وهذه المناهج هي: المنهج التاريخي، والمنهج التحليلي، والمنهج الإسقاطي، ومنهج الأثر والتأثر.
8 (1-1) المنهج التاريخي
وهو المنهج الأول المعبر عن النعرة العلمية، ويتكون هذا المنهج أساسا من البحث عن الوقائع التاريخية أو الاجتماعية ووضعها بجوار بعضها البعض وترتيبها ثم الإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها الظاهرة الفكرية ذاتها، تاركا كلية أصول الظاهرة في الوحي أو في الشعور، وخاليا من كل تفسير أو فهم أو تأويل أو بحث عن دلالة أو تعرف على قانون، والتاريخ قد يكون تاريخا سياسيا عن طريق رصد الأسر الحاكمة وتقلبات بيوت الأمراء والملوك، أو تاريخا اجتماعيا ووصف المؤسسات والنظم وكأن كل ما في الواقع مبني على أصول، أو تاريخا عاما يجمع كل شيء من سياسة واقتصاد واجتماع وقانون، مجرد دائرة معارف تعطي كل شيء ولا تعطي أي شيء، فإذا كان الموضوع علم التوحيد سردت الوقائع التاريخية كما يحلو للبعض أن يصفها وكأن علم التوحيد جزء من التاريخ العام، فإذا ذكرت المعتزلة ذكرت حادثة واصل بن عطاء مع الحسن البصري ونشأة المعتزلة باعتزاله مجلسه، وإذا ذكر خلق القرآن ذكرت محنة المعتزلة وعصر المأمون والمعتصم والمتوكل، وإذا ذكرت الشيعة ذكرت أسماء الأعلام والأئمة، وتنسب المذاهب والأفكار إلى الأماكن، فهناك الحرورية والبصريون والبغداديون والكوفيون في حين أن الأفكار مستقلة عن الأماكن ولها وجودها الخاص في الشعور، وإن كانت محمولة على الواقع وتظهر فيه في صورة حركات واتجاهات ونظم، فإذا جاءت الفلسفة وعصر الترجمة ذكرت أسماء مراكز الترجمة ودور الحكمة، وأسماء المترجمين وأسماء ترجماتهم، أما فن الترجمة ذاته وصلته بالفكر، ونشأة الألفاظ والمعاني والجدل بينهما فلا شيء منه يذكر، وإذا جاء الفقه والأصول ذكرت الحجاز والعراق ومصر، وذكر الأوزاعي وأبو يوسف وكأن مناهج التشريع من عمل الأمصار ومن وضع الفقهاء، وإذا جاء التصوف ذكرت البصرة وبغداد، وفارس والأندلس، ومصر والشام، وتناثرت القصص والحكايات، والنوادر والفكاهات، ولكن كيف نشأ التصوف في شعور الجماعة، فذلك ما لم يعلمه أحد .
وقد يبدو التاريخ على أنه تاريخ حياة المفكرين وأنسابهم، مولدهم وثقافتهم، ميولهم وأهواؤهم، مذاهبهم وأفكارهم، وظائفهم ومناصبهم مع أن الفكر الإسلامي لا يضع أفكارا بل يعرض طريقة في تفسير النصوص الدينية وفهمها وتحويلها إلى معان وأبنية نظرية، فلا يأتي علم التوحيد من دراسة الشخصيات لأن عالم التوحيد لا يضع حقائق من اكتشافه الخاص لم تكن معروفة من قبل، بل هو عارض لموضوعات الوحي على مستواه الثقافي وبلغة العصر، ليس هناك نظريات للنظام، وأخرى للجويني، وثالثة للغزالي، بل هناك نظريات الكمون، ونقد العلية، صحيح أن الأفكار الفلسفية قد ارتبطت في تاريخ علم الكلام بأصحابها، فهناك الكرامية والهذيلية والأشعرية والجهمية والواصلية ... إلخ ولكنها مهمتنا نحن في القضاء على الشخص لإبراز الفكرة اللاشخصية حتى يمكن التعامل مع الظواهر الفكرية باعتبارها مستقلة عن القائلين بها،
9
ويقال أيضا السينوية والرشدية وكأن ابن سينا وابن رشد قد أبدعا ما لديها من مذاهب ولم يعرضا أنماطا حضارية مستقلة عن أشخاصهما، ولو لم يظهر ابن سينا وابن رشد لظهر غيرهما بنفس الأنماط الحضارية، وكذلك في التصوف يقال مذهب ابن الفارض أو ابن عربي، وكلاهما لم يبدعا مذهبا بل ظهرت وحدة الشهود ووحدة الوجود من خلالهما، وإن لم يظهرا فيها لظهرا في غيرهما، وما الأشخاص إلا عوامل للأفكار وليست مصدرا لها.
لقد نشأ المستشرق في الغرب، وتعود على بيئة ثقافية يضع فيها المفكر فكرا أو يبني مذهبا ثم ينسب هذا المذهب إليه، فبعد أن أسقط عصر النهضة كل الأنماط النظرية القديمة للواقع، وأصبح الواقع عاريا من كل أساس نظري، اضطر المفكرون إلى البحث عن نظريات يفهم الواقع على أساسها، فنشأت المذاهب الفلسفية والتيارات الفكرية كي تسد هذا النقص النظري، ونسبت الأفكار إلى الذين صاغوها، ومن ثم ظن المستشرق أن كل حضارة لا بد وقد نشأت بالضرورة على نمط الحضارة الغربية، ونسب إلى كل من ابن سينا والفارابي وابن رشد مذهبا، وتحدث عن السنيوية والرشدية، ونسب إلى الأشعري مذهبا وتحدث عن «الأشعرية»، بل إن معاصرينا رغبة منهم في التشدق بالخلق الفني والفكري فإنهم يحولون اسمهم ويجعلونه عنوانا لمذهب.
10
وفي كثير من الأحيان لا يكون للمؤلف الإسلامي مذهب واحد، فمثلا ما هو مذهب الغزالي؟ هل هو التصوف أم الفلسفة أم الأصول أم المنطق أم الأخلاق أم السحر والطلسمات؟ وما هو مذهب ابن سينا؟ هل هي الفلسفة أم التصوف أم العلم؟ وما هو مذهب ابن رشد؟ هل هو الفقه أم الكلام أم الفلسفة أم العلم؟ هناك إذن تيارات فكرية تتخلل المؤلف ولا يكون هو إلا عارضا لها. هناك علوم عامة تنشأ من الوحي بتحوله إلى حضارة تتخلل المؤلف ولا يكون هو إلا مصنف فيها، ومن هنا ظهر التكرار والنقل والاستعارة من المؤلفين بعضهم من البعض الآخر لأن العلم موضوعي، مشاع للجميع، لا ينتسب إلى فرد دون فرد، وكأن المؤلفين كلهم فريق يعملون في موضوع واحد مستقل، وفي أحسن الأحوال يكون التاريخ تاريخا للمذاهب والتيارات الفكرية، ولكنها أيضا ترد إلى التاريخ العام والأحداث الجارية، وتصبح تاريخا للفرق أو الجماعات أو الجمعيات مع إغفال تام للأساس النظري الذي تقوم عليه وربطه بالأصول، وفي هذه الحالة لا ينسب التيار أو المذهب إلى الفرق مثل المعتزلة والشيعة والسنة، فالمذهب فكرة يتحدد باسمها مثل التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه في التوحيد أو الجبر والكسب والاختيار في الأفعال، فالصلاح والأصلح واللطف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوعات مستقلة عند المعتزلة، والطبيعة والكمون والتوليد موضوعات مستقلة عند الجاحظ والنظام ومعمر وثمامة وباقي أصحاب الطبائع، والإشراقية والعقلانية موضوعان مستقلان عن الفارابي وابن سينا أولا وعن ابن رشد ثانيا، والقول بالرأي والقول بالأثر منهجان مستقلان عن العراق والحجاز، ووحدة الشهود ووحدة الوجود والوحدة المطلقة كلها مستقلة عن ابن الفارض وابن عربي وابن سبعين.
ولا يعني ذلك تحريم دراسة المفكرين الإسلاميين،
Unknown page