Thawrat Shicr Hadith
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
نحو أعمدة الغابة،
نحو جذوع الرصيف،
التي تلطم حافتها دوامات النور.
تحتوي القصيدة - ويمكنك أن ترى هذا حتى من الترجمة العربية! - على تقابل مزدوج، مرة بين اختلاف الوزن في الأبيات وبين لغتها المتزنة المنتظمة، ومرة أخرى بين هذه اللغة الهادئة نفسها وبين جرأة المضمون جرأة غير عادية. إنها تضع تعبيرا إلى جانب تعبير، في هدوء واعتدال تام. وهي لا تربط بينها بالظروف إلا في موضعين اثنين، ليست لهما أهمية كبيرة في واقع الأمر. والحق أن الاستغناء عن الظروف وأدوات الربط يرفع القصيدة فوق لغة النثر الخالص، ويضفي على أسلوبها الموضوعي المحايد والمجرد عن الأنا طابع الغموض والأسرار. أضف إلى هذا أن الكلمات في معظمها اسمية، والأفعال القليلة التي نصادفها تتراجع أمام الموضوعات والأشياء التي نجد أن قيمة الصور فيها أهم بكثير من الحركة، ولا يقف الأمر عند هذا؛ إذ لا نلبث أن نتبين مفاجأة أخرى، تولدت عن قوة الخيال غير الواقعي وتسلطه. فهذه القطعة البحرية تبدأ ببيت من الشعر لا يناسب العنوان: عربات فضية ونحاسية. ويأتي البيت الثاني فنجده أكثر اتفاقا مع العنوان: صدور (سفن) من الصلب والفضة. والعربات وصدور السفن معا تلطم الزبد، وترفع جذور الأشواك. ثم تتحدث القصيدة عن «تيارات الأرض البور» وعن «آثار المد والجزر»، ويتجه هذا كله إلى «أعمدة الغابة» وإلى «جذوع الرصيف» التي ترتطم بها دوامات الضوء.
القصيدة إذن تسير بنا في مجالين، أحدهما بحري (سفينة، بحر) والآخر أرضي (عربات، أرض بور)، ولكن المجالين يتداخلان بحيث يبدو أحدهما متضمنا في الآخر كما تزول كل تفرقة مادية وموضوعية بينهما. وتصبح القطعة البحرية قطعة برية، والعكس صحيح. وليست المسألة مسألة استعارات، بحيث يمكن أن نقول مثلا إن السفينة تمخر الماء كما تنهب العربة الأرض. ذلك لأن الأفعال تشد كلا المجالين بعضهما ببعض وهذا ما تفعله كذلك الكلمات المفردة (التيارات، الأرض البور ... إلخ). وبدلا من الاستعارات نرى القصيدة تسوي تسوية مطلقة بين أشياء مختلفة من الناحية المادية والموضوعية. أضف إلى هذا كله أن النص لا يتكلم عن البحر، بل عن المد والجزر والزبد، ولا يتكلم عن السفينة، بل عن مقدمها أو صدرها. صحيح أن أسلوب الاستعاضة بالأجزاء عن الكل أسلوب مألوف في الأدب، ولكنه يصل عند رامبو إلى أقصى حدته، فهو إذ يتعمد ذكر أجزاء من الأشياء إنما يمهد لعملية التدمير أو التفتيت التي ستشمل نظام الأشياء بوجه عام.
ليست هذه القصيدة المركزية الهادئة أول قصيدة من الشعر الحر في فرنسا وحسب، بل تعد كذلك أول مثل لأسلوب التضمين الحديث الذي يعد بدوره حالة من حالات «تجريد الواقع» أو ما سميناه «باللاواقعية الحسية». فما هو الجديد فيه إذن؟ يمكن أن نحدده من ناحية الموضوعات بطريقة سلبية فنقول إنه «لا واقع» أو إنه إلغاء الفروق المادية التي تميز بين الأشياء. وينشأ عن هذا نوع من الإلغاز أو الغموض الذي لا يحل. وتدور الأشياء المتضمنة في بعضها البعض حول أمور اعتباطية تعرض للشاعر كيفما اتفق أو أمور يمكن استبدالها بغيرها، ويصدق هذا على النص نفسه. فنحن نجد ثلاثة أو أربعة أبيات من مجموع الأبيات العشرة يمكن تغيير أماكنها بالتقديم أو بالتأخير دون أن يغير هذا شيئا من بناء القصيدة وتكوينها العضوي. ويمكننا أن نستخدم فكرة إيجابية في وصف المخيلة التي أنتجت هذا كله، فنقول إنها مخيلة حرة فإذا أردنا أن نحددها عن قرب وجدنا الأوصاف السلبية تفرض نفسها علينا. وتفسير هذا أن الحرية التي نتحدث عنها إن هي إلا انطلاق من نظام الواقع، أو تداخل لا واقعي بين أشياء مختلفة. ومثل هذه الحرية التي تلجأ إليها المخيلة حرية قوية مقنعة من الناحية الفنية، ولكنها لا تتسم بالضرورة عند انتقالها من مرحلة إلى أخرى. وسيظل هذا طابعا أساسيا للشعر الحديث، فالمضمونات التي يعبر عنها يمكن استبدالها واحدة بالأخرى، بينما تخضع طريقة التعبير لقانون في الأسلوب يملك بداهته في ذاته.
والغريب أن أسلوب التضمين يمثل حتى أيامنا هذه عنصرا مشتركا بين الأدب والرسم. بل إن الأدب والشعر خاصة، قد مهد لفن الرسم الحديث طريق هذا الأسلوب. ومن المدهش حقا أن نجد بروست يشرح ذلك شرحا مفصلا، ففي الجزء الثالث من روايته «البحث عن الزمن الضائع» وهو في ظل الفتيات الزاهرات (1917م) يصف زيارة لدى الرسام الخيالي «ألستير». وتتخلل الوصف تأملات تتفق بصورة مذهلة مع جماليات الرسم الحديث، بل يمكن أن نعدها تأكيدا لأسلوب رامبو في القصيدة التي انتهينا الآن من مناقشتها. وتتلخص تأملات بروست في أن «الحلم» هو القوة الحقيقية التي يملكها الفنان. والمقصود بالحلم هو المخيلة التي تتفوق على الواقع وتسمو فوقه، ومثلما يلجأ الأدب إلى الاستعارة، يلجأ الرسم إلى «التحول»
Metumorphose
فيحيل الأشياء المادية والموضوعية إلى صور وتركيبات فنية لا وجود لها في عالم الواقع. ويطبق بروست هذا الكلام على رسامه الخيالي «الستير» فيقول إن من بين ما كان يلجأ إليه من تحويلات متكررة أنه كان في صوره البحرية يلغي الحد الفاصل بين البحر والبر، فيصور المدينة «بتعبيرات مأخوذة من البحر»، ويصور البحر «بتعبيرات مأخوذة من المدينة». وتكون النتيجة في النهاية صورة لا واقعية وصوفية، تتفتت فيها وحدات الأشياء والمجالات إلى أجزاء بحيث تتحول إلى «معادلة» غير واقعية بين أشياء مختلفة متباينة.
هذه كلها أحكام يمكن أن تطبق بحذافيرها على قصيدة رامبو البحرية. ومن الصدف العجيبة أن بروست يطبق أحكامه أيضا على صورة بحرية. (16) شعر تجريدي
Unknown page