضمنا، ويقرأ فيما بين السطور. صحيح أن تراثنا القديم يغفل البعد الإنساني لأن الإنسان كان موجودا بالفعل، وهو حامل الوحي، وصانع الحضارة، وفاتح البلاد، ولكن التنزيه هو الذي كان موضع الخطر من الداخل واتجاهات التأليه والتجسيم والتشبيه أو من الخارج من الوثنية والشرك وتعدد الآلهة. يظهر الموضوع في الحضارة عندما يغيب في الواقع. ويغيب في الحضارة عندما يوجد في الواقع، لم يظهر الإنسان واضحا في الحضارة كبعد مستقل كالإلهيات أو الطبيعيات لأن الإنسان كان موجودا بالفعل، ومع ذلك فنجد أن الإنسان وبوجه أخص الشعور موجود ولكنه متخف وراء الإلهيات وداخل العلوم التقليدية.
يظهر الشعور في البناء الثلاثي لعلم أصول الفقه في الأخبار، والمبادئ اللغوية، والأحكام؛ فتحليل الأخبار هو أساسا تحليل لشعور الراوي، وكيفية قيامه بمهمة النقل التاريخي للمأثورات الشفاهية. بل إن مناهج النقل التاريخي، التواتر والآحاد، الخاصة بالسند قائمة أساسا على مبدأ وجود الراوي، ومدى صلته بالرواة الآخرين، وما يعيب المتن من زيادة أو نقصان خاضع لذاكرة الراوي، وصحة الرواية مرهونة بتطابق السمع والحفظ والأداء. ومن مظاهر الشعور الحسية وصلته بالعالم الخارجي، وصحة النقل كلها مرهونة بشعور الراوي وموضوعيته، وحياده والتي يحددها العقل والبلوغ والعدالة والضبط والاعتقاد، وهي كلها أحوال لشعور الراوي. أما المبادئ اللغوي فهي تقوم أيضا على تحليل شعور المجتهد باعتباره شعورا لغويا منطقيا؛ فالحقيقة والمجاز يشيران إلى بعد الصورة الذهنية وهو بعد شعوري، والظاهر والمؤول يشيران إلى بعد شعوري وهي مستويات العمق في التحليل. وتحليلات العلة وأقسامها المختلفة، إن هي إلا تحليلات للعمليات المنطقية التي تدور داخل شعور المجتهد. وأخيرا تكشف الأحكام أيضا عن شعور المكلف الذي يوجه الفعل كسلوك وقصد ونية، كما يبدو الوحي كله وكأنه تحليل لشعور الشارع وأنه قائم على مقاصد الحياة الكلية، وكأن الشارع هو شعور عام يخاطب شعورا فرديا هو شعور المكلف، فالشعور إذن مستوى خصب لتحليل المادة الأصولية، ولو أنه متخف وراء المادة التقليدية. بل إن مادة الأصول وهي الأمثلة الفقهية لا تتعدى كونها مواقف إنسانية خالصة تظهر في مشكلات الفرد والجماعة؛ فهي ليست فروضا نظرية مجردة ولو أن البعض منها كذلك، كما أنها ليست أشياء طبيعية مصمتة، بل هي مواقف حية تحدث في الحياة اليومية، والإشكال الفقهي في النهاية هو أزمة شعورية تحدث للفرد أو للجماعة، والحل الفقهي إن هو إلا حل لهذه الأزمة وعلاقة المفتي بالمستفتي هي أيضا في نهاية الأمر علاقة شعور بشعور آخر.
14
ويظهر الشعور في علم أصول الدين؛ إذ يكفي تحليل الأصول الخمسة لدى المعتزلة، والتي تحدد معظم مسائل العلم لرؤية الشعور في كل أصل؛ فالتوحيد عندما يتحدد بعلاقة الذات بالصفات والأفعال هو في الحقيقة وصف للإنسان الكامل أو الإنسان كما ينبغي أن يكون، ولن نفهم حقيقة القسمة إلى ذات وصفات وأفعال إلا بالرجوع إلى الذات الإنساني وصفاته وأفعاله. وفي العدل يظهر شعور الإنسان على أنه شعور حر في أفعاله الداخلية، أفعال الإيمان والعلم، أو أفعاله الخارجية، أفعال الجوارح. وفي الحسن والقبح يظهر الشعور العاقل وقدرة الإنسان على التمييز بين الخطأ والصواب في الأفعال. وفي المنزلة بين المنزلتين يظهر الشعور على أنه أساس للفعل، ويظهر في جانبيه النظر والعمل أو النية والفعل. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يظهر الشعور على أنه الحارس المتيقظ لسلوك الآخرين وللبناء المثالي للواقع، بل إن المشاكل الطبيعية ذاتها لا يمكن فهمها إلا برفعها إلى مستوى الشعور حيث إنها عدة إسقاطات من الشعور على الطبيعة. ومسائل المعاد كلها وصورها الذهنية ترجعنا إلى الشعور من حيث هو تصوير لنهاية العالم من أجل التأثير فيه. والنبوة تفترض أساسا وجود الشعور، الشعور العام المعطى للوحي، والشعور الخاص المستقبل الذي يأخذ الوحي ثم يسلمه بدوره إلى شعور آخر. ومسائل الإمامة هي أيضا في نهاية الأمر وصف لشعور الحاكم وشعور المحكومين والعلاقة بينها، وتاريخ الفرق كله والحكم عليها بالإيمان أو الكفر هو وصف للشعور المثالي المتزن ثم ميوله واتجاهاته عندما يرتكز الشعور على جانب دون آخر؛ فمادة أصول الدين لن تحيا وتجد دلاتها إلا إذا تحولت إلى مادة شعورية وإلا إذا رجعت إلى أصلها في الشعور.
15
ويظهر الشعور في الفلسفة في نشأتها منذ عصر الترجمة، حيث يقوم المترجم بفهم العبارة الأجنبية ويحاول أن يجد لها مقابلا في لغته الخاصة، ثم عند الشارع الذي يقوم باحتواء الفكرة الدخيلة ووضعها داخل قوالب حضارته الخاصة، ثم عند الفيلسوف ذاته الذي يقوم بعملية الاحتواء الحضاري كلها، ويستعير لغة الحضارة المعروفة حديثا للتعبير بها عن معانيها الأولية التي على قوامها نشأت حضارته. هذه العمليات كلها تحدث في الشعور، في شعور المترجم أو في شعور الشارح، ومع أن قسمة الفلسفة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات قسمة لا يظهر فيها الإنسان، أو بعد الشعور، ظهورا واضحا، إلا أن المنطق ذاته أحد جوانب الشعور ولو أنه منطق صوري معياري يضع قواعد للذهن تعصمه من الخطأ. أما الطبيعيات فإنها تشخيص للطبيعة يمكن رؤية الشعور المسقط عليها بسهولة في ترتيب عناصر الطبيعة ترتيبا تصاعديا أو تنازليا حسب مراتب الشرف والكمال. والإلهيات ذاتها تعبير عن إحساس الإنسان بالكمال وتشخيصه، هذا الكمال في الموجود الأول وصفاته المطلقة، ولكن إخوان الصفا زادوا قسم النفسيات لتعلن صراحة عن عالم النفس، وهو عالم الشعور باللغة القديمة، والنص الديني نفسه أصبح عند الفلاسفة بعدا للشعور بتأويله كصورة فنية مهمتها الإيحاء والتأثير في النفوس.
وقد ظهر الشعور بصورة واضحة للعيان في التصوف، بل إن التصوف إن شئنا هو علم الشعور كما يبدو من علوم الأخلاق والنفس والفلسفة التي تتخلل مراحل الطريق الصوفي؛ فتصفية النفس، والتشبه بصفات الكمال، والتوبة، والخوف، والحزن، والبكاء، كلها أفعال للشعور. وأحوال النفس وما يعتري النفس من قبض وبسط، خوف ورجاء، صحو وسكر، غيبة وحضور، وجد وفقد، قرب وبعد، بقاء وفناء، كلها أحوال شعورية خالصة، حتى يصل الصوفي في النهاية إلى وحدة الذات أو وحدة الشهود أو وحدة الوجود، وهي أيضا حالات شعورية ناتجة عن اتحاد صاحب الدعوة برسالته واتحاده بالحقيقة، كما أن علاقة الشيخ بالمريد علاقة شعور بشعور وتراسل بين الذوات، ومعرفة الصوفية معرفة شعور من شعور، وسعادته اتحاد شعور بشعور.
ونصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور، إما في الشعور العام الشامل وهو ذات الله أو في الشعور المرسل إليه والمعلن فيه، وهو شعور الرسول أو شعور المتلقي للرسالة، وهو شعور الإنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقا لما طلب. الوحي ذاته مجموعة من الآيات نزلت إبان ثلاثة وعشرين عاما، كل آية أو كل مجموعة من الآيات تمثل حلا لموقف معين في الحياة اليومية لفرد أو لجماعة من الأفراد. نصوص الوحي ليست كتابا أنزل مرة واحدة مفروضا من عقل إلهي ليتقبله جميع البشر، بل مجموعة من الحلول لبعض المشكلات اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة، وكثير من هذه الحلول قد تغيرت وتبدلت حسب التجربة على مقدار الإنسان وقدرته على التحمل، وكثير من الحلول لم تكن كذلك في بادئ الأمر معطاة من الوحي بل كانت مقترحات من الفرد أو الجماعة، ثم أيدها الوحي وفرضها، وهذه الخاصية توجد في الوحي في آخر مراحله وهو الوحي الإسلامي، فهو ليس عطاء من الوحي بقدر ما هو فرض من الواقع وتأييد الوحي له، وهذا هو معنى «أسباب النزول».
وما ينطبق على الكتاب ينطبق على السنة؛ فالسنة مجموعة من المواقف الإنسانية يعمل فيها شعور النبي، ويقوم بدور المشرع للواقع إما بناء على الوحي الأول أو بناء على وحي جديد أو على الفهم التلقائي للنبي لهذا الواقع. وقد كان النبي قبل نزول الوحي وبعده يعيش ويتأزم، ويفرح ويتألم، يأمل وينتظر، فكانت له تجارب شعورية، وكان الوحي الذي ينتظره ثم يأتيه تفريجا عن هم أو حلا لإشكال، أي أن علاقة النبي بالوحي كانت علاقة شعورية وعلاقتنا نحن بالنبي علاقة شعورية أيضا باتخاذنا إياه قدوة حسنة ومثال للسلوك.
وما ينطبق على الكتاب والسنة ينطبق على الإجماع والاجتهاد؛ فالإجماع تجربة مشتركة تتم في شعور الجماعة، ويصدر الحكم نتيجة لعديد من العمليات الشعورية يتدخل فيها نص الوحي من الكتاب والسنة كعامل كما تتدخل فيها التجربة المشتركة والواقع المشكل كطرف آخر. والاجتهاد أيضا عمل شعوري خالص يقوم به المجتهد ابتداء من فهمه لنصوص الوحي في الكتاب والسنة وعلمه بالتجارب المشتركة السابقة ورؤيته للواقع المشكل رؤية مباشرة لمعرفة طريقة تغييره إلى واقع مثالي مطابق للوحي، فالمنهج الأصولي إذن كله بأدلته الأربعة منهج شعوري، كما أن المنهج الصوفي منهج شعوري، وعلم الكلام علم شعوري، وعلوم الحكمة علوم شعورية. والشعور هو وصف حقيقي للمعرفة وللوجود إجابة على سؤالي: كيف يحصل الإنسان على معرفة وكيف يعيش الوجود؟ لا شيء في العالم الخارجي يمكن إدراكه ومعرفته إلا من خلال الشعور، والتصورات لا تفكر بل تعمل من خلال الشعور، والأشياء لا تعني إلا من خلال الشعور؛ فالشعور هو موطن المعرفة والوجود معا لأنه هو ذاته معرفة ووجود، فهو الذات العارفة وهو الوجود الإنساني في آن واحد. نحن ما نشعر به والعالم هو ما نشعر به، وعلمنا نتيجة لشعورنا بالعالم، ووجودنا ووجود العالم هو ما نشعر به، فالبداية بالشعور بداية يقينية لا تسبقها بداية أخرى.
والشعور أيضا مطلب من مطالب العصر، وكثيرا ما نجد في أدبنا المعاصر دعوة إلى الإحساس بما يدور حولنا، ونداء لليقظة الداخلية، وخطابا موجها مباشرة إلى شعورنا. يقظة الشعور هو هدف المصلح، وغاية المجدد، أمل المفكر، وبغية الثائر، وهو أن يعي الإنسان موقفه في الحياة حتى يشعر بذاته وبما حوله وبأبنية الواقع التي هو غارق فيها، ومدى بعدها عن الأبنية المثالية في الوحي، وعندما نعاني أزماتنا وهزائمنا وانتصاراتنا فإننا نعانيها بالشعور، وعندما نحس بالمرارة والألم والعار والتسول فإنما نحسها بالشعور، وعندما يحاول الطاغية استعباد الناس يلهيهم ويبعدهم عن دائرة الشعور؛ فالفقر هو شعور بالفقر، والاحتلال شعور بالاحتلال وإلا لما ثار الناس ضد الفقر ولما حاولوا تحرير أراضيهم، كذلك كثرت في أدبنا المعاصر تحليلات الشعور ووصف ما يعتري في نفوس الناس من تمزق وحيرة وألم وضياع.
والشعور أيضا جزء من بيئتنا الثقافية المعاصرة التي انطبعت بطابع الثقافات الملاصقة وأصبح موضوعا شائعا. لقد استطاعت الحضارة الأوروبية بعد نضال دام أكثر من أربعة قرون إثبات الإنسان والشعور الإنساني كنقطة بدء يقينية ليس قبلها شيء، وكل شيء بعدها يكون من خلالها، وهذا هو معنى الكوجيتو الديكارتي واستمرار النضال باسم الشعور حتى تأكد مرة ثانية في القصدية عند هوسرل، وبعد عصر الترجمة الثاني الذي بدأ لدينا منذ قرنين أصبحت لغة الشعور متداولة وصار بعد الشعور شائعا؛ فالشعور وارد من التراث والتجديد على السواء . لغة الشعور لغة شائعة ومعروفة وموجودة في المخزون النفسي عند المثقفين المعاصرين كما كانت ألفاظ السندس والاستبرق ومفاهيم الله والرحمن شائعة في المخزون النفسي في الشعور العربي القديم. (3) تغيير البيئة الثقافية
وواقع البيئة الثقافية مستوى ثالث للتحليل؛ وذلك لأن العلوم التقليدية نشأت في واقع معين له ظروفه وملابساته، وثقافته أدت إلى نوع معين من المادة العلمية التي تعكس تماما المشاكل التي تعرضها هذه الظروف والملابسات، نشأت العلوم التقليدية من واقع الحضارة القديمة وعلى مستواها الثقافي وفي واقعها التاريخي، وهذا الواقع حدد بناء كل العلم، ماهيته، ومناهجه، ونتائجه، ولغته، فالعلوم القديمة بهذا المعنى ليست علوما مطلقة ثبتت مرة واحدة وإلى الأبد بل هي علوم نسبية حاولت التعبير عن الوحي في إطار نوعية الثقافة الموجودة في العصر القديم، هناك إذن فرق بين العلم ومادته، فالعلم بناء عقلي قد يعرض في مادة معينة أو غيرها في حين أن المادة تعطيها البيئة الثقافية المحددة في الزمان والمكان، البناء لا يتغير ولكن المادة تتغير، وهذا ما أوله الفلاسفة المسلمون في شروحهم على أرسطو، خاصة ابن رشد، وذلك بالإبقاء على بناء العلم العقلي، ثم إسقاط المادة اليونانية واستبدال مادة إسلامية بها، وهذا أيضا ما فعله الفقهاء وشارح المنطق بإسقاط الأمثلة اليونانية واستبدال أمثلة من الكتاب والسنة بها.
16
فمثلا يغلب على الفقه القديم طابع العبادات ولا تأتي إلا في الدرجة الثانية؛ وذلك لأن العبادات كانت تكون سلوكا جديدا للناس، وكانت أهميتها أنها تعطي للناس سلوكا شرعيا في حين أن المعاملات كانت موجهة بالوحي، ولم تكن هناك حاجة ماسة لتفضيل المعاملات أو لإعطائها الأولوية على العبادات، ولكن الواقع الآن قد تغير، والظروف قد اختلفت، فالعبادات لدينا قائمة بل ومسيطرة ومهيمنة، ولكن المعاملات هي الضائعة المنزوية، فتجديد الفقه القديم يحدث بإعطاء الأولوية للمعاملات على العبادات لأن المعاملات هي موطن الأزمة، وقد يكون هذا أقرب إلى روح الوحي الذي فيه المعاملات عبادة، وبذلك نقضي على التصور الموروث للعبادة على أنها مجرد التوجه نحو المعبود بالشكر والثناء،
17
وعلى نفس النحو، كانت للعلاقات الشخصية في الفقه القديم، أحكام الزواج والطلاق والمواريث ... إلخ الأولوية على العلاقات العامة التي تشمل علاقات الحاكم بالمحكوم، وروجنا لهذه المادة في عصرنا الحاضر بعد ضمور التشريع واقتصاره على الأحوال الشخصية ما دام المعاصرون قد قبلوا الأوضاع الحالية واستسلموا للحكام، وحددوا علاقاتهم معهم على أساس الطاعة والولاء أو التبرير والنفاق وإلا فالسجن والعقاب، في حين أننا في العصر الحاضر في حاجة إلى تغيير المادة الفقهية القديمة وإعطاء الأولوية لعلاقات الحكام بالمحكومين على علاقتهم الشخصية، فمأساتنا هي في نظم الحكم وليست في نظام الأسرة، ومشاكل الأسرة من طلاق وتربية للأطفال، ليست مشاكل فردية ترجع إلى أخلاق الناس بقدر ما هي مشاكل اجتماعية يحددها وضع الأسرة الطبقي ودخلها ومهنتها وطبيعة النظام السياسي الذي تعيش فيه، وعلى نفس النحو إذا كان الجدل قد تم في العصر القديم بل أهل الأثر في الحجاز وأهل الرأي في العراق، وكثرت الأمثلة الفقهية المفترضة ابتداء من النص أو من الرأي دون أن يكون لها أدنى وجود في الواقع مثل: ما حكم بيضة خرجت من دجاجة بعد أن جامعها رجل هل يجوز أكلها أم لا؟ ما حكم امرأة أقسم بعلها أنها طالق لو جامعها في هذا الثوب أو لم يجامعها في هذا الثوب؟ ما حكم وصية كتبها رجل وهو بين أنياب الأسد؟ هذه الأمثلة الفقهية الافتراضية حدثت من ارتياح الناس لمعاشهم وشغل أوقاتهم بالواقع الافتراضي الخالص حتى يظهروا عبقرياتهم في صياغة الحلول، أما الآن فواقعنا متأزم إلى درجة الاختناق، وحياتنا ذل وعار من الاحتلال ووجودنا كله مهدد بالفناء، والأرض ضائعة، والناس سكرى باللهو، ومنتشية بالغناء والرقص، والروح تضمر، والنهاية تقترب، فمادة التشريع المعاصرة مادة موجودة بالفعل، ومادة ملحة لأنها تنبع من واقعنا وحياتنا ووجودنا، وإذا كان الفقهاء قديما قد اختلوا وتصارعوا في حكم الصلاة في الدار المغصوبة فمن منا يذهب إلى الصلاة في فلسطين؟ ومن منا يعبر القناة أو الأردن للصلاة في القدس؟ نداء الصلاة يشنف الآذان والدار مغصوبة.
وفي علم أصول الدين كانت المشكلة القديمة هي مشكلة التوحيد ضد أخطاء التأليه والتجسيم والتشبيه والشرك وتعدد الآلهة، ومن ثم ظهر التوحيد القديم في هذه المادة، وتشبعت الأسئلة عن اليد، والعين، والوجه، والصعود، والنزول، والاستواء، ولكنهم كانوا منتصرين على الأرض، وكانوا فاتحين للبلاد، محررين لسائر الجماعات البشرية فكرا ونظما، أما الآن فالوضع يختلف، فالتوحيد كتنزيه ليس في خطر بل يعلم الناس كلهم اليوم أن المعبود ليس كمثله شيء وهو منزه عن صفات البشر، ولكن الأرض هي الضائعة، والناس مهزومة، والجماعة تتهاوى، والنظم تتساقط، والروح مستذلة ومستعبدة، ومن ثم يمكن لمادة التوحيد أن تتغير، فالمادة القديمة مرتبطة بعصرها، ومادتنا مرتبطة بعصرنا، وكيف يستمر قيام علم التوحيد على المادة القديمة؟ ومن ثم فتوحيدنا هو لاهوت الأرض، ولاهوت الثورة، ولاهوت التحرر، ولاهوت التنمية، ولاهوت التقدم، كما هو الحال في عديد من الثقافات المعاصرة في البلاد النامية التي نحن جزء منها.
18
وكذلك مشكلة خلق القرآن، كان القرآن قديما حيا في قلوب الناس ومطبقا في الواقع، وكان من ترف العقول البحث في الصلة بين القرآن ومصدره، ثم دخلت المشكلة كجزء في التوحيد الذي كان معرضا للخطورة في ذلك الوقت، ولم يدخل كطرف مع الواقع لأن الواقع القديم لم يكن مشكلا بل كان قائما موجودا صلبا، أما الآن فهذه المادة كلها لا دلالة لها؛ لأن التنزيه ليس معرضا للخطر، ولكن موطن الخطر هو الواقع المهاجم، ومن ثم فالمادة الحالية هي صلة النص بالواقع، ولمن له الأولوية: هل يفهم الواقع بالنص أم يفهم النص بالواقع؟ وهل يمكن التنظير المباشر للواقع دون النص؟ وهل يمكن أن يوجد نص بدون واقع؟
19
وحتى إذا عرض القدماء للصلة بين النقل والعقل، وهو وضع أفضل لمسألة النص من مشكلة خلق القرآن، فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن العقل أساس للنقل، وحتى في هذه الحالة يغيب الواقع، وهو أزماتنا المعاصرة، ويكون السؤال عقل من؟ عقل الغني أم عقل الفقير؟ عقل المضطهد أم عقل المضطهد؟ ويفرض الواقع الاجتماعي نفسه على المادة القديمة ،
20
ويمكن أن نقول نفس الشيء في مشكلة خلق الأفعال ، فحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله نازعها المعبود في المادة القديمة وأصبحت المشكلة الكبرى أيهما حر: الإنسان أم الله؟ كان هذا طبيعيا في عصر يود تأسيس التوحيد ضد المخاطر القديمة من الدهرية خاصة، ولكن الآن ليست الحرية في خطر من المعبود الإلهي إلا من الإيمان بالقضاء والقدر، ولكنها في خطر من المعبود السياسي أي من الحكام وهم معبودو اليوم، وفي خطر من الأنظمة الاجتماعية التي تقوم أساسا على إلغاء حرية البشر أو على افتراض أن البشر لا وجود لهم على الإطلاق،
21
ولما كانت المادة الكلامية القديمة قد تناولت الطبيعة أيضا من حيث صلتها بالمعبود الإلهي، هل الطبيعة عاصية عليه أم طيعة له؟ هل القوانين الطبيعية مستقلة بذاتها أم معتمدة عليه يمكنها أن تتوقف لتسمح له التدخل والفعل فيها؟ فإنها قد تكونت لتعبر عن نفس القضية وتدرأ نفس المخاطر التي كانت تهدد التوحيد القديم وأفكار العناية الإلهية وفعله في الكون، ولكن الآن هذه المخاطر قد تبددت بل إننا نواجه المخاطر المضادة، وهي عدم الاعتراف بالطبيعة على الإطلاق وإنكار استقلالها وجعلها خاضعة لسلطان أعظم يفعل بها ما يشاء، وكثيرا ما يكون السلطان هو الحاكم، وتقدس السلطة السياسية ذلك إمعانا في تثبيت دعائم الاستبداد، ويغذي الوضع السياسي الفكرة الدينية كما تثبت الفكرة الدينية الوضع السياسي القائم.
وتكثر في الفلسفة الأمثلة على أن مادة الفلسفة القديمة لم تعد صالحة للعصر الحاضر لارتباطها بظروف العصر الماضي، فمثلا نظرية العقول العشرة التي تدبر الأفلاك العشرة، ونظرية العقل الفعال الذي يدبر فلك الأرض، والحاوي لكل أنواع المعارف والعلوم، والواهب لكل الصور والعقولات، وقسمة العالم إلى ما فوق القمر وما تحت القمر، وتحديد كل شيء في هذا العالم طبقا لحركات الأفلاك واعتبار الأفلاك كائنات حية مشخصة وعاقلة، مدركة وحاسة، تقدر مصائر الناس ومظاهر الطبيعة، كل ما يتعلق بالفيض والصدور، كل ذلك أدخل في علم الفلك القديم وفي الأساطير القديمة استعملها الفلاسفة القدماء للتعبير من خلالها عن التوحيد الذي هو الموجود الأول الذي لا يحتاج في وجوده إلى غيره، والذي هو علم وحياة وقدرة وحكمة وعظمة وجلالة، أما الآن فهذه المادة لم تعد بذات دلالة، فالأفلاك موضوع لعلم الفلك، والطبيعة موضوع لعلم الطبيعة، والعقل والنفس موضوعات لعلم النفس، والتوحيد ذاته موضوع لعلم النفس والاجتماع لتحديد نشأة الأفكار الدينية في ظروف نفسية واجتماعية معينة اضطهاد أو غلبة.
إن الخطر علينا الآن هو الخرافة والأسطورة والخلط بين المستويات، وبيئتنا الثقافية الحالية حبلى بالمذاهب والتيارات الفلسفية والسياسية والاقتصادية والفنية والقانونية والخلقية من الحضارات المجاورة، فمادتنا الحالية يمكن أن تنشأ بتحديد موقفنا الحضاري بالنسبة للثقافات الغازية كما حدد القدماء موقفهم الحضاري بالنسبة للثقافات القديمة،
22
وبالإضافة إلى ذلك فإن مادة الفلسفة مليئة بالإشراقيات، وأن الإنسان ليس حسا فقط أو عقلا فقط، بل هو أكثر من ذلك عين وبصيرة وحدس، وإلهام وكشف، ونبوة ووحي، وقد كان ذلك طبيعيا في ثقافة قديمة يغلب عليها العقل، ولم تتعود على نبوة، فكان طبيعيا أن يقابل المسلمون العقل المطلق بالعقل الملحق بالنبوة، ويعادلوا الفلسفة بالتصوف، كما وضح ذلك في الفلسفات الإشراقية، ولكننا الآن نعاني من الإشراقيات، ونقاسي من الخرافة، ونتخبط لغياب العقل ونقص التنظير، ولا أحد منا يضع النبوة موضع الشك، ومن ثم فالمادة المعاصرة مادة عقلية تقف أمام أخطاء الإشراقيات القديمة أو المعاصرة في الحديث عن أهل الجنة والنار، وسيد شباب الجنة، وملائكة الرحمة والعذاب، وبالإضافة إلى ذلك كان خلود النفس الفردية جزء من مادة الفلسفة القديمة، وكان ذلك طبيعيا أمام بيئة ثقافية تقول إما بفناء النفس أو بخلود العقل الفعال حتى يتصل الإنسان به، ويتحد معه، وجاءت البراهين العقلية والحسية لإثبات تميز النفس عن البدن وخلود النفس الفردية، ولكن الحال الآن تغير، ولا أحد منا يشك في تميز النفس عن البدن أو ينكر خلود النفس الفردية، بل إننا نعاني من هذا اليقين المتطهر الذي يزكي فيه الإنسان نفسه تاركا لبدنه العنان إما للغنى والترف أو للفقر والحرمان، كما أننا نعاني من الخلود الفردي الذي يحاول فيه كل إنسان أن يفقد نفسه تاركا الآخرين، مشبعا في نفسه الرغبة في الحصول على درجة أعلى في السماء تساوي درجته على الأرض ووضعه الطبقي في المجتمع، المادة الحالية هي إثبات اتحاد النفس بالبدن، وأنه لا نفس هناك لبدن عار، وجسد هزيل، ومعدة خلوية، وفم جائع، المادة الآن هي طلب الخلود للبدن، لهذا صاح أحد الثوار المعاصرين: كيف نثبت أن النفس لا تموت إذا كان البدن هو الذي يسبب الموت؟
23
كيف نطلب خلودا فرديا للنفس، درجة عالية في السماء، ونحن نقاسي من الأوضاع الطبقية في الأرض؟
والأمثلة كثيرة أيضا من التصوف القديم على ضرورة إسقاط المادة القديمة التي نشأت في ظروف معينة، وأمام بيئة ثقافية خاصة، فقد نشأ التصوف أولا كحركة زهد وعبادة، وكدعوة للأخلاق الحميدة كحركة توازن حضاري أمام حركة البذخ والترف والمجون، وكحركة مقاومة سلبية خالصة ترى التغيير في الداخل قبل الخارج، وإلى أعلى وليس إلى أسفل، وإلى الوراء وليس إلى الأمام، ودعا إلى الزهد والبكاء والخوف والحزن، في حين أن مادة التصوف الحالي لا تستلزم بالضرورة أن نكون من هذا النوع، فقد ينشأ تصوف كحركة إيجابية لمقاومة تيار الظلم والعدوان والوقوف أمام الطبقات المستغلة المترفة فيكون تصوفا إلى الخارج وليس إلى الداخل، إلى أسفل وليس إلى أعلى، إلى الأمام وليس الوراء، ومادة التصوف الحالية بالنسبة لظروف العصر قد تدعو الجماهير المعدمة إلى المطالبة بحقوق البدن لا إلى الزهد لأنه ليس لديها ما تزهد فيه، وإلى الشجاعة لا إلى الخوف لأن الناس خائفون من قبل، وإلى المرح لا إلى البكاء لأنهم يولولون ليل نهار، وإلى الفرح لا إلى الحزن لأنهم يصيحون حزانى ويمسون حزانى بالرغم مما يبدو عليهم من مظاهر البهجة أو التفريج عن النفس بالنكتة،
24
وما قيل عن الإشراقيات في الفلسفة يقال هنا أيضا عن العلوم الكشفية في التصوف القديم فقد نشأت العلوم الكشفية في التصوف كرد فعل على بيئة معينة يسودها العقل كما وضح في الفلسفات العقلية وفي التيارات الكلامية العقلية، وظهرت الأحوال النفسية في التصوف من قبض وبسط، وغيبة وحضور، وصحو وسكر، وفقد ووجد، وهيبة وأنس، وبقاء وفناء ، كرد فعل على المقولات العقلية من كيف وكم، وجهة وإضافة، وزمان ومكان، وجوهر وعرض، وفعل وانفعال، وكلي وجزئي، وعام وخاص، وظهرت المقامات من توبة وزهد، ورضا وقناعة، وصبر وتوكل، وشكر وصدق كرد فعل على الجشع والطمع، والطموح والرغبة، والمنافسة والكسب، ولكن هذه البيئة القديمة قد تغيرت ولا نقاسي نحن الآن من سيادة العقل والعلوم العقلية حتى ننحو نحو الكشف والعلوم اللدنية، ولا نعاني من سيادة المقولات العقلية وسيادة انفعالات النفس، وليست أزمتنا الحالية في الجهد والكسب والعمل والحرص بل إن مأساتنا في الصبر الطويل، وفي الرضا بالقليل، وفي التوكل على الغير، وفي القناعة بالمقسوم، مادة التصوف الحالية هي عقلية تدعو للعمل والجهد والمطالبة والمقاومة، وفي هذه الحالة لن يكون تصوفا بالمعنى التقليدي، بل يكون تصوف المقاومة، وتصوف الرفض، وتصوف الثورة، ويأخذ التصوف هنا معنى عاما، وهو معنى الإحساس بالرسالة والتضحية من أجلها، وإذا كانت مادة التصوف القديم تعلن عن اتحاد الإنسان بذات مشخصة حتى يسقط الإنسان حريته وتدبيره، ويسقط شخصه وذاته ويفنى في الكل فإن الظروف التي تسببت في نشأة هذه المادة قد تغيرت وجدت ظروف أخرى تستدعي من الإنسان المعاصر أن يثبت حريته وتدبيره، وأن يؤكد شخصه وذاته، وأن يفنى الكل فيه، لقد حاول الصوفي القديم تحقيق وحدة الواقع والمثال فبدل أن يحقق ذلك بالفعل وفي الواقع حققه بالعاطفة وفي الخيال، فأحس بأن الواقع هو المثال مع أن الواقع ظل بعيدا عن المثال، ولكن مادة اليوم التي تفرضها ظروف العصر هي وصف لجهد الجماهير في تحقيق مطالبها بالفعل وليس في الخيال، بالجهد وليس بإحساسات العاطفة، وفي التاريخ وليس فيما وراء التاريخ.
وهناك مشاكل تاريخية خالصة لا تلزم العصر الذي نعيش فيه حيث هي وقائع أو سلوك مصيب أو مخطئ، ولكن قد يهمنا فقط معناها ودلالتها، مثل كل الخلافات بين الفرق وعلى رأسها السنة والشيعة وأي الخلفاء كان أولى بالإمامة، كل ذلك حوادث تاريخية صرفة ووقائع لا تهمنا إلا من حيث إنها تحقيق لنظم، وحتى في هذه النظم، يفرض واقعنا المعاصر نظمه، ولا يحتاج إلى شرح للنصوص أو تأويل للماضي مناف لتطور الحاضر ومانع له.
ويمكن تجديد مادة العلم القديمة باتباع مراحل ثلاث: (أ)
تخليص الموضوع الأولي من كل الشوائب الحضارية التي علقت بالمعنى الأولي للنص سواء فيما يتعلق بطريقة عرضه أو فيما يتعلق بنتائج فهمه وتحليله، فكلاهما مرتبط بفترة محدودة من تطور الحضارة وبمستواها الثقافي، وكثيرا ما يضيع الموضوع نفسه داخل هذه الشوائب نفسها التي تحل محله وتصبح بديلا عنه وكأنها هي الموضوع، وهذه الشوائب إما حجج عقلية يتحول من خلالها الموضوع الحسي المباشر إلى موضوع صوري محض أو شوائب تاريخية مادية يتحول أيضا الموضوع من خلالها إلى وقائع مادية كمية، إظهار الموضوع يقتضي التخلص من هذه الشوائب الصورية والمادية على السواء ثم يرجع به إلى الموضوع الأصلي، وإلى المعنى الأولي للنص، وقد قام الفقهاء بهذا الدور خير قيام إذ إنهم في كل عصر نفضوا عن النص ما علق به من شوائب حضارية، صورية أو مادية، بيئية أو مزاجية، ورجعوا إلى النص الخام يحرصون على معناه بكل ما فيه من تصوير وتخييل، فالنص ذاته أضمن من كل عمل حضاري عليه، فالفكر الفقهي أساسا فكر تطهري، وظيفته تخليص النص من الشوائب الحضارية والمتاهات العقلية، وكثيرا ما فضل الفقهاء الضرب أو السجن على الإدلاء برأي في نص لم يذكر عن الرأي شيئا،
25
وأكثر من ذلك توجيه النص ضد الفكر الدخيل نقدا وتفنيدا وهدما، ففي نفس الوقت الذي يتم فيه شرح المنطق الصوري باعتباره منطقا ممكنا للفكر على يد الفلاسفة يتم رفضه من الفقهاء والأصوليين باعتباره منطقا أقل اتساعا من المنطق الشرعي وهو منطق الوحي، والفكر الفقهي كله هو في الحقيقة هذا التطهير المستمر للنص، والانتقال من مجرد الدفاع إلى الهجوم على الثقافات المغايرة وتفنيدها باعتبارها معارضة للشرعي والعقلي على السواء.
26 (ب)
يعاد بناء الموضوع الأولي، وهو المعنى الأولي للنص، بعد أن تخلص من الشوائب الحضارية في الخطوة الأولى، يعاد بناؤه داخل الشعور باعتباره موضوعا مستقلا له بناؤه الداخلي وله وضوحه النظري ووسائل التحقق منه في داخله، في الشعور أو في الواقع، يتم بناء الموضوع في الشعور عن طريق البدء المطلق، ومحاولة العثور على نقطة بديهية أولى وواقعية يقينية يتم عليها باقي البناء النظري، ثم يبدأ في بناء الموضوع خطوة حتى يتم بناؤه كلية، ويكون تقسيم المقال هو بناء الموضوع نفسه، وفي هذه الحالة تكون أسس البناء النظري أسسا شعورية، إذ إن الموضوع يتم بناؤه في الشعور، وينصب جهد الباحث حينذاك في البحث عن الماوراء الشعوري للموضوع، والصوفية هم الذين قاموا بهذا البناء الشعوري للموضوعات الأولية خير قيام، حيث قامت المعاني الأولية كلها للوحي على أساس شعوري بالرغم من وقوعهم في خطأ الاتجاه، فاتجهوا إلى أعلى بدلا من الاتجاه إلى الأمام، كما اتجهوا إلى أغوار الشعور وأعماقه بدلا من الاتجاه إلى التركيب الطبقي للمجتمع، أي تحليل شعور الفرد منعزلا عن شعور الجماعة وليس داخلا فيها. (ج)
إطلاق المعنى حتى يتجاوز حدود اللفظ نفسه، ويصبح نوعا آخر من الوجود المطلق، وتصبح المعاني مبحثا من مباحث الوجود العام، يمكن إطلاق المعنى ابتداء من المعنى الاشتقاقي للفظ والذي يحتوي على المعنى الأصلي له، والذي يكشف عن الأصل الحسي في العالم الخارجي، والذي يمكن بعد إطلاقه تحويله إلى وجود عام، وكذلك يمكن إطلاق المعنى المجازي للفظ والذي يحوي في باطنه إمكانية إطلاق المعنى وتجاوزه من المعنى الأصلي عن طريق التشابه أو الالتزام أو الاستعارة، كما يمكن ربط المعنى المطلق بالمعنى العرفي حيث يتم إيصال المعنى الأولي بعد إطلاقه إلى مادة العلم الحالية، والمعنى العرفي موجود في روح الشعب كما يتضح في الأمثال العامية والحكمة الشعبية،
27
والفلاسفة هم الذين قاموا بهذا الإطلاق للمعاني خير قيام، فقد حولوا عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، وتحولت المعاني إلى وجود كما تحول المعبود ذاته من «ثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا» أي من نظرية في الله إلى نظرية في الوجود، ولم يعد الله هو الذات والصفات والأفعال، بل الموجود الأول القائم بذاته، فالحقائق ليست ماهيات بل موجودات، والله ذاته ليس ماهية بل وجود، كما أطلق الفلاسفة المعاني المجازية بالتأويل، وأطلقوا المعاني الأولية إلى معان عامة لا يدركها إلا الفيلسوف.
28
ولما كان الهدف من تغيير البيئة الثقافية هو اكتشاف العصر الحاضر ومكوناته ووضعه بدلا من العصر القديم، فإنه يمكن أيضا القيام بالخطوات الثلاثة الآتية: (أ)
تحليل الفكرة القديمة بعد تخليصها من شوائبها الحضارية وإعادة بنائها في الشعور وإطلاق معناها إلى أقصى حد حتى يمكن أن تصبح نموذجا للفكر، وموضوعا مثاليا يمكن أن يكون نسقا لغيره من الموضوعات، ومعرفة احتمالاتها المختلفة، وأوجه ظهورها، ومن ثم يصبح التراث معقولا، وليس مجرد موروث منقول من الماضي، لنا فيه رؤية واضحة، ونكون على علم تام به. (ب)
تحليل الواقع المعاصر وذلك عن طريق التنظير المباشر للواقع وإدراك روح العصر من الأمثال العامية والنكات الشعبية والأعمال الأدبية، خاصة شعر الأدباء الشبان وقصصهم والملاحظة المباشرة على رجل الشارع وعلى سلوك الجماهير، والمعاناة من مآسي العصر والعيش في مآسيه، والانفعال بأحزانه وأفراحه، فالباحث ابن عصره كما كان الصوفي ابن وقته، والاستعانة بالإحصائيات، وتحويل الواقع إلى لغة كمية ولو أن الإدراك المباشر للواقع يكون مطابقا أيضا للتحلي الإحصائي الكمي، أي أن الباحث هنا هو ابن البلد بذكائه ولمحاته، وبصيرته وحسه المباشر، وإدراكه الفطري. (ج)
مقابلة الأولى بالثانية من أجل إيقاف الفكرة الأولى على أحد أوجهها طبقا لروح العصر، أو تركيب الأولى على الثانية وتأسيس الموضوع المثالي على الواقع العصري، وإعطاء النفس بدنا، والروح طبيعة، والفكر واقعا، والله عالما، وهنا لا يخطئ الباحث فهو ليس مسئولا عن الموضوع المثالي ولا عن روح العصر، وإنما مسئوليته في توجيه أحدهما بالثانية والربط بين القديم والجديد، وإحياء التراث، وتأصيل العصر.
خامسا: موضوعات التجديد (إعادة بناء العلوم)
وبالإضافة إلى طرق تجديد التراث التي تعم العلوم الدينية العقلية جميعا، هناك طرق أخرى خاصة يمكن بها إعادة بناء كل علم على حدة، وهذه العلوم هي موضوعات التجديد، وإعادة بنائها هو التجديد، ويمكن إجمال هذه الطرق في الآتي: (أ)
وصف كيفية خروج كل علم منها من النص الديني عن طريق الفهم بالحدس المباشر للنصوص المحكمة أو التفسير اللغوي أو الشعوري للنصوص المتشابهة طبقا لظروف العصر التي سببتها، وهو ما يمكن تسميته «بمنطق التفسير». (ب)
وصف العمليات العقلية التي حددت طبيعة الظواهر الفكرية والتي هي وراء بناء العلوم، وهي عمليات عقلية واحدة تنشأ في كل حضارة تبدأ من معطى مركزي هو الوحي، وبمعرفتها يمكن إعادتها من جديد ابتداء من العصر الحاضر، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق الظواهر». (ج)
تحديد الظواهر الإيجابية والسلبية في كل علم، وفهم البناء النظري للظاهرة الإيجابية؛ إذ إنها هي التي تحدد البناء النظري العام للعلم نفسه، وكذلك فهم مصدر الظاهرة السلبية، وأسباب نشأتها، ومدى غربتها عن النصوص، ومقدار بعدها عن الظواهر الإيجابية، وبيان أوجه النقص في المغالاة الفكرية أو في اختلال توازن الظاهرة، ثم محاولة تحويلها إلى ظاهرة إيجابية أو تلاشيها تماما، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق التقييم». (د)
نقل كل البناء النظري السابق بعد نقده وتمحيصه على أساس نظري جديد لإعطائه أبعادا جديدة سواء من حيث اللغة التي يعبر بها، ومن حيث الكشف عن مستويات جديدة للتحليل، أو من حيث المادة التي يقدمها الواقع الجديد، وهذا ما يمكن تسميته «بمنطق التجديد».
وإعادة بناء العلوم تتجاوز مجرد إصدار أحكام خاصة أو عامة على مشكلة أو على موضوع أو على علم من العلوم، فبدل إصدار الأحكام يقوم الوصف بمهمة تفسير نشأة هذه العلوم وتطورها واكتمالها في بناء نظري محكم، وبذلك يمكن تجنب الأحكام الجزئية والتعسفية والشخصية، وينفذ الحاكم إلى صميم الموضوع بل ويتحد معه ويعاصره في نشأته وتكوينه، ويمكن أن يقال إن كل حكم هو نقص في الوصف.
فإن قيل: كيف يمكن دراسة الحضارة الإسلامية أو العلوم الدينية العقلية وإصدار أحكام عليها أو إعادة بنائها والمفقود منها أكثر من الموجود وغير المنشور منها أكثر من المنشور؟ قيل: يمكن للوصف أن يعطي صورة كاملة لبناء وتطور الحضارة الإسلامية بالرغم من أن كثيرا من الأعمال لم تنشر بعد وذلك للآتي: (أ)
مادة العلوم التقليدية المنشورة حاليا يغلب عليها طابع التكرار، فمثلا إذا كان هناك في علم أصول الفقه ثلاثون كتابا منشورا فإن كل كتاب متأخر يكرر المادة التي في الكتاب الذي قبله ويزيد عليه لدرجة أنه يمكن اختصار الثلاثين إلى عشر، أهمها أول مؤلف نشأ فيه العلم، وآخر مؤلف اكتمل فيه العلم وأصبح له بناء نظري محكم، فالأعمال غير المنشورة لن تؤثر كثيرا في اكتمال الوصف الذي يمكن القيام به على أساس من الأعمال المنشورة، ولكن يستحسن بقدر الإمكان الاطلاع على غير المنشور فلربما كان فيها جرأة أكثر نظرا لظروف معينة في الماضي، وتكون هذه الجرأة معينة في إعادة البناء على ظروف مشابهة في العصر الحاضر. (ب)
كثير من الأعمال هي في نفس الوقت موسوعات إخبارية يمكن بواسطتها معرفة كثير من أفكار المتقدمين والمتأخرين، والأخبار الموجودة حاليا في كل علم تسمح بوصف كلي له بل وبوصف كلي للحضارة ذاتها، والحاجة أمس إلى معرفة كيفية الوصف منها إلى معرفة مادة الوصف، وقد كانت الحضارة حريصة باستمرار على الحفاظ على نفسها بطريق التدوين، وتأريخ اللاحقين للسابقين، وذكر آراء السلف من الخلف، فالعلم ينشأ بتراكم المعارف والإضافات المستمرة والتفكير على التاريخ. (ج)
يمكن التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه عمل من الأعمال أو مفكر من المفكرين داخل كل نمط من أنماط الفكر، خاصة إذا عرفنا اتجاهه الفكري ومذهبه العقائدي؛ فالمفكر لا يضع فكرا، بل يعرض نموذجا من فكر معروف نمطه، فالنمط يساعد على التنبؤ، والنموذج يساعد على افتراض مادة ناقصة يمكن التعرف عليها بافتراض وجودها، خاصة إذا كان النمط من نفس العصر، أو من نفس المذهب، أو من نفس البيئة الثقافية. (د)
إن الذي يهم في المادة العلمية هي المشاكل التي تعرضها، وليس الحلول التي تقدمها، والمادة المنشورة حاليا تعرض لنفس المشاكل التي تتكرر وإن لم تعرض نفس الحلول، والمشاكل هي التي تحدد البناء النظري للعلم أكثر من الحلول، بل إن المادة كلها نسقطها من الحساب ونستبدل بها مادة أخرى جديدة من واقعنا المعاصر، فإن لم تكتمل المادة القديمة فإن ذلك لن يؤثر على الإشكال نفسه.
وإعادة بناء العلوم الدينية العقلية بإرجاعها إلى أصولها الأولى التي نشأت منها هي في الحقيقة محاولة للتعرف على الوحي ذاته وكيف أنه تحول في التراث إلى علوم عقلية حتى يمكن أن يكون مثالا للمحاولات الحالية لتحويل الوحي إلى علم محكم، فإذا كانت مهمة الباحث الحالية هو تأسيس الفكر الديني أو الوحي نفسه باعتباره علما محكما، فإن اتجاهه أمام حضارته التي يدرسها يكون محددا على أساس البحث عن صور سابقة لهذا العلم، وهذا ما يجده في العلوم الدينية التقليدية؛ أصول الفقه، والكلام، والفلسفة، والتصوف، مهمته في الحضارة إعادة بناء هذه العلوم بما يسمح به فهمها في أوضاعها التقليدية ثم تطويرها وبنائها كعلوم محكمة في الأوضاع الراهنة وفي اللحظة الحالية من تاريخ الحضارة، فإذا استطاع وصف هذه العلوم وبيان كيفية نشأتها ابتداء من الوحي وتكوينها على أسس نظرية ثابتة فإنه يمكنه الاستعانة بذلك في تكوين الوحي باعتباره علما محكما،
1
ويكون قد استطاع الحصول على أنماط من أبنية العلوم قد يقبلها أو يرفضها أو يطورها فضلا عن ربط نفسه وفكره وعمله بتراثه، وأصبح باستطاعته ليس فقط الخلق بل أيضا التجديد، ويكون قد حصل على نقطة ارتكاز في تاريخ حضارته.
وفي إعادة بناء العلوم يمكن أن يوضع كل شيء موضع التساؤل من جديد، ولكن تظل نقطة البداية هي الوحي الموجود بالفعل في كتاب، فالوحي هو الموضوع الأساسي لجميع العلوم، بل إن الحضارة الإسلامية كلها إن هي إلا محاولة لعرض فكري منهجي لهذا الوحي في مرحلة معينة، ولبيئة ثقافية معينة، وتحت ظروف وملابسات محددة، ويتضح ذلك من داخل أبنية هذه العلوم نفسها، فعلم أصول الفقه يبدأ بالوحي الموجود في الكتاب والسنة كأساس للشعور التاريخي الذي يقوم بدوره في النقل عن طريق مناهج الرواية؛ التواتر والآحاد، وعلم الكلام يبدأ بالوحي محللا آياته وأحاديثه لإخراج تصور الله، ذاته وصفاته وأفعاله، والتصوف يبدأ أيضا بالوحي متمثلا أوامره ونواهيه في السلوك، والفلسفة تبدأ بالوحي وفهمه بحيث يمكن بواسطته احتواء البيئات الثقافية المتاخمة. فالبدء بالوحي ضمان واقعي وعلمي وحضاري في العثور على نقطة بداية لها يقين مطلق، ونقطة ارتكاز للعلوم التي تتأسس في العقل وفي الواقع، والوحي ذاته ليس موضع تساؤل، إنما هو كيفية عرضه وبنائه النظري، وقبول الوحي قائم على واقعة وهو وجود كتاب لا يدعي أحد أنه مؤلفه، بل هناك فقط المعلن عنه، ويمتاز الكتاب بأنه وثيقة تاريخية صحيحة لم يصبها التحريف أو التغيير، نقصا أو زيادة. لا يتطلب إثبات الوحي البداية بنظرية في النبوة؛ لأنه موجود بالفعل في كتاب يمكن التثبت من صحته التاريخية أو من صدقه بتطابقه مع الواقع من خلال التجربة الإنسانية، ومن خلال فاعليته في التغيير وفي إعطاء أبنية مثالية للعالم يجد فيها العالم كماله.
وكل المشاكل التي تعرضها العلوم التقليدية تحتاج إلى إعادة بناء؛ فكثير منها مشاكل خاطئة سببتها ظروف معينة أو نشأت ردا على بدعة تناقلها الناس وانتشرت وذاعت الردود عليها. مهمة الباحث إذن أخذ موقف من هذه المشاكل إما بإلغائها إن كان وضع المشكلة وضعا غير شرعي أو بإعادة بنائها إن كانت موضوعة وضعا خاطئا، أو بإيجاد دلالة جديدة لها إن كانت موضوعة وضعا شرعيا، مثال ذلك كل مسائل علم الكلام التي ظهر فيها الله كطرف للإنسان مثل الجبر والاختيار، والحسن والقبح، والوعد والوعيد، فهي مسائل موضوعة وضعا خاطئا؛ لأن الله ليس طرفا في فعل الإنسان بل العالم، والحسن والقبح يحددان علاقة الذات بالموضوع وليس علاقة الموضوع بالله، والوعد والوعيد يحددان آثار الفعل في هذا العالم وليست آثاره المترتبة عليه في عالم آخر.
وغالبا ما تدرس العلوم الإسلامية في التراث ولا تتجاوز مرحلة الخلق الأولى، وإن تعديناها فعلى أكثر تقدير تذهب حتى عصر الشروح والملخصات وننسى كلية الحركات التجديدية المعاصرة التي حاولت من قبل إعادة بناء العلوم التقليدية في صورة جزئية لأنها كانت دعوات إصلاحية أكثر منها دعوة للبحث الخالص، فهناك محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين في «رسالة التوحيد» وهناك محاولة أخرى لإعادة بناء الفكر الفلسفي في «الرد على الدهريين»، وهناك محاولات أخرى عديدة لإعادة بناء علوم التصوف والفقه والأصول، هذه الحركات التجديدية جزء من التراث، ومحاولات سابقة لتجديده يجب أن تؤخذ في الاعتبار بالرغم من قصر مدتها أو تناولها بعض أجزاء هذه العلوم دون أن تتناولها في جملتها.
فإذا أخذنا علم الكلام مثلا فإن دراستنا له يمكن أن تتم بمنهج فقهي، أي أنها تكون دراسة تحلله من أجل الحكم عليه كما فعل الفقهاء من قبل، ولكن التحليل هنا لا يعني اللجوء إلى النص الخام أو تكفير المتكلمين بل بيان نشأة الأفكار ثم أثرها في حياتنا المعاصرة، وهجومنا على علم الكلام القديم ليس بدعة في تاريخ هذا العلم فهو أكثر العلوم تعرضا للهجوم نظرا لقدم مادته وعدم توازن حلوله، وخطورة نتائجه، ووعورة مناهجه وحججه، ولكن هجومنا عليه ليس بتكفير أصحابه أو بمجرد نقد أفكارهم، بل ببيان نشأته وحدوده وعيوب مناهجه، وخطورة نتائجه، أي بإعادة وصف نشأة هذا العلم وتطوره ابتداء من أصوله الأولى في الوحي، أي أننا نعيده إلى محكمة التاريخ، والظروف التي أدت إلى نشأة علم الكلام التقليدي هي ظروف مستجدة في كل عصر، ففي كل عصر تبدو الحاجة إلى تنظير الواقع وإلى إيجاد أسس نظرية للأحداث من مصدر نظري متوارث أو من العقل المحض أو بناء على متطلبات الواقع، وهذا هو السبب الداخلي، وفي كل عصر تهاجم الحضارة من حضارات مجاورة، ويراد القضاء عليها أو على الأقل يراد بها التشويش والخلط فتنشأ حركات داخلية للدفاع عن الحضارة وللقيام بعمل هجوم مضاد على الأفكار الدخيلة، وما زال الهجوم قائما على التوحيد وعلى العقائد وعلى النظم، بل إن الهجوم قد زاد وتجاوز الفكر إلى الأرض والشعوب والثروات، فيمكن إذن أن يبقى على علم الكلام مع تجديد مادته كدفاع عن الحضارة وتأصيل لها وكهجوم مضاد على الحضارات الغازية، وفي نفس الوقت يكون مقدمة الدفاع عن الأرض والشعوب والثروات، وهذا هو السبب الخارجي.
2
وبالرغم مما يبدو على الموضوعات الكلامية من طابع تقليدي إلا أن هذا الطابع يظهر في طريقة عرضها أو في المادة القديمة وليس في الموضوعات ذاتها، فطريقة العرض القديمة تجعل الله طرفا في كل مشكلة، ويكون مع الإنسان الله المشخص المريد، الفاعل، العاقل، القادر ... إلخ، ولكن التوحيد ذاته موضوع مستقل بذاته، فالتوحيد يعني وحدة البشرية ووحدة التاريخ، ووحدة الحقيقة، ووحدة الإنسان، ووحدة الجماعة، ووحدة الأسرة ... إلخ، والحرية موضوع كل عصر، ولكن تتغير أطراف الحرية مرة تتحدد الحرية بالنسبة للسلطة ومرة ثانية بالنسبة للآخر ومرة ثالثة بالنسبة للعقبات، والعقل مشكلة كل عصر إذ تتهدده الخرافات، والأساطير، والغيبيات، والأسرار، والأوهام، والانفعالات، والأهواء، والمصالح، والرغبات، والميول، والعمل موضوع كل عصر، فالعمل هو المعبر عن النظر وهو المحقق له، والسياسة هي حياة كل عصر، والشورى نظام كل جماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الحياة السياسية، إنما المهم هو إيجاد الدلالة المعاصرة للموضوع القديم وتخليصه من شوائبه اللاهوتية والتاريخية والنظرية، وإعادة وضع المشكلة الوضع الصحيح، وهو الوضع الإنساني الاجتماعي، وتكون مهمتنا مثلا في إعادة بناء علم الكلام التقليدي وهو التركيز على التوحيد كعملية توحيدية، وعلى الحرية كعملية تحرر، وعلى العقل كعملية تنوير، وعلى العمل كعملية تحقيق وتغيير شامل، وعلى الشورى لتغيير النظم التسلطية، وعلى الطبيعة من أجل إدخال بعدها في الشعور المعاصر وعدم الاستنكاف منها بناء على عواطف التطهر والتطهير، قد تكون مهمتنا أيضا إحياء التراث الاعتزالي الذي توقف منذ القرن الخامس، ولم يظهر إلا في بؤرات متفرقة لم تستطع أن تعيد ما توقف إلى حياة الناس وإلى الروح المعاصرة. (1) العلوم الإسلامية الأربعة
نشأ التراث من مركز واحد وهو القرآن والسنة، ولا يعني هذان المصدران أي تقديس لهما أو للتراث بل هو مجرد وصف لواقع، فلو لم يكن هناك قرآن لما قام التراث القديم ولما نشأت الحضارة الإسلامية؛ لذلك يمكننا التفرقة بين نوعين من الحضارات: حضارة مركزية تدور حول مركز واحد هو في الغالب كتاب مقدس سواء كان وحيا أو تاريخا، وتنشأ حوله، وتستمد وجودها منه، وتنسج علومها العقلية عليه، وتتطور في حلقات حوله، متداخلة فيما بينها على مر العصور، وحضارة أخرى لا مركزية ولم تنشأ حول نقطة محورية، ولم تصدر علومها عنه، تذهب في كل اتجاه، وتجرب كل مذهب، لا يجمعها جامع، وتظل مذبذبة بين الاتجاهات والمذاهب فاقدة عنصر التوازن فيها، وباحثة عن شيء لا تعلمه أين هو، ويظل البحث الإنساني مستمرا، يتغير بتغير العصور والأزمان، وأصبح البحث عن الشيء أهم من الشيء نفسه؛ لذلك قويت فيها المناهج وكثرت فيها مذاهب النقد والشك، وتعددت فيها الاتجاهات كي تغطي هذا النقص المحوري في نشأتها، ولكن الغالب أن كل الحضارات المعروفة حتى الآن حضارات مركزية نشأت من مركز واحد هو الدين، سواء كان ذلك في الأساطير اليونانية بالنسبة للحضارة اليونانية أو في الإنجيل بالنسبة للحضارة الأوروبية أو في التوراة بالنسبة للتراث اليهودي أو في كتاب الموتى والأساطير المصرية بالنسبة للحضارة المصرية القديمة، أو في قوانين حمورابي بالنسبة للحضارات السامية القديمة، أو في وصايا كونفوشيوس بالنسبة للحضارة الصينية القديمة أو في الفيدانتا بالنسبة للحضارة الهندية، أو في القرآن والسنة بالنسبة للحضارة الإسلامية.
نشأت الحضارة الإسلامية إذن حول الكتاب والسنة، ونسجت حولها العلوم الإسلامية العقلية الأربعة: الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، وبصرف النظر عن ترتيب ظهورها زمنيا، فقد ظهر الكلام والتصوف معاصرين للفتنة بعد ظهور أصول الفقه معاصرا لزمن الرسالة، ثم ظهرت الفلسفة أخيرا بعد عصر الترجمة في أواخر القرن الثاني، إلا أنه من الناحية الفكرية الخالصة نشأت العلوم التقليدية الأربعة كالآتي: (1)
كان علم الكلام أول عمل عقلي في النص الديني، فقد كانت مهمة المتكلم تحويل النص إلى معنى، والآية إلى فكرة، فكان الكلام أول محاولة للعثور على نظرية عقلية خالصة للنص الديني، وقد تم تحويل ذلك بجهد داخلي خالص دون أدنى اتصال على الأقل في نشأة العلم، بحضارات أخرى، إذ تم ذلك قبل عصر الترجمة بكثير، ولم يكن هناك واقع محدد لذلك، مثل الرد على الزنادقة والملاحدة بل كان العلم حركة طبيعية في تجاوز النص الديني إلى المعنى العقلي لا سيما وأن النص بطبيعته يرتكز على العقل ويقوم عليه، فالعقل كما ظهر فيما بعد هو أساس النقل، كان علماء الكلام أشبه بوزراء الداخلية في العصر الحاضر، مهمتهم المحافظة على الأمن العقلي الداخلي والمحافظة على النظام الداخلي للحضارة الناشئة، وكان علم الكلام أشبه بالدائرة الفكرية الأولى التي نسجت حول النص الديني، وأخذ طابعا نظريا خالصا؛ لذلك حكم عليه البعض بأنه يمثل الفكر الأصيل الذي يعبر عن جهد الجماعة الأولى دون أية مؤثرات خارجية،
3
ولما تطورت الحضارة، وتمثلت الأديان المنتشرة على الواقع الثقافي، اتجه العلم للدفاع عن التصور الجديد للعالم والرد على الديانات التاريخية، ومن ثم تحول العلم إلى تاريخ أديان في جزء كبير منه، وكان الرد على الفرق غير الإسلامية إحدى مقدماته وأحيانا في صلبه في عرض وصف الواحد من أوصاف الذات الست، ولكن الرد لم يكن على بيئة خارجية بل على أفكار ومذاهب وملل ونحل انتشرت في البيئة المحلية، وذاعت على الصعيد الثقافي، فكان العلم يعمل أيضا في الجهة الداخلية،
4
ولما ظهر خطر علوم الحكمة والفلسفات النظرية على العلم انبرى العلم للدفاع عن التصور الأصيل متعاملا مع علوم الحكمة متمثلا ما يتفق منها مع هذا التصور ورافضا ما يختلف معه، ولكن هذا الرد لم يكن ضد الفلسفة اليونانية بل كان ضد علوم الحكمة التي انتشرت وذاعت في البيئة الثقافية المحلية، وبالتالي ظلت مهمة علم الكلام داخلية محضة لا شأن له بالمعارك الخارجية،
5
وإذا كان علم الكلام قد استطاع في مراحله الأخيرة، الانتقال من علم العقائد، إلى علم تاريخ الأديان وإلى علم الحضارة، فإنه استطاع أيضا أن يتحول إلى علم حضارات مقارن عن طريق وضع الحضارة الإسلامية مع الحضارات الإنسانية حينذاك مثل حضارة الهند والفرس والروم، ومع ذلك ظلت مهمة العلم داخلية محضة لأن هذه الحضارات كانت قد دخلت البيئة الثقافية الإسلامية وكانت تمثل جزءا من الجهة الداخلية ولو أنه في نشأتها كانت وافدة،
6
وقد خسرنا نحن الآن بالرجوع إلى النص الخام في اعتمادنا على قال الله وقال الرسول وعجزنا عن تحويله إلى معنى، وعدم قدرتنا على أن نعيش في عالم المعاني، وأصبحنا أسرى للنصوص بعد أن كانت النصوص أسرى لعقول القدماء. (2)
وحول هذه الحلقة الفكرية الأولى وابتداء منها، وباستعمال وسائل التعبير المتاحة بعد عصر الترجمة نشأت دائرة فكرية أخرى أوسع نطاقا وأشمل تصورا، مهمتها تحويل هذه المعاني الأولية التي صاغها علم الكلام إلى نظريات عامة وتصورات شاملة للكون لمواجهة نظريات وتصورات أخرى دخيلة، فحين ظهر علماء الكلام كوزراء للداخلية من أجل المحافظة على النظام العقلي الداخلي للحضارة الناشئة، ظهر الفلاسفة كوزراء للخارجية مهمتهم التعامل مع حضارات أخرى غازية، وفي مقدمتها الحضارة اليونانية وكحماة للحدود الحضارية المتاخمة، ويعيدون بناء دائرتهم الفكرية الأولى التي ورثوها عن علماء الكلام على أساس من المفاهيم الجديدة من الحضارات الغازية، مستعملين نفس أسلحتهم التصورية، فهم بهذا حراس حدود أيضا أو مجددون، حاولوا إعادة بناء العلم النظري القديم، وهو علم الكلام، إلى علم نظري جديد وهو الفلسفة، وهذه تشارك علم الكلام في كونها فكرا نظريا خالصا ولكنه أكثر شمولا وأوسع نطاقا، ومن ثم فإن الفلسفة من جنس علم الكلام، ونجد كثيرا من المتكلمين فلاسفة وكثيرا من الفلاسفة متكلمين،
7
وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير وذلك أنهم استطاعوا: (أ)
تحويل اللاهوت
Théology
إلى أنطولوجيا عامة
Ontology
ولم يتحدثوا عن الله بل عن واجب الوجود أو الواحد، بالتالي استطاعوا القضاء على ظاهرة الضمور في علم الكلام وذلك بإعادة فتح الفكر الديني وضمه إلى الوجود العام، وقد كان أوائل الفلاسفة متكلمين ثم تركوا الكلام إلى الفلسفة، وقد خسرنا نحن الآن بالرجوع إلى الفكر الديني الضامر الذي وصل إلى درجة التشخيص، ونكصنا عما طوره القدماء إلى علم الوجود العام. (ب)
الاستغناء عن منهج النص السائد في علم الكلام، والعثور على معنى متسق مع نفسه يحتوي على ضمان صدقه ووسائل التحقيق من هذا الصدق في نفسه، فالفلسفة من هذه الناحية تمثل تطورا في العقلانية أكثر مما يمثله علم الكلام الذي ما زال يقيم يقينه في صياغاته لمعانيه على يقين آخر خارجي عنه هو يقين النص، ونحن قد رجعنا إلى الوراء، وألغينا هذه الخطوة التي نعرض فيها المعنى المستقل الذي يحتوي على يقينه الداخلي، ورجعنا إلى قال الله وقال الرسول. (ج)
كشف الجانب الرمزي في النص الديني، وأسلوب الخيال والصور الفنية، وبالتالي تكون مهمة الفيلسوف النفاذ إلى ما وراء الخيال، والتخلي عن الصور الفنية، والقضاء على حرفية المعنى في حين أن في علم الكلام ما زال التيار الحرفي سائدا عند المشبهة والمجسمة والمؤلهة؛ لذلك تعتبر الفلسفة تطويرا للفكر الاعتزالي وللتنزيه الإلهي، ونحن قد آثرنا البقاء على التفسير الحرفي للنصوص، وعزونا إلى الصور الفنية أشياء حسية، وفقدنا القدرة على التخيل، والتزمنا بالحس الفج والمادية المعلنة، ورجعنا بالتالي خطوة أخرى إلى الوراء. (د)
التخلي عن لغة اللاهوت الخاصة من إله، ورسول، وثواب، وحساب، وعقاب، وملاك، وشيطان، وهي اللغة المغلقة التي ما زالت خاضعة للرمز الديني واستعمال لغة أخرى أكثر عقلانية وانفتاحا وإنسانية يمكن لأي فرد أيا كانت ثقافته أن يعقلها مثل الإنسان، والعقل، والنظر، والعمل، والفضيلة، في حين أن علم الكلام ظل خاصا، ويعبر عن مضمونه بلغة خاصة في مقابل الفلسفة التي استطاعت أن تتجه نحو العام، ونحن الآن قد رجعنا خطوة أخرى إلى الوراء، وألغينا التطور وآثرنا لغة اللاهوت المغلق على لغة الفكر المفتوح.
8 (ه)
استطاعت الفلسفة ضم النظريات المبعثرة التي تركها لنا علم الكلام في التوحيد، وخلق الأفعال، والحسن والقبح، والنبوة، والمعاد، والإمامة ... إلخ، في نظريات شاملة وفي أقسام عامة هي: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات، فإذا كان المنطق آلة للعلوم كلها وليس جزءا منها بقيت لدينا الطبيعيات والإلهيات، أصبح موضوع الفلسفة بوضوح هو الله والعالم، والإنسان متأرجح بينهما، فهو موجود طبيعي من حيث هو بدن (قوى غاذية وحساسة وعاقلة) وهو موجود إلهي من حيث هو نفس (الاتصال بالعقل الفعال عن طريق المخيلة أو النور القدسي)، ونحن الآن قد رجعنا خطوة أخرى إلى الوراء بإيثارنا البقاء على النظريات مبعثرة دون تصور كوني عام وشامل نعرضه على مستوى الشعور دون أن نتركه يعمل في اللاشعور. (و)
القضاء على تشتت الفرق وتشعبها، وسيادة روح فلسفية واحدة، فإذا كان علم الكلام أساسا نظريا في التشعب ، والتفرق، وتضارب الآراء، وتعارض المذاهب، وتنافر الاتجاهات، فإن الفلسفة ترمي إلى الوحدة الشاملة، والنظرة الكلية الواحدة التي تلم بها شتات الظواهر والتي تمنع بها تعارض الآراء، وإذا كان لدينا في علم الكلام ثلاث وسبعون فرقة فإننا لا نملك ثلاثة وسبعين تيارا فلسفيا، وإذا كان لدينا مئات من علماء الكلام فإن الفلاسفة لا يتجاوزون أصابع اليد، والوحدة تمثل تطورا نحو مزيد من العقلانية أكثر مما تمثل الكثرة، ونحن الآن ما زلنا ضحية التنافر والتضاد ولم نستطع أن نعطي نظرة واحدة وشاملة على الكون. (ز)
تمثل الفلسفة أفقا أوسع من علم الكلام، ففي حين أن علم الكلام يغلب عليه الرفض وضيق الأفق والتحيز المسبق والتعصب أحيانا، نجد أن الفلسفة يغلب عليها القبول، باستثناء الكندي وابن رشد، وتمثل كل شيء، ووضعه في صورة أكمل وأشمل، فعلم الكلام يبحث عن الأصيل ضد الدخيل، والفلسفة تريد تمثل الدخيل في الأصيل في نظرية عقلية أوسع وأرحب، عالم الكلام يعارض الخصم ويكفره في حين أن الفيلسوف يضم الخصم في حقيقة أعلى منه، ونحن الآن نسلك مسلك علماء الكلام في تكفير بعضنا البعض دون أن نحاول البحث عن حقيقة واحدة أعم وأشمل. (ح)
تعتمد الفلسفة أساسا على البرهان، وتبحث عن اليقين الداخلي، العقلي أو الطبيعي، في حين أن علم الكلام ما زال يعتمد على الجدل وعلى التسليم بمقدمات الخصم أو على البدء بمقدمات مشهورة أو مظنونة، غايته إفحام الخصم وليس الوصول إلى الحقيقة، فالفلسفة تمثل تطورا أكثر تقدما من علم الكلام، ونحن في واقعنا المعاصر قد رجعنا بهذا التقدم إلى الوراء وآثرنا الجدل على البرهان، والظن على اليقين، والتسليم بالمقدمات على البرهنة عليها. (3)
وقد يكون علم أصول الفقه هو أول العلوم الإسلامية ظهورا نظرا لاحتياج المجتمع الجديد للتشريع سواء في عصر الرسالة أو فيما بعدها، فقد حاول المسلمون بجهدهم الخاص استنباط أحكام جديدة للوقائع التي عرضت لهم والتي لم يرد فيها أصل من كتاب أو سنة نظرا لوجود الوالي في صقع بعيد عن الرسول أو بعد عصر الرسالة ، فلكي لا يخضع استنباط الأحكام للهوى أو المزاج الشخصي حاول الأصوليون وضع قواعد لاستنباط الأحكام الشرعية من الأصول الأربعة: الكتاب والسنة، والإجماع، والاجتهاد، فنشأ علم أصول الفقه محاولا إيجاد منهج إسلامي لتنظير الواقع وتقنين سلوك الجماعة، ونشأ استجابة لمطلب داخلي خالص دون أدنى أثر خارجي من منطق أو فلسفة أو حكمة، فقد نشأ التشريع قبل عصر الترجمة مواكبا لنشأة الحياة الإسلامية في صورها الأولى.
ويتفق علم الأصول مع الكلام والفلسفة في أن كليهما نظرية عقلية أو إعمال للعقل في النص إلا أنه يختلف عنها في الآتي: (أ)
ظهور الواقع كطرف مقابل للنص، وأصبح لدينا عناصر ثلاثة تكون المنطق الديني وهي: النص أو الوحي، والعقل، والواقع، لم يعد موضوع الفكر هو الإيمان أو الدين أو الوحي أو النص كما هو الحال في علم الكلام، أو الفكرة الغازية والحضارة الدخيلة كما هو الحال في الفلسفة، بل أصبح موضوع الفكر هو الواقع الذي تعيشه الجماعة الأولى ولا سيما وأن النص بطبيعته يحتوي على الواقع في باطنه كما بين الأصوليون ذلك في طرق استنباط العلة الثلاث من النص: تحقيق المناط، وتخريج المناط، وتنقيح المناط؛ لذلك حكم البعض على الأول بأنه الفكر الأصيل الذي استطاعت الجماعة الأولى وضعه، والذي يدل على جهدها وإعمال عقلها،
9
أما نحن فقد فصلنا النص عن واقعه واعتبرناه مستقلا بذاته يحتوي على حكم بصرف النظر عن الواقع الذي يمكنه أن يتقبل هذا الحكم. (ب)
ظهور المنطق الحسي المباشر، وطرق البحث عن العلة، ومنطق التحليل والحصر، وجوانب المنطق الاستقرائي، وهو ما لم تكتشفه الحضارات القديمة، ويكون هذا مساهمة للحضارة الإسلامية في تطور الحضارات العامة، مع أن الباحثين الغربيين يتحدثون عن الواقعية المسيحية في مقابل المثالية اليونانية دون أن يتحدث أحد عن الواقعية الإسلامية في مقابل المثالية اليونانية المسيحية، ونحن ما زلنا حتى تأسيس الفقه الافتراضي، ولم نستطع تطوير هذا المنطق الاستقرائي القديم من أجل تأسيس العلم. (ج)
ظهور طابع آخر للفكر الإسلامي وهو الفكر المنهجي في مقابل الفكر النظري الخالص في علم الكلام والفلسفة، ففي حين أن النص الديني قد تحول في الكلام والفلسفة إلى معنى أو إلى نظرية أو تصور شامل للعالم فإنه تحول في أصول الفقه إلى منهج عقلي واقعي، استنباطي استقرائي، وطبع الفكر الإسلامي كله بهذا الطابع المنهجي، ومن ثم يكون هذا العلم من أوائل المحاولات التي ظهرت في تراثنا القديم من أجل تحويل الأصول الأولى، الكتاب والسنة، إلى منهج عام للحياة، ويعجب الإنسان في واقعنا المعاصر من غياب الفكر المنهجي، وهو أخص وأروع ما أبدعه علم أصول الفقه في تراثنا القديم. (د)
خلو أصول الفقه من اللغة الكلامية والفلسفية، وقيامه على لغة بسيطة وسهلة، مستمدة من الواقع، وخلوه من الأفكار الميتافيزيقية، والنظريات المستعصية، والحجج الطويلة التي كثيرا ما سادت الكلام والفلسفة، فالأصول بهذا المعنى علم وضعي، دون الآثار الوخيمة للوضعية الأوروبية التي اجتثت أصولها الفكرية لعدم ثقتها بها، وبيان زيفها وعدم صدقها، صحيح أن هناك بعض مدارس الفقه الافتراضي الذي يقوم على افتراض واقعة من الخيال لم تحدث بالفعل ولكنها تمثل تيارا واحدا في الفقه، وليست جميع التيارات، كما أنها أقرب إلى مادة الفقه منها إلى علم الأصول. (ه)
ظهور الإنسان بوضوح تام على أنه الموضوع الأول للفكر الديني، وظهور الإنسان العامل
Homo Faber
بوجه خاص ليس بمعنى الصنعة ولكن بمعنى الجهد، والنشاط، والعمل، والتحقيق في حين كان الإنسان مطحونا في علم الكلام داخل الإلهيات، وكان مشتتا في الفلسفة حائرا بين الطبيعيات والإلهيات، وظهور أبعاد الإنسان من حيث هو شعور تاريخي، وشعور لغوي، وشعور عملي، وما زلنا نحن في واقعنا المعاصر يتمركز فكرنا القومي على الله، ولمنظور المكتسبات الإنسانية في تراثنا القديم، بالرغم مما نحن فيه من مآسي الإنسان التي كانت يمكن أن تجعله محورا أساسيا في فكرنا القومي. (4)
وفي نفس الوقت الذي ظهر فيه الأصول، ظهرت اتجاهات منعزلة في الجماعة الإسلامية لا تشارك في حياتها مشاركة إيجابية فعالة، لم تلفظها الجماعة لأنها كانت لا تمثل خطرا عيها بل قد يأتي منها الخير نظرا لسلوكها الفاضل وحياتها الروحية الصافية، وبعد الفتنة ازدادت هذه الجماعات المنعزلة وتكاثرت كمظهر من مظاهر العجز عن مقاومة نظم الحكم القائمة على الاغتصاب والبطش مثل الحكم الأموي فظهر التصوف كظاهرة انعزالية في نشأته وتطوره كرد فعل على تكالب الناس على الحياة، وبعد اشتداد وطأة المعارك الحزينة والتناطح بين الفرق، وبعد فشل كل محاولات التغيير الأمر الواقع بالقوة، واستشهاد لأئمة من آل البيت، ولا يقال إن نشأته ترجع إلى حياة الرسول، فقد كانت حياته حياة الإنسان الكامل كما كانت حياة الجيل الأول حياة الجماعة الكاملة، واستمر هذا التيار يقوى حتى ظهر كاتجاه عام يدعي تفسير الأصول، ويتميز بالآتي: (أ)
كانت الاتجاهات الفكرية حول النص حتى الآن عقلية جدلية في علم الكلام أو عقلية خالصة في الفلسفة أو عقلية واقعية في الأصول، ولكن ظهر التصوف يمثل تيارا مضادا، ويضع أسس اتجاه قلبي لا يعترف بالعقل، وإن اعترف به فلمستوى معين وليس لجميع المستويات وأعمقها، ومن ثم وقع التضاد في العالم الإسلامي بين منهجين: العقل والقلب، النظر والذوق، وبذلك انكشف بعد الوجدان أو الشعور لأول مرة بوضوح في تراثنا القديم، واعتبر الحب محور الشعور وعاطفته الأولى، وأعطى الأولوية للعمل على النظر، فالعلوم ثمرة الأعمال، وهو ما زال سائدا في واقعنا المعاصر بالرغم من أنه لا وجود لعقل جدلي أو لعقل برهاني أو لعقل منطقي يمكن أن يحدث عنه رد فعل وجداني، ومن ثم فنحن نعيش رد فعل قديم في عالم معاصر، ولو أننا أردنا أن نبدأ من رد فعل معاصر، لأعطينا الأولوية للعقل على القلب، وللنظر على الذوق، ولما كان عصرنا الحاضر غارقا في الإشراقيات القديمة إلى أذنيه يجد فيها عزاء وتعويضا عن مآسيه وأحزانه. (ب)
يمثل التصوف مع الأصول فكرا منهجيا وليس فكرا نظريا كما هو الحال في الكلام والفلسفة، ويضع نفسه كطريقة عملية وليس كبحث نظري، ومن ثم النظرتان: فكر نظري في الكلام والفلسفة وفكر منهجي في الأصول والتصوف، ويصير الاختيار حتميا على سؤال: هل الكتاب يحتوي على نظرية أم على منهج؟ ولما كان الحاضر يعاني من كليهما من غياب النظرية والمنهج معا ويعاني من غياب المنهج أكثر فغياب المنهج هو سبب غياب النظرية، كان اختيار عصرنا هو إحياء الفكر المنهجي وإعطائه الأولوية على الفكر النظري. (ج)
ظهور التضاد أيضا بين الأصول والتصوف، فمع أن كليهما منهج إلا أن التصوف يدعي أنه منهج التأويل أي الرجوع بالنص إلى مصدره الأول وهو مصدر الوحي، في حين أن الأصول منهج التنزيل يريد إرسال النص إلى غايته وهو الواقع أو السلوك البشري، ومن ثم كان المنهج الصوفي صاعدا من العالم إلى الله في حين كان المنهج الأصولي نازلا من الله إلى العالم، وما زال عصرنا يختار التأويل دون التنزيل، ما زال يرجع العالم إلى الله دون أن يجعل الله قريبا من العالم في حين أن متطلبات العصر تحتم الاختيار الآخر بإيثار التنزيل على التأويل، والانتقال من الوحي إلى العالم. (د)
وضوح نظرية متكاملة في التفسير، تشترك مع الفلسفة في إيجاد مستويات جديدة للنص حسب فهم السامع أو القارئ، فهناك العامة التي لا تدرك إلا بالحس والخيال، ويقوم إيمانها على الترغيب والترهيب، ثم هناك الخاصة التي تدرك جوهر الأشياء بالعقل الاستنباطي ويقوم إيمانها على الحصول على المعقولات والمعارف الذهنية، ثم هناك خاصة الخاصة التي تدرك جوهر الأمور بالقلب ويقوم إيمانها على الحصول على السعادة القلبية والمعرفة المباشرة وهي مستويات ثلاثة لليقين: علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين، وقد رجعنا نحن خطوة للوراء بوقوعنا في حرفية التفسير أو ماديته وردنا الوقائع المادية إلى النصوص أو بلجوئنا إلى التفسيرات الخرافية والأسطورية التي لا سند لها من حس أو عقل أو قلب ونحن أحوج إلى التفسيرات الوجدانية الاجتماعية التي تقوم على تحليل التجارب الاجتماعية.
10 (ه)
ظهور كثير من القيم السلبية التي تدعو إلى القيام بمعركة مع النفس قبل أن تقام مع العالم الخارجي والتي تدعو إلى النكوص عن العالم والتراجع إلى الذات لا إلى الدخول في العالم والإقدام من الذات، فالصبر والخوف، والخضوع والرضا، والحزن والبكاء إلى آخر ما هو معروف من الأحوال والمقامات تدل كلها على اتجاهات سلبية نحو الواقع وهي القيم التي ما زالت تفعل في عصرنا الحاضر دون ما رد فعل لتغييرها إلى قيم إيجابية مثل العمل، والثورة، والجهاد، والمقاومة، والرفض، والنضال، والصراع. (و)
الحصول على معنى جديد للتوحيد، واعتباره عملية فردية هو الحلول أو الاتحاد أو عملية كونية ذاتية وهي وحدة الشهود أو عملية كونية موضوعية هي وحدة الوجود، وتصور العالم كله بعين الوحدة فلا فرق ولا جمع، فإذا كان الكلام والفلسفة والأصول كل ذلك يقوم على القسمة العقلية فإن التصوف يقوم على التوحيد بين المتمايزات، وقد آثر عصرنا الحالي توحيد المتكلمين وترك توحيد الصوفية مع أنه كان بإمكانه تطوير توحيد الصوفية إلى عملية اجتماعية تاريخية توحد فيها الشعوب والأجناس وتتوحد فيها الطبقات الاجتماعية، وتتوحد فيها قوى الإنسان من فكر، ووجدان وقول، وعمل، وبالتالي يعبر التوحيد عن متطلبات العصر،
11
وتبدو صلة العلوم التقليدية الأربعة بعضها بالبعض الآخر كالآتي:
12 (1)
الكتاب والسنة محور الحضارة ومركزها ومنشأ العلوم العقلية الأربعة. (2)
علم أصول الدين، أي علم الكلام كدائرة أولى حول المركز للتأسيس الداخلي. (3)
علوم الحكمة أو الفلسفة كدائرة ثانية حول المركز أوسع وأشمل للتأسيس الخارجي. (4)
علم أصول الفقه أو التنزيل كمنهج نازل من الوحي إلى العالم. (5)
علوم التصوف أو التأويل كمنهج صاعد من العالم إلى الله.
أما العلوم الرياضية فهي لا تعتبر علوما دينية عقلية بل هي علوم عقلية خالصة؛ إذ إنها تخضع لنظرية في العقل الخالص ولو أننا نستطيع أن نجد بواعثها وموجهاتها في توجيهات الوحي، وفي تصورات الله خاصة في التنزيه؛ فنظريات الضوء عند ابن الهيثم مثلا ترتبط إلى حد ما بتصوره العام للنور، وتعريف الله من حيث هو نور، وتصور الرياضيين للأعداد وحساب اللامتناهي يرتبط أيضا بتصورهم للتوحيد وبوجه خاص للواحد. فالعلوم الرياضية تمثل عقلانية خالصة استطاعت أن تزدهر بفضل التنزيه، وتضع مشكلة مستقلة عن العلوم الدينية العقلية الأربعة التي خرجت من الكتاب والسنة والتي ترتبط بالإنسان، حياته وسعادته، وهي تمثل التيار الصوري الذي تمثله العلوم الرياضية في التراث الغربي. وإعادة بناء هذه العلوم لا يتم إلا عن طريق التكامل في النظرة لها، إذ لا يمكن بتر جانب يراد التركيز عليه، وإعطاء الأولوية له على حساب جانب آخر يراد نسيانه وتجاهله بل والتنكر له والقضاء عليه، فلا يمكن النظر لابن الهيثم باعتباره رياضيا فقط ومحاولة تفسير أعماله بأنها علمية أو موضوعية؛ إذ إن تحليلاته للمناظر جزء من موقف فكري عام تدخل فيه الرياضة وغيرها كأحد مكوناته، ولا يمكن اعتبار الخوارزمي رياضيا فقط بل تدخل تحليلاته في علم الجبر كجزء من موقف أعم وأشمل، يكون الجبر فيه أحد عناصره التكوينية، ولا يمكن اعتبار الكاشاني عالما رياضيا فقط، بل إن تحليلاته في علم الحساب جزء من موقف أعم وأشمل يكون الحساب أحد عناصره الأولية، والمطلوب منا ليس فقط إحياء التراث الرياضي بل محاولة إدخاله ضمن هذا الموقف الحضاري العام من الكشف عنه، ويكون السؤال: هل تعبر هذه العلوم عن مستوى صوري خالص للتحليل تجد العلوم الدينية العقلية فيها ذاتها وموضوعيتها العقلية وهو ما نشعر بإمكانه؟ وبتعبير آخر: هل يمكن رد الصوري إلى الإنساني أم الإنساني إلى الصوري؟ وبتعبير ثالث: هل يمكن رد التنزيه إلى التشبيه أم رد التشبيه إلى التنزيه؟ وبتعبير آخر: هل يفهم الله بالرجوع إلى الإنسان أم يفهم الإنسان بالرجوع إلى الله؟ وماذا يعني التوحيد إلا أننا أمام حقيقة واحدة تظهر على مستويات عدة، مستوى صوري مجرد، ومستوى آخر إنساني حي؟
والعلوم الطبيعية أيضا كالعلوم الرياضية لم تخرج مباشرة من الكتاب والسنة ولم تنم نموا علميا خالصا، ولو أننا نستطيع أن نجد بعض البواعث عليها مستمدة من نواة الحضارة مثل التجريب والدعوة إلى التأمل في الطبيعة، والتوجيه نحو اكتشاف العام، فهذه العلوم أيضا جزء من موقف حضاري عام، فلا يمكن مثلا رؤية جابر بن حيان باعتباره كيمائيا فقط، إذ إن موقفه كعالم كيمياء ما هو إلا جزء من موقف أعم وهي موقفه كمفكر مسلم حتى في الميادين التي تبدو لأول وهلة بعيدة كل البعد عن الأصول الأولى في الوحي، كالرياضيات والطبيعيات ، خاصة إذا فهم الوحي نظريا باعتباره بناء فكريا موضوعيا مكونا من القبلي وهو الشرعي، والعقلي، والواقعي، وهو ما يظهر في اللغة كنظرية للمعاني الثلاث للفظ: الشرعي أو الاصطلاحي، واللغوي أو الاشتقاقي، والعرفي أو الشائع. وما يظهر في بعض جوانب التفكير الإسلامي من اتفاق صحيح المنقول مع صريح المعقول، أو كوحدة النقل والعقل، أو وحدة ما في الأذهان وما في الأعيان، فإذا كانت الرياضة قائمة على اتساق العقل فهي إذن تخرج من العقل الموجود في الوحي، وإذا كان العلم قائما على اتساق الواقع فهو يخرج إذن من الواقعي الموجود في الوحي. وإذا كانت العلوم الدينية العقلية كالكلام والفلسفة والأصول والتصوف قائمة على الشرعي فهي تخرج من القبلي أو الشرعي المعطى في الوحي، ويكون المطلوب ليس دراسة العلوم الطبيعية منفصلة عن العلوم العقلية الأربعة بل إدخالها ضمن موقف عام، ويكون السؤال: هل العلوم الطبيعية يمكن ردها إلى العلوم العقلية الأربعة أم أن العلوم العقلية الأربعة يمكن تطويرها بحيث تكون علوما طبيعية؟ وبتعبير آخر: هل دراسة الطبيعة هي في حقيقة أمرها دراسة للإنسان بصورة غير مباشرة أم أن دراسة الإنسان هي في حقيقة أمرها دراسة للطبيعة بصورة أقل جرأة وعلمية؟ وبتعبير ثالث: هل نحن أمام موضوعين مختلفين، العلوم الطبيعية والعلوم الدينية العقلية أم أننا أمام موضوع واحد يظهر في مستويين الطبيعي المادي والإنساني الحي؟
أما ما يسمى بلغة العصر «العلوم الإنسانية» فهي أيضا مستقلة عن العلوم الدينية العقلية الأربعة حسب نوعية كل منها؛ فالجغرافيا مثلا كما وضحت عند الإدريسي وغيره من الجغرافيين المسلمين مستقلة نسبيا من العلوم الدينية العقلية، ولو أننا نستطيع أن نجد البواعث عليها من توجيهات الوحي العامة لاكتشاف الأرض والسياحة فيها، والتأمل في السماء، والاهتداء بنجومها، وكثيرا ما يتحدث الوحي عن المطر، والجبال، والأنهار، والزرع، والأشجار، والريح، والدواب، وهي كلها موضوعات في الجغرافيا بأنواعها المتعددة وفروعها المختلفة، أما التاريخ فإن الوحي يشير إليه باستمرار لا سيما وأن الوحي نفسه نظرية في تطور التاريخ وحركته كما هو واضح في قصص الأنبياء ، ويحتوي على وصف لتطور التاريخ وتتابع الأمم وأسباب قيامها وسقوطها، وقد كان الوحي بالفعل أساسيا عند المؤرخين المسلمين في الاستشهاد به، وبالاعتماد على قوانينه، وفي توجيه حوادث التاريخ به، ويمكن القول بالمثل في علوم اللغة والأدب، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأخلاق، وعلم القانون، وعلم السياسة، وعلم الاقتصاد، وعلم المنطق، وعلم الجمال، كلها علوم مرتبطة بالوحي وإن لم تظهر كعلوم مستقلة مثل العلوم الدينية الأربعة المذكورة، بل إن كثيرا من هذه العلوم قد تدخل في أحد العلوم الأربعة؛ فالمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع يدخل في الفلسفة، وعلم السياسة وعلم الاقتصاد يدخل في الفقه، وعلم الجمال أدخل في الأدب وفنون الشعر والنثر والخطابة، وهي أيضا فنون ارتبطت بالوحي لا سيما أن الوحي ذاته نظرية في الفن بالإضافة إلى أنه عمل فني، وتكون مهمتنا نحن في وصف الوحي باعتباره علما كليا يشمل كل هذه العلوم، وإرجاع هذه العلوم الإنسانية إلى مصدرها في الوحي، ويكون الوحي بالتالي هو العلم الإنساني الشامل.
أما العلوم الدينية التي قامت من أجل ضبط الوحي كتابة فهي علوم مؤقتة تنتهي بانتهاء دورها مثل علوم القرآن والحديث، فهي مرتبطة بالأصول ذاتها، وتحرص على بقائها في كليتها بعيدا عن التحريف واللحن؛ فهناك علم القراءات واللهجات الذي نشأ من أجل ضبط قراءة النص، وعلم الحديث الذي نشأ من أجل ضبط الرواية، وهي علوم انتهت بانتهاء مهمتها أو باقية ببقاء مناهج النقل التاريخي وعلوم التاريخ وطرق التوثيق وإن شئنا إقامة علوم أخرى مثل العلوم الإنسانية نظرا لأن الدين يتناول في جميع قضاياه مشاكل من العلوم الإنسانية، بل إن الدين نفسه موضوع للعلم الإنساني، وهو تاريخ الأديان المقارن، وعلم التفسير نشأ من أجل ضبط معاني النصوص والحصول على معاني الوحي طبقا لحاجات كل عصر وبناء على اتجاهات المفسر؛ فهناك التفسيرات اللغوية، والتاريخية، والجغرافية، والفلسفية، والكلامية، والصوفية، والفقهية، وهناك التفسيرات الاجتماعية، والتفسيرات الثورية، والتفسيرات من أجل الإبقاء على الأوضاع القائمة. والتفسير علم متجدد لأنه يعبر عن حاجة كل عصر، وهو مرتبط بعلوم القرآن، ومع ذلك يمكن إعادة بناء العلوم النقلية الخالصة مثل علوم القرآن والتفسير وعلم الحديث والسيرة وعلم الفقه من أجل اكتشاف دلالات جديدة للعلوم القديمة مثل المكي والمدني (التصور والنظام، وأسباب النزول، أولوية الواقع على الفكر)، والناسخ والمنسوخ (الزمان والتطور) أو من أجل إعادة بناء هذه العلوم طبقا لحاجات العصر مثل نقد الحديث من حيث المتن (الاتفاق مع العقل والحس)، وإرجاع السيرة إلى الحديث من أجل القضاء على التشخيص في الوحي، وإعطاء الأولوية لفقه المعاملات على فقه العبادات وتأسيس الدولة الإسلامية. (2) العلوم العقلية باعتبارها ظواهر فكرية
نشأت العلوم الدينية العقلية وتطورت واكتملت داخل الحضارة الإسلامية مكونة جزءا منها في أبنية نظرية يمكن تحديدها بالنسبة إلى الأسس النظرية التي تقوم عليها وتقييمها بالنسبة إلى مصادرها التي نشأت منها أي بالنسبة إلى نصوص الوحي فعندما يتحول النص الديني إلى فكرة والوحي إلى حضارة، تظهر العلوم العقلية كأبنية نظرية تقوم على فهم نظري للوحي ابتداء من تفسير عقلي للنص، فبناء العلوم العقلية يرجع في نشأته وتقييمه إلى مصدره وهو النص الديني، فهذه العلوم ليست مواد تاريخية نشأت من وقائع محددة تتحول إلى موضوعات، ولكنها ظواهر فكرية نشأت في عقول المفكرين،
13
نشأت أولا كظاهرة فكرية في عقل مفكر واحد، عبر عنها في عمل فكري، ثم تلاه آخرون، ينهجون نهجه، ويطورون فكره، ويكملون مادته،
14
العلم العقلي إذن ظاهرة فكرية وليس ظاهرة موضوعية، خرجت من النص الديني عن طريق الفهم والتفسير.
وتخضع هذه الظواهر الفكرية لبعض العمليات العقلية والحضارية التي تحدد طبيعتها وتكوينها، فالظاهرة الفكرية ظاهرة حية بالنسبة للنص نفسه باعتباره موقفا إنسانيا في أصله أو بالنسبة لشعور المفكر الذي تعيش فيه الظاهرة أو بالنسبة للبيئة الثقافية الداخلية أو الخارجية التي يعمل المفكر بها، لها أو ضدها، ففي علم أصول الفقه مثلا تحول النص الديني إلى حكم شرعي عن طريق القياس، وتحول الوحي كله إلى منهج، وفي علم أصول الدين تحول النص إلى معنى عن طريق الفهم أو التفسير، وفي التصوف تحول النص إلى سلوك خلقي عن طريق الزهد والرياضة الروحية، وفي الفلسفة تحول النص إلى نظرة للكون وتصور للعالم لاحتواء نظريات كونية وتصورات للعالم من بيئة ثقافية أخرى، وهذه العمليات إما أغفل الباحثون عنها أو أساءوا فهمها وأصدروا أحكاما تعسفية تهدف إلى إفراغ الظاهرة من مضمونها كما حدث ذلك في الدراسات التي تبنت المنهج التاريخي، مهمة الباحث إذن هو العصور على منطق لهذه العمليات يمكن أن يكون قانونا لهذه الظواهر الفكرية، ويمكن أن يكون عناصر لبعض جوانب المنهج الإسلامي، وهو الهدف الأقصى لكل باحث في العثور عليه، وهو أيضا الهدف الأقصى من «التراث والتجديد» كله، قد تظهر هذه العمليات في أحد العلوم بصورة أوضح مما تظهر في علم آخر، ولكن مهمة الباحث هو تقصي هذه الظواهر في كل علم على حدة، والتعرف على عمليات عامة خضعت لها العلوم كلها بلا استثناء.
فعند المناطقة مثلا سواء كانوا شراحا أم فلاسفة نجد أن هناك عملية معينة سادت تفكيرهم المنطقي بالنسبة للمنطق الأرسطي وهي عملية «الاحتواء»، فالوحي أو النص الديني يحتوي على عناصر ثلاث: الشرعي، والعقلي، والواقعي، الشرعي هو الجديد الذي أتى به الوحي كمعطى قبلي سابق، وقد جاء بناء على دعوة العقل والواقع، ومتكيفا طبقا لهما، والعقلي هو البديهي الذي يرتكز عليه الوحي في العقل الإنساني، والواقعي هي الواقعة التي يرتكز عليها الوحي في العالم خاصة وأن النص أساسا إن هو إلا حل فكري وعملي لموقف معين، وهو ما يسمى «بأسباب النزول»
15
فإذا تبنى المناطقة المسلمون قسمة المنطق الأرسطية إلى تصور وتصديق، التصور ينال بالحد، والتصديق ينال بالبرهان، فلأن هذه القسمة كانت من البداهة العقلية والتجانس المنطقي ضمن العقلي، وهو العنصر الثاني من عناصر الوحي، بعدها يمكن تأييد النظرية بحجج جديدة عقلية أو حتى بشواهد من النص، كما يمكن استخراج نتائج جديدة منها بل وتضخيم البناء النظري لها دون أن يكون هناك أدنى أثر أو تأثر بالمنطق الأرسطي، كل ما حدث هو «احتواء»، بل إنه يمكن عرض القسمة الأرسطية للمنطق باعتباره نظرية عقلية خالصة وهو العنصر الثاني للوحي.
16
وعند الفلاسفة حدثت عملية حضارية أخرى يمكن تسميتها «التشكل الكاذب »
17
يتم بواسطتها التعبير عن مضمون إسلامي أصيل في صورة لفظية من بيئة أخرى متاخمة، فالمعنى الذي ينتج في الغالب من فهم لنص أو تفسير له يعبر عنه بلفظ أجنبي أصبح شائعا ومألوفا، وصار جزءا من ثقافة المفكر العامة، فمثلا «العقل الفعال» اصطلاح من بيئة ثقافية مغايرة هي الثقافة اليونانية، يمكن التعبير به عن المعنى العقلي لله في إحدى صفاته وهو العلم في نظرية النبوة أو القدرة في نظرية الخلق، فمن يطلق عليهم اسم «المشاءون المسلمون» هم في الحقيقة مفكرون قاموا بالتعبير عن مضمون إسلامي أصيل في قالب لفظي انتشر في بيئتهم، وتشبعوا به من ثقافتهم، واستعملوه في لغتهم، فالتشكل الكذاب ظاهرة لغوية محضة خاصة بالاصطلاحات، ويعني التعبير عن معنى من البيئة الثقافية الأصلية بلفظ مستعار من بيئة ثقافية أخرى دخل إلى البيئة الأصلية عن طريق الترجمة وأصبح شائعا مألوفا، والتشكل هنا يعني التعبير عن مضمون أصيل، وهو المعنى في صورة مغايرة له مستعارة هي اللفظ، وهو كاذب لأنه يمس الجوهر أو المضمون ولا يمس إلا العرض وهي الصورة وإغفال هذه العملية الطبيعية التي تحدث كلما التقت حضارتان، حضارة ناشئة، وحضارة قديمة، واستعارة معاني الأولى لألفاظ الثانية يؤدي إلى إصدار أحكام خاطئة عن الأثر والتأثر كما حدث في المنهج التاريخي، في حين أن الله هو واجب الوجود، والواحد، والمحرك الأول، والمعشوق، والخير الأقصى، والعقل، والعاقل، والمعقول، والعلة الأولى، إلى آخر هذه الألفاظ التي تعبر عن المضمون الواحد وهو الله، ومنطق التجديد اللغوي إن هو إلا محاولة لإعادة هذه العملية من جديد ليس مع الثقافة القديمة كما كان الحال عند القدماء بل مع الثقافة المعاصرة لنا وهي الثقافة الأوروبية التي أصبحت مشاعة بيننا الآن ومتداولة عن طريق الترجمة التي أصبحت وبدأت من قبل منذ قرنين من الزمان.
18
فالفلسفة إذن تمثل نمطا واحدا من أنماط الفكر الإسلامي في التاريخ هو الفكر الحضاري الذي يعمل على حافة الحضارة الإسلامية، ويحرس حدودها، ويجدد مفاهيمها بالاتصال بالبيئات الثقافية الأخرى،
19
وغير صحيح على الإطلاق أنها دوائر منعزلة عن الفكر الإسلامي أو أنها تابعة للفلسفات المترجمة من بيئات ثقافية مغايرة، وأنها لا تتعدى حدود شرح بعض جوانبها المنطقية أو الطبيعية أو الميتافيزيقية أو بلغة عصرنا أنها تمثل تبعية فكرية للغرب ووكالة حضارية له، وهو حكم قائم على مجرد التشابه أو التقارب اللفظي أو المعنوي الذي قد يظهر بين الفكر الإسلامي والبيئة الثقافية المغايرة كاليونانية مثلا، مما يؤدي إلى إطلاق أحكام الأثر والتأثر أو التقليد الكامل، وهذا غير مطابق للواقع وعدم معرفة بطبيعة العمليات الحضارية الناشئة عن التقاء حضارتين، إحداهما ناشئة والأخرى قديمة، والواقع يبين أولا أنه ابتداء من عصر الترجمة الذي يعد فتحا جديدا للحضارة الإسلامية بل وبدايتها مثل عصر التدوين أو مثل الفتوحات الفعلية، ظهر الفكر الإسلامي باعتباره أوسع نطاقا وأقل حدودا من الكتب المترجمة، ويدل على ذلك طرق الترجمة، وكيفية ترجمة لفظ أجنبي بعدة ألفاظ عربية، فالترجمة لم تكن تلهفا على الفكر الأجنبي ولكنها كانت فتحا جديدا للفكر الإسلامي، وموقفا أصيلا باعتباره اختيار المواضيع معينة كالفلسفة والمنطق والعلوم الرياضية والطب والكيمياء دون مواضيع أخرى كالشعر الغنائي أو المسرحي بالرغم من أن الثقافة الإسلامية قامت في مجتمع يجد تاريخه في شعره، ويبين الواقع ثانيا أن الأعمال التي قام بها الشراح لا تمثل تبعية مذهبية بل هو عرض فكري لبناء نظري ممكن لا يقف أمامه معارض شرعي أو عقلي، المنطق باعتباره آلة للعلوم، لم لا؟ المنطق باعتباره إما تصور ينال بالحد أو تصديق ينال بالبرهان، ما المانع من ذلك؟ الفلسفة باعتبارها محبة للحكمة أو دراسة للوجود بما هو موجود، ما المعارض في هذا؟ الشرح إذن هو عرض من داخل الحضارة الإسلامية نفسها لنظريات عقلية ممكنة لا يؤيدها الشرع أو يرفضها، بل هي ممكنة عقلا، وما دامت كذلك فإن الشرع يؤيدها، وكثيرا ما يؤيد الشراح شروحهم بمزيد من البراهين والحجج العقلية بل والنصوص الدينية، ويعطون تطبيقات جديدة لهذه النظريات من بيئتهم الثقافية الخاصة، ليس ذلك تلفيقا بل هو تأكيد لبناء نظري ممكن، ثم يأتي دور الفلاسفة، وهم ليسوا شراحا فحسب، بل هم مفكرون قد يثبتون الفكر المنقول أو قد يرفضون، فمنهم من يرفض الله كمحرك أول وأن العالم قديم ويثبت الله خالقا والعالم مخلوقا، ومنهم من لا يرى غضاضة في إثبات الله كعلة أولى وأن العالم قديم وكلاهما يضع في اعتباره الاحتمال العقلي.
وتصاحب هذه العمليات الطبيعية بعض الظواهر الإيجابية والسلبية، فعندما يتحول النص الديني إلى فكرة، والوحي إلى حضارة، تظهر العلوم الدينية العقلية كأبنية نظرية تقوم على فهم نظري للوحي ابتداء من تفسير عقلي للنص، فبناء العلوم التقليدية يرجع في تقييمه إلى مصدر نشأته وهو النص الديني، الظاهرة الإيجابية هي الظاهرة الفكرية التي تصدر من النص الديني بعد فهمه أو تفسيره ثم تعود إليه دون أن يكون لها بقايا يرجع أصلها إلى التاريخ أو إلى بيئة ثقافية أخرى باستثناء الألفاظ والمصطلحات، وبتعبير آخر، الظاهرة الإيجابية هو النص الديني نفسه بعد امتداده في صورة فكر، ويمكن لهذا الامتداد أن يرجع إلى أصله لو غاب سبب التوتر والشد، فمثلا في عالم أصول الفقه ومن قبل في علم الحديث، تحول الحديث إلى منطق تاريخي للنقل، التواتر والآحاد للسند، والنقل بالمعنى والوضع بالمعنى للمتن، كما تحول النص القرآني إلى منطق علة قائم على تعدية حكم الأصل، وهو حكم النص في الواقعية المثالية، إلى الفرع، وهو الواقعة الجديدة لاتحادهما في العلة، كما تحول النص الديني بوجه عام إلى منطق للفعل بعد ظهوره على مستويات خمسة للسلوك، وهي أحكام التكليف، وفي علم أصول الدين تحول النص أيضا إلى معنى أو إلى موضوع نظري مثل النظر والعمل، العقل والنقل، الحرية والاختيار، الذات والصفات ... إلخ، وفي الفلسفة تحول النص الديني إلى نظرة شاملة إلى الكون، وإلى تصور فلسفي عام، وإلى وضع الإنسان بين عالمين، الفكر والواقع، وهي قسمة الفلسفة إلى منطق، وطبيعيات، وإلهيات، وفي التصوف تحول النص الديني إلى بناء وتطور للشعور، وإلى علم وصف للمعطيات الشعورية، فالظواهر الإيجابية هي التي تكون البناء النظري للعلم وهي التي يجب البحث عنها واستقصاؤها وذلك بالرجوع الدائم إلى النص الديني ثم بالخروج منه، فالظاهرة الفكرية هي هذا الشد والإرخاء من النص الديني وإليه.
أما الظواهر السلبية فهي الظواهر التي لا أصل لها في النصوص الدينية والتي لا يمكن أن ترجع إليها، وبتعبير آخر هي الظواهر المتبقية والتي يرجع أصلها إما إلى التاريخ أو إلى أصول أخرى والتي لا يمكن إرجاعها إلى النص الديني، وتحدث هذه الظواهر السلبية عندما تفقد الظاهرة الفكرية تكامل عناصرها أو نتيجة لعمل الفكر نفسه، فإذا كان تحول النص الديني إلى معنى عقلي ظاهرة إيجابية لحياة حضارية ناشئة فإن ترسب هذا المعنى وسكونه في حضارة ما ظاهرة سلبية لحياة منتهية، ففي علم أصول الفقه تحول النص إلى حكم عن طريق منطق استقرائي ذي طابع عقلي صارم، متشبع بقسمة عقلية تتشعب إلى قسمة عقلية أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، فظاهرة التشعب الفكري ظاهرة سلبية وذلك لأن النص لم يعد معنى حدسيا عن طريق الفهم، وفي علم أصول الدين تحول المعنى المستخرج من النص إلى حجة عقلية، تنقسم إلى حجج ثانية، وهذه إلى ثالثة إلى ما لا نهاية، فظاهرة الاستدلال المستمرة ظاهرة سلبية لأن المعنى لم يعد مستخرجا من النص بالفهم الحدسي المباشر، صحيح أن التنظير ظاهرة إيجابية، ولكن تشعب التنظير وصوريته ظاهرة سلبية، وفي التصوف تحول معنى النص إلى وجدان على وجدان حتى انتهى إلى تحليلات لا تنتهي للشعور الإنساني في أدق جوانبه في حين أن النص الديني شعور ولكنه شعور يتجه نحو الفعل، وتشخيص العواطف والانفعالات وتجسيمها وتجسيدها ظاهرة سلبية كذلك لأن المعنى الشعوري يظل معنى ولا يتشخص إلا من عاجز عن تحقيق هذا المعنى كبناء مثالي للعالم، والرجوع إلى الداخل أو الصعود إلى أعلى ظاهرة سلبية ثالثة لأن معنى الوحي وإن كان يبدأ من الشعور الداخلي إلا أنه يتوجه نحو الخارج كي يتحقق كبناء اجتماعي، وهدفه هو تحقيق ذلك إلى الأمام وليس إلى أعلى، وقد يكون التصوف هو أكثر العلوم احتواء على الظواهر السلبية، وأخيرا في الفلسفة تحول النص إلى تصور للعالم محدد بالزمان والمكان، والنص الديني لا يساوي هذا التصور فإنه أقل حكما على العالم، وأكثر شمولا لجوانب أخرى، معنى السلب إذن هي المغالاة في الطابع العام للنمط الفكري، وهي نتيجة للفكر نفسه، فلا توجد حضارة تقدم ظواهر إيجابية دون أن تقدم معها ظواهر سلبية، وهذا هو معنى تحول الوحي إلى حضارة.
وقد ترجع الظاهرة السلبية إلى نقص في توازن الظاهرة الفكرية باعتبارها ظاهرة متكاملة تعبر عن معنى النص الديني وعن الوحي باعتباره بناء نظريا شاملا، كما تنتج أيضا من عمل الفكر في النص، والتاريخ في الوحي، فالنص في طبيعته حقيقة متكاملة تحوي تحليلا موضوعيا لجميع جوانب الواقعة التي يتعلق بها، والفكر بطبيعته ذو جانب واحد مهما دنا من نظرة متكاملة للأمور، يظل الفكر وجهة نظر ورأيا شخصيا مهما قيل في موضوعيته وحياده، ومعظم الانتقادات التي توجه من علم تقليدي إلى علم آخر توجه أساسا لهذه الظواهر السلبية باعتبارها خارجة عن معنى النص أو عن المعاني العامة للنصوص أي عن روح الشريعة وجوهر الوحي، فمثلا في علم أصول الفقه تحول مجموع النصوص إلى قوانين وأحكام مع أن المعاني العامة لهذه النصوص ليست مقصورة على ذلك، ومن هنا أتى هجوم التصوف على الفقه كله باعتباره حرفيا، خارجيا، مائتا، فارغا، عقيما، سطحيا، ساكنا ... إلخ، وفي التصوف تحول النص إلى وجدان وقلب، وحب وعشق، واتحاد وحلول مع أن النص ليس مقصورا على ذلك، ومن هنا أتى هجوم الفقهاء عليه باعتباره ذاتية، وظنا، وتجسيما، وتشبيها، وفي علم أصول الدين، تحول النص إلى معنى نظري أقل اتساعا من النص، وأكثر تحديدا لما لم يحدده النص مثل: الله، وخلق الأفعال ... إلخ، ومن هنا جاء الرفض للفرق الكلامية باعتبارها لا تمثل إلا أمزجة شخصية لمفكريها أو اختيارات سياسية لمواقف محددة، وفي الفلسفة تحول النص إلى معنى وإلى تأمل يؤدي إلى التقوى العقلية التي يتم بواسطتها تحويل النص كله إلى خاصة العقلاء وليس إلى جمهور المؤمنين، ومن هنا أتى هجوم الفقهاء على الفلسفة باعتبارها إعلاء للعقل على الحس، وللتقوى الباطنية على الأعمال الخارجية، فالعلوم العقلية تصحح ظواهرها السلبية بعضها بالبعض الآخر مع أنها كلها ردود فعل مشتركة بينها جميعا، وتكون مهمة «التراث والتجديد» حينئذ إبراز الظواهر الإيجابية، والقضاء على الظواهر السلبية في العلوم العقلية. (3) «التراث والتجديد» وقضية توحيد العلوم
بالرغم من أن التراث أعطانا علوما عقلية أربعة متمايزة هي الكلام والفلسفة والتصوف وأصول الفقه، إلا أن الغاية النهائية من «التراث والتجديد» هو توحيد العلوم كلها في علم واحد يكون مرادفا للحضارة نفسها، فالعلوم كلها تحاول فهم الوحي وتحويله إلى نظرية كما هو الحال في الكلام والفلسفة أو إلى منهج كما هو الحال في الأصول والتصوف، ولكن الغاية النهائية هو تحويل الوحي ذاته إلى نظرية أو إلى علم أو إلى منهج أو إن شئنا إلى «منهاج».
وتوحيد العلوم أمر ممكن لأن كل علم يشير إلى العلوم الأخرى بالمقارنة وغالبا بالتفنيد والنقد، ففي علم الكلام نقد للفلسفة خاصة فيما يتعلق بالأفلاك والمعاني والعقول وقدم العالم، وفيه أيضا نقد للتصوف وأفكاره عن الزهد والاتحاد والحلول، ويتضمن أحيانا بعض المباحث الفقهية والأصولية في خبر الواحد، والمباحث اللغوية والقياس والاجتهاد، وفي الفلسفة نجد إشارات مقتضبة إلى علم الكلام بالرفض لأنه ما زال علما تقليديا لا يفيد الذكي ولا ينتفع به البليد، يقوم على النص وليس على العقل الخالص، ما زال واقعا في التشبيه والتشخيص، ولم يستطع أن يتصور الله على أنه وجود، كما تشير الفلسفة إلى التصوف وتتحد بها في الإشراقيات خاصة عند الفارابي وابن سينا، ولكنها نادرا ما تشير إلى المباحث الأصولية إلا فيما يتعلق بمناهج التفسير، وأخذ جانب المجاز، والمتشابه، والمجمل، والمؤول، والمطلق وتفضيله على جانب الحقيقة، والمحكم، والمبين، والمقيد، والظاهر حتى يستطيع الفيلسوف تأويل النص بما يتفق مع العقل، وفي التصوف نجد إشارات مستمرة إلى الكلام والفلسفة والأصول بالرفض والتفنيد، فالله ليس كما تصوره علماء الكلام منزلها، والحقيقة ليست كما تصورها الفلاسفة عقلية مجردة أو كما تصورها الأصول على أنها شريعة بل الله عياني ، والحقيقة قلبية، والمعرفة كشفية، وأخيرا في أصول الفقه نجد إشارات أخرى إلى التصوف فيما يتعلق بالأحوال وكيف أنها لا تصح أن تكون سلوكا عاما للناس جميعا أو إشارات ثالثة إلى الفلسفة في بعض المباحث المنطقية، فوحدة العلوم ممكنة من خلال صورة كل علم في العلم الآخر.
وكثيرا ما يند عديد من المفكرين عن التصنيف مثل الغزالي، فهو ليس متكلما فقط ولا أصوليا فقط ولا منطقيا فقط ولا فيلسوفا فقط ولا صوفيا فقط، بل هو كل ذلك في نفس الوقت، وكأن وحدة الحضارة وعلومها تظهر من خلال وحدة الفكر وثقافته، وكذلك ابن تيمية، فهو ليس أصوليا فقط أو فقيها فقط أو منطقيا فقط أو متكلما فقط أو فيلسوفا فقط بل هو كل ذلك في آن واحد،
20
وكذلك ابن سينا، هل هو فيلسوف أم متصوف أم طبيب؟ وابن رشد، هل هو فيلسوف أم متكلم أم فقيه أم طبيب؟ وابن حزم، هل هو متكلم أم فقيه أم منطقي أم عالم نفس؟ وحدة الحضارة ممكنة إذن من خلال وحدة المؤلف.
وتوحيد العلوم أمر ممكن، فالتراث والتجديد مع أنه دراسة في الفكر إلا أنه يقوم على منهج فقهي بمعنى أنه يطبق على الفكر القياس الفقهي، ويعتمد على الاجتهاد في الفكر، فكل ما يتفق مع الصالح العام في التراث القديم يبقى ويثبت، وكل ما يخالف الصالح العام يرفض وينقد، فالصالح العام هو الأصل وأحد مصادر الشرع، بل إن الشرع ذاته قائم على أساس المحافظة على المصلحة التي سماها الأصوليون الضروريات الخمس: الدين، والحياة، والعقل، والعرض، والمال، «التراث والتجديد» دراسة فقهية يقوم بها فقيه في الحضارة الإسلامية ككل وليس في الفقه وحده، وقد كان هذا سلوك الفقهاء من قبل عندما كانوا يفتون في الفقه، ويضعون قواعد الأصول ثم يطبقون القياس الشرعي في الأفكار المتداولة في بيئتهم الثقافية في الكلام أو الفلسفة أو التصوف، وبهذا المعنى كان الفقهاء حراس المدينة، وكانوا هم الحريصون على أصالة القديم وجدته المستمرة، فتوحيد العلوم إذن قائم لحساب الفقه والأصول أي لحساب المصلحة العامة التي هي في نفس الوقت مقياس التراث، وأساس الوحي، ومطلب العصر.
وتوحيد العلوم أمر ممكن وذلك بأخذ كل ما أعطته العلوم التقليدية وما لبى مطالب العصر، فتأكيد الحرية في علم التوحيد، والعقل، والعمل، والشورى، كلها أفكار تعبر عن أهم ما أعطى علم التوحيد القديم وما يلبي نداءات العصر، وتشوقه نحو التحرر والعقلانية، والعمل، وحكم الشعب لنفسه، وتأكيد العقل وإمكانياته التي لا حدود لها في التفسير والفهم وهو أهم ما أعطته الفلسفة وهو في نفس الوقت تلبية لاحتياج العصر إلى عقلانية وتنظير، وتأكيد رسالة الإنسان في الحياة وإحساسه بالدعوة والغاية، وعمله لتحقيقها، ووهب حياته كلها لذلك، وهو أهم ما أعطاه التصوف، هو أيضا تأكيد لمطلب العصر، وتحقيق لإحساسنا بالرسالة، وقضاء على الترهل والانسياب والخواء السائد في العصر، توحيد العلوم إذن أمر ممكن بناء على ما أعطته هذه العلوم في التراث وبناء على احتياجات العصر.
وإذا كان التراث القديم قد أعطانا علوما عقلية أو علوما دينية أو علوما شرعية أو علوما نقلية أو علوما شرعية عقلية أو دينية عقلية إلى آخر هذه التسميات التي توحي بأن العلم بمعناه القديم كان مجرد إعمال للعقل في النص الديني، فإن العصر الحاضر هو عصر العلوم الإنسانية، وبالتالي تكون مهمة «التراث والتجديد» هو تحويل العلوم العقلية القديمة إلى علوم إنسانية، وأن يصبح الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، كل منها علما إنسانيا، قد يسهل ذلك في أحدها، ويصعب في الآخر، ويتحدد ذلك بدرجة قرب العلم التقليدي أو بعده هو ذاته عن العلم الإنساني، فمثلا من السهل تحويل علم أصول الفقه إلى مناهج بحث، والفقه إلى علم اقتصاد وتشريع وسياسة، والتصوف إلى علم نفس وأخلاق، وعلم الحديث إلى علم نقد تاريخي، ولكن يصعب الأمر قليلا إذا أتينا إلى الكلام والفلسفة، هل يمكن تحويل «الثيولوجيا» إلى «أنثروبولوجيا»
21
ولكن الأنثروبولوجيا المعاصرة هي دراسة لنشأة الإنسان وليس لماهية الإنسان، كما أنها دراسة للبدن وللتطورات التي طرأت على الهيكل العظمي عبر التاريخ، وليس دراسة للفكر أو الحضارة إلا في الأنثروبولوجيا الحضارية، ولكن كثيرا من مشاكل علم الكلام يوجد حلها في العلوم الأخرى، فالإمامة تدخل في العلوم السياسية، والعقل والنقل يدخلان في نظرية المعرفة ومناهج البحث لأنها مشكلة منهجية، وخلق الأفعال يدخل في علم النفس، والتوحيد في علم النفس الاجتماعي، والفلسفة أيضا يمكن تحويلها إلى علم إنساني، وذلك بوصف وضع الإنسان في العالم، وتحليل الخبرات الشعورية عند الإنسان وإدراك معانيها يمكن أن يدخل المنطق في الفلسفة القديمة كجزء من مناهج البحث، والطبيعيات كجزء من علم الطبيعة، وترد الإلهيات إلى علم النفس الاجتماعي أو إلى علم اجتماع المعرفة.
وإذا كان التراث قد أعطانا علوما عقلية عبر فيها عن آخر ما وصلت إليه قدراته من تعقيل للنص، وتنظير للوحي، وإذا كان التجديد باستطاعته تحويل هذه العلوم التقليدية إلى علوم إنسانية، فإن العصر الحاضر يود القيام بخطوة أكثر تقدما وهي تحويل العلوم الإنسانية وريثة العلوم التقليدية إلى أيديولوجية، وتلك هي الغاية القصوى من «التراث والتجديد» فإذا قال القدماء: الإنسان حيوان ناطق فإننا نقول: الإنسان حيوان أيديولوجي، فالعلوم العقلية القديمة بتحويلها إلى علوم إنسانية معاصرة يمكن بعد ذلك تحويلها إلى أيديولوجية تجيب مطالب العصر، والأيديولوجية ليست مجرد مجموعة من الآراء والنظريات تعطينا تصورا للعالم قائما على أساس التاريخ والطبقة، ولا تطابق الواقع في شيء بل الأيديولوجية علم، وعلم نظري وعملي على السواء، الأيديولوجية علم نظري لأنها تعبير نظري عن مطالب الواقع، وعلم عملي لأنها تعطي وسائل تحقيقها بعفل سلوك الجماهير، فإذا كانت بداية العلوم العقلية التقليدية هو الوحي فإن نهاياتها هي الأيديولوجية، «التراث والتجديد» في النهاية إن هو إلا تحويل للوحي من علوم حضارية إلى أيديولوجية أو ببساطة تحويل الوحي إلى أيديولوجية، وارتباط الأيديولوجية بالواقع، وتعبيرها عن عصر معين لا يعني أنها متطورة ومتغيرة باستمرار، فالوحي أيضا علم للمبادئ العامة التي يمكن بها تأسيس العلم ذاته وتأسيس العلوم الجزئية، والتي يمكن أن تكون الأساس العقلي للأيديولوجية، تكون مهمة «التراث والتجديد» إذن تحويل الوحي إلى علم شامل يعطي المبادئ العامة التي هي في نفس الوقت قوانين التاريخ وحركة المجتمعات، فالوحي هو منطق الوجود. (4) الخطة العامة لمشروع «التراث والتجديد» «التراث والتجديد» هو العنوان العام للبحث كله لأنه لا يعالج فقط مناهج البحث في التراث القديم بل يعالج التراث ذاته كمشكلة وطنية هي مشكلة الموروث وأثره النفسي على الجماهير وموقفنا بالنسبة له، ووسائل تطويره وتجديده، فالمعركة الحقيقية الآن معركة فكرية وحضارية ولا تقل أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلحة إن لم تكن أساسها، وإن الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية كما أنها هزيمة عسكرية، وإن الخطر المدهم الآن ليس هو فقط ضياع الأرض بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد، وانجرارنا إلى نقد الأصالة في تراثنا القديم ونقدنا المعاصرة التي حاولها تراثنا القديم مع الثقافات المعاصرة له، «التراث والتجديد» هو مشروع الأصالة والمعاصرة التي لم نستطع أن نحققها حتى الآن، وبعد توالي الهزائم، ولم نكن نلمسها إلا دعاية أو ادعاء.
ويشمل التراث والتجديد ثلاثة أقسام، تعبر عن موقفنا الحضاري الحالي الذي يحدد اتجاهات الدراسة والبحث. (4-1) القسم الأول: موقفنا من التراث القديم
ويهدف هذا القسم إلى إعادة بناء العلوم التقليدية ابتداء من الحضارة ذاتها، بالدخول في بنائها، والرجوع إلى أصولها لبيان نشأتها وتطورها، سواء بالنسبة إلى كل علم أو بالنسبة لمجموع العلوم، ويتم ذلك بالإشارة إلى هذه الأصول نفسها، والبدء منها واستعمال لغتها، والتفكير مع مؤلفيها بدون أية إشارة إلى عوامل خارجية من ظروف أو تأثرات إلا إذا اعتبرت هذه الظروف كمثيرات وهذه التأثرات كتشكل كاذب، وهي العملية التي تتم بين اللغة والفكر، التعبير عن مضمون الفكر بلغة جديدة، فلا توجد أية إشارات إلى حضارات أخرى معاصرة قديمة أو حديثة لأن هذا القسم الأول يعيد العلوم التقليدية من الداخل وليس بإرجاعها إلى مصادر خارجية عنها أو تطويرها بتطبيقها على علوم في حضارات أخرى، كل ما يهدف إليه هذا القسم هو أن تدور عملية الحضارة، وأن تسير من جديد حتى يعاد ربط الفكر بالواقع، والعلوم بالتاريخ، أما ما يبدو وكأنه صادر لا محالة من حضارة أخرى سواء في اللغة أو في المفاهيم أو في المناهج، وكان الأمر كذلك، فإن ذلك كله له أصوله في التراث وله واقعة في واقعنا المعاصر إما من حيث المطلب أو من حيث الثقافات الشائعة المتداولة السارية في ثقافتنا المعاصرة، لقد أصبح ذلك كله جزءا من وجداننا المعاصر، ولم يعد دخيلا عليه، واستعمال ألفاظ الفكر، والواقع، والشعور، كل ذلك له ما يرادفه في التراث القديم، وله ما يبرره في تحليلات الواقع وإن كان لها ما يشابهها في الثقافات الأخرى المجاورة التي دخلت ثقافتنا المعاصرة بفعل التقاء الحضارات، وذلك لا يتعدى استعمال أساليب العصر وليس استعمالا لأساليب مستعارة.
ويشمل القسم الأول من «التراث والتجديد» وهو «موقفنا من التراث القديم» ثمانية أجزاء، كل جزء خاص بعلم قديم، ثم جزء ثامن على النحو الآتي:
الجزء الأول: علم الإنسان
وهو محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين التقليدي، وقد بدأنا بهذا العلم لأنه أول العلوم الإسلامية من حيث الظهور، ومرتبط بالبيئة الإسلامية أشد الارتباط، ولم يخضع لأي أثر خارجي في نشأته، بل كان الدافع عليه الأحداث السياسية التي زخر بها العالم الإسلامي منذ الفتنة مما حدا بالبعض إلى اعتبار هذا العلم هو الفكر الإسلامي الأصيل، كما أنه أخطر العلوم التقليدية على الإطلاق على الإنسان والحياة، والفلسفة ذاتها تمثل تقدما بالنسبة له، وأقل خطورة منه، وهو العلم الذي يمكن بواسطته سد النقص النظري في واقعنا المعاصر، والذي يمكنه أن يمدنا بأيديولوجية عصرية، تشمل على لاهوت الثورة، ولاهوت الأرض، ولاهوت التحرر، ولاهوت التنمية، ولاهوت التقدم، وهو العلم الذي يعرض للوحي في أساسه النظري، والذي يمس لب الدين وجوهر العقيدة، والذي يعرض لحقيقة الإيمان؛ لذلك سماه القدماء الفقه الأكبر.
22
الجزء الثاني: فلسفة الحضارة
وهي محاولة لإعادة بناء الفلسفة التقليدية، وتوضيح طبيعة العمليات الحضارية التي حدثت في الفلسفة الإسلامية القديمة نتيجة لتقابل الحضارة الإسلامية الناشئة مع الحضارة اليونانية الوافدة مع تناول ما حدث في عصرنا الحاضر منذ القرن الماضي من موقف مشابه من التقاء الحضارة الإسلامية الناهضة مع الحضارة الأوروبية الغازية، ومع أن الفلسفة الإسلامية آخر العلوم التقليدية في الظهور لأنها لم تنشأ إلا بعد عصر الترجمة في القرن الثاني إلا أننا قد ثنينا بها لأنها تشارك علم أصول الدين في طابعه النظري في مقابل التصوف وأصول الفقه كعلوم عملية، ولأنها تغلب عليها مباحث الكلام خاصة في الإلهيات وفي الطبيعيات، ولأنهما معا، الكلام والفلسفة، متصلان من حيث النشأة عند الكندي، فالفلسفة إن هي إلا علم كلام متطور، ومن حيث النهاية عند الإيجي حيث ابتلعت المباحث الفلسفية المباحث الكلامية، ولأن الفلسفة بثنائياتها تمثل خطورة كبرى على التوحيد.
الجزء الثالث: المنهج الأصولي
وهي محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه التقليدي،
23
وهو سابق على التصوف لاحتياج المجتمع إلى التشريع قبل حاجته إلى الزهد، وهو العلم المنهجي الذي استطاع تحويل الوحي إلى منهج استنباطي استقرائي من حيث هو «علم التنزيل»، وهو أفضل ما أخرجته الحضارة الإسلامية من حيث هو علم مستقل، بلغة علمية عقلية، ويتضح فيه تكوين الإنسان الداخلي من حيث هو زمان ونية، والخارجي من حيث هو فعل وسلوك، وقد يكون له ملحقان: الأول عن «الفقه الاجتماعي» أو «فقه الوجود» وفيه تتغير مادة الفقه التقليدي التي تغلب عليها الأحوال الشخصية إلى مادة أخرى عصرية يغلب عليها الطابع الاجتماعي، وتثار فيه مسائل التنمية، والتحرر، والتغير، والتقدم، والملحق الثاني عن «الفكر الأصولي الفقهي» الذي حاول تصفية كل مظاهر الفكر الحضاري في الكلام والفلسفة والتصوف على حد سواء.
الجزء الرابع: المنهج الصوفي
وهي محاولة لإعادة بناء علوم التصوف باعتباره الممثل للمنهج الوجداني، وظهور الإنسان أخيرا فيه كبعد مستقل، واكتشاف الشعور كنقطة بداية لتأسيس العلم، ويجيء التصوف أخيرا لأنه كان رد فعل على أصول الفقه والفقه والمناهج العقلية بوجه عام في الكلام والفلسفة، كما أنه لم يتأسس كعلم قبل القرن الرابع، ولو أنه من حيث النشأة ظهر مبكرا كحركة زهد وعبادة وبكاء وتحسر أيام الحكم الأموي كحركة مقاومة سلبية للداخل ومتجهة إلى أعلى وليس إلى الخارج ومنطلقة إلى الأمام، والأصول والتصوف كلاهما يمثلان الفكر المنهجي في مقابل الكلام والفلسفة اللذين يمثلان الفكر النظري ، والتصوف يمثل خطورة كبرى على وجداننا المعاصر وسلوكنا القومي ، تعادل خطورة الكلام، بما يمثله من قيم سلبية من صبر، وتوكل، ورضا، وقناعة، وخوف، وخشية، وبكاء، وحزن إلى آخر ما هو معروف من مقامات وأحوال.
الجزء الخامس: العلوم النقلية
وفيه تتم إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة: علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، من أجل إسقاط المادة القديمة التي أصبحت بغير ذي دلالة مثل الآيات التي نسخت قراءتها وحكمها أو تاريخ المصاحف وجمعها وإبراز الموضوعات ذات الدلالة مثل أسباب النزول (أولوية الواقع على الفكر) الناسخ والمنسوخ (الزمن والتطور) ... إلخ، أما علم التفسير فإنه أيضا يعاد بناؤه بحيث يتم تجاوز التفسير الطولي (سورة سورة وآية آية) وتجاوز التفسيرات اللغوية والأدبية والفقهية ... إلخ، وبداية التفسير الموضوع بوصف بناء الشعور ووضعه في العالم مع الآخرين ووسط الأشياء، أما علوم الحديث فإنه يتم فيها تحليل الشعور، شعور الراوي من خلال مناهج الرواية ثم تجاوزها إلى النقد العقلي والحسي للمتن، وفي علوم السيرة يتم الانتقال من الشخص إلى الكلام حتى يتم القضاء على التشخيص وعبادة الشخص في حياتنا العامة.
أما علم الفقه فإنه يتم إعادة بنائه بحيث تعطى الأولوية للمعاملات على العبادات ولنظم الدولة على قانون الأحوال الشخصية.
الجزء السادس: العلوم العقلية
وفيه يتم إعادة بناء العلوم الرياضية من جبر وحساب وهندسة وفلك وموسيقى بحيث يتم اكتشاف موجهات الوحي الشعورية التي أدت إلى الاكتشافات النظرية في هذه العلوم وبالتالي يتم معرفة وظيفة التوحيد في الشعور في البحث عن المفارق والمتعالي وما يعنيه من تقدم مستمر في البحث العلمي، كما يتم إعادة بناء العلوم الطبيعية من كيمياء وطبيعة وطب وتشريح ونبات وحيوان وصيدلة من أجل معرفة وظيفة الوحي في توجيه الشعور نحو الطبيعة وتحليل قوانينها، وهو ما سمي في دراساتنا الحديثة تاريخ العلوم عند العرب وهي العلوم الإسلامية التي نشأت أيضا بتوجيه الوحي نحو العقلي ونحو الطبيعي، وتكون مهمة هذا الجزء تجاوز الصوري والمادي والعودة إلى الشعوري.
الجزء السابع: العلوم الإنسانية
وفيه يتم إعادة بناء علوم النفس والاجتماع والسياسة والتاريخ والجغرافيا واللغة والأدب بحيث يتم التعرف من خلالها على وظيفة التوحيد في الشعور وتوجيهه إياه نحو الإنساني الفردي والاجتماعي، وبالرغم من أن هذه العلوم قد ظهرت من قبل في العلوم الدينية الأربعة إلا أنها حاولت أن تكون علوما مستقلة تعتمد على البحث والاستقصاء دون الاعتماد على الحجج النقلية، مهمة هذا الجزء إذن هي معرفة كيفية توجيه الوحي للشعور نحو الإنساني وكيفية تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني.
الجزء الثامن: الإنسان والتاريخ
وهي محاولة لوصف بناء الحضارة الإسلامية وتطورها مع تأسيس وحدة العلوم في التراث القديم، ونقل الحضارة الإسلامية إلى طور جديد، وتحويل صورتها في التاريخ من حضارة الكهف إلى حضارة السهم، ومن الدائرة إلى الخط، ومن الأعلى إلى الأمام،
24
والإنسان والتاريخ هما البعدان المستتران في تراثنا القديم والواضحان في العصر الحاضر،
25
غاية «التراث والتجديد» هو الكشف عن الإنسان في التراث القديم وتثبيته في وجدان العصر ووضعه في التاريخ، وسينظر إلى الحضارة كلها في طورها الأول الذي نشأت وتطورت فيه، ثم في طورها الثاني الذي بدأت تعيش فيه على ذاتها في عصر الشروح والملخصات ثم في دورها الثالث منذ عصر الإصلاح الديني في القرن الماضي، وإحياء التراث في هذا القرن، وإقامة نهضة شاملة تتمثل في إرهاصات الإصلاح والإحياء. (4-2) القسم الثاني: موقفنا من التراث الغربي
ويهدف هذا القسم إلى إعادة الكرة مرة أخرى، وإقامة حضارة إسلامية جديدة بالإضافة إلى الحضارة الإسلامية التي ورثناها؛ وذلك لأننا في عصر مشابه للعصر القديم عندما واجه تراثنا الناشئ التراث اليوناني الوافد، ونحن منذ أوائل القرن الماضي في مواجهة مفتوحة مع التراث الغربي، والحال أسوأ لأن الوفود قد تحول إلى غزوه، ووعينا بأنفسنا وبأصولنا وبنموذج الماضي ضعيف ومترهل، فتحديد موقفنا من التراث الغربي جزء من حركة التاريخ وتطور الحضارة، واستمرار لما بدأناه في العصر القديم كما أنه تحليل لواقعنا المعاصر الذي أصبح التراث الغربي جزءا من تكوينه الثقافي، كما أنه واجب وطني وقومي من أجل تأصيل موقفنا الحضاري، والقيام بالحركة التي لم نقم بها حتى الآن وهي معركتنا مع الثقافة الغربية الوافدة، وهو ما نذكره أحيانا باسم الاستعمار الثقافي، ولا تعني الثقافة الوافدة هنا ما تروج له الدوائر الرجعية في عصرنا هذا من اعتبار الماركسية خاصة ثقافة وافدة لأن الماركسية وإن ظهرت في واقع معين إلا أنها نظرة علمية للواقع، وتعبر عن متطلبات البلاد النامية لا عن طريق الوفود بل بتحليل واقعها المعاصر. مهمة هذا القسم بيان حدود الثقافة الغربية ومحليتها بعد أن ادعت العالمية والشمول، وإخراج أوروبا من مركز الثقل الثقافي العالمي، ومن محور التاريخ وردها إلى حجمها الثقافي الطبيعي في الثقافة العالمية الشاملة.
26
وهذا القسم هو في نفس الوقت عرض للحضارة الإسلامية ولكن ابتداء من حضارة أخرى إما بالنقد أو بالتأكيد - لا بالتأييد - وذلك لأن علوما مماثلة قد نشأت في حضارات أخرى، وتطورت في ظروف مشابهة أو مختلفة. ونظرا لوجود الباحث المتاخم لحضارات عدة فإنه يجد نفسه معبرا عن مضمون فكرة بلغة حضارة أخرى أو ناقدا لمضمون فكر آخر بلغته التقليدية. هذا القسم الثاني مماثل للقسم الأول في أن كليهما يبدأ من الحضارة ككل إما ابتداء من حضارة الباحث أو ابتداء من الحضارات المتاخمة له.
ويشمل هذا القسم خمسة أجزاء، كل جزء خاص بفترة حضارية معينة لحضارة ذات طابع تاريخي خالص لا مركز لها في الوحي إلا من حيث قوة الطرد الذي يمثله لها.
الجزء الأول: عصر آباء الكنيسة
وهي محاولة لدراسة نشأة الفكر الغربي في الفترة الأولى من القرن الأول حتى القرن السابع، وتتم فيه دراسة تاريخ الفكر الأوروبي في مصادره الأولى ومنذ نشأته عند آباء الكنيسة اليونان ثم الرومان. وأهمية هذه الفترة ترجع إلى أن الوحي الإسلامي قد أصدر أحكاما عليها فيما يتعلق بصحة الكتب المقدسة أو سلامة العقائد الدينية أو سلوك أهل الكتاب، فدراسة هذه الفترة تكون في نفس الوقت نوع من تفسير الوحي الإسلامي بالعثور على الوقائع التاريخية التي يشير إليها، وليس أن الوحي الإسلامي هو المروج لبعض الكتابات المنتحلة وبعض العقائد الزائفة التي لفظتها الكنيسة خارج كتبها المقننة وعقائدها الرسمية.
27
الجزء الثاني: العصر المدرسي
وهي محاولة لتاريخ الفكر الغربي في مرحلته الثانية وهي العصر المدرسي، أو العصر الوسيط المتأخر، وأهميتها أنها هي الفترة التي كانت وعاء للحضارة الإسلامية بعد أن تمت ترجمتها، وتعرف عليها اللاتين، وتأثروا بها، ونشأت لديهم الفلسفات العقلية والاتجاهات العملية، واهتزت السلطة الدينية والعقائدية، وفي نفس الوقت ظلت السلطة الدينية ممثلة للدجماطيقية والمدرسية حتى حدث بعدها وبفعل التنوير الإسلامي أكبر رد فعل عنيف عليها في العصور الحديثة، وهي أيضا الفترة التي ظهرت فيها الفلسفة اليهودية العقلية لأول مرة في تاريخ اليهود، ضمن إطار الفلسفة الإسلامية، وهي الفترة التي تواكب ازدهار الحضارة الإسلامية وبلوغها أوجها.
الجزء الثالث: الإصلاح الديني وعصر النهضة
وهي محاولة لتاريخ الفكر الأوروبي إبان الإصلاح الديني وعصر النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وفيها تمت، بعد عصر الإحياء في القرن الرابع عشر، أول محاولة لرفض سلطة القديم في العصر المدرسي، واحتكار الفكر، ورفض السلطة الدينية، وبداية إثبات الحرية والعقل والإنسان كحقائق أولية، وبداية كشف الإنسان بجهده الخاص للعلوم والفنون والصناعات، ورفض تغليف الواقع باسم الدين أو باسم السلطة، ولكنها أيضا هي الفترة التي بدأت فيها أوروبا في الخروج عن حدودها والاستيطان على سواحل آسيا وأفريقيا وأمريكا، وما سمته الكشوف الجغرافية، وهي بالنسبة لنا بدايات الاستعمار الاستيطاني، وهي الفترة التي تعادل بداية التوقف في حضارتنا بعد ابن تيمية وابن خلدون، وبداية عيش الحضارة الإسلامية على تاريخها، وظهور الموسوعات الكبيرة، وحركة الشروح والملخصات، فبينما يبدأ الفكر الغربي في النهوض تبدأ حضارتنا نحن في التوقف والانحسار، وتنشغل بالتأريخ لنفسها.
الجزء الرابع: العصر الحديث
وهي محاولة لبداية تاريخ الشعور الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر ابتداء من واقعة الكوجيتو، وبداية الفصم في الشعور الأوروبي بين الاتجاه العقلي الصوري والاتجاه المادي الحسي. وهذان الخطان اللذان سيظلان منبعجين منفرجين حتى يلم شملهما من جديد في القصدية الشعورية، وهو العصر الذي يحاول فيه الشعور الخاص اكتشاف الحقائق العامة مثل: التنزيه، والعقل، والحرية، والتقدم، والإنسان، والفردية، والغائية، والمثال، كما وضح ذلك في الفلسفة العقلانية في القرن السابع عشر وفلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، وهما دعامتا الليبرالية الأوروبية، وهي الفترة التي تواكب استمرار توقف حضارتنا وعيشها على ذاتها وتدوينها لتاريخها.
الجزء الخامس: العصر الحاضر
وهي محاولة لتأريخ الشعور الأوروبي في لحظته الأخيرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين حيث تحاول مذاهب القرن التاسع عشر ضم الاتجاهين السابقين اللذين أفقدا الشعور الأوروبي توازنه في رؤية للظواهر حتى أتت الفينومينولوجيا فاكتملت المثالية الأوروبية وعاد الخطان المنفرجان إلى الشعور من جديد، وتحول الموضوع داخل الذات حتى قضى نهائيا على الصورية والمادية، ولكن بدايات الانهيار ظهرت أيضا في القرن التاسع عشر بانتشار الوضعية، وظهور فلسفات التاريخ التي تعبر عن العنصرية والقوة والسيطرة من أجل المجال الحيوي للقوميات العرقية، وهي الفترة التي بدأت فيها حركاتنا الإصلاحية في القرن الماضي محاولة نقل حضارتنا إلى طور جديد، بادئة بالإحياء ثم الإصلاح.
فإذا كان القسم الأول من «التراث والتجديد» وهو «موقفنا من التراث القديم»، قد أعلن بداية شعور العالم بالثالث كطليعة للتاريخ، فإن القسم الثاني «موقفنا من التراث الغربي» يعلن نهاية الشعور الأوروبي، وتخليه عن دور القيادة للتاريخ البشري.
28 (4-3) القسم الثالث: نظرية التفسير
ويهدف هذا القسم إلى إعادة بناء الحضارتين معا في القسمين السابقين، والبداية من جديد ابتداء من أصولها الأولى في الوحي أي في كتبها المقدسة؛ «فالتراث والتجديد» هو في الحقيقة محاولة لإعادة بناء الحضارة بالرجوع إلى مصدرها في الوحي أو إعادة تفسير الوحي كما هو بالرجوع إلى الحضارة الإنسانية الحالية وتخليصها من الركود التاريخي القديم، وهو ما يعادل «علوم القرآن» في تراثنا القديم. فالغائية النهائية هو الوحي ذاته وإمكانية تحويله إلى علم إنساني شامل، وهذا لا يتم إلا عن طريق «نظرية في التفسير» تكون منطقا للوحي، وقد بان من القسمين الأولين أن الأفكار البشرية كلها تخضع في الحقيقة إلى نظرية في التفسير، تفسير النص أو تفسير الواقع، وإذا كانت هناك أبنية خاطئة في العلوم التقليدية أو في المذاهب الغربية فإنها ترجع أساسا إلى أخطاء في نظرية التفسير. التفسير إذن هي النظرية التي يمكن بها إعادة بناء العلوم والتي يمكن بها تحويل طاقة الوحي إلى البشر، وصبها في الواقع وتحديد اتجاهنا الحضاري بالنسبة للثقافات المعاصرة، ويكون هذا القسم أيضا محاولة لعرض التراث القديم لا باعتباره حضارة وجدت في الزمان والمكان مستقلة بذاتها أو متاخمة لحضارات أخرى، ولكن باعتباره فكرا مستقلا إما نابعا من أصوله في الوحي أو في أسس العقل أو في بناء الواقع، فإذا كان القسمان الأولان من «التراث والتجديد» قد عرضا لحقائق الوحي كما ظهرت في التاريخ، فإن القسم الثالث يعبر عن حقيقة الوحي ذاتها دون نظر إلى تحققاته في التاريخ، وقد يكون هذا التعبير نفسه نوعا من التفسير له، فإنه تحول له في الزمان، في هذا العصر، بمفاهيمه، ومناهجه، ولغته، وتصوراته، وبالتالي يكون أقرب إلى القسم الأول الذي يحاول فهمه ابتداء من التراث القديم بإرجاعه إلى أصوله أو بإعادة بنائه في العقل وفي الواقع؛ ومن ثم يظل القسم الثالث تفسيرا في الزمان وتظل نظرية التفسير مجرد إمكانية واستفهاما يستحيل تحقيقها بالفعل أو تطبيقها ما دامت نتيجة للجهد البشري، ولكن قد تظل النظرية أيضا نمطا مثاليا خالصا يتحقق في كل زمان ومكان، إذا ما توصلت إلى علم المبادئ العامة للوحي
L’Axiomatiqne de la Révélation .
ويشمل هذا القسم ثلاثة أجزاء طبقا لوضع الوحي في التاريخ.
الجزء الأول: العهد الجديد
وهي محاولة لتحقيق صحة الوحي في التاريخ ابتداء من مراحل الوحي السابقة على المرحلة الأخيرة أعني التوراة والإنجيل، أو كما يقال بلغة أهل الكتاب. العهد القديم والعهد الجديد سواء من حيث فهم النصوص أو من حيث سلوك أهل الكتاب، وهو مساهمة منا بالبحث عن الوحي السابق وإعادة التحقيق من صحته، واستعمال مناهج النقل التاريخي - الشفاهي أو الكتابي - من أجل الوصول إلى درجة من درجات اليقين بالنسبة للنصوص الدينية، مساهمة منا لأهل الكتاب في التعرف على كتبهم المقدسة تمحيصا وفهما وسلوكا، وفي نفس الوقت يكون تحقيقا للفروض الإسلامية الخاصة بها، فروض التحريف والتغيير والتبديل والإخفاء والزيادة والنقصان، وقد نشأ النقد التاريخي الأوروبي للقيام بهذه المهمة وانتهى إلى نفس الفروض الإسلامية .
29
وفي هذا الجزء تتم مراجعة العهد الجديد نشأة وتكوينا والتمييز بين أقوال المسيح وأقوال الحواريين، والفصل بين الكتاب المقدس والتراث الكنسي، وهو نواة التراث الغربي، فالتراث الغربي كله ما هو إلا رد فعل على هذه النواة الأولى.
الجزء الثاني: العهد القديم
وفيه يتم تحليل العهد القديم الكتاب المقدس عند اليهود والتمييز بين كتبه وكتب التوراة، وكتب التاريخ (كتب الملوك وكتب القضاة) وكتب الأنبياء وكتب الحكمة ... إلخ، ومعرفة ما قاله الأنبياء وما قاله الأحبار والملوك، ثم دراسة تطور العقائد عند بني إسرائيل الذي لا ينفصل عن تاريخهم القومي: عصر البطاركة، عصر الأنبياء، عصر التدوين، والعصر الوسيط والعصر الحديث. وقد كانت هذه سنة علمائنا القدماء في التعرض إلى نقد الكتب المقدسة، وما زال المطلب قائما فنحن ما زلنا في مواجهة أهل الكتاب بمواجهتنا لمخاطر الاستعمار والصهيونية.
الجزء الثالث: المنهاج
وهي محاولة لتجاوز مناهج التفسير التي عرفها تراثنا القديم، الكلامية والفلسفية والفقهية والصوفية، وتراوحها بين مناهج نصية أو عقلية أو واقعية أو وجدانية، ثم محاولة وضع نظرية جديدة للتفسير تكون جامعة لها كلها، تبدأ من الواقع الشعوري الذي يقدم لنا التجارب الحية التي يقوم العقل بتحليلها ويصل إلى معان تكون هي معاني النص. والتي يمكن أيضا إدراكها بالحدس الموجه إلى النص مباشرة أو إلى الواقع المباشر. وبالتالي يمكن تقنين المداخل إلى النص، ومعرفة أخطاء التفسير مسبقا بمعرفة أخطاء المنهج، ويكون التفسير في نظريته الجديدة دعامة التجديد، والمدافع عن شرعيته، والهادم لأية محاولات أخرى للتفسير تود الإبقاء على الأوضاع القائمة، والحد من حركة التغير الاجتماعي وإيقاف مسيرة التاريخ. فالبحث عن «المنهاج» هو نهاية «التراث والتجديد» وبغيته الأولى، محاولة للعثور على منهاج إسلامي عام لحياة الفرد والجماعة، ووصف الإنسان في الوحي في علاقاته بقواه النظرية والعملية، وفي علاقته مع الآخرين، ومع الأشياء، ويكون بمثابة الأيديولوجية التي يمكنها تنظير الواقع وتطويره، وهي الحقيقة نفسها التي حاول الجميع البحث عنها سواء في تراثنا القديم ابتداء من الوحي أو بالجهد الإنساني الخالص في التراث الغربي. وقد نذكر منه بعض جوانبه في القسم الأول لبيان إلى أي حد استطاعت العلوم التقليدية الاقتراب منه أو في القسم الثاني لبيان إلى أي حد كان هو المطلب الذي يبحث عنه الشعور الأوروبي وهو في الحقيقة حدسنا الأول الذي حدث لنا في مقتبل حياتنا الفلسفية، والذي ظل لنا في كل كتاباتنا،
30
وسيتم إخراجه ابتداء من نصوص الوحي ذاتها بلا حاجة إلى تراث، ويكون هذا هو جزء الوداع.
31
Unknown page